مبسوط السرخسي - الجزء العاشر2
[ 101 ] فيخلفه وارثه المسلم في ماله ويكون هذا توريث المسلم من المسلم وهذا لان الحكم عند تمام سببه يثبت من أول السبب كالبيع بشرط الخيار إذا أجيز يثبت الملك من وقت العقد حتى يستحق المبيع بزوائد المتصلة والمنفصلة جميعا فعلى هذا الطريق يكون فيه توريث المسلم من المسلم (فان قيل) زوال ملكه اما أن يكون قبل الردة أو معها أو بعدها والحكم لا يسبق السبب ولا يقترن به بل يعقبه وبعد الردة هو كافر (قلنا) نعم المزيل للملك ردته كما أن المزيل للملك موت المسلم ثم الموت يزيل الملك عن الحى لا عن الميت فكذلك الردة تزيل الملك عن المسلم وكما أن الردة تزيل ملكه فكذلك تزيل عصمة نفسه وانما تزيل العصمة عن معصوم لا عن غير معصوم فعرفنا أنه يتحقق بهذا الطريق توريث المسلم من المسلم ولهذا لا يرثه ورثته الكفار لان التوريث من المسلم والكافر لا يرث المسلم وهو دليلنا فانه كان تعلق باسلامه حكمان حرمان ورثته الكفار وتوريث ورثته المسلمين ثم بقي أحد الحكمين بعد ردته باعتبار أنه مبقى على حكم الاسلام فكذلك الحكم الآخر وانما لا يرث المرتد أحد لجنايته فهو كالقاتل لا يرث المقتول لجنايته ويرثه المقتول لو مات القاتل قبله ولانه لاوجه لجعل ماله فيئا فان هذا المال كان محرزا بدار الاسلام ولم يبطل ذلك الاحراز بردته حتى لا يغنم في حياته والمال المحرز بدار الاسلام لا يكون فيئا وبهذا تبين ثبوت حق الورثة فيه لانه انما لا يغنم في حياته لالحقه فانه لاحرمة له بل لحق الورثة فكذلك بعد موته وان قال يوضع في بيت المال ليكون للمسلمين باعتبار أنه مال ضائع (قلنا) المسلمون يستحقون ذلك بالاسلام وورثته ساووا المسلمين في الاسلام وترجحوا عليهم بالقرابة وذو السببين مقدم في الاستحقاق على ذي سبب واحد فكان الصرف إليهم أولى فأما ما اكتسب في حال ردته فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى هو فئ يوضع في بيت المال وعندهما هو ميراث لورثته المسلمين لان كسبه يوقف على أن يسلم له بالاسلام فيخلفه وارثه فيه بعد موته ككسب الاسلام وما ذكرنا من المعاني يجمع ؟ الكسبين وليس في الردة أكثر من أنه صاربه مشرفا على الهلاك فيكون كالمريض والمكتسب في مرض الموت كالمكتسب في الصحة في حكم الارث وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الوراثة خلافة في الملك والردة تنافى بقاء الملك فتنافي ابتداء الملك بطريق الاولى فما اكتسب في اسلامه كان مملوكا له فيخلفه وارثه فيه إذا تم انقطاع حقه عنه وكسب الردة لم يكن مملوكا له لقيام
[ 102 ] المنافى عند الاكتساب وانما كان له حق ان يتملك ان لو أسلم والوارث لا يخلفه في مثل هذا الحق فبقى هذا مالا ضائعا بعد موته يوضع في بيت المال والاصح ان نقول اسناد التوريث إلى أول الردة في كسب الاسلام ممكن لان السبب يعمل في المحل والمحل كان موجودا عند أول الردة فاما اسناد التوريث في كسب الردة غير ممكن لانعدام المجل عند السبب في هذا الكسب فلو ثبت فيه حكم التوريث ثبت مقصورا على الحال وهو كافر بعد الاكتساب والمسلم لا يرث الكافر فيبقى موقوفا على ان يسلم له بالاسلام فإذا زال ذلك بأن مات أو قتل فهذا كسب حربى لاأمان له فيكون فيئا للمسلمين يوضع في بيت مالهم ثم اختلفت الروايات عن أبى حنيفة رحمه الله تعالي فيمن يرث المرتد فروي الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أنه من كان وارثا له وقت ردته وبقى إلى موت المرتد فانه يرثه ومن حدث له صفة الوراثة بعد ذلك لا يرثه حتى لو أسلم بعض قرابته بعد ردته أو ولد له من علوق حادث بعد ردته فانه لا يرثه على هذه الرواية لان سبب التوريث الردة فمن لم يكن موجودا عند ذلك السبب لم ينعقد له سبب الاستحقاق ثم تمام الاستحقاق بالموت فانما يتم في حق من انعقد له السبب لافي حق من لم ينعقد له السبب ثم في حق من انعقد له السبب يشترط بقاؤه إلى وقت تمام الاستحقاق فإذا مات قبل ذلك يبطل السبب في حقه كما في بيع الموقوف يتم الملك عند الاجازة من وقت السبب ولكن بشرط قيام المعقود عليه عند الاجازة حتى إذا هلك قبل ذلك بطل السبب وفى رواية أبى يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى يعتبر وجود الوارث وقت الردة ثم لا يبطل اسحقاقه بموته قبل موت المرتد لان الردة في حكم التوريث كالموت ومن مات من الورثة بعد موت المورث قبل قسمة ميراثه لا يبطل استحاقه ولكن يخلفه وارثه فيه فهذا مثله وأما رواية محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو الاصح انه يعتبر من يكون وارثا له حين مات أو قتل سواء كان موجودا عند الردة أو حدث بعده لان الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه يجعل كالموجود عند ابتداء السبب الا ترى ان الزيادة التى تحدث من المبيع قبل القبض تجعل كالموجود عند ابتداء العقد في انه يصير معقودا عليه بالقبض ويكون له حصة من الثمن ؟ فههنا أيضا من يحدث قبل انعقاد السبب يجعل كالموجود عند ابتداء السبب ولو تصور بعد الموت الحقيقي ولد له من علوق حادث لكنا نجعله كذلك أيضا الا أن ذلك لا يتصور فأما بعد الهلاك بالحكم بالردة
[ 103 ] يتصور فيجعل الحادث كالموجود عند ابتداء السبب وكذلك ان لحق بدار الحرب قسم الامام ماله بين ورثته وكان لحاقه بدار الحرب بمنزلة موته وعند الشافعي رحمه الله تعالى يبقى ماله بعد لحاقه موقوفا كما كان قبل لحاقه لن ذهابه إلى دار الحرب نوع غيبة فلا يتغير به حكم ماله كما لو كان مترددا في دار الاسلام ولكنا نقول انه صار حربيا حقيقة وحكما لانه قد أبطل حياة نفسه بدار الحرب حين عاد إلى دار الحرب حربا للمسلمين والحربي في دار الحرب كالميت في حق المسلمين قال الله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وقد قررنا هذا في النكاح في مسألة تباين الدارين ولانه قد خرج من يد الامام حقيقة وحكما ولو كان في يده لموته حقيقة بان يقتله ويقسم ماله فإذا عجز عن ذلك بخروجه عن يده موته حكما فيقسم ماله بين ورثته وحكم بعتق امهات أولاده ومدبريه وبحلول آجاله ثم قال أبو يوسف يعتبر من يكون وارثا له وقت قضاء القاضى بلحاقه وعند محمد وقت لحاقه وهذا لان عندهما ملكه لا يزول بالردة ولهذا ينفذ تصرف المرتد عندهما على ما نبينه فانما زوال ملكه بسبب الردة عند لحاقه فيعتبر وارثه عند ذلك ولحاقه موت حكمي فهو كالموت الحقيقي بالقتل ولكن أبو يوسف يقول اللحاق في الحقيقة غيبة وانما يصير موتا حكما بقضاء القاضى فيعتبر من يكون وارثا له عند القضاء باللحاق في استحقاق ماله وكذلك ترث منه امرأته ان كانت في العدة لان النكاح بينهما وان ارتفع بنفس الردة لكنه فار عن ميراثها وامرأة الفار ترث إذا كانت في العدة عند موته وعلى رواية أبي يوسف ترث وان كانت منقضية العدة عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى لان سبب التوريث كان موجودا في حقها عند ردته وعلى تلك الرواية انما يعتبر قيام السبب عند أول الردة وتبطل وصاياه لان تنفيذ الوصايا لحق الموصى ولم يبق له حق بعدما قتل على الردة أو لحق بدار الحرب وهذا بخلاف التدبير فان حق العبد في العتق بالتدبير قد ثبت للمدبر فيكون عتقه كعتق أم الولد أو حقه كحق أصحاب الديون وفى الكتاب يقول ردته كرجوعه عن الوصية لانه بالردة يبطل حقه وتنفيذ الوصية كان لحقه فرجوعه يعمل في ابطال وصاياه ولا يعمل في ابطال تدبيره فكذلك ردته وهو لا يفعل شيئا من ذلك مادام المرتد مقيما في دار الاسلام لانه في يده حقيقة وحكما فيموته بالقتل حقيقة ان لم يسلم أولا ثم يقسم ماله وان فعل ذلك بعد لحاقه بدار الحرب ثم رجع تائبا قد مضى جميع ما فعله الامام غير أنه إذا وجد شيئا من ملكه بعينه في يد وارثه أخذه
[ 104 ] منه لان الوراثة خلافة والخلف يسقط اعتباره إذا ظهر الاصل ولما جاء تائبا فقد صار حيا حكما وانما كانت خلافة الوارث اياه في هذا الملك كموته حكما فإذا انعدم ذلك ظهر حكم الاصل ولهذا قلنا لو كان الوارث كاتب عبدا يعاد إليه ذلك العبد مكاتبا لان الحكم لا يكون منتقلا من الخلف إلى الاصل وتأثير الكتابة في منع النقل ولكن ينعدم الخلف بظهور الاصل فيكون الملك لصاحب الاصل بطريق البقاء ولا يعاد إليه شئ مما باعه وارثه لان الاصل والخلف في الحكم فلا بد من قيامه عند ظهور الاضل ؟ ليكون عاملا وما تصرف الوارث من بيع أو غيره فهو نافذ منه لمصادفته ملكه ولاضمان عليه في شئ مما أتلفه لان الملك كان خالصا له وفعله فيما خلص حقا له لا يكون سبب الضمان فلو لم يفعل الامام شيئا من ذلك حتى رجع تائبا فجميع ذلك له كما كان قبل ردته لان اللحاق قبل أن يتصل به القضاء بمنزلة الغيبة فهو والمتردد في دار الاسلام في الحكم سواء (قال) وجميع ما فعل المرتد في حال ردته من بيع أو شراء أو عتق أو تدبير أو كتابة باطل ان لحق بدار الحرب وقسم الامام ماله والحاصل أن تصرفات المرتد أربعة أنواع نوع منها نافذ بالاتفاق وهو الاستيلاد حتى إذا جاءت جاريته بولد فادعى نسبه ثبت النسب منه وورث هذا الولد مع ورثته وكانت الجارية أم ولد له لان حقه في ملكة أقوى من حق الاب في جارية ولده واستيلاد الاب صحيح فاستيلاد المرتد أولى لانها موقوفة على حكم ملكه حتى إذا أسلم كانت مملوكة له وحقه فيها أقوى من حق المولى في كسب المكاتب وهناك يصح منه دعوة النسب فههنا أولى الا ان هناك يحتاج إلى تصديق المكاتب لاختصاصه بملك اليد والتصرف وههنا لا يحتاج إلى تصديق الورثة لانه لم يثبت لهم ملك اليد والتصرف في الحال ومنها ما هو بالاتفاق باطل في الحال كالنكاح والذبيحة لان الحل بهما يعتمد الملة ولاملة للمرتد فقد ترك ماكان عليه وهو غير مقر على ما اعتمده ومنها ما هو موقوف بالاتفاق وهو المفاوضة فانه إذا شارك غيره شركة مفاوضة توقف صفة المفاوضة بالاتفاق وان اختلفوا في توقف أصل الشركة ومنها ما هو مختلف فيه وهو سائر تصرفاته عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف بين أن ينفذ بالاسلام أو يبطل إذا مات أو قتل على الردة أو لحق بدار الحرب وعندهما نافذ الا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول ينفذ كما ينفذ من الصحيح حتى يعتبر تبرعاته من جميع المال وعند محمد رحمه الله تعالى ينفذ كما ينفذ من المريض
[ 105 ] وحجتهما في ذلك أنه من أهل التصرف لاقي تصرفه ملكه فينفذ وبيان ذلك أن التصرف قول والاهلية له باعتبار قوله شرعا ولا ينعدم ذلك بالردة والمالكية باعتبار صفة الحرية ولا ينعدم ذلك بالردة انما تأثير ردته في اباحة دمه وذلك لا يحصل بالمالكية كالمقضى عليه بالرجم والقصاص والدليل عليه أن تصرف المكاتب بعد الردة نافذ بالاتفاق وحال الحر في التصرف فوق حال المكاتب فإذا كانت الردة لا تنافي ملك اليد الذى ينبني عليه تصرف المكاتب حتى ينفذ تصرفه فلان لا ينافي ملك الحر وتصرفه أولى الا أن محمد رحمه الله تعالى قال هو مشرف على الهلاك فيكون بمنزلة المريض في التصرف ألا ترى أن زوجته ترثه بحكم الفرار وذلك لا يتحقق الا في المريض وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول هو متمكن من دفع الهلاك عن نفسه بسبب يستحق عليه مرغوب فيه فلا يصير في حكم المريض كمن قصد أن يلقى نفسه من شاهق جبل لا يصير به في حكم المريض يوضحه أن المقضى عليه بالرجم والقصاص لا يصير كالمريض مادام في السجن لتمكنه من دفع الهلاك عن نفسه بادعاء شبهة فالمرتد أولى وأبو حنيفة يقول بالردة يزول ملكه عن المال وكان موقوفا على العود إليه بالاسلام وتصرفه بحكم الملك فيتوقف بتوقف الملك ودليل الوصف ان المالكية عبارة عن القدرة والاستيلاء وانما يكون ذلك حكما باعتبار العصمة الا ترى ان الشرع جعل عصمة النفس والمال بسبب واحد ثم عصمة نفسه تزول بالردة حتى يقتل فكذلك عصمة ماله والدليل عليه أنه هالك حكما وإذا كان الهلاك حقيقة ينافى مالكية المال ولا ينافى توقف المال على حقه كالتركة المستغرقة بالدين فكذلك الهلاك الحكمى ولان تأثير الردة في نفي المالكية فوق تأثير الرق فان الرق ينافى مالكية المال ولا ينافى مالكية النكاح والردة تنافيهما وهذا بخلاف المقضي عليه بالقصاص والرجم فهناك لم يزل ما به عصمة المال والنفس وانما استحق عليه نفسه بما هو من حقوق تلك العصمة فيبقى مالكا حقيقة لبقاء عصمة ماله وقد انعدم ههنا ما به كانت العصمة في حق النفس فكذلك في حق المال لانها تابعة للنفس في العصمة بخلاف المكاتب فان تصرفه باعتبار عقد الكتابة والردة لا تؤثر فيه ألاتري أن الهلاك الحقيقي لايمنع بقاء الكتابة فالهلاك الحكمى أولى ولهذا نفذ تصرف المكاتب بعد لحاقه بدار الحرب وههنا بالاتفاق لا ينفذ تصرفه في ماله بعد لحاقه بل يتوقف فكذلك قبل لحاقه لان الهلاك بردته لابلحاقه وكذلك التوريث باعتبار ردته على ما قررنا
[ 106 ] أنه يستند التوريث إلى أول الردة ليكون فيه توريث المسلم من المسلم والدليل عليه أنه بالردة صار حربيا ولهذا يقتل والحربي المقهور في أيدينا يتوقف تصرفه كالمأسورين الا أن هناك توقف حالهم بين الاسترقاق والقتل والمن ههنا بين القتل والاسلام ثم توقف تصرفهم هناك لتوقف حالهم فكذلك ههنا وإذا أعتق المرتد عبده ثم أعتقه ابنه أيضا ولا وارث له غيره لم يجز عتق واحد منهما اما عتق المرتد فكان موقوفا فبموته يبطل واما عتق الوارث فقد سبق ملكه لان قبول موت المرتد لاملك للوارث في ماله بل الملك موقوف على حق المرتد فلا ينفذ تصرف الوارث وهذا بخلاف التركة المستغرقة بالدين إذا أعتق الوارث عبدا منها ثم سقط الدين لاسبب التوريث هناك قد تم والتوقف لحق الغرماء والعتق بعد تمام سبب الملك لا يتوقف وههنا أصل السبب انعقد بالردة ولكن لايتم لقيام الاصل حقيقة وحكما والخلافة تكون بعد فوات الاصل فلهذا لا تنفذ تصرفات لوارث وان ملك بعد ذلك وإذا مات الابن وله معتق والاب مرتد ثم مات الاب وله معتق كان ميراث الاب لمعتقه دون معتق الابن لما بينا ان أصل السبب وان انعقد بالردة فإذا مات الابن قبل وقت تمام السبب بطل ذلك لان بقاءه إلى وقت تمام السبب شرط وقد بينا اختلاف الرواية في هذا الفصل وما اكتسبه في ردته فهو فئ عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهما يستدلان على أبى حنيفة رحمه الله تعالي بكسب الردة أنه ينفذ تصرفه فيه حتى لو قضى دينه بكسب ردته أو رهنه بدين عليه كان صحيحا فكذلك كسب الاسلام ومن أصحابنا من سلم واشتغل بالفرق فقال تصرفه في كسب الردة باعتبار أنه كسبه لا باعتبار أنه ملكه لان الردة تنافي الملك فاما في كسب الاسلام تصرفه باعتبار ملكه وقد بينا توقف ملكه والاصح ان عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف تصرفه في الكسبين جميعا ويبطل ذلك بموته واختلفت الروايات عنه في قضاء ديونه فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يقضي ديونه من كسب الردة فان لم يف بذلك فحينئذ من كسب الاسلام لان كسب الاسلام حق ورثته ولا حق لورثته في كسب ردته بل هو خالص حقه فلهذا كان فيئا إذا قتل فكان وفاء الدين من خالص حقه أولى فعلى هذا نقول عقد الرهن لقضاء الدين وإذا قضى دينه من كسب الردة أو رهنه بالدين فقد فعل عين ماكان يحق فعله فلهذا كان نافذا وروى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يبدأ بكسب الاسلام في قضاء ديونه فان لم تف بذلك فحينئذ من كسب الردة لان قضاء الدين من
[ 107 ] ملك المديون وكسب الاسلام كان مملوكا له ولهذا يخلفه الوارث فيه وخلافة الوارث بعد الفراغ من حقه فأما كسب الردة لم يكن مملوكا له فلا يقضي دينه منه الا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فعلى هذا لا ينفذ تصرفه في الرهن وقضاء الدين من كسب الردة إذا كان في كسب الاسلام وفاء بذلك وروي زفر عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أن ديون اسلامه تقضى من كسب الاسلام وما استدان في الردة يقضي من كسب الردة لان المستحق للكسبين مختلف وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضى كل دين من الكسب المكتسب في تلك الحالة ليكون الغرم بمقابلة الغنم وبه أخذ زفر رحمه الله تعالى وان جنى المرتد جناية لم يعقله العاقلة لان تحمل العقل باعتبار معني النصرة وهو أن تمكنه من الجناية بقوة العاقلة وأحد لا ينصر المرتد أو ذلك للتخفيف على الجاني لعذر الخطأ والمرتد غير مستحق للتخفيف فيكون الارش في ماله وكذلك ما غصب وأتلف من أموال الناس فذلك كله دين عليه وان لم يكن له مال الا ما اكتسبه في ردته كان ذلك كله فيه لانه كسبه فيكون مصروفا إلى دينه ككسب المكاتب والجناية على المرتد هدر لان اعتبار الجناية عليه لعصمة نفسه وقد انعدمت العصمة بردته فكانت الجناية عليه هدرا مسلم قطع يد مسلم عمدا أو خطأ ثم ارتد المقطوعة يده عن الاسلام فمات أو قتل أو لحق بدار الحرب فعلى القاطع دية اليد في ماله ان كان عمدا وعلى عاقلته ان كان خطأ لان قطع اليد كانت جناية موجبة للضمان وقد انقطعت السراية بزوال عصمة نفسه بالردة فصار كما لو انقطع بالبرء فيلزمه دية اليد فقط وان أسلم قبل اللحوق بدار الحرب ثم مات من تلك الجناية فعلى قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله عليه دية النفس استحسانا وعند محمد وزفر رحمهما الله ليس عليه الا دية اليد قياسا لان السراية قد انقطعت بزوال عصمة نفسه بالردة ثم بالاسلام بعد ذلك لا يتبين أن العصمة لم تكن زائلة فحكم السراية بعدما انقطع لا يعود وكان موته من تلك الجناية وموته بسبب آخر سواء ألا ترى انه لو لحق بدار الحرب ثم عاد ثانيا فمات من تلك الجناية لم يجب على القاطع الادية اليد فكذلك قبل اللحوق ولان اعتبار الجناية والسرية لحقه بعد سقوط حقه بالردة فيصير هو كالمبرئ عن سراية تلك الجناية كما لو قطع يد عبد ثم اعتقه مولاه أو باعه صار مبرئا عن السراية بازالة ملكه وبعد ماصح الابراء ليس له ولاية اعادة حقه في السراية فكان وجود اسلامه في حكم السراية كعدمه وهما يقولان حقه توقف بالردة على ما قررنا
[ 108 ] فإذا أسلم زال التوقف فصار ما اعترض كأن لم يكن بخلاف العبد إذا باعه أو اعتقه فقد تم زوال ملكه هناك واعتبار الجناية كان لملكه يوضح الفرق ان ضمان الجناية في المماليك باعتبار صفة المملوكية ولهذا يجب الضمان لتمكن النقصان في المالية شيئا فشيئا وقد انعدم ذلك بالعتق أصلا وبالبيع في حق من كان مستحقا له فاما وجوب ضمان الجزء باعتبار النفسية ولا ينعدم بالردة ولكن العصمة شرط فانما يراعى وجوده عند ابتداء السبب لينعقد موجبا وعند تقرره بالموت لتقرر الحكم فلا يعتبر فيه بقاء العصمة وهو نظير مالو قال لعبده ان دخلت الدار فانت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار يعتق لهذا المعني فاما إذا لحق بدار الحرب فان كان القاضي قضى بلحاقه فقد صار ميتا حكما وبقاء حكم الجناية باعتبار بقاء النفسية وذلك لا يتحقق بعد موته حكما إذ لاتصور لبقاء الحكم بدون المحل وإذا لم يقض القاضى بلحاقه فالاصح انه على الخلاف فمن أصحابنا من سلم وقال بنفس اللحاق صار حربيا والحربي في حق من هو في دار الاسلام كالميت ولهذا لو كانت امرأة تسترق كسائر الحربيات فيتم به انقطاع حكم السراية بخلاف ما قبل لحاقه بدار الحرب يوضحه ان الردة عارض فإذا زال قبل تقرره صار كان لم يكن كالعصير المشترى إذا تخمر قبل القبض ثم تخلل بقى العقد صحيحا ولا يعتبر زواله بعد تقرره كما في العصير إذا تخمر فقضى القاضى بفسخ العقد ثم تخلل وباللحاق قد تقرر خصوصا إذا قضى به القاضى فلا يعتبر زواله بعد ذلك بخلاف ما قبل اللحاق وان كان القاطع هو الذى ارتد فقتل ومات المقطوعة يده من ذلك مسلما فان كان عمدا فلا شئ له لان الواجب في العمد القود وقد فات محله حين قتل على ردته أو مات وان كان خطأ فعلى عاقلة القاطع دية النفس لانه عند الجناية كان مسلما وجناية المسلم إذا كانت خطأ على عاقلته وتبين بالسراية ان جنايته كانت قتلا فلهذا كان على عاقلته دية النفس وان كانت الجناية منه في حال ردته كانت الدية في الخطأ في ماله لما بينا ان المرتد لا يعقل جنايته أحد ولا تقتل المرتدة ولكنها تحبس وتجبر على الاسلام عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقتل ان لم تسلم وهكذا يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى في الابتداء ثم رجع وروى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى انها تخرج في كل قليل وتعذر تسعة وثلاثين سوطا ثم تعاد إلى الحبس إلى أن تتوب أو تموت واستدل الشافعي بقوله ﷺ من بدل دينه فاقتلوه وهذه الكلمة تعم الرجال والنساء كقوله تعالى
[ 109 ] فمن شهد منكم الشهر فليصمه وتبين ان الموجب للقتل تبديل الدين لان مثل هذا في لسان صاحب الشرع لبيان العلة وقد تحقق تبديل الدين منها وفى الحديث أن النبي ﷺ قتل مرتدة يقال لها أم مروان وعن أبى بكر رضى الله عنه أنه قتل مرتدة يقال لها أم فرقة ولانها اعتقدت دينا باطلا بعدما اعترفت ببطلانه فتقتل كالرجل وهذا لان القتل جزاء على الردة لان الرجوع عن الاقرار بالحق من أعظم الجرائم ولهذا كان قتل المرتد من خالص حق الله تعالى وما يكون من خالص حق الله فهو جزاء وفى اجزية الجرائم الرجال والنساء سواء كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر وبهذا تبين أن الجناية بالردة أغلظ من الجناية بالكفر الاصلى فان الانكار بعد الاقرار أغلظ من الاصرار في الابتداء على الانكار كما في سائر الحقوق وبأن كانت لا تقتل إذا لم تتغلظ جنايتها فذلك لا يدل على أنها لا تقتل إذا تغلظت جنايتها ثم في الكفر الاصلى إذا تغلظت جنايتها بأن كانت مقاتلة أو ساحرة أو ملكة تحرض على القتال تقتل فكذلك بعد الردة والدليل عليه انها تحبس وتعزر وتجبر على الاسلام بعد الردة ولا يفعل ذلك بها في الكفر الاصلى وكذلك الشيوخ وأصحاب الصوامع والرهبان يقتلون بعد الردة ولا يقتلون في الكفر الاصلى وذوو الاعذار كالاعمى والزمن كذلك وكذلك الرق في الكفر الاصلى يمنع القتل وهوما إذا استرق الاسير وفى الردة لايمنع ثم في الكفر الاصلى لاتسلم لها نفسها حتى تسترق لينتفع المسلمون بها فكذلك بعد الردة وبالاتفاق لاتسترق في دار الاسلام فقلنا انها تقتل (وحجتنا) في ذلك نهى النبي ﷺ عن قتل النساء وفيه حديثان أحدهما ما رواه رباح بن ربيعة رضى الله تعالى عنه أن النبي ﷺ رأى في بعض الغزوات قوما مجتمعين على شئ فسأل عن ذلك فقالوا ينظرون إلى امرأة مقتولة فقال لواحد أدرك خالدا وقل له لا يقتلن عسيفا ولاذرية والثانى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ رأى امرأة مقتولة فقال من قتل هذه قال رجل أنا يا رسول الله أردفتها خلفي فأهوت إلى سيفي لتقتلني فقتلتها فقال ما شأن قتل النساء وارها ولا تعدو لما رأى رسول الله ﷺ يوم فتح مكة امرأة مقتولة فقال ها ما كانت هذه تقاتل ففي هذا بيان أن استحقاق القتل بعلة القتال وأن النساء لا يقتلن لانهن لا يقاتلن وفى هذا لافرق بين الكفر الاصلى وبين الكفر الطارئ وما روى من الحديث غير مجرى
[ 110 ] على ظاهره فالتبديل يتحقق من الكافر إذا أسلم فعرفنا أنه عام لحقه خصوص فنخصه ونحمله على الرجال بدليل ما ذكرنا والمرتدة التى قتلت كانت مقاتلة فان أم مروان كانت تقاتل وتحرض علي القتال وكانت مطاعة فيهم وأم قرفة كان لها ثلاثون ابنا وكانت تحرضهم على قتال المسلمين ففي قتلها كسر شوكتهم ويحتمل أنه كان ذلك من الصديق رضى الله عنه بطريق المصلحة والسياسة كما أمر بقطع يد النساء اللاتى ضربن الدف لموت رسول الله ﷺ لاظهار الشماتة والمعنى فيه أنها كافرة فلا تقتل كالاصلية وهذا لان القتل ليس بجزاء على الردة بل هو مستحق باعتبار الاصرار على الكفر ألا ترى أنه لو أسلم يسقط لانعدام الاصرار وما يكون مستحقا جزاء لا يسقط بالتوبة كالحدود فانه بعدما ظهر سببها عند الامام لا تسقط بالتوبة وحد قطاع الطريق لا يسقط بالتوبة بل توبته برد المال قبل أن يقدر عليه فلا يظهر السبب عند الامام بعد ذلك يقرره ان تبديل الدين وأصل الكفر من أعظم الجنايات ولكنها بين العبد وبين ربه فالجزاء عليها مؤخر الي دار الجزاء وما عجل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد كالقصاص لصيانة النفوس وحد الزنا لصيانة الانساب والفرش وحد السرقة لصيانة الاموال وحد القذف لصيانة الاعراض وحد الخمر لصيانة العقول وبالاصرار على الكفر يكون محاربا للمسلمين فيقتل لدفع المحاربة الا أن الله تعالى نص علي العلة في بعض المواضع بقوله تعالى فان قاتلوكم فاقتلوهم وعلى السبب الداعي إلى العلة في بعض المواضع وهو الشرك فإذا ثبت أن القتل باعتبار المحاربة وليس للمرأة بنية صالحة للمحاربة فلا تقتل في الكفر الاصلى ولافى الكفر الطارئ ولكنها تحبس فالحبس مشروع في حقها في الكفر الاصلى فانها تسترق والاسترقاق حبس نفسها عنها ثم الحبس مشروع في حق كل من رجع عما أقربه كما في سائر الحقوق وليس ذلك باعتبار الكفر ولا باعتبار المحاربة وما يدعى من تغلظ الجناية لا يقوي فالرجوع عن الاقرار والاصرار على الانكار بعد قيام الحجة في الجناية سواء مع أن الجناية في الاصرار أغلظ من وجه لانه بعد الردة لايقر علي ما اعتقده والشئ قبل تقرره يكون أضعف منه بعد تقرره ولو سلمنا تغلظ الجناية فانما يعتبر بمن يغلظ جنايتها في الكفر الاصلى المشركة العربية فكما لا تقتل تلك فكذلك لا تقتل هذه وإذا كانت مقاتلة أو ملكة أو ساحرة فقتلها الدفع وبدون القتل ههنا يحصل المقصود إذا حبست وأجبرت كما بينا على الاسلام وأما الرق لايمنع القتل في
[ 111 ] الكفر الاصلى فانه تقتل عبيدهم كأحرارهم وانما الاسترقاق بمتزلة اعطاء الامان وبعقد الذمة ينتهي القتال في حق من يجوز أخذ الجزية منه لافى حق من لا يجوز أخذ الجزية منه كما في مشركي العرب والمرتدون لا تؤخذ منهم الجزية فلهذا لا ينتهى القتال في حقهم بعقد الذمة والشيخ إذا كان له رأى يقتل في الكفر الاصلى والردة لا تتصور الا ممن له رأى والترهب لا يتحقق بعد الاسلام لان القيام بنصرة دين الحق واجب على كل مسلم قال ﷺ لا رهبانية في الاسلام وبدون تحقق السبب لا يثبت الحكم واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالي في ذوى الاعذار من مشركي العرب فمنهم من يقول يقتلون في الكفر الاصلى لان حلول الآفة كعقد الذمة فانه ينعدم به القتال فمن لا يسقط القتال عنه بعقد الذمة في الكفر الاصلى فكذلك بحلول الآفة فعلى هذا القول ذوو الاعذار من المرتدين يقتلون وقيل حلول الآفة بمنزلة الانوثة لانه تخرج به بنيته من أن تكون صالحة للقتال فعلى هذا القول لا يقتلون بعد الردة كما لا يقتلون في الكفر الاصلى وإذا ثبت أن المرتدة لا تقتل قلنا تسترق إذا لحقت بدار الحرب لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم فان بني حنيفة لما ارتدوا استرق أبو بكر رضى الله عنه نساءهم وأصاب على رضى الله عنه جارية من ذلك السبى فولدت له محمد بن حنفية رحمهما الله تعالى وذكر عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس رضى الله عنهما في النساء إذا ارتددن بسبين ولا يقتلن وهذا لانها كالحربية والاسترقاق مشروع في الحربيات وما دامت في دار الاسلام في ظاهر الرواية لاتسترق لان حريتها المتأكدة بالاحراز لم تبطل بنفس الردة وهي دافعة للاسترقاق ولان دار الاسلام ليست بدار الاسترقاق وفي النوادر عن أبى حنيفة رحمه الله انها تسترق لانا لما جعلنا المرتد بمنزلة حربى مقهور لا أمان له فكذلك المرتدة بمنزلة حربية مقهورة لاأمان لها فتسترق وان كانت في دارنا فان تصرفت في مالها بعد الردة نفذ تصرفها مادامت في دار الاسلام لانها تصرفت في خالص ملكها بخلاف الرجل على قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وأشار إلى الفرق قال المرأة لا تقتل والرجل يقتل ومعنى هذا ان عصمة المال تبع لعصمة النفس فبالردة لاتزول عصمة نفسها حتى لا تقتل فكذلك عصمة مالها بخلاف الرجل ولهذا استوت بالرجل في التصرف بعد اللحوق لان عصمة نفسها تزول بلحاقها حتى تسترق والاسترقاق اتلاف حكما فكذلك عصمة مالها فان ماتت في الحبس أو لحقت بدار الحرب
[ 112 ] قسم مالها بين ورثتها ويستوي في ذلك كسب اسلامها وكسب ردتها لما بينا ان العصمة باقية بعد ردتها فكان كل واحد من الكسبين ملكها فيكون ميراثا لورثتها ولا ميراث لزوجها منها لانها بنفس الردة قد بانت منه ولم تصر مشرفة علي الهلاك فلا تكون في حكم الفارة المريضة ولزوجها ان يتزوج بأختها بعد لحاقها قبل انقضاء عدتها لانها صارت حربية فكانت كالميتة في حقه وبعد موتها له ان يتزوج أختها ولانه لاعدة على الحربية من المسلم لان العدة فيها حق الزوج وتباين الدارين مناف له فان سبيت أو عادت مسلمة لم يضر ذلك نكاح الاخت لانه بعدما سقطت العدة عنها لاتعود معتدة ثم ان جاءت مسلمة فلها ان تتزوج من ساعتها لانها فارغة عن النكاح والعدة وان سبيت أجبرت على الاسلام كما كانت تجبر عليه قبل لحاقها وان ولدت بأرض الحرب ثم سبيت ومعها ولدها كان ولدها فيئا معها لان ولدها بمنزلتها وهى حربية تسترق فكذلك ولدها وإذا رفعت المرتدة إلى الامام فقالت ما ارتددت وأنا أشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فهذا توبة منها لما بينا ان توبة المرتد بالاقرار بكلمة الشهادتين والتبرى عما كان انتقل إليه وقد حصل ذلك فانه بالانكار يحصل نهاية التبرى فلهذا كان ذلك توبة من الرجل والمرأة جميعا ويقتل المملوك على الردة لانه محارب كالحر وكسبه إذا قتل لمولاه لانه بملك الرقبة يخلفه في ملك الكسب ولا تقتل المملوكة وتحبس لانها ليس لها بنية صالحة للقتال كالحرة وإذا كان أهلها يحتاجون إلى خدمتها دفعتها إليهم وأمرتهم باجبارها على الاسلام لان حق العبد في المحل مقدم على حق الله تعالى لحاجة العبد ولان الجمع بين الحقين ممكن فان حق الله تعالى في إجبارها على الاسلام ومولاها ينوب في ذلك عن الامام فتدفع إليه ليستخدمها ويجبرها على الاسلام وجناية الامة والمكاتب في الردة كجنايتهم في غيرة الردة لان الملك فيهم باق بعد الردة والمكاتب أحق بكسبه بعد الردة يدا وتصرفا كما كان قبله فيكون موجب جنايته في كسبه والجناية على المماليك في الردة هدر أما في الذكور منهم فلاستحقاق قتلهم بالردة ومن استوفي قتلا مستحقا يكون محسنا لاجانيا وفي الاناث قتل المملوكة بعد الردة كقتل الحرة ومن قتل حرة مرتدة لم يضمن شيئا وان ارتكب مالا يحل ويؤدب على ذلك فكذلك الامة قال لان بعض الفقهاء يرى عليها ولانها كالحربية والحربية لا تقتل ولو قتلها قاتل لا يلزمه شئ فكذلك المرتدة (فان قيل) فلما إذا لاتسترق في دارنا قلنا لبقاء
[ 113 ] الاحراز ومن ضرورة تأكد الحرمة بالاحراز منع الاسترقاق وليس من ضرورته تقوم الدم كما في المقضى عليها بالرجم وإذا كان هدر الدم مما يثبت مع الاحراز يثبت ذلك في حق المرتدة فكانت فيه كالحربية وإذا باع الرجل عبده المرتد أو أمته المرتدة فالبيع جائز لبقاء صفة المملوكية والرق فيه بعد الردة (فان قيل) جواز البيع باعتبار المالية والتقوم ولا مالية فيهما حتى لا يضمن قاتلهما (قلنا) لاكذلك بل المالية في الآدمي بسبب المملوكية وهو ثابت على الاطلاق والتقوم بالاحراز وهو باق فيهما وان كان لا يجب على المتلف الضمان لعارض وهو الردة ألا ترى ان غاصبهما يكون ضامنا وان الردة عيب فيهما والعيب لا يعدم المالية والتقوم ولهذا لو كان البائع اعلم المشتري فالبيع لازم لانتفاء التدليس حين أعلمه العيب مدبرة أو أم ولد ارتدت ولحقت بدار الحرب فمات مولاها في دار الاسلام ثم أخذت أسيرة فهي فئ بخلاف مالو أسرت قبل موت المولى فانها ترد عليه لقيام ملكه فأما بعد موت المولى فقد عتقت لان عتقها كان تعلق بموت المولى وتباين الدارين لايمنع نزول العتق عند وجود شرطه وإذا عتقت فهي حرة مرتدة أسرت من دار الحرب فتكون فيئا عبد ارتد مع مولاه ولحقا بدار الحرب فمات المولى هناك وأسر العبد فهو فئ لانه مال حربى فقد أحرزه مع نفسه بدار الحرب وذلك مانع من ثبوت حق ورثته المسلمين فيه فيكون فيئا ويقتل ان لم يسلم لردته وكذلك كل ما ذهب به المرتد من ماله مع نفسه فهو فئ فان كان خرج من دار الحرب مغيرا فأخذ مالا من ماله قد قسم بين ورثته وذهب به ثم قتل مرتدا وأصيب ذلك المال فهو لورثته بغير قيمة قبل القسمة وبالقيمة بعد القسمة لانهم ملكوا ذلك المال حين قسمه القاضى بينهم فهذا حربى أحرز مال المسلم بدار الحرب ثم ظهر المسلمون عليه وقد بينا الحكم فيه ولو ارتد العبد وأخذ مال مولاه فذهب به إلى دار الحرب ثم أخذ مع ذلك المال لم يكن فيئا ويرد على مولاه لان العبد باق على ملكه فلان يكون محرزا نفسه بدار الحرب ألا ترى أنه لو أبق منه غير مرتد فدخل دار الحرب لم يكن محرزا نفسه عليه فكذلك إذا أبق مرتدا وكذلك لا يكون محرزا لما معه من المال فيرد ذلك كله على المولى ثم هذا لا يشكل على أصل أبى حنيفة رحمه الله تعالى كما هو مذهبه في الآبق وكذلك عندهما لان أهل الحرب لم يأخذوه وانما يزول ملك المولى عندهما باحراز المشركين اياه بالاخذ فإذا لم يوجد ذلك بقي على ملك مولاه قوم ارتدوا عن الاسلام وحاربوا المسلمين وغلبوا على مدينة من
[ 114 ] مدائنهم في أرض الحرب ومعهم نساؤهم وذراريهم ثم ظهر المسلمون عليهم فانه تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى انما تصير دارهم دار الحرب بثلاث شرائط أحدها أن تكون متاخمة أرض الترك ليس بينها وبين أرض الحرب دار للمسلمين والثاني أن لا يبقى فيها مسلم آمن بايمانه ولا ذمي آمن بامانه والثالث أن يظهروا أحكام الشرك فيها وعن أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا أظهروا أحكام الشرك فيها فقد صارت دارهم دار الحرب حرب لان البقعة انما تنسب الينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين فكانت دار حرب وكل موضع كان الظاهر فيه حكم الاسلام فالقوة فيه للمسلمين ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يعتبر تمام القهر والقوة لان هذه البلدة كانت من دار الاسلام محرزة للمسلمين فلا يبطل ذلك الاحراز الا بتمام القهر من المشركين وذلك باستجماع الشرائط الثلاث لانها إذا لم تكن متصلة بالشرك فأهلها مقهورون باحاطة المسلمين بهم من كل جانب فكذلك ان بقى فيها مسلم أو ذمى آمن فذلك دليل عدم تمام القهر منهم وهو نظير مالو أخذوا مال المسلم في دار الاسلام لا يملكونه قبل الاحراز بدارهم لعدم تمام القهر ثم ما بقى شئ من آثار الاصل فالحكم له دون العارض كالمحلة إذا بقى فيها واحد من أصحاب الخطة فالحكم له دون السكان والمشترين وهذه الدار كانت دار اسلام في الاصل فإذا بقى فيها مسلم أو ذمى فقد بقى أثر من آثار الأصل فيبقى ذلك الحكم وهذا أصل لابي حنيفة رحمه الله حتى قال إذا اشتد العصير ولم يقذف بالزبد لا يصير خمر البقاء صفة السكون وكذلك حكم كل موضع معتبر بما حوله فإذا كان ما حول هذه البلدة كله دار اسلام لا يعطى لها حكم دار الحرب كما لو لم يظهر حكم الشرك فيها وانما استولى المرتدون عليها ساعة من نهار ثم في كل موضع لم تصر الدار دار حرب فإذا ظهر المسلمون عليها قتلوا الرجال واجبروا النساء والذراري على الاسلام ولم يسب واحد منهم وفى كل موضع صار دار حرب فالنساء والذراري والاموال فئ فيه الخمس ويجبرون على الاسلام لردتهم فلا يحل لمن وقعت امرأة منهم في سهمه ان يطأها مادامت مرتدة وان كانت متهودة أو متنصرة لان الردة تنافى الحل وانما يحل بملك اليمين من يحل بالنكاح فان كان عليها دين فقد بطل بالسبي لانها صارت أمة وما كان من الدين على حرة لا يبقي بعد ان تصير أمة لان بالرق تتبدل نفسها ولان الدين لا يجب على المملوك الا شاغلا مالية رقبته
[ 115 ] وهذه مالية حادثة بالسبي فتخلص للسابى فلهذا لا يبقى الدين عليها وإذا ارتد الزوجان وذهبا إلى دار الحرب بولدهما الصغير ثم ظهر المسلمون فالولد فئ لانه خرج من ان يكون مسلما حين لحقابه إلى دار الحرب فان ثبوت حكم الاسلام للصغير باعتبار تبعية الابوين والدار فقد انعدم كل ذلك حين ارتدا ولحقا به بدار الحرب فلهذا كان الولد فيئا يجبر على الاسلام إذا بلغ كما تجبر الأم عليه وان كان الاب ذهب به وحده والام مسلمة في ذار الاسلام لم يكن الولد فيئا لانه بقى مسلما تبعا لامه (فان قيل) كيف يتبعها بعد تباين الدارين (قلنا) تباين الدارين يمنع الاتباع في الاسلام ابتداء لافى ابقاء ماكان ثابتا ألاتري أن الحربى لو أسلم في دار الحرب وله ولد صغير ثم خرج إلى دارنا بقى الولد مسلما باسلامه حتى إذا وقع الظهور عليه لا يكون فيئا بخلاف مالو أسلم في دارنا وله ولد في دار الحرب فههنا فدكان الولد مسلما فيبقى كذلك ببقاء الام مسلمة وان كانت في دار الاسلام وكذلك ان كانت الام ماتت مسلمة لان اسلامها يتأكد بموتها ولا يبطل وكذلك ان كانت الام نصرانية ذمية لانها من أهل دارنا وكما يتبعها الولد إذا كانت من أهل ديننا يتبعها إذا كانت من أهل دارنا توفيرا للمنفعة على الولد ولانه لايتم احراز الولد بدار الحرب لان اعتبار جانب الاب يوجب ان يكون الولد حربيا واعتبار جانب الام يوجب ان يكون الولد من أهل دار الاسلام فيترجح هذا الجانب عند المعارضة توفير اللمنفعة على الولد وإذا بقي من أهل دار الاسلام فكأنه من أهل دارنا حقيقة فلا يسترق وكذلك ان كان الاب ذميا نفض العهد فهو كالمسلم يرتد في أنه يصير من أهل دار الحرب إذا التحق بهم وإذا ولد للمرتدين في دار الحرب ولد ثم ولد لولدهما ولد ثم وقع الظهور عليهم أجبر ولدهما على الاسلام ولم يجبر ولد ولدهما على الاسلام لان حكم الاسلام قد ثبت لولدهما باعتباران الابوين كانا مسلمين في الاصل والولد تابع لهما فكذلك يجبر على الاسلام فأما ولد الولد لم يثبت له حكم الاسلام لانه تابع لابيه في الدين لا لجده وأبوه ما كان مسلما قط ألا ترى أنه لو أسلم الجد لا يصير ولد الولد مسلما باسلامه فكذلك لا يجبر على الاسلام باسلام جده وهذا لانه لو اعتبر اسلام جده في حق النافلة كان الجد الاعلى والادنى في ذلك سواء فيؤدي إلى ان يكون الكفار كلهم مرتدين يجبرون على الاسلام باسلام جدهم آدم أو نوح عليهما السلام وذكر في النوادر انهما إذا ارتدا أو لحقا بولد صغير لهما بدار الحرب فولد لذلك الولد بعدما كبر ثم ظهر المسلمون على ولد الولد فهو
[ 116 ] يجبر على الاسلام في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يجبر عليه في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لان هذا الولد ماكان مسلما بنفسه وانما ثبت حكم الاسلام في حقه تبعا فهو والمولود في دار الحرب بعد ردتهما سواء وهما يقولان قد كان هذا الولد محكوما باسلامه تبعا لابويه أو لدار الاسلام والولد يتبع أباه في الدين فإذا كان الاب مسلما في يثبت لولده حكم الاسلام فيجبر على الاسلام بخلاف ما إذا ولد في دار الحرب بعد ردتهما لان هذا الولد لم يكن مسلما قط وإذا نقض قوم من أهل الذمة العهد وغلبوا على مدينة فالحكم فيها كالحكم في المرتدين الا ان للامام ان يسترق رجالهم بخلاف المرتدين لانهم كفار في الاصل وانما كانوا لا يسترقون لكونهم من أهل دارنا وقد بطل ذلك حين نقضوا العهد وصارت دارهم دار الحرب فأما المرتدون كانوا مسلمين في الاصل فلا يقبل منهم الا السيف أو الاسلام وكذلك ان رجع الذين كان نقضوا العهد إلى الصلح والذمة قبل ذلك منهم ؟ بخلاف المرتدين لانهم لما نقضوا العهد التحقوا بالحربيين وأهل الحرب إذا انقادوا للذمة قبل ذلك منهم بخلاف المرتدين والاصل أن من جاز استرقاقه جاز ابقاؤه على الكفر بالجزية لان القتال ينتهي بكل واحد من الطريقين وفيه منفعة للمسلمين ثم إذا عادوا إلى الذمة أخذوا بالحقوق التى كانت قبل نقض الذمة عليهم من القصاص والمال لبقاء نفوسهم وذممهم على ما كانت قبل نقض العهد ونقض العهد كان عارضا فإذا انعدم صار كأن لم يكن ولم يؤخذوا بما أصابوا في المحاربة لانهم أهل حرب حين باشروا السبب وقد بينا أن أهل الحرب لا يضمنون ما أتلفوا من النفوس والاموال في حال حربهم إذا تركوا المحاربة بالاسلام أو الذمة وكذلك المرتدون في هذا هم بمنزلة أهل الذمة لان القصاص المستحق عليهم عقوبة ثابتة لحق المسلم والردة ونقض العهد لا ينافيهما وان تعذر استيفاؤها لقصور يد صاحب الحق عمن عليه والمال كذلك فإذا تمكن من الاستيفاء كان له أن يستوفي حقه وإذا نقض الذمي العهد مع امرأته ولحقا بأرض الحرب ثم عادا على الذمة فهما على نكاحهما لانه لم يتباين بهما دين ولادار ولو ارتد المسلمان ثم أسلما كانا على نكاحهما فالذميان أولى بذلك وان كان خلف في دار الاسلام امرأة ذمية بانت منه بتباين الدار حقيقة وحكما والتى بقيت في دارنا من أهل دارنا وكذلك المرتد إذا لحق بدار الحرب وخلف امرأته المرتدة معه في دار الاسلام انقطعت العصمة بينهما لان المرأة من أهل دارناوان كانت مرتدة فقد تباينت بينهما الدار حقيقة وذلك قاطع للعصمة بينهما وإذا منع
[ 117 ] المرتدون دارهم وصارت دار كفر ثم لحقوا بدار الحرب فأصابوا سبايا منهم وأصابوا مالا من أموال المسلمين وأهل الذمة ثم أسلموا كان ذلك كله لهم لانهم ملكوا ذلك كله بالاحراز بدارهم ومن أسلم على مال فهو له الا أن يكونوا أخذوا من المسلمين أو أهل الذمة حرا أو مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد فعليهم تخلية سبيلهم لان هؤلاء لا يملكون بالاحراز لتأكد حقيقة الحربة أو حقها فيهم بالاسلام فان كان أهل الاسلام أصابو من هؤلاء في حربهم مالا أو ذرية فاقتسموها على الغنيمة لم يردوا عليهم شيئا من ذلك لانهم أصابوا أموال أهل الحرب وذراريهم وملكوها بالاحراز والقسمة فلا ترد عليهم وان أسلموا بعد ذلك كما لو أصابوا ذلك من غيرهم من أهل الحرب وان طلب المرتدون أن يجعلوا ذمة للمسلمين لم يفعلوا ذلك بهم لانه انما تقبل الذمة ممن تجوز استرقافه ولان المرتدين كمشركي العرب فان أولئك جناة على قرابة رسول الله ﷺ وهؤلاء على دينه وكمالاتقبل الذمة من مشركي العرب عملا بقوله ﷺ لا يجتمع في جريرة العرب دينان فكذلك لا يقبل ذلك من المرتدين وان طلبوا الموادعة مدة لينظروا في أمورهم فلا بأس بذلك ان كان ذلك خيرا للسلمين ولم يكن للمسلمين بهم طاقة لانهم لما ارتدوا دخلت عليهم الشبهة ويزول ذلك إذا نظروا في أمرهم وقد بينا أن المرتد إذا طلب التأجيل يؤجل الا أن هناك لا يزاد على ثلاثة أيام لتمكن المسلمين من قتله وههنا لا طاقة بهم للمسلمين فلا بأس بأن يمهلوهم مقدار ما طلبوا من المدة لحفظ قوة أنفسهم ولعجزهم عن مقاومتهم وان كانوا يطيقونهم وكان الحرب خيرا لهم من الموادعة حاربوهم لان القتال معهم فرض إلى أن يسلموا قال الله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون ولايجوز تأخير اقامة الفرض مع التمكن من اقامته فإذا وادعوهم لم يأخذ الامام منهم في الموادعة خراجا لان ذلك حينئذ يشبه عقد الذمة وقد بينا أنه لاتقبل منهم الذمة فكذلك لا يؤخذ منهم على الموادعة خراج بخلاف أهل الحرب فان أخذ منهم مالا جاز لان العصمة زالت عن مالهم ألا ترى أنه لو ظهر المسلمون عليهم كانت أموالهم غنيمة وكذلك ان أخذوا شيئا من مالهم ملكوا ذلك بأى طريق أخذوا منهم (قال) ولا يقبل من مشركي العرب الصلح والذمة ولكن يدعون إلى الاسلام فان أسلموا والا قوتلوا وتسترق نساؤهم وذراريهم ولا يجبرون علي الاسلام وهم في ذلك بمنزلة المرتدين الافي حكم الاجبار على الاسلام فان نساء المرتدين وذراريهم كانوا مسلمين في الاصل فيجبرون على العود وأما النساء والذراري
[ 118 ] من مشركي العرب ما كانوا مسلمين في الاصل فلا يجبرون على الاسلام ولكنهم يسترقون لان النبي ﷺ سبى النساء والذراري بأوطاس وقسمهم وقد بينا أن أبا بكر رضى الله عنه سبي النساء والذراري من بنى حنيفة فإذا جاز ذلك في المرتدين ففى مشركي العرب أولى وأما الرجال منهم لا يسترقون عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يسترقون لان المعني لاجله جاز الاسترقاق في حق سائر الكفار موجود في حق مشركي العرب وهو منفعة للمسلمين في عملهم وخدمتهم ولان الاسترقاق اتلاف حكمي ومن جاز في حقه الاتلاف الحقيقي من الكفار الاصليين يجوز الاتلاف الحكمي بطريق الاولى لان فيه تحقيق معنى العقوبة بتبديل صفة المالكية بالمملوكية وهو الاليق بحال كل كافر فانهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى عاقبهم على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده وهكذا كان ينبغى في المرتدين الا ان قتل المرتد على ردته حد فقلنا لا يترك اقامة الحد لمنفعة المسلمين ولان حريته كانت متأكدة بالاسلام فلا يحتمل النقض بالاسترقاق وذلك لا يوجد في حق مشركي العرب (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون قيل معناه إلى أن يسلموا والآية فيمن كان يقاتلهم رسول الله ﷺ وهى عبدة الاوثان من العرب فدل أنهم يقتلون ان لم يسلموا وقال ﷺ لارق على عربي وقال يوم أوطاس لو جرى رق على عربي لكان اليوم وانما هو القتل أو الاسلام وظاهر قوله تعالى ماكان لنبى ان يكون له اسري حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا يدل على تحريم الاسترقاق كما يدل على المنع من المفاداة لان المقصود بكل واحد منهما ابتغاء عرض الدنيا ولانه لا يقبل منهم عقد الذمة بالاتفاق والاسترقاق والذمة يتقاربان في المعنى لان في كل واحد من الامرين ابقاء الكافر على كفره لمنفعة المسلمين في ذلك من مال أو عمل وفى الجزية معنى الصغار والعقوبة في حقهم كما في الاسترقاق بل أظهر والاسترقاق ثابت في حق النساء والصغار والجزية لا تجب الاعلى الرجال البالغين فإذا لم يجز ابقاء عبدة الاوثان من العرب على الشرك بالجزية فكذلك بالاسترقاق وقد بينا أنهم في تغلظ جنايتهم كالمرتدين فكما لا يسترق المرتدون فكذلك عبدة الاوثان من العرب بخلاف سائر المشركين وأهل الكتاب من العرب حكمهم حكم غيرهم من أهل الكتاب حتى يجوز استرقاقهم وأخذ الجزية منهم لانهم ليسوا من العرب في الاصل وان توطنوا في أرض العرب بل هم في الاصل من
[ 119 ] بنى إسرائيل ولئن كانوا في الاصل من العرب فجنايتهم في الغلظ ليست كجناية عبدة الاوثان فان أهل الكتاب يدعون التوحيد ولهذا تؤكل ذبائحهم وتجوز مناكحة نسائهم بخلاف عبدة الاوثان والاصل فيه ماروى ان النبي ﷺ أخذ الجزية من يهود تيماء ووادى القري وكذلك من بهزاو تنوخ وطى وعمر رضى الله عنه أراد أن يوظف الجزية على نصاري بنى تغلب ثم صالحهم على الصدقة المضعفة وقال هذه جزية فسموها ما شئتم وكانوا من العرب فأما عبدة الاوثان من العجم فلا خلاف في جواز استرقاقهم وانما الخلاف في جواز أخذ الجزية منهم فعندنا يجوز ذلك وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز بمنزلة عبدة الاوثان من العرب فان الله تعالى خص أهل الكتاب بحكم الجزية بقوله تعالي ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وزعم الشافعي ان المجوس أهل كتاب وروى فيه أثرا عن على رضى الله عنه أنه قال كان لهم كتاب يقرؤن إلى أن واقع ملكهم ابنته فاصبحوا وقد أسرى بكتابهم حديث فيه طول (وحجتنا) في ذلك ان الجزية تؤخذ من المجوس بالاتفاق ولا كتاب لهم فان النبي ﷺ قال سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب ففى هذا تنصيص على أنه لاكتاب لهم وقال الله تعالى ان تقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ولو كان للمجوس كتاب لكانوا ثلاث طوائف والاثر بخلاف نص القرآن لا يكاد يصح عن على رضى الله عنه فثبت ان لاكتاب للمجوس ومع ذلك تؤخذ منهم الجزية وهم مشركون فانهم يدعون الاثنين وان اختلفت عبارتهم في ذلك من النور والظلمة أو يزدان واهرمن وليس الشرك الا هذا فإذا جاز أخذ الجزية منهم فكذلك من غيرهم من المشركين وقد أخذ رسول الله ﷺ الجزية من مجوس هجر وبهذا تبين أن ذكر أهل الكتاب في الآية ليس لتقييد الحكم بل لبيان جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ومن أصلنا أن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل علي أن الحكم فيما عداه بخلافه قوم غزوا أرض الحرب فارتد منهم طائفة واعتزلوا عسكرهم وحاربوا ونابذوهم فأصاب المسلمون غنيمة وأصاب أولئك المرتدون غنيمة من أهل الشرك ثم تابوا قبل أن يخرجوا من دار الحرب لم يشارك أحد الفريقين الآخر فيما أصابوا لان بعضهم لم يكن ردءا للبعض فالمسلمون لا ينصرون المرتدين ولا يستنصرون بالمرتدين إذا حزبهم أمر ولان مصاب المرتدين ليس بغنيمة إذ لم يكن قصدهم عند الاصابة اعزاز الدين والمرتدون في حق
[ 120 ] المسلمين كاهل الحرب فانهم في دار الحرب وأهل الحرب إذا أسلموا والتحقوا بالجيش لم يشاركوهم فيما أصابوا قبل ذلك وكذلك المرتدون الا أن يلقوا قتالا فيقاتلوا قبل أن يخرجوا إلى دار الاسلام فحينئذ يشارك بعضهم بعضا لانهم قاتلوا دفعا عن ذلك المال فكأنهم أصابوه بهذا القتال واشتركوا في احرازه بالدار فيشارك بعضهم بعضا في ذلك ثم هذا فيما أصابه المسلمون غير مشكل بمنزلة من أسلم من أهل الحرب والتحق بالجيش إذا لقوا قتالا فقاتل بعضهم وما أصاب المرتدون وان لم يكن له حكم الغنيمة فانه يأخذ حكم الغنيمة بهذا القتال كالمتلصص إذا أصاب مالاثم لحقه جيش المسلمين فان مصابه يأخذ حكم الغنيمة حتى يخمس ولا شئ على من قتل المرتدين قبل أن يدعوهم إلى الاسلام لانهم بمنزلة كفار قد بلغتهم الدعوة فان جددوها فحسن وان قاتلوهم قبل أن يدعوهم فحسن (قال) وإذا ارتد الغلام المراهق عن الاسلام لم يقتل وهنا فصلان إذا أسلم الغلام العاقل الذى لم يحتلم فاسلامه صحيح عندنا استحسانا وفى القياس لا يصح اسلامه في أحكام الدنيا وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله ﷺ رفع القلم عن ثلاث عن الصبى حتى يحتلم ومن كان مرفوع القلم فلا ينبني الحكم في الدنيا على قوله ولانه غير مخاطب بالاسلام ما لم يبلغ فلا يحكم بصحة اسلامه كالذى لا يعقل إذا لقن فتكلم به وتقريره من أوجه أحدها أنه لا عبرة لعقله قبل البلوغ حتى يكون تبعا لغيره في الدين والدار بمنزلة الذى لا يعقل وتقرير هذا انه يحكم باسلامه إذا أسلم أحد أبويه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه فإذا لم يعتبر اعتقاده ومعرفته في ابقاء ما كان ثابتا فكيف يعتبر ذلك في اثبات ما لم يكن ثابتا وبين كونه أصلا في حكم وتبعا فيه بعينه مغايرة على سبيل المنافاة والثانى انه لو صح اسلامه بنفسه كان ذلك منه فرضا لاستحالة القول بكونه مستقلا في الاسلام ومن ضرورة كونه فرضا ان يكون مخاطبا به وهو غير مخاطب باتفاق فإذا لم يمكن تصحيحه فرضا لم يصح أصلا بخلاف سائر العبادات فانه يتردد بين الفرض والنفل وبخلاف ما إذا جعل مسلما تبعا لغيره لان صفة الفرضية في الاصل تغني عن اعتباره في التبع كالاقرار باللسان والاعتقاد بالقلب ولان اعتبار عقله قبل البلوغ لضرورة الحاجة إليه وذلك يختص بما لا يمكن تحصيله له من قبل غيره ففيما يمكن تحصيله له من جهة غيره لا حاجة إلى اعتبار عقله فلا يعتبر والدليل عليه انه لو لم يصف الاسلام بعدما عقل لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته ولو صار عقله معتبرا في الدين لوقعت الفرقة إذا لم يحسن ان
[ 121 ] يصف كما بعد البلوغ ولان أحكام الاسلام في الدنيا تنبنى على قوله وقوله اما ان يكون اقرارا أو شهادة ولا يتعلق به حكم الشرع كسائر الاقارير والشهادات وأما فيما بينه وبين ربه إذا كان معتقدا لما يقول فنحن نسلم ان له في أحكام الآخرة مالمسلمين (وحجتنا) في ذلك قوله ﷺ حتي يعرب عنه لسانه اما شاكرا واما كفورا وقد أعرب هنا لسانه شاكرا شكورا فلا نجعله كافرا كفورا وان عليا رضى الله عنه أسلم وهو صبى وحسن اسلامه حتى افتخر به في شعره قال سبقتكم إلى اسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلمي واختلفت الروايات في سنه حين أسلم وحين مات فقال محمد ابن جعفر رضى الله عنهما أسلم وهو ابن خمس سنين ومات وهو ابن ثمانية وخمسين سنة لان النبي ﷺ دعاه إلى الاسلام في أول مبعثه ومدة البعث ثلاث وعشرون سنة والخلافة بعده ثلاثون انتهي بموت على رضي الله عنه فإذا ضممت خمسا إلى ثلاث وخمسين فيكون ثمانية وخمسين وقال العتيبى أسلم وهو ابن سبع سنين ومات وهو ابن ستين سنة بهذا الطريق أيضا وقال الجاحظ أسلم وهو ابن عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين وهكذا ذكره محمد في السير الكبير والمعنى فيه أنه أتى بحقيقة الاسلام وهو من أهله فيحكم باسلامه كالبالغ وبيان الوصف ان الاسلام اعتقاد بالقلب واقرار باللسان وهو من أهل الاعتقاد ومن رجع إلى نفسه علم أنه كان معتقد للتوحيد قبل بلوغه ولانه من أهل اعتقاد سائر الاشياء والمعروفة به ومن أهل معرفة أبويه والرجوع اليهما إذا حزبه أمر فعرفنا ضرورة أنه من أهل معرفة خالقه وقد سمعنا اقراره بعبارة مفهومة ونحن نرى صبيا يناظر في الدين ويقيم الحجج الظاهرة حتي إذا ناظر الموحدين أفهم وإذا ناظر الملحدين أفحم فلا يظن بعاقل ان يقول أنه ليس من أهل المعرفة والدليل على الاهلية أنه يجعل مسلما تبعا لغيره وبدون الاهلية لا يتصور ذلك ولانه مع الصبا أهل للرسالة قال الله تعالى وآتيناه الحكم صبيا فعلم ضرورة أنه أهل للاسلام ثم بعد وجود الشئ حقيقة اما ان يسقط اعتباره بحجر شرعى فلا يظن ذلك ههنا والناس عن آخرهم دعوا إلى الاسلام والحجر عن الاسلام كفر أولا يحكم بصحته لضرر يلحقه ولاتصور لذلك في اللاسلام فانه سبب للفوز والسعادة الابدية فيكون محض منفعة في الدنيا والآخرة وان حرم ميراث مورثه الكافر أو بانت منه وزجته ؟ الكافرة فانما
[ 122 ] يحال بذلك على خبثها لاعلى اسلامه ألا ترى ان هذا الحكم يثبت إذا جعل تبعا لغيره والتبعية فيما يتمحض منفعة لافيما يشوبه ضرر وانما تبعا لتوفير المنفعة عليه وفى اعتبار منفعته مع ابقاء التبعية معنى توفير المنفعة لانه ينفتح عليه باب تحصيل هذه المنفعة بطريقين فكان ذلك انفع وانما يمتنع الجمع بين معنى التبعية والاصالة إذا كان بينهما مضادة فاما إذا تأيد أحدهما بالآخر فذلك مستقيم كالمرأة إذا سافرت مع زوجها ونوت السفر فهى مسافرة بنيتها مقصودا وتبعا لزوجها أيضا وانما لم يعتبر اعتقاده عند اسلام أحد الابوين لتوفير المنفعة عليه فهذا يدل على اعتبار اعتقاده إذا أسلم مع كفرهما لتوفير المنفعة عليه وانما لم يكن مخاطبا بالاداء لدفع الحرج عنه إذا امتنع من الاداء وهذا يدل على انه يحكم بصحته إذا أدي باعتبار ان عند الاداء يجعل الخطاب كالسابق لتحصيل المقصود كالمسافر لا يخاطب بأداء الجمعة فإذا أدى يجعل ذلك فرضا منه بهذا الطريق وهذا لان عدم توجه الخطاب إليه بالاسلام لدفع الضرر ولاضرر عليه إذا أدرج الخطاب بهذا الطريق بل تتوفر المنفعة عليه مع أنه يحكم باسلامه لوجود حقيقته من غير أن يتعرض لصفته وانما لاتبين زوجته منه إذا لم يحسن أن يصف بعدما عقل لبقاء معنى التبعية ولتوفير المنفعة عليه ولاوجه لاعتبار هذا القول بسائر الاقاويل فانا نجعله فيها كاذبا أو لاغيا وإذا أقر بوحدانية الله تعالى فلا يظن بأحد أن يقول انه كاذب في ذلك أو لاغ بل يتيقن بأنه صادق في ذلك فجرينا الحكم عليه فأما إذا ارتد هذا الصبى العاقل فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول لا تصح ردته وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو القياس لان الردة تضره وانما يعتبر معرفته وعقله فيما ينفعه لا فيما يضره ألا ترى أن قبول الهبة منه صحيح والرد باطل وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا يحكم بصحة ردته استحسانا لعلته لا لحكمه فان من ضرورة اعتبار معرفته والحكم باسلامه بناء على علته اعتبار ردته أيضا لانه جهل منه بخالقه وجهله في سائر الاشياء معتبر حتى لا يجعل عارفا إذا علم جهله فكذلك جهله بربه ولان من ضرورة كونه أهلا للعقد أن يكون أهلا لرفعه كما انه لما كان أهلا لعقد الاحرام والصلاة كان أهلا للخروج منهما وانما لم يصح منه رد الهبة لما فيه من نقل الملك إلى غيره ألاتري أن ضرر الردة يلحقه بطريق التبعية إذا ارتد أبواه ولحقا به بدار الحرب وضرر رد الهبة لايلحقه من جهة أبيه فبهذا يتضح الفرق بينهما وإذا حكم بصحة
[ 123 ] ردته بانت منه امرأته ولكنه لا يقبل استحسانا لان القتل عقوبة وهو ليس من أهل أن يلتزم العقوبة في الدنيا بمباشرة سببها كسائر العقوبات ولكن لو قتله انسان لم يغرم شيئا لان من ضرورة صحة ردته اهدار دمه وليس من ضرورته استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت لا تقتل ولو قتلها قاتل لم يلزمه شئ وهذه فصول أحدها في الذى أسلم تبعا لابويه إذا بلغ مرتدا في القياس يقتل لارتداده بعد اسلامه وفى الاستحسان لا يقتل ولكن يجبر علي الاسلام لانه ماكان مسلما مقصودا بنفسه وانما يثبت له حكم الاسلام تبعا لغيره فيصير ذلك شبهة في اسقاط القتل عنه وان بلغ مرتدا والثانى إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتدا فهو على هذا القياس والاستحسان لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء في صحة اسلامه في الصغر والثالث إذا ارتد في صغره والرابع المكره على الاسلام إذا ارتد فانه لا يقتل استحسانا لانا حكمنا باسلامه باعتبار الظاهر وهو أن الاسلام مما يجب اعتقاده ولكن قيام السيف على رأسه دليل على أنه غير معتقد فيصير ذلك شبهة في اسقاط القتل عنه وفى جميع ذلك يجبر على الاسلام ولو قتله قاتل قبل أن يسلم لا يلزمه شئ وإذا ارتد السكران في القياس تبين منه امرأته لان السكران كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله حتى لو طلق امرأته بانت منه ولو باع أو أقر بشئ كان صحيحا منه ولكنه استحسن وقال لاتبين منه امرأته لان الردة تنبنى على الاعتقاد ونحن نعلم أن السكران غير معتقد لما يقول ولانه لاينجو سكران من التكلم بكلمة الكفر في حال سكره عادة والاصل فيه ماروى أن واحدا من كبار الصحابة رضى الله عنهم سكر حين كان الشرب حلالا وقال لرسول الله ﷺ هل أنتم الاعبيدى وعبيد آبائى ولم يجعل ذلك منه كفرا وقرأ سكران سورة قل يا أيها الكافرون في صلاة المغرب فترك اللاآت فيه فنزل فيه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتى تعلموا ما تقولون فهو دليل على أنه لا يحكم بردته في حال سكره كما لا يحكم به في حال جنونه فلا تبين منه امرأته والمكره على الردة في القياس تبين منه أمرأته وبه أخذ الحسن لانا لا نعلم من سره ما نعلم من علانيته وانما ينبني الحكم على ما نسمع منه ولهذا يحكم باسلامه ان أسلم مكرها ولا أثر لعذر الاكراه في المنع من وقوع الفرقة كما لو أكره على الطلاق وفى الاستحسان لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته لان قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه غير معتقد لما يقول وانما قصد به دفع الشر عن نفسه والردة ننبني على
[ 124 ] الاعتقاد وبخلاف الاسلام فهناك بمقابلة هذا الظاهر ظاهر آخر وهو أن الاسلام مما يجب اعتقاده بخلاف الطلاق لان ذلك انشاء سببه التكلم والاكراه لا ينافي الانشاء وهذا اخبار عن اعتقاده والاكراه دليل على أنه كاذب فيه فوز انه الاكراه على الاقرار بالطلاق وإذا طلب ورثة المرتد كسبه الذى اكتسبه في ردته وقالوا أسلم قبل أن يموت فعليهم البينة في ذلك وهذا عند أبى حنيفة رحمه الله تعالي لانه يفرق بين الكسبين والمعنى فيه أن سبب حرمانهم ظاهر وهو ردته عند اكتسابه فهم يدعون عارضا مزيلا لذلك وهو اسلامه قبل موته فعليهم أن يثبتوا ذلك بالبينة وان نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب عمل في تركته ورثته ما يعمل في تركة المرتد لانه صار حربيا حقيقة وحكما فيكون كالميت في حق من هو من أهل دارنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والماب (باب الخوارج) (قال) رضي الله عنه اعلم أن الفتنة إذا وقعت بين المسلمين فالواجب على كل مسلم أن يعتزل الفتنة ويقعد في بيته هكذا رواه الحسن عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى لقوله ﷺ من فر من الفتنة أعتق الله رقبته من النارر وقال لواحد من أصحابه في الفتنة كن حلسا من أحلاس بيتك فان دخل عليك فكن عبد الله المقتول أوقال عند الله معناه كن ساكنا في بيتك لا قاصدا فان كان المسلمون مجتمعين على واحد وكانوا آمنين به والسبيل آمنة فخرج عليه طائفة من المسلمين فحينئذ يجب على من يقوى على القتال أن يقاتل مع امام المسلمين الخارجين لقوله تعالى فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي والامر حقيقة للوجوب ولان الخارجين قصدوا أذى المسلمين واماطة الاذي من أبواب الدين وخروجهم معصية ففي القيام بقتالهم نهى عن المنكر وهو فرض ولانهم يهيجون الفتنة قال ﷺ الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها فمن كان ملعونا على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه يقاتل معه والذى روى أن ابن عمر رضى الله عنهما وغيره لزم بيته تأويله انه لم يكن له طاقة على القتال وهو فرض على من يطيقه والامام فيه علي رضى الله عنه فقد قام بالقتال وأخبر أنه مأمور بذلك بقوله رضى الله عنه أمرت بقتال المارقين ؟ الناكثين والقاسطين ولهذا بدأ الباب بحديث كثير الحضرمي حيث قال دخلت مسجد
[ 125 ] الكوفة من قبل أبواب كندة فإذا نفر خمسة يشتمون عليا رضى الله عنه وفيهم رجل عليه برنس يقول أعاهد الله لاقتلنه فتعلقت به وتفرق أصحابه فأتيت به عليا رضى الله عنه فقلت انى سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك قال ادن ويحك من أنت قال أنا سوار المنقرى فقال على رضي الله عنه خل عنه فقلت أخلى عنه وقد عاهد الله ليقتلنك فقال أفأقتله ولم يقتلني قلت وأنه قد شتمك قال فاشتمه ان شئت أو دعه وفى ؟ هذا دليل على أن من لم يظهر منه خروج فليس للامام أن يقتله وهو رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى قال ما لم يعزموا على الخروج فالامام لا يتعرض لهم فإذا بلغه عزمهم على الخروج فحينئذ ينبغى له أن يأخذهم فيحبسهم قبل أن يتفاقم الامر لعزمهم على المعصية وتهييج الفتنة وكان هؤلاء لم يكونوا مغلبين الخروج عليه ولم يعزموا على ذلك أولم يصدقه على رضي الله تعالى عنه فيما أخبره به من عزمه على قتله فلهذا أمره بأن يخلى عنه وليس مراده من قوله فاشتمه ان شئت أن ينسبه إلى ما ليس فيه فذلك كذب وبهتان لا رخصة فيه وانما مراده أن ينسبه إلى ما علمه منه فيقول يا فتان يا شرير لقصده إلى الشر والفتنة وما أشبه ذلك من الكلام وهو معنى قوله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم (قال) وبلغنا عن على رضى الله تعالى عنه أنه بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ حكمت الخوارج من ناحية المسجد فقال على رضى الله عنه كلمة حق أريد بها باطل لن نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله ولن نمنعكم الفئ مادامت أيديكم مع أيدينا ولن نقاتلكم حتي تقاتلونا ثم أخذ في خطبته ومعني قوله إذ حكمت الخوارج أي نادوا الحكم لله وكانوا يتكلمون بذلك إذا أخذ على رضي الله عنه في خطبته ليشوشوا خاطره فانهم كانوا يقصدون بذلك نسبته إلى الكفر لرضاه بالحكمين وتفويضه الحكم إلى أبى موسى رضى الله عنه ولهذا قال على رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل يعني ان ظاهر قول المرء الحكم لله حق ولكنهم يقصدون به الباطل وهو نسبته إلى الكفر ثم فيه دليل على أنهم ما لم يعزموا على الخروج فالامام لا يتعرض لهم بالحبس والقتل فان المتكلمين بذلك ما كانوا عازمين على الخروج عند ذلك فلهذا قال لن نمنعكم مساجد الله ولن نمنعكم الفئ وفيه دليل على أن التعريض بالشتم لا يوجب التعزير فانه لم يعزرهم وقد عرضوا بنسبته إلى الكفر والشتم بالكفر موجب للتعزير وفيه دليل على ان الخوارج إذا كانوا يقاتلون الكفار تحت راية أهل العدل فانهم يستحقون من الغنيمة ما يستحقه غيرهم
[ 126 ] لانهم مسلمون وفيه دليل على أنهم يقاتلون دفعا لقتالهم فانه قال ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا معناه حق تعزموا على القتال بالتجمع والتحيز عن أهل العدل (قال) وبلغنا عن على رضى الله عنه أنه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا ولا تدففوا على جريح ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال وبهذا كله نأخذ فنقول إذا قاتل أهل العدل أهل البغى فهزموهم فلا ينبغى لاهل العدل أن يتبعوا مدبرا لانا قاتلناهم لقطع بغيهم وقد اندفع حين ولوا مدبرين ولكن هذا إذا لم يبق فئة يرجعون إليها فان بقى فئة فانه يتبع مدبرهم لانهم ما تركوا قصدهم لهذا حين ولوامنهم منهرمين بل تحيزوا إلى فئتهم ليعودوا فيتبعون لذلك ولهذا يتبع المدبر من المشركين لبقاء الفئة لاهل الحرب وكذلك لا يقتلون الاسير إذا لم يبق لهم فئة وقد كان على رضى الله عنه يحلف من يؤسر منهم ان لا يخرج عليه قط ثم يخلى سبيله وان كانت له فئة بأس بأن يقتل أسيرهم لانه ما اندفع شره ولكنه مقهور ولو تخلص انحاز إلى فئته فإذا رأى الامام المصلحة في قتله لا بأس بأن يقتله وكذلك لا يجهزوا على جريحهم إذا لم يبق لهم فئة فان كانت باقية فلا بأس بأن يجهز على جريحهم لانه إذا برئ عاد إلى تلك الفتنة والشر بقوة تلك الفئة ولان في قتل الاسير والتجهيز على الجريح كسره شوكة أصحابه فإذا بقيت لهم فئة فهذا المقصود يحصل بذلك بخلاف ما إذا لم يبق لهم فئة وقوله لا يكشف سترقيل معناه لا يسبي الذرارى ولا يؤخذ مال على سبيل التملك بطريق الاغتنام وبه نقول لا تسبي نساؤهم وذراريهم لانهم مسلمون ولا يتملك أموالهم لبقاء العصمة فيها بكونها محرزة بدار الاسلام فان التملك بالقهر يخص بمحل ليس فيه عصمة الاحراز بدار الاسلام (قال) وما أصاب أهل العدل من كراع أهل البغى وسلاحهم فلا بأس باستعمال ذلك عليهم عند الحاجة لانهم لو احتاجوا إلى سلاح أهل العدل كان لهم أن يأخذوه للحاجة والضرورة وقد أخذ رسول الله ﷺ من صفوان دروعا في حرب هوازن وكان ذلك بغير رضاه حيث قال أغصبا يا محمد فإذا كان يجوز ذلك في سلاح من لا يقاتل ففي سلاح من يقاتل من أهل البغى أولى فإذا وضعت الحرب أو زارها رد جميع ذلك عليهم لزوال الحاجة وكذلك ما أصيب من أموالهم يرد إليهم لانه لم يتملك ذلك المال عليهم لبقاء العصمة والاحراز فيه ولان الملك بطريق القهر لا يثبت ما لم يتم وتمامه بالاحراز بدار تخالف دار المستولي عليه وذلك لا يوجد بين أهل البغي وأهل العدل لان دار الفئتين واحدة (قال)
[ 127 ] وبلغنا عن علي رضى الله عنه أنه ألقي ما أضاب من عسكر أهل النهروان في الرحبة فمن عرف شيئا أخذه حتى كان آخر من عرف شيئا لانسان قدر حديد فأخذها ولما قيل لعلى رضى الله عنه يوم الجمل الا تقسم بيننا ما أفاء الله علينا قال فمن يأخذ منكم عائشة وانما قال ذلك استبعادا لكلامهم واظهارا لخطأهم فيما طلبوا وإذا أخذت المرأة من أهل البغي فان كانت تقاتل حبست حتى لا يبقى منهم أحد ولا تقتل لان المرأة لا تقتل على ردتها فكيف تقتل إذا كانت باغية وفى حال اشتغالها بالقتال انما جاز قتلها دفعا وقد اندفع ذلك حين أسرت كالولد يقتل والده دفعا إذا قصده وليس له ذلك بعدما اندفع قصده ولكنها تحبس لارتكابها المعصية ويمنعها من الشر والفتنة وإذا أخذ رجل حر أو عبد كان يقاتل وكان عسكر أهل البغى على حاله قتل لانه ممن يقاتل عبدا كان أو حرا وقد بينا جواز قتل الاسير إذا بقيت له فئة وان كان عبدا يخدم مولاه ولم يقاتل حبس حتى لا يبقي من أهل البغى أحد ولم يقتل لانه ما كان مقاتلا والقتل في حق أهل البغى للدفع فمن لم يقاتل ولم يعزم على ذلك لا يقتل ولكنه مال الباغي وقد بينا أنه يوقف حتى لا يبقي أحد منهم وانما يوقف العبد بحبسه لكيلا يهرب فيعود إلى مولاه وما أصاب المسلمون منهم من كراع أو سلاح وليس لهم إليه حاجة قال اما الكراع فيباع ويحبس الثمن لانه يحتاج إلى النفقة فلا ينفق عليه الامام من بيت المال لما فيه من الاحسان إلى صاحبه الباغي ولان حبس الثمن أهون عليه من حبس الكراع فلهذا يبيعه ويحبس ثمنه حتى يتفرق جمعهم فيرد ذلك على صاحبه وأما السلاح فيمسكه ليرده على صاحبه إذا وضعت الحرب أو زارها وهذا لان في الرد في الحال اعانة لهم على أهل العدل وذلك لا يجوز فلهذا يوقف لتفرق الجمع فان طلب أهل البغي الموادعة أجيبوا إليها ان كان خيرا للمسلمين لما بينا أنهم قد يحتاجون إلى الموادعة لحفظ قوة أنفسهم إذا لم يقووا على قتالهم وكما يجوز ذلك في حق المرتدين يجوز في حق أهل البغى ولم يؤخذ منهم عليها شئ لانهم مسلمون ولايجوز أخذه الجزية من المسلمين وقد بينا مثله في حق المرتدين الا ان هناك إذا أخذوا ملكوا لانهم بعدما صاروا أهل حرب تغنم أموالهم وههنا ان أخذوا لا يملكون لان أموال الخوارج لاتغنم بحال وإذا تاب أهل البغي ودخلوا إلى أهل العدل لم يؤخذوا بشئ مما أصابوا يعني بضمان ما أتلفوا من النفوس والاموال ومراده إذا أصابوا ذلك بعد ما تجمعوا وصاروا أهل منعة فاما ما أصابوا قبل ذلك فهم ضامنون لذلك لانا أمرنا
[ 128 ] في حقهم بالمحاجة والالزام بالدليل فلا يعتبر تأويلهم الباطل في إسقاط الضمان قبل أن يصيروا أهل منعة فاما بعدما صارت لهم منعة فقد انقطع ولاية الالزام بالدليل حسا فيعتبر تأويلهم وان كان باطلا في اسقاط الضمان عنهم كتأويل أهل الحرب بعدما أسلموا والاصل فيه حديث الزهري قال وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ كانوا متوافرين فاتفقوا ؟ على ان كل دم أريق بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال أتلف بتأويل القرآن فهو موضوع وما كان قائما بعينه في أيديهم فهو مردود على صاحبه لانهم لم يملكوا ذلك بالاخذ كما أنا لانملك عليهم مالهم والتسوية بين الفئتين المقاتلتين بتأويل الدين في الاحكام أصل وقد روى عن محمد قال افتيهم إذا تابوا بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والاموال ولا الزمهم ذلك في الحكم وهذا صحيح فانهم كانوا معتقدين الاسلام وقد ظهر لهم خطأهم في التأويل الا أن ولاية الالزام كان منقطعا للمنعة فلا يجبر على اداء الضمان في الحكم ولكن يفتي به فيما بينه وبين ربه ولا يفتى أهل العدل بمثله لانهم محقون في قتالهم وقتلهم ممنثلون ؟ للامر وان كان أهل البغى قد استعانوا بقوم من أهل الذمة على حربهم فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضا للعهد ألا ترى أن هذا الفعل من أهل البغي ليس ينقض للايمان فكذلك لا يكون من أهل الذمة نقضا للعهد وهذا لان أهل البغى مسلمون فان الله تعالى سمى الطائفتين باسم الايمان بقوله تعالى وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقال على رضى الله عنه اخواننا بغوا علينا فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من ان يكونوا ملتزمين حكم الاسلام في المعاملات وان يكونوا من اهل دار الاسلام فلهذا لا ينتقض عهدهم بذلك ولكنهم بمنزلة أهل البغى فيما أصابوا في الحرب لانهم قاتلوا تحت راية البغاة فحكمهم فيما فعلوا كحكم البغاة وينبغى لاهل العدل إذا لقوا أهل البغي أن يدعوهم إلى العدل هكذا روى عن على رضى الله عنه أنه بعث ابن عباس رضى الله عنهما إلى أهل حرورا حتى ناظرهم ودعاهم إلى التوبة ولان المقصود ربما يحصل من غير قتال ؟ بالوعظ والانذار فالاحسن ان يقدم ذلك على القتال لان الكى آخر لدواء وان لم يفعلوا فلا شئ عليهم لانهم قد علموا ما يقاتلون عليه فحالهم في ذلك كحال المرتدين وأهل الحرب الذين بلغتهم الدعوة ولهذا يجوز قتالهم بكل ما يجوز القتال به من أهل الحرب كالرمي بالنبل والمنجنيق وارسال الماء والنار عليهم والبيات بالليل
[ 129 ] لان قتالهم فرض كقتال أهل الحرب والمرتدين وإذا وقعت الموادعة بينهم فأعطى كل واحد من الفريقين رهنا على انه ايهما غدر فقتل الرهن فدماء الآخرين لهم حلال فغدر أهل البغى وقتلوا الرهن الذين في أيديهم لم ينبغ لاهل العدل ان يقتلوا الرهن الذين في أيديهم ولكنهم يحبسونهم حتى يهلك أهل البغي أو يتوبوا لانهم صاروا آمنين فينا إما بالموادعة أو بأن أعطيناهم الامان حين أخذناهم رهنا وانما كان الغدر من غيرهم فلا يؤاخذون بذنب الغير قال الله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى ولكنه لا يخلى سبيلهم لانهم يخاف فتنتهم وان يعودوا إلى فئتهم فيحاربون أهل العدل فلهذا حبسوا إلى ان يتفرق جمعهم وكذلك ان كان هذا الصلح بين المسلمين والمشركين فغدر المشركون حبس رهنهم في أيدى المسلمين حتى يسلموا وان أبوا فهم ذمة المسلمين يوضع عليهم الجزية لانهم حصلوا في أيدينا آمنين فلا يحل قتلهم بغدر كان من غيرهم ولكنهم احتبسوا في دارنا على التأبيد لانهم كانوا راضين بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد فات ذلك حين قتلوا رهننا فقلنا انهم بحتبسون في دارنا على التأبيد والكافر لا يترك في دارنا مقيما الا بجزية فتوضع عليهم الجزية ان لم يسلموا ويحكي أن الدوانيقي كان ابتلى بهذا الصلح مع أهل الموصل ثم انهم غدروا فقتلوا رهنه فجمع العلماء ليستشيرهم في رهنهم فقالوا يقتلون كما شرطوا على أنفسهم وفيهم أبو حنيفة رحمه الله تعالى ساكت فقال له ما تقول قال ليس لك ذلك فانك شرطت لهم مالا يحل وشرطوا لك مالا يحل وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا تزر وازرة وزر أخرى فاغلظ عليه القول وأمر باخراجه من عنده وقال ما دعوتك لشئ الا أتيتني بما أكره ثم جمعهم من الغد وقال قد تبين لى أن الصواب ما قلت فماذا نصنع بهم قال سل العلماء فسألهم فقالوا لاعلم لنا بذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى توضع عليهم الجزية فقال لم وهم لا يرضون بذلك قال لانهم رضوا بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد تحقق فوات ذلك فكانوا راضين بالمقام في درانا على التأبيد والكافر إذا رضى بذلك توضع عليه الجزية فاستحسن قوله واعتذر إليه ورده إلى بيته بمحمل وإذا أمن الرجل من أهل العدل رجلا من أهل البغي جاز أمانه لان وجوب قتل الباغي لا يكون أقوى من وجوب قتل المشرك ثم هناك يصح أمان واحد من المسلمين لقوله ﷺ يسعى بذمتهم ادناهم فكذلك ههنا ولانه ربما يحتاج الي أن يناظره فعسى أن يتوب من غير قتال ولا يتأتى ذلك ما لم يأمن كل
[ 130 ] واحد منهما من صاحبه وكذا ان قال لاسبيل عليك أو أمنه بالفارسية أو النبطية هكذا روى عن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى أمراء الاجناد أيما مسلم قال لكافر مبرس أولا يذهل أولاده فهو أمان وكل من يصح أمانه للحربي يصح أمانه للباغى كالمرأة والعبد الذي يقاتل مع مولاه فان كان العبد لا يقاتل مع مولاه فأمانه لاهل البغى على الخلاف ولايجوز أمان الذمي وان كان يقاتل مع أهل العدل كما لا يجوز أمانه للكفار وإذا قاتل النساء من أهل البغي أهل العدل وسعهم قتلهن دفعا لقتالهن فإذا لم يقاتلن لم يسعهم قتالهن كما في حق أهل الحرب بل أولى فهذا القتال دفع محض فإذا قاتلن قتلن للدفع وإذا لم يقاتلن فلا حاجة إلى دفعهن وإذا كان قوم من أهل العدل في يدي أهل البغى تجار أو أسري فجني بعضهم على بعض ثم ظهر عليهم أهل العدل لم يقتص لبعضهم من بعض لانهم فعلوا ذلك حيث لا تصل إليهم يد امام أهل العدل ولا يجري عليهم حكمه فكأنهم فعلوا ذلك في دار الحرب ولا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضى أهل البغى لان أهل البغي فسقة وما لم يخرجوا ففسقهم فسق اعتقاد فأما بعدما خرجوا ففسقهم فسق التعاطى فكما لاتقبل شهادة الفاسق فكذلك كتاب الفاسق ولانهم يستحلون دماءنا وأموالنا فربما حكم قاضى أهل البغى بناء على هذا الاستحلال من غير حجة وان ظهر أهل البغى على مصر فاستعملوا عليه قاضيا من أهله وليس من أهل البغي فانه يقيم الحدود والقصاص والاحكام بين الناس بالحق لا يسعه الا ذلك لان شريحا رحمه الله تعالى تقلد القضاء من جهة بعض بني أمية والحسن رحمه الله تعالى كذلك وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه بعدما استخلف لم يتعرض لقضاء القضاة الذين تقلدوا من جهة بني أمية والمعني فيه أن الحكم بالعدل ودفع الظلم عن المظلوم من باب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وذلك فرض على كل مسلم الا أن كل من كان من الرعية فهو غير متمكن من الزام ذلك فانما تمكن من ذلك بقوة من قلده كان عليه أن يحكم بما هو فرض عليه سواء كان من قلده باغيا أو عادلا فان شرط التقليد التمكن وقد حصل فان كتب هذا القاضى كتابا الي قاضى أهل العدل بحق لرجل من أهل المصر بشهادة من شهد عنده بذلك أجازه إذا كان هذا القاضى الذى أتاه الكتاب يعرف الشهود الذين شهدوا عند ذلك القاضى وليسوا من أهل البغى لانهم لو شهدوا عنده بذلك كان عليه أن يقضى بشهادتهم فكذلك إذا نقل القاضى بكتابه شهادتهم إلى مجلسه وان كانوا من أهل البغى لا يجيز كتابه كما لو
[ 131 ] شهدوا عنده بذلك لم يقض بشهادتهم على مابينا وكذلك ان كان لا يعرفهم لان الظاهر في منعة أهل البغى أن من يسكن فيهم فهو منهم فما لم يعلم خلافه وجب عليه الاخذ بالظاهر (قال) وما أصاب أهل البغي من القتل والاموال قبل أن يخرجوا ويحاربوا ثم صالحوا بعد الخروج على ابطال ذلك لم يجز وأخذوا بجميع ذلك من القصاص والاموال لان ذلك حق لزمهم للعباد وليس للامام ولاية اسقاط حقوق العباد فكان شرطهم اسقاط ذلك عنهم شرطا باطلا فلا يوفي به ويصنع بقتلى أهل العدل مايصنع بالشهيد فلا يغسلون ويصلى عليهم هكذا فعل على رضى الله عنه بمن قتل من أصحابه وأوصى عمار بن ياسر وحجر بن عدى وزيد بن صوحان رضي الله عنهم حين استشهدوا وقد رويناه في كتاب الصلاة ولا يصلى على قتلى أهل البغي ولا يغسلون أيضا ولكنهم يدفنون لاماطة الاذى هكذا روى عن على رضي الله عنه أنه لم يصل على قتلى النهروان ولان الصلاة عليهم الدعاء لهم والاستغفار قال الله تعالى وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم وقد منعنا من ذلك في حق أهل البغى ولان القيام بغسلهم والصلاة عليهم نوع موالاة معهم والعادل ممنوع من الموالاة مع أهل البغي في حياة الباغي فكذلك بعد وفاته وكان الحسن بن زياد رحمهما الله تعالى يقول هذا إذا بقيت لهم فئة فان لم يبق لهم فلا بأس للعادل بأن يغسل قريبه من أهل البغي ويصلى عليه وجعل ذلك بمنزلة قتل الاسير والتجهيز على الجريح لان في القيام بذلك مراعاة حق القرابة ولا بأس بذلك إذا لم يبق لهم فئة (قال) وأكره ان تؤخذ رؤسهم فيطاف بها في الآفاق لانه مثلة وقد نهى رسول الله ﷺ عن المثلة ولو بالكلب العقور ولانه لم يبلغنا ان عليا رضى الله عنه صنع ذلك في شئ من حروبه وهو المتبع في الباب ولما حمل رأس يباب البطريق إلى أبى بكر رضي الله عنه كرهه فقيل ان الفرس والروم يفعلون ذلك فقال لسنا من الفرس ولا الروم يكفينا الكتاب والخبر وقد جوز ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا ان كان فيه كسر شوكتهم أو طمأنينة قلب أهل العدل استدلالا بحديث ابن مسعود رضى الله عنهم حين حمل رأس أبى جهل إلى رسول الله ﷺ فلم ينكر عليه وإذا قتل العادل في الحرب أباه الباغي ورثه لانه قتل بحق فلا يحرمه الميراث كالقتل رجما أو في قصاص وهذا لان حرمان الميراث عقوبة شرعت جزاء على قتل محظور فالقتل المأمور به لا يصلح ان يكون سببا له وكذلك الباغي إذا قتل مورثه العادل
[ 132 ] يرثه في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يرثه في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لانه قتل بغير حق فيحرمه الميراث كما لو قتله ظلما من غير تأويل وهذا لان اعتقاده تأويله لا يكون حجة على مورثه العادل ولا على سائر ورثته وانما يعتبر ذلك في حقه خاصة يوضحه ان تأويل أهل البغى عند انضمام المنعة يعتبر على الوجه الذي يعتبر في حق أهل الحرب وتأثير ذلك في اسقاط ضمان النفس والمال لافي حكم التوريث إذ لا توارث بين المسلم والكافر فكذلك تأويل أهل البغى وهما يقولان المقاتلة بين الفئتين بتأويل الدين فيستويان في الاحكام وان اختلفا في الآثام كما في سقوط الضمان وكما في حق أهل الحرب مع المسلمين وكما ان قتل الباغي مورثه بغير حق فقتل الحربي كذلك بغير حق ثم لا يتعلق به حرمان الميراث حتى إذا جرح الكافر مورثه ثم أسلم ثم مات من تلك الجراحة ورثه وكما أن اعتقاده لا يكون حجة على العادل في حكم التوريث فكذلك في حكم سقوط حقه في الضمان لا يكون حجة ولكن قيل لما انقطعت ولاية الالزام بانضمام المنعة الي التأويل جعل الفاسد من التأويل كالصحيح في ذلك الحكم فكذلك في حكم التوريث ويكره للعادل أن يلي قتل أخيه وأبيه من أهل البغى اما في حق الاب لا يشكل فانه يكره له قتل أبيه المشرك كما قال تعالى وصاحبهما في الدنيا معروفا فالمراد في الابوين المشركين كذلك تأول الآية وهو قوله تعالى وان جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ولما استأذن حنظلة بن أبى عامر رضى الله عنه رسول الله ﷺ في قتل أبيه المشرك كره له ذلك وقال يكفيك ذلك غيرك وكذلك لما استأذن عبد الله بن عبد الله بن أبى سلول رسول الله ﷺ في قتل أبيه المشرك نهاه عن ذلك ولا بأس بقتل اخيه إذا كان مشركا ويكره إذا كان باغيا لان في حق الباغي اجتمع حرمتان حرمة القرابة وحرمة الاسلام فيمنعه ذلك من القصد إلى قتله وفى حق الكافر انما وجد حرمة واحدة وهو حرمة القرابة فذلك لا يمنعه من القتل كالحرمة في حق الدين في حق الاجانب من أهل البغى فان قصده أبوه المشرك أو الباغي ليقتله كان للابن أن يمتنع منه يقتله لانه يقصد بفعله الدفع عن نفسه لاقتل أبيه وكل واحد مأمور بأن يدفع قصد الغير عن نفسه وان كان الرجل من أهل العدل في صف أهل البغى فقتله رجل لم يكن عليه فيه الدية كما لو كان في صف أهل الحرب لانا أمرنا بقتال الفريقين فكل من كان واقفا في صفهم فقتاله حلال
[ 133 ] والقتال الحلال لا يوجب شيئا ولانه أهدر دمه حين وقف في صف أهل البغي وإذا دخل الباغى عسكر أهل العدل بأمان فقتله رجل من أهل العدل فعليه الدية كما لو قتل المسلم مستأمنا في دارنا وهذا لبقاء شبهة الاباحة في دمه حين كان دخوله بامان ألا ترى أنه يجب تبليغه مأمنه ليعود حربا فالقصاص يندرئ بالشبهات ووجوب الدية للعصمة والتقوم في دمه للحال (قال) وإذا حمل العادل على الباغي في المحاربة فقال قد تبت وألقى السلاح كف عنه لانه انما يقاتله ليتوب وقد حصل المقصود فهو كالحربي إذا أسلم ولانه يقاتله دفعا لبغيه وقتاله وقد اندفع ذلك حين ألقى السلاح وكذلك لو قال كف عني حتى أنظر في أمري فلعلي أتابعك وألقى السلاح لانه استأمن لينظر في أمره فعليه أن يجيبه إلى ذلك رجاء أن يحصل المقصود بدون القتال وفي حق أهل الحرب لا يلزمه اعطاء الامان لان الداعي إلى المحاربة هناك شركه ولا ينعدم ذلك بالقاء السلاح وههنا أهل البغي مسلمون وانما يقاتلون لدفع قتالهم فإذا ألقي السلاح واستمهله كان عليه أن يمهله ولو قال أنا على دينك ومعه السلاح لم يكف عنه بذلك لانه صادق فيما قال وقد بينا أن البغاة مسلمون وقد كان العادل مأمورا بقتالهم مع علمه بذلك فلا يتغير ذلك باخباره اياه بذلك وهذا لانه مادام حاملا للسلاح فهو قاصد للقتال ان تمكن منه فيقتله دفعا لقتاله وإذا غلب قوم من أهل البغي على مدينة فقاتلهم قوم آخرون من أهل البغى فهزموهم فأرادوا أن يسبوا ذرارى أهل المدينة لم يسع أهل المدينة الا أن يقاتلوا دون الذرارى لان ذرارى المسلمين لا يسبون فان البغاة ظالمون في سبيهم وعلي كل من يقوى على دفع الظلم عن المظلوم أن يقوم به كما قال ﷺ لا حتى تأخذوا علي يدى الظالم فتأطروه على الحق أطرا وإذا وادع أهل البغى قوما من أهل الحرب لم يسع لاهل العدل أن يغزوهم لانهم من المسلمين وأمان المسلم إذا كان في فئة ممتنعة نافذ على جميع المسلمين فان غدر بهم أهل البغي فسبوهم لم يشتر منهم أهل العدل شيئا من تلك السبايا لاتهم ؟ كانوا في موادعة وأمان من المسلمين فالذين غدروا بهم لا يملكونهم ولكنهم يؤمرون باعادتهم إلى ما كانوا عليه حتى إذا تاب أهل البغى أمروا بردهم وكذلك ان كان أهل العدل هم الذين وادعوهم وان ظهر أهل البغى علي أهل العدل حتى ألجؤهم إلى دار الشرك فلا يحل لهم أن يقاتلوا مع المشركين أهل البغى لان حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغى من
[ 134 ] المسلمين إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر ولا بأس بأن يستعين أهل العدل يقوم ؟ من أهل البغى وأهل الذمة على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل ظاهرا لانهم يقاتلون لاعزاز الدين والاستعانة عليهم بقوم منهم أو من أهل الذمة كالاستعانة عليهم بالكلاب وإذا لم يكن لاهل البغى منعة وانما خرج رجل أو رجلان من أهل مصر على تأويل يقاتلان ثم يستأمنان أخذا بجميع الاحكام لانهما بمنزلة اللصوص وقد بينا أن التأويل إذا تجرد عن المنعة لا يكون معتبرا لبقاء ولاية الالزام بالمحاجة والدليل انهما معتقدان الاسلام فيكونان كاللصين في جميع ما أصابا وإذا اشتد رجل على رجل في المصر بعصا أو حجر فقتله المشدود عليه بحديدة قتل به في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا اشتد عليه بشئ لو قتله به قتله فقتله المشدود عليه فدمه هدر وينبغى له ان يقتله وهذه المسألة تنبني على مسألة كتاب الديات ان القتل بالحجر والعصا لا يوجب القصاص عند أبى حنيفة رحمه الله وعندهما مالا يثبت من الحجر الكبير والعصا بمنزلة السلاح في انه يجب القصاص به بخلاف العصا الصغير ثم المشدود عليه يتمكن من دفع شر القتل عن نفسه إذا صار مقصودا بالقتل وإقدامه علي ما هو مباح له أو مستحق عليه شرعا لا يوجب عليه شيئا فإذا كان عندهما الحجر الكبير كالسلاح فنقول الشاد لو حقق مقصوده لزمه القصاص فبمجرد قصده يهدر دمه بل أولى لان هدر الدم واباحة القتل بمجرد القصد أسرع ثبوتا حتى كان للابن ان يقتل اباه إذا قصده دفعا للضرر وان كان لو حقق مقصوده لا يلزمه القود وكذلك الصبي والمجنون إذا قصد قتل انسان بالسلاح يباح قتله دفعا وان كان لو حقق مقصوده لا يلزمه القصاص ثم مالا يثبت عندهما آلة القتل كالسلاح فالمقصود بالقتل دفع شر القتل عن نفسه فلا يلزمه شئ وعند أبى حنيفة العصا والحجر ليس بآلة القتل فهو لا يدفع القتل عن نفسه وانما يدفع الاذى عن نفسه وبالحاجة إلى دفع الاذى لا يباح له الاقدام على القتل ولان الشاد لو حقق مقصوده لا يلزمه القصاص فبمجرد القصد أيضا لا يهدر دمه (فان قيل) ان كان لا يخاف على نفسه من جهة القتل بخلاف الجرح وحرمة أطرافه لا تكون دون حرمة ماله ولو قصد ماله كان له ان يقتله دفعا فهنا أولى (قلنا) بناء هذا الحكم على قصده وقصده ههنا النفس لا الطرف والمشدود عليه لا يخاف القتل من جهة لانه في المصر بالنهار فيلحقه الغوث قبل ان يأتي على نفسه فلهذا
[ 135 ] لا يباح الاقدام على قتله بخلاف ما إذا كان بالليل أو كان بالمفازة لان الغوث بالبعد منه عادة فالى ان ينتبه الناس ويخرجوا ربما يأتي على نفسه فكان هو دافعا شر القتل عن نفسه وبخلاف السلاح فانه آلة القتل من حيث أنه جارح فالظاهر أنه يأتي على نفسه قبل أن يلحقه الغوث فيباح له أن يقتله دفعا فلا يلزمه به شئ ولا يفصل بين قصده إلى المال أو إلى النفس بل هو على التقسيم الذي قلنا سواء أراد نفسه أو ماله ومقصوده من ايراد هذه المسألة ههنا الفرق بين اللصوص وبين أهل البغي فان في حق اللصوص المنعة تجردت عن تأويل وقد بينا ان في حق أهل البغى ان المغير للحكم اجتماع المنعة والتأويل وأنه إذا تجرد احدهما عن الآخر لا يتغير الحكم في حق ضمان المصاب والعبد في جميع ما ذكرنا كالحر وعلى هذا لو ان لصوصا غير متأولين غلبوا على مدينة فقتلوا الانفس واستهلكوا الاموال ثم ظهر عليهم أهل العدل أخذوا بجميع ذلك لتجرد المنعة عن التأويل وإذا غلب أهل البغى على مدينة فاستعملوا عليها قاضيا فقضى باشياء ثم ظهر أهل العدل على تلك المدينة فرفعت قضاياه إلى قاضى أهل العدل فانه ينفذ منها ماكان عدلا لانه لو نقضها احتاج الي إعادة مثلها والقاضى لا يشتغل بما لا يفيد ولا ينقض شيئا ليعيده وكذلك ان قضى بما رآه بعض الفقهاء لان قضاء القاضى في المجتهدات نافذ فلا ينقض ذلك قاضى أهل العدل من قضايا من تقلد من أهل البغى وان كان مخالفا لرأيه وإذا اجتمع عسكر أهل العدل والبغى على قتال أهل الحرب فغنموا غنيمة اشتركوا فيها لانهم مسلمون اشتركوا في القتال لاعزاز الدين وفى احراز الفئ بدار الاسلام وهو معني قول على رضى الله عنه لن نمنعكم الفئ مادامت أيديكم مع أيدينا ويأخذ خمسها أهل العدل ليصرفوا ذلك إلى المصارف فان أهل البغى لا يفعلون ذلك لانهم يستحلون أموالنا فالظاهر أنهم لا يصرفون الخمس إلى مصارفه ولان أهل العدل يؤمرون بأن يتكلفوا لتكون الراية لهم وانما يظهر ذلك إذا كانوا هم الذين أخذوا الخمس وكذلك ان غنم أحد الفريقين دون الآخر اشتركوا فيها لان بعضهم ردء البعض وقد اشتركوا في الاحراز وكذلك إذا غزا الامام بجند المسلمين فمات في أرض الحرب واختلف الجند فيمن يستخلفونه ثم غنموا أو غنمت طائفة منهم اشتركوا فيها لانهم مع هذا الاختلاف يجتمعون على قتال أهل الحرب لاعلاء كلمة الله تعالى واعزاز الدين فيشتركون في المصاب وقد بينا ان جيشا لهم منعة لو دخلوا دار الحرب من غير اذن الامام خمس ما أصابوا وقسم ما بقى بينهم علي سهام الغنيمة
[ 136 ] فكذلك حال الذين قاتلوا بعد ما مات الامام قبل أن يستخلفوا غيره وإذا استعان قوم من أهل البغي بقوم من أهل الحرب على قتال أهل العدل وقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل قال يسبى أهل الحرب وليست استعانة أهل البغى بهم بأمان لهم لان المستأمن يدخل دار الاسلام تاركا للحرب وهؤلاء ما دخلوا دار الاسلام الا ليقاتلوا المسلمين من أهل العدل فعرفنا أنهم غير مستأمنين ولان المستأمنين لو تجمعوا وقصدوا قتال المسلمين وناجزوهم كان ذلك منهم نقضا للامان فلان يكون هذا المعنى مانعا ثبوت الامان في الابتداء أولى وكذلك أهل البغي إذا دعوا قوما من أهل الحرب فأعان أولئك القوم من أهل الحرب على أهل العدل فقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل فانهم يسبونهم لما بينا أن موادعة أهل البغي وان كانت عاملة في حق أهل العدل فهم بالقصد إلى مال أهل العدل صاروا ناقضين لتلك الموادعة والتحقوا بمن لاموادعة لهم من أهل الحرب في حكم السبى من لحق بعسكر أهل البغى وحارب معهم لم يكن فيه حكم المرتد حتى لا يقسم ماله بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه وبين امرأته فان عليا رضي الله تعالى عنه لم يفعل ذلك في حق أحد ممن التحق من أهل عسكره بمن خالف ولما قال للذى أتاه بعد ذلك يخاصم في زوجته أنت الممالئ علينا عدونا قال أو يمنعنى ذلك عدلك فقال لاو قضى له بزوجته ولان الموت الحكمى انما يثبت بتباين الدارين حقيقة وحكما وذلك لا يوجد ههنا فمنعة أهل البغي وأهل العدل كلها في دار الاسلام فلهذا لا يقسم ماله بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه وبين زوجته والله أعلم (باب آخر في الغنيمة) (قال) قال أبو حنيفة رحمه الله المقطوع في الحرب وصاحب الديون في الغنيمة سواء لان النبي ﷺ لما سئل عن الغنيمة قال لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم فقال السائل فهل أحدا حق بشئ من غيره قال لاحتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن أحق به من صاحبك ولان السبب هو القهر على وجه يكون فيه اعزاز الدين والمتطوع في ذلك كصاحب الديون ومن دخل دار الحرب للتجارة وهو في عسكر المسلمين فلا حق له في الغنيمة الا ان يلقى المسلمون العدو فيقاتل معهم فيشاركهم حينئذ لان التاجر ماكان
[ 137 ] قصده عند الانفصال إلى دار الحرب القتال لاعزاز الدين وانما كان قصده التجارة فلا يكون هو من الغزاة وان كان فيهم الا ان يقاتل فحينئذ يتبين بفعله ان مقصوده القتال ومعنى التجارة تبع فلا يحرمه ذلك سهمه وقيل نزل قوله عزوجل ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم يعنى التجارة في طريق الحج فكذلك في طريق الغزو وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير الذى لا يطيق القتال والذين بهم زمانة لا يطيقون القتال فنهى عن ذلك وكرهه والاصل فيه قول رسول الله ﷺ حين رأي امرأة مقتولة هاما كانت هذه تقاتل فهذا تنصيص على انها لا تقتل والشيخ الكبير ومن به زمانة بهذه الصفة قالوا وهذا إذا كان لا يقاتل برأيه وأما إذا كان يقاتل برأيه ففي قتله كسر شوكتهم فلا بأس بذلك فان دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكان ابن مائة وستين سنة وقد عمى وكان ذا رأي في الحرب (قال) وسألته عن أصحاب الصوامع والرهبان فرأي قتلهم ؟ حسنا وفى السير الكبير مروي عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى انهم لا يقتلون وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله وقيل لا خلاف في الحقيقة فانهم ان كانوا يخالطون الناس يقتلون عندهم جميعا لان المقاتلة يصدرون عن رأيهم وهم الدين يحثونهم على قتال المسلمين وان كانوا طينوا على أنفسهم الباب ولا يخالطون الناس أصلا فانهم لا يقتلون لانهم لا يقاتلون بالفعل ولا بالحث عليه وقيل بل في المسألة خلاف فهما استدلا بوصية أبى بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبى سفيان حيث قال وستلقى أقواما من أصحاب الصوامع والرهبان زعموا انهم فرغوا أنفسهم للعبادة فدعهم وما فرغوا أنفسهم له والمعني فيه انهم لا يقاتلون والقتل لدفع القتال فكانوا هم في ذلك كالنساء والصبيان وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هؤلاء من ائمة الكفر قال تعالى فقاتلوا ائمة الكفر فمعني هذا الكلام انهم فرغوا أنفسهم للاصرار على الكفر والاشتغال بما يمنع عنه في الاسلام والظاهر ان الناس يقتدون بهم فهم يحثون الناس على القتال فعلا وان كانوا لا يحثونهم على ذلك قولا ولانهم بما صنعوا لا تخرج بنيتهم من أن تكون صالحة للمحاربة وان كانوا لا يشتغلون بالمحاربة كالمشغولين بالتجارة والحراثة منهم بخلاف النساء والصبيان (قال) وسألته عن الرجل يأسر الرجل من أهل العدو هل يقتله أو يأتي به الامام قال أي ذلك فعل فحسن لان بالاسر ما تسقط الاباحة من دمه حتى يباح للامام ان يقتله فكذلك يباح لمن أسره كما قبل أخذه
[ 138 ] ولما قتل أمية بن خلف بعدما أسر يوم بدر لم ينكر ذلك رسول الله ﷺ على من قتله وان أتى به الامام فهو أقرب إلى تعظيم حرمة الامام والاول أقرب إلى اظهار الشدة على المشركين وكسر شوكتهم فينبغي ان يختار من ذلك ما يعلمه أنفع وأفضل للمسلمين (قال) وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أكره ذلك وأنهي عنه وأصل الخلاف في عقود الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد بيناه وأشار إلى المعنى ههنا فقال أموال أهل الحرب تحل للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى معناه أو في غير عسكر المسلمين لا امان لهم في المال الذى جاؤا به فان للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولايكون هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على طريق الغنيمة وسألته عن المسلمين يستعينون بأهل الشرك على أهل الحرب قال لا بأس بذلك ان كان حكم الاسلام هو الظاهر الغالب لان قتالهم بهذه الصفة لاعزاز الدين والاستعانة عليهم بأهل الشرك كالاستعانة بالكلاب ولكن يرضخ لاولئك ولا يسهم لان السهم للغزاة والمشرك ليس بغاز فان الغزو عبادة والمشرك ليس من أهلها وأما الرضخ لتحريضهم على الاعانة إذا احتاج المسلمون إليهم بمنزلة الرضخ للعبيد والنساء (قال) وسألته عن الاسير يقتل أو يفادى قال لا يفادي ولكنه يقتل أو يجعل فيئا أي ذلك كان خيرا للمسلمين فعله الامام والكلام ههنا في فصول (أحدها) مفاداة الاسير بمال يؤخذ من أهل الحرب فان ذلك لا يجوز عنده وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال العظيم وذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير ان ذلك يجوز إذا كان بالمسلمين حاجة إلى المال لقوله تعالى فإما منا بعد واما فداء والمراد به الاسارى بدليل أول الآية فشدوا الوثاق ولما شاور رسول الله ﷺ أصحابه رضى الله تعالى عنهم في الاسارى يوم بدر أشار أبو بكر رضى الله عنه بالمفاداة فمال رسول الله ﷺ إلى ذلك لما رأي من حاجة أصحابه الي المال في ذلك الوقت والمعنى فيه أن استرقاق الاسير جائز وفيه منفعة للمسلمين من حيث المال فإذا فادوه بمال عظيم فمنفعة المسلمين من حيث المال في ذلك أظهر فيجوز ذلك ولايجوز قتله وفيه ابطال حق الغانمين عنه بغير عوض فلان يجوز بعوض وهو المال
[ 139 ] الذى يفادى به كان أولى (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فبهذا تبين أن قتل المشرك عند التمكن منه فرض محكم وفى المفاداة ترك اقامة هذا الفرض وسورة براءة من آخر ما نزل فكانت هذه الآية قاضية على قوله تعالى فاما منا بعد واما فداء على ما فعله رسول الله ﷺ من مفاداة الاسارى يوم بدر كيف وقد قال تعالى لولا كتاب من الله اسبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال ﷺ لو نزل العذاب مانجى منه الا عمر فانه كان أشار بقتلهم واستقصي في ذلك وقال تعالى وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم فما أخبر الله تعالى عن الامم السالفة على وجه الانكار عليهم ففائدتنا أن لانفعل مثل ما فعلوا وحديث أبى بكر رضى الله عنه في الاسير حيث قال لاتفادوه وان أعطيتم به مدين من ذهب ولانه صار من أهل دارنا فلا يجوز اعادته إلى دار الحرب ليكون حربا علينا بمال يؤخذ منه كأهل الذمة وبه فارق الاسترقاق لان في ذلك تقرير كونه من أهل دارنا لا لمقصود المال كأخذ الجزية من أهل الذمة ولان تخلية سبيل المشرك ليعود حربا للمسلمين معصية وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز وقتل المشرك فرض ولو أعطونا مالا لترك الصلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة إلى المال فكذلك لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة يوضحه أن في هذا تقوية المشركين بمعنى يختص بالقتال وذلك لا يجوز لمنفعة المال كما لا يجوز بيع الكراع والسلاح منهم بل أولى لان قوة القتال بالمقاتل أظهر منه بآلة القتال وعن ممحد رحمه الله تعالى قال لا يجوز المفاداة للشيخ الكبير الذى لا يرجي له نسل ولا رأى له في الحرب بالمال لان مثله لا يقتل وليس في المفاداة ترك القتل المستحق ولا تقوية المشركين باعادة المقاتل إليهم فهو كبيع الطعام وغيره من الاموال منهم فأما مفاداة الاسير بالاسير لا يجوز في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي رواية عنه أنه جوز ذلك وهو قولهما لان في هذا تخليص المسلم من عذاب المشركين والفتنة في الدين وذلك جائز كما تجوز المفاداة في أسارى المسلمين بمال من كراع أو سلاح أو غير ذلك وجه قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ان قتل المشركين فرض محكم فلا يجوز تركه بالمفاداة وهذا لانه إذ ابتلى الاسير المسلم بعذاب أو فتنة من جهتهم فذلك لا يكون مضافا إلى فعل المسلم وإذا خلينا سبيل المشرك ليعود حربا لنا فذلك بفعل مضاف الينا فمراعاة هذا الجانب أولى وهذا لانا أمرنا ببذل النفوس والاموال لنتوصل إلى
[ 140 ] قتلهم فبعد التمكن من ذلك لا يجوز تركه للخوف على الاسير المسلم ولان أسيرهم صار من أهل دارنا بمنزلة الذمي فكما لا يجوز اعادة الذمي إليهم بطريق المفاداة بأسير المسلمين فكذلك بأسيرهم ويستوى ان طلب مفاداة أسير بأسير أو أسيرين بأسير منهم لان الظاهر انهم انما يطلبون ذلك لقوة قتال ذلك الاسير وفى المفاداة تقويتهم على قتال المسلمين وقد بينا أن ذلك ممتنع شرعا ثم قال أبو يوسف رحمه الله تعالى تجوز المفاداة بالاسير قبل القسمة ولايجوز بعد القسمة لان قبل القسمة لم يتقرر كونه من أهل دارنا حتى كان للامام أن يقتله وقد تقرر ذلك بعد القسمة حتى ليس للامام أن يقتله فكان بمنزلة الذى بعد القسمة وجعل قوله حتى تضع الحرب أوزارها كناية عن القسمة لان تحققه يكون عند ذلك ومحمد رحمه الله تعالى يجوز المفاداة بالاسير بعد القسمة لان المعني الذى لاجله جوزنا ذلك قبل القسمة الحاجة الي تخليص المسلم من عذابهم وهذا موجود بعد القسمة وحقهم في الاسترقاق ثابت قبل القسمة وقد صار بذلك من أهل دارنا ثم تجوز المفاداة به لهذه الحاجة فكذلك بعد القسمة وقال لو انفلتت إليهم دابة مسلم فأخذوها في دارهم ثم ظهر المسلمون عليها أخذها صاحبها قبل القسمة بغير شئ وبعد القسمة بالقيمة لانه لايد للدابة في نفسها فتحقق احراز المشركين اياها بالاخذ في دارهم بخلاف الآبق على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بيناه وان خرج رجل من المشركين بمال أصابه من المسلمين ليبيعه في دار الاسلام فلا سبيل المالك القديم عليه كما لو أسلم أو صار ذميا لانا أعطيناه الأمان فيما معه من المال وفى أخذ ذلك منه ترك الوفاء بالامان الا في العبد الآبق فان أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال يأخذه مولاه حيث ما وجده بغير شئ لانهم لم يملكوه وانما أعطيناه الامان فيما هو مملوك له وإذا أسر المشركون جارية لمسلم فأحرزوها ثم اشتراها منهم مسلم فعميت عندهم لم يكن لمولاها أن يأخذها الا بجميع الثمن في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى فيما أعلم لان الثمن يعطيه المالك القديم فداء وليس ببدل والفداء بمقابلة الاصل دون الوصف ألا ترى أن العبد الجاني إذا عمى عند مولاه واختار الفداء لزمه الفداء بجميع الدية ولان المولى إذا اختار الاخذ بالثمن يصير المشتري كالمأمور من جهته بالشراء له ولو كان أمره بذلك فعميت عنده لم يسقط عنه شئ من الثمن فهذا مثله وكذلك لو قطعت يدها فأخذ المشترى أرشها فان مولاها يأخذها دون الارش بجميع الثمن لان الارش دراهم ودنانير
[ 141 ] وهى لاتفدى فإذا كان حق المولى في الارش لا يثبت كان هذا في حقه وما لو سقطت اليد بآفة سواء فلا يسقط شئ من الفداء عن المولى بسلامة الارش للمشترى ألا ترى أن المشترى لو كان هو الذى قطع يدها أو فقأ عينها لم ينتقص شئ من الفداء باعتباره فكذلك إذا فعل ذلك غيره لان سلامة البدل كسلامة الاصل وبه يظهر الفرق بين هذا وبين الشفعة فان هناك لو هدم المشترى شيئا من البناء سقط عن الشفيع حصته من الثمن فكذا إذا فعله غيره يسلم للمشترى بدله وهذا لان ما يعطيه الشفيع بدل وما صار مقصودا من الاوصاف يكون له حصة من البدل كما لو فقأ البائع عين المبيعة قبل القبض وكذلك ان ولدت عند المشترى فاعتق المشتري الام أو الولد أخذ الباقي منهما بجميع الثمن وكذلك لو قتل الولد فاختار الاخذ فله ان يأخذ الامام بجميع الثمن لان الولد جزء من الاصل فاتلاف الولد كاتلاف جزء منها وإذا بقى الولد فبقاء الجزء في حكم الفداء كبقاء الاصل ولم يذكر الخلاف ههنا فيما إذا أتلف الام وبقى الولد وفى ذلك اختلاف بين أبي يوسف ومحمد وقد قررنا ذلك فيما أمليناه من شرح الجامع ولو ان رجلا باع أمة من رجل فلم يقبضها المشترى ولم ينقد الثمن حتى أسرها أهل الحرب فاشتراها منهم رجل لم يكن للمشترى عليها سبيل حتى يأخذها البائع لان قبل الاسر كان البائع أحق بها ليحبسها بالثمن فكذلك بعد الاسر هو أحق بأن يأخذها بالثمن ليعيد حقه في الحبس وإذا أخذها بالثمن كان للمشترى أن يأخذها بالثمنين جميعا الثمن الاول الذى اشتراها به والثاني الذى افتكها به لان قصده بما أدي من الفداء إحياء حقه وكان لا يتوصل إلى احياء حقه الا بذلك فلم يكن متبرعا فيما أدى وكل حر اسره أهل الحرب ثم اسلموا عليه فهو حر لانهم لم يملكوه بالاسر فكانوا ظالمين في حبسه فيؤمرون بعد الاسلام بتخلية سبيله وكذلك أم الولد والمدبر والمكاتب لان أهل الحرب لم يملكوهم لما ثبت فيهم من حق الحرية أو اليد المحترمة للمكاتب في نفسه ولهذا لا يملكون بالبيع فكذلك بالاسر ولو ان الحر أمر تاجرا في دراهم فاشتراه منهم كان للمشترى ان يرجع عليه بالثمن لانه أمره بأن يعطى مال نفسه في عمل يباشره له فيرجع عليه بذلك كما لو أمره بأن ينفق عليه أو على عياله والمكاتب كذلك لان أحق بكسبه وأمره بالفداء صحيح في كسبه كأمر الحر وأما المدبر وأم الولد فانه يرجع عليهما بالثمن إذا أعتقا لان كسبهما ملك مولاهما وأمرهما غير معتبر في حق المولى ولكنه معتبر في حقهما فيكون هذا بمنزلة
[ 142 ] كفالة أو اقرار منهما بمال فيؤخذان به بعد العتق وان اشتراهم بغير امرهم لم يملكهم لان البائع يكن مالكا لهم فكذلك المشترى لا يملكهم وبطل ماله لانه متبرع فيما فدى به غير مجبر على ذلك شرعا ولا مأمور به من جهة من حصلت له المنفعة فلا يرجع عليه بشئ كما لو انفق على عيال رجل بغير أمره ولو ان رجلا حرا أمر رجلا ان يشترى حرا من دار الحرب بعينه بمال سماه فاشتراه لم يكن له على الحر الذى اشتراه من ذلك شئ لانه لم يأمره بما فعل وكان للمأمور ان يرجع على الذى أمره ان كان ضمن له الثمن أو قال اشتره لي لانه استعمله وضمن له ما يؤدي من مال نفسه وان كان قال له اشتره لنفسه واحتسب فيه لم يرجع عليه بشئ لانه أشار عليه بما هو تبرع واحسان ولم يستعمله ولاضمن له شيئا والرجوع عليه بهذا الطريق يكون وإذا اشترى من المشركين عبدا كانوا أسروه من المسلمين فرهنه المشترى ثم جاء مولاه الاول لم يكن له عليه سبيل حتى يفتكه الراهن لان الراهن بعقد الرهن أوجب الحق للمرتهن في ماليته وصح ذلك منه بمصادفة تصرفه ملكه ولا يتمكن المولى من أخذه من المرتهن لانه ليس بمالك له ولامن الراهن قبل الفكاك لقصور يده عنه بحق المرتهن فان أراد ان يتطوع بأداء الدين ثم يعطى الراهن الثمن فذلك له لانه أوصل إلى المرتهن حقه وهو متطوع في الدين الذى أدى لانه متبرع بقضاء الدين عن الغير ولانه فادى ملك الغير وهذا بخلاف البائع فانه قبل التسليم هو بمنزلة المالك يدا وانما فادى حقا له يوضحه ان هناك لا طريق له في التواصل إلى احياء حقه الا بما أدى من الفداء فلا يجعل متبرعا فيه وههنا للمولى القديم طريق إلى ذلك بدون قضاء الدين وهو ان يصبر حتى يفتك الراهن فيأخذه حينئذ (قال) ولا يجبر الراهن على افتكاكه لان الاحياء لحق ثابت في العين في الحال ولاحق للمولى القديم في الاخذ ما لم يسقط حق المرتهن فلهذا لا يجبر على افتكاكه ولو كان أجره المشترى إجارة كان لمولاه أن يأخذه بالثمن ويبطل الاجارة فيما بقي لان الاجارة عقد ضعيف ينقض بالعذر ألا ترى انها تنقض بالرد بسبب فساد البيع والرد بالعيب بخلاف الرهن فكذلك تنقض بالرد على المالك القديم بالثمن بخلاف الرهن وإذا غلب قوم من أهل الحرب على قوم آخرين من أهل الحرب فاتخذوهم عبيد للملك ثم ان الملك وأهل أرضه أسلموا أو صاروا ذمة فأولئك المغلوبون عبيد له يصنع بهم ما شاء لما بينا أنهم نهبة فالمقهورون منهم صاروا مملوكين للقاهر باحرازه اياهم بمنعته لان قهره بالذين هم جنده
[ 143 ] يطيعونه كقهره بنفسه وأما جنده الذين غلب بهم فهم احرار لانه كان قاهرا بهم لا لهم فكانوا قبل الاسلام احرارا وبالاسلام تتأكد حريتهم ولا تبطل وان حضر الملك الموت فورث ماله بعض بنيه دون بعض أو جعل لكل واحد من بنيه موضعا معلوما فان كان صنع ذلك قبل أن يسلم أو يصير ذمة ثم أسلم ولده بعده فهو جائز على ما صنع لان الولد الذي ملكه أبوه صار قاهرا مالكا لما أعطاه ولو فعل ذلك بعد موت أبيه بقوته بنفسه أو أتباعه كان يتم ملكه فكذلك إذا فعله بقوة أبيه ومنعته وما كان هو مالكا له قبل الاسلام فبالاسلام يتأكد ملكه فيه وكذلك ان كان فعله وهو موادع للمسلمين جاز أيضا لان بالموادعة لا تخرج أمواله من أن تكون نهبة تملك بالقهر وانما يحرم علينا أخذه لمعنى الغدر وهذا لان بالموادعة لا يصير محرزا له فان داره لا تصير دار الاسلام فكان ما فعله بعد الموادعة من تخصيص بعض الاولاد بتمليك المال منه كالمفعول قبل الموادعة ولانه ما التزم أحكام الاسلام والمنع من إيثار بعض الاولاد على البعض من حكم الاسلام وان كان جعله لابنه فظهر عليه ابن آخر له بعده فقتله أو نفاه وغلب على ما في يده ثم أسلم كان للابن القاهر ما غلب عليه من ذلك لما بينا أنه بالقهر يصير متملكا عليه ذلك المال لبقائه على الاباحة بعد الموادعة في حق ما بينهم فان ذلك هذا الابن بعدما أسلم الابن المقهور أو صار ذمة غلبه على جميع ذلك أو أخرج منه أخاه فان صنعه وهو محارب فجميع ما غلبه عليه له ان أسلم أو صار ذمة لانه تم احرازه لمال المسلم أو الذمي فيملكه ويتأكد ملكه باسلامه وان صنعه وهو مسلم أو ذمى أمر برد ذلك عليه لانهم جميعا من أهل دار الاسلام فلا يملك بعضهم مال بعض بالقهر وان صنع وهو محارب ثم ظهر المسلمون على ذلك فان وجد الابن الاول قبل القسمة أخذه بغير شئ وان وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة وان اشتراه مسلم منهم وسعه ذلك وكان للاول أن يأخذه منه بالثمن ان شاء كما هو الحكم في أهل الحرب إذا أحرزوا مال المسلمين وان كان الابن القاهر صنع ذلك وهما مسلمان أو ذميان فلا ينبغي للمسلمين ان يشتروا منه شيئا من ذلك لانه غاصب غير مالك وهو مأمور بالرد ولا يسع أحد أن يشترى منه شيئا من ذلك وان اشتراه أخذه منه الاول بغير ثمن لان البائع لم يكن مالكا فكذلك المشترى منه لا يكون مالكا بل يؤمر برده على المالك مجانا وان ارتد هذا الابن القاهر بعد ذلك ومنع الدار وأجرى حكم الشرك في داره فقد تم إحرازه وصارت داره
[ 144 ] دار حرب عندهما باجراء أحكام الشرك فيها وعند أبى حنيفة رضى الله عنه بالشرائط الثلاثة كما بينا فان ظهر المسلمون على تلك الدار بعد ذلك أخذ الابن المقهور ما وجد من ماله قبل القسمة بغير شئ وما وجده بعد القسمة بالقيمة لانه مال مسلم احرزه أهل الحرب بدارهم ثم ظهر المسلمون عليه وقد بينا الحكم فيه فيما سبق والله أعلم انتهى شرح السير الصغير المشتمل على معني اثير باملاء المتكلم بالحق المنير المحصور لاجله شبه الاسير المنتظر للفرج من العالم القدير السميع البصير المصلى على البشير الشفيع لامته النذير وعلى كل صاحب له ووزير والله هو اللطيف الخبير
[ 145 ] بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب الاستحسان) (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد الاستاذ شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى كان شيخنا الامام يقول الاستحسان ترك القياس والاخذ بما هو أوفق للناس وقيل الاستحسان طلب السهولة في الاحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام وقيل الاخذ بالسعة وابتغاء الدعة وقيل الاخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال ﷺ خير دينكم اليسر وقال لعلى ومعاذ رضى الله تعالى عنهما حين وجههما إلى اليمن يسرا ولا تعسرا قربا ولا تنفرا وقال ﷺ الا أن هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق ؟ ولا تبغضوا عبادة الله فان المنبت ؟ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى القياس والاستحسان في الحقيقة قياسان احدهما جلى ضعيف أثره فسمى قياسا والآخر خفي قوى اثره فسمى استحسانا أي قياسا مستحسنا فالترجيح بالاثر لا بالخفاء والظهور كالدنيا مع العقبى فان الدنيا ظاهرة والعقبي باطنة وترجحت بالصفاء والخلود وقد يقوى أثر القياس في بعض الفصول فيؤخذ به وهو نظير الاستدلال مع الطرد فانه صحيح والاستدلال بالمؤثر أقوي منه والاصل فيه قوله تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه والقرآن كله حسن ثم أمر باتباع الاحسن وبيان هذا ان المرأة من قرنها إلى قدمها عورة هو القياس الظاهر واليه أشار رسول الله ﷺ فقال المرأة عورة مستورة ثم أبيح النظر الي بعض المواضع منها للحاجة والضرورة فكان ذلك استحسانا لكونه أرفق بالناس كما قلنا والكرخي رحمه الله تعالى في كتابه ذكر مسائل هذا الكتاب وسماه كتاب الحظر والاباحة لما فيه من بيان ما يحل ويحرم من المس والنظر ولو سماه كتاب الزهد والورع كان مستقيما لان بين فيه غض البصر وما يحل ويحرم من المس والنظر وهذا
[ 146 ] هو الزهد والورع ثم بدأ الكتاب بمسائل النظر وهو ينقسم أربعة أقسام نظر الرجل إلى الرجل ونظر المرأة إلى المرأة والمرأة إلى الرجل والرجل إلى المرأة اما بيان القسم الاول فانه يجوز للرجل أن ينظر إلى الرجل الا إلى عورته وعورته مابين سرته حتى يجاوز ركبتيه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن وجده رضى الله عنهم ان النبي ﷺ قال عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته وفي رواية ما دون سرته حتى يجاوز ركبته وبهذا تبين ان السرة ليست من العورة بخلاف ما يقوله أبو عصمة سعد بن معاذ أنه أحد حدى العورة فيكون من العورة كالركبة بل هو أولى لانه في معنى الاشتهاء فوق الركبة (وحجتنا) في ذلك ماروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان إذا تزر أبدى عن سرته وقال أبو هريرة للحسن رضى الله عنهما أرنى الموضع الذى كان يقبله رسول الله ﷺ منك فابدي عن سرته فقبلها أبو هريرة رضى الله عنه والتعامل الظاهر فيما بين الناس انهم إذا اتزروا في الحمامات أبدوا عن السرة من غير نكير منكر دليل على انه ليس بعورة فأما ما دون السرة عورة في الرواية للحديث الذى روينا وكان أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى يقول إلى موضع نبات الشعر ليس من العورة أيضا لتعامل العمال في الابداء عن ذلك الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا بعيد لان التعامل بخلاف النص لا يعتبر وانما يعتبر فيما لانص فيه فأما الفخذ عورة عندنا وأصحاب الظواهر يقولون العورة من الرجل موضع السرة وأما الفخذ ليس بعورة لقوله تعالى بدت لهما سوآتهما والمراد منه العورة وفى الحديث ان النبي ﷺ كان في حائط رجل من الأنصار وقد دلى ركبته في ركية وهو مكشوف الفخذ إذ دخل أبو بكر رضى الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عمر رضى الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عثمان رضى الله عنه فتزحزح وغطى فخذه فقيل له في ذلك فقال الا أستحيى ممن تستحيى منه الملائكة فلو كان الفخذ من العورة لما كشفه بين يدى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما (وحجتنا) في ذلك ما روى ان النبي ﷺ مر برجل يقال له جرهد وهو يصلى مكشوف الفخذ فقال له عليه الصلاة والسلام وار فخذك اما علمت أن الفخذ عورة وحديث عمرو بن شعيب رضى الله عنه نص فيه فأما الحديث الذى رواه فقد ذكر في بعض الروايات أنه كان مكشوف الركبة ثم تأويله أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حين دخلا جلسا في موضع لم يقع بصرهما
[ 147 ] على الموضع الذى كان مكشوفا منه فلما دخل عثمان رضى الله عنه لم يبق الا موضع لو جلس فيه وقع بصره على ركبته فلهذا غطاه فأما الآية فالمراد بالسوأة العورة الغليظة وبه نقول ان العورة الغليظة هي السوأة ولكن حكم العورة ثبت فيما حول السوأتين باعتبار القرب من موضع العورة فيكون حكم العورة فيه أخف فأما الركبة فهي من العورة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليست من العورة لحديث أنس رضى الله عنه ما أبدى رسول الله ﷺ ركبته بين يدى جليس قط وانما قصد بهذا ذكر الشمائل فلو كانت الركبة من العورة لم يكن هذا من جملة الشمائل لان ستر العورة فرض ولانه حد العورة فلا يكون من العورة كالسرة وهذا لان الحد لايدخل في المحدود (وحجتنا) في ذلك حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال الركبة من العورة وما ذكر في حديث عمرو بن شعيب حتى تجاوز الركبة دليل على أن الركبة من العورة ولان الركبة ملتقي عظم الساق والفخذو عظم الفخذ عورة وعظم الساق ليس بعورة فقد اجتمع في الركبة المعنى الموجب لكونها عورة وكونها غير عورة فترجح الموجب لكونها عورة احتياطا قال ﷺ ما اجتمع الحلال والحرام في شئ الاغلب الحرام الحلال فأما حديث أنس رضى الله عنه فالمروى مامد رسول الله ﷺ رجليه بين يدى جليس قط وهذا من الشمائل وابداء الركبة على ما ذكر في بعض الروايات كناية عن هذا المعنى أيضا ثم حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ لتعارض المعنيين فيه ولهذا قلنا من رأى غيره مكشوف الركبة عليه برفق ولا ينازع عليه ان لج وان رآه مكشوف الفخذ أنكر عليه بعنف ولا يضربه ان لج وان رآه مكشوف العورة أمره بسترها وأدبه على ذلك ان لج وما يباح إليه النظر من الرجل فكذلك المس لان ما ليس بعورة يجوز مسه كما يجوز النظر إليه فأما نظر المرأة إلى المرأة فهو كنظر الرجل إلى الرجل باعتبار المجانسة ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها كما يغسل الرجل الرجل وقد قال بعض الناس نظر المرأة الي المرأة كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها النظر إلى ظهرها وبطنها لحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ نهى النساء من دخول الحمامات بمئزر وبغير مئزر وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول امنعوا النساء من دخول الحمامات الا مريضة أو نفساء ولتدخل مستترة ولكنا نقول المراد منع النساء من الخروج وبالقرار في البيوت وبه نقول والعرف الظاهر
[ 148 ] في جميع البلدان ببناء الحمامات للنساء وتمكينهن من دخول الحمامات دليل على صحة ما قلنا وحاجة النساء إلى دخول الحمامات فوق حاجة الرجال لان المقصود تحصيل الزينة والمرأة إلى هذا أحوج من الرجل ويتمكن الرجل من الاغتسال في الانهار والحياض والمرأة لا تتمكن من ذلك فأما نظر المرأة إلى الرجل فهو كنظر الرجل إلى الرجل لما بينا أن السرة وما فوقها وما تحت الركبة ليس بعورة من الرجل وما لا يكون عورة فالنظر إليه مباح للرجال والنساء كالثياب وغيرها وأشار في كتاب الخنثى إلى أن نظر المرأة إلى الرجل كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها أن تنظر إلى ظهره وبطنه لانه قال الخنثى ألا ينكشف بين الرجال ولابين النساء ووجه ذلك أن حكم النظر عند اختلاف الجنس غلظ ألا ترى أنه لا يباح للمرأة أن تغسل الرجل بعد موته ولو كانت هي في النظر كالرجل لجاز لها ان تغسله بعد موته وانما يباح النظر إلى هذه المواضع إذا علم أنه لايشتهي ان نظر ولا يشك في ذلك فأما إذا كان يعلم أنه يشتهى أو كان على ذلك أكبر رأيه فلا يحل له النظر لان النظر عن شهوة نوع زنا قال ﷺ العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشى والفرج يصدق ذلك كله أو يكذب والزنا حرام بجميع أنواعه وقال ﷺ النظر عن شهوة سهم من سهام الشيطان فاما نظر الرجل إلى المرأة فهو ينقسم إلى أربعة أقسام نظره إلى زوجته ومملوكته ونظره إلى ذوات محارمه ونظره إلى اماء الغير ونظره إلى الحرة الاجنبية فاما نظره إلى زوجته ومملوكته فهو حلال من قرنها إلى قدمها عن شهوة أو عن غير شهوة لحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال غض بصرك الاعن زوجتك وأمتك وقالت عائشة رضي الله عنها كنت اغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد وكنت أقول بق لى وهو يقول بقي لى ولو لم يكن النظر مباحا ما تجرد كل واحد منهما بين يدي صاحبه ولان ما فوق النظر وهو المس والغشيان حلال بينهما قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون الاعلى أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم الآية الا أن مع هذا الاولي أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت من رسول الله ﷺ ولا رأي منى مع طول صحبتي اياه وقال ﷺ إذا اتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجرد ان تجرد العير ولان النظر إلى العورة يورث النسيان وفى شمائل الصديق
[ 149 ] رضى الله عنه ما نظر إلى عورته قط ولامسها بيمينه فإذا كان هذا في عورة نفسه فما ظنك في عورة الغير وكان ابن عمر رضى الله تعالى عنهما يقول الاولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معني اللذة فاما نظره إلى ذوات محارمه فنقول يباح له أن ينظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة لقوله تعالى ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن الآية ولم يردبه عين الزينة فانها تباع في الاسواق ويراها الاجانب ولكن المراد منه موضع الزينة وهى الرأس والشعر والعنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه فالرأس موضع التاج والا كليل والشعر موضع القصاص والعنق موضع القلادة والصدر كذلك فالقلادة والوشاح قد ينتهي إلى الصدر والاذن موضع القرط والعضد موضع الدملوج والساعد موضع السوار والكف موضع الخاتم والخضاب والساق موضع الخلخال والقدم موضع الخضاب وجاء في الحديث ان الحسن والحسين رضى الله عنهما دخلا على أم كلثوم وهي تمتشط فلم تستتر ولان المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها عادة ولا تكون مستترة فلو أمرها بالتستر من ذوى محارمها أدى إلى الحرج وكما يباح النظر إلى هذه المواضع يباح المس لما روى ان النبي ﷺ كان يقبل فاطمة رضي الله عنها ويقول أجد منها ريح الجنة وكان إذا قدم من سفر بدأ بها فعانقها وقبل رأسها وقبل أبو بكر رأس عائشة رضي الله عنهما وقال ﷺ من قبل رجل أمه فكانما قبل عتبة الجنة وقال محمد بن المنكدر رحمه الله بت أغمز رجل أمي وبات أخى أبو بكر يصلى وما أحب ان تكون ليلتي بليلته ولكن انما يباح المس والنظر إذا كان يأمن الشهوة على نفسه وعليها فأما إذا كان يخاف الشهوة على نفسه أو عليها فلا يحل له ذلك لما بينا ان النظر عن شهوة والمس عن شهوة نوع زنا وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ وكما لا يحل له ان يعرض نفسه للحرام لا يحل له ان يعرضها للحرام فإذا كان يخاف عليها فليجتنب ذلك ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها ولا ان يمس ذلك منها وقال الشافعي رحمه الله في القديم لا بأس بذلك وجعل حالهما كحال الجنس في النظر وهذا ليس بصحيح فان حكم الظهار ثابت بالنص وصورته ان يقول الرجل لامرأته أنت على كظهر أمي وهو منكر من القول لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة فلو كان النظر إلى ظهر الام حلالا له لكان هذا تشبيه محللة بمحللة وإذا ثبت هذا في الظهر يثبت في البطن لانه أقرب إلى المأتى وإلى ان يكون مشتهى منها والجنبان كذلك
[ 150 ] وذوات المحارم بالنسب كالامهات والجدات والاخوات وبنات الاخ وبنات الاخت وكل امرأة هي محرمة عليه بالقرابة على التأبيد فهذا الحكم ثابت في حقها وكذلك المحرمة بالرضاع لقوله ﷺ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ولحديث عائشة رضى الله عنها أنها قالت يارسول الله ان أفلح بن أبى قعيس يدخل على وأنا في ثياب فضل فقال ليلج عليك أفلح فانه عمك من الرضاعة وان عبد الله بن الزبير كان يدخل على زينب بنت أم سلمة وهي تمتشط فيأخذ بقرون رأسها ويقول اقبلي علي وكانت أخته من الرضاعة ولان الرضاع لما جعل كالنسب في حكم الحرمة فكذلك في حل المس والنظر وكذلك المحرمة بالمصاهرة لان الله تعالى سوى بينهما بقوله فجعله نسبا وصهرا الا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى يختلفون فيما إذا كان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا فقال بعضهم لا يثبت به حل المس والنظر لان ثبوت الحرمة بطريق العقوبة على الزانى لا بطريق النعمة ولانه قد جرب مرة فظهرت خيانته فلا يؤمن ثانيا والاصح أنه لا بأس بذلك لانها محرمة عليه التأبيد فلا بأس بالنظر إلى محاسنها كما لو كان ثبوت حرمة المصاهرة بالنكاح ولايجوز أن يقال ثبوت الحرمة بطريق العقوبة هناك لانا انما نثبت الحرمة هناك بالقياس على النكاح فإذا جعلناها بطريق العقوبة لم تكن تلك الحرمة واثبات الحرمة ابتداء بالرأى لا يجوز ثم يحل له أن يخلو بهؤلاء وأن يسافر بهن لقوله صلي الله عليه وسلم ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فان ثالثهما الشيطان معناه ليست بمحرم له فدل أنه يباح له أن يخلو بذوات محارمه ولكن بشرط أن يأمن على نفسه وعليها لما روي عن عمار بن ياسر رضى الله عنه أنه خرج من بيته مذعورا فسئل عن ذلك فقال خلوت بابنتي فخشيت على نفسي فخرجت وكذلك المسافرة لقوله ﷺ لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها الا ومعها زوجها أوذو رحم محرم منها فدل أنه لا بأس بأن تسافر مع المحرم وان احتاج إلى أن يعالجها في الا ركاب والانزال فلا بأس يمسها وراء ثيابها ويأخذ بظهرها وبطنها لما روي أن محمد ابن أبي بكر رضي الله عنهما أدخل يده في هو دج عائشة رضى الله عنها ليأخذها من الهودج فوقعت يده على صدرها فقالت من الذى وضع يده على لم يضعه أحد الا رسول الله ﷺ فقال أنا أخوك وروى أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال ان أمي كانت سيئة الخلق فغضب وقال أكانت سيئة الخلق حين
[ 151 ] حملتك أكانت سيئة الخلق حين أرضعتك حولين الحديث إلى أن قال الرجل أرأيت لو حملتها على عاتقي وحججت بها أكنت قاضيا حقها فقال لا ولا طلقة ورأى ابن عمر رضى الله عنه في موضع الطواف رجلا قد حمل أمه على عاتقه يطوف بها فلما رأى ابن عمر رضى الله عنهما ارتجز فقال انا لها بعيرها المذلل * إذا الركاب ذعرت لم اذعر حملتها ما حملتني أكثر * فهل ترى جازيتها يابن عمر فقال لا ولاطلقة يالكع ولان بسبب الستر ينعدم معنى العورة وبالمحرمية ينعدم معنى الشهوة فلا بأس يحملها ومسها في الا ركاب والانزال كما في حق الجنس وأما النظر إلى اماء الغير والمدبرات وامهات الاولاد والمكاتبات فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالي يدنين عليهن من جلا بيبهن الآية وقد كانت الممازحة مع اماء الغير عادة في العرب فأمر الله تعالى الحرائر باتخاذ الجلباب ليعرفن به من الاماء فدل أن الاماء لا تتخذ الجلباب وكان عمر رضى الله عنه إذا رأي أمة متقنعة علاها بالدرة وقال القي عنك الخمار يا دفار وقال عمر رضى الله عنه ان الامة القت قرونها من وراء الجدار أي لا تتقنع قال أنس رضى الله عنه كن جواري عمر رضى الله عنه يخد من الضيفان كاشفات الرؤس مضطربات البدن ولان الامة تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها وانما تخرج في ثياب مهنتها وحالها مع جميع الرجال في معنى البلوى بالنظر والمس كحال الرجل في ذوات محارمه ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها كما في حق ذوات المحارم وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول لا ينظر إلى مابين سرتها إلى ركبتها ولا بأس بالنظر إلى ما وراء ذلك لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما في حديث طويل قال ومن أراد أن يشترى جارية فلينظرها إليها الا إلى موضع المئزر ولكن تأويل هذا الحديث عندنا ان المرأة قد تتزر على الصدر فهو مراد ابن عباس رضي الله عنه وكل ما يباح النظر إليه منها يباح مسه منها إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لما روي عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه مر بجارية تباع فضرب في صدرها ومس ذراعها ثم قال اشتروا فانها رخيصة فهذا ونحوه لا بأس به لمن يريد الشراء أو لا يريد وهذا لانه بمنزلة ذوات المحارم في حكم المس ولانه كما يحتاج إلى النظر يحتاج إلى المس ليعرف لين بشرتها فيرغب في شرائها وتحل الخلوة والمسافرة بينهما كما في ذوات المحارم الا أن عند بعض مشايخنا
[ 152 ] رحمهم الله تعالى ليس له أن يعالجها في الا ركاب والانزال لان معني العورة وان انعدم بالستر فمعنى الشهوة باق فيها فانها ممن يحل له والاصح أنه لا بأس بذلك إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لان المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرما ليسافر معها وهي تحتاج إلى من يركبها وينزلها فلا بأس بذلك وكذلك لا بأس بأن يخلو بها كالمحارم ألا ترى ان جارية المرأة قد تغمز رجل زوجها وتخلو به ولا يمتنع أحد من ذلك والمدبرة وأم الولد والمكاتبة في هذا كالامة القنة لقيام الرق فيهن والمستسعاة في بعض القيمة كذلك عند أبى حنيفة رحمه الله تعالي لانها بمنزلة المكاتب وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا بلغت الامة لم ينبغ ان تعرض في ازار واحد قال محمد وكذلك إذا بلغت ان تجامع وتشتهي لان الظهر والبطن منها عورة لمعني الاشتهاء فإذا صارت مشتهاة كانت كالبالغة لا تعرض في ازار واحد فاما النظر إلى الاجنبيات فنقول يباح النظر إلى موضع الزينة الظاهرة منهن دون الباطنة لقوله تعالى ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها وقال على وابن عباس رضى الله عنهم ما ظهر منها الكحل والخاتم وقالت عائشة رضى الله عنها احدى عينيها وقال ابن مسعود رضى الله عنه خفها وملاءتها واستدل في ذلك بقوله ﷺ النساء حبائل الشيطان بهن يصيد الرجال وقال ﷺ ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء وجرى في مجلسه ﷺ يوم ماخير ما للرجال من النساء وما خير ما للنساء من الرجال فلما رجع على رضي الله عنه إلى بيته أخبر فاطمة رضى الله عنها بذلك فقالت خير ما للرجال من النساء أن لا يراهن وخير ما للنساء من الرجال أن لايرينهن فلما أخبر رسول الله ﷺ بذلك قال هي بضعة منى فدل أنه لا يباح النظر إلى شئ من بدنها ولان حرمة النظر لخوف الفتنة وعامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الاعضاء وبنحو هذا تستدل عائشة رضي الله تعالى عنها ولكنها تقول هي لاتجد بدا من أن تمشى في الطريق فلابد من أن تفتح عينها لتبصر الطريق فيجوز لها أن تكشف احدى عينيها لهذه الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ولكنا نأخذ بقول على وابن عباس رضى الله تعالى عنهما فقد جاءت الاخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها وكفها من ذلك ماروي أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله ﷺ فنظر إلى وجهها فلم ير فيها رغبة ولما قال عمر رضى الله عنه في خطبته ألا لاتغالوا في أصدقة
[ 153 ] النساء فقالت امرأة سفعاء الخدين أنت تقوله برأيك أم سمعته من رسول الله صلي الله عليه وسلم فانا نجد في كتاب الله تعالى بخلاف ما تقول قال الله تعالى وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فبقى عمر رضى الله عنه باهتا وقال كل الناس أفقه من عمر حتي النساء في البيوت فذكر الراوي أنها كانت سفعاء الخدين وفى هذا بيان أنها كانت مسفرة عن وجهها ورأى رسول الله ﷺ كف امرأة غير مخضوب فقال أكف رجل هذا ولما ناولت فاطمة رضى الله عنها أحد ولديها بلالا أو انسا رضى الله عنهم قال أنس رأيت كفها كأنه فلقة قمر فدل انه لا بأس بالنظر إلى الوجه والكف فالوجه موضع الكحل والكف موضع الخاتم والخضاب وهو معنى قوله تعالى الا ما ظهر منها وخوف الفتنة قد يكون بالنظر إلى ثيابها أيضا قال القائل وما غرني الاخضاب بكفها * وكحل بعينيها وأثوابها الصفر ثم لاشك انه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفها وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة انه يباح النظر إلى قدمها أيضا وهكذا ذكر الطحاوي لانها كما تبتلى بابداء وجهها في المعاملة مع الرجال وبابداء كفها في الاخذ والاعطاء تبتلى بابداء قدميها إذا مشت حافية أو متنعلة وربما لاتجد الخف في كل وقت وذكر في جامع البرامكة عن أبى يوسف انه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا لانها في الخبز وغسل الثياب تبتلى بابداء ذراعيها أيضا قيل وكذلك يباح النظر إلى ثناياها أيضا لان ذلك يبدو منها في التحدث مع الرجال وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة فان كان يعلم انه ان نظر اشتهي لم يحل له النظر إلى شئ منها لقوله ﷺ من نظر إلى محاسن أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة وقال لعلي رضى الله عنه لاتتبع النظرة بعد النظرة فان الاولى لك والاخرى عليك يعنى بالاخرى ان يقصدها عن شهوة وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال انى نظرت إلى امرأة فاشتهيتها فاتبعتها بصرى فأصاب رأسي جدار فقال ﷺ إذا أراد الله بعبد خيرا عجل عقوبته في الدنيا وكذلك ان كان أكبر رأيه أنه ان نظر اشتهي لان أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين وذلك فيما هو مبني على الاحتياط وكذلك لا يباح لها أن تنظر إليه إذا كانت تشتهى أو كان على ذلك أكبر رأيها لما روى أن ابن أم مكتوم استأذن على رسول الله ﷺ وعنده عائشة
[ 154 ] وحفصة رضي الله عنهما فقال لهما احتجبا فقالتا انه أعمى يارسول الله فقال أو اعميان انتما ولا يحل له أن يمس وجهها ولاكفها وان كان يأمن الشهوة لقوله ﷺ من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع في كفه جمرة يوم القيامة حتى يفصل بين الخلائق ولان حكم المس أغلظ حتى ان المس عن شهوة يثبت حرمة المصاهرة والنظر إلى غير الفرج لا يثبت والصوم يفسد بالمس عن شهوة إذا اتصل به الانزال ولا يفسد بالنظر فالرخصة في النظر لا يكون دليل الرخصة في المس والبلوى التى تتحقق في النظر تتحقق في المس أيضا وعلى هذا نقول للمرأة الحرة أن تنظر إلى ما سوى العورة من الرجل ولا يحل لها أن تمس ذلك منه لان حكم المس أغلظ وهذا إذا كانت شابة تشتهى فإذا كانت عجوزا لا تشتهي فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لما روى ان النبي ﷺ كان يصافح العجائز في البيعة ولا يصافع الشواب ولكن كان يضع يده في قصعة ماء ثم تضع المرأة يدها فيها فذلك بيعتها الا أن عائشة رضى الله عنها أنكرت هذا الحديث وقالت من زعم أن رسول الله ﷺ مس امرأة أجنبية فقد أعظم الفرية عليه وروى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التى كان مسترضعا فيها فكان يصافح العجائز ولما مرض الزبير رضى الله عنه بمكة استأجر عجوزا لتمرضه فكانت تغمز رجليه وتفلى رأسه ولان الحرمة لخوف الفتنة فإذا كانت ممن لا تشتهي فخوف الفتنة معدوم وكذلك ان كان هو شيخا يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها وان كان لا يأمن عليها أن تشتهى لم يحل له أن يصافحها فيعرضها للفتنة كما لا يحل له ذلك إذا خاف على نفسه فأما النظر إليها عن شهوة لا يحل بحال الا عند الضرورة وهو ما إذا دعى إلى الشهادة عليها أو كان حاكما ينظر ليوجه الحكم عليها باقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها لانه لا يجد بدا من النظر في هذا الموضع والضرورات تبيح المحظورات ولكن عند النظر ينبغى أن يقصد أداء الشهادة أو الحكم عليها ولا يقصد قضاء الشهوة لانه لو قدر على التحرز فعلا كان عليه أن يتحرز فكذلك عليه أن يتحرز بالنية إذا عجز عن التحرز فعلا كما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وان كان يعلم أنه يصيب المسلم واختلفوا فيما إذا دعى إلى تحمل الشهادة وهو يعلم أنه ان نظر إليها اشتهى فمنهم من جوز له ذلك أيضا بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لاقضاء الشهوة ألا ترى أن شهود الزنا لهم أن ينظروا إلى موضع العورة على قصد
[ 155 ] تحمل الشهادة والاصح أنه لا يحل له ذلك لانه لاضرورة عند التحمل فقد يوجد من يتحمل الشهادة ولا تشتهى بخلاف حالة الاداء فقد التزم هذه الامانة بالتحمل وهو متعين لادائها وكذلك ان كان أراد أن يتزوجها فلا بأس بأن ينظر إليها وان كان يعلم أنه يشتهيها لما روى أن النبي ﷺ قال للمغيرة بن شعبة لما أراد أن يتزوج امرأة أبصرها فانه أحري أن يؤدم بينكما وكان محمد بن أم سلمة يطالع بنية تحت اجار لها فقيل له أتفعل ذلك وأنت صاحب رسول الله ﷺ فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا ألقى الله خطبة امرأة في قلب رجل أحل له النظر إليها ولان مقصوده اقامة السنة لاقضاء الشهودة وانما يعتبر ما هو المقصود لا ما يكون تبعا وان كان عليها ثياب فلا بأس بتأمل جسدها لان نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها فهو كما لو كانت في بيت فلا بأس بالنظر إلى حدرانه والاصل فيه ماروى أن النبي ﷺ رأي امرأة عليها شارة حسنة فدخل بيته ثم خرج وعليه أثر الاغتسال فقال إذا هاجت بأحدكم الشهوة فليضعها فيما أحل الله له وهذا إذا لم تكن ثيابها بحيث تلصق في جسدها وتصفها حتى يستبين جسدها فان كان كذلك فينبغي له ان يغض بصره عنها لما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه انه قال لا تلبسوا نساءكم الكتان ولا القباطي فانها تصف ولا تشف وكذلك ان كانت ثيابها رقيقة لما روى عن النبي ﷺ انه قال لعن الله الكاسيات العاريات يعني الكاسيات الثياب الرقاق اللاتى كانهن عاريات وقال ﷺ صنفان من أمتى في النار رجال بأيديهم السياط كأنها أذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات متمايلات كأسنمة البخت ولان مثل هذا الثوب لا يسترها فهو كشبكة عليها فلا يحل له النظر إليها وهذا فيما إذا كانت في حد الشهوة فان كانت صغيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها لانه ليس لبدنها حكم العورة ولافى النظر والمس معنى خوف الفتنة والاصل فيه ماروى ان النبي ﷺ كان ؟ ؟ ؟ ؟ رب الحسن والحسين رضى الله تعالى عنهما وهما صغيران وروى انه كان يأخذ ذلك من أحدهما فيجره والصبي يضحك ولان العادة الظاهرة ترك التكلف لستر عورتها قبل ان تبلغ حد الشهوة وأما النظر إلى العورة حرام لما روى عن سلمان رضى الله عنه قال لان أخر من السماء فانقطع نصفين أحب لي من أن أنظر إلى عورة أحد أو ينظر أحد إلى عورتى ولما ذكر رسول الله صلي الله عليه وسلم الوعيد
[ 156 ] في كشف العورة قيل يارسول الله فإذا كان أحدنا خاليا فقال ان الله أحق أن يستحيى منه وخرج رسول الله ﷺ إلى إبل الصدقة فرأى راعيها تجرد في الشمس فعزله وقال لا يعمل لنا من لاحياء له ولكن مع هذا إذا جاء العذر فلا بأس بالنظر إلى العورة لاجل الضرورة فمن ذلك ان الخاتن ينظر ذلك الموضع والخافضة كذلك تنظر لان الختان سنة وهو من جملة الفطرة في حق الرجال لا يمكن تركه وهو مكرمة في حق النساء أيضا ومن ذلك عند الولادة المرأة تنظر إلى موضع الفرج وغيره من المرأة لانه لابد من قابلة تقبل الولد وبدونها يخاف على الولد وقد جوز رسول الله ﷺ شهادة القابلة على الولادة فذاك دليل على أنه يباح لها النظر وكذلك ينظر الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة اما عند المرض فلان الضرورة قد تحققت والاحتقان من المداواة وقال ﷺ تداووا عباد الله فان الله لم يخلق داء الا وخلق له دواء الا الهرم وقد روي عن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا كان به هزال فاحش وقيل له أن الحقنة تزيل ما بك من الهزال فلا بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن وهذا صحيح فان الهزال الفاحش نوع مرض يكون آخره الدق والسل وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى قال إذا قيل له ان الحقنة تقويك على المجامعة فلا بأس بذلك أيضا ولكن هذا ضعيف لان الضرورة لاتتحقق بهذا وكشف العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز وإذا أصاب امرأة قرحة في موضع لا يحل للرجل ان ينظر إليه لا ينظر إليه ولكن يعلم امرأة دواءها لتداويها لان نظر الجنس الي الجنس أخف ألاتري ان المرأة تغسل المرأة بعد موتها دون الرجل وكذلك في امرأة العنين ينظر إليها النساء فان قلن هي بكر فرق القاضي بينهما وان قلن هي ثيب فالقول قول الزوج مع يمينه والمقصود في هذا الموضع بيان اباحة النظر عند الضرورة فاما ما وراء ذلك من الفرق بين الاخبار ببكارتها وثيابتها ليس من مسائل هذا الكتاب وحاصله ان شهادتهن متى تايدت بمؤيد كانت حجة والبكارة في النساء أصل فإذا قلن انها بكر تأيدت شهادتهن بما هو الاصل وان قلن هي ثيب تجردت شهادتهن عن مؤبد فلا بد من أن يستحلف الزوج حتى ينضم نكوله إلى شهادتهن وكذلك لو اشترى جارية على أنها بكر فقبضها وقال وجدتها ثيبا فان النساء ينظرن إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما فان قلن هي بكر فلا يمين على البائع لان شهادتهن قد تأيدت باصل البكارة وبمقتضى البيع وهو اللزوم وان قلن هي ثيب
[ 157 ] يستحلف البائع لتجرد شهادتهن عن مؤبد ؟ فإذا انضم نكول البائع إلى شهادتهن ردت عليه وان لم يجدوا امرأة تداوى تلك القرحة ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك إذا علمت وخافوا أن تهلك أو يصيبها بلاء أو وجع لا تحتمله فلا بأس ان يستروا منها كل شئ الا موضع تلك القرحة ثم يداويها رجل ويغض بصره ما استطاع الا عن ذلك الموضع لان نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ فيعتبر فيه تحقق الضرورة وذلك لخوف الهلاك عليها وعند ذلك لا يباح الا بقدر ما ترتفع الضرورة به وذوات المحارم وغيرهم في هذا سواء لان النظر إلى موضع العورة لا يحل بسبب المحرمية فكان المحرم وغير المحرم فيه سواء (قال) والعبد فيما ينظر من سيدته كالحر الأجنبي معناه أنه لا يحل له أن ينظر الا إلى وجهها وكفيها عندنا وقال مالك نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمة لقوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن ولا يجوز أن يحمل ذلك على الاماء لان ذلك دخل في قوله تعالى أو نسائهن ولان هذا مما لا يشكل لان للامة أن تنظر إلى مولاتها كما للاجنبيات فانما بحمل البيان على موضع الاشكال وعن أم سلمة انه كان لها مكاتب فلما انتهى إلى آخر النجوم قالت له أتقدر على الاداء فقال نعم فاحتجبت وقالت سمعت رسول الله ﷺ ؟ ؟ ؟ ؟ إذا كان لاحداكن مكاتب فأدى آخر النجوم فلتحتجب منه والمعنى فيه أن بينهما سبب محرم للنكاح ابتداء وبقاء فكان بمنزلة المحرمية بينهما واباحة النظر عند المحرمية لاجل الحاجة وهو دخول البعض على البعض من غير استئذان ولا حشمة وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولا به ؟ (حجتنا) في ذلك ماروى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رضى الله عنهما قالا لا يغرنكم سورة النور فانها في الاناث دون الذكور ومرادهما قوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن والموضع موضع الاشكال لان حال الامة يقرب من حال الرجل حتى تسافر بغير محرم فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدى أمتها ولم يزل هذا الاشكال بقوله تعالى أو نسائهن لان مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الاماء والمعني فيه أنه ليس بينهما زوجية ولا محرمية وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة ينبني على هذا السبب وحرمة المناكحة التى بينهما بعارض على شرف الزوال فكانت في حقه بمنزلة منكوحة الغير أو معتدته ولان وجوب الستر عليها وحرمة الخلوة بالرجل لمعنى خوف الفتنة وذلك موجود ههنا وانما ينعدم بالمحرمية لان الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة فأما الملك لا يقلل الشهوة بل يحملها
[ 158 ] على رفع الحشمة ومعنى البلوى لا يتحقق لان اتخاذ العبيد للاستخدام خارج البيت لا داخل البيت على ما قيل من اتخذ عبدا للخدمة داخل بيته فهو كشحان وحديث أم سلمة رضى الله عنها محمول على الاحتجاب لمعنى زوال الحاجة فان قبل ذلك تحتاج إلى المعاملة معه بالاخذ والاعطاء فتبدى وجهها وكفها له وقد زال ذلك بالاداء فلتحتجب منه ثم قال خصيا أو فحلا هكذا نقل عن عائشة رضى الله عنها قالت الخصا مثلة فلا يبيح ماكان محرما قبله ولان الخصى في الاحكام من الشهادات والمواريث كالفحل وقطع تلك الآلة منه كقطع عضو آخر ومعنى الفتنة لا ينعدم فالخصي قد يجامع وقد قيل هو أشد الناس جماعا فانه لاتفتر آلته بالانزال وكذلك المجبوب لانه قد يستحق فينزل وان كان مجبوبا قد جف ماؤه فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء لوقوع الامن من الفتنة والاصح انه لا يحل له ذلك ومن رخص فيه تأويل قوله تعالى أو التابعين غير أولى الاربة من الرجال وبين أهل التفسير كلام في معني هذا فقيل هو المجبوب الذى جف ماؤه وقيل هو المخنث الذى لا يشتهى النساء والكلام في المخنث عندنا انه إذا كان مخنثا في الردى من الافعال فهو كغيره من الرجال بل من الفساق ينحى عن النساء واما من كان في اعضائه لين وفى لسانه تكسر باصل الخلقة ولا يشتهي النساء ولايكون مخنثا في الردى من الافعال فقد رخص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روى ان مخنثا كان يدخل بعض بيوت رسول الله ﷺ حتى سمع منه رسول الله ﷺ كلمة فاحشة قال لعمر بن أبي سلمة لئن فتح الله الطائف على رسوله لادلنك على ماوية بنت غيلان فانها تقبل فانها تقبل باربع وتدبر بثمان فقال ﷺ ماكنت أعلم أنه يعرف مثل هذا إخرجوه وقيل المراد بقوله تعالى أو التابعين الابله الذى لا يدرى مايصنع بالنساء انما همه بطنه وفى هذا كلام عندنا فقيل إذا كان شابا ينحى عن النساء وانما كان ذلك إذا كان شيخا كبيرا قد ماتت شهوته فحينئذ يرخص في ذلك والاصح أن نقول قوله تعالى أو التابعين من المتشابه وقوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا محكم فنأخذ بالمحكم فنقول كل من كان من الرجال فلا يحل لها أن تبدى موضع الزينة الباطنة بين يديه ولا يحل له أن ينظر إليها الا أن يكون صغيرا فحينئذ لا بأس بذلك لقوله تعالى أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء فأما جماع الحائض في الفرج حرام بالنص يكفر مستحله ويفسق مباشره لقوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض وفى قوله تعالى ولا
[ 159 ] تقربوهن حتى يطهرهن دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر وقال ﷺ من أتى امرأة في غير مأتاها أو أتاها في حالة الحيض أو أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد ﷺ ولكن لا يلزمه بالوطئ سوى التوبة والاستغفار ومن العلماء من يقول ان وطئها في أول الحيض فعليه ان يتصدق بدينار وان وطئها في آخر الحيض فعليه ان يتصدق بنصف دينار وروي فيه حديثا شاذا ولكن الكفارة لا يثبت بمثله (وحجتنا) في ذلك ماروى ان رجلا جاء إلى الصديق رضى الله عنه وقال انى رأيت في المنام كأني أبول دما فقال أتصدقنى قال نعم قال انك تأتى امرأتك في حالة الحيض فاعترف بذلك فقال أبو بكر رضى الله عنه استغفر الله ولا تعد ولم يلزمه الكفارة واختلفوا فيما سوى الجماع فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى له ان يستمتع بما فوق المئزر وليس له ما تحته وقال محمد رحمه الله تعالى يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وهو رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى وذكر الطحاوي قول أبى يوسف مع أبي حنيفة رحمهم الله تعالى وذكره الكرخي مع محمد رحمهما الله تعالى وجه الاستدلال بقوله تعالى قل هو أذى ففيه بيان ان الحرمة لمعني استعمال الاذى وذلك في محل مخصوص وروي ذلك في الكتاب عن الصلت بن دينار عن معاوية بن قرة رضى الله عنهم قال سألت عائشة رضى الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض قالت يتجنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وفى حديث آخر عن عائشة رضى الله عنها قالت يحل للرجل من امرأته الحائض كل شئ الا النكاح يعني الجماع والمعنى فيه ان ملك الحل باق في زمان الحيض وحرمة الفعل لمعني استعمال الاذى فكل فعل لا يكون فيه استعمال الاذى فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض وقاسه بالاستمتاع فوق المئزر وحجة أبى حنيفة رحمه الله قوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض فظاهره يقتضى تحريم الاستمتاع بكل عضو منها فما اتفق عليه الآثار صار مخصوصا من هذا الظاهر وبقى ما سواء على الظاهر وروى أن وفدا سألوا عمر رضى الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض وعن قراءة القرآن في البيوت وعن الاغتسال من الجنابة فقال أسحرة أنتم لقد سألتموني عما سألت عنه رسول الله ﷺ فقال للرجل من امرأته ما فوق المئزر وليس له ما تحته وقراءة القرآن نور فنور بيتك ما استطعت وذكر الاغتسال من الجنابة وفى حديث أم سلمة رضى الله عنها قالت كنت في فراش رسول الله ﷺ فحضت فانسللت من الفراش فقال مالك
[ 160 ] أنفست قلت نعم ائتزرى وعودي إلى مضجعك ففعلت فعانقني طول الليل والمعني فيه أن الاستمتاع في موضع الفرج محرم عليه وإذا قرب من ذلك الموضع فلا يأمن على نفسه أن يواقع الحرام فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر وكان هذا نوع احتياط ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى لقوله ﷺ ألا ان لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ومحمد أخذ بالقياس وقال ليس المراد بالاتزار حقيقة الاتزار بل المراد موضع الكرسف في ذلك الموضع وبين التابعين اختلاف في معني قوله عليه الصلاة والسلام ما فوق المئزر فكان إبراهيم رحمه الله تعالى يقول المراد به الاستمتاع بالسرة وما فوقها وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول المراد أن يتدفأ بالازار ويقضى حاجته منها فيما دون الفرج فوق الازار ولا ينبغى له أن يعتزل فراشها لان ذلك تشبه باليهود وقد نهينا عن التشبه بهم وروى ان ابن عباس رضى الله عنهما فعل ذلك فبلغ ميمونة رضى الله عنها فانكرت عليه وقالت اترغب عن سنة رسول الله ﷺ كان يضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض وإذا أراد ان يشترى جارية فلا بأس بان ينظر إلى شعرها وصدرها وساقها وان اشتهى لان المالية مطلوبة بالشراء فلا يصير مقداره معلوما الا بالنظر إلى هذه المواضع فللحاجة جاز النظر ولا يحل له أن يمس ان اشتهى أو كان ذلك أكبر رأيه لانه لا حاجة به إلى المس فمقدار المالية يصير معلوما بدونه ولان حكم المس أغلظ من النظر كما قررنا وقد بينا في كتاب الصلاة حكم غسل كل واحد من الزوجين لصاحبه بعد موته وما فيه من الاختلاف وحكم غسل أم الولد لمولاها وإذا ماتت المرأة مع الرجال ولا امرأة معهم لم يغسلوها وان كانوا محارمها وقال الشافعي رحمه الله تعالى لابنها أو ابيها أن يغسلها بناء على مذهبه أن الظهر والبطن في حق المحرم ليس بعورة فهو بمنزلة نظر الجنس عنده وعندنا الظهر والبطن عورة في حق المحارم وبالموت تتأكد الحرمة ولا ترتفع ولان هذه الحرمة لحق الشرع والآدمي محترم شرعا حيا وميتا ولهذا لا يغسلها المحرم ولاغير المحرم ولكنها تيمم بالصعيد هكذا روي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي ﷺ انه سئل عن امرأة ماتت مع الرجال ليس معهم أمرأة قال تيمم بالصعيد ولانه تعذر غسلها لانعدام من يغسلها فصار كما لو تعذر غسلها لانعدام ما تغسل به وان كان من يتممها محرما لها يممها بغير خرقة وان كان غير محرم لها يممها بخرقة يلفها على كفه لانه لم يكن له أن يمسها في حال
[ 161 ] حياتها فكذلك بعد وفاتها بخلاف المحرم ولا بأس بأن ينظر إلى وجهها ويعرض بوجهه عن ذراعيها كما في حال الحياة كان له أن ينظر إلى وجهها دون ذراعيها وكذلك يفعل زوجها لانه التحق بالاجنبي كما قال عمر رضى الله عنه في امرأة له هلكت نحن أحق بها حين كانت حية فأما إذا ماتت فأولياؤها أحق بها وان مات رجل مع نساء ليس فيهن امرأته يممنه على مابينا الا أن من تيممه إذا كانت حرة تيممه بخرقة تلفها على كفها لانه ماكان لها أن تمسه في حياته فذلك بعد موته وان كانت مملوكة تيممه بغير خرقة لانه كان لها أن تمسه في حياته فكذلك بعد موته فان الامة بمنزلة المحرم في حق الرجال وأمته وأمة غيره في هذا سواء لان ملكه قد انتقل إلى وارثه بموته فان كان معهن رجل كافر علمنه الغسل وكذلك ان كان مع الرجال امرأة كافرة علموها الغسل لتغسلها لان نظر الجنس إلى الجنس لا يختلف بالموافقة في الدين والمخالفة الا ان الكافر لايعرف سنة غسل الموتي فيعلم ذلك وكذلك ان كان معهن صبية صغار لم يبلغوا حد الشهوة علموهم غسل الموتى ليغسلنها وهذا عجيب فالرجال قد يعجزون عن غسل الميت فيكف يقوى عليه الصغار الذين لم يبلغوا حد الشهوة ولكن مراد محمد بيان الحكم ان تصور فان ارتدت امرأته عن الاسلام بعد موته ثم رجعت إلى الاسلام أو فجربها ابنه لم يكن لها ان تغسله عندنا وقال زفر رحمه الله لها ذلك لان حل المس والغسل ههنا باعتبار العدة حتى لو انقضت عدتها بوضع الحمل لم يكن لها ان تغسله وبما اعترض لم يتغير حكم العدة بخلاف مااذا كان العارض قبل موته لان الحل هناك باعتبار النكاح وقد ارتفع بهذا العارض (وحجتنا) في ذلك ان ردتها وفعل ابن الزوج بها لو صادف حلا مطلقا كان رافعا له فكذلك إذا صادف ما بقى من الحل بعد موته وهو حل الغسل والمس فيكون رافعا له بطريق الاولى ولا نقول ان هذا الحل لاجل العدة فان العدة من نكاح فاسد والوطئ بالشبهة لا يفيد حل الغسل والمس وذكره في اختلاف زفر ويعقوب ان المجوسى لو أسلم ومات ثم أسلمت امرأته فليس لها ان تغسله عند زفر ولها ذلك في قول أبى يوسف فزفر يعتبر وقت الموت فإذا لم يكن بينهما حل الغسل والمس عند الموت لا يثبت بعد ذلك بخلاف مالو أسلمت قبل موته أو انقضت عدة الاخت وقاس بحكم الفرار في الميراث فانها لو أعتقت بعد موته أو أسلمت لم ترث منه بخلاف مالو أسلمت في حال الحياة أو أعتقت ثم طلقها ثلاثا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الحل قائم بينهما بعد وطئ الاخت ولكن عدتها
[ 162 ] مانعة ولو زال هذا المانع في حال حياته ثبت حل الاستمتاع مطلقا فكذلك إذا زال بعد موته ثبت من الحل بقدر ما يقبله المحل وهو حل الغسل والمس وأما الصغير الذى لم يبلغ حد الشهوة إذا مات مع النساء فلا بأس بأن يغسلنه وكذلك الصغيرة مع الرجال لما بينا أنه ليس لعورته حكم العورة في الحياة حتى لا يجب ستره ويباح النظر إليه فكذلك بعد الموت والمعتوهة كالعاقلة لانها تشتهى وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء الا في اناء أخبره رجل أنه قذر وهو عنده مسلم مرضى لا يتوضأ به وهذا لان خبر الواحد حجة في أمر الدين في حق وجوب العمل به عندنا بخلاف ما يقوله بعض الناس أن ما لا يوجب علم اليقين لا يوجب العمل أيضا فان العمل بغير علم لا يجوز قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى واذ أخذ الله ميثاق الله الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ومن ضرورة وجوب البيان على كل واحد وجوب القبول منه وفائدة القبول منه العمل به قال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين واسم الطائفة يتناول الواحد فصاعدا وبعث رسول الله ﷺ دحية الكلبى إلى قيصر ليدعوه إلى الاسلام وعبد الله بن انيس إلى كسرى ومع كل واحد منهما كتاب فلو لم يكن خبر الواحد ملزما لما اكتفي ببعث الواحد وبعث عليا ومعاذا رضى الله تعالى عنهما الي اليمن والاثار في خبر الواحد كثيرة ذكر محمد بعد هذا بعضها وليس من شرط وجوب العمل ان يكون الخبر موجبا للعلم كما انه ليس من شرط جواز العمل بما يخبر في المعاملات ان يكون موجبا للعلم حتى يكتفي فيها بخبر الواحد بالاتفاق والدليل عليه وجوب العمل بالقياس وغالب الرأى وان لم يكن ذلك موجبا علم اليقين إذا عرفنا هذا فنقول هذا المخبر بنجاسة الماء ان يكون عدلا مرضيا أو فاسقا أو مستورا فان كان عدلا فليس له ان يتوضأ بذلك الماء لترجيح جانب الصدق في خبره لظهور عدالته وان كان فاسقا فله ان يتوضأ بذلك الماء لعدم ترجيح الصدق في خبره فان اعتبار دينه يدل على صدقه في خبره واعتبار تعاطيه الكذب وارتكابه ما يعتقد الحرمة فيه دليل على كذبه في خبره فتتحقق المعارضة بينهما ولهذا أمر الله تعالى بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى فتبينوا وعند المعارضة الاصل في الماء الطهارة فيتمسك به ويتوضأ وهذا بخلاف المعاملات فانه يجوز الاخذ فيها بخبر الفاسق لان الضرورة هناك تتحقق فالعدل لا يوجد في كل موضع ولا دليل هناك يعمل به سوى الخبر وهنا لاضرورة ومعنا
[ 163 ] دليل آخر يعمل به سوى الخبر وهو ان الاصل في الماء الطهارة (فان قيل) اليس ان خبر الفاسق لا يقبل في رواية الاخبار وليس هناك دليل سوى الخبر (قلنا) الضرورة هناك لاتتحقق لان في العدول الذين يروون ذلك الخبر كثرة يوضح الفرق ان الخبر في المعاملات غير ملزم فيسقط فيه اعتبار شرط العدالة وفي الديانات الخبر ملزم فلابد من اعتبار شرط العدالة فيه وكذلك ان كان مستورا فالحق المستور في ظاهر الرواية بالفاسق وفى رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى قال المستور في هذا الخبر كالعدل وهو ظاهر على مذهبه فانه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم ولكن الاصح ما ذكره لانه لابد من اعتبار أحد شرطى الشهادة ليكون الخبر ملزما وقد سقط اعتبار العدد فلم يبق الا اعتبار العدالة فإذا ثبت ان العدالة شرطا قلنا ماكان شرطا لا يكتفي بوجوده ظاهرا كمن قال لعبده ان لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ثم مضي اليوم فقال العبد لم أدخل وقال المولى دخلت فالقول قول المولى لان عدم الدخول شرط فلا يكتفي بثبوته ظاهر النزول العتق وكذلك ان كان المخبر عبدا لان في أمور الدين خبر العبد كخبر الحر كما في رواية الاخبار وهذا لانه يلزم نفسه ثم يتعدي منه إلى غيره فلا يكون هذا من باب الولاية على الغير وبالرق يخرج من أن يكون أهلا للولاية فأما فيما هو الزام يسوى بين العبد والحر لكونه مخاطبا وكذلك ان كان مخبرا امرأة حرة أو أمة كما في رواية الاخبار وهذا لانها تلتزم كالرجل ثم يتعدى إلى غيرها ورواية النساء من الصحابة رضى الله عنهم كانت مقبولة كرواية الرجال قال ﷺ تأخذون شطر دينكم من عائشة رضى الله عنها ثم بين في الفاسق والمستور أنه يحكم رأيه فان كان أكبر رأيه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به لان أكبر الرأى فيما بني على الاحتياط كاليقين وان أراقه ثم تيمم كان أحوط وان كان أكبر رأيه أنه كاذب توضأ به ولم يتيمم (فان قيل) كان ينبغي أن يتيمم احتياطا لمعني التعارض في خبر الفاسق كما قلنا في سؤر الحمار أنه يجمع بين التوضئ وبين التيمم لتعارض الادلة في سؤر الحمار (قلنا) حكم التوقف في خبر الفاسق معلوم بالنص وفى الامر بالتيمم هنا عمل بخبره من وجه فكان بخلاف النص ولما ثبت التوقف في خبره بقى أصل الطهارة للماء فلا حاجة إلى ضم التيمم إليه واستدل بحديث عمر رضى الله تعالى عنه حين ورد ماء حياض مع عمرو بن العاص فقال عمرو لرجل من أهل الماء أخبرنا عن السباع أترد ماءكم هذا فقال عمر رضى الله عنه لا تخبرنا عن شئ فلولا
[ 164 ] أن خبره عد خبرا لما نهاه عن ذلك وعمرو بن العاص بالسؤال قصد الاخذ بالاحتياط وقد كره عمر رضى الله تعالى عنه لوجود دليل الطهارة باعتبار الاصل فعرفنا أنه ما بقي هذا الدليل فلا حاجة إلى احتياط آخر وان كان الذى أخبره بنجاسة الماء رجل من أهل الذمة لم يقبل قوله لا لان الكفر ينافى معنى الصدق في خبره ولكن لانه ظهر منهم السعي في افساد دين الحق قال الله تعالى لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في افساد أمركم فكان متهما في هذا الخبر فلا يقبل منه كما لاتقبل شهادة الولد لوالده لمعنى التهمة يقول فان وقع في قلبه أنه صادق فأحب إلى أن يريق الماء ثم يتيمم وان توضأ به وصلى أجزأه وفى خبر الفاسق قال وإذا وقع في قلبه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به وهذا لان الفاسق أهل للشهادة ولهذا نفذ القضاء بشهادته فيتأيد ذلك بأكبر رأيه وليس الكافر من أهل الشهادة في حق المسلم يوضحه ان الكافر يلزم المسلم ابتداء بخبره ولا يلتزم ولاولاية له على المسلم فاما الفاسق المسلم يلتزم وهو من أهل الولاية على المسلم (قال) وكذلك الصبى والمعتوه إذا عقلا ما يقولان من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول مراده بهذا العطف ان الصبى كالبالغ إذا كان مرضيا ولانه كان في الصحابة رضى الله تعالى عنهم من سمع في صغره ولو روى كان مقبولا منه وكما سقط اعتبار الحرية والذكورة يسقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات والاصح ان مراده العطف على الذمي وان خبر الصبى والمعتوه في هذا كخبر الذمي لانهما لا يلتزمان شيئا ولكن يلزمان الغير ابتداء فانهما غير مخاطبين فليس لهما ولاية الالزام فكان خبرهما في معنى خبر الكافر رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاما ويشربون شرابا فدعوه إليه فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب قد خالطه الخمر وقال الذين دعواه إلى ذلك ليس الامر كما قال وهو حلال فانه ينظر إلى حالهم فان كانوا عدولا لا يلتفت إلى قول ذلك الواحد لان خبر الواحد لا يعارض خبر الجماعة فان خبر الجماعة حجة في الديانات والاحكام وخبر الواحد لبس بحجة في الاحكام ولان الظاهر من حال المسلمين أنهم لا يأكلون ذبيحة المجوسى ولا يشربون ما خالطه الخمر فخبر الواحد في معارضة خبرهم خبر مستنكر فلا يقبل وان كانوا متهمين أخذ بقوله ولم يسعه ان يقرب شيئا من ذلك لان خبره باعتبار حالهم مستقيم صالح ولا معتبر بخبرهم لفسقهم في حكم العمل به ولان خبر العدل بالحرمة يريبه في هذا الموضع باعتبار حالهم وقال ﷺ دع ما يريبك إلى مالا يريبك
[ 165 ] ويستوي ان كان المخبر بالحرمة حرا أو مملوكا ذكرا أو أنثي لانه أخبر بأمر دينى فان الحل والحرمة من باب الدين ولو كان في القوم رجلان مرضيان أخذ بقولهما لان الحجة في الاحكام تتم بخلاف المثنى فلا يعارض خبرهما خبر الواحد وان كان فيهم ثقة واحد عمل فيه على أكبر رأيه لاستواء الخبرين عنده وان لم يكن له فيه رأى واستوى الحالان عنده فلا بأس بأكل ذلك وشربه وكذلك الوضوء منه في جميع ذلك اما المصير إلى غالب الرأى فللمعارضة بين الخبرين لان عند المعارضة لابد من ترجيح أحد الجانبين وغالب الرأى يصلح ان يكون دليلا للعمل في بعض المواضع فلان يصلح للترجيح أولي فان لم يكن له رأى تمسك بأصل الطهارة (فان قيل) لا معارضة بين الخبرين لان احدهما ينفي الحرمة والآخر يثبت ولا تعارض بين النفي والاثبات (قلنا) هذا في الشهادات فأما في الاخبار المعارضة تتحقق ؟ بين النفي والاثبات لان كل واحد منهما بانفراده مقبول (فان قيل) لاكذلك في الشاهد إذا زكاه أحد المزكين وجرحه الآخر كان الجرح أولى لان الجرح مثبت والآخر ناف (قلنا) نعم ولكن في كل موضع يكون النافي معتمدا لدليل في خبره تتحقق المعارضة في ذلك بين النفى والاثبات وفي كل موضع لا يكون النافي معتمدا لدليل يترجح المثبت فهنا النافي معتمد لدليل لان طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة وكذلك حل الطعام وحرمته فلهذا تحققت المعارضة والذى زكى الشاهد لا يعتمد دليلا في خبره لان نفي أسباب الجرح لا يعلم حقيقة فلهذا يرجح المثبت هناك على النافي فان كان الذى أخبره بأنه حلال مملوكان ثقتان والذى زعم أنه حرام واحد حر فلا بأس بأكله لان في الخبر الدينى المملوك والحر سواء ولا تتحقق المعارضة بين الواحد والمثني في الخبر لانه يحصل منه طمأنينة القلب بخبر الاثنين مالا يحصل بخبر الواحد وان كان الذي زعم أنه حرام مملوكا ثقتان والذي زعم أنه حلال حر واحد ثقة ينبغى له أن لا يأكله لما بينا أن خبر الواحد لا يكون معارضا لخبر الاثنين وكذلك لو أخبره بأحد الامرين عبد ثقة وبالآخر حر ثقة يعمل بأكبر رأيه فيه لان الحجة لا تتم من طريق الحكم بخبر حر واحد ومن حيث الدين خبر الحر والمملوك سواء فلتحقق المعارضة بين الخبرين يصير الي الترجيح بأكبر الرأى وان أخبره بأحد الامرين مملوكان ثقتان وبالامر الآخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين لان الحجة تتم بقول الحرين ولا تتم بقول المملوكين فعند التعارض يترجح قول الحرين لان في قولهما زيادة الزام فان الالزام بقول المملوكين ينبنى على الالزام
[ 166 ] اعتقادا والالزام في قول الحرين لا ينبني على الالزام اعتقادا حتى كان ملزما فيما لا يكون المرء معتقدا له فعرفنا أن في خبرهما زيادة الزام فالترجيح بقوة السبب صحيح قال ألا ترى ان أبا بكر رضي الله عنه شهد عنده المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ أعطي الجدة أم الام السدس فقال ائت معك بشاهد آخر فجاء بمحمد بن سلمة فشهد على مثل شهادته فأعطاها أبو بكر رضى الله عنه السدس وهذا من أمر الدين وعمر بن الخطاب رضى الله عنه شهد عنده أبو موسى الاشعري رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ قال إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال ائت معك بشاهد آخر فشهد أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه على مثل شهادته قال محمد فهذا انما فعلاه للاحتياط والواحد يجزى وكان عيسى بن ابان يقول بل انما طلبنا شاهدا آخر على طريق الشرط لان طمأنينة القلب تحصل بقول المثنى دون الواحد ولم يكن في ذلك الوقت ضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد لكثرة الرواة فاما في زماننا فقد تحقق معني الضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد والاصح ما أشار إليه محمد رحمه الله تعالى انهما طلبا ذلك للاحتياط وكانا يقبلان ذلك وان لم يشهد شاهد آخر الا ترى ان عمر رضى الله عنه قبل شهادة عبد الرحمن بن عوف حين شهد عنده ان رسول الله ﷺ قال سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحى نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ولم يطلب شاهدا آخر وأجاز قول عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه في الطاعون حين أراد ان يدخل الشام وبها الطاعون فاستشارهم فاشار عليه بعض المهاجرين بالدخول فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه يا أمير المؤمنين اتفر من قدر الله فقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه انى سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا وقع هذا الرجز بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فأخذ عمر رضى الله عنه بقوله ورجع وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار هذا الحديث فقال تأويله انه إذا كان بحال لو دخل فابتلى وقع عنده انه ابتلى بدخوله ولو خرج فنجى وقع عنده أنه نجى بخروجه فلا يدخل ولا يخرج صيانة لاعتقاده فأما إذا كان يعلم أن كل شئ بقدر وأنه لا يصيبه الا ماكتب الله تعالى فلا بأس بأن يدخل ويخرج واستدل محمد رحمه الله تعالى أيضا بحديث عمر رضي الله عنه فانه كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى شهد عنده الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابى من دية زوجها أشيم فأخذ بقوله
[ 167 ] وبعث رسول الله ﷺ دحية الكلبي إلى قيصر بكتابه يدعوه إلى الاسلام فكان حجة عليه فهذا كله دليل ان خبر الواحد في أمر الدين كان ملزما في ذلك الوقت كما هو اليوم وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه كنت إذا لم أسمع من رسول الله ﷺ حديثا فحدثني به غيره استحلفته على ذلك وحدثني أبو بكر رضى الله تعالى عنه وصدق أبو بكر وهذا مذهب تفرد به على رضي الله عنه فانه كان يحلف الشاهد ويحلف المدعي مع البينة ويحلف الراوي ولم يتبع ذلك فكأنه كان يقول ان خبره يصير مزكى بيمينه كالشهادات في باب اللعان من كل واحد من الزوجين حتى تصير مزكاة باليمين ومن لم يعصم عن الكذب لا يكون خبره حجة ما لم يصر مزكى بيمينه الا أبو بكر رضى الله عنه فان تسمية رسول الله ﷺ اياه الصديق كاف في جعل خبره مزكى ولسنا نأخذ بهذا القول لان الله تعالى أمرنا باستشهاد شاهدين وبطلب العدالة في الشهود فاشتراط اليمين مع ذلك يكون زيادة على ما في الكتاب وقد وقعت الدعاوى والخصومات في عهد رسول الله ﷺ ولم ينقل أنه حلف أحدا من الشهود ولاحلف المدعى مع البينة ولايجوز أن يقال إنهم قد تركوا نقله لان هذا لا يظن بهم خصوصا فيما تعم البلوى فقد نقلوا كل مادق وجل من أقواله وأفعاله (قال) وبلغنا ان نفرا من أصحاب النبي ﷺ منهم أبو طلحة كانوا يشربون شرابا لهم من الفضيخ فأتاهم آت فاخبرهم ان الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إليها فكسرتها حتى اهراق ما فيها ولو لم يكن خبر الواحد حجة ما وسعهم ذلك لما فيه من اضاعة المال وتأويل كسر الجرار ان الخمر كانت تشرب فيها فلا تصلح للانتفاع بها بوجه آخر وكان ذلك لاظهار الانقياد وتحقيق الانزجار عن العادة المألوفة وعلى هذا يحمل ماروي ان النبي ﷺ أمر بكسر الدنان وشق الروايا وذكر حديث عكرمة رضى الله عنه أن النبي ﷺ قبل شهادة اعرابي وحده على رؤية هلال رمضان حين قدم المدينة فاخبرهم بأنه رآه فأمرهم رسول الله ﷺ بأن يصوموا بشهادته فهذا يدل على أن شهادة الواحد في الدين مقبولة ولا يقبل في هلال الفطر أقل من شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين والكلام في هذا الفصل قد بيناه في كتاب الصوم وذكر ابن سماعة في نوادره قال قلت لمحمد فإذا قبلت شهادة الواحد في هلال رمضان وأمرت بالصوم ثلاثين يوما ولم يروا
[ 168 ] الهلال أليس أنهم يفطرون وهذا فطر بشهادة الواحد فقال لاأتهم المسلم بتبديل يوم مكان يوم ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال الفطر غير ثابت بشهادته وان كانت تفضى إليه شهادته كما لو شهدت القابلة بالنسب يثبت استحاق الميراث ولا يستحق المال بشهادة القابلة وهذا على قول محمد فأما على رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى لا يفطرون وان صاموا ثلاثين يوما إذا لم يروا الهلال قال الحاكم وهلال الاضحى كهلال الفطر ذكره في كتاب الشهادات وفى النوادر عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى ان الشهادة على هلال الاضحى كالشهادة على هلال رمضان لما يتعلق به من امر ديني وهو ظهور وقت الحاج وذلك حق الله تعالى فأما في ظاهر الرواية قال هذا في معنى هلال الفطر لان فيه منفعة للناس هنا من حيث التوسع بلحوم الاضاحي في اليوم العاشر كما في هلال الفطر ولا يقبل في هلال رمضان قول مسلم ولا مسلمين ممن لا تجوز شهادتهم للتهمة لما بينا أن خبر الفاسق في أمر الدين غير ملزم وذكر الطحاوي أن شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان مقبول عدلا كان أو غير عدل قيل المراد بقوله غير عدل ان يكون مستورا فيكون موافقا لرواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالي في المستور وقيل بل مراداه الفاسق وجه هذه الرواية ان التهمة متنفية عن خبره هذا لانه يلزمه من الصوم ما يلزم فأما عبد مسلم ثقة أو أمة مسلمة أو امرأة مسلمة حرة فشهادتهم في ذلك جائزة لان في الخبر الديني الذكور والاناث والاحرار والمماليك سواء وكذلك ان شهد واحد على شهادة واحد وبهذا تبين أنه خبر لا شهادة حتى لا يشترط فيه لفظ الشهادة وذكر أنه إذا كان محدودا في قذف قد حسنت توبته فشهادته جائزة أيضا وروي الحسن عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن شهادته لاتقبل لانه محكوم بكذبه وإذا كانت شهادة المتهم بالكذب لاتقبل هنا فالمحكوم بالكذب أولى ووجه هذه الرواية ان خبر المحدود في أمر الدين مقبول الا ترى ان أبا بكرة بعدما أقيم عليه حد القذف كانت تعتمد روايته وهذا لان رد شهادته لحق المقذوف وهو دفع العار عنه باهدار قوله وذلك في الاحكام التي يتعلق بها حقوق العباد وينعدم هذا المعنى في أمور الدين فكان المحدود فيه كغيره يقول فإذا كان الذى شهد بذلك في المصر ولا علة في السماء من ذلك لاتقبل شهادته لان الذى يقع في القلب من ذلك انه باطل وقد بينا في كتاب الصوم أقاويل العلماء رحمهم الله تعالى في هذا الفصل وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه اعتبر فيه عدد الخمسين على قياس الايمان في القسامة وفيما ذكر هناك إشارة إلى أنه إذا جاء
[ 169 ] من خارج المصر فانه تقبل شهادته فقد ذكر بعد هذا أيضا أو جاء من مكان آخر وأخبر بذلك وهكذا ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه لان يتفق من الرؤية في الصحارى مالا يتفق في الامصار لما فيها من كثرة الغبار وكذلك ان كان في المصر على موضع مرتفع فقد يتفق له من الرؤية مالا يتفق لمن هو دونه في الموقف رجل تزوج امرأة فجاء رجل مسلم ثقة أو امرأة فأخبر انهما ارتضعا من امرأة واحدة فأحب إلى التنزه عنها فيطلقها ويعطيها نصف الصداق ان لم يكن دخل بها والكلام في هذه المسألة في فصلين أحدهما في الحكم والآخر في التنزه اما في الحكم فالحرمة لا تثبت بشهادة امرأة واحدة على الرضاع عندنا ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند الشافعي يثبت بشهادة أربع نسوة كما هو مذهبه فيما لا يطلع عليه الرجال وزعم ان الرضاع لا يحل مطالعته للاجانب من الرجال ولكن نقول الارضاع يكون بالثدي وذلك مما يحل مطالعته لذى الرحم المحرم ثم قد يكون بالايجار وذلك مما يطلع عليه الاجانب ومالك كان يقول يكتفى بشهادة الواحد لاثبات الحرمة بالرضاع وذلك مروي عن عثمان رضى الله عنه واستدل فيه بحديث ابن أبى مليكة بن عقبة أن عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنهما تزوج بنت اهاب فجاءت امرأة سوداء فأخبرت أنها أرضعتهما جميعا فأتى رسول الله ﷺ فأخبره فقال له ﷺ كيف وقد قيل هذا القدر ذكره محمد رحمه الله تعالى وأهل الحديث يروون ففرق رسول الله ﷺ بينهما فهو حجة مالك رحمه الله تعالى (وحجتنا) في ذلك حديث عكرمة بن خالد قال عمر رضى الله عنه لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين ولان هذه شهادة تقوم لابطال الملك ولا تتم الحجة فيه الا بشاهدين كالعتق والطلاق فأما الحديث ففيه إشارة إلى التنزه بقوله كيف وقد قيل ولو ثبتت الحرمة بخبرها لما أشار إلى التنزه بهذا اللفظ والزيادة التى يرويها أهل الحديث لم تثبت عندنا والدليل على ضعفه ماروى عن عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه قال تزوجت بنت أبى اهاب فجاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت من الغد تشهد على الرضاع ومثل هذه الشهادة تكون عن ضغن فلا تتم الحجة بها فأما بيان وجه التنزه أن المخبر إذا كان ثقة فالذي يقع في قلوب السامعين أنه صادق فيه فصحبتها تريبه ومفارقتها لاتريبه ولو أمسكها ربما يطعن فيه أحد ويتهمه وقال ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف
[ 170 ] التهم وقال ﷺ اياك وما يسبق إلى القلوب انكاره وان كان عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا تطيق أن توسعه عذرا ولان يدع وطءا حلالا خير له من أن يقدم على وطئ حرام ولكن ينبغى له أن يطلقها لانها منكوحته في الحكم فإذا لم يطلقها لا تقدر على التزوج ؟ بغيره فتبقى معلقة ثم يعطيها نصف الصداق بعد الطلاق وان لم يكن دخل بها لانها استوجبت في الحكم ذلك عليه فلا ينبغي له أن يمنعها بنظره لنفسه والمستحب لها أن لا تأخذ شيئا ان كان لم يدخل بها لجواز أن يكون المخبر صادقا والنكاح لم يكن منعقدا بينهما وان كان دخل بها فلا بأس بأن تأخذ مقدار مهر مثلها بما استحل من فرجها وينبغى أن لا تأخذ الزيادة على ذلك الي تمام المسمى ولكن تبريه عن ذلك لانه حق مستحق لها في الحكم فلا يسقط الا باسقاطها ولا يبعد أن يندب كل واحد منهما إلى ما قلنا كما ان الله تعالى أثبت نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثم ندب كل واحد من الزوجين إلى العفو وكذلك الرجل يشترى الجارية فيخبره عدل انها حرة الابوين أو أنها أخته من الرضاع فان تنزه عن وطئها فهو أفضل وان لم يفعل وسعه ذلك وفرق بين هذين الفصلين وبين ما تقدم من الطعام والشراب فاثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم يثبت هنا لان حل الطعام و الشراب يثبت بالاذن بدون الملك حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل ذلك فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وحل الوطئ لا يثبت بدون الملك حتى لو قال طأ جاريتي هذه فقد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطئ فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وهو خبر الواحد وتقرير هذا الفرق من وجهين احدهما ان الحل والحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت بدون ملك الحل وتثبت الحرمة مع قيام الملك فكان هذا خبرا بامر دينى وقول الواحد فيه ملزم فاما في الوطئ الحل والحرمة يثبت حكما للملك وزواله لا يثبت مقصودا بنفسه وقول الواحد في ابطال الملك ليس بحجة فكذلك في الحل الذي ينبنى عليه والثانى ان في الوطئ معنى الالزام على الغير لان المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الاتقياد ؟ لمولاها وخبر الواحد لا يكون حجة في ابطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حق الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل ذلك بثبوت الحرمة وانما ذلك أمر ديني وخبر الواحد في مثله حجة مسلم اشتري لحما فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة مجوسي لم ينبغ له أن
[ 171 ] يأكله لانه أخبر بحرمة العين وهو أمر دينى فتتم الحجة بخبر الواحد فيه وكما لا يأكله لا يطعمه غيره لقول رسول الله ﷺ لعائشة رضى الله عنها في نظيره أتطعمين ما لا تأكلين ولا يرده على صاحبه لان فسخ البيع معتبر بنفس البيع وكما لا تتم الحجة بخبر الواحد في البيع فكذلك فيما يفسخه ولا يستحل منع البائع ثمنه لانه قد استوجبه بالعقد قبله وقول الواحد ليس بحجة في اسقاط حق مستحق للعباد ولان العين قد بقي مملوكا له متقوما لان نقض الملك فيه بقول الواحد لا يجوز فعليه أداء ثمنه (فان قيل) الحل هنا انما يثبت حكما للمالك فينبغي ان لا تثبت الحرمة الا بما يبطل كما في المسألة الوطئ (قلنا) لاكذلك بل ثبوت حل التناول بالاذن لان الموجب للبيع اذن المشترى في التناول مسلطا له على ذلك وهو كاف لثبوت الحل في هذا العين فما زاد عليه غير معتبر في حكم الحل وبنحوه علل في البيوع في تنفيذ تصرف المشترى بشراء فاسد فقال لان البائع سلطه على ذلك والدليل على هذا تمام البيع بهذا اللفظ حتى لو قال كل هذا الطعام بدرهم لى عليك فأكله كان هذا بيعا وكان قد أكله حلالا بخلاف الوطئ فان الحرة لو قالت طأني بكذا لا يحل له ان يفعل ولا ينعقد النكاح بينهما لو فعله يوضحه ان المعتبر هو الجملة دون الاحوال وإذا كان حل الطعام في الجملة يثبت بغير ملك فكذلك الحرمة تثبت مع قيام الملك ولو لم يبعه هذا الرجل ولكن اذن له في التناول فاخبره مسلم ثقة انه محرم العين لم يحل له تناوله فكذلك إذا باعه يوضحه ان قبل البيع انما لا يحل له تناوله لان حرمة العين تثبت في حقه بخبر الواحد والبيع ليس له تأثير في ازالة حرمة ثابتة للعين فإذا ثبت انه لو اشتراه بعد الاذن أو ملكه بسبب آخر لم يحل له تناوله فكذلك إذا اشتراه قبل الاذن فاخبره عدل بانه محرم العينى ولو اشترى طعاما أو جارية أو ملك ذلك بهبة أو ميراث أو صدقة أو وصية فجاء مسلم ثقة فشهد ان هذا لفلان الفلاني غصبه منه البائع أو الواهب أو الميت فأحب إلى ان يتنزه عن أكله وشربه والوضوء منه ووطئ الجارية لان خبر الواحد يمكن ريبة في قلبه والتنزه عن مواضع الريبة أولى وان لم يتنزه كان في سعة من ذلك لان المخبر هنا لم يخبر بحرمة العين وانما أخبر ان من تملك من جهته لم يكن مالكا وهو مكذب في هذا الخبر شرعا فان الشرع جعل صاحب اليد مالكا باعتبار يده ولهذا لو نازعه فيه غيره كان القول قوله وعلى هذا أيضا لو أذن له ذو اليد في تناول طعامه وشرابه فأخبره ثقة أن هذا الطعام والشراب في يده غصب من فلان وذو
[ 172 ] اليد يكذبه وهو متهم غير ثقة فان تنزه عن تناوله كان أولى وان لم يتنزه كان في سعة وفى الماء إذا لم يجد وضوء غيره توضأ به ولم يتمم لان الشرع جعل القول قول ذي اليد فيما في يده وهذا بخلاف ما سبق لان هناك المخبر انما أخبر بملك الغير في المحل وخبره في هذا ليس بحجة وهناك أخبر بحرمة ثابتة في المحل لحق الشرع وخبر الواحد فيه حجة (فان قيل) الحل والحرمة ليس بصفة للمحل حقيقة وانما هو صفة للفعل الصادر من المخاطب وهو التناول وقد أخبره بحرمة التناول في الفصلين جميعا (قلنا) هذا شئ توهمه بعض أصحابنا وهو غلط عظيم فانا لو جعلنا الحرمة صفة للفعل حقيقة ثم توصف العين به مجازا كان شروعا في المحل من وجه وذلك ممتنع بعد ثبوت حرمة الامهات وحرمة الميتة بالنص ولكن نقول الحرمة صفة العين حقيقة باعتبار أنه خرج شرعا من أن يكون محلا للفعل الحلال وكذلك حقيقة موجبه النفى والنسخ ثم ينتفي الفعل باعتبار انعدام المحل لان الفعل لا يتصور الا في المحل كالقتل لا يتصور في الميت وكان هذا امامة العين مقام الفعل في أن صفة الحرمة تثبت له حقيقة ويتضح ذلك بالتأمل في مورد الشرع فان الله تعالى في مال الغير نهى عن الاكل فانه قال تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلى قوله لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم فعرفنا أن المحرم هو الاكل وفي الميتة قال تعالى حرمت عليكم الميتة فقد جعل الحرمة صفة للعين وكذلك قال حرمت عليكم أمهاتكم وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن الفقه وكذلك من حيث الاحكام من قال لامرأته أنت علي كالميتة كان بمنزلة قوله أنت على حرام بخلاف مالو قال أنت علي كمتاع فلان فإذا تقرر هذا قلنا الحرمة الثابتة صفة للعين محض حق الشرع فتثبت بخبر الواحد ولهذا لا يسقط الا باذن الشرع وحرمة التناول في طعام الغير ثابتة لحق الغير ولهذا يسقط باذنه وحق الغير لا يثبت بخبر الواحد فلا تثبت الحرمة أيضا ولو أن رجلا مسلما شهد عنده رجل أن هذه لجارية التي هي في يد فلان وهى مقرة له بالرق أمة لفلان غصبها والذي هي في يده يجحد ذلك وهو غير مأمون على ما ذكر فأحب إلى أن لا يشتريها وان اشتراها ووطئها فهو في سعة من ذلك لان المخبر مكذب فيما أخبر به شرعا والقول قول ذى اليد أنها مملوكة له فله ان يعتمد الدليل الشرعي فيشتريها وان احتاط فلم يشترها كان أولى له لانه متمكن من تحصيل مقصوده بغيرها وابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في مثله كنا ندع تسعة اعشار الحلال مخافة الحرام ولو أخبره انها حرة الاصل أو انها كانت أمة لهذا الذى
[ 173 ] في يده فاعتقها وهو مسلم ثقة فهذا والاول سواء لما بينا ان المخبر مكذب شرعا وان تصادقهما على أنها مملوكة لذى اليد حجة شرعا في اثبات الملك له فللمشترى ان يعتمد الحجة الشرعية والتنزه أفضل له (فان قيل) في هذا الموضع أخبر بحرمة المحل حين زعم انها معتقة أو حرة فلو جعلت هذا نظير ما سبق (قلنا) لاكذلك فحرمة المحل هنا لعدم الملك والملك ثابت بدليل شرعى ومع ثبوت الملك لاحرمة في المحل وفي الكتاب قال هذا بمنزلة النكاح الذى يشهد فيه بالرضاع وهو إشارة إلى ما قلنا أن حل الوطئ لا يكون الا بملك والملك المحكوم به شرعا لا يبطل بخبر الواحد فكذلك ما ينبنى عليه من الحل وإذا كانت الجارية لرجل فأخذها رجل آخر وأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها للاول ان يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من ملكه وانتقلت إلى ملك ذى اليد بسبب صحيح أو يعلم انه وكله ببيعها لان دليل الملك الاول ظهر عنده فلا يثبت الملك للثاني في حقه الا بدليل يوجب النقل إليه والشراء من غير المالك لا يحل الا باذن المالك ولو علم القاضى ما علمه هو كان يحق عليه تقريره على ملك الاول حتي يثبت الثاني سبب الملك لنفسه فكذلك إذا علمه هذا الذى يريد شراءه فان سأل ذا اليد فقال انى قد اشتريتها منه أو وهبها لى أو تصديق بها على أو وكلني ببيعها فان كان ثقة فلا بأس بان يصدفه على ذلك ويشتريها منه ويطأها لانه أخبر بخبر مستقيم صالح فيكون خبره محمولا على الصدق ما لم يعارضه مانع يمنع من ذلك والمعارض انكار الاول ولم يوجد ولو كلفناه الرجوع إلى الاول ليسأله كان في ذلك نوع حرج لجواز ان يكون غائبا أو مختفيا وان كان غير ثقة الا ان أكبر رأية فيه أنه صادق فكذلك أيضا لما بينا ان في المعاملات لا يمكن اعتبار العدالة في كل خبر لمعنى الحرج والضرورة لان الخبر غير ملزم إياه شرعا مع أن أكبر الرأى إذا انضم إلى خبر الفاسق تأيد به وقد بينا نظيره في الاخبار الدينية فههنا أولى وان كان أكبر رأية أنه كاذب لم ينبغ له أن يتعرض لشئ من ذلك لان أكبر الرأى فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين ولو تيقن بكذبه لم يحل له أن يعتمد خبره فكذلك إذا كان أكبر رأيه في ذلك والاصل فيه قوله ﷺ لو ابصة بن معبد رضى الله تعالى عنه ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فيما حاك في صدرك فهو السالم وان أفتاك الناس به وقال ﷺ الاثم حراز القلوب أي على المرء ان يترك ما حرز في قلبه تحرزا عن الاثم وكذلك لو لم يعلم ان ذلك الشئ لغير الذى هو في يديه حتي أخبره الذى في يديه أنه لغيره وانه وكله
[ 174 ] ببيعه أو وهبه له أو اشتراه منه لان اقراره بالملك للغير حجة في حق المقر شرعا فهذا في حق السامع بمنزلة ما لو علم ملك الغير بأن عاينه في يده فان كان المخبر ثقة صدقه فيما أخبر به من سبب الولاية له في بيعه وكذلك ان كان غير ثقة وأكبر رأية انه صادق فيه صدقه أيضا وان كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يقبل ذلك منه ولم يشتره وان كان لم يخبره ان ذلك الشئ لغيره فلا بأس بشرائه منه وقبوله هبته وان كان غير ثقة لان دليل الملك شرعا ثابت له وهو اليد والفاسق والعدل في هذا الدليل سواء حتي إذا نازعه غيره فالقول قوله ويحل لمن رآه في يده ان يشهد له بالملك والمصير إلى أكبر الرأي عند انعدام دليل ظاهر كما لا يصار إلى القياس عند وجود النص (قال) الا ان يكون مثله لا يتملك مثل ذلك العين فأحب ان يتنزه عنه ولا يتعرض له بالشراء أو غيره وذلك كدرة يراها في يد فقير لا يملك شيئا أو رأى كتابا في يد جاهل ولم يكن في آبائه من هو أهل لذلك فالذي سبق إلى قلب كل أحد أنه سارق لذلك العين فكان التنزه عن شرائه منه أفضل وان اشترى أو قبل وهو لا يعلم أنه لغيره رجوت أن يكون في سعة من ذلك لانه يزعم أنه مالك والقول قوله شرعا فالمشتري منه يعتمد دليلا شرعيا وذلك واسع له الا أنه مع هذا لم يبت الجواب وعلقه بالرجاء لما ظهر من عمل الناس ولما سبق إلى وهم كل أحد أن مثله لا يكون مالكا لهذه العين فان كان الذى أتاه به عبد أو أمة لم ينبغ له أن يشترى ولا يقبله حتى يسأله عن ذلك لان المنافى للملك وهو الرق معلوم فيه فما لم يعلم دليلا مطلقا للتصرف في حق من رآه في يده لا يحل له الشراء منه لانه عالم أنه لغيره واليد في حق المملوك ليس بمطلق للتصرف وان الرق مانع له من التصرف ما لم يوجد الاذن فان سأله فأخبره أن مولاه قد أذن له فيه وهو ثقة مأمون فلا بأس بشرائه منه وقبوله لانه أخبر بخبر مستقيم صالح وهو محتمل في نفسه فيعتمد خبره إذا كان ثقة وان كان غيره ثقة فهو على ما يقع في قلبه فان كان أكبر رأيه أنه صادق فيما قال صدقه بقوله وان كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يعرض لشئ من ذلك وكذلك ان كان لا رأي له فيما قال لان الحاجز له عن التصرف ظاهر فلا يكون له أن يتصرف معه بمجرد خبره ما لم يترجح جانب الصدق فيه بنوع دليل ولم يوجد ذلك وكذلك الغلام الذى لم يبلغ حرا كان أو عبدا فيما يخبر أنه أذن له في بيعه أو ان فلانا بعث معه إليه هدية أو صدقة فان كان أكبر رأيه أنه صادق وسعه ان يصدقه وهذا للعادة الظاهرة في بعث الهدايا على أيدى المماليك والصبيان وفى
[ 175 ] التورع عنه من الجرح ما لا يخفى وان كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يقبل منه شيئا لان أكبر الرأى فيما لا يوقف على حقيقة كاليقين (قال) وكان شيخنا الامام رحمه الله تعالى يقول الصبى إذا أتي بقالا بفلوس يشترى منه شيئا وأخبره أن أمه أمرته بذلك فان طلب الصابون ونحوه فلا بأس ببيعه منه وان طلب الزبيب وما يأكله الصبيان عادة فينبغي له أن لا يبيعه لان الظاهر أنه كاذب فيما يقول وقد عثر على فلوس أمه فيريد أن يشترى بها حاجة نفسه وان قال الصبي هذا لى وقد أذن لى أبى في أن أهبه لك أو أتصدق به عليك لم ينبغ له أن يقبله منه لان ليس للاب ولاية الاذن بهذا التصرف لولده بخلاف ما إذا قال أبى بعثه اليك على يدى صدقة أو هبة لان للاب هذه الولاية في مال نفسه فكان ما أخبره مستقيما وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة بصدقة من مولاه ولو أن رجلا علم أن جارية لرجل يدعيها ثم رآها في يد رجل آخر يبيعها ويزعم أنها كانت في يد فلان وذلك الرجل يدعى أنها له وكانت مقرة له بالملك غير أنه زعم أنها كانت لى وانما أمرته بذلك الامر خفية وصدقته الجارية بذلك والرجل ثقة مسلم فلا بأس بشرائها منه لانه أخبر بخبر مستقيم محتمل ولو كان ما أخبر به معلوما للسامع كان له ان يشتريها منه فكذلك إذا أخبره بذلك ولا منازع له فيه وان كان في رأيه انه كاذب لم ينبغ له ان يشتريها ولا يقبلها لانه ثبت عنده انها مملوكة للاول فان اقرار ذى اليد بان الاول كان يدعى انها مملوكته حين كانت في يده يثبت الملك له وكذلك سماع هذا الرجل منه انها له دليل في حق اثبات الملك له والذى أخبره المخبر بخلاف ذلك لم يثبت عنده حين كان في أكبر رأيه انه كاذب في ذلك ولو لم يقل هذا ولكنه قال ظلمنى وغضبني وأخذتها منه لم ينبغ له ان يتعرض لشراء ولا قبول ان كان المخبر ثقة أو غير ثقة والفرق من وجهين أحدهما انه أخبر هناك بخبر مستنكر قان الظلم والغصب مما يمنع كل أحد عنه عقله ودينه فلم يثبت لم بخبره غصب ذلك الرجل بقى قوله أخذتها منه وهذا أخذ بطريق العدوان ألا ترى ان القاضى لو عاين ذلك منه أمره برده عليه حتي يثبت ما يدعيه وإذا سقط اعتبار يده بقى دعواه الملك فيما ليس في يده وذلك لا يطلق الشراء منه وفى الاول أخبر بخبر مستقيم كما قررنا فان دينه وعقله لايمنه من التلجئة عند الخوف والثانى ان خبر الواحد عند المسالمة حجة وعند المنازعة لا يكون حجة لانه يحتاج فيه إلى الالزام وذلك لا يثبت بخبر الواحد وفى الفصل الثاني
[ 176 ] أخبر عن حال منزعة بينهما في غضب الاول واسترداد هذا فلا يكون خبره حجة وفى الاول أخبر عن حال مسالمة ومواضعة كان بينهما فيعتمد خبره ان كان ثقة وان قال انه كان ظلمنى وغصبني ثم رجع عن ظلمه فأقر لى بها ودفعها إلى فان كان عنده ثقة فلا بأس بشرائها وقبولها منه لانه أخبر عن مسالمة وهو اقراره له بها ودفعها إليه ولان القاضي لو عاين ما أخبره به قضى بالملك له فيجوز للسامع ان يعتمد خبره ان كان ثقة وفى الاول لو عاين القاضى أخذها منه قهرا أو أمره بالرد ولم يلتفت إلى قوله كان غصبني وكذلك ان قال خاصمته إلى القاضى فقضى لى بها ببينة أقمتها عليه أو بنكوله عن اليمين لانه أخبر بخبر مستقيم وهو اثباته ملك نفسه بالحجة ثم الاخذ بقضاء القاضي وذلك أقوي من الاخذ بتسليم من كان في يده إليه بعد اقراره له بها وان كان غير ثقة وأكبر رأيه انه كاذب لم يشترها منه في جميع هذه الوجوه لان أكبر الرأي في هذا كاليقين وان قال قضى لى بها القاضى وأخذها منه فدفعها إلى أو قال قضى لى بها وأخذتها من منزله باذنه أو بغير اذنه فهذا وما سبق سواء لانه أخبر ان أخذه كان بقضاء القاضى أو أن القاضى دفعها إليه وهذا خبر مستقيم صالح وهو بمنزلة حالة المسالمة معنى لان كل ذى دين يكون مستسلما لقضاء القاضى وان قال قضى لى بها فجحدني قضاه فأخذتها منه لم ينبغ له أن يشتريها منه لانه لما جحد القضاء فقد جاءت المنازعة فانما أخبر بالاخذ في حالة المنازعة وخبر الواحد في هذا لا يكون حجة لما فيه من الالزام ولان القضاء سبب مطلق للاخذ له كالشراء ولو قال اشتريتها ونقدته الثمن ثم جحدني الشراء فأخذتها منه لم يجز له أن يعتمد خبره وكذلك إذا قال جحدني القضاء وهذلان الشرع جعل القول قول الجاحد فيكون سبب استحقاقه عند جحود الآخر كالمعدوم ما لم يثبته بالبينة يبقى قوله أخذتها منه ولو قال اشتريتها من فلان وقبضتها بأمره ونقدته الثمن وكان تقة عنده مأمونا فقال له رجل آخر ان فلانا جحد هذا الشراء وزعم أنه لم يبع منه شيئا والذى قال هذا أيضا ثقة مأمون لم ينبغ له أن يتعرض لشئ من ذلك بشراء ولاغيره لان الاول لو خبر أنه جحد الشراء لم يكن له أن يشتريها فكذلك إذا أخبره غيره وهذا لان المعارضة تحققت بين الخبرين في الامر بالقبض وعدم الامر والجحود والاقرار فالاصل فيه الجحود وان كان الذى أخبره الثاني غير ثقة الا أن أكبر رأيه أنه صادق فكذلك الجواب لان خبر الفاسق يتأيد بأكبر رأى السامع وان كان رأيه
[ 177 ] أنه كاذب وهو غير ثقة فلا بأس بشرائها منه لان خبره غير معتبر إذا كان أكبر رأى السامع بخلافه فكان المعني فيه أن خبر العدل كان مقبولا لترجح جانب الصدق فيه بأكبر الرأى لا بطريق اليقين فان العدل غير معصوم من الكذب فإذا وجد مثله في خبر الفاسق كان خبره كخبر العدل وان كانا جميعا غير ثقة وأكبر رأيه أن الثاني صادق لم يتعرض لشئ من ذلك بمنزلة مالو كان الثاني ثقة وفي الكتاب قال لان هذا من أمر الدين وعليه أمور الناس وهو إشارة الي أن كل ذى دين معتقد لما هو من أمور الدين فتتم الحجة بخبر الثقة لوجود الالتزام من السامع اعتقادا أو التعامل الظاهر بين الناس اعتماد هذه الاخبار ولو لم يعمل في مثل هذه الا بشاهدين لضاق الامر على الناس فلدفع الحرج يعتمد فيه خبر الواحد كما جعل الشرع شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة تامة لدفع الضيق والحرج (قال) ألاتري لو أن تاجرا قدم بلدا بجواري وطعام وثياب فقال أنا مضارب فلان أو أنا مفاوضه وسع الناس أن يشتروا منه ذلك وكذلك العبد يقدم بلدا بتجارة ويدعى أن مولاه قد أذن له في التجارة فان الناس يعتمدون خبره ويعاملونه ولو لم يطلق لهم ذلك كان فيه من الحرج ما لا يخفي واستدل عليه بحديث رواه عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى عن ابي الهيثم أن عاملا لعلى رضى الله عنه أهدى إليه جارية فسألها أفارغة أنت فأخبرته أن لها زوجا فكتب إلى عامله انك بعثت بها إلى مشغولة قال أفترى أنه كان مع الرسول شاهدان أن عاملك أهدى هذه اليك وقد سألها علي رضى الله عنه أيضا فلما أخبرته أن لها زوجا صدقها وكف عنها ولم يسألها عن ذلك الا أنها لو أخبرته أنها فارغة لم ير بأسا بوطئها (قال) وأكبر الرأى والظن مجوز للعمل فيما هو أكبر من هذا كالفروج وسفك الدماء فان من تزوج امرأة ولم يرها فأدخلها عليه انسان وأخبره أنها امرأته وسعه أن يعتمد خبره إذا كان ثقة أو كان في أكبر رأيه انه صادق فيغشاها وكذلك لو دخل على غيره ليلا وهو شاهر سيفه أو ماد رمحه يشتد نحوه ولا يدرى صاحب المنزل انه لص أو هارب من اللصوص فانه يحكم رأيه فان كان في أكبر رأيه انه لص قصده ليأخذ ماله ويقتله ان منعه وخافه ان ان زجره أو صاح به أن يبادره بالضرب فلا بأس بأن يشد عليه صاحب البيت باليسف فيقتله وان كان في أكبر رأيه أنه هارب من اللصوص لم ينبغ له أن يعجل عليه ولا يقتله وانما أورد هذا لايضاح ما تقدم أن أهم الامور الدماء والفرج فان الغلط إذا وقع فيهما
[ 178 ] لا يمكن التدارك ثم جاز العمل فيهما بأكبر الرأي عند الحاجة ففيما دون ذلك أولي وانما يتوصل إلى أكبر الرأى في حق الداخل عليه بأن يحكم رأيه وهيئته فان كان قد عرفه قبل ذلك بالجلوس مع أهل الخير فيستدل به على أنه هارب من اللصوص وان عرفه بالجلوس مع السراق استدل عليه أنه سارق وإذا قال الرجل إن فلانا الرجل أمرنى ببيع جاريته التى هي في منزله ودفعها إلى مشتريها فلا بأس بشرائها منه وقبضها من منزل مولاها بأمر البائع أو بغير أمره أو إذا فاه ثمنها وكان البائع ثقة أو كان غير ثقة ووقع في قلبه أنه صادق لان الجارية لو كانت في يده جاز شراؤها منه لا باعتبار يده بل باخباره أنه وكيل بالبيع فان هذا خبر مستقيم صالح وهذا موجود وان لم تكن في يده وبعد صحة الشراء له أن يقبضها إذا أوفي الثمن من غير أن يحتاج إلى اذن أحد في ذلك وان كان وقع في قلبه أنه كاذب قبل الشراء أو بعده قبل أن يقبض لم ينبع له أن يتعرض لشئ حتي يستأمر مولاها في أمرها لان أكبر الرأى بمنزلة اليقين في حقه فان ظهر كذبه قبل الشراء فهو مانع له من الشراء وان ظهر بعد الشراء فهو مانع له من القبض بحكم الشراء لان ما يمنع العقد إذا اقترن به يمنع القبض بحكمه أيضا كالتخمر في العصير وكذلك لو قبضها ووطئها ثم وقع في قلبه أن البائع كذب فيما قال وكان عليه أكبر ظنه فانه يعتزل وطأها حتى يتعرف خبرها لان كل وطأة فعل مستأنف من الواطئ ولو ظهر له هذا قبل الوطأة الاولى لم يكن له أن يطأها فكذلك بعدها وهكذا أمر الناس ما لم يجئ التجاحد من الذى كان يملك الجارية فإذا جاز ذلك لم يقربها وردها عليه لان الملك له فيها ثابت بتصادقهم وتوكيله لم يثبت بقول البائع فعليه أن يردها ويتبع البائع بالثمن لبطلان البيع بينهما عند جحود التوكيل وينبغي للمشتري أن يدفع العقر إلى مولى الجارية لانه وطئها وهي غير مملوكة له وقد سقط الحد بشبهة فيلزمه العقر وان كان المشترى حين اشتراها شهد عنده شاهدا عدل أن مولاها قد أمره ببيعها ثم حضر مولاها فجحد أن يكون أمره ببيعها فالمشترى في سعة من امساكها والتصرف فيها حتى يخاصمه إلى القاضى لان شهادة الشاهدين حجة حكمية ولو شهدا عند القاضى لم يلتفت القاضى إلى جحود المالك وقضى بالوكالة وبصحة البيع فكذلك إذا شهدا عنده فإذا خاصم إلى القاضى فقضى له بها لم يسعه امساكها بشهادة الشاهدين لان قضاء القاضى أنفذ من الشهادة التى لم يقض بها ومعني هذا أن الشهادة لم تكن ملزمة بدون القضاء وقضاء القاضى يلزمه بنفسه والضعيف لا يظهر
[ 179 ] في مقابلة القوي رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها حتى غاب عنها فأخبره مخبر أنها قد ارتدت عن الاسلام والمخبر ثقة عنده وهو حر أو مملوك أو محدود في قذف وسعه أن يصدقه ويتزوج أربعا سواها لانه أخبره بامر دينى وهو حل نكاح الاربع له وهذا أمر بينه وبين ربه وكذلك ان كان غير ثقة وكان أكبر رأيه أنه صادق لان خبر الفاسق يتأكد بأكبر الرأى ولان هذا الخبر غير ملزم اياه شيئا والمعتبر في مثله التمييز دون العدالة وانما اعتبار العدالة في خبر ملزم وان كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتزوج أكثر من ثلاث لان خبر الفاسق يسقط اعتباره بمعارضة أكبر الرأى بخلافه ولو كان المخبر أخبر المرأة أن زوجها قد ارتد فلها أن تتزوج بزوج آخر في رواية هذا الكتاب أيضا وفي السير الكبير يقول ليس لها ذلك حتى يشهد عندها بذلك رجلان أو رجل وامرأتان قال لان ردة الزوج أغلظ حتي يتعلق بها استحقاق القتل بخلاف ردة المرأة وما ذكر هنا أصح لان المقصود الاخبار بوقوع الفرقة لا اثبات موجب الردة ألا ترى أنها تثبت بشهادة رجل وامرأتين والقتل بمثله لا يثبت وكذلك ان كانت صغيرة فأخبر أنها قد رضعت من أمه أو أخته ولو أخبر أنه تزوجها يوم تزوجها وهى مرتدة أو أخته من الرضاعة والمخبر ثقة لم ينبغ له أن يتزوج أربعا سواها ما لم يشهد بذلك عنده شاهدا عدل لانه أخبر بفساد عقد حكمنا بصحته ولا يبطل ذلك الحكم بخبر الواحد وفى الاول أصل النكاح بل أخبر بوقوع الفرقة بأمر محتمل يوضحه أن اخباره بأن أصل النكاح كان فاسدا مستنكر لان المسلم لا يباشر العقد الفاسد عادة فأما اخباره بوقوع الفرقة بسبب عارض غير مستنكر وان شهد عنده شاهدا عدل بذلك وسعه أن يتزوج أربعا لانهما لو شهدا بذلك عند القاضى حكم ببطلان النكاح فكذلك إذا شهدا به عند الزوج وعلى هذا لو أن أمرأة غاب عنها زوجها فأخبرها مسلم ثقة أن زوجها طلقها ثلاثا أو مات عنها أو كان غير ثقة فأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا الا أن أكبر رأيها أنه حق فلا بأس بأن تعتد وتتزوج ولو أتاها فأخبرها أن أصل نكاحها كان فاسدا وان زوجها كان أخاها من الرضاعة أو مرتدا لم يسعها أن تتزوج بقوله وان كان ثقة لانه في هذا الفصل أخبرها بخبر مستنكر وقد ألزمها الحكم بخلافه وفى الاول أخبرها بخبر محتمل وهو أمر بينها وبين ربها فلها أن تعتمد ذلك الخبر وتتزوج وهى نظير امرأة قالت لرجل قد طلقني زوجي ثلاثا وانقضت
[ 180 ] عدتي ووقع في قلبه أنها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها بقولها وكذلك المطلقة ثلاثا إذا قالت لزوجها الاول انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بى ثم طلقني وانقضت عدتي فلا بأس على زوجها الاول أن يتزوجها إذا كانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لانها أخبرت بحلها له بأمر محتمل وفى هذا بيان أنها لو قالت لزوجها الاول حللت لك لا يحل له أن يتزوجها ما لم يستفسرها لاختلاف بين الناس في حلها له بمجرد العقد قبل الدخول فلا يكون له أن يعتمد مطلق خبرها بالحل حتي تفسره ولو أن جارية صغيرة لاتعبر عن نفسها في يد رجل يدعى أنها له فلما فلما كبرت لقيها رجل من بلد آخر فقالت أنا حرة الاصل لم يسعه أن يتزوجها لانه علم أنها كانت مملوكة لذي اليد فان اليد فيمن لا يعبر عن نفسه دليل الملك والقول قول ذى اليد أنها مملوكته فاخبارها بخلاف المعلوم لا يكون حجة له وهو خبر مستنكر وان قالت كنت أمة له فأعتقني وكانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لم أر بأسا بأن يتزوجها لانها أخبرت بحلها له بسبب محتمل لم يعلم هو خلافه فيجوز له أن يعتمد خبرها وكذلك الحرة نفسها لو تزوجت رجلا ثم أتت غيره فأخبرته أن نكاحها الاول كان فاسدا وان زوجها كان على غير الاسلام لم ينبغ لهذا أن يصدقها ولا يتزوجها لانها أخبرته بخبر مستنكر يعلم هو خلاف ذلك وان قالت إنه طلقني بعد النكاح أو ارتد عن الاسلام وسعه ان يعتمد خبرها ويتزوجها لانها أخبرت بحلها له بسبب محتمل فمتى أقرت بعد النكاح أنه كان مرتدا حين تزوجني أو انى كنت أخته من الرضاعة لا يعتمد خبرها لانه خلاف المعلوم وإذا أخبرت بالحرمة بسبب عارض بعد النكاح من رضاع أو غير ذلك وثبتت على ذلك فان كانت ثقة مأمونة أو غير ثقة الا ان أكبر رأيه انها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها وفيه شبهة فان الملك الثابت للغير فيها لا يبطل بخبرها وقيام الملك للغير يمنعه من أن يتزوج بها ولكن قيام الملك للغير في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال فما عرف ثبوته فالاصل بقاؤه وخبر الواحد أقوى من استصحاب الحال فاما صحة النكاح في الابتداء بدليل موجب له وهو العقد الذى عاينه فلا يبطل ذلك بخبر الواحد واستدل بحديث بريرة أنها اتت عائشة رضى الله عنها بهدية إليها فاخبرتها انها صدقة تصدق بها عليها فكرهت عائشة رضى الله عنها ان تأكله حتى تسأل رسول الله ﷺ فقال ﷺ هي لها صدقة ولنا هدية فقد صدق بريرة بقولها وقد علم ان العين كان مملوكا لغيرها وصدق
[ 181 ] عائشة رضى الله عنها بقولها أيضا حين تناول منها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (باب الرجل يرى الرجل يقتل اباه أو يره) (وقال) وإذا رأى الرجل رجلا يقتل أباه متعمدا فأنكر القاتل أن يكون قتله أو قال لابنه فيما بينه وبينه أن قتلته لانه قتل وليى فلانا عمدا أو لانه ارتد عن الاسلام ولا يعلم الابن مما قال القاتل شيئا ولا وارث للمقتول غيره فالابن في سعة من قتل القاتل لانه تيقن بالسبب الموجب لحل دمه للقاتل فكان له أن يقتص منه معتمدا على قوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا وعلى قوله ﷺ العمد قود وحاصل المسألة على أربعة أوجه أحدها إذا عاين قتله والثاني إذا أقر عنده أنه قتله فهذا ومعاينة القتل سواء لان الاقرار موجب بنفسه حتى لا يملك المقر الرجوع عن اقراره فهذا ومعاينة السبب سواء والثالث أن يقيم البينة بأنه قتل أباه فيقضى له القاضى بالقود فهو في سعة من قتله لان قضاء القاضى ملزم فيثبت به السبب المطلق لاستيفاء القود له والرابع أن يشهد عنده شاهدا عدل أن هذا الرجل قتل أباه فليس له أن يقتله بشهادة لان الشهادة لا توجب الحق ما لم يتصل بها قضاء القاضى فلا يتقرر عنده السبب المطلق لاستيفاء القود بمجرد الشهادة ما لم ينضم إليه القضاء والذى بينا في الابن كذلك في غيره إذا عاين القتل أو سمع اقرار القاتل به أو عاين قضاء القاضي به كان في سعة من أن يعين الابن على قتله لانه يعينه على استيفاء حقه وذلك من باب البر والتقوى ولو شهد عنده بذلك شاهدان لم يسعه ان يعينه على قتله بشهادتهما حتي يقضي القاضى له بذلك وان أقام القاتل عند الابن شاهدين عدلين ان أباه كان قتل أبا هذا الرجل عمدا فقتله به لم ينبغ للابن ان يجعل بقتله حتى ينظر فيما شهدا به لانهما لو شهدا بذلك عند القاضى حكم ببطلان حقه فكذلك إذا شهدا عنده وكذلك لا ينبغي لغيره ان يعينه على ذلك إذا شهد عنده عدلان لما قلنا أو بانه كان مرتدا حتى يتثبت فيه وهذا لان القتل إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فيتثبت فيه حتى يكون إقدامه عليه عن بصيرة وان شهد بذلك عنده محدودان في قذف أو عبدان أو نسوة عدول لارجل معهن أو فاسقان فهو في سعة من قتله لانهما لو شهدا بذلك عند القاضى لم يمنعه من قتله بل يعينه على ذلك فكذلك إذا شهدوا عنده وان تثبت فيه فهو خير له لانه أقرب إلى الاحتياط فان القتل لا يمكن تداركه إذا وقع فيه الغلط وفرق بين القصاص وحد القذف فقال القاذف
[ 182 ] إذا أقام أربعة من الفساق يشهدون على صدق مقالته لايقام عليه حد القذف والقاتل إذا أقام فاسقين على العفو أو على ان قتله كان بحق لا يسقط القود عنه والفرق ان هناك السبب الموجب للحد لم يتقرر فان نفس القذف ليس بموجب للحد لانه خبر متمتل بين الصدق والكذب وانما يصير موجبا بعجزه عن اقامة أربعة من الشهداء ولم يظهر ذلك العجز لان للفساق شهادة وان لم تكن مقبولة والموجب للقود هو القتل وقد تقرر ذلك فالعفو بعده مسقط وهذا المسقط لا يظهر الا بقبول شهادته وليس للفاسق شهادة مقبولة وبيان هذا ان الله تعالى قال والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء والمعطوف على الشرط شرط وفي باب القتل أوجب القود بنفس القتل فقال تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى ثم قال فمن تصدق به فهو كفارة له فعرفنا ان العفو مسقط بعد الوجوب لاأن يكون عدم العفو مقررا سبب الوجوب وان شهد بذلك عنده شاهد عدل ممن يجوز شهادته فقال القاتل عندي شاهد آخر مثله ففي القياس له أن يقتله لان المانع لا يظهر بشهادة الواحد وفى الاستحسان لا يعجل بقتله حتى ينظر ايأتيه بآخر ام لانه لو أقام شاهد عدل عند القاضى وادعى ان له شاهدا آخر حاضرا أمهله الي آخر مجلسه فكذلك الولى يمهله حتى يأتي بشاهد آخر وان قتله كان في سعة لان السبب المثبت لحقه مقرر والمانع لم يظهر وعلى هذا مال في يدى رجل شهد عدلان عند رجل أن هذا المال كان لابيك غصبه هذا الرجل منه ولا وارث للاب غيره فله أن يدعى بشهادتهم وليس له أن يأخذ ذلك المال ما لم تقم البينة عند القاضى ويقضي له بذلك لان الشهادة لا تكون ملزمة بدون القضاء وفى الاخذ قصر يد الغير وليس في الدعوى الزام أحد شيئا فيتمكن من الدعوى بشهادتهما ولا يتمكن من الاخذ حتى يقضى له القاضى بذلك لان ذا اليد مزاحم له بيده ولا تزول مزاحمته الا بقضاء القاضى وكذلك لا يسع غير الوارث أن يعين الوارث على أخذه بهذه الشهادة ما لم يتصل به القضاء وان كان الوارث عاين أخذه من أبيه وسعه أخذه منه وكذلك ان أقر الآخذ عنده بالاخذ لان اقراره ملزم فهو كمعاينة السبب أو قضاء القاضى له به ويسعه أن يقاتله عليه وكذلك يسع من عاين ذلك اعانته عليه وان أتى ذلك على نفسه إذا امتنع وهو في موضع لا يقدر فيه على سلطان يأخذ له بحقه لانه يعلم أنه ملكه وكما ان له أن يقاتل دفعا عن ملكه إذا قصد الظالم أخذه منه فكذلك له أن يقاتل في استرداده والاصل فيه قوله ﷺ من
[ 183 ] قتل دون ماله فهو شهيد وإذا شهد عدلان عند امرأة أن زوجها طلقها ثلاثا وهو يجحد ذلك ثم ماتا أو غابا قبل أن يشهدا عند القاضى بذلك لم يسع امرأته ان تقيم عنده وكان ذلك بمنزلة سماعها لو سمعته يطلقها ثلاثا لانهما لو شهدا بهذا عند القاضى حكم بحرمتها عليه فكذلك إذا شهدا بذلك عندها وهذا بخلاف ما تقدم لان القتل وأخذ المال قد يكون بحق وقد يكون بغير حق فاما التطليقات الثلاث لا تكون الا موجبة للحرمة فان قال قائل فقد يطلق الرجل غير امرأته ولايكون ذلك طلاقا (قلنا) هذا على أحد وجهين اما أن تكون امرأته فيكون الطلاق واقعا عليها أو تكون غير امرأته فليس لها أن تمكنه من نفسها وحاصل الفرق أن هناك الشبهة من وجهين (أحدهما) احتمال الكذب في شهادتهما والآخر كون القتل بحق فيصير ذلك مانعا من الاقدام على مالا يمكنه تداركه وهنا الشبهة من وجه واحد وهو احتمال الكذب في شهادتهما فأما إذا كانا صادقين فلا مدفع للطلاق وبظهور عدالتهما عندها ينعدم هذا الاحتمال حكما كما ينعدم عند القاضى (فان قيل) كما أن في شهادة شاهدين احتمال الكذب ففى اقرار المقر ذلك وقد قلتم يسعه أن يقتله إذا سمع اقراره (قلنا) هذا الاحتمال يدفعه عقل المقر فالانسان لايقر على نفسه بالسبب الموجب لسفك دمه كاذبا إذا كان عاقلا وان لم يكن عاقلا فلا معتبر باقراره وكذلك لو شهدا على رضاع بينهما لم يسعها المقام على ذلك النكاح لانهما لو شهدا بذلك عند القاضى فرق بينهما فكذلك إذا شهدا عندها فان مات الشاهدان وجحد الزوج وحلف ينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه ولا تمكنه من نفسها بوجه من الوجوه لانه تمكين من الزنا وكان إسماعيل الزاهد رحمه الله تعالى يقول تسقيه ما تنكسر به شهوته فان لم تقدر على ذلك قتلته إذا قصدها لانه لو قصد أخذ مالها كان لها أن تقتله دفعا عن مالها فإذا قصد الزنا بها أولى أن يكون لها أن تقتله دفعا عن نفسها ولو هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج لانها في الحكم زوجة الاول فلو تزوجت غيره كانت ممكنة من الحرام فعليها أن تكف عن ذلك قالوا وهذا في القضاء فأما فيما بينها وبين الله تعالى فلها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها ولا يشتبه ما وصفت لك قضاء القاضى فيما يختلف فيه الفقهاء مما يرى الزوج فيه خلاف ما يرى القاضى وبيان هذا الفصل أنه لو قال لامرأته اختاري فاختارت نفسها وهو يري ان ذلك تطليقة بائنة والمرأة لا ترى ذلك فاختصما في النفقة والقاضى يراه تطليقة رجعية فقضى القاضى بانه يملك رجعتها جاز قضاؤه ووسع الرجل
[ 184 ] ان يراجعها فيمسكها وكذلك ان كانت المرأة هي التى تراه تطليقة بائنة فراجعها الزوج وحكم القاضى له بذلك وسعها المقام بذلك معه ولم يسعها ان تفارقه لان قضاء القاضى هنا اعتمد دليلا شرعيا وفى الاول قضى بالنكاح لعدم ظهور الدليل الموجب للحرمة فكان ابقاء لما كان لاقضاء بالحل بينهما حقيقة ثم حاصل الكلام في المجتهدات ان المبتلى بالحادثة إذا كان غائبا لا رأى له فعليه ان يتبع قضاء القاضى سواء قضى القاضي له بالحل أو بالحرمة وان كان عالما مجتهدا فقضى القاضى بخلاف اجتهاده فان كان هو يعتقد الحل وقضي القاضي عليه بالحرمة فعليه ان يأخذ بقضاء القاضي ويدع ؟ رأي نفسه لان القضاء ملزم للكافة ورأيه لا يعدوه وان قضى له بالحل وهو يعتقد الحرمة ففي قول أبى يوسف رحمه الله تعالى عليه ان يتبع رأى نفسه وفى قول محمد رحمه الله تعالى يأخذ بقضاء القاضى لان الاجتهاد لا يعارض القضاء ألا ترى ان للقاضى ولاية نقض اجتهاد المجتهد والقضاء عليه بخلافه وليس له ولاية نقض القضاء في المجتهدات والقضاء بخلاف الاول والضعيف لا يظهر مع القوى وأبو يوسف يقول اجتهاده ملزم في حقه وقضاء القاضى يكون عن اجتهاد فمن حيث ولاية القضاء ما يقضي به القاضى أقوى ومن حيث حقيقة الاجتهاد يترجح ما عنده في حقه على ما عند غيره فتتحقق المعارضة بينهما فيغلب الموجب للحرمة عملا بقوله ﷺ ما اجتمع الحرام والحلال في شئ الاغلب الحرام الحلال يوضحه أن عنده ان قضاء القاضى ليس بصواب ولو كان ما عنده غير القاضى لم يقض بالحل فكذلك إذا كان ذلك عنده لا يعتقد فيه الحل فان الله تعالى قال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام الآية ففي هذا بيان أن قضاء القاضى لا يحل للمرء ما يعتقد فيه الحرمة وعلى هذا الاموال فان القاضى لو قضي بالميراث للجد دون الاخ والاخ ففيه يعتقد فيه قول زيد رضي الله عنه فعليه أن يتبع رأى القاضى وان قضى القاضى بالمقاسمة على قول زيد رحمه الله تعالي والاخ يعتقد مذهب الصديق رضى الله عنه فعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى ليس له أن يأخذ المال وعلى قول محمد رحمه الله تعالى له أن يأخذ المال وعلى هذا الطلاق المضاف إذا كان الزوج يعتقد وقوع الطلاق فقضى القاضى بخلافه فهو على الخلاف وان كان الزوج غائبا أو كان يعتقد أن الطلاق غير واقع فعليه أن يتبع رأى القاضى أوقضي بخلاف اعتقاده وعلى هذا لو استفتى العامي أقوى الفقهاء عنده فأفتى له بشئ فذلك بمنزلة اجتهاده لانه وسع مثله ثم فيما يقضي القاضى بعد ذلك بخلافه
[ 185 ] حكمه كحكم المجتهد في جميع مابينا وكذلك لو حكمنا ففيها فحكمه كفتواه لان سببه تراضيهما لاولاية ثابتة له حكما فكان تراضيهما على تحكيمه كسؤالهما اياه والفتوى لا تعارض قضاء القاضي فإذا قضى القاضى عليه بخلاف ذلك كان عليه ان يتبع رأى القاضى الا ترى ان للقاضى ان يقضى بخلاف حكم الحكم في المجتهدات وليس له ان يقضي بخلاف ما قضى به غيره في المجتهدات ولو قضى به لم ينفذ قضاؤه فهذا معنى قولنا حكم الحكم في حقهما كفتواه وعلى هذا لو شهد عدلان عند جارية ان مولاها أعتقها أو أقرأنه أعتقها لم يسعها أن تدعه يجامعها إن قضى القاضى به أولم يقض لان حجة حرمتها عليه تمت عندها فهو والطلاق سواء ولا يسعها أن تتزوج إذا كان المولى يجحد العتق وكذلك إذا شهدا بعتق العبد والمولى يجحد لم يسع العبد ان يتزوج بشهادتهما حتى يقضي له القاضي بالعتق لانهما مملوكان له في الحكم فلو تزوجا بغير اذنه كانا مرتكبين للحرام عند القاضي وعند الناس والتحرز عن ارتكاب الحرام فرض والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (كتاب التحري) (قال) رضى الله عنه اعلم بان التحري لغة هو الطلب والابتغاء كقول القائل لغيره اتحرى مسرتك أي اطلب مرضاتك قال تعالى فاولئك تحروا رشدا وهو والتوخى سواء الا ان لفظ التوخى يستعمل في المعاملات والتحرى في العبادات قال ﷺ للرجلين الذين اختصما في المواريث إليه اذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه وقال ﷺ في العبادات إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وفى الشريعة عبارة عن طلب الشئ بغالب الرأى عند تعذر الوقوف على حقيقته وقد منع بعض الناس العمل بالتحرى لانه نوع ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ولا ينتفي الشك به من كل وجه ومع الشك لا يجوز العمل ولكنا نقول التحرى غير الشك والظن فالشك أن يستوى طرف العلم بالشئ والجهل به والظن أن يترجح احدهما بغير دليل والتحرى أن يترجح احدهما بغالب الرأى وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم وان كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ولاجله سمى تحريا فالحر اسم لجبل على طرف المفاوز والدليل على ما قلنا الكتاب
[ 186 ] والسنة أما الكتاب فقوله تعالى فامتحنوهن الله أعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات وذلك بالتحرى وغالب الرأى فقد أطلق عليه العلم والسنة قوله ﷺ المؤمن ينظر بنور الله وقال ﷺ فراسة المؤمن لا تخطئ وقال ﷺ لو ابصة ضع يدك على صدرك فالاثم ما حاك في قلبك وان أفتاك الناس وشئ من المعقول يدل عليه فان الاجتهاد في الاحكام الشرعية جائز للعمل به وذلك عمل بغالب الرأى ثم جعل مدركا من مدارك أحكام الشرع وان كان لا يثبت به ابتداء فكذلك التحرى مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات وان كانت العبادة لا تثبت به ابتداء والدليل عليه أمر الحروب فانه يجوز العمل فيها بغالب الرأى مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك (فان قيل) ذلك من حقوق العباد وتتحقق الضرورة لهم في ذلك كما في قيم المتلفات ونحوها ونحن انما أنكرنا هذا في العبادات التى هي حق الله تعالى (قلنا) في هذا أيضا معنى حق العبد وهو التوصل الي اسقاط ما لزمه أداؤه وكذلك في أمر القبلة فان التحرى لمعرفة حدود الاقاليم وذلك من حق العبد وفى الزكاة التحرى لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى فيجوز أن يكون غالب الرأى طريقا للوصول إليه إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بمسائل الزكاة وكان الاولى أن يبدأ بمسائل الصلاة لانها مبتدأة في القرآن وكأنه انما فعل ذلك لان معني حق العبد في الصدقة أكثر فانه يحصل بها سد خلة المحتاج أو لانه وجد في باب الصدقة نصا وهو حديث يزيد السلمى على ما بينه فبدأ بما وجد فيه النص ثم عطف عليه ماكان مجتهدا فيه ومسألة الزكاة على أربعة أوجه أحدها أن يعطى زكاة ماله رجلا من غير شك ولا تحر ولا سؤال فهذا يجز به ما لم يتبين انه غنى لان مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعا وعلي ما يصح فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتى يتبين خلافه فان الفقر في القابض أصل فان الانسان يولد ولا شئ له والتمسك بالاصل حتى يظهر خلافه جائز شرعا فالمعطى في الاعطاء يعتمد دليلا شرعيا فيقع المؤدى موقعه ما لم يعلم أنه غنى فإذا علم ذلك فعليه الاعادة لان الجواز كان باعتبار الظاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الامر بخلافه فان شك في أمره بأن كان عليه هيئة الاغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غنى ومع ذلك دفع إليه فانه لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير لان بعد الشك لزمه التحرى فإذا ترك التحرى بعدما لزمه لم يقع المؤدى موقع الجواز الا أن يعلم أنه فقير فحينئذ يجوز لان التحرى كان لمقصود
[ 187 ] وقد حصل ذلك المقصود بدونه فسقط وجوب التحرى كالسعي إلى الجمعة واجب لمقصود وهو اداء الجمعة فإذا توصل إلى ذلك بأن حمل إلى الجامع مكرها سقط عنه فرض السعي والثالث ان يتحرى بعد الشك ويقع في أكبر رأيه أنه غني فدفع إليه مع ذلك فهذا لا يشكل أنه لا يجزيه ما لم يعلم بفقره فإذا علم فهو جائز وهو الصحيح وقد زعم بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى ان عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يجزيه على قياس ما نبينه في الصلاة والاصح هو الفرق فان الصلاة لغير القبلة مع العلم لا تكون طاعة فإذا كان عنده أن فعله معصية لا يمكن اسقاط الواجب عنه فأما التصديق على الغنى صحيح ليس فيه معنى المعصية فيمكن اسقاط الواجب بفعله هذا إذا تبين وصول الحق إلى مستحقه بظهور فقر القابض والفصل الرابع ان يتحرى ويقع في أكبر رأيه أنه فقير فدفع إليه فإذا ظهر أنه فقير أو لم يظهر من حاله شئ جاز بالاتفاق وان ظهر أنه كان غنيا فكذلك في قول أبى حنيفة ومحمد وهو قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الاول وفى قوله الآخر تلزمه الاعادة وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى وكذلك لو كان جالسا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله فأعطاه فهذه الاسباب بمنزلة التحرى وجه قول أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه تبين له الخطأ في اجتهاده بيقين فسقط اعتبار اجتهاده كمن توضأ بماء وصلى ثم تبين له أنه كان نجسا أو صلى في ثوب علم أنه كان نجسا أو القاضى قضى في حادثة ؟ بالاجتهاد ثم ظهر نص بخلافه وبيانه ان صفة الفقر والغنى يوقف عليهما حقيقة فان الشرع علق بهما أحكاما من النفقة وضمان العتق وغير ذلك وانما تتعلق الاحكام الشرعية بما يوقف عليه وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المقصود ليس هو عين الاجتهاد بل المقصود اتصال الحق إلى المستحق فإذا تبين أنه لم يوصله إلى مستحقه صار اجتهاده وجود أو عدما بمنزلة لان غالب الرأى معتبر شرعا في حقه ولكن لا يسقط به الحق المستحق عليه لغيره والزكاة صلة مستحقة للمحاويج على الاغنياء فلا يسقط ذلك بعذر في جانبه إذا لم يوصل الحق إلى مستحقه وبه فارق الصلاة على أصل أبى يوسف رحمه الله تعالى لان فريضة التوجه إلى القبلة لحق الشرع وهو معذور عند الاشتباه فيمكن اقامة الاجتهاد مقام ما هو المستحق عليه في حق الشرع وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالي أنه مؤد لما كلف فيسقط به الواجب كما لو لم يظهر شئ من حال المصروف إليه وبيانه أنه مأمور بالاداء إلى من هو فقير عنده لا إلى من هو فقير حقيقة لانه
[ 188 ] لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة فالانسان قد لايعرف من نفسه حقيقة الفقر والغنى فكيف يعرفه من غيره والتكليف يثبت بحسب الوسع والذى في وسعه الاستدلال على فقره بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء وعند انعدام ذلك كله المصير إلى غالب الرأي وقد أتى بذلك وانما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضرورة ولا يرتفع ذلك بظهور حاله بعد الاداء لانه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق فلو لم يجز عنه ضاع ماله فلبقاء الضرورة قلنا يجعل المؤدى مجزيا عنه ولانه لا يعلم حقيقة غناه وانما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وتعلق الاحكام الشرعية بالغنى لا يدل على أنه يعرف صفة الغني حقيقة لان الاحكام تنبنى على ما يظهر لنا كما ينبنى الحكم على صدق الشهود وان كان لا يعلم حقيقة وبه فارق النص لانه يوقف عليه حقيقة فكان المجتهد مطالبا بالوصول إليه وان كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثوب يعرف حقيقة فيبطل بظهور النجاسة حكم الاجتهاد في الطهارة ولا نقول في الزكاة حق الفقراء بل هي محض حق الله تعالى والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لاداء الصلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ثم هناك يسقط عنه الواجب إذا أتي بما في وسعه ولا معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا ولو تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه فهو على هذا الاختلاف أيضا وذكر ابن شجاع عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه هنا كما هو قول أبى يوسف رحمه الله تعالى أما طريق أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه من لا يكون مصرفا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفا عند الجهل بحاله إذا تبين الامر بخلافه وجه رواية ابن شجاع أن النسب مما يعرف حقيقة ولهذا لو قال لغيره لست لابيك لا يلزم الحد والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد وجه ظاهر الرواية ما احتج به في الكتاب فانه روى عن إسرائيل عن أبى الجويرية عن معن بن يزيد السلمى قال خاصمت أبى إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقضى لي عليه وذلك أن أبى أعطى صدقته الرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها ثم أتيت أبى فعلم بها فقال والله يا بنى ما أياك أردت بها فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ فقال يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت ولا معني لحمله على التطوع لان ترك الاستفسار من رسول الله صلى
[ 189 ] الله عليه وسلم دليل على ان الحكم في الكل واحد مع ان مطلق الصدقة ينصرف إلى الواجب وفى بعض الروايات قال صدقة ماله وهو تنصيص إلى الواجب وكان المعني فيه ان الواجب فعل هو قربة في محل يجري فيه الشح والضن وهو المال باعتبار مصرف ليس بينهما ولاد ثم عند الاشتباه والحاجة أقام الشرع أكثر هذه الاوصاف مقام الكل في حكم الجواز والحاجة ماسة لتعذر استرداد المقبوض من القابض وبهذا يستدل في المسألة الاولى أيضا فان الصدقة على الغني فيها معنى القربة كالتصدق على الولد ولهذا لا رجوع فيه فيقام أكتر ؟ الاوصاف مقام الكل في حق الجواز ثم طريق معرفة البنوة الاجتهاد الا تري انه لما نزل قوله تعالى الدين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم قال عبد الله بن سلام رضى الله عنه والله إني بنبوته أعرف منى بولدى فانى أعرفه نبيا حقا ولا أدري ماذا أحدث النساء بعدى وإذا كان طريق المعرفة الاجتهاد كان هذا والاول سواء من حيث انه لا ينتقض الاجتهاد باجتهاد مثله فان تبين انه هاشمى فكذلك الجواب في ظاهر الرواية لان المنع من جواز صرف الواجب إليه باعتبار النسب مع ان التصدق عليه قربة فهو وفصل الاب سواء وفى جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى انه يلزمه الاعادة لان كونه من بنى هاشم مما يوقف عليه في الجملة ويصير كالمعلوم حقيقة فكان هذا بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد ودليله انه لو قال لهاشمي لست بهاشمي فانه يحد أو يعزر على حسب ما اختلفوا فيه ولو تبين أن المدفوع إليه ذمى فهو على هذا الخلاف أيضا وفى الامالى روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجزئه لان الكفر مما يوقف عليه ولهذا لو ظهر أن الشهود كفار بطل قضاء القاضى وفى ظاهر الرواية قال ما يكون في الاعتقاد فطريق معرفته الاجتهاد والتصدق على أهل الذمة قربة فهو وما سبق سواء وفى الكتاب قال أعطى ذميا أخبره انه مسلم أو كان عليه سيما المسلمين وفى هذا دليل انه يجوز تحكيم السيما في هذا الباب قال تعالى يعرف المجرمون بسيماهم وقال تعالى تعرفهم بسيماهم وفيه دليل ان الذمي إذا قال أنا مسلم لا يصير مسلما لانه قال أخبره انه مسلم ثم علم أنه ذمى وهذا لان قوله أنا مسلم أن منقاد للحق مستسلم وكل أحد يدعى ذلك فيما يعتقده وقد قال بعض المتأخرين المجوسى يا ذا قال أنا مسلم يحكم باسلامه لانهم يتشاءمون بهذا اللفظ ويتبرؤن منه بخلاف أهل الكتاب وان تبين أن المدفوع إليه مستأمن حربى فهو جائز على ما
[ 190 ] ذكر في كتاب الزكاة وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بين الذمي والحربي المستأمن فقال قد نهينا عن البر مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في ذلك قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب عند الاشتباه ولو تبين أن المدفوع إليه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لقصور فعله فان الواجب عليه بالنص الايتاء وذلك لا يكون الا باخراجه عن ملكه وجعله لله تعالى خالصا وكسب العبد مملوك له وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصا وهذا بخلاف مالو تبين أن المدفوع إليه عبد لغني أو مكاتب له فانه يجزئه وفي حق المكاتب مع العلم أيضا ولا ينظر إلى حال المولى لان اخراجه من ملكه على وجه التقرب هناك فصار لله تعالى خالصا فأما في عبد نفسه ومكاتبه لم يتم اخراجه عن ملكه وبقاء حقه يمنعه أن يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب والاصل في فريضة التوجه إلى الكعبة للصلاة قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام وكان رسول الله ﷺ بمكة يصلى إلى بيت المقدس ويجعل البيت بينه وبين بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة اضطر إلى استدبار الكعبة والتوجه إلى بيت المقدس وكان يحب ان تكون الكعبة قبلته كما كانت قبلة إبراهيم صلوات الله عليه فسأل جبريل عليه السلام ان يسأل الله له في ذلك وكان يديم النظر إلى السماء رجاء ان يأتيه جبريل عليه السلام بذلك فانزل الله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها الآية ثم لا خلاف في حق من هو بمكة ان عليه التوجه إلى عين الكعبة فاما من كان خارجا من مكة فقد كان أبو عبد الله الجرجاني يقول الواجب على التوجه إلى عين الكعبة أيضا لظاهر الآية ولان وجوب ذلك لاظهار تعظيم البقعة فلا يختلف بالقرب منه والبعد وغيره من مشايخنا رحمهم الله يقول الواجب في حق من هو خارج عن مكة التوجه إلى الجهة لان ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ومعرفة الجهة اما بدليل يدل عليه أو بالتحرى عند انقطاع الادلة فمن الدليل المحاريب المنصوبة في كل موضع لان ذلك كان باتفاق من الصحابة رضى الله عنهم ومن بعدهم فان الصحابة رضي الله عنهم فتحوا العراق وجعلوا القبلة مابين المشرق والمغرب ثم فتحوا خراسان وجعلوا قبلة أهلها مابين المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف فكانوا يصلون إليها ولما ماتوا جعلت قبورهم
[ 191 ] إليها أيضا من غير نكير منكر من أحد منهم وكفي باجماعهم حجة وقد كانت عنايتهم في أمر الدين أظهر من عناية من كان بعدهم فيلزمنا اتباعهم في ذلك ومن الدليل السؤال في كل موضع ممن هو من أهل ذلك الموضع لان أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من عيرهم عادة وقال تعالى فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ومن الدليل النجوم أيضا على ما حكى عن عبد الله بن المبارك رضى الله عنه أنه قال أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة ونحن نجعل الجدى خلف الاذن اليمنى وكان الشيخ أبو منصور الما تريدي رحمه الله تعالى يقول السبيل في معرفة الجهة ان ينظر الي مغرب الصيف في أطول أيام السنة فيعينه ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام الشتاء فيعينه ثم ؟ يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره فيكون مستقبلا للجهة إذا واجه ذلك الموضع ولا معنى للانحراف إلى جانب الشمال بعد هذا لانه إذا مال بوجه يكون إلى حد غروب الشمس في أقصر أيام السنة أو يجاوز ذلك فلا يكون مستقبلا للقبلة ولا للحرم أيضا على ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهندوانى رحمه الله تعالى ان الحرم من جانب الشمال ستة أميال ومن الجانب الآخر اثنى عشر ميلا ومن الجانب الآخر ثمانية عشر ميلا ومن الجانب الآخر أربعة وعشرون ميلا وقيل قبلة أهل الشام الركن الشامي وقبلة أهل المدينة موضع الحطيم والميزاب من جدار البيت وقبلة أهل اليمن الركن اليماني وما بين الركن اليماني إلى الحجر قبلة أهل الهند وما يتصل بها وقبلة أهل خراسان والمشرق الباب ومقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإذا انحرف بعد هذا وان قل انحرافه يصير غير مستقبل للقبلة وعند انقطاع الادلة فرضه التحرى وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى ان الجهة التي يؤديه إليها تحريه تكون قبلة حقيقة في حقه لانه أتى بما في وسعه والتكليف بحسب الوسع وهذا غير مرضى ففيه قول بأن كل مجتهد مصيب ولكنه مؤد لما كلف وانما كلف طلب الجهة على رجاء الاصابة والمقصود ليس عين الجهة انما المقصود وجه الله تعالى كما قال فأينما تولوا فثم وجه الله ولا جهة لوجه الله تعالى الا أنا لو قلنا يتوجه إلى أي جانب شاء انعدم الابتلاء وانما يتحقق معني العبادة إذا كان فيه معنى الابتلاء فأنما نوجب عليه التحرى لرجاء الاصابة لتحقيق الابتلاء وإذا فعل ذلك كان مؤديا لما عليه وان لم يكن مصيبا للجهة حقيقة والدليل على أن الصحيح هذا مابينا في كتاب الصلاة أن المصلين بالتحرى إذا أمهم أحدهم فصلاة من يعلم أنه مخالف للامام
[ 192 ] في الجهة فاسدة ولو انتصب ما ظن الامام إليه قبلة حقيقة يصح اقتداء هذا الرجل به وان خالفه في الجهة كما إذا صلوا في جوف الكعبة إذا عرفنا هذا نقول من اشتبه عليه القبلة في السفر في ليلة مظلمة واحتاج إلى أداء الصلاة فعليه التحري ثم المسألة على أربع أوجه فاما أن يصلى إلى جهة من غير شك ولا تحر أو يشك ثم يصلى إلى جهة من غير تحر أو يتحرى فيصلى إلى جهة التحرى أو يعرض عن الجهة التى أدى إليها اجتهاده فيصلى إلى جهة أخرى فأما بيان الفصل الاول أنه إذا صلى من غير شك ولا تحر فان تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شئ بأن ذهب من ذلك الموضع فصلاته جائزة لان فعل المسلم محمول على الصحة ما أمكن فكل من قام لاداء الصلاة يجعل مستقبلا للقبلة في أدائها باعتبار الظاهر وحمل أمره على الصحة حتى يتبين خلافه وان تبين أنه أخطأ القبلة فعليه اعادة الصلاة لان الظاهر يسقط اعتباره إذا تبين الحال بخلافه لان الحكم بجواز الصلاة هنا لانعدام الدليل المفسد لا للعلم بالدليل المجوز فإذا ظهر الدليل المفسد وجب الاعادة وكذلك ان كان أكبر رأيه أنه أخطأ فعليه الاعادة لان أكبر الرأى كاليقين خصوصا فيما يبني على الاحتياط وأما إذا شك ولم يتحر ولكن صلى إلى جهة فان تبين أنه أخطأ القبلة أو أكبر رأيه أنه أخطأ أو لم يتبين من حاله شئ فعليه الاعادة لانه لما شك فقد لزمه التحرى لاجل هذه الصلاة وصار التحرى فرضا من فرائض صلاته فإذا ترك هذا الفرض لا تجزيه صلاته بخلاف الاول لان التحرى انما يفترض عليه إذا شك ولم يشك في الفصل الاول فأما إذا تبين أنه أصاب القبلة جازت صلاته لان فريضة التحرى لمقصود وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه فسقط فريضة التحرى عنه وان كان أكبر رأيه انه أصاب فكان الشيخ الامام الزاهد أبو بكر محمد بن حامد رحمهم الله تعالى يفتى بالجواز هنا أيضا لان أكبر الرأى بمنزلة اليقين فيما لا يتوصل إلى معرفته حقيقة والاصح أنه لا يجزيه لان فرض التحرى لزمه بيقين فلا يسقط اعتباره الا بمثله ولان غالب الرأي يجعل كاليقين احتياطا والاحتياط هنا في الاعادة فأما إذا شك وتحرى وصلى إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فان تبين انه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شئ فصلاته جائزة بالاتفاق وكذلك ان تبين انه أخطأ فصلاته جائزة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان تبين أنه تيامن أو تياسر فكذلك الجواب وان تبين انه استدبر الكعبة فصلاته فاسدة وعليه الاعادة في أحد القولين لانه تبين الخطأ
[ 193 ] في اجتهاده فيسقط اعتبار اجتهاده كالقاضي فيما يقضي باجتهاده إذا ظهر النص بخلافه والمتوضئ بماء إذا علم بنجاسته بخلاف مااذا تيامن أو تياسر لان هناك لا يتيقن بالخطأ فان وجه المرء مقوس فان عند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانب وجهه إلى القبلة وأما عند الاستدبار لا يكون شئ من وجهه إلى الكعبة فيتيقن بالخطأ به (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى ولله المشرق والمغرب الآية وفي سبب نزولها حديثان أحدهما ماروي عن عبد الله بن عامر رحمه الله تعالى قال كان أصحاب رسول الله ﷺ في سفر في ليلة طحياء مظلمة فاشتبهت علينا القبلة فتحرى كل واحد منا وخط بين يديه خطأ فلما أصبحنا إذا الخطوط على غير القبلة فلما رجعنا إلى رسول الله ﷺ سألناه عن ذلك فنزلت الآية فقال صلي الله عليه وسلم أجزأتكم صلاتكم وفى حديث جابر رضى الله عنه قال كنا في سفر في يوم ذى ضباب فاشتبهت علينا القبلة فتحرى وصلى كل واحد منا إلى جهة فلما انكشف الضباب فمنا من أصاب ومنا من أخطأ فسألنا رسول الله ﷺ عن ذلك فنزلت الآية ولم يأمرنا رسول الله ﷺ باعادة الصلاة وقال علي رضي الله عنه قبلة المتحري جهة قصده معناه تجوز صلاته إذا توجه إلى جهة قصده والمعنى فيه انه مؤد لما كلف فيسقط عنه الفرض مطلقا كما لو تيامن أو تياسر وبيان الوصف ما قررناه فيما سبق ان المقصود من طلب الجهة ليست عين الجهة انما المقصود وجه الله تعالى الا انه يؤمر بطلب الجهة لتحقيق معنى الابتلاء وما هو المقصود وهو الابتلاء قد تم بتحريه فيسقط عنه ما لزمه من الفرض ألاتري ان في التيامن والتياسر علي وجه لا يجوز مع العلم يحكم بجواز صلاته عند التحرى للمعنى الذى قلنا فكذلك في الاستدبار وايضاح ما قلنا فيما نقل عن بعض العارفين قال قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السماء البيت المعمور وقبلة ؟ ؟ ؟ ؟ الكرسي وقبلة حملة العرش العرش ومطلوب الكل وجه الله تعالى وهذا بخلاف مااذا ظهرت النجاسة في الثوب أوفى الماء لما قلنا ان ذلك مما يمكن الوقوف على حقيقته ولان التوضي بالماء النجس ليس بقربة فلا يمكن أداء الواجب به بحال فأما الصلاة إلى غير القبلة قربة ألا ترى ان الراكب يتطوع على دابته حيث ما توجهت به اختيارا ويؤدى الفرض كذلك عند العذر أيضا وبنحو هذا فرق في الزكاة أيضا ان التصدق على الاب وعلى الغنى قربة ولهذا لا يثبت له حق الاسترداد كما قررنا فأما إذا أعرض عن الجهة التى أدى إليها اجتهاده وصلى إلى جهة أخرى
[ 194 ] ثم تبين انه أصاب القبلة فعليه اعادة الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد روى عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى قال أخشي عليه الكفر لاعراضه عن القبلة عنده وروى عنه أيضا أنه قال أما يكفيه أن لا يحكم بكفره وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى تجوز صلاته لان لزوم التحرى كان لمقصود وقد أصاب ذلك المقصود بغيره فكان هذا ومالو أصابه بالتحرى سواء وهذا على أصله مستقيم لانه يسقط اعتبار التحرى إذا تبين الامر بخلافه كما قال في الزكاة وإذا سقط اعتبار التحرى فكأنه صلى إلى هذه الجهة من غير تحر وقد تبين أنه أصاب فتجوز صلاته وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه اعتقد فساد صلاته لان عنده أنه صلى إلى غير القبلة فلا يجوز الحكم بجواز صلاته مع اعتقاده الفساد فيه كما لو اقتدى بالامام وهو يصلى إلى غير جهته لم تجز صلاته إذا علم لاعتقاده أن امامه على الخطأ يوضحه أن الجهة التي أدى إليها اجتهاده صارت بمنزلة القبلة في حقه عملا حتي لو صلى إليها جازت صلاته وان تبين الامر بخلافه فصار هو في الاعراض عنها بمنزلة مالو كان معاينا الكعبة فأعرض عنها وصلى إلى جهة أخري فتكون صلاته فاسدة ولهذا لا يحكم بكفره لان تلك الجهة ما انتصبت قبلة حقيقة في حق العمل وان انتصبت قبلة في حق العمل فان كان تبين الحال له في خلال الصلاة فنقول أما في هذا الفصل فعليه استقبال الصلاة لانه لو تبين له بعد الفراغ لزمه الاعادة فإذا تبين في خلال الصلاة أولى ولم يرو عن أبى يوسف رضى الله عنه خلاف هذا وينبغى ان يكون هذا مذهبه أيضا لانه قد يقول قوى حاله بالتيقن بالاصابة في خلال الصلاة ولا ينبني القوى على الضعيف كالمومى إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة فاما إذا كان مصليا إلى الجهة التى أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه ان يتحول إلى جهة الكعبة ويبنى على صلاته لانه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الاعادة فكذلك إذا تبين له في خلال الصلاة وهذا لان افتتاحه الي جهة تلك الجهة قبلة في حقه عملا فيكون حاله كحال أهل قباحين كانوا يصلون الي بيت المقدس فأتاهم آت وأخبرهم ان القبلة حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم ركوع ثم جوز رسول الله ﷺ صلاتهم وعلى هذا قالوا لو صلى بعض الصلاة إلى جهة بالتحرى ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى يستقبل تلك الجهة ويتم صلاته لان الاجتهاد لا ينقض بمثله ولكن في المستقبل يبني على ما أدى إليه اجتهاده حتى روي عن محمد انه قال لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات
[ 195 ] بهذه الصفة يجوز واختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الاولى فمنهم من يقول يستقبل تلك الجهة أيضا فتتم صلاته جريا على طريقة القياس ومنهم من يستقبح هذا ويقول إذا آل الامر إلى هذا فعليه استقبال الصلاة لانه كان أعرض عن هذه الجهة في هذه الصلاة فليس له أن يستقبلها في هذه الصلاة أيضا فأما إذا افتتح الصلاة مع الشك من غير تحر ثم تبين له في خلال الصلاة انه أصاب القبلة أو أكبر رأيه انه أصاب فعليه الاستقبال لان افتتاحه كان ضعيفا حتى لا يحكم بجواز صلاته ما لم يعلم بالاصابة فإذا علم في خلال الصلاة فقد تقوى حاله وبناء القوى على الضعيف لا يجوز فيلزمه الاستقبال بخلاف مااذا علم بعد الفراغ فانه لا يحتاج إلى البناء ونظيره في المومى والمتيمم وصاحب الجرح السائل يزول ما بهم من العذر إذا كان بعد الفراغ لا يلزمهم الاعادة وان كان في خلال الصلاة يلزمهم الاستقبال فأما إذا كان افتتحها من غير شك وتحر فان تبين في خلال الصلاة أنه أخطأ فعليه الاستقبال وان تبين أنه أصاب فهذا الفصل غير مذكور في الكتاب وكان الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل رحمهم الله تعالى يقول يلزمه الاستقبال أيضا لان افتتاحه كان ضعيفا ألا ترى انه إذا تبين الخطأ تلزمه الاعادة فإذا تبين الصواب في خلال الصلاة فقد تقوى حاله فيلزمه الاستقبال وكان الشيخ الامام أبو بكر محمد بن حامد رحمه الله تعالى يقول لا يلزمه الاستقبال وهو الاصح لان صلاته هنا في الابتداء كانت صحيحة لانعدام الدليل المفسد فبالتبين لا تزداد القوة حكما فلا يلزمه الانتقال بخلاف ما بعد الشك لان هناك صلاته ليست بصحيحة الا بالتيقن بالاصابة فإذا تبين أنه أصاب فقد تقوى حاله حكما فلهذا لزمه الاستقبال رجل دخل مسجدا لا محراب فيه وقبلته مشكلة وفيه قوم من أهله فتحرى القبلة وصلي ثم علم أنه أخطأ القبلة فعليه أن يعيد الصلاة لان التحرى حصل في غير أوانه فان أوان فان التحرى ما بعد انقطاع الادلة وقد بقى هنا دليل له وهو السؤال فكان وجود التحرى كعدمه فيصير كانه صلى بعد الشك من غير التحرى فلا تجزيه صلاته الا إذا تبين أنه أصاب فكذا هذا عليه الاعادة لما تبين أنه أخطأ فان تبين أنه أصاب فصلاته جائزة واستشهد لهذا بمن أتي ماء من المياه أوحيا من الاحياء وطلب الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم وجده فان كان في الحى قوم من أهله ولم يسألهم حتى تيمم وصلى ثم سألهم فأخبروه لم تجز صلاته وان سألهم فلم يخبروه أو لم يكن بحضرته من يسأله أجزأته صلاته وكذلك لو افتتح الصلاة بالتيمم ثم رأى انسانا فظن أن عنده خبر الماء يتم صلاته
[ 196 ] ثم يسأله فان أخبره أن الماء قريب منه يعيد الصلاة فان لم يعلم من خبر الماء شيئا فليس عليه اعادة الصلاة وقد بينا في كتاب الصلاة هذه الفصول والفرق بينهما وبين مااذا سأله في الابتداء فلم يخبره حتى صلى بالتيمم ثم أخبره فليس عليه اعادة الصلاة فأمر القبلة كذلك ولم يذكر في الكتاب أن هذا الاشتباه لو كان له بمكة ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ثم تبين أنه أخطأ هل يلزمه الاعادة فقد ذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لااعادة عليه وهذا هو الاقيس لانه لما كان محبوسا في بيت وقد انقطعت عنه الادلة ففرضه التحرى ويحكم بجواز صلاته بالتحرى فلا تلزمه الاعادة كما لو كان خارج مكة وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول هنا تلزمه الاعادة لانه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة (قال) وكذلك إذا كان بالمدينة لان القبلة بالمدينة مقطوع بها فانه انما نصبها رسول الله ﷺ بالوحي بخلاف سائر البقاع ولان الاشتباه بمكة يندر والحكم لا ينبني على النادر فلا يندر تحريه للحكم بالجواز هنا بخلاف سائر البقاع فان الاشتباه يكثر فيها والاصل في المسائل بعد هذا أن الحكم للغالب لان المغلوب يصير مستهلكا في مقابلة الغالب والمستهلك في حكم المعدوم ألا ترى أن الاسم للغالب فان الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير ثم يطلق على الكل اسم الحنطة وعلى هذا قالوا في قرية عامة أهلها المجوس لا يحل لاحد أن يشترى لحماما لم يعلم أنه ذبيحة مسلم وفى القرية التى عامة أهلها مسلمون يحل ذلك بناء للحكم على الغالب ويباح لكل أحد الرمى في دار الحرب إلى كل من يراه من بعدما لم يعلم أنه مسلم أو ذمى ولا يحل له ذلك في دار الاسلام ما لم يعلم انه حربى ولو ان أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذمة لم يجز استرقاق واحد منهم الا من يعلم بعينه انه حربى لان الغالب في هذه المواضع أهل الذمة ولو دخل قوم من أهل الذمة قرية من قري أهل الحرب جاز للمسلمين استرقاق أهل تلك القرية الا من يعلم انه ذمى ثم المسائل نوعان مختلط منفصل الاجزاء ومختلط متصل الاجزاء فمن المختلط الذى هو منفصل الاجزاء مسألة المساليخ وهى تنقسم إلى ثلاثة أقسام اما ان تكون الغلبة للحلال أو للحرام أو كانا متساويين وفيه حالتان حالة الضرورة بان كان لا يجد غيرها وحالة الاختيار ففى حالة الضرورة ويجوز له التحري في الفصول كلها لان تناول الميتة عند الضرورة جائز له شرعا فلان يجوز له التحرى عند الضرورة واصابة الحلال بتحريه مأمول كأن أولى واما في حالة الاختيار فان كانت الغلبة للحلال بأن كانت المساليخ ثلاثة أحدها ميتة جاز له التحرى أيضا
[ 197 ] لان الحلال هو الغالب والحكم للغالب فبهذا الطريق جاز له التناول منها الا ما يعلم انه ميتة فالسبيل ان يوقع تحريه على احدها انها ميتة فيتجنبها ويتناول ما سوى ذلك لا بالتحرى بل بغلبة الحلال وكون الحكم له وان كان الحرام غالبا فليس له ان يتحرى عندنا وله ذلك عند الشافعي لانه يتيقن بوجود الحلال فيها ويرجو إصابته بالتحرى فله ان يتحرى كما في الفصول الاول وهذا لان الحرمة في الميتة محض حق الشرع والعمل بغالب الرأى جائز في مثله كما في استقبال القبلة فان جهات الخطأ هناك تغلب على جهات الصواب ولم يمنعه ذلك من العمل بالتحرى فهذا مثله (وحجتنا) في ذلك ان الحكم للغالب وإذا كان الغالب هو الحرام كان الكل حراما في وجوب الاجتناب عنها في حالة الاختيار وهذا لانه لو تناول شيئا منها انما يتناول بغالب الرأى وجواز العمل بغالب الرأى للضرورة ولا ضرورة في حالة الاختيار بخلاف مااذا كان الغالب الحلال فان حل التناول هناك ليس بغالب الرأى كما قررنا وهذا بخلاف أمر القبلة لان الضرورة هناك قد تقررت عند انقطاع الادلة عنه فوز انه ان لو تحققت الضرورة هنا بأن لم يجد غيرها مع ان الصلاة إلى غير جهة الكعبة قربة جائزة في حالة الاختيار وهو التطوع على الدابة وتناول الميتة لا يجوز مع الاختيار بحال ولهذا لا يجوز له العمل بغالب الرأى هنا في حالة الاختيار وكذلك ان كانا متساويين لان عند المساواة يغلب الحرام شرعا قال ﷺ ما اجتمع الحرام والحلال في شئ الاغلب الحرام الحلال ولان التحرز عن تناول الحرام فرض وهو مخير في تناول الحلال ان شاء أصاب من هذا وان شاء أصاب من غيره ولا يتحقق المعارضة بين الفرض والمباح فيترجح جانب الفرض وهو الاجتناب عن الحرام ما لم يعلم الحلال بعينه أو بعلامة يستدل بها عليه ومن العلامة أن الميتة إذا ألقيت في الماء تطفو لما بقى من الدم فيها والذكية ترسب وقد يعرف الناس ذلك بكثرة النشيش وبسرعة الفساد إليها ولكن هذا كله ينعدم إذا كان الحرام ذبيحة المجوسى أو ذبيحة مسلم ترك التسمية عمدا ومن المختلط الذى هو متصل الاجزاء مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميتة أو شحم الخنزير وهي تنقسم ثلاثة أقسام فان كان الغالب ودك الميتة لم يجز الانتفاع بشئ منه لا بأكل لا بغيره من وجوه الانتفاع لان الحكم للغالب وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به فكان الكل ودك الميتة واستدل عليه بحديث جابر رضى الله عنه قال جاء نفر إلى رسول الله ﷺ وقالوا ان لنا سفينة في البحر وقد
[ 198 ] احتاجت إلى الدهن فوجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة افندهنها بشحمها فقال ﷺ لا تنتفعوا من الميتة بشئ وكذلك ان كانا متساويين لان عند المساواة يغلب الحرام فكان هذا كالاول فأما إذا كان الغالب هو الزيت فليس له أن يتناول شيئا منه في حالة الاختيار لان ودك الميتة وان كان مغلوبا مستهلكا حكما فهو موجود في هذا المحل حقيقة وقد تعذر تمييز الحلال من الحرام ولا يمكنه أن يتناول جزءا من الحلال الا بتناول جزء من الحرام وهو ممنوع شرعا من تناول الحرام ويجوز له أن ينتفع بها من حيث الاستصباح ودبغ الجلود بها فان الغالب هو الحلال فالانتفاع انما يلاقى الحلال مقصودا وقد روينا في كتاب الصلاة عن رسول الله ﷺ وعن على رضى الله تعالى عنه جواز الانتفاع بالدهن النجس لانه قال وان كان مائعا فانتفعوا به دون الاكل وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى لانه نجس العين كالخمر ولكنا نقول النجاسة للجار لالعين الزيت فهو كالثوب النجس يجوز بيعه وان كان لا تجوز الصلاة فيه وهذا لان إلى العباد احداث المجاورة بين الاشياء لاتقليب الاعيان وان كان التنجس يحصل بفعل العباد عرفنا أن عين الطاهر لا يصير نجسا وقد قررنا هذا الفصل في كتاب الصلاة فان باعه ولم يبين عيبه فالمشترى بالخيار إذا علم به لتمكن الخلل في مقصوده حين ظهر أنه محرم الاكل وان دبغ به الجلد فعليه أن يغسله ليزول بالغسل ما على الجلد من أثر النجاسة وما يشرب فيه فهو عفو ومن المختلط الذى هو منفصل الاجزاء مسألة الموتي إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وهى تنقسم ثلاثة أقسام فان كانت الغلبة لموتي المسلمين فانه يصلى عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين لان الحكم للغالب والغالب موتى المسلمين الا أنه ينبغي لمن يصلى عليهم ان ينوي بصلاته المسلمين خاصة لانه لو قدر على التمييز فعلا كان عليه ان يخص المسلمين بالصلاة عليهم فإذا عجز عن ذلك له ان يخص المسلمين بالنية لان ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ونظيره مالو تترس المشركون باطفال المسلمين فعلى من يرميهم ان يقصد المشركين وان كان يعلم انه يصيب المسلم وان كان الغالب موتى الكفار لا يصلى على أحد منهم الا من يعلم انه مسلم بالعلامة لان الحكم للغالب والغلبة للكفار هنا وان كانا متساويين فكذلك الجواب لان الصلاة على الكافر لا تجوز بحال قال الله تعالى ولاتصل على أحد منهم مات أبدا ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين كأهل البغي وقطاع الطريق
[ 199 ] فعند المساواة يغلب ما هو الاوجب وهو الامتناع عن الصلاة على الكفار ولايجوز المصير إلى التحرى هنا عندنا لما بينا ان العمل بغالب الرأى في موضع الضرورة ولا تتحقق الضرورة هنا وذكر في ظاهر الرواية انهم يدفنون في مقابر المشركين لان في حكم ترك الصلاة عليه جعل كأنهم كفار كلهم فكذلك في حكم الدفن هذا قول محمد رحمه الله تعالى فأما على قول أبى يوسف رحمه الله ينبغى أن يدفنوا في مقابر المسلمين مراعاة لحرمة المسلم منهم فان الاسلام يعلو ولا يعلى ودفن المسلم في مقابر المشركين لا يجوز بحال وقيل بل يتخذ لهم مقبرة على حدة لامن مقابر المسلمين ولامن مقابر المشركين فيدفنون فيها وأصل هذا الخلاف بين الصحابة رضى الله عنهم في نظير هذه المسألة وهو ان النصرانية إذا كانت تحت مسلم فماتت وهى حبلى فانه لا يصلى عليها لكفرها ثم تدفن في مقابر المشركين عند على وابن مسعود رضى الله عنهما ومنهم من يقول تدفن في مقابر المسلمين لان الولد الذى في بطنها مسلم ومنهم من يقول يتخذ لها مقبرة على حدة فهذا مثله وهذا كله إذا تعذر تمييز المسلم بالعلامة فان أمكن ذلك وجب التمييز ومن العلامة للمسلمين الختان والخضاب ولبس السواد فاما الختان فلانه من الفطرة كما قال ﷺ عشر من الفطرة وذكر من جملتها الختان الا ان من أهل الكتاب من يختتن فانما يمكن التمييز بهذه العلامة إذا اختلط المسلمون بقوم من المشركين يعلم انهم لا يختتنون واما الخضاب فهو من علامات المسلمين قال ﷺ غير والشيب ولا تتشبهوا باليهود وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه يختضب بالحناء والكتم حتى قال الراوي رأيت ابن أبى قحافة رضى الله عنه على منبر رسول الله ﷺ ولحيته كأنها ضرام عرفج واختلفت الرواية في ان النبي ﷺ هل فعل ذلك في عمره والاصح انه لم يفعل ولا خلاف انه بأس للغازي أن يختضب في دار الحرب ليكون أهيب في عين قرنه وأما من اختضب لاجل التزين للنساء والجوارى فقد منع من ذلك بعض العلماء رحمهم الله تعالى والاصح أنه لا بأس به وهو مروي عن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال كما يعجبني أن تتزين لى يعجبها أن أتزين لها وأما السواد من علامات المسلمين جاء في الحديث أن النبي ﷺ دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء وقال ﷺ إذا لبست امتى السواد فابغوا الاسلام ومنهم من روى فانعوا والاول أوجه فقد صح ان النبي صلي الله عليه وسلم
[ 200 ] بشر العباس رضى الله عنه بانتقال الخلافة إلى أولاده بعده وقال من علاماتهم لبس السواد والكفار لا يلبسون السواد فان أمكن التمييز بشئ من هذه العلامة وجب المصير إليها كما إذا أمكن معرفة جهة القبلة بشئ من العلامات وجب المصير إليها عند الاشتباه ومن المختلط الذي هو منفصل الاجزاء مسألة الثياب إذا كان في بعضها نجاسة كثيرة وليس معه ثوب غير هذه الثياب ولا ما يغسلها به ولا يعرف الطاهر من النجس فانه يتحرى ويصلى في الذى يقع تحريه أنه طاهر سواء كانت الغلبة للثياب النجسة أو للثياب الطاهرة أو كانا متساويين بخلاف مسألة المساليخ وعند التأمل لان فرق لان هناك يجوز له التحرى عند الضرورة أيضا والضرورة هنا قد تحققت لانه لا يجد بدا من ستر العورة في الصلاة ولا ثوب معه سوى هذه الثياب فجوزنا له التحرى للضرورة ثم الفرق ان عين الثوب ليس بنجس ولا يلزمه الاجتناب عنه بل له ان يلبسه لغير الصلاة وان كان نجسا فإذا لم تكن النجاسة صفة العين كان له ان يلبس أي هذه الثياب شاء في غير الصلاة فانما يتحرى لما هو من شرائط الصلاة على الخصوص وهو طهارة الثوب فكان هذا والتحرى لاستقبال القبلة سواء بخلاف المساليخ فان الميتة محرمة العين فإذا كانت الغلبة للحرام كان بمنزلة مالو كان الكل حراما في وجوب الاجتناب عنه والى نحو هذا أشار في الكتاب وقال لان الثياب لو كانت كلها نجسة لكان عليه ان يصلى في بعضها ثم لا يعيد الصلاة معناه ليس عليه الاجتناب عن لبس الثوب النجس في هذه الحالة فلان يكون له أن يتحري واصابة الطاهر بتحريه مأمول أولى وفى المساليخ في حالة الاختيار عليه الاجتناب عن الحرام فإذا كانت الغلبة للحرام كان عليه الاجتناب أيضا وإذا وقع تحريه في ثوبين على أحدهما انه هو الطاهر فصلى فيه الظهر ثم وقع في أكبر رأيه علي الآخر انه هو الطاهر فصلى فيه العصر لا يجوز لاناحين حكمنا بجواز الظهر فيه حكمنا بان الطاهر ذلك الثوب ومن ضرورته الحكم بنجاسة الثوب الآخر فلا يعتبر أكبر رأيه بعد ما جري الحكم بخلافه وهذا بخلاف أمر القبلة فانه إذا صلى الظهر إلى جهة ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى فصلى العصر اجزأه لان هناك ليس من ضرورة الحكم بجواز الظهر الحكم بأن تلك الجهة هي جهة الكعبة ألا ترى أنه وان تبين الخطأ جازت صلاته فكان تحريه عند العصر إلى جهة أخرى مصادفا محله وهنا من ضرورة الحكم بجواز الظهر الحكم بان الطاهر ذلك الثوب ألا ترى انه لو تبينت النجاسة فيه تلزمه الاعادة يوضحه ان الصلاة إلى
[ 201 ] غير جهة الكعبة يجوز في حالة الاختيار مع العلم وهو التطوع على الدابة والصلاة في الثوب الذى فيه نجاسة كثيرة لا يجوز في حالة الاختيار مع العلم فمن ضرورة جواز الظهر تعين صفة الطهارة في ذلك الثوب والنجاسة في الثوب الآخر والاخذ بالدليل الحكمى واجب ما لم يعلم خلافه فان استيقن أن الذي صلى فيه الظهر هو النجس اعاد صلاة الظهر لانه تبين له الخطأ بيقين فيما يمكن الوقوف عليه في الجملة وكذلك لو لم يحضره التحرى ولكنه أخذ أحد الثوبين فصلي فيه الظهر فهذا ومالو فعله بالتحرى سواء لان فعل المسلم محمول على الصحة ما لم يتبين الفساد فيه فيجعل كان الطاهر هذا الثوب ويحكم بجواز صلاته الا ان يتبين خلافه وكذلك لو لم يعلم ان في احدهما نجاسة حتى صلى وهو ساه في احدهما الظهر وفى الاخر العصر وفى الاول المغرب وفى الآخر العشاء ثم نظر فإذا في أحدهما قذر ولا يدرى انه هو الاول أو الآخر فصلاة الظهر والمغرب جائزة وصلاة العصر والعشاء فاسدة لانه لما صلى الظهر في احدهما جازت صلاته باعتبار الظاهر فذلك بمنزلة الحكم بطهارة ذلك الثوب وبنجاسة الثوب الآخر فكل صلاة أداها في الثوب الاول فهى جائزة وكل صلاة أداها في الثوب الثاني فعليه اعادتها ولا يلزمه اعادة ما صلى في الثوب الاول من المغرب لمكان الترتيب لانه حين صلى المغرب ماكان يعلم أن عليه اعادة العصر والترتيب بمثل هذا العذر يسقط ومن المختلط الذى هو منفصل الاجزاء مسألة الاواني إذا كان في بعضها ماء نجس وفي بعضها ماء طاهر وليس معه ماء طاهر سوى ذلك ولا يعرف الطاهر من النجس فان كانت الغلبة للاواني الطاهرة فعليه التحري لان الحكم للغالب فباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطاهر وإصابته بتحريه مأمول وان كانت الغلبة للاواني النجسة أو كانا سواء فليس له أن يثحري ؟ عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يتحرى ويتوضأ بما يقع في تحريه أنها طاهرة وهذا ومسألة المساليخ سواء والفرق بين مسألة الثياب وبين مسألة الاواني لنا أن الضرورة لاتتحق في الاواني لان التراب طهور له عند العجز عن الماء الطاهر فلا يضطر إلى استعمال التحرى للوضوء عند غلبة النجاسة لما أمكنه اقامة الفرض بالبدل وفى مسألة الثياب الضرورة مست لانه ليس للستر بدل يتوصل به إلى اقامة الفرض حتى أن في مسألة الاواني لما كان تتحقق الضرورة في الشرب عند العطش وعدم الماء الطاهر يحوز له أن يتحرى للشرب لانه لما جاز له شرب الماء النجس عند الضرورة فلان
[ 202 ] يجوز التحرى واصابة الطاهر مأمول بتحريه أولى يوضحه أن في مسألة الاواني لو كانت كلها نجسة لا يؤمر بالتوضى بها لو فعل لا تجوز صلاته فإذا كانت الغلبة له فكذلك أيضا وفي مسألة الثياب وان كان الكل نجسة يؤمر بالصلاة في بعضها ويجزيه ذلك فكذلك إذا كانت الغلبة للنجاسة وفى الكتاب يقول إذا كانت الغلبة للماء النجس يريق الكل ثم يتيمم وهذا احتياط وليس بواجب ولكنه ان أراق فهو أحوط ليكون تيممه في حال عدم الماء بيقين وان لم يرق أجزأه أيضا لانه عدم آلة الوصول إلى الماء الطاهر وهو العلم والطحاوى رحمه الله تعالي يقول في كتابه يخلط الماءين يتيمم وهذا أحوط لان بالاراقة ينقطع عنه منفعة الماء وبالخلط لا فانه بعد الخلط يسقى دوابه ويشرب عند تحقق العجز فهو أولى وبعض المتأخرين من أئمة بلخ كان يقول يتوضأ بالاناءين جميعا احتياطا لانه يتيقن بزوال الحدث عند ذلك لانه قد توضأ مرة بالماء الطاهر وحكم نجاسة الاعضاء أخف من حكم الحدث فإذا كان قادرا على ازالة أغلظ الحدثين لزمه ذلك وقاسوا بمن كان معه سؤر الحمار يؤمر بالتوضي به مع التيمم احتياطا ولسنا نأخذ بهذا لانه إذا فعل ذلك كان متوضئا بما يتيقن بنجاسته وتتنجس أعضاؤه أيضا خصوصا رأسه فانه بعد المسح بالماء ينجس وان مسحه بالماء الطاهر لا يطهر فلامعني للامر به بخلاف سؤر الحمار فانه ليس بنجس ولهذا لو غمس الثوب فيه جازت صلاته فيه فيستقيم الامر بالجمع بينه وبين التيمم احتياطا ثم الاصل بعد هذا أن التحرى في الفروج لا يجوز بحال لان التحرى انما يجوز فيما يحل تناوله عند الضرورة على ما قررنا أن استعمال التحرى نوع ضرورة والفرج لا يحل بالضرورة ألا ترى أن المكره على الزنا لا يحل له الاقدام عليه ومن خاف الهلاك من فرط الشبق لا يحل له الاقدام على الوطئ في غير الملك فلهذا لا يحل الفرج بالتحرى بحال بخلاف جميع ما تقدم من الفصول إذا عرفنا هذا فنقول رجل له أربع جوار أعتق واحدة منهن بعينها ثم نسيها لم يسعه أن يتحرى للوطئ لان المعتقة بعينها محرمة عليه فلا يحل له أن يقرب واحدة منهن حتي يعرف المحرمة بعينها وهذا لان قيام الملك في المحل شرط منصوص للحل وبتحريه لا يصير هذا الشرط معلوما بيقين بخلاف مااذا أعتق احداهن بغير عينها فان العتق في المنكر لا يزيل الملك عن المعين الا بالبيان فكان له أن يطأ من شاء منهن باعتبار الملك المتيقن به في المحل وكما لا يتحرى للوطئ هنا لا يتحرى للبيع لان جواز البيع واباحته شرعا لا يكون الا باعتبار قيام الملك في المحل
[ 203 ] فان الحرة ليست بمحل للبيع شرعا ولا يخلى الحاكم بينه وبينهن حتي يبين المعتقة من غيرها فانه لا يسعه الا ذلك لانه علم أن احداهن محرمة عليه فليس له أن يخلى بينه وبين المحرمة ليرتكب الحرام بوطئها فيحول بينه وبينهن حتى يتبين المعتقة وكذلك إذا طلق احدى نسائه بعينها ثلاثا ثم نسيها وهذا أبلغ من الاول لان المطلقة ثلاثا محرمة العين لا تحل له بنكاح ولاغيره ما لم تتزوج بزوج آخر وكذلك ان متن كلهن الا واحدة لم يسعه أن يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة بخلاف ما إذا أوقع الطلاق على احداهن بغير عينها لان بموت الثلاث هناك يتعين الطلاق في الرابعة وهنا الطلاق وقع على عين فلا يتحول بالموت من محل إلى محل فحال هذه التى بقيت بعد موت ضرائرها كحالها قبل موتهن لا يسعه أن يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة فإذا أخبر بذلك فقد أخبر بحلها وهذا أمر بينه وبين ربه فيصدق في ذلك مع اليمين ويستحلفه ما طلق هذه بعينها ثلاثا ثم يخلى بينهما اما إذا كانت تدعى هي الثلاث فغير مشكل وكذلك ان كانت لا تدعى ففي الحرمة معني حق الشرع الا تري ان البينة تقبل فيه من غير دعوى فلهذا يستحلفه القاضى إذا اتهمه فان حلف وهو جاهل بذلك فلاينبغي له ان يقربها لانه مجازف في يمينه واليمين الكاذبة لا تحل الحرام وان ادعت كل واحدة منهن انها المطلقة حلفه القاضي لكل واحدة منهن فان نكل عن اليمين لهن فرق بينه وبينهن لان النكول في حق كل واحدة منهن بمنزلة الاقرار وان حلف لهن بقى حكم الحيلولة كما كان لانا نتيقن انه كاذب في بعض هذه الايمان وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى انه قال إذا حلف لثلاث منهن يتعين الطلاق في الرابعة ضرورة فيفرق بينه وبينها كما لو أخبر انها هي المطلقة ولكن هذا لا يستقيم فيما إذا وقع على المعينة في الابتداء لانه ليس إليه البيان انما عليه ان يتذكر وذلك لا يحصل بيمينه لبعضهن بخلاف مااذا كان الايقاع على غير المعينة في الابتداء فان باع في المسألة الاولى ثلاثا من الجوارى فحكم الحاكم بجواز بيعهن وكان ذلك من رأيه وجعل الباقية هي المعتقة ثم رجع إليه مما باع شئ بشراء أو بهبة أو ميراث لم ينبغ له ان يطأها لان القاضي في ذلك قضى بغير علم ولا معتبر للقضاء عن جهل ولانا نعلم أنه مخطئ في قضائه لانه حكم بجواز البيع في محل لايعرف فيه الملك بيقين فيكون باطلا وأدنى الدرجات فيه أن يكون حكمه بجواز البيع في شخص متردد الحال بين الرق والحرية فلا ينفذ حكمه كما لو حكم بجواز
[ 204 ] بيع المكاتب بغير رضاه ولا ينبغي للمولى أن يطأ شيئا منهن بالملك الا أن يتزوجها فان نزوجها فلا بأس بوطئها لانها ان كانت حرة فالنكاح بينه وبينها صحيح وان كانت أمة فهي حلال له بالملك فهي إما زوجته أو أمته فله أن يقربها ولو أن قوما كان لكل واحد منهم جارية فأعتق أحدهم جاريته ثم لم يعرفوا المعتقة فلكل واحد منهم أن يطأ جاريته حتى يعلم المعتقة بعينها لانا علمنا قيام الملك لكل واحد منهم في جاريته وحل وطئها له ولم نتيقن باكتساب سبب الحرمة من كل واحد منهم فله أن يتمسك بما يتيقن به لان اليقين لا يزال بالشك بخلاف ما تقدم لانا تيقنا هناك باكتساب سبب الحرمة من المولى في بعضهن فليس له الاقدام على الوطئ ما لم يعلم أن الموطوءة خارجة عن تلك الحرمة وهذا لان القضاء بالحرمة يصح على المعلوم دون المجهول ففي المسألة الاولى المقضى عليه المولى وهو معلوم فالجهالة في جانب الجوارى لايمنع القضاء بحرمة هي حق الشرع وهنا المقضى عليه بالحرمة من الموالى مجهول ولا يمكن القضاء على المجهول فلكل واحد منهم ان يتمسك في جاريته بالحل الذى تيقن به حتى يعلم خلافه فان كان أكبر رأى أحدهم انه هو الذى أعتق فأحب إلى أن لا يقربها وان قرب لم يكن ذلك عليه حراما حتي يستيقن لان أكبر الرأى يوجب الاحتياط ولا يزيل الملك والحرمة في هذا المحل باعتبار زوال الملك وذلك لا يثبت بأكبر الرأى ولو اشتراهن جميعا رجل واحد قد علم ذلك لم يحل له أن يقرب واحدة منهن حتى يعرف المعتقة اما إذا اشتراهن بعقد واحد فهذا البيع باطل لان فيه الجمع بين الحرة والاماء وبيع الكل بثمن واحد وان اشتراهن بعقود متفرقة فنقول لما اجتمعن عنده وهو متيقن بأن احداهن محرمة عليه كان هذا ومالو مكان ؟ المولى في الابتداء واحدا سواء لان المقضى عليه معلوم هنا ولو اشتراهن الا واحدة حل له وطئهن لانه لا يتيقن بالحرمة فيما اشتري فلعل المعتقة تلك الواحدة التى لم يشترها فلا يصير المقضى عليه بالحرمة معلوما بهذا فان وطئهن ثم اشترى الباقية لم يحل له وطئ شئ منهن ولابيعه حتى يعلم المعتقة منهن لانه يعلم ان احداهن محرمة عليه وليس لما سبق من الوطئ تأثير في تمييز المعتقة من غير المعتقة ؟ ؟ ؟ ؟ لذلك الا التذكر والوطئ ليس من التذكر في شئ وكذلك لو كان المشترى أحد أصحاب الجوارى لانهن قد اجتمعن عنده فصار المقضي عليه بالحرمة معلوما ثم أعاد المسألة الاولى لايضاح مابينا ان التحرى لا يجوز في الفروج فقال لو مات المولى بعدما أعتق واحدة منهن بعينها ونسيها فليس للقاضى أن يتحرى
[ 205 ] ولا يأمر الورثة بذلك أيضا في تعيين المعتقة حتى لا يقول لهم اعتقوا التى أكبر رأيكم انها حرة واعتقوا أيتهن شئتم وكيف يقول لهم ذلك والعتق الواقع على شخص بعينه لا يتصور انتقاله إلى شخص آخر بحال ولكنه يسألهم عن ذلك فان زعموا ان الميت أعتق فلانة بعينها أعتقها واستحلفهم على علمهم في الباقيات لانهم خلفاء المورث وخبرهم كخبر المورث أن المعتقة هذه الا ان اليمين في حقهم على العلم لانه استحلاف على فعل الغير فان لم يعرفوا شيئا من ذلك أعتقهن جميعا وأبطل من قيمتهن قيمة واحدة بينهن بالحصص ويسعين فيما بقى لانه تعذر استدامة الملك فيهن لحق الشرع فيخرجن إلى الحرية بالسعاية كام ولد النصرانية أسلمت تخرج إلى الحرية بالسعاية الا أنه يسقط عنهن ما يتيقن بسقوطه وهو قيمة واحدة ثم ختم الكتاب بهذا في بعض النسخ ذكر بابا من كتاب الاجارات وكانه تذكر تلك المسائل حين صنف هذا الكتاب فاثبتها لكيلا يفوت فقال رجل أجر عنده من رجل سنة بمائة درهم للخدمة فخدمه ستة أشهر ثم أعتقه المولى فالعتق نافذ لقيام الملك في رقبته وحق المستأجر انما يثبت في المنفعة دون الرقبة ولا تأثير لما استحقه من اليد الا في عجز المولى عن تسليمه والقدرة على التسليم ليس يشرط لنفوذ العتق حتى ينفذ العتق في الآبق والجنين في البطن ثم يتخير العبد في فسخ الاجارة لان على احدى الطريقين الاجارة في حكم عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة ولو أجره ابتداء بعد العتق لا يلزم العقد الا برضاه فكذلك لا يتجدد انعقاد العقد لازما بعد العقد الا برضاه وعلى الطريق الآخر العقد وان انعقد جملة فهو يحتمل الفسخ بعذر والعذر قد تحقق هنا لان لزوم تسليم النفس للخدمة بعد العتق بعقد باشره المولى يلحق الشين به ويكون ذلك عذرا له في فسخ الاجارة أرأيت لو تفقه وقلد القضاء أكان يجبر على الخدمة بسبب ذلك العقد يقرره ان في اجارة النفس للخدمة كذا وتعبا فلا يلزم من المولى على العبد الا في منافع مملوكة للمولى والمنافع بعد العتق تحدث على ملك العبد فيثبت له الخيار بظهور هذا النوع من الملك له كالمنكوحة إذا أعتقت يثبت لها الخيار لملكها أمر نفسها أو زيادة ملك الزوج عليها فان فسخ العقد فأجر ما مضى للمولى لان ما يقابله استوفي على ملكه بعقده وان مضى على الاجارة فللعبد أجر ما بقى من المدة لانه بدل ما هو مملوك للعبد فان المنافع بعد العتق تحدث على ملكه والبدل انما يملك بملك الاصل وهذا بخلاف المنكوحة فانها إذا لم تختر نفسها بعد العتق فالصداق للمولى وان لم يدخل بها الزوج قبل العتق لان الصداق وجب بالعقد جملة واستحقه
[ 206 ] المولى عوضا عن ملكه وهنا الاجر يجب شيئا فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة أو يتجدد انعقاد العقد على أحد الطريقين هنا فهو بمنزلة مالو أجره بعد العتق برضاه فيكون الاجر للعبد الا ان المولى هو الذى يتولى قبضه لان الوجوب بعقده وحقوق العقد تتعلق بالعاقد وليس للعبد ولاية ان يقبضها الا بوكالة المولى وليس له ان ينقض العقد بعد اختياره المضي عليها لانه أسقط خياره كالمعتقة إذا اختارت زوجها فان كان المستأجر عجل الاجرة كلها للمولى قبل ان يعمل العبد شيئا في أول الاجارة فهذا والاول سواء الا خصلة واحدة إذا اختار العبد المضى على الاجارة فالاجر كله للمولى لانه ملك الاجر بالقبض وما ملكه المولى من كسب العبد يبقى على ملكه بعد عتقه بخلاف الاول لانه ماملك الاجر بنفس العقد هناك وانما يملكه شيئا فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة وان فسخ العبد الاجارة في بقية المدة فعلى المولى رد حصة ذلك من الاجر على المستأجر كما لو تفاسخا العقد وهذا لان المولي أكسب سبب ثبوت الخيار للعبد وفسخ العقد من العبد بناء عليه فيصير مضافا إلى المولى فلهذا يلزمه الرد بحساب ما بقى من المدة وإذا اختار المضي فقد بقى العقد على ما باشر المولى والملك في جميع الاجر قد ثبت للمولى بذلك العقد فيبقى ولا يتحول شئ منه إلى العبد وان كان الاجر شيئا بعينه في جميع هذه الوجوه فالجواب فيه والجواب في الدراهم والدنانير سواء وهذا أظهر لان الاجرة لما كانت بعينها لا تملك قبل التعجيل ولا تجب وجوبا مؤجلا ولاحالا وفى الاجر إذا كان بغير عينه كلام أنه هل يجب بنفس العقد وجوبا مؤجلا أم لا فإذا كان هناك حصة ما بقي من المدة للعبد فهنا أولى (قال) وكذلك الجواب في العبد إذا ولى اجارة نفسه باذن المولى الا أن العبد هو الذى يلى القبض هنا إذا اختار المضى على الاجارة لانه المباشر للعقد وحقوق العقد تتعلق بالعاقد وهو الذي يطالب برد ما يجب رده من المقبوض عند الفسخ لانه هو الذي قبضه بحكم العقد ثم يرجع هو على المولى به عينا كان ذلك في يد المولى أو مستهلكا لانه انما وجب بعد العتق والفسخ وهو من أهل أن يستوجب على مولاه دينا في هذه الحالة وقد لزمه هذا الدين بسبب كان هو في مباشرته عاملا لمولاه باذنه فيثبت له به حق الرجوع عليه ثم ذكر في الكتاب سؤالا فقال كيف يكون للعبد أن يفسخ الاجارة وهو الذى يليها ثم أجاب فقال لانها تمت في حال رقه باذن المولى فكأن المولى هو الذى باشر العقد ألا ترى لو أن أمة زوجت نفسها باذن مولاها ثم عتقت كان لها الخيار كما
[ 207 ] لو كان المولى هو الذي زوجها وكذلك الصبى إذا أجره الوصي في عمل من الاعمال فلم يعمل حتى بلغ الصبي مبلغ الرجال فهو بالخيار بين المضى على الاجارة وفسخها وكذلك الاب إذا أجر ابنه ثم أدرك الابن لما بينا أن في اجارة النفس كدا وتعبا فلا يلزم من الاب والوصى في حق الصبي بعد بلوغه وما يلحقه من المشقة يصير عذرا له في الفسخ بخلاف ما لو أجر داره أو عبده سنين معلومة فأدرك الغلام لم يكن له أن يبطل الاجارة والشافعي رحمه الله تعالى يسوى بينهما فيقول العقد نفذ بولاية تامة فلا يثبت له حق الفسخ بعد ذلك في الفصلين والفرق لنا بين الفصلين من وجهين أحدهما أنه ليس في اجارة الدار والعبد معني الكد والعار في حق الصبى إذا أدرك فلا يثبت له حق الفسخ بخلاف اجارة النفس والثانى أن اجارة الدار والعبد يملك بالولاية ألاتري أن من لاولاية له من القرابات ممن يعول الصبي ليس له ولاية اجارة داره وعبده فإذا نفذ باعتبار قيام ولايتهما يجعل كأنهما باشراه بعد البلوغ بالولاية فأما صحة اجارة النفس ليس باعتبار الولاية بل باعتبار المنفعة والمصلحة للولد في ذلك ليتأدب ويتعلم ما يحتاج إليه الا تري ان من يعول اليتيم بملك ذلك منه وببلوغه زال هذا المعني لانه صار من أهل النظر لنفسه فيما يحتاج إليه فلهذا يثبت له الخيار وإذا أجر العبد المحجور عليه نفسه من رجل سنة بمائة درهم للخدمة فخدمه ستة أشهر ثم أعتق فالقياس ان لا يحب الاجر لان المستأجر كان ضامنا له حين استعمله بغير اذن مولاه والاجر والضمان لا يجتمعان ولكنا نستحسن إذا سلم العبدان يجعل له الاجر فيما مضى لان في ذلك محض منفعة لا يشوبه ضرر والعبد غير محجور عن اكتساب المال وما يكون فيه محض منفعة كالاحتطاب والاحتشاش بخلاف مااذا هلك فان الضمان قد تقرر عليه من حين استعمله وهو يملكه بالضمان من ذلك الوقت فتبين انه استعمل عبد نفسه فلا يجب الاجر وبه فارق الصبي المحجور إذا أجر نفسه ومات في خلال العمل فانه يجب الاجر بحساب ما عمل لان الصبى الحر لا يملك بالضمان فلا ينعدم السبب الموجب للاجر فيما مضي وان هلك الصبى من استعماله غرم ديته وإذا سلم العبد من العمل حتى وجب الاجر بحساب مامضي يقبضه العبد فيدفعه الي مولاه لانه وجب بعقده ولكن بمقابلة منافع هي مملوكة للمولى فيلزمه دفعه إلى المولى وتجوز الاجارة فيما بقى من السنة للعبد ولاخيار له في نقض الاجارة لانها نفذت بعد عتقه بغير اجارة المولى فكأنه باشره بعد العتق ألا ترى ان أمة
[ 208 ] لو زوجت نفسها بغير اذن المولى ثم أعتقها المولى نفذ العتق ولاخيار لها بخلاف مااذا كان عقدها باذن المولى أو اجازه المولى قبل العتق فكذلك في الاجارة وكذلك الجواب هنا ان كان قبض الاجر في حال رقه لان للعبد منه حصة ما بقي وللمولى حصة ما مضى بخلاف ما تقدم لان العقد هناك كان نافذا فالاجر كله بالقبض صار ملكا للمولى وهنا العقد لم يكن نافذا لان مباشره محجور عليه فانما ينفذ بحسب ما يستوفى من المنفعة لانه حينئذ يتمحض منفعة فحصة ما استوفى من المنفعة صار مملوكا من الآجر فيكون للمولى وحصة ما لم يستوف من المنفعة لم يصر مملوكا وان كان مقبوضا وانما يملك بعد العتق باعتبار ابقاء المنفعة وانما أو في فيما بقي من المدة المنافع التى هي مملوكة له فلهذا كان الاجر بحساب ما بقى من المدة للعبد والله أعلم بالصواب
[ 209 ] بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب اللقيط) (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رضى الله عنه اللقيط لغة اسم لشئ موجود فعيل بمعني مفعول كالقتيل والجريح بمعنى المقتول والمجروح وفي الشريعة اسم لحى مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الريبة مضيعه آثم ومحرزه غانم لما في احرازه من احياء النفس فانه على شرف الهلاك واحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه قال تعالى ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعا ولهذا كان رفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الترحم على الصغار قال ﷺ من لم يرحم صغيرا ولم يوقر كبيرا فليس منا وفى رفعه اظهار الشفقة وهو أفضل الاعمال بعد الايمان على ما قيل أفضل الاعمال بعد الايمان بالله التعظيم لامر الله والشفقة على خلق الله وقد دل على ما قلنا الحديث الذى بدأ به الكتاب ورواه عن الحسن البصري أن رجلا التقط لقيطا فأتى به عليا رضى الله تعالى عنه فقال هو حر ولان أكون وليت من أمره مثل الذى وليت منه أحب إلى من كذا وكذا فقد استحب على رضى الله تعالى عنه مع جلالة قدره أن يكون هو الملتقط له فدل على أن رفعه أفضل من تركه (فان قيل) ما معنى هذا الكلام وكان متمكنا من أخذه بولاية الامامة (قلنا) نعم ولكن احياؤه كان في التقاطه حين كان على شرف الهلاك ولا يحصل ذلك بالاخذ منه بعد ما ظهر له حافظ ومتعهد فلهذا استحب ذلك مع أنه لا ينبغي للامام أن يأخذه من الملتقط الا بسبب يوجب ذلك لان يده سبقت إليه فهو أحق به باعتبار يده وفى هذا الحديث دليل على أن اللقيط حر وهو المذهب أنه حر مسلم اما باعتبار الدار لان الدار دار حرية واسلام فمن كان فيها فهو حر مسلم باعتبار الظاهر أو باعتبار الغلبة لان الغالب فيمن يسكن دار الاسلام الاحرار المسلمون والحكم للغالب أو باعتبار الاصل فالناس أولاد آدم وحواء عليهما السلام وكانا حرين
[ 210 ] فلهذا كان اللقيط حرا وفى حديث آخر أن عليا رضى الله عنه فرض له وهذا يدل على أن نفقة اللقيط في بيت المال لانه عاجز عن الكسب محتاج إلى النفقة ومال بيت المال معد للصرف إلى المحتاجين وفى حديث آخر أن عليا رضى الله عنه قال ولاؤه وعقله للمسلمين وهو المذهب أن عقل جنايته على بيت المال لانه لو مات وترك مالا كان ماله مصروفا إلى بيت المال ميراثا للمسلمين فكذلك عقل جنايته ونفقته على بيت المال لان الغنم مقابل بالغرم وهو مروي عن عمر رضى الله عنه أيضا قال اللقيط حر وولاؤه وعقله للمسلمين وذكر في حديث الزهري رضى الله عنه سنين ابن جميلة قال وجدت منبوذا على بابي فأتيت به عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال عمر رضى الله عنه عسى الغوير ابؤسا هو حر ونفقته علينا معنى المنبوذ المطروح قال تعالى فنبذوه وراء ظهورهم وهو الاسم الحقيقي للموجود لانه مطروح وانما سمى لقيطا باعتبار مآله وتفاؤلا لاستصلاح حاله فاما معنى قول عمر رضي الله عنه عسى الغوير أبؤسا مثل معروف لما يكون باطنه بخلاف ظاهره وأول من تكلم به الزباء الملكة حين رأت الصناديق فيها الرجال وقد أخبرت ان فيها الاموال فلما أحست بذلك أنشأت تقول ما للجمال مشيها وئيدا * أجند لاتحمل أم حديدا أم صرفانا باردا شديدا * أم الرجال جثما قعودا ثم قالت عسى الغوير أبؤسا فطار كلامها مثلا وكان عمر رضى الله عنه ظن ان هذا الرجل جاء إليه بولده يزعم أنه لقيط ليستوفى منه نفقته فلهذا ذكر هذا المثل وفى الحديث دليل أن الملتقط ينبغى له أن يأتي باللقيط إلى الامام وينبغي للامام أن يعطى نفقته من بيت المال وأنه يكون حرا كما قال عمر رضى الله عنه نفقته علينا وهو حر وان انفق عليه الملتقط فهو في نفقته متطوع لا يرجع بها على اللقيط إذا كبر لانه غير مجبور على ما صنع شرعا والمتطوع من يكون مخيرا غير مجبر على ايجاد شئ شرعا ولو أنفق على ولد له أب معروف بغير اذن أبيه كما متطوعا في ذلك فكذلك إذا أنفق على اللقيط وهذا لان بالالتقاط يثبت له من الحق بقدر ما ينتفع به اللقيط وهو الحفط ؟ والتربية ولم يثبت له عليه ولاية الزام شئ في ذمته لان ذلك لا ينفعه ولانه ليس بينهما سبب مثبت للولاية ولهذا لا يرجع بالنفقة عليه ولان الغالب من أحوال الناس أنهم بمثل هذا يتبرعون وفى الرجوع لا يطمعون ومطلق الفعل محمول على ما هو المعتاد فان أمره
[ 211 ] القاضى أن ينفق عليه على ان يكون ذلك دينا عليه فهو جائز وهو دين عليه لان القاضى نصب ناظرا ومعنى النظر فيما أمر به فانه إذا لم يكن في بيت المال مال وأبى الملتقط أن يتبرع بالانفاق فتمام النطر بالامر بالانفاق عليه لانه لا يبقى بدون النفقة عادة وللقاضي عليه ولاية الالزام لانه ولى كل من عجز عن التصرف بنفسه يثبت ولايته بحق الدين ومن وجه هذه الولاية فوق الولاية الثابتة بالابوة فلهذا اعتبر أمره في الزام الدين عليه وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى مجرد أمر القاضى بالانفاق عليه يكفي ولا يشترط ان يكون دينا عليه ولان أمر القاضى نافذ عليه كامره بنفسه ان لو كان من أهله ولو أمر غيره بالانفاق عليه كان ما ينفق دينا عليه فكذلك إذا أمر القاضى به والاصح ما ذكره في الكتاب أن يأمره على أن يكون دينا عليه لان مطلقه محتمل قد يكون للحث والترغيب في اتمام ما شرع فيه من التبرع فانما يزول هذا الاحتمال إذا اشترط أن يكون دينا له عليه فلهذا قيد الامر به فإذا ادعى بعد بلوغه أنه أنفق عليه كذا وصدقه اللقيط في ذلك رجع عليه به وان كذبه فالقول قول اللقيط وعلي المدعى البينة لانه يدعى لنفسه دينا في ذمته وهو ليس بأمين في ذلك وانما يكون أمينا فيما ينفي به الضمان عن نفسه فلهذا كان عليه اثبات ما يدعيه بالبينة وشهادة اللقيط بعدما ادرك جائزة إذا كان عدلا لانه حر مسلم فيكون مقبول الشهادة في الامور كلها إذا ظهرت عدالته وكان مالك يقول لاتقبل شهادته في الزنا لانه في الناس متهم بانه ولد الزنا فيعير بذلك فربما يقصد بشهادته الحاق عار الزنا بغيره ليسويه بنفسه ولكن هذا ضعيف فان الزانى بعد ظهور توبته مقبول الشهادة في الزنا والسارق كذلك ثم تهمة الكذب كما تنفى عنه في سائر الشهادات بترجح جانب الصدق عند ظهور عدالته فكذلك في الشهادة بالزنا وجنايته والجناية عليه وحدوده كغيره من الاحرار المسلمين لانه محكوم بحريته باعتبار الظاهر كما قررنا رجل التقط لقيطا فادعى رجل ابنه صدقته استحسانا وثبت نسبه منه ألا ترى ان الذى التقط لو ادعاه يثبت نسبه منه والقياس والاستحسان في الفصلين أما الملتقط إذا ادعاه في القياس لا يصدق لانه مناقض في كلامه فقد زعم انه لقيط في يده وابنه لا يكون لقيطا في يده ولانه يلزمه النسبة إليه إذا بلغ وليس له عليه ولاية الالزام وفي الاستحسان هو يقر له بما يحتاج إليه اللقيط فانه محتاج إلى النسب ليتشوف به ويندفع العار عنه فهو في هذا الاقرار يكتسب له ما ينفعه وبالالتقاط ثبت له عليه هذا المقدار يوضحه
[ 212 ] أنه يلتزم حفظه ونفقته بهذا الاقرار وهذا الالتزام تصرف منه على نفسه وله هذه الولاية ثم التناقض لايمنع ثبوت النسب بالدعوة كالملاعن إذا أكذب نفسه وهذا لان سببه خفي فربما اشتبه عليه الامر في الابتداء فظن أنه لقيط ثم تبين له أنه ولده وان ادعاه غير الملتقط في القياس لا يثبت نسبه منه وهذا قياس آخر سوى الاول لاته يقصد بهذه الدعوة أن يأخذه من الملتقط وحق الحفظ قد ثبت للملتقط على وجه ليس لغيره أن يأخذه منه فلا يقبل مجرد دعواه في ابطال الحق الثابت له وجه الاستحسان أن اللقيط محتاج إلى النسب فهو في دعوة النسب يقر له بما ينفعه ويلتزم حقا له فكان دعواه كدعوى الملتقط لنسبه ثم يترجح هو على الملتقط في الحفظ حكما لثبوت نسبه ومثل هذا يجوز أن يثبت حكما وان لم يتمكن من اثباته قصدا كما أن النسب والميراث يثبت بشهادة القابلة على الولادة حكما وان كان لا يثبت المال بشهادتها قصدا يوضحه أنه إذا قصد أخذ اللقيط من يده فانما منازعته في عين ما باشره الاول فيترجح الاول بالسبق وأما إذا ادعى نسبه فمنازعته ليست في شئ باشره الملتقط فصحت دعوته لمصادفتها محلها ولا منازع له في ذلك ثم من ضرورة ثبوت النسب ان يكون هو أحق بحفظ ولده من أجنبي وإذا أبي الملتقط ان ينفق على اللقيط وسأل القاضى ان يقبله منه فللقاضي ان لا يصدقه في ذلك ما لم يقم البينة على انه لقيط لاته متهم فيما يقول فلعله ولده أو بعض من تلزمه نفقته واحتال بهذه الحيلة ليسقط نفقته عن نفسه فلهذا لا يصدقه ما لم يقم البينة فإذا أقام البينة انه لقيط قبل منه البينة من غير خصم حاضر إما لانها تقوم لكشف الحال والبينة لكشف الحال مسموعة من غير خصم أو لانها غير ملزمة واشتراط حضور الخصم لمعني الالزام ثم القاضى مخير ان شاء قبضه منه وإن شاء لم يقبض ولكن يوليه ما تولى فيقول له قد التزمت حفظه فأنت وما التزمت وليس لك ان تلزمني ما التزمته والاولى أن يقبضه إذا علم بعجزه عن حفظه والانفاق عليه لان في تركه في يده تعريضه للهلاك ولان الاخذ الآن من باب النظر والقاضى منصوب لذلك فان أخذه ووضعه في يد رجل وأمره بأن ينفق عليه على ان يكون ذلك دينا على اللقيط ثم ان الذى التقطه سأل القاضى ان يرده عليه فهو بالخيار ان شاء رده عليه وان شاء لم يرد لانه أسقط ماكان له من حق الاختصاص فحاله بعد ذلك كحال غيره من الناس في طلب الرد رجل التقط لقيطا فجاء رجل آخر قانتزعه منه فاختصما فيه فانه يدفع إلى الاول لان يده سبقت إليه فكان هو أحق بحفظه
[ 213 ] ثم الثاني بالاخذ فوت عليه يدا محقة فيؤمر باعادتها بالرد عليه وهذا لان الاول أخذ ما هو مندوب الي أخذه والثانى أخذ ما هو ممنوع من أخذه لحق الاول فلا تكون يده معارضة ليد الاول ولا ناسخة لها وإذا كبر اللقيط فادعاه رجل فذلك إلى اللقيط لانه في يد نفسه وله قول معتبر إذا كان يعبر عن نفسه فيعتبر تصديقه لاثبات النسب منه وهذا لان المدعى يقر له بالنسب من وجه ويدعى عليه وجوب النسبة إليه من وجه فلا يثبت حكم كلامه في حقه الا بتصديقه دعوى كان أو اقرارا وإذا صدقه يثبت النسب منه إذا كان مثله يولد لمثله فأما إذا كان مثله لا يولد لمثله لا يثبت النسب منه لان الحقيقة تكذبهما وجناية اللقيط على بيت المال لان ولاءه لبيت المال فان الولاء مطلوب لمعنى التناصر والتقوى به ومن ليس له مولى معين فتناصره بالمسلمين وانما يتقوى بهم فإذا كان ولاؤه لهم كان موجب جنايته عليهم يؤدى من بيت المال لانه مالهم وميراثه لبيت المال دون الذى التقطه ورباه لان استحقاق الميراث لشخص بعينه بالقرابة أو ما في معناه من زوجية أو ولاء وليس للمتلقط شئ من ذلك (فان قيل) هو بالالتقاط والتربية قد أحياه فينبغي أن يثبت له عليه الولاء كما يثبت للمعتق بالاعتاق الذى هو احياء حكما (قلنا) هذا ليس في معنى ذلك لان الرقيق في صفة مالكية المال هالك والمعتق محدث فيه لهذا الوصف واللقيط كان حيا حقيقة ومن أهل الملك حكما فالملتقط لا يكون محييا له حقيقة ولا حكما فلا يثبت له عليه ولاء ما لم يعاقده عقد الولاء بالبلوغ وإذا ثبت أنه لا ميراث للملتقط منه كان ميراثه لبيت المال لانه مسلم ليس له وارث معين فيرثه جماعة المسلمين يوضع ماله في بيت المال وان والي رجلا بعدما أدرك جاز كما لو والى الملتقط لان ولاءه لبيت المال لم يتأكد بعد فله أن يوالى من شاء بخلاف مااذا جنى جناية وعقله بيت المال فان هناك قد تأكد ولاؤه للمسلمين حين عقلوا جنايته فلا يملك ابطال ذلك بعقد الموالاة مع أحد كالذى أسلم من أهل الحرب له أن يوالى من شاء الا أن يجني جناية ويعقله بيت المال ولايجوز للملتقط على اللقيط ذكرا كان أو أنثي عقد النكاح ولابيع ولاشراء لان نفوذ هذه التصرفات على الغير يعتمد الولاية كما قال ﷺ لانكاح الا بولي ولا ولاية للملتقط على اللقيط وانما له حق الحفظ والتربية لكونه منفعة محضة في حقه وبهذا السبب لا تثبت الولاية وان ادعى ان اللقيط عبده لم يصدق بعد ان يعرف أنه لقيط لانه محكوم بحريته باعتبار الظاهر فلا يبطل ذلك بمجرد قوله ولان يده يد حفظ فلا
[ 214 ] يمكنه أن يحول يده يد ملك بمجرد قوله من غير حجة وهذا بخلاف مااذا ادعى أنه ابنه لان ذلك اقرار للقيط بما ينفعه وهذا دعوى عليه بما يضره وهو تبديل صفة المالكية بالمملوكية ولو أن رجلا وجد لقيطا معه مال فوضعه القاضى على يده وقال انفق عليه منه فهو جائز لان ذلك المال للقيط فانه موجود معه فكانت يده أسبق إليه من يد غيره وانما ينفق عليه من ماله ولان الظاهران واضعه وضع ذلك المال لينفق عليه منه والبناء على الظاهر جائز ما لم يظهر خلافه وهو مصدق في نفقة مثله لانه أمين يخبر بما هو محتمل وينكر وجوب الضمان عليه فيقبل قوله في ذلك كمن دفع إلى انسان مالا وأمره بأن ينفق على عياله يقبل قوله في نفقة مثلهم وما اشترى من طعام أو كسوة فهو جائز عليه لان القاضى لما أمره بانفاق المال عليه فقد أمره بأن يشتري به ما يحتاج إليه من الطعام والكسوة وللقاضي عليه هذه الولاية فكذلك ما يملكه الملتقط بأمر القاضى وإذا مات اللقيط وترك ميراثا أو لم يترك فادعي رجل أنه ابنه لم يصدق لان نسبه لا يثبت بعد موت فان حكم النسب وجوب الانتساب والمقصود به الشرف وذلك لا يتحقق بعد الموت ولان صحة الدعوة باعتبار أنه أقر له بما يحتاج إليه وهو بالموت قد استغنى عن النسب فبقى كلامه دعوى الميراث فلا يصدق الا بحجة وإذا أدرك اللقيط كافرا وقد وجد في مصر من امصار المسلمين حبس وأجبر على الاسلام استحسانا لما وجد في مصر من أمصار المسلمين فقد حكم له بالاسلام باعتبار المكان فانه مكان المسلمين ومن حكم له بالاسلام تبعا لغيره إذا أدرك كافرا يجبر على الاسلام ولا يقتل استحسانا كالمولود من المسلمين إذا بلغ مرتدا وفى القياس يقتل ان أبى ان يسلم لانه كان محكوما باسلامه فيقتل على الردة كما لو وصف الاسلام بنفسه قبل البلوغ ثم ارتد ولكن في الاستحسان لا يقتل لان حقيقة الاسلام تكون بالاعتقاد بالقلب والاقرار باللسان وقد انعدم ذلك منه فيصير هذا شبهة في اسقاط القتل الذى هو نهاية في العقوبة في الدنيا وهذا لان ثبوت حكم الاسلام له بطريق التبعية كان لتوفير المنفعة عليه وليس في القتل معنى توفير المنفعة وهو نظير ما نقول في الصبي العاقل إذا أسلم يحسن اسلامه ثم إذا بلغ مرتدا يحبس ويجبر على الاسلام ولا يقتل فان مات هذا اللقيط قبل ان يعقل صليت عليه سواء كان وجده مسلم أو ذمى لانه حكم باسلامه تبعا للمكان فيصلى عليه إذا مات كالصبى إذا سبى وأخرج إلى دار الاسلام وليس معه أحد من أبويه يصلى عليه إذا مات (قال) ولو كان وجد في بيعة أو كنيسة أو قرية ليس
[ 215 ] فيها الا مشرك لم يجبر على الاسلام إذا بلغ كافرا وان مات قبل أن يعقل لم يصل عليه لان الظاهر أنه من أولاد أهل تلك القرية وهم كفار كلهم وهذه المسألة على أربعة أوجه في الحاصل أحدها أن يجده مسلم في مكان المسلمين كالمسجد ونحوه فيكون محكوما له بالاسلام والثانى أن يجده كافر في مكان أهل الكفر كالبيعة والكنيسة فيكون محكوما بالكفر لا يصلى عليه إذا مات والثالت أن يجده كافر في مكان المسلمين والرابع أن يجده مسلم في مكان الكفار ففي هذين الفصلين اختلفت الرواية ففى كتاب اللقيط يقول العبرة للمكان في الفصلين جميعا وفى رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى قال العبرة للواجد في الفصلين جميعا وهكذا ذكر في بعض النسخ من كتاب الدعوى وفى بعض النسخ قال أيهما كان موجبا للاسلام يعتبر ذلك وفى بعض النسخ قال يحكم زيه وعلامته وجه رواية هذا الكتاب أن المكان إليه أسبق من يد الواجد وعند التعارض يترجح السابق والظاهر يدل عليه فان المسلمين لا يضعون أولادهم في البيعة عادة وكذلك أهل الذمة لا يضعون أولادهم في مساجد المسلمين عادة فيبنى على الظاهر ما لم يعلم خلافه وجه رواية ابن سماعة رضى الله تعالى عنه أن يد الواجد أقوى لانه احراز له والمباح بالاحراز يظهر حكمه وانما يعتبر تبعية المكان عند عدم يد معتبرة ألا ترى أن من سبي ومعه أحد أبويه لا يحكم له بالاسلام باعتبار الدار فكذلك مع يد الواجد لا معتبر بالمكان فكان المعتبر فيه حال الواجد ووجه الرواية الاخرى أن اعتبار أحدهما يوجب الاسلام واعتبار الآخر يوجب الكفر فيترجح الموجب للاسلام كما في المولود بين مسلم وكافر ووجه الرواية التى يعتبر فيها الزى قال عند الاشتباه اعتبار الزي والعلامة أصل كما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار يعتبر الزى والعلامة للفصل وكذلك المسلمون إذا فتحوا القسطنطينية فوجدوا شيخا عليه سيما المسلمين يعلم صبيانا حوله القرآن ويزعم أنه مسلم فانه يجب الاخذ بقوله ولايجوز استرقاقه لاعتبار الزى والعلامة والاصل فيه قوله تعالى تعرفهم بسيماهم فهذا اللقيط إذا كان عليه زى المسلمين يحكم باسلامه أيضا وإذا كان عليه زى الكفار بأن كان في عنقه صليب أو عليه ثوب ديباج أو هو محروز وسط الرأس فالذي يسبق إلى وهم كل أحد أنه من أولاد الكفار فيحكم بكفره وان وجد مسلم في قرية فيها مسلمون وكفار صليت عليه إذا مات استحسانا وعلى رواية هذا الكتاب يعتبر المكان وجه القياس أنه لما تعارض الدليلان وتساويا لا يصلى عليه كموتى الكفار والمسلمين إذا اختلطوا واستووا لم يصل
[ 216 ] عليهم على ما بيناه في التحري ووجه الاستحسان أن الادلة لما تعارضت في حق المكان يترجح الاسلام باعتبار الواجد لانه مسلم أو باعتبار علو حالة الاسلام فلهذا يصلى عليه إذا مات وإذا وجد اللقيط على دابة فالدابة له لسبق يده إليها فان المركوب تبع لراكبه وهو كمال آخر يوجد معه وقد بينا أن ذلك له باعتبار الظاهر أن من وضع معه المال فانما وضع لينفق عليه منه فكذلك من حمله على الدابة فانما حمله عليها لينفق عليه مالية تلك الدابة وإذا وجد اللقيط بالكوفة فادعاه رجل من أهل الذمة أنه ابنه فلا يصدق في القياس لانه حكم له بالحرية والاسلام فلو جعل ابن الكافر بدعواه لكان تبعا له في الدين وذلك ممتنع بعد ماحكم باسلامه ولان تنفيذ قوله عليه في دعوة النسب نوع ولاية ولاولاية للكافر على المسلم ولكنا نستحسن أن يكون ابنه ويكون مسلما لانه محتاج إلى النسب بعدما حكم باسلامه فمن ادعى نسبه وان كان ذميا فهو مقر له بما ينفعه فيكون اقراره صحيحا وموجب كلامه شيئان أحدهما ثبوت نسبه منه وذلك ينفعه والآخر كفره وذلك يضره وليس من ضرورة امتناع قبول قوله في أحد الحكمين امتناعه في الآخر لان النسب ينفصل عن الدين ألا ترى أن ولد الكافر من امرأة مسلمة يكون ثابت النسب من الكافر ويكون مسلما فهذا مثله فإذا ادعى مسلم ان اللقيط عبده وأقام البينة قضى له به لانه أثبت دعواه بالحجة وثبوت حريته باعتبار الظاهر والظاهر لا يعارض البينة (فان قيل) كيف تقبل هذه البينة ولاخصم عن اللقيط لان الملتقط ليس بولي فلا يكون خصما عنه فيما يضره (قلنا) الملتقط خصم له باعتبار يده لانه يمنعه منه ويزعم أنه أحق بحفظه لانه لقيط فلا يتوصل المدعى إلى استحقاق يده عليه الا باقامة البينة على رقه فلهذا كان خصما عنه فان أقام الذمي البينة من أهل الذمة انه ابنه لم تجز شهادتهم على المسلمين قيل مراده انه أقام البينة من أهل الذمة في معارضة بينة المسلم الذى أقامها على رقه ولا تحصل المعارضة بهذه لان شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على الخصم المسلم والاصح ان مراده إذا ادعى الذمي ابتداء انه ابنه وأقام البينة من أهل الذمة فان النسب قد ثبت منه بالدعوة ولكنه محكوم له بالاسلام فلا يبطل ذلك بهذه البينة ولا يحكم بكفره لان هذه الشهادة في حكم الدين انما تقوم على المسلم وشهادة أهل الذمة بالكفر على المسلم لاتقبل وان كان شهوده مسلمين قضيت له به لانه أثبت نسبه منه بما هو حجة على المسلم فيصير تبعا له في الدين ولا يأخذه الملتقط بما أنفق عليه لانه كان متطوعا
[ 217 ] فيما فعل وإذا وجد اللقيط مسلم وكافر فتنازعا في كونه عبد أحدهما قضى به للمسلم لانه محكوم له بالاسلام فكان المسلم أحق بحفظه ولان المسلم يعلمه أحكام الاسلام والكافر يعلمه أحكام الكفر إذا كان عنده وكونه عند المسلم أنفع له حتى يتخلق بأخلاق المسلمين واللقيط يعرف ما هو أنفع له وان ادعت امرأة اللقيط انه ابنها لم تصدق الا بشهود بخلاف مااذا ادعاه رجل لان النسب يثبت باعتبار الفراش فانما يثبت من صاحب الفراش أولا وهو الرجل فالمرأة بالدعوة تحمل النسب على غيرها وهو صاحب الفراش حتى إذا ثبت منه يثبت منها وقولها ليس بحجة على الغير والرجل يدعي النسب لنفسه ابتداء ويقربه علي نفسه يوضح الفرق أن سبب ثبوت النسب من الرجل خفى لا يقف عليه غيره وهو الوطئ فيقبل فيه مجرد قوله وسبب ثبوت النسب من المرأة الولادة وذلك يقف عليه غيرها وهو القابلة فلم يكن مجرد قولها فيه حجة فان أقامت رجلا وامرأتين على الولادة يثبت النسب منها لان النسب مما يثبت مع الشبهات فيثبت بشهادة الرجال مع النساء وان ادعته امرأتان وأقامت كل كل واحدة امرأة أنه ابنهما فهو ابنهما جميعا في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وهذا في رواية أبى حفص رحمه الله تعالى وأما في رواية أبى سليمان رضي الله عنه لا يكون ابن واحدة منهما وجه رواية أبي حفص ان شهادة المرأة الواحدة حجة تامة في اثبات الولادة لانه لا يطلع عليها الرجال فكان اقامة كل واحدة منهما امرأة واحدة بمنزلة اقامتها رجلين أو رجل وامرأتين وجه رواية أبى سليمان رضى الله عنه ان شهادة المرأة الواحدة حجة ضعيفة لانها شهادة ضرورية فلا تكون حجة عند المعارضة والمزاحمة ألا ترى أنه لو أقامت إحداهما رجلين والاخرى امرأة واحدة لم تكن شهادة المرأة الواحدة حجة في معارضة شهادة رجلين فلا يثبت النسب من واحدة منهما الا ان يقيم كل واحدة منهما البينة رجلين أو رجلا وامرأتين فحينئذ يثبت النسب منهما في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وفى قولهما لا يثبت من واحدة منهما وقد بينا هذه المسألة فيما أمليناه من شرح كتاب الدعوي مع أختها وهو أن يدعى رجلان أو أكثر من ذلك وما في ذلك من اختلاف الروايات فان أقامت احداهما رجلين والاخري امرأتين جعلته ابن التى شهد لها الرجلان لان شهادة الرجلين حجة قوية وشهادة المرأتين حجة ضعيفة والضعيف ساقط الاعتبار في مقابلة القوى وإذا وجد العبد أو المكاتب أو الذمي أو الحربى لقيطا في مصرمن أمصار المسلمين فهو حر لانه لما علم أنه لقيط
[ 218 ] فقد حكم بحريته باعتبار الدار أو الاصل فلا يتغير ذلك الحكم بصفة الملتقط بعد ذلك وإذا وجد اللقيط قتيلا في مكان غير ملك الملتقط فالقسامة والدية على أهل ذلك المكان وتلك المحلة لبيت المال لانه حر محترم فانه لما حكم باسلامه وحريته كانت لنفسه من الحرمة والتقوم ما لسائر نفوس الاحرار ووجوب الدية والقسامة لصيانة النفوس المحترمة عن الاهدار كما قال صلي الله عليه وسلم لا يترك في الاسلام دم مفرج أي مهدر ثم بدل النفس ميراث عنه وقد بينا أن ميراثه لبيت المال وإذا وجد العبد لقيطا فلم يعرف ذلك الا بقوله وقال المولى كذبت بل هو عبدى فالقول قول المولى إذا كان العبد محجورا لانه ليست له يد معتبرة فيما هو قابض له بل يده يد مولاه فكأنه في يد مولاه وان كان مأذونا له في التجارة فالقول قول العبد لان له يدا معتبرة في كسبه فان الاذن في التجارة فك الحجر واطلاق اليد في الكسب ومن له يد معتبرة في شئ فقوله فيه مسموع يوضح الفرق ان العبد بقوله هذا لقيط في يدى يخبر بسقوط حتى مولاه عنه لانه حر والمحجور لاقول له فيما في يده في اسقاط حق المولى عنه ألاتري أنه لو أقر على نفسه بالدين لا يسقط به حق مولاه عما في يده بخلاف المأذون فقوله فيما يده مقبول في اسقاط حق المولى عن أخذه كما لو أقر بدين على نفسه وإذا وجد الرجل لقيطا فأقر بذلك ثم قتله هو أو غيره خطأ فالدية على عاقلة القاتل لبيت المال لقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله واللقيط حر مؤمن فيجب على قاتله الدية على عاقلته إذا كان خطأ والملتقط وغيره في ذلك سواء وان قتله عمدا فان شاء الامام قتله به وان شاء صالحه على الدية في قول أبى حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رضوان الله عليهم أجمعين عليه الدية في ماله ولا أقتله به والحربي إذا أسلم وخرج إلى دارنا ثم قتله انسان عمدا فعلي قاتله القصاص في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفيه روايتان عن أبى يوسف رحمه الله تعالى وجه قول أبى يوسف رحمه الله تعالى انا نعلم ان للقيط وليا في دار الاسلام من عصبة أو غير ذلك وان بعد الا أنا نعرفه ؟ بعينه وحق استيفاء القصاص يكون إلى الولى كما قال الله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا فيصير ذلك شبهة مانعة للامام من استيفاء القصاص وإذا تعذر استيفاء القصاص بشبهة وجبت الدية في مال القاتل لانها وجبت بعمد محض وعلى هذا الطريق نقول في الذى أسلم من أهل الحرب
[ 219 ] يجب القصاص لانا نعلم أنه لاولى له في دار الاسلام والطريق الآخر ان القصاص عقوبة مشروعة ليشفي الغيظ ودرك الثار وهذا المقصود يحصل للاولياء ولا يحصل للمسلمين والامام نائب عن المسلمين في استيفاء ما هو حق لهم وحقهم فيما ينفعهم وهو لدية لانه مال مصروف إلى مصالحهم فلهذا أوجبنا الدية دون القصاص وعلى هذا الطريق الذى أسلم من أهل دار الحرب واللقيط سواء وحجة أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى العمومات الموجبة للقود كقوله تعالى كتب عليكم القصاص وقال ﷺ العمد قود ولان من لايعرف له ولى فالامام وليه كما قال ﷺ السلطان ولى من لاولى له وإذا ثبت ان السلطان هو الولى تمكن من استيفاء القصاص لقوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا والمراد سلطان استيفاء القود ألا ترى أنه عقبه بالنهي عن الاسراف في القتل بقوله تعالى فلا يسرف في القتل وهذا يتضح في الذى أسلم وكذلك في اللقيط لان مالا يوقف عليه في حكم المعدوم ولان وليه لما كان عاجزا عن الاستيفاء ناب الامام منابه في ذلك وليس هنا شبهة عفو لان ذلك الولى غير معلوم حتى يتوهم العفو منه وحديث الهرمزان حجة لهما أيضا فان عبيدالله بن عمر رضى الله تعالى عنهما لما قتله بتهمة دم أبيه واستقر الامر على عثمان رضى الله تعالى عنه طلب منه على رضى الله تعالى عنه أن يقتص منه فقال عثمان رضى الله تعالى عنه هذا رجل قتل أبوه بالامس فأنا أستحيى أن أقتله اليوم وان الهرمزان رجل من أهل الارض وأنا وليه أعفو عنه وأؤدي لدية فقد اتفقا على وجوب القصاص ثم القصاص مشروع لحكمة الحياة كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة الآية و ذلك بطريق الزجر حتى ضر إذا تفكر في نفسه أنه متى قتل غيره قتل به انزجر عن قتله فيكون حياة لهما جميعا ولهذا قيل القتل انفي للقتل وهذا المعنى متحقق في اللقيط والذى أسلم كتحققه في غيرهما فكان للامام أن يستوفى القصاص ان شاء وان شاء صالح على الدية لانه مجتهد وله أن يميل باجتهاده إلى المطالبة بالدية ولانه ناظر للمسلمين فربما يكون استيفاء الدية أنفع للمسلمين وليس له أن يعفو بغير مال لانه نصب لاستيفاء حق المسلمين لا لابطاله ويحد قاذف اللقيط في نفسه ولا يحد قاذفه في أمه لانه محصن فانه عفيف عن الزنا أولا معتبر بالنسب في احصان القذف فيحد قاذفه في نفسه فأما أمه ليست بمحصنة بل هي في صورة الزانيات لان لها ولد لايعرف له والد فلهذا لا يحد قاذفه في أمه وفي حد القذف
[ 220 ] والقصاص اللقيط كغيره من الاحرار لانه محكوم بحريته فعليه الحد الكامل إذا ارتكب السبب الموجب له فان أقر بعد ما أدرك أنه عبد لفلان وادعاه فلان كان عبدا له لانه غير متهم فيما يقربه على نفسه وليس في قبول اقراره ابطال حق ثابت لاحد فيه وليس له نسب معروف فكان ما أقر به من الرق محتملا ولكن هذا إذا لم تتأكد حريته بقضاء القاضى عليه بما لا يقضى به الاعلى الحر كالحد الكامل والقصاص في الطرف فأما إذا اتصلت حريته بقضاء القاضي بذلك لم يقبل اقراره بالرق بعد ذلك لانه يبطل حكم الحاكم باقراره وقوله ليس بحجة في ابطال الحكم ولانه مكذب في هذا الاقرار شرعا ولو كذبه المقر له كان حرا فإذا كذبه الشرع أولى ومتى ثبت الرق باقراره فأحكامه بعد ذلك في الجنايات والحدود كاحكام العبد لانه صار محكوما عليه بالرق وان كان اللقيط امرأة فأقرت بالرق لرجل وادعى ذلك الرجل كانت أمة له لتصادقهما على ما هو محتمل ولاحق لغيرهما في ذلك الا انها ان كانت تحت زوج لاتصدق في إبطال النكاح لان ذلك حق الزوج وليس من ضرورة الحكم برقها انتفاء النكاح لان الرق لا ينافي النكاح ابتداء وبقاء بخلاف مااذا أقرت أنها ابنة أبى زوجها وصدقها الاب في ذلك فانه يثبت النسب ويبطل النكاح لتحقق المنافي فان الاختية تنافى النكاح ابتداء وبقاء ولو أعتقها المقر له لم يكن لها خيار أيضا لان اقرارها بالرق في حق الزوج لم يكن صحيحا ولانه نتمكن تهمة المواضعة بينهما وبين المقر له في أن تقر له بالرق ثم يعتقها فتختار نفسها لتخلص من الزوج فلهذا لاتصدق في حقه والاصل في كل حكم لحق الزوج فيه ضرر لا يمكنه دفعه عن نفسه فانها لاتصدق في ذلك الحكم وفى كل ما يمكنه دفع الضرر عن نفسه تكون مصدقة في حقه حتى إذا طلقها واحدة فأقرت بالرق صار طلاقها اثنتين لانه يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بمراجعتها وامساكها بحكم التطليقة الثانية ولو كان طلقها اثنتين ثم أقرت بالرق فانه يملك رجعتها لانا لو جعلنا طلاقها اثنتين باقرارهما لحق الزوج ضرر لا يمكنه دفع ذلك عن نفسه فلا نصدقها في ذلك وكذا حكم العدة ان أقرت بالرق بعد مضي حيضتين فله أن يراجعها في الحيضة الثالثة وان أقرت بالرق بعد مضي حيضة فعدتها حيضتان لما قلنا ولو قذفها زوجها لم يكن عليه حد ولالعان لان الرق ثبت في حقها باقرارها والمملوكة لا تكون محصنة فلا يجب بقذفها حد ولالعان ولو كانت دبرت عبدا
[ 221 ]
[عدل]أو أمة ثم أقرت بالرق لم تصدق على ابطاله لان المدبر استحق حق العتق بالتدبير ولو استحق حقيقة العتق بأن أعتقته لم تصدق على ابطاله لكونها متهمة في حقه فكذلك في التدبير فإذا ماتت عتق من ثلثها وسعى في ثلثي قيمته لمولاها لان السعاية حقها وقد زعمت ان كسبها لمولاها واقرارها في حق نفسها صحيح ولو أن مولاها أعتقها كان المدبر على حاله غير أن خدمته للمولى وسعايته بعد موتها له لانها أقرت له بذلك واقرارها بذلك صحيح لانه خالص حقها ثم باعتاق المولى إياها لا يسقط حقه عن كسبها الذى كان قبل العتق فلهذا كانت خدمة مدبرها وسعايته بعد موتها لمولاها وإذا أدرك اللقيط فتزوج امرأة ثم أقر أنه عبد لفلان ولامرأته عليه صداق فصداقها لازم له ولا يصدق على ابطاله لان ذلك دين ظهر وجوبه عليه لصحة سببه فكان هو متهما في قراره فيما يرجع إلى ابطاله وكذلك ان استدان دينا أو باع انسانا أو كفل بكفالة أو وهب هبة أو تصدق بصدقه وسلمها أو كاتب عبدا أو أعتقه أو دبره ثم أقر بأنه عبد لفلان لا يصدق على ابطال شئ من ذلك لانه متهم في ذلك ولان ثبوت الحكم بحسب الحجة وقوله ليس بحجة على أحد من هؤلاء فيما يرجع إلى ابطال حقهم فوجود اقراره في ذلك وعدمه سواء والله سبحانه أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب * تم الجزء العاشر من كتاب المبسوط * (تم الجزء العاشر من كتاب المبسوط ويليه الجزء الحادى عشر) (وأوله كتاب اللقيطة)