مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/حال الإسلام الحاضرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/حال الإسلام الحاضرة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1913



أهدى إلى البيان حضرة الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود هذا المبحث الجليل، وهو خاتمة أبواب كتاب حضارة العرب للدكتور جوستاف لوبون الذي ينقله إلى العربية. ولعل قراء البيان يعرفون من هو جوستاف لوبون صاحب كتابي روح الاجتماع وسر تطور الأمم وغيرهما من الأسفار النافعة، وأن هذه اللغة بحاجة ماسة إلى مثل حسنات هذا العالم البحاثة ولا سيما ما كان منها خصيصاً بشؤون الإسلام وحضارة العرب مما يستبصر به المسلم في مدنية المسلمين وسر عظمتهم الماضية، وضعفهم الحاضر، ولا يكاد يظفر بمثله بين دفات تواليفنا العربية - وإنا نزجي خالص الشكر إلى مسعود أفندي على حسن اختياره، وتوفره على نقل هذا الكتاب القيم، وندعو الله أن يهيء له من ساعة حتى يخرج للناس هذه الدرة الثمينة.

أهالت القرون على العرب غبار الزوال، وأدرجت حضارتهم في أكفان التاريخ. فلم يبق منها إلا سيرتها العطرة، وأثرها المائل. ولكن زوالهم هذا لم يكن موتاً سالباً للروح، ومورداً للجسد موارد الفساد والفناء. لأن الدين واللغة اللذين قام العرب بينهما في أرجاء العالم، أصبحتا لعهدنا الحاضر أكثر انتشاراً منهما أيام كانت الحضارة العربية متألقة السنا. فإن اللغة العربية يتكلم بها الصادر والوارد، والغادي والرائح، بين مراكش والهند. كما أن الدين الإسلامي لا يزال نطاقه يزداد كل يوم ترامياً إلى أبعد الآفاق والأقطار.

يقول علماء تخطيط البلدان: إن عدد مسلمي الأرض ينتهي إلى مائة وعشرة ملايين: ولكن انحطاط هذا العدد عن حقيقة الواقع أمر لا ريب فيه. لأن تقديره إنما كان في زمن لم يخطر ببال أولئك العلماء فيه ما ترامى إليه انتشار الدين واللغة في الصين وافريقية من الأفق القصي والأمد البعيد. وإلا فالدين الإسلامي هو الدين الذي تخفق أعلامه على ربوع الشام وديار مصر وبلاد تركيا وأصقاع آسيا الصغرى وفارس وسواد الروسيا وافريقية والصين والهند. وقد بلغ من سعة انتشاره وعليا كلمته أن تناول جزيرة مدغشقر ومستعمرات افريقية. دع ذيوعه بين جزائر ماليزيا (الملايو) وإن سواد أهالي جاوه وسومطرة وغينية الجديدة يدينون به ويهتدون بهديه. ولقد تخطت عقائد وأصوله معتلج لجج الأقيانوس فبلغت امريكا على يد زنوج افريقية.

ومما يسترعي نظر المتأمل سهولة انتشار الإسلام في نواحي العالم قاصه ودانيه فإنه وقف مسلم على صقع ولا نزل بنجع ولا بَلَد بحلة إلا وترك فيها أثراً من دينه باقياً. ثم انظر إلى الأقطار التي لم يدخلها العرب قائمين بل انتجعوا إليها متجرين كبعض ولايات الصين وجهات افريقيا الوسطى والروسيا. فلقد بلغ من انتشار الدين الإسلامي فيها أن المسلمين أصبحوا يعدون فيها بالملايين. واذكر أن اتخاذ أهلها هذا الدين عقيدة لهم ما كان كرهاً ولا قسراً، وإنما كان رضي واختياراً. إذ لم ينته إلى سمع أحد، ولم يدون في التواريخ شيء من أبناء تجنيد الجند لقسرهم على الإسلام وإلزامهم اتخاذه ديناً يدينون له مكرهين، ويذلون أعناقهم لكلمته مرغمين. وقصارى ما في الأمر أن أولئك التجار كانوا يؤدون غير عامدين عمل المبعوتين في البلدان التي مروا بها لترويج سلعهم، وكانوا في كل خطوة خطوها يبذرون بذور الدين الإسلامي فزكا نبته وفرعت أفنائه واشتدت أصوله حتى أصبح استئصالها بعد ذلك أمراً وعراً آد أولئك الذين عالجوا ذلك من أعداء هذا الدين واخصامه المتألبين. ففي بلاد الروسيا التي أخ له فيها مقاماً طيباً لم يوفق الروسيون لاستئصاله من أرضهم على الرغم من سعيهم المتواصل في هذه السبيل. وهذه بلاد الهند قد أصبح حزب المسلمين فيها لا يقل عن 50 مليوناً ولطالما أفتن مبشروا البروتستانت في أساليب السعي والعمل لمناوته بل كثيراً ما أيدتهم الحكومة في خطتهم ومالأتهم على قضاء إربتهم فكانت العاقبة لها ولهم الفشل فيما أرادوا. أما عددهم في افريقية فما برح مجهولاً حتى اليوم ولكن الحقيقة الثابتة هي أن الرحالة والمستكشفين من أهل هذا الجيل لم تطأ أقدامهم ثرى بلاد ظنوا أنهم أول طارق لها ألا والتقوا فيها بقبائل تدين على بكرة أبيها بالإسلام، والإسلام في افريقية ينقل المستمسكين منه بالعروة الوثقى إلى حظيرة الحضارة، بعد أن كانوا في بيداء الهمجية هائمين، أو يترك بين أهلها أثراً من حميد آثاره في نفوسهم.

كتب الموسيو دوفال: بفضل الإسلام وصدق تأثيره في نفوس من دانوا به، سقطت الأنصاب والأصنام، ودرس من بلاد العرب رسمها، فزالت عادة تقريب القرابين من الآدميين، وأكل اللحمات البشرية، واستقرت حقوق المرأة على الأساس الوطيدة، ووضعت الحدود لتعدد الزوجات وقيد بالقيود الكثيرة، فتوثقت العرى بين أفراد الأسرة، ومنح الرقيق المستعبد حق الإندماج في أسرة مولاه الذي هو ملك يمينه، فانفرجت أمامه مسالك الحرية، واستقامت طرقاتها واضحة النهج. ثم أن من معالم الصلاة والزكاة وغيرهما من أركان الإسلام، تطهير العادات والأخلاق من درن المفاسد، وبث عاطفة العدل والإحسان في النفوس. وما من سيد في قومه، أو ملك في أمته، ألا وهو عليم بأن عليه من هذه الواجبات ما على رعاياه. فلا جرم إذا رست قواعد المجتمع عند المسلمين على أمتن الأسس، وكفلت الشريعة بما جاء فيها من الأحكام الرادعة عقاب المسيء في تصرفه أو الحائد عن جادة الحق. أما الذين رماهم الزمن بسهم صائب كأن أدركهم من طاغية جور فيساورهم أبداً الأمل في الحياة الأخرى وأن سيكون لهم من نعيمها وخيرها أحسن البدل عما فاتهم من عرض العاجلة ولهم من أملهم سلوان يجلوا لهم عن نفوسهم ويقويها على احتمال الضيم. تلك هي المزايا التي يقترن بها الإسلام إذا لاحت لوائحه بين الأمم غير المتحضرة

والصين من أخص البلدان التي ينتشر الإسلام فيها كالضياء إذا انبثق أو الزيت إذا انساح. فإنك لا تمر بمدينة منها بان فيها شأو المبشرين المسيحيين، وقامت أعمالهم على أرسخ القواعد، إلا وسمعتهم يعترفون بعجزهم وجمودهم حيال ما يشاهدون من تقدم الإسلام، واتساع نطاقه على الدوام ولقد سبق لنا القول بأن عدد المسلمين الصينيين يبلغ الآن عشرين مليوناً وأنهم يعدون في مدينة بكين وحدها مائة ألف نسمة.

كتب الأستاذ فازييليف: غشي الإسلام بلاد الصين من نفس الطريق الذي غشيتها منه الديانة البوذية. ومما لا يشك المسلمون الصينيون فيه أن ديانتهم سوف تحل محل مذهب ساكياموني أي المذهب البوذي وهي مسألة من الخطورة بما لا يخفي على الناقد البصير، لأنه إذا تحقق ذلك القول وترامى الصينيون الذين يعادل عددهم ثلث مجموع عدد الجنس البشري فلا بد من انفصام عرى الروابط السياسية التي تربط أجزاء العالم القديم بعضها ببعض. ومتى تم للديانة المحمدية الانتشار فيما بين جبل طارق والمحيط الهادي فهنالك الخطر على المسيحية والمسيحيين.

وهنا نمسك عن الخوض ونلقي باليراع في مكانه إلى جانب الدواة لأننا بلغنا من كتابنا هذا الشوط الأخير والشأو الأبعد، فلنلخص كل ما جاء فيه في السطور التالية.

إن أمماً قليلة بذت العرب في ميدان الحضارة والعمران، وبلغت إلى ما بلغوا إليه من المرتبة السامية والمنزلة المرموقة في مثل الزمن القصير الذي وصلت إليهما فيه. فإنهم رفعوا قواعد دين من أقوى الأديان التي دانت لها الأمم وبسطت سيادتها على العالم ولا يزال تأثيرها مشهوداً بالعين حتى الآن. ومهدوا دولة من أكبر الدول التي عرفت في التاريخ وأوسعها أرجاء وأوفرها قوة وتولوا تمدين الأمم الأوربية ورفعها إلى أسمى ذري التقدم علماً وأخلاقاً. ولكن إذا كان القليل من الأمم قد تسامى إلى تلك الغاية العلياء فقليل منها تدهور إلى مثل الحضيض الذي تدهوروا فيه متنسكين بل ليس على وجه البسيطة أمة دلت على قوة تأثير العوامل والأسباب الباعثة على ظهور الدول وحياتها وموتها كالأمة العربية فيما تناولها من هذه العوامل والأسباب.

(البيان) للدكتور جوستاف لوبون مبحث جليل في سر تدهور العرب وبيان الأسباب والعوامل التي سببت ذلك وقد وعدنا حضرة مسعود أفندي بإهداء البيان هذا المبحث وسننشره في العدد القادم - هذا والذي نعرفه من الإحصائيات يخالف ما جاء هنا عن عديد المسلمين في الهند والصين وخلافهما وسننشر إحصائية صحيحة عن ذلك إن شاء الله.