مجلة البيان للبرقوقي/العدد 16/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 16/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 16
تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 4 - 1914



(تمهيد)

المجالس النيابية وتطورها

ـ 1 ـ

من الأغلاط المتداولة التي ورثها العصر الحاضر أن المدينة كلما تقدمت قضت على شخصية الأفراد وعبثت بحريتهم وجعلتهم آلات متحركة تخدم المجموع بالشكل الذي يريده المجموع من غير إرادة لأي فرد منهم في ذلك. وأساس هذا الخطأ راجع إلى ظهور المجاميع على أشكالها المختلفة ظهوراً واضحاً، وإلى شيوع مبدأ الجبر الذي يعد الحرية الفردية خيالاً لا حقيقة له، وإلى فكرة علم الاجتماع الجديدة الذاهبة إلى أن الصفة الأولى والظاهرة لكل أمر اجتماعي هي إكراه الجماعة من يخرج على هذا الأمر ليرجع إليه. والحقيقة التي تنتجها الملاحظة واستقراء الحوادث والرجوع إلى التاريخ هي أن المدينة يتقدمها إنما تعمل لإظهار شخصية الفرد ولتكميل حريته ولتوسيع دائرة العمل أمامه. وتعمل لذلك بوسائل كثرة كنشر التعليم وإكثار الصناعات وتحرير الطوائف الوضيعة من رق ملاك أرزاقها: وتسير في عملها على أسس ثابتة وإلى الأمام وكل أنصارها أمل بأنها ستصل من هذا الطريق لتعميم الحرية والإخاء على الأرض ولتقديم أكبر حظ ممكن من السعادة للإنسانية.

وإنما ساعد المدينة على هذه التقدم الذي وصلت إليه - وتؤمل أن تبلغ به غايتها العليا - اطمئنان الناس على حريتهم التي جاهدوا لنيلها طويلاً بعد أن تمكنوا من الانتصار الفكري على الاعتقادات التي كانت راسخة في الأذهان، والتي تولدت على الزمان بمقتضيات الحياة القديمة من وجوب الطاعة لصاحب السلطان، ثم بعد ان انتقل هذا الانتصار الفكري إلى الوجود العام ظهر في العمل فحرك الشعوب وأقام الأمم وبعث فيها جميعاً روج التشبث بالحرية والإخاء والعدالة، واعتبرت هاته الصفات حقوقاً يجب المطالبة بها ويجب الوصول إليها ونيلها ولو بالقوة. وفعلاً لم تكف حركة التنبه الأولى ليتنازل الملوك والمستبدون عن أطماعهم ويسلموا للأمم بحقوقها، بل استلزم الأمر حركات عنيفة وثورات طاحنة سالت فيها دماء وطارت رؤوس وارتكبت فظائع ومظالم حباً في العدل والإ اللذين بقيا دفينين تحت عسف الاستبداد وتحكمه. بعد ذلك كله توجت الحرية الفردية والسياسية القوانين، واطمأن الناس للحياة وللعمل فيها، وقامت في العالم هذه الحركة السلمية المدهشة بعظمتها التي نرى اليوم بأعيننا، وأيقن كل إنسان إن نقص الحرية مؤد لا محالة إلى نقص أهم أجزاء الحياة.

والمدهش في كل هذه الحركة نحو الحرية أنها لم تصل لتحد بالمعنى المضبوط الذي نفهمها به اليوم إلا بعد قرون طويلة من الجهاد لها. وكأنما كانت الحركة نحوها حركة فطرية تدفع إليها ظروف الوجود وتريد هذه الظروف أن تخلص بالناس من قيود الوهم الاستبدادي الذي كان أصل شقاتهم إلى الحرية لأنها مصدر سعادتهم الثابتة. وفي كل تطور من هاته التطورات كانت كلمة الحرية تأخذ معنى جديداً أمام أهل الزمان الذي حصل فيه هذا التطور.

وليس من الممكن أن نرجع في التاريخ لنصل إلى فكرة أول مجتمع إنساني في الحياة حتى نبدأ من هناك ملاحظاتنا على التغيرات التي طرأت على معنى الحرية وقيمتها ذلك بأن المجتمع الإنساني أقدم بآلاف السنين من التاريخ المعروف لنا. كما أنا لا نستطيع أن نصدق النظريات الخيالية التي وضعت في هذا الباب ونفترض ما يسميه جان جاك روسو بالحالة الطبيعية حال الإنسان المنفرد المستكمل كل الحرية بمعناها المادي. فإن ما نعرفه عن حال الإنسان لا يسمح لنا بتصور وجود لهذا الإنسان المنفرد. لذلك يكفينا أن نلاحظ ما كانت تعتبر به الحرية في الأمم المعروفة في التاريخ القديم والتطورات التي انتابت حكوماتها لنصل من ذلك إلى العصور الأخيرة وظهور وجود الرق.

فكان العبيد في كل أمة من أمم تلك الأيام جماعة غير معترف لهم بأي حق من حقوق الحياة الإنسانية.

بل كانوا في منزلة الأشياء الجائز التصرف فيها بكل أنواع التصرف إلى درجة استهلاكها. وبما أن هذا النظام كان عاماً قبلته الأذواق واطمأنت إليه النفوس وكان من مستلزمات مدنية ذلك العصر. وكان العبيد يملكون لأرباب العائلات الذين كانوا أصحاب الشأن والتصرف في كل شيء حتى في أفراد العائلة الذين لم يكونوا من طائفة العبيد. ولقد كان آباء العائلات حينئذ معتبرين ملوكاً لعائلتهم يتوارثون الملك ويقومون بحماية كل من كان تحت رعاياتهم من أصل العائلة أو من العبيد. واجتمع أرباب العائلات من بعد وكونوا المدائن وصاروا يتشاورون فيما بينهم في أمرها. وأدى هذا الاجتماع إلى خروج بعض أفراد من العائلات ممن ثقل عليهم حمل سلطة رب الأسرة وكونوا جماعة الشعب الغير المتمتع بالحماية. ووجودهم وتعدد الأسر استلزم قيام سلطة مركزية للنظر في مصالح الجميع. وكانت هذه السلطة أغلب الأحيان في يد ملك مطلق أو حاكم مستبد، وقيام هذا الملك أو الحاكم من شأنه أن يستعد جماعة الأشراف أرباب العائلات. فيقوم من بينهم الأغنياء وينفقون من أموالهم ويتهددون مدينيهم ويصلون من ذلك للتسلط على الشعب تسلطاً استبدادياً. ويلجأ الملك للشعب فيقوم الشعب ثائراً ويعاونه بعض الأغنياء ممن انفصلوا عن جماعة الأشراف أو ممن جاءتهم ثروتهم من طريق الاتجار. هنالك يجرد الأشراف من حقوقهم ويخذل الملك وتقوم حكومة الشعب اسما وإنما يتمتع بها في الحقيقة جماعة الأغنياء الذين نصروه. فإذا كان الأشراف قد وصلوا إلى حالة الضعف المطلق سارت الأمور إلى ناحية المساواة العامة. أما إن كانوا قد حفظوا شيئاً من القوة سواء بثروتهم أو باستحياء الشعب منهم أو بأي سبب آخر رجعت الخصومات حتى تنتهي أغلب الأمر إلى حكومة استبدادية. لكن هذه الحكومة قصيرة العمر أغلب الأحيان كذلك. ومن بعدها تسير الديمقراطية في تقدمها نحو الارتقاء الاقتصادي والفكري.

هذه الملاحظة العامة التي تنقل عن المسيو كروازيه صادقة عند التطبيق على الأمم القديمة وهي صادقة كذلك في قسمها الأخير فيم يتعلق بالأمم الحديثة وسيرى القارئ ذلك حين كلامنا عن ظهور الفكرة النيابية وتطورها في إنكلترا وفي فرنسا.

أما عن الزمن القديم فنكتفي بذكر تطور الحكومة في روما وآثار الفكرة النيابية فيها بعد أن تجيء بكلمة عن الحياة السياسية في البلاد العربية.

ـ 2 ـ

كانت العرب قبل الإسلام قبائل تجمع كل قبيلة منها عصبية العائلة وترجع إلى جد واحد يكون هو أبا العائلة الأول. وكان لكل قبيلة رئيس يرجعون إلى رأيه ويخضعون لحكمه. وكان هذا الرئيس عالي المكانة بينهم عظيم الشأن مسموع الكلمة. فلما جاء الإسلام أخذ يجمع تحت لوائه أشتات هذه القبائل المتفرقة ويضم له ما تآلف منها وما تنافر ويوفق بينهم باسم الدين الجديد وبعقيدة التوحيد التي امتلكت أفئدتهم. وبقي السيد الرسول يبعث من أعماله وأقواله إلى الأمة العربية الجديدة ما يزيد انضمامها وتضامنها. وكان الحكم يومئذ لله يجيء عنه بطريق الوحي إلى مختارة والمختار يبلغه للناس ويقوم بتنفيذه بينهم فكان ناقل الشرع إليهم وكان قاضيهم وكان المدبر لسياستهم. لكنه كان لا يستبد بالأمر دونهم، وكان يرجع إلى رأيهم في المسائل الكبيرة وبالأخص في مسائل الحرب والسلم. وكانوا راضين حكمه محبين له، فلما استأثر الله برسوله لم يوص بالخلافة إلى أحد من بعده. واجتمع المسلمون بالسقيفة يتشاورون فيمن يكون له الأمر، وإنما ضم هذا الاجتماع بالطبع عدداً من الرؤساء ومسموعي الكلمة. وبعد خلاف حصل بين المهاجرين والأنصار تمت البيعة لأبي بكر، ولما اجتمع له الأمر خطب الناس وكان من بعض ما قاله: أطيعوني ما أطعت الله. فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. ثم دعا عمر وأعيان أصحاب رسول الله فقال ما ترون لي من هذا المال فقال عمر أنا والله أخبرك ما لك منه، أما ما كان لك من ولد قد بان عنك وملك أمره فهمه كرجل من المسلمين. وأما ما كان من عيالك وضعفة أهلك فتقوت منه بالمعروف وقوت أهلك فإنك قد شغلت بهذا الأمر عن أن تكسب لعيالك يراجع الإمامة والسياسة جزء أول صحيفة 28.

هكذا كانت الحال أيام الإسلام الأولى فكان الناس يتشاورون وينتخبون خليفة من بينهم. فإذا ما انتهوا من ذلك انتهوا من الأعمال العامة وصاروا يأتمرون بأمر هذا الرئيس وهو مكلف طبعاً بأن يسير على مقتضى أوامر الكتاب والسنة وأن ينفذها. وطبيعي أنه كان يسعى دائماً لكسب عطف الكبراء من الرجال بأن يصغي لمشورتهم لكن الأمر كان بعيداً جداً عن الحالة النيابية التي نتصور اليوم. تلك كانت حال هذه العصور. وسيرى القارئ أن هذه الحال نفسها كانت حال المملكة الرومانية حتى في أعز ما صلت إليه، وسبب ذلك أن الحرية الفردية على ما نتصور اليوم لم تكن ذات وجود ظاهر بل كانت الأكثرية العاملة تعطي حكم القطيع يساق ولا رأي له. ولهذا الاعتبار ولأن مسألة الرئاسة ونفوذ كلمة الرئيس كانت مستأصلة في الأخلاق يومئذ كان رؤوس الناس أنفسهم يرون طبيعياً وجود رئيس صاحب سلطان.

ولم يكن هذا الرئيس يستمد سلطته من منتخبيه إلا يوم انتخابه. أما بعد هذا الانتخاب فإن سلطته يكون مصدرها الإله الذي هدى الناس لاختياره. ولقد كان هذا الاحتقار سائداً آخذاً بقلوب الرئيس والمرؤوسين جميعاً. على أن سيادته لم تكن لتمنع وجود التشاور وخصوصاً في مسألة الحرب والسلم. وسبب التجاء الجمعيات القديمة إلى الشورى في هذه المسألة وجوب رضي العاملين في الحرب عنها حتى تكون طاعتهم لرئيسهم ساعة الحرب طاعة بالغة حد التفاني لأن أساسها الرضى.

لما حضرت الوفاة أبا بكر أوصى بالخلافة لعمر ووضع وصيته في غلاف ودفعه لعمر نفسه وقال له: خذ هذا الكتاب واخرج به إلى الناس وأخبرهم أنه عهدي وسلهم عن سمعهم وطاعتهم. فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم فقالوا سمعاً وطاعة. فقال له رجل ما في الكتاب يا أبا حفص، قال لا أدري ولكني أول من سمع وأطاع، قال الرجل لكني والله أدري ما فيه. أمرته عام أول وأمرك العام الإمامة والسياسة جزء أول ص 23. وبهذا العهد من أبي بكر تمت البيعة لعمر على غير رضى من كثير من الناس وخصوصاً من أهل الشام. فعمل عمر عشر سنين بعد أبي بكر فو الله ما فارق الدنيا حتى أحب ولايته من كرهها وكان في غضون هذه المدة يؤمر الأمراء ويولى القضاء ويبعث بالفؤاد للفتح والغزو ويعمل كل ما يحتاجه صلاح الأمة والملة راجعاً إلى أحكام الله وسنة نبيه. وما كان لأحد أن يدخل في الأمر بأكثر من المشورة وإبداء الرأي.

وقتل عمر رضي الله عنه وخلفه عثمان بعد بعض خلاف. وبعد أن عمر طويلاً في الخلافة سائراً على منهج حسن زين له أصحابه من بني أمية الأثرة فخصهم دون غيرهم بالأمر وأصبحوا حوله حزباً وبلغ من شأنهم أن استضعفوه لكبره فكان لا يولى وال ولا يقام قضاء إلا بأمرهم ورأيهم. وزادوا في ذلك إلى حد خرج عن الذوق المعقول واستفز أبناء أبي بكر وعمر وعلي. وكان ذلك سبب قتل عثمان وذيوع الفوضي في البلاد العربية على الشكل الفظيع الذي يعرفه القارئ.

وابتدأت الحروب بين علي ومعاوية وتدرجت الحكومة بذلك من استمداد رأى الشعب كما كان أيام أبي بكر وعمر وأول خلافة عثمان ودخلت العصبيات الحزبية يحيط بكل جماعة غوغاء من الأفراد الذي لا يعرفون الحرية ولا الحق المبنية هي عليه وانتهت بظهور الاستبداد الملكي في زمن معاوية ومن خلفه من أبنائه وأقربائه. وانطفأت بذلك الشعلة الوقتية التي أوجدها صاحب الشريعة وبقيت من بعده زمناً، ولكنها لم تجد أرضاً مستعدة لتخليدها ولا نفوساًَ تفهمها فتحتفظ بها وتنميها لتصل منها إلى حال نيابة حقيقية، ونشر الاستبداد أعلامه ونما وترعرع ولكنه بقي مختفي الأثر تحت سلطان القوة العظيمة التي كانت مظهر الدولة العربية يومئذ وبقي اسم الخليفة قروناً عظيم الرنين، وامتدت الفتوحات وكبرت الإمبراطورية العربية. هنالك بنأت تظهر عيوب الاستبداد الدخيلة من عدم استطاعة حكم البلاد الواسعة لتمكن خصوم المستبد من القيام في أطراف نائية عنه وجمع أنصار حولهم والتوصل لمغالبته وإرسال الفوضى بذلك إلى قلب المملكة. ونشأ عن ذلك نتائجه من تجزئة السلطة ومن انقطاع سير المدنية التي كانت قائمة ومن التقهقر والاضمحلال.

هذه نظرة عامة عن حال الفكرة النيابية في البلاد العربية في أيام الإسلام الأولى ومنها يرى القارئ. أن هذه الفكرة لم تكن موجودة إلا بشكل غير واضح وغير منظم لذلك سرعان ما ذهبت واختفى أثرها تحت سلطان الاستبداد. على أن العرب لم يكونوا منفردين بهذه الحالة فإن مدينة الزمان عموماً كانت بعيدة عن سيادة مثل هذه الفكرة. وذلك ما سيظهر الآن عند بحث تطورها في الأمة الرومانية.

ـ 3 ـ

تخبرنا الأقاصيص أن روما أنشئت على تل كان قبل إنشائها سوقاً يجتمع إليه الناس من (أترسك) الشمال و (لاتين) الجنوب، وأن الذي أسسها روموليس سنة 753 قبل الميلاد وتولى هو الأمر عليها ثم عقبه جماعة اعتبروا ملوك المدينة ولكنهم لم يكونوا من نسله ولا عقبه بل كان منهم الأترسكي والسابيني وغيرهم وكان الملك يأخذ بمشورة السناتو الذي كان يتألف من آباء العائلات ورؤساء العشائر. وإنما كانت السناتو صاحبة الرأي الغالب فيما يتعلق بمسائل الحرب والسلم فقط. وكانت تتألف من عدد معين من كبار رؤساء العشائر وذوي الأهمية منهم يختارهم الملك ليكونوا أصحاب مشورته.

وفي درجة تحت الملك وتحت العائلات المكونة يوجد الشعب وكان الشعب يومئذ هو المجموع المختلط الغير المنظم المكون من جماعة الخارجين عن عائلات الأشراف كالمهاجرين والمغلوبين الذين أتى بهم إلى أرض روما أو صغار التجار الذين اجتلبهم أمل الكسب. كما يجب أن يضاف إلى هؤلاء جميعاً عدد من الذين كانوا يعيشون أولاً في حماية الأشراف ثم رأوا الانفصال عنهم والعيش الحرفي مدينة أصبحت وافرة العدد. وقد كان عدد هؤلاء يزداد على الزمان باتساع المدينة ويقلل بذلك من شأن عائلات الأشراف فيها. وساعد الملوك هؤلاء الجماعة من الناس مساعدة جدية لأن مصلحة الملك كانت يومئذ متفقة مع مصلحة العدد الأكبر لما كانت في روما من الحاجة للجند لحمايتها من أعدائها الكثيرين الذين كانوا يحيطون بها. وكان من أكبر المساعدات التي نالها الشعب اعتراف الملك بوجود اجتماعي لهم تمكنوا معه من إيجاد جماعة يمثلونهم إلى جانب السناتو. لكن صوت هؤلاء كان بادئ الأمر صوتاً خافتاً غير مسموع. ثم ازداد هؤلاء الممثلون مع الزمان وبتكرار المطالبة في العدد وازدادوا كذلك في السلطة. فابتدأوا ثلاثاً وبلغوا خمساً وثلاثين. وعلا صوتهم حينئذ حتى لم يكن بد من سماعه ومن الإذعان له - غير أن هذه القوة لم يصل إليها الشعب إلا بعد أن أسقط جماعة الأشراف الملك وتربعوا في دست الحكم نحو القرنين وأقاموا من بينهم قنصلين ينتخبان لعام يكونان فيه صاحبي السلطة المطلقة فلا يحد من نفوذهما إلا الضرورات الملجثة التي ترى فيها السناتو لزوم تعيين مستبد (دكتاتر) لمدة ستة أشهر. وكان شأن الشعب في هذين القرنين ضئيلاً تابعاً لأحكام السناتو وسلطة القناصل فلم يكن لجمعياته أن تجتمع إلا بأمر القنصل كما لم تكن قرارات هذه الجمعيات إلا استشارية. أما الأشراف فكانوا يومئذ أصحاب الحول والطول من الجهات السياسية والحربية والدينية فهم الذين اختصوا بتقديم القربانات للآلهة وهم الذين كانوا يقرون الحرب ويقرون بالسلم وهم الذين كانوا يعملون كل شيء. ولقد كان سلطانهم هذا مبنياً على فضائل عندهم أساسها الثقة بالنفس واحترام العقائد المتوارثة. وكانوا يعيشون على جانب عظيم من بساطة العيش وحب العمل فلا يأنفون أن يشتغلوا بأيديهم ولا يرون أن ينفصلوا عن أهلهم بفاصل من الرفاهة والكسل فكان عندهم بوجه عام ما يلزم أن يكون عند الرئيس من الفضيلة.

وفي هذا الوقت كان الشعب الذي يحكمون مكيفاً بطبيعة الحياة بحيث يحتمل آثار كل هذه القوى المجتمعة. فلقد كان العامي - كما كان الشريف - غاية في التدين شديد الانتباه إلى كل العلائم التي تظهر إرادة الآلهة لا يتقدم خطوة من غير رضاهم. يملؤه برق السماء أو بروح الطائر خوفاً وهلعاً، ويعتقد طائعاً في كل هذه الأمور تفسير العارفين بأفكار الآلهة. يمضي حياته في المزرعة أو في الجيش ولا يبقى من بني طائفته في المدينة إلا عدد قليل لم تكن حياتهم التافهة الوضيعة لتبعث إليهم رأياً من الآراء الحرة أو الصريحة، فلاحهم في المزرعة كفلاح كل القرون قوي مجد صابر مهتم للفائدة العاجلة قليل الميل للأحلام والآمال خاضع لما لا بد منه محافظة بفطرته. وجنديهم معتاد النظام مطواع، على العموم لم يكن في حياة ابن الشعب ما يدفع خياله للحركة بل كان عقله عملياً متجهاً لتقدير الوقائع أكثر من اتجاهه للمسائل الفكرية ولهذا لم يكن مستعداً لابتكار نظام حكومي يريد تحقيقه، كما أنه لو أراده كان يجد أمامه خصوماً لا يتنازلون له إلا مرغمين ركروازيه، الديمقراطيات القديمة ص308 لهذا كان سعي الشعب إلى جهة الحرية بطيئاً جداً، لكنه كان موجوداً دائماً لإحساس الشعب بضغط الأشراف عليه، وظهر أخيراً بالمظهر الوحيد الممكن النجاح حيث اضرب الشعب عن الاشتراك في الحرب مقرراً ذلك في اجتماع عقده فوق الجبل المقدس، ولما رأى السناتو ما في الأمر من حقيقة الخطر اضطر للإذعان واعترف بجماعة ممثلي الشعب الذين أعطوا رآسته، والذين كانوا يتكلمون بصوته على أن سلطتهم أول الأمر كانت قليلة حيث كانت ممتدة على الشعب وحده فكانوا يجمعونه ويأخذون رأيه ورأيه لا يكون نافذاً إلا بعد أن يقره السناتو. لكنهم وصلوا أخيراً ليكون لهم من الحق بحيث يستطيعون تعطيل أي قرار تريده السلطة، فلا ينفذ رأيها على الشغب إلا برضاهم، ولما كان ذلك مما يعطل حتماً كل القرارات لجأ هؤلاء الرؤساء إلى استعماله ميل حقوق جديدة لمن يمثلونهم، فكانوا كلما طلبوا للموافقة على أمر جديد عرضوا حقهم في الرفض وطالبوا بحق جديد ليوافقوا على الأمر المعروض عليهم. ومن هذا تدرجوا إلى المساواة بين الأشراف والشعب.

وبعد الوصول إلى هاته المساواة السياسية فرغت روما إلى فتوحاتها الخارجية واتسع نطاق ملكها وغلبت قرطاجنة وظهرت بمظهر العظمة الذي يخلده التاريخ لها وتجلت أمام العالم قادرة لم تدنس فيها الأخلاق بعد بالترف، قسمت الأعمال العامة بين أهلها بشكل منتظم، واحترمت القوانين وحفظ الدين الأفراد في دائرة الواجب ودفع شرف الاسم الروماني الناس للعمل الجد والشجاعة الحقيقية وكان نظامها السياسي يومئذ متوازناً بحيث تظهر معه كل الفضائل وتتلاشى السيئات. فكان القناصل يعملون بكل القوة التي يمكن أن تصدر عن ملك من غير أن يكونوا مستبدين لوجود الرقابة عليهم، وكانت السناتو تدير المالية وترعى السياسة الخارجية وتتمكن بذلك من حد سلطة القناصل كما كانت تنظر في القضايا العامة. ولم يكن دور الشعب بأقل أهمية من ذلك فإنه كان ينتخب القضاة ويقرر مسائل الحرب والسلم. وكانت هذه السلطات كلها مرتبة غير متضاربة ترمى لغرض واحد هو عظمة روما. وهذا الغرض الذي رمت إليه قد بلغته.

لكن هذه العظمة نفسها كانت تحمل في ثناياها بذور المرض والفساد. ذلك بأن التوازن في السلطات لم يكن مبنياً على احتفاظ كل منها بحق تعتقده ولكنه كان نتيجة محتومة للمجهودات التي صرفت من جانب الأشراف والشعب للحصول على المساواة السياسية. فلما ترامت أطراف المملكة انهالت إليها الثروة فكان الأشراف أول من يتلقاها بما لهم من تالد العز والثروة، وعلى هذا ابتدأ التوازن يختل وابتدأت المدينة ينخر فيها سوس الترف من جانب الأشراف ويقابله ألم التعس من جانب الشعب، ولم يكن الشعب يقدر لنفسه حقوقاً يريد أن يحتفظ بها حتى يجعلها موضع نظره كما أن اختلاط الأجانب المهزومين بالغزاة الفاتحين جر إلى النتيجة عينها من زيادة فوضي الشعب وضياع نظامه، وبدل ذلك المجموع المرتب الذي كان عضواً عاملاً في عظمة روما أصبح غوغاء أميل إلى التجمهر على غير جدوى من العمل المرتب المنتج وأصبح بذلك ألعوبة في يد كل قوى يغريه بالوعود أو ينثر له المال ويجود عليه بالملذات، وبكلمة أخرى أصبح مستعداً للاستبداد لا ينقصه إلا الحاكم المستبد.

ولقد كان قيصر على باب أن ينادي به ملكاً لولا أن عوجل بالقتل، وبعد قيصر بأيام ليست بالطويلة حكمت روما بالاستبداد واستمرت فيه.

في تلك العصور دخلت المسيحية بلاد الرومان وابتدأ قانونها يأخذ مكان القانون الروماني أو يأخذه إليه، ومهما كانت هي في أصلها ديانة عبادية صرفة فقد جعلت تمتد وتضم إلى جناحها وتحت سلطاتها المعاملات الدنيوية شيئاً فشيئاً، وحرض رجالها على ذلك ضم السلطة الدينية والسلطة الزمنية في شخص البابا، فكان بما له من السلطان على الملك أكبر مشرع، ومتى أصبح القانون دينياً لم يبق في يد الناس طبعاً أن يشرعوا لأنفسهم، لهذا يدخل إلى نفوسهم شيء من معنى الاستسلام والتواكل واعتقاد بالجبر غريب، وتطمئن نفوسهم إلى شيء من الذل، فإذا وجد صاحب سلطان قوي وجد منهم خضوعاًَ وطاعة، ولقد كان ذلك شأن الأمم في القرون الوسطى، واختلطت هذه الطاعة للسلطان بالطاعة لأوامر الدين حتى أصبحت تعتبر جزءاً من الدين وأصبح الملك مستمداً سلطته من الله.

ولهذا لم تكن برلمانات الزمن القديم وخصوصاً في فرنسا برلمانات تشريعية بل كانت هيئات قضائية تعرض عليها المسائل لتحكم هي فيها على حسب ما تأمر به القوانين التي وضعها ممثل السلطة العليا وهو الملك. وإن مراجعة تاريخ القرن الخامس عشر لتدلنا على أن الأمة لم تكن لتستدعى في شيء إلا في أوقات القحط والإفلاس حين كان يحس الملك من نفسه العجز المطلق عن الإحسان في الحكم. وظل الأمر كذلك إلى سنة 1614 ومن بعدها استبعدت الأمة من المناقشات إلى بزوغ فجر الثورة الفرنساوية.

أما إنكلترا فلم يكن الحال فيها على ما كان عليه في القارة ويظهر أن عزلة هذه الجزيرة عن باقي أوروبا كانت ولا تزال سبباً في إعطاء سكانها شخصية ثابتة معينة لا يجدها أهل أوروبا القريبة كل أمة فيها لتتأثر بما يقع في الأمم الأخرى. وهذا هو الذي يجعلنا نفسر إسراع الإنكليز على ما هو معروف عنهم من المحافظة ليهبوا إلى طلب الحرية قبل أن يجول ذلك بنفس أية أمة أخرى. ولكأنهم سرت إليه العدوى من نظامات الرومان القوية بعد أن ارتكست روما في درك الاستبداد وتورطت في حمأة الترف من جانب الأغنياء وفي رجس المذلة من جهة الفقراء فنبهت الإنكليز هذه العدوى ليقوموا مطالبين تحديد تصرف الملك المطلق. ولقد وصلوا فعلاً في عهد إدوارد الأول ليكونوا برلماناً تألف من مجلسين مجلس للنواب وآخر للوردات على نظام السناتو ومجلس الشعب. وكان مجلس اللوردات يومئذ صاحب الحول الأكبر. ثم توالت الأيام بعد ذلك حتى جاء شارل الأول وأراد أن يعبث بالنظام الحاضر ويستبد بالملك وادعى لنفسه الحق الإلهي في الحكم هنالك ثارت إنكلترا ثورتها الكبيرة التي ظهر فيها أوليفر كرومويل بمظهر الرجل المريد والتي انتهت بقطع رأس شارل الأول بعد أن أخذت منه عهدة بحقوق الأمة الإنكليزية.

وما كان أشبه هذه الحركة بما حصل في روما. تحزب الأشراف أول إلا مرضد الملك وتمكنوا بما لهم من السلطات على عامة اشعب أن يسثيروه معهم بإظهار مظالمه وإدعاء الميل للعدل. فلما ثار معهم وأسقطوا سلطة الملك قام من بينهم كرمويل مستبداً بالسلطة ممتهناً حقوق البرلمان ناسياً فضل الشعب. ولما كانت الحرية يومئذ لا تزال في مهدها لم تمتلئ بها النفوس لتكون بذلك على استعداد دائم لدفع كل معتد عليها ولما أن البلاد نالها جهد شديد من أثر هذه الحروب رضخت لسلطة هذا الرجل الذي كانت تعد فيه صديقاً لها. ومهما تكن فترة السكون هذه طبيعية كالتي تعقب كل رجة شديدة فإن ما لاش فيه أن نفوس الأغلبية يومئذ كانت لم تبلغ من التحفز إلى جهة الحرية درجة عليا. بل كانت آثار الحركة الدينية لا تزال ذات أثر مستقر في القلوب غطته حركة الثورة التي استثارها الظلم الشنيع فلما خفض من ذلك الظلم بعض الشيء ظهر ذلك الأثر من جديد وبانت للعالم نتائجه.

على أن إنكلترا لها بما نادت به يومئذ من الأفكار أكبر الفخر. فإنها كانت تنادي بالحرية السياسية من رق الملكية المطلقة في حين كانت أوروبا لا تزال تموج بالدماء من جراء الحروب الدينية التي قامت على أثر ما أعلنه لوثر وكلفني وأعوانهما من حركة الإصلاح الديني. وإذا كانت هذه الحركة نفسها وامتدادها إلى إنكلترا عن طرق كسوث وأخذ كرومويل وأعوانه بنصرتها مما ساعد إلى حد كبير على تحرير الأفكار من ربقة الوهم وتقويض ما دعمت به ملكية يومئذ وجودها من أساس الحق المقدس فإن تعدي الإنكليز نطاق الحركة الدينية البحتة وخروجهم بالفكرة إلى دائرة حياة البلاد السياسية أمر يستدعي الإعجاب. ومن ذلك اليوم ظلت إنكلترا تتقدم في طريق الحياة النيابية ويرتقي برلمانها على قواعد أرستقراطية متينة حتى وصل إلى النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وفي هذا النصف ابتدأت المبادئ الديمقراطية تجد إليه مدخلاً. وذلك لأن إحساس الشعب خرج من المحافظة القديمة وهبت عليه من جهة القارة نسمات جديدة بعثت بها المبادئ التي أعلت الثورة الفرنساوية شأنها - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.

من هذا التطور الذي أوصل البرلمان الإنكليزي إلى موقفه الحاضر يظهر لنا أن جماعة الإنكليز ساروا على نظام التدرج المتتابع من حكم الفرد إلى حكم الأرستقراطية وهاهم يتقدمون إلى حكم الشعب بخطى واسعة. وكانوا في سيرهم يتأثرون بما يقع في الأمم الأخرى فيأخذونه إليهم ولكنه يدخل إلى جزيرتهم رويداً رويداً ويأخذ دائماً في دخوله الصبغة الإنكليزية. ولهذا كانت حركاتهم في التقدم من أيام كرومويل إلى اليوم دائمة الحياة ولكنها كذلك كانت دائمة الهدوء مالكة روعها هي أشبه شيء بحركات الرجل القوي العاقل مملوءة نشاطاً ومملوءة رزانة. ولسنا ندري إذا كانت إنكلترا ستقدر على أن تتخطى الأزمات الحاضرة التي هي فيها بمثل ذلك النشاط وتلك الرزانة المتين عرفهما لها التاريخ أو أن شيئاً جديداً دخل إلى جسمها وربما يغير من نظامه.

قدمنا أنه بينما كانت إنكلترا ثائرة ضد ظلم الملك كانت أوروبا مخضبة بدماء المجازر الدينية غير ملتفتة إلى سلطة الملك السياسية ولا مهتمة لها. وكان الملك هو كذلك متحزباً مع أهل مذهب علي أهل مذهب آخر. وكأنما فرغت الأمم يومئذ من كل همومها الدنيوية فانصرفت إلى هم الدين تريد أن ترتب ما يضمن لها سعادة الدارين وكأنها كانت دائمة الجزع للمستقبل الغير المعروف فتلهت بالنظر في أمره عن النظر في أمور دنياها. واستفاد الملوك طبعاً من ذلك المركز وتعززت سلطتهم المطلقة ووجد استبدادهم المجال فسيحاً ليظهر بأقسى مظاهره. لذلك كانت الحركة النيابية معدومة أو تكاد ولم تهتم حكومات ذلك الوقت بالالتجاء إلى رأي المجموع الأسني القحط والضنك. وساعد على بقاء هذا الاستبداد الملكي أن جماعة الأشراف كانوا هم الآخرون في مركز ملوط يحكمون اقطاعاتهم الواسعة بمثل الاستبداد الذي يحكم به الملك الأمة. لهذا ولأن الشعوب كانت لا تزال مرتكسة في الجهالة ولأن الإحساس بالحرية لم يكن وجد في النفوس السبيل بقيت الفكرة النيابية غريبة عن أوروبا كل تلك العصور الوسطى.

لكن تلك الحال لم يكن من شأنها أن تدوم. فإن سلطة الملك وصلت إلى حد من الاستفحال غير معقول، كما أن الحركات الدينية هدأت بعد القرن السادس عشر وفكر الناس في الحياة المطمئنة. وابتدأت الحركة الاقتصادية تنمو على أثر هذا الهدوء وتزيد في فخامة سلطان الملك. ولقد كان أكبر ملوك القرن السابع عشرة لويس الرابع عشر ملك فرنسا. فلما رأى عظمة سلطانه وامتداد ملكه وأبهة جلاله أفسح لنفسه مجال الترف وضم الأشراف إلى جانبه فتركوا مقاطعاتهم واستحبوا القربى منه وتوسلوا بالزلفى إليه وإلى محظياته لينالوا عطفه ورضاه. تركوا مقاطعاتهم ونزلوا فرساليا حيث قصره الفخيم وتركوا بذلك لمن دونهم من أصحاب الأطماع وعشاق السلطة أن يبث في الناس روح الحزبية ضد هؤلاء الملوك الجزئيين. وتعاون هذا الداء مع الأدواء الأخرى التي تلزم الاستبداد حتى يتسع ملك سلطانه. كما ابتدأ الاتصال الذي أوجدته ضرورات الوقت الاقتصادية بين القارة وإنكلترا ينقل إلى أمم أوروبا صور الأفكار والنظامات الإنكليزية ويبعث إلى النفوس شيئاً من معنى الاعتداد بذاتها وطلب الاعتراف بوجود شخص لها وبالتالي الملال من هذا الحكم المستبد الجائر. وتعاونت الأسباب الداخلية والخارجية وابتدأت تظهر على النظامات الاستبدادية علائم القلق والاضطراب.

وساعد على ظهور نتيجة هذه الأسباب كلها أن الملك العظيم لويس الرابع عشر كان قد أغرق في الاستدانة ليستزيد إلى حد الخيال من ملاذ الترف ويزيد ما أمكن في أبهة ملكه وجلاله. ونتيجة الاستدانة في البلاد المحكومة بالاستبداد زيادة الضرائب إلى حد يجهد أهلها. ومتى كان ذلك أحس هؤلاء الأهالي بالضغط وابتدأوا يضجرون من الحكم وينادون ضده. وذلك هو ما حصل. وهذا الضجر شجع الأسباب الأولى على أن تنتج نتائجها. وكان ذلك كله أساس الثورة الفرنساوية.

بعد حكم لويس الرابع عشر وفي مبتدأ ظهور نتائجه ابتدأت عدوى النظامات الإنكليزية تنتقل للقارة بشكل واضح. وكانت هذه النظامات قد بلغت يومئذ في رقبها مقاماً محموداً. استتب النظام النيابي على قواعد أرستقراطية ثابتة وقامت حكومة أبوية تلحظ الشعب بعين الرعاية كما يراقبها الشعب وهو يقظ لما تعمل مستعد للتمسك بحقوقه عند الحاجة. وانتقلت هذه العدوى من طريق المكاتبة الخاصة بين الأفراد أولاً ثم من طريق الملاحظة العامة والنشر. ولقد تشبع بمبادئها جماعة غير قليلين من كتاب فرنسا في القرن الثامن عشر وأكبر هؤلاء مونتيسكيو وبمجموع الملاحظات التي عمل وضع كتابه روح الشرائع، ضمنه نظام الحكومات وقرر فيه قاعدة فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وظهر مع كتابه عدد من الكتب الأخرى أخذت منه بعض الشيء وأظهرت ملاحظات أصحابها كذلك في القسم الأكبر منها. ومن أهم تلك الكتب وأكثرها أثراًَ كتاب العقد الاجتماعي الذي وضعه جان جاك روسو، وإذا كان المقام الآن لا يسع تقرير المبادئ التي وصفوا فإن نتيجة ما كتبوا تهمنا هنا جداً. ذلك بأنها قررت بشكل صريح وواضح معنى الحرية على معنى ما نفهمها به الآن. إطلاق قوى كل فرد في حدود الإضرار بالغير.

ولقد كان روسو أظهر أثراً من مونتسكيو لأنه كان من عامة الشعب وكان ذا روح مملوءة ثورة وخروجاً على قواعد جمعية يومئذ وكان ذا أسلوب في الكتابة مملوء لوناً وقوة. أما مونتسكيو فكان من طائفة الأشراف كما كان ذا أسلوب علمي هادئ. لهذا لقيت كتابات روسو رواجاً وانتشاراً، وزادها رواجاً أنها لقيت من جانب الحكومة معارضة شديدة. كما أن نظام جمعية القرن الثامن عشر الذي قام على أنقاض نظام جمعية لويس الرابع عشر من وجود صالونات العائلات الكبيرة واجتماع الكتاب والعلماء في هذه الصالونات زاد أفكار روسو انتشاراً وجعل خطابه عن عدم المساواة وآرائه في الحرية وثورته ضد الملكية والأشراف مضغة في الأفواه وموضعاً للنقد وللتحبيذ من جانب فولتير ودلمبير وعدد كبير غيرهم.

ولقيت هذه الروح الثورية أرضاً مستعدة لاستقبالها لما ترك القرن السابع عشر بعده من الآثار التي قدمنا ذكرها. وما كادت الأسباب تتهيأ حتى قامت الثورة الكبرى في فرنسا طاحنة شنيعة تنادي بأجمل المبادئ فأسقطت الملك والأشراف وأقامت حكومة الشعب بأكمل معانيها. فلم يك شيء يتم إلا بالانتخاب ولم يك مرجع إلا صوت الأمة. ونقشت كلمات الحرية والإخاء والمساواة في كل مكان واحتلت من القلوب حباتها. وازداد حدب الناس على هذه الحقوق إلى حد مخيف وصاروا يخشون عليها كل موضع ظنه. ولا يعرفون إلى إعلائها سبيلاً إلا بالقتل وإراقة الدماء.

هذه النفوس الملتهبة الشيقة للعظمة والحرية قضت على حرية أشخاص كثيرين وعلى حياتهم أشبه بسيطة ومقابل ذلك كانت ترفع من تعتقد فيه الإخلاص لها والصدق في العمل إلى مقام الملوك وانتهت بأن رضيت أعظم رجالها ملكاً عليها وأسلمته مفاتيح الحكم،. ذلك الرجل هو نابليون. وقام هو مخوفاً مستبداً دائساً تحت قدمه معاني الحرية طامعاً في الإمبراطورية العظيمة - إمبراطورية العالم أجمع.

وأنتج عصره من المبادئ والآراء مالا يزال الأكثر منه خالداً تشخص له الأبصار معجبة مقدسة. ولكن هذه المبادئ جميعاً تلاشت في حكمه وفنيت أمام عظمة سلطانه وهمدت الحرية بعدما أحدثت رجتها الهائلة وبعد أن انتشرت مع الجيوش الفرنسوية في أنحاء أوروبا. لكن هذا الهمود كان وقتياً. ولم تمض بعد نابليون إلا سنين قلائل حتى ثارت فرنسا من جديد محتجة على اغتصاب حقوق نالتها بثمن غال من الدماء والأرواح وكان ذلك في سنة 1848. وسرت عدوى هذه الثورة إلى أنحاء أوروبا وحركت من نفوس أهلها جميعاً وظهرت بذلك حقوق الأمم واضحة قوية وقامت الديمقراطية تأخذ المكان الأول وأصبحت حقوق الشعب مقدسة لا تمس لا استثارات أصحابها، وإلا ردت الغاصب على عقبه.

ـ 5 ـ

لما ابتدأت فرنسا فتوحاتها من بعد الثورة الفرنساوية على يد نابليون كانت مصر من بين البلاد التي توجهت إليها أنظار ساسة ذلك العصر. فجاءها نابليون بجيشه وبطائفة من علماء بلاده معه. ولما نزلوها أرادوا أن يقيموا شيئاً من آثار مبادئ الثورة الفرنساوية بين ربوعها فألفوا مجلساً يمثل طوائف الأمة المختلفة وينظر في أمورها الداخلية. ولاشك أن إيجاد هذا المجلس يعد من باب حسن السياسة في الاستعمار فإن حكم الأمم أمر غير يسير لتباين ما بين المستعمر والمغلوب من الأخلاق واللغة والعقائد. فلأجل أن يكون هذا الحكم على شكل غير مشوش يجب أن يستعين الحاكم الغالب بجماعة من بين المغلوبين ليرشدوه إلى طريق السلطة على أهل بلادهم. وتؤلف هذه الجماعة طبعاً على النظام الذي يفهمه ذلك الحاكم في بلاده. لذلك ألف نابليون ومن معه هذا المجلس الجامع لمختلف الطوائف في مصر. ألفوه في حين كانت البلاد أبعد ما يكون عن الإحساس بالحاجة إليه لطول ما توالى عليها من ظلم الأتراك والمماليك. لذلك ما لبثوا أن انجلوا عنها حتى انحل عقد المجلس ورجع الحال إلى نصابه القديم.

ولطول ما ألف الناس الخضوع لم يفكر أحد في اغتنام فرصة وجود الفرنساويين وجلائهم ليسعي في إدخال فكرة الاستقلال إلى البلاد. بل لقد استقبل محمد علي ومن معه بصفتهم مبعوثي الباب العالي على الرحب والسعة. وبوصول هذه البعثة العثمانية أبدأ عصر الدسائس فجاهد جماعة المماليك من ناحية ومحمد علي من ناحية ليكسبوا عطف العلماء وبالتالي عطف الأمة. ولم يجل بخاطر أحد من أهل تلك الأمة أن يلقي دلوه في الدلاء وأن يدس مع الدساسين ويرمى بمطمعه إلى ما كان يرمي إليه أحد الفريقين وكأنما صدقت في مصر يومئذ نظرية أفلاطون من أن هناك قوماً خلقوا ليحكموا وجماعة خلقوا ليكونوا محكومين. وانتهت هذه الدسائس بولاية محمد علي برضي العلماء وبمذبحة المماليك وأرسل محمد علي إلى السلطان يخبره أن عبيد الباب العالي قبلوه ملكاً عليهم. ورأت حكومة تركيا أن لا مناص من الاعتراف برأي جماعة العلماء فأقرته في الملك واستتب له الأمر وحكم على أرقى نظامات الاستبداد فجعل الأرض كلها ملك الحكومة وما على الأرض من بني آدم ونعم يتبعها طبعاً. وتمكن بذكائه المفرط وحسن حظه وبمعونة من استوفدهم من أوروبا ليعينوه بعلمهم في حكم ملكه الجديد من توسيع ذلك الملك وإعلاء شأنه. وعلى الرغم من نظام الاحتكار الذي أوجده فقد تسني له من طريق المجهودات الصناعية التي أدخلها أن يبعث إلى البلاد حياة وحركة اقتصادية لم تكن تعرف من قبل. وعلى العموم كان حكمه حكم المستبد الذكي ولم تكن الأمة تعرف لنفسها أي حق.

وولى من بعده إبراهيم وعباس وسعيد ولم تكن ولايتهم ذات شأن إلا فيما يتعلق باتفاق سعيد مع المسيو دلسبس على إنشاء قناة السويبس. ثم جاء إسماعيل بأفكاره الجميلة التي أراد البلاد عليها. فلما لم تتمكن من السير معه تركها وجعل هو يعمل ما يخيل له أنه حسن. وأحاط به جماعة أقاموا أنفسهم مشيرين له. ولقد كانوا أغلب الأمر ذوي أطماع شرهة أكثر من أن يكونوا مخلصين محبين للمصلحة العامة. فزينوا لإسماعيل أن يتوسع في أعماله مكبرين له ثروة البلاد على مقياس لو دقق هو في ملاحظته لعلم أن فيه من الغلو والإغراق مالا مثيل له. وتوسع في الأعمال وتوسع على أثر ذلك في الاستدانة وأثقلت الحكومة الأمة بالضرائب. والشعب المصري هو دائماً ذلك الشعب الهادئ المستسلم الكثير الاحتمال. فلما زاد الدين عن النصاب الممكن لحال البلاد الاقتصادية على ما كانت عليه من الفوضى يومئذ أن تقوم بسداده علت ضجة الدائنين من الأوروبيين في سنة 1875 وطلبوا من أممهم التداخل. هنالك فكر إسماعيل في أن يلجأ إلى أمته هو الآخر وأن يؤلف من بين أهلها مجلساً يعرضه لأورا ويتقى به خطر النقد المر لشخصه. فألف مجلس شورى النواب وجعله يجتمع ليصادق على أعمال المليك المطاع الكلمة. ولم يكن هذا المجلس إلا شورياً بحتاً فقد كان على حسب نص لائحته إلا في الأمور التي ترى الحكومة أنها من خصائصه فيدرسها ويبدي رأيه فيها للحضرة الخديوية فينظر فيه المجلس الخصوصي وتتذاكر فيه الأقلام والقومسيونات ثم يعاد إلى مجلس الشورى ويرجع أخيراً إلى الجناب الخديوي وهو صاحب الأمر فيه، فإذا كان الجناب الخديوي على ثقة من أن هذا المجلس سيوافق دائماً رغباته ويقر أوامره ويرى رأيه فإنه يحفظ لنفسه الحق في أن يكون له الأمر الأخير حتى إذا صادف من باب الاستثناء أن خرج المجلس على أمره كان خروجه عبثاً غير مطاع.

وأدرع إسماعيل بالمجلس ضد تداخل أوروبا وحاربها به زمناً لكن قناصل الدول الأوروبية كانوا يعتدون أن هذا المجلس صورة عملها إسماعيل لخدمته لا تجيب شيئاً من أطماع الأمة التي كانت في نظرهم دائمة الأنين من عمل الخديو ودائمة الطاعة لكل متسلط لذلك استمروا في محاربة إسماعيل حربهم الشعواء والتجأ هو في سنة 1878 لتأليف الوزارة النسئولة التي ضمت بين وزارتها أوروبيين هما المستر ريفرس ولسن والمسيو دبلتير والتي كانت عليه أكثر مما كانت له. ومن الأسف أن الأمة كانت أبعد ما يكون عن أن تفكر في كل هذه الحركات السياسية بل كانت تعتقد بسلطان الخديو المطلق اعتقادها بسلطان القوى السماوية وترى أن أسلم الطرق عاقبة التسليم له بكل ما يطلب وطلب رضاه دائماً. ومهما يكن من جهاد إسماعيل للاستنجاد بها في هذه المدة الأخيرة فإن أخلاق الضعف والخوف لم تكن تسمح لها بنصرته مع أن موقفه كان ادعي ما يكون للنصرة. واستحسن هو ذلك منها فلم يلجأ لمعاكسة أوروبا إلا بمسائل شكلية نظرية صرفة وبمجلس شورى النواب الذي لم يكن ذا حول مطلقاً فلما بلغت معاكسة أوروبا حداً قصياً لجأ إلى الباب العالي بطلب نجدته. فأجاب الباب العالي طلبه بأن عزله وولى مكانه ابنه توفيق.

وكان توفيق أميراً مستقيماً حسن المقاصد كامل الأخلاق مقتصداً لكنه كان لا يستطيع أن يتصرف في المركز العسير الذي وجد فيه (ريسنييه، مسألة مصر ص179) لذلك لم تلبث حركات القلق وعدم الرضى عن حال الحكم إن ظهرت بعد أن كانت مستترة خائفة في حكم إسماعيل. وابتدأت الفتنة العسكرية في سنة 1880 وكبرت رويداً رويداً حتى صارت الثورة العرابية. وتحت هذا الاسم طالب رؤساؤها حاكم البلاد بأن يسلم الأمة مفاتيح الحكم ويشرع لها مجلساً نيابياً كامل السلطة، وكبرت هذه الفكرة وامتدت وتألف حولها حزب وطني يناصرها. وأقرها توفيق ووضع لمصر برلماناً نيابياً بالمعنى الكامل وحسب القائمون بالحركة أنهم وصلوا إلى كثير مما يبتغون وانتظروا اجتماع مجلسهم وحياته الطويلة التي أملوا أن تبعث للبلاد إحساساً كاملاً بمعنى الحرية وحباً متناهياً لها يقتضى الاستماتة في الدفاع عنها. لكن آمالهم مع الأسف لم تلبث أن انكسفت أمام حوادث الثورة وهزيمة العرابيين في التل الكبير وبدأ احتلال الإنكليز للبلاد في سنة 1882.

ولما هدأت الثورة أوفد إنكلترا اللورد دفرن سفيرها في الآستانة يومئذ ليدرس أحوال البلاد وليضع لها نظاماً حكومياً. ولم يلبث دفرين أن قدم تقريراً طويلاً حكم فيه بموت مجلس النواب الذي عقد في سنة 1881 وبإحياء النظام الذي انقضى أجله صيف سنة 1913 والذي كان مؤلفاً من مجالس المديريات ومن مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية. ولم يكن رأي أي من هذه المجالس قطعياً في أية مسألة من المسائل. بل وضعت أولاً للغرض الذي وضع له المجلس الذي عقده الفرنساويون سنة 1898 أي لمساعدة الحكام في الحكم وثانياً لتكون صورة تحركها الحكومة على ما تحب وتجد من هذه الحركات ما تلهي به أنظار المتطلعين من أنصار الإنسانية من أهل أوروبا.

وفي هذه السنين ابتدأت الصحافة تنتشر في مصر وتذكر الناس بالحرية وتعلمهم معانيها وقام من بين من قصدوا للصحافة أو كتبوا فيها رجال نوابغ هزت كلماتهم البلاد وأدخلت إلى نفوسنا الميتة شيئاً من الإحساس بالحياة وشوقاً وتطلعاً للحرية. وساعدت الحوادث هؤلاء الرجال ونما بذلك هذا الإحساس وطالبت البلاد مطالبة هادئة بأن تشترك مع الحكومة في الحكم وأن تكون ذات رأي قطعي فيه. وأسمع المتكلمون حكومة مصر وحكومات العالم المتمدين صوت هذه الأمة. وعلى أثر كل هذه المجهودات فكرت القوى الحاكمة في أن تجيب هذا النداء وكان أثر هذا التفكير القانون النظامي الحاضر الذي أنشأ الجمعية التشريعية.

اهتمت الأمة لهذا القانون قدر ما يستحق وكان كل اهتمامها موجهاً لانتخاب الأكفاء من الرجال. وفعلاً انتخب جماعة ذووا كفاءة عالية وعقل راجح وصوت مسموع ترجو أن يبعثوا إلى أمتنا من روحهم ما تزداد معه شوقاً للحرية وتلهفاً على جهتها وأن يسيروا وإياها إلى الحكم الديمقراطي الكامل.

إلى هنا انتهينا من مر النظر سريعاً على تطور النظامات النيابية من جهة تكوين معنى الحرية على مختلف العصور وفي مختلف الأمم بالقدر الذي يسمح ليكون مقدمة لما سيكتبه البيان عن حياة النواب الذين شرفوا كرامى الجمعية التشريعية. // محمد حسين هيكل