مجلة البيان للبرقوقي/العدد 17/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 17/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 17
تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
ملاحظات: بتاريخ: 31 - 5 - 1914



تمهيد آخر

الأقلام مزامير التاريخ يترنم فيها بذكر الحوادث العظام. والمفاخر الجسام. ولعله ليس في حوادث الدهر وشؤون العالم شيء هو أجل وأخطر من ظهور رجل عظيم لذلك كان ظهور هذا هو أحق الحوادث وأجدرها يترنم اليراع. في حسن تنغيم وإيقاع وقدما رأينا الروض يزهر ويثمر، فيسجع البلبل الصداح. والفجر يلوح ويسفر، فيصيح غريد الصباح. ولقد ظهر بهذا البلد الأمين في هذا العصر. عصر البعث والنهضة رجال عظام. وقادة أعلام. وكان يراع مجلة البيان بجيش في صدره الغناء. طرباً بذكر سيرهم الغراء. فيهم أن ينطلق. ويريد أن ينطلق فتعتاقه مخافة التقصير. وترده خشية الرجوع بخيبة النضو الحسير. حتى إذا مد في صدره بحر المديح واحتفل واديه. وعب عبابه وزخر طاميه. جاز السواحل وسال. وعدا الحواجز وانثال. وأرسل العبارة تلو العبارة، والمقال أثر المقال، بما قد طال صمته وأحجامه، وانقباضه عن طروق هذا الباب واحتشامه.

نعم قد قاض لنا الله بعد طول سكوت أن نتناول سير صفوة رجال هذا العصر ونخبة أبنائه من أهل هذا العصر. وقد رأينا أن نبدأ بأعضاء الجمعية التشريعية إذ كانوا هم ألسنة الأوطان وقولبها. وزبدة الأمة ولبابها. بمقولها ينطقون. وبفؤادها يشعرون وبعينها ينظرون، وبرأيها يرون.

وقد خصصنا بهذا العدد خمسة من الأعضاء كلهم سيد نبيل وبطل جليل، والخمسة في موازين الفضل والرجحان متعادلون كالحلقة المفرغة لا يعلم أين طرفاها.

ونحن الآن آخذون في الكلام عن الوزير الخطير وكيل الجمعية آنفاً عطوفة عدلي باشا يكن إذ وصل إلينا تاريخه قبل تاريخ سائر الأعضاء.

عدلي باشا يكن

الوكيل المعين للجمعية التشريعية

عدلي باشا يكن أحد سلالة الأسرة اليكنية، رجل كريم البيت شريف المحتد أغر النسب عنيد الحسب، له في المجد كاهل وسنام، ومن العزة القعساء دولة خفافة البنود والأعلام، وما بالكم بمن كان جد مولى (ابن عم) مليك مصر ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير، وبيته صنو ذاك البيت الأرفع الخطير. حقاً لهذه أعلى مراتب المجد وأسمى منازل السؤدد.

هذا الرجل الحسيب النسيب سليل صنو الأسرة الخديوية، ونتيج شعبة الأيكة المحمدية، كان المظنون من مثله أن يجري على عادة الأمراء المترفين من الخفض والدعة وينهج من اللهو والبطالة منهج ذوي النعيم والسعة، يفترش مهاد الراحة والرخاء، ويتنكب سبل النصب والعناء، أبيى له ذلك نفس قلقة طموح، وهمه شرود جموح وبصيرة نافذة تشق عن لباب الحقيقة قشور الشبهات، وتهتك عن سر الصواب حجب الأباطيل والترهات، فعلم بفضل البصر والذكاء أن المروءة هي الكد والعمل، وأن القعود والنوم من شيمة الطفل الربيب، والشيخ ذي الدبيب، والحق يقال أن العمل أشرف أمور الحياة وأنفسها وأجل مسائل الوجود وأقدسها، والمرء مهما عصي أوامر الخالق وتجانف عن سبيل الدين فله الأمل الوطيد في الهداية متى كان صادق العمل مخلص السعي، ولكن في الكسل وحده الحرمان واليأس، وحسب العمل نبلاً أنه متصل بنواميس الوجود وشرائع الطبيعة. والرغبة في إتمام العمل إذا كانت صادقة مليئة وحدها أن تقرب المرء من الحقيقة، وبالعمل يستكمل الإنسان فضائل النفس ومكارم الأخلاق فيه تقتلع الأصول الخبيثة، وتصطلم الجراثيم اللئيمة، وتزرع مكانها الأغراس الطيبة، والأشجار الكريمة، وتشاد القرى العامرة والمدن العظيمة، بل بالعمل يصبح المرء نفسه بنياناً محكماً وبستاناً نضيراً بعد إذ هو شطره قفرة مجدبة. وشطره دمة معشبة. ألم تر إلى العمل حتى الأحقر الأخس من أنواعه كيف أنه ير شوارد الضمير ويؤل نوافر النفس ساعة يشرع فيه. أنت تعلم أن العامل الحقير ليس من بلايا الهم والأسف والخوف والرجاء والشك والندم والحق والغضب حتى اليأس. شأنه في ذلك شأن سائر البشر. غير أنه لا يكاد ينكمش في عمله حتى تنقمع شرور هذه الآفات فترتد مقهورة إلى زواياها. وتلوذ مخسورة بمكامنها وخفاياها. ويخلص العامل المسكين من أسارها وترى الرجل قد عاد رجلاً. وتراه تتوهج في صحيفة وجهه وفي سائره نار العمل المباركة مصفية سبيكته من شوب كل عاب وخبث كل منقصة، فطوبى لمن وفق من العمل إلى ما أعدله. فلقد ظفر والله بنهاية الأرب وغاية المنى. وأي نعمة أجزل من أن يكون للمرء عمل في الكون ومقصد في الحياة يسمو إليه ويؤمه. وما أجل العمل أنه لكا النهر المتدفق الحر الانطلاق يحترق أو حال الحياة ومستنقعاتها بقوة الجد والإخلاص والهمة والمثابرة ويزداد على قطع المسافات غزارة وكظة. أجل وبمتري الماء الملح من أصول أقصي الأعشاب محولاً وخيم المرائع وموبي المنابت روضة خضراء مخصبة. والعمل لو تعلمون هو الحياة. ترى العامل إذ جد خرج من أعماق قلبه وسويداء لبه هبة الله من القوة - أعني جوهر الحياة السماوي المقدس المنفوخ فيه من روح الله عز شأنه. فإذا خرج من لب الفؤاد ذلك السر ملأ نفسه مروءة ونبلاً. وصدره عرفاناً وعلماً. بل أفعم صدره بالعلم الصادق الحق. فإن أصدق العلم ما كان نتيجة العمل إلا ترى أن بصحة هذا العلم تشهد الطبيعة ذاتها؟ والحقيقة أنك لست جديراً أن تعتد من العلم إلا بما كان ثمرة عملك. فأما ما عدا ذلك فما هو إلا نظريات علمية - أمور تدور عليها مجادلات الطلبة في المعاهد وأشياء تجول على حواشي السحاب في هيئة دوامات جدلية فما تزال تدور حتى نختبرها فنثبتها. وقديماً قبل لا يزيل الشكوك إلا العمل.

أدرك عطوفة الوزير الخطير هذه الحقيقة الكبرى، ومثل الوزير خليق أن يدرك كبير الأمر وصغيره ودقيقه وجليله وباديه وكمينه.

أحاط علماً بكل خافية ... كأنما الأرض في يديه كره

لذلك وقف نفسه على خدمة الأوطان فجعل الجد شعاره والمواظبة دثاره. وتنقل في مناصب الحكومة بعد أن أتم الدراسة في مدارسها فكان أول تعيينه في نظارة الداخلية مترجماً وذلك عام 1880 وهو إذ ذاك يناهز السابعة عشرة بمرتب شهري قدره اثنتا عشرة ليرة. وفي عام 1883 نعم عليه بالرتبة الثانية وهو لا يزال في نظارة الداخلية. وفي أول أغسطس 1885 عين سكرتيراً لدولة ناظر الخارجية المصرية بمرتب شهري 22 ليرة ثم ما زال يرتقي في درج المناصب حتى تقلد إدارة مديرية الفيوم فالمنيا فالشرقية فالدقهلية فالغربية فمحافظة مصر فديوان عموم الأوقاف. واستقال صيانة لصحته عام 1907 ولكنه عين في 1913 وكيلاً للجمعية التشريعية من قبل الحكومة مع منحه امتياز النظار في أمر الحفلات العمومية والمقابلات الخديوية. وفي 1914 عين ناظراً للخارجية.

وبعد فليس أكبارنا شأن عطوفة المترجم به هو أنه تقلد تلك المناصب الكبار، ولا كان أعظامنا قدره من أجل رتبة أو وسام، فنحن نعلم أنه ليس على حسب الأقدار تعطى المناصب. ولا على قدر الأخطار توهب الألقاب والمراتب. بل تعلم أنه قد يرزق العاجز الجهول وليس هناك إلا عجزه وجهله. ويحرم الكيس الفاضل ولا ذنب له إلا كياسته وفضله. ولكنا تزن الرجال لا الأسماء ونقدر الأعمال لا الأوسمة ونعلم أن العظمة والبطولة تأبى إلا ظهوراً ولو في أحط الطبقات وأدنى المنازل، وكذلك الخسة والضؤولة تأبى إلا وضوحاً ولو في أرقى الطبقات وأرفع المنازل. فلو أن الأمر في عطوفة الوزير كان قاصراً على تقلده الوزارة أو ولايته من قبل ذلك ما قد ذكرنا من الأعمال والمناصب لما بعثنا له القلم من رقاده. ولا كحلنا في سبيه مقلة اليراع بأيمد مداده. ولكن الأمر هو شيء خلاف الألقاب والأسماء والمرتبات والمراتب - هو الشيم والمحامد والمكارم والمناقب، هو الرجولة والفحولة والعظمة والبطولة، تلك هي الأغاني التي بها يشد ويراع البيان. والآيتت التي يرددها كل برهة وآن. والوزير الخطير له من هذه المناقب الحظ الأوفر والمقام الأسمى، وكيف وهو المأثور عنه رأس الفضائل، وأم المزايا، أعني ما نسميه الشخصية المسيطرة، أو السلطان النفسي، أو القوة الروحية. ومعنى ذلك مغناطيسية الشخصية وتأثير روح العظيم على أرواح الخلق بما يشبه تأثير الكهرباء وهذه القوة هي أهم وسائل رقي النوع، إذ كانت جماهير الناس إنما تنقاد لرأي المفكر العظيم، وتذعن لفكرة الرجل الكبير بتأثير هذه الشخصية - قوة هذه الجاذبية. ولقد رأينا الرجل الكبير يقود الأمة الكثيفة بجاذبيته، ويجر عسكر الخليفة بتلك الكهرباء إلى غزوة عوالم المجهول حيث تسبى عقائل العلم وتقتض أبكار الفنون والمعارف، ولو أن بين الكائنات الطبيعية وبين عقل الإنسان صلة إذن والله لسارت الطبيعة وراء الإنسان حيثما توجه خاشعة منقادة ذلولاً، ولعل في جاذبيات بعض البشر ما هو أشبه شيء بالغناء الذي كان يزعم أنه كان يجذب الأنهار والجبال والبحار والآكام والقفار. والهواء والنار. ولسنا نعني بهذه الجاذبية والشخصية المسيطرة وسلطان الروح مرارة الجد وظلمة الوقار، ولا الغلظة والعجرفية، ولا الكبرياء والغطرسة، فإن هذه ضد الجاذبية هذه سبب الصدود والاشمئزاز والنفرة. فأما الجاذبية فمنشؤها البشر والطلاقة وحلاوة اللقاء وعذوبة الشمائل، وهذه كلها هي ترجمة صفاء النفس وائتلاف أجزاء الروح مسطورة في صحيفة الوجه مقروءة في لوح الحيا. وأن يكون الضمير موطن السرور ومهبط الفرح. وهذا الوصف منطبق على عطوفة الوزير كمال الانطباق، بين فيه في أجلى المظاهر. فهو أعزه الله عذب اللقاء معشوق الشمائل، يصطاد شارد القلوب بحبائل شره، وبروض شمس النفوس باعته انبساطه وأنسه. يغنيه تودد وجهه عن تودد لسانه. وتكفيه خلابة نظراته خلابة بيانه. تفيض ابتسامته على أعطاف المجلس رونقاً كرونق الربيع الجديد. وتبعث في ساحة الروح نسيماً كأنفاس الخمائل. وكأني بالوزير الخطير، لو قد مشى بالصلح بين بكر وتغلب في حرب البسوس. بعد أن عم بين المتحاربين الويل وطفح الكيل. وخاب كل سفير، وأخفقت كل واسطة، لأصلح بين الفريقين قبل أن يفوه ببنت شفة أو ينطق بأدنى كلمة. وكأني به يشفي بعذوبة روحه وسحر شيمته من المس والخيال، والهم والغم، والكرب واليأس، وكأني به لو عرض للسيل الجارف لوقف. أو للبركان القاذف لكف. أو للزوبعة الثائرة لهدأت. أو للهاجرة المستعرة لروحت. وإني لأذكر به بطل الأبطال خالب النفوس وجاذب الأرواح نابليون الأول ذلك الذي كان يرد الجيش المرموم بنظرة. ويقتاد الجماهير المجمهرة بشعرة. ذلك الذي بلغ من ثباته وقوته أن خسر دولة الأرض ومملكة الدنيا فلم يك إلا كلاعب الشطرنج خسر دوراً.

قد علمنا أن الرجولة أو كما يسميها البعض البطولة والعظمة قد بنيت على قاعدتين وهما الرأي والعزيمة أعني الرأس المفكر واليد الفعالة، وذلك أن يؤتي المرء نفاذ البصيرة وتنفيذ الإرادة. فباجتماعها تكمل الرجولة وبإعوازهما يكون الرجل تمثالاً متحركاً وصنماً أخرس وآلة صماء. وبإعواز أحدهما يكون المرء ناقصاً أبتر. فإذا كان ثاقب البصر بغير عزم لم ينفعه بصره ولم تغن عنه قريحته وكان كالمرأة تريك عديد الصور ولا تنيلك مما تحتويه شيئاً. وكالمسن يسحذ ولا يقطع. وإذا كان ماضي العزيمة بلا رأي فربما كان مضاء عزمه بلاء عليه من حيث أنه يركب به متن الضلال ويتعسف به مجاهل الغي. فأما اجتماع الخلتين فذاك كما قلنا هو عين الرجولة والبطولة. وعدلي باشا هو الرجل الذي اجتمعت فيه الخلتان والتقت لديه الفضيلتان. عرفناه نافذاً البصيرة مسدد الآراء.

لاو ذعيا كأنما بين جنب ... يه مصابيح كل ليل بهيم

فكم جلى ظلمة الشك بنور اليقين. وكم فض بمفتاح الرأي المشاكل. وكم له من فكرة عالية سديدة. وخطة واضحة رشيدة. ثم يعقب ذلك تنفيذ الآراء بعزيمة أمضى من النجم. وإرادة أصلب من الحديد. وقد جنى أهل الأقاليم التي كان عطوفة الوزير يليها ثمار هذا الفضل المبين. حلوة المذاق عذبة المساغ مباركة الفائدة. وكان عطوفته يرى آثار كده فيحمد جهاده وسعيه. وعند الصباح يحمد القوم السرى. فلا غرو أن كان الوزير بعد كل هذا شديد الحرص على استقلاله بالرأي وانفراده بالإدارة. وما ذلك بمستغرب من الكفؤ الشديد الثقة بنفسه. الجليل الروح. الكبير العقل. فلما كان في عهد ولايته بعض الأقاليم تسلط على المدير بين مفتشي الداخلية من الإنكليز فلم يبق من المديرين إلا من رضخ لهذه السلطة الجديدة إلا عدلي باشا فإنه عرف به عن ذلك سمو همته وعلو روحه. واحترامه نفسه. فنفي عن ساحتيه كل سلطة طارئة وتداخل أجنبي وانفرد بالحكم تفرد القمر البدر في مملكة السماء. وتوحد الأسد الغضنفر في العربة العصماء والأجدل الطموح في رأس القمة الشماء. كل ذلك فعله عطوفة الوزير في سكينة وصمت. وكذلك قضي الله أن أعظم الأمور وأجل الشؤون إنما تبلغ بالسكون. وإن قصوى الغايات وعليا الدرجات إنما تنال في هدوء وصمت. ومصداق ذلك أنك إذا نظرت في التاريخ وجدت أن أبرك العصور وأدر الأزمان هي التي تمر في أمن وسلام وتنقضي في سكون وصمت. هذه هي الأزمان التي نجم في غضونها ثروة البلاد وتتوفر الخبرات والبركات وتبني فيها القوة الكامنة. وتشاد فيها أركان الدولة. أما أوقات الثورات والحروب تلك الصائحة بأفواه المدافع. الضاجة بزماجر الملاحم والوقائع. فهذه أوقات هدم وتقويض. وأزمان تخريب وتبديد. لذلك قال أحد ظرفاء الفلاسفة وبالغ في قول مونتسكيو طوبى لأمة سجلات تاريخها مملة فقال الفيلسو الفكه طوبى لأمة سجلات تاريخها خالية قوله مملة أي ليس فيها أوصاف حروف ووقائع وقصص وفتن وثورات مما يلذ القراء وبلى السامعين. بل فيها من الحوادث والمسائل ما يجري عادة في غير أوقات الحروب والفتن. ثم بالغ الآخر فقال طوبى لأمة لا تؤثر عنها حوادث قط فصحف تاريخها خالية بيضاء.

ألم تر إلى الدوحة العادية كيف أنها تحيا وتنمو في الغابة ألف عام لا يسمع لها حس ولا جرس. أجل إنه لا يسمع صوتها إلا مرة واحدة. أتعلم متى؟ حينما يجيئها الخطاب بفأسه. حينئذ تعلن الدوحة حياتها ومماتها مما يصرخه تدوى لها أرجاء الغاب. وانظر إلى بذرة الشجرة العظيمة تلقيها الطبيعة من حجر الريح الفضفاضة في بطن الثرى! من كان حاضر ساعة الغرس ومن كان حاضر ساعة الإيراق وساعة الأزهار والأثمار، ومن حينما ليست الشجرة حلي نورها وفاكهتها قام بدق البشائر وهتاف الفرح والسرور لا أحد. كلا، ولا أثقب الناس نظراً وأدقهم ملاحظة. هذه الحوادث المفرحة لم تحدث بغتة حدوث الفتن والحروب ولكنما نمت تدريجاً وأحكمت شيئاً فشيئاً لا في ساعة بل في أشهر وأعوام.

كذلك تأثير الرجل العظيم مثل الوزير عدلي باشا يكون صامتاً شاملاً كتأثير الهواء والشمس تلك التي تجمع بين المنظر الفتان والأثر الفعال - بين الجمال والمنفعة - بين حب الناس إياها وحاجتهم إليها. وبالاثنين تكمل الفضيلة. فإن الشخص المحبوب لحسنه ورونقه وهو قليل المنفعة ناقص نقص ذي المنفعة ليس بذي رونق يستميل وخلابة تسبى وإنما كريه بغيض تجتويه الأعين وتنبو عنه النفوس.

فأما الوزير فهو الذي جمع الخلتين فاستكمل بفضل ذلك الفضيلة. فلقد بلغ من فرط محبة الناس إياه مع اعترافهم بجزيل هباته وبيض أياديه أن كثر فيهم من سمي بنيه باسمة فكلما نودي بالاسم الجليل في شوارع المدن وطرقاتها وفي دورها ومنازلها صباح مساء. وحينما يضرب الليل خيامه. ويحدر الصباح لثامه. كان ذلك النداء ثناء ذائعاً وشكراً سياراً لما أولى هذا الرجل العظيم من سابغ آلائه وجزيل نعمائه.

وكذلك الرجل العظيم كلما حل أرضاً فرحل عنها ترك بها من محاسن الآثار الخالدة مالا يزال يذكر بها ما اصطحب الفرقدان. واختلف الملوان. ولسان حال البلاد وأهلها يناديه:

فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار

ميشيل بك لطف الله

أحد النواب في الجمعية التشريعية عن المصريين السوريين

لا أظن أن في أقطار العالم وممالكه بلدين يكادان يكونان لولا التقسيم السياسي بلداً واحداً. لا تفصلهما حدود الاجتماع. ولا تميز بينهما الفروق الطبيعية، ولا تحدهما التخوم السياسية، غير مصر والشام. فهما قطعتان من الشرق متداخلتان متمازجتان تجوز الأولى إلى أختها الأخرى. فما تبرح ترى السماء الصاحية. والشمس الزاهية. وما تنفك تشم الهواء العليل، وتستاف النسيم البليل. وتشارف الجو الجميل. وترتع في الروض العشيب، وتمرح في المنظر الخصيب، فإذا نزل المصري أرضاً سورية. فكأنه لا يزال في مصر، بين أصحابه وإخوانه، وأحبابه وجيرانه. وإذا هبط الوسري وادي النيل، رأى رحباً وسعة. وألقي خصباً ودعة. واطمأن به المقام، ورأى بدائع ضروب الترحيب، وشهد محاسن صنوف الأكرام، وما منشأ ذلك الود الاجتماعي بين الأمتين إلا أن الأمة السورية قد تنزهت نفسها من شوائب تلك النقيصة الاجتماعية التي تراها شائعة بين أكثر أمم الدنيا وأغلب شعوب الأرض. ونعني بها ذلك الزهو الأهلي الكاذب الذي يوشك أن يقطع بين الأمم ما تصله الروابط الاجتماعية الأخرى. إذ ترى كل أمة تياهة بنفسها مزهوة على غيرها. تجنح إلى تفضيل نفسها على ما سواها من الأمم الأخرى، وتعد آدابها وعاداتها وأخلاقها هي المقياس الصحيح الذي يجب أن يقاس به آداب العالم وعاداته وأخلاقه، وتعتقد أن الله لو جعل الناس أمة واحدة. لاختارها لتكون تلك الأمة!.

وهناك رابطة أخلاقية تربط قلب السوري بقلب أخيه المصري. وتذلل بينهما أسباب التعارف والامتزاج، وهي أن السوري سريع الاختلاط بأهل البلد الذي يستوطنه والوسط الذي يعيش بين ظهرانيه، وهذه لعمرك مزية إنسانية. لا تحدها حدود الوطنية، وإنما تحدها حدود الآدمية كلها. وما أعرف فضيلة هي خير مقاماً من حب الاختلاط بالناس، فلو لم يخلق الله الهواء خليطاً من الأكسجين والنتروجين، لاحترق العالم. والتهب عنصر الوجود، وكذلك لو لم يختلط فكر الإنسان ومزاجه بفكر غيره ومزاجه. لاحترق وأحرق معه جهازه الجثماني. والعالم من أقصاه إلى أقصاه يسير على مبدأ الاتصال. وإلا فلو قامت كل أمة بنفسها. ولم تعمل على مواصلة غيرها لما عدت الدنيا أن تكون غابات كثيفة. يسكن كل غابة منها نوع غريب من أنواع الحيوانات الإنسانية.

وقد ذلل للسوري اختلاطه ببني الأمم الأخرى الشرقية منها والغربية ما أودعه الله في مزاجه الهادي من محاسن الآداب. وما محاسن الآداب إلا الجواز الذي يبيح لصاحبه الدخول إلى باحات القلوب والاستقرار في حبات الأفئدة. إذ كانت القلوب البشرية لا تفتح موصد أبوابها إلا لذي الصفحة المشرقة. والوجه البش المبتسم والقول اللين الكريم. والخلق السهل الذلول. وقد أوتي السوري من هذه جميعها القسط الأوفر والحظ الأجمل الأكمل.

والأمة السورية اقبل الأمم الشرقية للرقي الغربي. وأكبرها استعداداً للتطور المدني. وهي تجري مع روح العصر نازعة قيود الماضي. خالصة من سلاسل المبدأ الشرقي القديم، بل هي الأمة الشرقية الوحيدة التي امتازت بقوة الدأب وروح المثابرة. وإنك لترى السوري عند خط الاستواء في ذلك الجو الملتهب والحر الأبدي والقيظ الصامت أو عند مناطق الجليد الشديدة الزمهرير. يجد ويعمل لا مستشعراً فتوراً ولا كلالاً. ولا واجداً نصباً ولا رهقاً، لأنه يستعين على المكاره، ويستنصر على المشاق بروح قوية جعلت شعارها ذلك المبدأ العظيم الذي سنه بونابرت بقوله: لا شيء في الحرب يعجزني فإن عز على صانع البارود صنعته وإذا أعوزني صانع المدافع والبنادق كنته، وأنا كما تعلم مدبر الأمر مصرف الملك.

وبين أيدينا الآن ترجمة رجل من أفاضل السوريين وكبير من أكابرهم، وعظيم من خلاصة عظمائهم، توفر على حبه مصر والمصريين وحبس عصارة الحياة من علم وأدب وفضل ومال على كل مشروع مصري. وعمل خيري ومبرة عظيمة كبيرة، مع أنك ترى كثيراً من أغنيائنا وأصحاب الألوف المؤلفة فينا يسيرون على مبدأ الحياد!. فلا يقوم في الأمة مشروع إلا خذلوه بصمتهم. ولا تنهض لنا نهضة حيوية إلا أماتوها بجمود أكفهم، فالأمة بهم فقيرة وإن كانوا سراتها، والأمة بهم معدمة وهم علم الله عدمها، وماذا لعمرك ترتقب منهم من نفع، وماذا ترتجي من فائدة. والعقول ناضبة، والأكف جعدة، والجيوب ممسكة، والأيدي إلى الأعناق مغلولة، وهل كانت الأمة لتقوم إلا بحبيب الموسر وعقل المفكر. وما يقوم العقل في خدمة المجموع دون الحبيب، ولا أثر له ولا فائدة بحتة إذا لم يعضد بالمال، ويعان بجود الجواد. وصفد الصافد، وعطاء السرى، ورفد الغني، وإلا فلو أصبحت الأمة وكلها عقول تفكر، وأذهان تدير. وآراء تفيض وتسح، وخواطر تتابع وتسنح، ولم يفض من جيوب الأمة جيب، ولم يهتز للندى غنى، ولم يقبل على تعضيدها موسر، إذن لضاع فيض هذه العقول وتكلبها سدى وهقاء، كما يضيع الجدول الفضفاض في رمال الصحراء، وإذن لوقفت الأمة عن سيرها، ولزمت مكانها لا ترى لها محركاً، ولا تجد لأمرها ملاكاً، ولا تبصر لنفسها قواماً، وإذ ذاك تنحط ورح الأمة وتضعف عزيمتها من جراء هذه الخيبة المتواصلة التي تصدم بها كلما قام مشروع، أو تأسست للخير جمعية، أو أنشئت لتعميم التربية والتعليم جامعة أو كلية، ويكفيك من عاقبة هذا الانحطاط النفساني إنه مقدمة للانحطاط الفكري، فإن العقول من هذا الفشل المتتابع تهرم وهي في حدثاتها. وتضعف وهي لا تزال في عنفوانها، ولا تلبث إلا ذهان الخصيبة أن يصيبها الجدب لقلقهما تجد من رى، وتشهد من عناية ورعى، إذ كانت الفكرة الواحدة في عقل المفكر مثتاثا تلمذية كثاراًُ من قويم الأفكار، وتنتج ترباً كبيراً من رشيد الآراء.

فلا غرو إذا قلنا أن ميشيل بك لطف الله أكثر من المصريين مصرية. وأشد من الوطنيين السراة وطنية. بعدما رأينا من جمود أكثرهم، وضنهم بحق الأمة عليهم، وبذلهم فيما لا ينفع الأمة ويضرهم. وإسرافهم حيث لا ينبغي الإسراف. وشحهم حيث لا يخمد الشح، وبعدما رأت الأمة المصرية جمعاء، من صاحب الترجمة الجواد الفياض، والكريم اليد والخلق، والشريف الروح والوجدان، والرجل العامل في سكون واطمئنان، لا يبقي كغيره من الموسرين بمكارمه المظاهر الكاذبة! ولا يروم بمآثره العامة الأبهة الجوفاء، ولا يسأل على ميراثه من الشهرة أجراً ولا جزاء. وعنده أن اللذة الروحانية بتعضيد الأمة وشد أزرها خير من لذة الجثمان باقتناء السيارات، وابتياع فخم المركبات، وشراء الجياج الصافنات، والجلوس إلى غرير الجواري وحسان القينات والتمتع بأطايب النعم وأفانين الملذات، علم أن الإنسان إن لم يرتفع إلى صف الملائكة انخفض إلى صف الشياطين، فأبت طبيعته إلا الارتفاع لا الانخفاض، وشاءت سجيته إلا الروحانية لا الحيوانية، فكان منه الإنسان الروحاني الكريم العواطف العظيم المشاعر والوجدانات، ولعمري هل انتقلت الإنسانية من همجيتها الأولى إلى حالها اليوم من حضارة وعمران، إلا بأولئك الروحانيين كبار النفوس المتجردين عن الحيوانية الذين ازدان بهم كل عصر من عصور التاريخ، وازدهى كل جيل من أجيال البشر والذين لولاهم لكنا اليوم ساكني الكهوف والأجحار، ورواد الغاب والجبال، ومعاشري الأوابد والأوعال، ثم دعك من ذكر الجماهير فإن من الخطأ لبين أن تقدر الأمة بتعدادها وتوزن بأحصائها وتقاس بآلاف الأميال المربعة من طولها وعرضها، وإنما ينبغي أن تعتبر بأهميتها في الجيل الذي هي فيه والقرن الذي تقطعه، ولا تكون هذه الأهمية إلا بأولئك الأفراد القلائل الذين إذا ظهروا في الأمة فكأنهم سكان الأمة وكان تعدادها تعدادهم وليت شعري لو كان الثلمائة الأسبارطيون وقفوا يوم ثرمو بوليه إزاء مثلهم من الفرس لا إزاء مليونين أو يزيدون. فاستكانوا لهم. وأخذوا بكثرتهم. فهل كان الأمر يكون في الحالين سواء في تاريخ الإغريق. وإن شئت فقل في تاريخ الإنسان ولقد أصاب رجال نابوليون العظيم إذا كانوا يدعونه (بالمائة ألف) ولو كان بونابارت رجلاً أميناً لما عتموا أن دعوه (بالمائة مليون).

ولد صاحب الترجمة في القاهرة قبل الثورة العرابية ببضع سنين، فلا جرم أن ينشأ على حب مصر، ولا عجب أن يشب على مودتها. ويغتذى من محبتها، ولا بدع أن تراه بالمصريين مشغوفاً، وبخدمتهم صبا، وبالانتساب إلى مصر فخوراً، إذ كان منشأ الحب الائتلاف، وباب المودة الاختلاط، وقد يفضل المولد على الموطن، وقد يؤثر الصديق على القريب، ويستحب على ابن الجلدة الغريب، وذلك تبعاً لكثرة المخالطة وقلتها، وطول الملازمة وقصرها، ولعل صاحب الترجمة ورث حب مصر عن أبيه، وأخذه عن والده، فإن أباه حبيب باشا لطف الله جاء من بيروت مولده إلى مصر حوال عام 1852 فتخذها عن حب موطناً، ونزل بأسرته الكريمة عليها ضيفاً عزيزاً حتى إذا استتب به المقام اشتغل في تجارة الصادرات والواردات بين إنجلترا والهند والسودان في سن الفيل والعاج والصمغ والأقمشة.

فلما استمكن من فؤاده حب هذه البلاد ونعم بجناب أهلها. رأى أن ينقطع إلى سكناها. ويبقى على قربها، فاشترى له منذ ثلاثين عاما أملاكاً بها وضياعاً، ثم اعتزل التجارة بعد ذلك العهد بعشرة أحوال.

ولما ترعرع المترجم به دفعه والده إلى مدرسة اليسوعيين. ثم انتقل منها إلى مدرسة الفرير ثم رحل عنها إلى المدرسة التوفيقية وتوجه بعد ذلك إلى بيروت ليتم الدراسة بكليتها وعاد بعد حين إلى مصر فدخل مدرسة الحقوق الفرنسية. فلما شعر والده بالحاجة إليه دعاه قبل أن يتم دروسه في الحقوق إلى مشاركته في إدارة أعماله المالية. ولا أظن أن والده أساء صنعاً أو أخطأ شاكلة الصواب. فإن الشهادات المدرسية لا تزيد في شخصية الرجل. ولا ترفع من قدره. بل قد تفسد في بعض الأحايين شخصية حاملها وأخلاقه. بما قد تدخل عليها من زهو وعجب وغرور وخيلاء. فكم رأينا من طالب كان قبل أن يحرز شهادته على نصيب وافر من طيب الأخلاق. وعذوبة المحضر. ولين الجانب. فلما سقطت عليه الشهادة الدراسية إذ به انقلب صلفاً مزهواً فاسد الروح. شموس العطف. مصمر الخد حتى لكأنما قد فاز عند الله بالشهادتين!!.

وليست شهادات الليسانس والدكتوراه والدبلوم وغيرها بالمقادير التي تقدر بها أنصبة محرزيها من العلم، وأقساطهم من الإطلاع والأدب. ومواهبهم من العبقرية والذكاء وهؤلاء حملة الليسانس وأخوانها من عليا الشهادات يعدون في هذا البلد بالعشرات والمئات لا نسمع لهم صوتاً. ولا تشهد لهم آراء. ولا تجد لهم فضلاً. اللهم إلا أفراداً نوابغ. نضجوا خارج المدرسة وذكوا خارج الدرس ونبغوا دون الشهادة وتوفروا على العلم للعلم لا لوظائف الحكومة. وأخلدوا إلى الإطلاع والآداب. لا للشارات والألقاب. بهم تنتفع الأمة وبهم تسود.

ولم ينشب المترجم به إن دخل في الحياة العمومية لأن العظمة الشخصية لا ترضي العزلة. ولا تسكن للانفراد. ولا تطمئن للوحدة. فإنك أن تضع القطعة المغناطيسية جانباً ولم تقر بها من قطع الحديد وسبائك المعدن. لا تجدها تمتاز عن سائر أنواع الحديد والرصاص، ولا تعرف عن بقية المعادن بامتياز واختصاص فمن ثم انتظم المترجم به في سلك عدة جمعيات سورية أنشئت للخير وأسست للغوث والبر. على أنه لم يلبث أن أقال نفسه. ونفض منها يده. إثر خلاف قام بينه وبين أعضائها على وجوه هذا الخير الذي اجتمعوا له. وطرق البر الذي نصبوا أنفسهم للانفاق منه. وكان رأيه أن تصرف أموالها على الفقراء من جائع عان. وظمآن هيمان. وعار لهفان. ومريض أسوان. ومنكوب مهان. وكان غرضهم أن ينشؤا الكنائس ويبتنوا البيع والمعابد وما كان رأيه إلا الرأي الحصيف. وما كان مقصده إلا المقصد الشريف، لأن الفقراء والمحرومين هم الفتوق التي تشوه ثوب الإنسانيه. بل هم في جثمانها الجراح الدامية وما خلق الله عظماء الرجال إلا لرتق هذه الفتوق. وتضميد هذه الجروح. وما برأهم ألا ليكونوا للناس محسنين وأساة. فلا تستمع بعد للفلاسفة المختلطين القساة. ولا يغرنك صيحاتهم أن اقتلوا الضعفاء. وأبقوا على الأصلح. واتركوا العالم للأقوياء فهؤلاء نظروا إلى الدنيا من خلال زجاجة سوداء، فبدت لأعينهم كذلك مظلمة، ولو صدع بأمرهم. واتبع رأيهم. لكانوا عمرك الله أول ضحاي هذا الرأي. وأول ذبائح هذا المذهب الدموي. ثم أين تلك القوة المطلقة التي لا يشوبها شيء من الضعف. بل أين ذاك الضعيف الذي لا يعتريه شيء من القوة. وليت شعري ما أعانه الملهوفين وإغاثة المكروبين. وإعالة المنكوبين. إلا أحسن صنوف العبادة. وأصلح ضروب التسبيح والتكبير، وماذا يعني الإكثار من المعابد والكنائس والمحاريب والله قد خلق هذه الأرض جميعاً لتكو مسجده وكنيسته ومحرابه، ولقد أصاب دكنز القصى الكبير إذ وصف الإنسان بمعبد الله.

ولم يخرج المترجم به من هذه الجمعية إلا ليدخل جمعية أعظم خيراً وأوفر بها. وأكبر قدراً. وأعلم أثراً. جمعية الهلال الأحمر، تلك الحسنة الكبرى التي جاءت بها المدنية الحاضرة فجعل على خزائنها واختير أمين صندوقها، فكم من جراح برأها وكم من طعنات نجلاء لمها، وكم من نفوس كانت على شفا الموت فأنقذها، وكم من أرواح أوشكت أن تفيض فأمسكها، وما يشق المشرفي جرحاً الأسد بدينار من ماله. ولا تجري دماء جريح إلا أوقف جريانها بضماد من عطائه، ذلك هو العمل المبرور والسعي المشكور ومن أحيا نفساً فقد أحيا الناس جميعاً.

ولا تنس حفلة الطيران واحتفاءه وأسرته بمقدم الطيارين العثمانيين وإكرام مثواهما وإحسان وفادتهما وكان في جمعية الاحتفال أمين صندوقها فأعانها بماله وعضدها بحسن إدارته، وهو اليوم يشتعل في نقابة زارعي الأقطان المصرية للدفاع عن مصالحهم. وهناك حسنة كبرى لا تحد بحدود ولا تقاس بمقياس ولا توزن بميزان، تلك أن الحكومة كانت بادئ بدء لا تقدر على اعتبار إخواننا السوريين عنصراً من العناصر المصرية وكان قانونها النظامي لا يبيح تعيين أحد منهم نائباً في الجمعية التشريعية، فكان من سعى المترجم به واجتهاده أن أقرت الحكومة على اعتبارهم عنصراص متمماً للأمة، وبذلك ألف بين القلوب وربطها برباط من الأربطة السياسية الوثقى بعدما وصل بينها وأخي الحب الأهلي وأواصر الصداقة وأسباب الألفة والود، وناهيك بذلك من عمل سياسي مجيد.

وهذه الأسرة اللطفية الكريمة تتألف اليوم من والد المترجم به سعادة المفضال حبيب باشا لطف الله، والمترجم به وإخوته. وقد أنعم عليه الجناب العالي بالرتبة الثانية وكذاك أنعم عليه الشاه الحالي بوسام السير خورشيد.

فترى أنت من هذه الفذلكة المجملة أن صاحب الترجمة يعيش للأمة ويحيا لحياتها ويعمل لا لنفسه وإنما لرقبها مؤثراً رخاءها على رخائه مفضلاً مصلحتها على مصلحته علم أن للأمة حقوقاً على الفرد. فأبى الآن يقوم بواجبات ألوف الأفراد.

ونحن فلو أردنا أن نبسط لك جملة من سديد آرائه وطائفة من جليل خواطره لما وسعها إلا كتاب كبير، فحسب القارئ منها أن نذكر أن أكبر أماني المترجم أن يثبت على الزمن فساد تلك الكلمة المتداولة اتفق الشرقيون على أن لا يتفقوا ويرى أن خليقاً بالشرقيين أن يجتمعوا ويتفقوا ويتناصروا إزاء هذا الغربي الجارف دون ملاحظة الفروق الدينية والجنسية حتى لا يكون ثم موضع للمشاحنات الباطلة لتي لا ترد ولا تجدي. وإنما تجلب الضرر الكبير.

وربما عدنا إلى تفصيل أرائه وخواطره. وتوفيتها قسطها من الشرح والبيان والتعليق.