مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/فصل من كتاب سر تطور الأمم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/فصل من كتاب سر تطور الأمم

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 11
فصل من كتاب سر تطور الأمم
ملاحظات: بتاريخ: 6 - 4 - 1913



ننشر هنا الفصل الأخير من كتاب سر تطور الأمم الذي عني بنقله إلى العربية شيخ الكتاب الاجتماعيين في مصر العالم أحمد فتحي زغلول باشا - وهذا الفصل هو كالفهرس لسائر أبواب الكتاب وموضوعاته وبقراءته يلم القارئ بنظريات هذا الكتاب إلماماً. قال:

لكل أمة خواص نفسية ثابتة خواصها الجسمية تقريباً. والنوع النفسي كالنوع الجسمي أي المادي لا يتغير إلا على طول السنين ومر الأجيال.

يوجد بجانب الخواص النفسية الثابتة الوراثية التي يتكون منها المزاج العقلي لكل أمة خواص ثانوية تنشأ من تغيرات البيئة وتتجدد على الدوام فيخيل لذلك أن الأمة في تحول مستمر كبير.

المزاج العقلي لكل أمة هو خلاصة أفرادها الأحياء وأسلافهم الذين كونوها. فالشأن الأول في حياة الأمم للأموات لا للأحياء لأنهم هم الذين خلقوا شعورها الأدبي وهيأوا الأسباب البعيدة في سيرها.

تمتاز الأمم بعضها عن بعض بفروق كما امتازت بفروق نوعية. والأولى ملازمة للثانية. والفرق ضعيف بين أفراد المثال الوسط في أمة ومثلهم في أمة أخرى وعظيم جداً بين أفراد الطبقات الراقية. ومن هذه المقارنة يتبين أن الفارق بين الأمم الراقية وبين الأمم المنحطة هو في احتواء الأولى عدداً غير قليل من ذوي العقول الكبيرة وفي أن ذلك غير موجود في الثانية.

يتساوى أفراد الأمة المنحطة فيما بينهم مساواة واضحة وكلما ارتقت الأمة وجدث الفروق بينهم. فأثر الحضارة الذي لا بد منه هو إيجاد الفروق بين الأمم وبين الأفراد وعليه فهي سائرة نحو التفاوت لا نحو المساواة.

حياة الأمة ومظاهر حضارتها مرآة روحها تدل على أمر خفي لكنه موجود. فالحوادث الخارجية أثر ظاهر النسيج خفى هو الفعال.

ليس الشأن الأول في حياة الأمم للاتفاق ولا للأحوال الخارجية ولا للنظامات السياسية على الأخص بل لخلق كل أمة.

لما كانت عناصر مدنية كل أمة هي للدلالة الخارجية على مزاجها العقلي أعني ممثلة حال تلك الأمة من حيث الكيفية الخاصة بها في شعورها بالمحسوسات وتصورها إياه المتعذر نقل تلك العناصر إلى أمة أخرى من دون تغيير فيها. وإنما الذي يمكن نقله هي الصورة الظاهرة السطحية التي لا قيمة لها.

اختلاف المزاج العقلي بحسب الأمم يجعل كل واحدة تتصور الوجود بصورة خاصة فهي إذن تختلف في الحس والعقل والعمل. ويقوم النزاع بينها على جميع المسائل متى احتكت ببعضها. وهذا التنازع هو سبب جميع الحروب المدونة في التاريخ. فحروب الفتح والحروب الدينية وحروب العائلات المالكة كلها في الحقيقة حروب جنسية لا يتكون من مجموع أفراد مختلفي الأصل شعب مستقل. أعني أنهم لا يكون لهم روح يشتركون فيها كلهم إلا إذا كثر تبادل النسل بينهم مدة طويلة. واتحدت معيشتهم في بيئات متحدة. وصارت مشاعرهم واحدة ومنافعهم مشتركة. ومعتقداتهم عامة لا يكاد يوجد في الأمم المتحضرة شعوب أصلية بل ليس هناك إلا شعوب صناعية تكونت من أحوال تاريخية.

لا يؤثر تغيير البيئة تأثيراً شديداً إلا في الشعوب الجديدة أعني التي تكونت من أخلاط شعبية تفككت أخلاقها الموروثة بكثرة التناسل. فلا يفل الوراثة إلا الوراثة. وإذا لم يكن للتناسل من القوة ما يكفي لزعزعة الأخلاق وتشتيتها كان تأثير تغيير البيئة قاصراً على التخريب. وقد يموت الشعب القديم ولا يقبل التغيير الذي تقتضيه ضرورة انطباعه على بيئة جديدة.

تبلغ الأمة ذروة مجدها متى تم لها روح قوى قام وتسقط متى تحلل هذا الروح. وأهم العوامل في هذا التحليل دخول عنصر أجنبي في الأمة.

تتأثر الأنواع النفسية كالأنواع المادية بالزمان كلاهما يهرم ويموت. وتحتاج كلها في تكوينها إلى زمن طويل. وقد تزول في وقت قصير. إذ يكفي أن تضطرب وظائف أعضائها ليحدث فيها تطور نحو السقوط وقد تكون نتيجة الدمار العاجل. فالأمم تقطع قروناً طوالاً قبل أن يثبت لها مزاج عقلي خاص. وقد تفقده في برهة يسيرة. فالشقة التي تسير فيها إلى الحضارة بعيدة. ومنحدر السقوط قصير غالباً.

المبادئ من أهم عوامل الحضارة بعد الخلق ولكنها لا تؤثر إلا بعد أن تتطور على مهل حتى تصير شعوراً وتصبح جزءاً من الخلق نفسه وتخرج بذلك من دائرة البحث والنظر. ولا تزول المبادئ إلا بعد مرور دهر طويل. وكل حضارة ترجع إلى بعض مبادئ أساسية مسلم بها من الكافة.

أهم المبادئ المؤثرة في الحضارة المبادئ الدينية واختلاف الأديان هو السبب البعيد في أعظم حوادث التاريخ. فتاريخ الإنسانية مقترن على الدوام بتاريخ آلهتها. وهؤلاء أبناء خيالنا ولهم مع ذلك سلطان كبير حتى أن تتغير أسمائهم كاف وحده في قلب نظام العالم بأسره. وظهور آلهة جديدة كان على الدوام طليعة لحضارة مقبلة واختفاؤهم كان على الدوام نذيراً بزوال حضارة مدبرة.