مجلة البيان للبرقوقي/العدد 17/الإنسان الأول
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 17/الإنسان الأول
المسيوريتو أوجي من مشهوري علماء البلجيك، وبحاثة أثري في طليعة البحاثين. إلى ندوة العلوم بمجمع بلجيكا. هو من أعضائه. عشر قطع من أوثق المصادر. تمثل صور الإنسان الأول في أدوار همجيته الأولى.
وقد اعتمد المسيو ريتو عل المصادر العلمية. وثوق بصحتها، وصنع قوالب صغيرة الحجم، ودقيقة المعالم، تمثل نصف الإنسان الأعلى، في هيآته المختلفة التي تتابعت وراء بعضها وتلاحقت، والتطورات التي حدثت لها في العصور المظلمة التي لم يصل إلى التاريخ الإنسان علمها.
وقد أفرغها في قوالبها، وصنع قواعدها. النحات البلجيكي المشهور لويز ماسكرية. ولكي يصل المسيو ريتو ومساعده إلى أبعد غاية من الحقيقة المقبولة. أو الاحتمال المناسب، بدأ رسم الجماجم التي اتفق العلماء المحققون على شكلها ونسبوها إلى الإنسان في العصور المجهولة من التاريخ، ثم صورا بعد ذلك عضلات الوجه والسواعد والصدر. على حسب قوانين التناسب التشريحي. فلما تم لهما تصوير الهيكل العظمي. شرعا يكسوانه اللحم والشعر. وبعد ذلك صورا النظرات الملائمة لحال كل جنس وحياته والظروف التي يعيش فيها. ورسما الأسلحة التي كان كل يستعملها في العمل والقتل والذبح. ولاء ما بين ملامحهم ونظراتهم. وبين الأعمال التي كانوا يعملونها، وأثبت المسيو ريتو مع دمية من هذه الدمى شرحاً لها دقيقاً. وإليك صور هذه التماثيل. وما كتب المسيو ريتو من الشروح عليها:
إن القطعة الأولى: وهي التي تمثل الإنسان وهو في الطبقة الثالثة الجيولوجية. وصورة جمجمة الإنسان القردي ونصف وجهه، وهي الصورة التي رسمها العالمة الفرنسي الدكتور مانوفرييه للجمعية الأنثروبولوجية في باريس، وأردفها بنظام متججرة تدل على العصر الذي كان يعيش فيه هذا النوع. وكلاهما مثل الإنسان منذ عشرة آلاف من القرون. حين بدأ ينتقل من آكل العشب إلى أكل الثمر، أيام كان وسطاً بين القرد والإنسان. ومسيطراً على كل ما حوله من حيوان. دون أن يكون له من القوة العقلية ما يجعله يتسلط عليه ذهنياً، وكانت سيطرته لا جفاء فيها ولا إيذاء.
ولئن كان في حركاته لا يزال بعض الخصائص التي كانت لأجداده ذوات الأربع. فقد كان يمشي مستقيماً، إذ شاهد نفس من ذوات، وكان يقتبس من تورية الأحجار. وكان يصنع أسلحة من الحجارة إلا فانظر إليه، ودع منخارية الواسعين، وفمه الرغيب، وحسبك النظر، عينيه. فإنك ترى الرضا بالرزق المقسوم له بادياً فيهما، ولا فكر يتجلى على وجهه المسيخ ولا هم.
والقطعة الثانية لا تدل على تطور كبير. صنعت صورتها على غرار التي عثر بها العالم موير في هيدلبرج، وهذه الصورة تمثل الإنسان في الطبعة الرابعة الجيولوجية. وقد انتقل من آكل الثمر فأضحى آكل اللحم تريك أنه قفل راجعاً من الصيد يحمل جثة خنزير جبلي، قابضاً بيده على أداة الموت، وهي كالمناخس أو المعاول الحجرية.
وانظر إلى عارضة. تجسد أنه لم يرتفع أكثر من عارض الإنسان الذي تقدمه إلا يسيراً. وهيأة ملامحه تنبئك أنه قد أحس بقوته. وشعر بفوزه على الحيوان وسلطانه. وتبدلك أنه قد لاقى العناء والوصب في محاربة الخنزير واصطياده.
ولكن بين هذه الصورة. والصورة التي بعد فرق كبير. هذا هو الإنسان الذي كان يسكن جبال جالية من أعمال كنت إحدى مقاطعات إنجلترا وقد رسمت صورته على مثال الهيكل العظمي وصورة أسلحته وأدواته من الآلات التي عثر بها مع الهيكل العظمي. في تلك النواحي منذ خمسة وعشرين عاماً. وأخذ شكلها كذلك عن آثار تمثل ذلك العصر الجيولوجي نفسه اهتدى إليها على ضفاف السين. وفي بلجيكا بين بلدتي مونز وبلنش وفي تسمانيا وغيرها.
هذه هي صورة من صور الإنسان الأول العاقل وقد بدأت الغريزة فيه تقوى وتتطور إلى مبادئ التصور والتفكير. هذا هو مخترع الصناعة الحجرية الأولى. كان يجوب الصخر فيجعل منه أسلحة أمتن من أسلحة أسلافه. وآلات أدق من آلات آبائه.
إن جبينه لا يزال ضيقاً منخفضاً. ولكن وراء هذا الجبين قد نهضت فكرة الحق للقوي. على أنه لم يفكر في مهاجمة الفيلة العظيمة في احراشها. وإنما كان يعسف ويظلم من هو دونه من نوعه أي الإنسان المرسوم في الصورة الثانية المأخوذة عن العامة موير ويجور عليه. ويناله بالأذى. ومن ذلك العهد بدأ الرق والاستعباد.
وترى من صورته أنه يحمل في يده اليسرى سلاحاً مستديراً مشدوداً إلى رقبته بقلادة من أعواد الشجر. وقد قال العلامة ريتو إن هذا السلاح الحجري الذي كان يستعمله الإنسان الأول لأمة للقتال وعدة للذبح. لهو مبدأ الزينة وأصل الحلي.
ولننتقل إلى القطعة الرابعة وهي التي تمثل الإنسان القصير الجمجمة الذي كان يسكن أنحاء جرينل، وهي قرية من قرى نهر السين، وهو النوع الثاني من العصر الجيولوجي الرابع، وهو في نظر المسيو ريتو نتاج تمازج بين الإنسان الشمالي والأجناس التي جاءت بعده، إذ يقول المسيو ريتو إن ظهور جنس جديد كهذا قد جر إلى استئصال الأجناس الأخرى التي تقدمته على أن هناك كثيراً من الشروح والأبحاث والاستنتاجات، وكلها تدور على أنه قد جرى في عروق طبقات كثيرة من الجنس البشري دماء ثلاثة أجناس أخرى من البشر، كل منها أكثر تطوراً في التقدم الذهني من سابقه. ودليل ذلك إن قد حدث تحسين في صنع الآلات وعمل أسلحة جديدة كالرمح والمزراق ليساعد على المحاربة والمناجزة على مسافات بعيدة، إذ بدأ الأفراد والقبائل يتنازعون على ملكية الأرض، في ذلك العصر الذي تدل صناعة قطع الصخور وجوب الحجارة فيه على تقدم كبير. كما ترى من هيأة هذا الإنسان، ساكن أنحاء جرينل، وهو يصنع قطعة من الحجر بدقة وحذق وبعد نظر واهتمام.
والقطعة الخامسة تمثل الإنسان الذي كان يسكن كومب كابل وقد أخذت صورته من الهيكل العظمي الذي اكتشف هناك، ومن عصر ذلك الإنسان يبدأ استعمال المنقاش والآلات التي يستعملها اليوم صنَّاع الدنان. وصناع الرقوق والبسباكون، ووجد الهيكل العظمي الذي اكتشفوه في كومب كابل متوجاً بتاج من الصدف، وذلك ولا ريب لحماية شعورهم وجدائلهم من شدة الريح وعصف الهواء. وإن استنتاج المسيو ريتو أن منشأ القلائد والأطواق والحلي والجواهر وأنواع الزينة الحديثة، هو ذلك السلام الحجري المشدود إلى عنق ساكن جبال جالية كما مر بك، ليصح أن يقال أيضاً في هذا التاج الصدفي، وهل نستطيع أن نتصور أن هذا المشبك الذي كان يعقص به الإنسان القديم شعره وفروعه أو لعله كان الشارة الفارقة بين أهل السيادة منهم وأهل الخدمة والعبودية، هو أصل التيجان ومنشؤها؟.
ولكن هكذا يرى المسيو ريتو، ولعله على صواب.
والذي حدا بالمسيو ريتو إلى الباس هذه الصورة ناراً من الفر وهوا أن هذا الإنسان كحان يعيش في عصر جليدي. ومن ثم مسته الحاجة إلى الدفء فاشتمل في فراء الحيوانات.
وكل من يرى أن الإنسانية كانت أبداً في تقدم وتطور لتأخذه الدهشة والحيرة لمنظر القطعة السادسة وهي صورة الإنسان الذي كان يسكن وادي نياندرثال وقد أخذت عن آثار كثيرة عثر بها في كهوف فرنسا وبلجيكا، فإن هذا الجنس الآدمي كما يرى المسيو ريتو ويوافقه المسيو لويز ما سكريه مساعده أقرب إلى الحيوانية منه إلى الإنسانية. والرأي الذي يذهب إليه المسيو ريتو هو أن هذا الإنسان من بقايا الإنسان الأول المرسومة صوته في القطعة الأولى، وجد في وسط جنس أرقى منه فخضع لسلطانه واستكان له، وإن انحطاط قوته الذهنية عنه جعله تحت رحمته ومن ثم أوى من سلطته إلى الكهوف واحتمى بالأحجار.
هذا العمر ك كلب الإنسان العاقل، يكتسى بقطع من الفراء يقذف بها إليه سيده ومولاه. ولذلك ترى على ملامحه وفي وجهه سيما الذلة والمسكنة.
وليست الحيرة والدهشة بأقل إذا نظرنا إلى القطعتين السابعة والثامنة اللتين تصوران زنوج جريمالدي أسرة أثرية قديمة في مدينة جنوه من أعمال إيطاليا ينسب إليها حتى عام 1715 من الميلاد أمراء موناكو وتدلان على الجنس الذي ظهرت آثاره من الحفائر التي اكتشفت برعاية أمير موناكو عند ساحل اللازورد، وكذلك في نواحي عسقوينا وفي دسلدورف ولكن كيف اختلطت سلالات سام بسلالات يافث وتعلموا منهم صناعة النحت؟.
لقد أحال العلم هذه الظاهرة إلى الانقلابات المتتابعة التي حدثت لهذا الكوكب الأرضي.
كانت صقلية في العصر الرابع الجيولوجي قطعة متصلة بإيطاليا، وكان مضيق جبل طارق مقفلاً، وعلى ذلك كان من السهل العبور من أفريقيا سعياً على الأقدام إلى الأرض التي ندعوها اليوم أوروبا، وهكذا اختلط هذا الجنس الأيتوبي إلى حين بسكان هذه المنطقة ولكن هؤلاء ردوهم بعد ذلك إلى أوطانهم الأولى.
ومن هيأة هذه الهياكل العظمية الزنجية المستخرجة من أرض الغرب لم يستنتج أحد من العلماء أن هذا الجنس الآدمي كان يعرف صناعة النحت ولكن هذا الاستنتاج جر إلى مناقشات علمية، نخص بالذكر تلك المناقشات التي ثارت حول الرموز التي وجدت فوق ذراعي تمثال عطارد ميلو ويذهب للدكتور ريتو إلى أن سلالات سام الذين زاروا أرض يافث وامتزجوا بالجنس الأبيض قد حملوا إليهم سر صناعة النحت إذ وجد في الأحجار المدرجة فيها عظامهم أشياء منحوتة بعضها منحوت من حجر الصابون وبعضها من الحجارة منها ما هو قائم، ومنها مالا يعلو عن الأرض، وأغلب هذه المناحيت كاملة الصنع تامة القالب، ونخص منها تمثال عطارد ولندورف، وهو مفرغ في قالب من حجر الجير، وأما العصابة الصدفية التي ازدان بها هذا النحات الأول فمأخوذة عن العصابة التي وجدت موضوعة فوق جمجمة هيكل عظمي عثر به في كهف الأطفال بمدينة منتون، وأما صورة المرأة الزنجية الأولى المرسومة في القطعة الثامنة فقد اهتد المسيو ماسكريه بين منابش لوسل على نهر الدردون إلى شكل منحوت، والصورة التي تحملها في يدها فمقطوعة من قرون العجل، والأساور الصدفية المحلى بها زندها ومعصمها فمأخوذة عن حلى عثر بها في مدينة منتون.
وانظر إلى الصورة التاسعة والصورة العاشرة فنحن الآن قد بلغنا بهما حدود التاريخ المجهول وأشرفنا على تخوم التاريخ المعلوم.
هذه القطعة التاسعة تمثل لك صورة الإنسان المعاصر لدخول الزنوج أرض الغرب، وإن تناسب معالم وجهه وجمجمته يدل على شيء من العقل والتمييز، والآثار التي تركها هذا الجنس في كهوف بيريجو لتدل على حذق كبير في صناعة النقش والرسم، ومهارة فائقة في رسم الحيوانات، على حين أن الزنوج الذين جاءوا قبله تخصصوا في رسم الإنسان، وخناجر ذلك العصر كما جاء وصفها في كتاب الآثار القديمة مقطوعة من قرون الأيل الشمالي، أما الأسلحة الأخرى فكانت عديدة. ولعل ذلك لأنهم كانوا يعملون على مقالة الزنوج الأجانب عن أرضهم والدخلاء فيهم.
وهذا الإنسان الذي صوره لنا المسيو ريتو دائباً في عمل منقوشاته غارقاً في إفراغ مناحيته، يدل على خطوة جديدة في تاريخ تطور الزينة، فهو كما ترى متجمل في فراء مرتوقة محوكة إلى بعضها، إذ عثر بين الآثار والمنابش بالإبرة الأولى وخيوطها، والمرتقة المستعملة في شد الجلود وحياكتها. والقطعة العاشرة وهي الأخيرة تظهر لك صورة الإنسان النحات وهو في عصر صقل المنحوتات وجلاء المقطوعات الحربية والصناعية إذ كان يشتغل بعمل مصنوعات من قرون الأيل وبدأ به عهد الحفر، وقد استخرج العامة ستيفنز في سنة 1911 من مدينة سيبين من أعمال بلجيكا هيكلاً عظمياً يمثل ذلك العصر، وقد حصل عليه الدكتور ريتو فرسمه والفأس مرفوع بيده إلى رأسه، وفي اليد الأخرى بعض المزاريق وعليه سيمياء العزيمة والجد، وحب القتال والحرب.
هذا هو الإنسان العاقل المتميز قد جاء يفتح الطريق لكل شيء!.
إن رأسه مجلل بقبعة من الألياف. كي يرد بها ضربات عدوه، يزينها جناحاً طائر، تشبه القبعات التي كانت تصنع في أول العهد بعصر المعادن وكان يستعملها أهل الإسكندناوه الأولون وقد أظهرها واجنر على مسرح التمثيل في بعض ما ألف من رواياته.
وبعد فلا بد لنا من أن نقول إن هذه التحقيقات ستثير الحذر وتقابل بالتكذيب من فريق المؤمنين وقد لا تصادف إجماعاً من العلماء على صحتها.
بلى. أولم تؤخذ من ظلمات لا حد لها. في ماض لا غاية له تعرف ولا تاريخ بها يعترف؟.
هذا المسيو ريتو نفسه صاحب التحقيق يذهب في طليعة نقاده وجماعة المعارضين، راضياً بكل مناظرة، متطلباً كل نقد ومناقشة، على شريطة أن يكون المناقش من العلماء المعدودين، سواء كان جيولوجياً أو أنثروبولوجياً أو حيوانياً، فلينتظر القراء رداً أو نقداً أنا معهم من المنتظرين.