مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/الملانخوليا
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/الملانخوليا
السوداء أو الجنون الساكن
تكفل حضرة الطبيب المصري النابغة الدكتور حسن إبراهيم أن يوالي البيان في سائر أعداده بكلمات نافعة في الطب وكذلك وعد أن سيجعل في البيان باباً للفتاوى الطبية إذا أحب القراء أن يبعثوا إلينا بأسئلتهم الطبية فجزاه الله عن العلم وأهله خير ما يجزي به المخلصون - قال حفظه الله تحت هذا العنوان.
السوداء أو الملانخوليا مرض عصبي نفساني ينتقل بالوراثة بنسبة ثمانين في المائة وينشأ من تهيجات عصبية مختلفة بنسبة عشرين. والنساء يصبن بهذا الداء أكثر من الرجال، ويحدث في سن الخامسة والعشرين وقد أصابت السوداء صبية وهم في العاشرة من أعمارهم، وله كذلك أسباب أخرى مثل التسمم من الخمور سواء كان وراثياً أم غير وراثياً والانفعالات النفسانية والرعب والخوف والاهتمام الشديد، وتتمشى هذه العلة في المريض بالتدرج لا سيما إذا كان العليل من والدين عصبي مزاجهما، وفي بعض الأحيان يصيب الإنسان دفعة واحدة أثر انفعال نفساني شديد، والانهماك في الشراب يحدث جنوناً ساكناً لدى الأشخاص الناشئين في أسرة عصبية.
عوارضه
يأخذ هذا المرض عادة دوره تدريجياً وقد يأتي في بعض الحوادث دفعة واحدة ففي الحالة الأولى يشعر المصاب بخمول وفتور في همته وهمود في حركته ويشكو من صداع وأرق ورغبة عن الأكل وعسر هضم وهزال، وعلامته الخاصة أن يشعر المريض بحزن شديد غير مألوف ولا يستطيع التمييز بين الأشياء ويحس أولاً بارتخاء في عضو التناسل وعدم المقدرة على التفكير وضعف الإرادة والعجز عن القيام بأعماله ويرى في كل شيء يفكر فيه صعوبة ومشقة زائدة ويظن أن قوة عقله قد ضاعت واضمحلت وإذا أحس بأن عقلاً يفكر رآه ضئيلاً.
يتكلم قليلاً وإذا سئل عن مسألة أجاب بجمل متقطعة محاولاً أن يجعل جواباً مختصراً ما أمكن الاختصار ويقف بين كل كلمة وكلمة برهة من الزمان وتراه لا يشعر بلذة الحياة ولا يجد للسرور ولا للفرح أي ارتياح ويرى كل شيء أمامه أسود مظلماً وينقطع في كل شيء أمله ويتصور أنه أضحى فريسة لكل المصائب وإلاكدار ونهباً للأفكار المزعجة وقد يهتم أحياناً بأشياء تافهة وهو في ذلك تام العقل قوي الذاكرة
وإذا أراد الاهتمام بأمر شق ذلك عليه ويجسد كل أمر متعباً شاقاً فهو لا يقوى على العمل ويهمل أشغاله وواجباته الضرورية حتى نفسه ويشكو بأنه مريض بأمراض عصبية نفسانية كالآلام والهذيان والصداع والاحتقان وتضعف لديه الرغبة في الأكل بل قد يرفض الطعام بتاتاً وتغشى لسانه طبقة بيضاء ويصير لعابه لزجاً ونفسه أبخر ويصيبه أمساك شديد ويقل نومه وكذلك وزن جسمه وتدل هيأة وجهه على حزن وهم مستمر وتفقد عيناه لمعتهما ويجف جلده وتظهر فيه الغضون ويصاب غالباً بضعف الدم ويصير تنفسه بطيئاً وربما يشكو من اختناق أو خفقان، وتضعف قواه التناسلية.
وفي الإصابات الشديدة الوطأة التي تعقب الانفعالات النفسانية تكون قوته العقلية منزعجة جد الانزعاج إذ يتوهم المصاب بأنه ارتكب ذنباً لا يغتفر ون الناس لا تنصح له ولا تزجره وأنه سيبدأ عملاً يخالف القوانين والشرائع ويغضب الله العلي العظيم وتراه من ذلك يبكي بكاء مراً.
وفي حالات أخرى يحسب نفسه قد أصبح من العجزة المساكين وأن عيلته لا بد أن تلتجئ إلى ملجأ الفقراء ويتوهم أن لا شيء يسد رمقه.
وتجد بعض المرضى يتصور أنه مصاب بمرض عضال لا شفاء منه أبداً كالسرطان أو أن أمعاءه التصقت ببعضها وانسدت أو أنه فقد أعضاءه التناسلية وربما أنكر وجودها إنكاراً.
ونتيجة جميع هذه التصورات أن المصاب يتوقع من وهمه حلول عواقب وخيمة عليه إذ يظن أنه سيقتل أو يسجن وفي بعض الأحيان ينتحر المريض أو يموت لامتناعه عن الأكل.
ويوجد نوعان من هذا الجنون الشديد الوطأة فالنوع الأول أن المريض يضعف كثيراً ويتخذ شكلاً مخصوصاً في جلوسه ويلبث ساعات طوالاً ساهماً كئيباً ويبدو حزيناً مغموماً وإذا خوطب أظهر خوفاً وجبناً لا سيما إذا تحرك في مقعده وأما النوع الثاني فيكون فيه المريض هائجاً يصرخ ويخطر ويأتي بحركات غريبة ويشد شعر رأسه ولحم وجهه ويعض أظفاره وهو لا يشعر من ذلك بألم وكثيراً ما يلقي بنفسه في الأقذار والأوساخ ويبلغ به الضعف مبلغه فيموت جوعاً أو تسمماً أو من جروح بليغة.
نتيجة المرض
يشفى المريض في مدة تتراوح بين أربعة أشهر وسنة وقد تلبث العلة طويلاً فتزمن أما من يصاب بها ثم يشفى فتعاوده نوبات تختلف في شدتها وتمكث النوبة الواحدة من أسبوعين إلى أربعة أسابيع وفي بعض الحوادث تأتي النوبات في أوقات معلومة محدودة حتى أن المصاب لينتظرها وهو متأكد من حدوثها، وأغلب الذين يعرفون أوقات نوباتهم يسارعون إلى المستشفيات