مبسوط السرخسي - الجزء الرابع و العشرون2

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


[ 88 ] ففى اللفظ ما يوجب البينونة ولهذا لو خلع الصغيرة على مال وقبلت كان الواقع بائنا بخلاف لفظ صريح الطلاق وكذلك الصلح عن دم العمد إذا أكره القاتل بقتل أو حبس على أن يصالح الولى على أكثر من الدية أو أقل منها فصالحه بطل الدم لوجود القبول مع الاكراه وليس على القاتل من المال شئ لان التزام المال يعتمد تمام الرضا وينعدم بالاكراه ولو خلع امرأته قبل أن يبلغ وقد دخل بها على ألف درهم فقبلت وقع الخلع لوجود القبول منها ولم يجب المال لان الصغر لا ينافي التكلم بالقول لكن ينافى صحة التزام المال (ألا ترى) أن التزام المال منه عوضا عن مال لا يكون صحيحا فعن غير مال أولى ولذلك لو كان لرجل على رجل دم عمد فصالحه عنه غلام لم يبلغ على مال ضمنه له الغلام على أن عفا جاز العفو لوجود القبول ممن شرط عليه الضمان ولا شئ عليه لان الصغر ينافى التزام المال بجهة الضمان وانما أورد هذا لايضاح مسألة الاكراه وكذلك لو أكره العبد على أن يقبل العتق من مولاه بمال قليل أو كثير عتق لوجود القبول ولا شئ عليه من المال لانعدام الرضا من العبد بالتزام المال ولو أكره الزوج على أن يطلق امرأته بألف درهم وأكرهت المرأة على أن تقبل ذلك ففعلا وقع الطلاق بغير مال لان الاكراه لا ينافى الاختيار في الايجاب والقبول وانما يعدم الرضا به والمال لا يجب بدون الرضا به وكذلك هذا في الصلح من القود والعتق على مال لان للمولى أن يضمن المكره قيمة عبده ان كان أكرهه بوعيد قتل وان كان أكرهه بحبس لم يضمن شيأ لما بينا أن الاتلاف انما يصير منسوبا إلى المكره عند الالجاء التام وذلك الاكراه بالقتل دون الاكراه بالحبس (باب الاكراه على الزنا والقطع) (قال رحمه الله) كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا لو أن سلطانا أو غيره أكره رجلا حتى زنا فعليه الحد وهو قول زفر رحمه الله ثم رجع فقال لا حد عليه إذا كان المكره سلطانا وهو قولهما وجه قوله الاول ان الزنا من الرجل لا يتصور الا بانتشار الآلة ولا تنتشر آلته الا بلذة وذلك دليل الطواعية فمع الخوف لا يحصل انتشار الآلة وفرق على هذا القول بين الرجل والمرأة قال المرأة في الزنا محل الفعل ومع الخوف يتحقق التمكين منها (ألا ترى) أن فعل الزنا يتحقق وهى نائمة أو مغمى عليها لا تشعر بذلك بخلاف جانب الرجل وفرق على هذا القول

[ 89 ] بين الاكراه على الزنا وبين الاكراه على القتل قال لا قود على المكره وعليه الحد ففى كل واحد من الموضعين الحرمة لا تنكشف بالاكراه ولكن القتل فعل يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فبسبب الالجاء يصير الفعل منسوبا إلى المكره ولهذا لزمه القصاص وإذا صار منسوبا إلى المكره صار المكره آلة فاما الزنا ففعل لا يتصور أن يكون المكره فيه آلة للمكره لان الزنا بآلة الغير لا يتحقق ولهذا لا يجب الحد على المكره فبقي الفعل مقصورا على المكره فيلزمه الحد ووجه قوله الآخر ان الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلى ذلك في حالة الاكراه لانه منزجر إلى أن يتحقق الالجاء وخوف التلف على نفسه فانما كان قصده بهذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك شبهة في اسقاط الحد عنه وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف فقد تنتشر الآلة طبعا بالفحولة التى ركبها الله تعالى في الرجال وقد يكون ذلك طوعا (ألا ترى) أن النائم تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له في ذلك ولا قصد ثم على القول الآخر قال أبو حنيفة رحمه الله ان كان المكره غير السلطان يجب الحد على المكره وقال أبو يوسف ومحمد إذا كان قادرا على ايقاع ما هدده به فلا حد على المكره سواء كان المكره سلطانا أو غيره قيل هذا اختلاف عصر فقد كان السلطان مطاعا في عهد أبى حنيفة ولم يكن لغير السلطان من القوة ما يقدر على الاكراه فأجاب بناء على ما شاهد في زمانه ثم تغير حال الناس في عهدهما وظهر كل متغلب في موضع فأجابا بناء على ما عاينا وقيل بل هو اختلاف حكم فوجه قولهما ان المعتبر في اسقاط الحد هو الالجاء وذلك بان يكون المكره قادرا على ايقاع ما هدد به لان خوف التلف للمكره بذلك يحصل (الا ترى) ان السلطان لو هدده وهو يعلم انه لا يفعل ذلك به لا يكون مكرها وخوف التلف يتحقق عند قدرة المكره على ايقاع ما هدده به بل خوف التلف باكراه غير السلطان أظهر منه باكراه السلطان فالسلطان ذو أناة في الامور لعلمه انه لا يفوته وغير السلطان ذو عجلة في ذلك لعلمه انه يفوته ذلك بقوة السلطان ساعة فساعة وأبو حنيفة لا يقول الالجاء لا يتحقق باكراه غير السلطان وانما يتحقق باكراه السلطان لانه لا يتمكن من دفع السلطان عن نفسه بالالتجاء إلى من هو أقوى منه ويتمكن من دفع اللص عن نفسه بالالتجاء بقوة السلطان فان اتفق في موضع لا يتمكن من ذلك فهو نادر والحكم انما ينبنى على اصل السبب لا على الاحوال وباعتبار الاصل يمكن دفع اكراه غير السلطان بقوة السلطان ولا يمكن دفع اكراه السلطان بشئ ثم ما يكون

[ 90 ] مغيرا للحكم يعتبر فيه السلطان كتغيير الفرائض من الاربع إلى الركعتين يوم الجمعة واقامة الخطبة مقام الركعتين يعتبر فيه السلطان ولا يقوم في ذلك غيره مقامه وفى كل موضع وجب الحد على المكره لا يجب المهر لها وقد بينا هذا في الحدود إذ الحد والمهر لا يجتمعان عندنا بسبب فعل واحد خلافا للشافعي رحمه الله وفى كل موضع سقط الحد وجب المهر لان الواطئ في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر فإذا سقط الحد وجب المهر لاظهار خطر المحل فانه مصون عن الابتذال محترم كاحترام النفوس ويستوى ان كانت أذنت له في ذلك أو استكرهها اما إذا استكرهها فغير مشكل لان المهر يجب عوضا عما تلف عليه ولم يوجد الرضا منها بسقوط حقها وأما إذا أذنت له في ذلك فلانه لا يحل لها شرعا أن تأذن في ذلك فيكون اذنها لغوا لكونها محجورة عن ذلك شرعا بمنزلة اذن الصبي والمجنون في اتلاف ماله أو هي متهمة في هذا الاذن لما لها في هذا الاذن من الحظ فجعل الشرع اذنها غير معتبر للتهمة ووجوب الضمان لصيانة المحل عن الابتذال والحاجة إلى الصيانة لا تنعدم بالاذن (الا ترى) أنها لو زوجت نفسها بغير مهر وجب المهر ولو مكنت نفسها بعقد فاسد حتى وطئها الزوج ولم يكن سمى لها مالا وجب المال فهذا مثله وهو واجب في الوجهين أما إذا استكرهها فانه ظالم وحرمة الظلم حرمة باتة وكذلك إذا أذنت له في ذلك لان اذنها لغو غير معتبر ثم حرمة الزنا حرمة باتة لا استثناء فيها ولم يحل في شئ من الاديان بخلاف حرمة الميتة ولحم الخنزير فتلك الحرمة مقيدة بحالة الاختيار لوجود التنصيص على استثناء حالة الضرورة في قوله تعالى الا ما ضطررتم إليه وان امتنع من الزنا حتى قتل كان مأجورا في ذلك لانه امتنع من ارتكاب الحرام وبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في الوقوف على حد الدين بالتحرز عن مجاوزته وفيما يرخص له فيه وهو اجراء كلمة الشرك وقد بينا انه إذا امتنع حتى قتل كان مأجورا فما لا رخصة فيه أولى وان كان الاكراه على الزنا بحبس ففعل ذلك كان عليه الحد لان تمكن الشبهة باعتبار الالجاء وبسبب الاكراه بالحبس لا يتحقق الالجاء فوجوده وعدمه في حق الحكم سواء ولو قال له لاقتلنك أو لتقطعن يد هذا الرجل فقال له ذلك الرجل قد أذنت لك في القطع فاقطعه وهو غير مكره لا يسع المكره أن يقطع يده لان هذا من المظالم وليس المقصود بالفعل ان يأذن في ذلك شرعا لانه يبذل طرفه لدفع الهلاك عن غيره وذلك لا يسعه كما لو رأى مضطرا فأراد أن يقطع يد نفسه ليدفعها إليه حتى يأكلها ولا يسعه ذلك فهذا مثله ولو لم

[ 91 ] يوجد الاذن لم يسعه الاقدام على القطع فكذلك بعد الاذن وان قطعها فلا شئ عليه ولا على الذى أكرهه لان القاطع لو لم يكن مكرها وقال له انسان اقطع يدى فقطعه لم يلزمه شئ فإذا كان القاطع مكرها أولى وهذا لان الحق في الطرف لصاحب الطرف وقد أسقطه بالاذن في الابتداء ولو أسقطه بالعفو في الانتهاء لا يجب شئ فكذلك بالاذن في الابتداء والدليل عليه أن الطرف يسلك به مسلك الاموال من وجه وفى الاموال البدل مفيد عامل في الاباحة والبدل الذي هو سعته عامل في اسقاط الضمان حتى إذا قال له احرق ثوبي هذا لا يباح له أن يفعله ولكن لا يلزمه شئ ان فعله فكذلك في الطرف البدل المفيد عامل في الاباحة وهو إذا وقع في يده أكلة فأمر انسانا أن يقطع يده فالبدل هو سعته يكون مسقطا للضمان فيه أيضا فلهذا لا يجب على القاطع ولا على المكره شئ وان كان صاحب اليد مكرها أيضا من ذلك المكره أو من غيره على الاذن في القطع بوعيد تلف فالقصاص على المكره لان بسبب الالجاء يلغو اذنه وفعل القطع منسوب إلى المكره لان المكره يصلح أن يكون آلة في ذلك فلهذا كان عليه القود ولو قال له لاقتلنك أو لتقتلنه فقال له المقصود اقتلني فانت في حل من ذلك وهو غير مكره فقتله بالسيف فعلى الآمر الدية في ماله لان المباشر ملجأ إلى القتل فيصير الفعل منسوبا إلى الملجئ وصار هذا بمنزلة ما لو قتل انسانا باذنه وفى هذا يجب الدية عليه دون القصاص في ظاهر الرواية وعلى قول زفر رحمه الله عليه القصاص وعلى قول أبى يوسف رحمه الله لا شئ عليه أورده في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله الا ان هذا انما يتحقق في حق من باشر القتل بنفسه لا في حق المكره فان زفر لا يرى القود على المكره وأورد على هذا أيضا أنه إذا قال اقتل أبى أو ابني فقتله فعليه القصاص في قول زفر رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله أستحسن أن يكون عليه الدية في ماله إذا كان هو الوارث وذكر الحسن بن أبى مالك عن أبى يوسف عن أبى حنيفة رحمه الله في قوله اقتل ابني كقول زفر وفى قوله اقتلني كقول ابى يوسف انه لا شئ عليه وجه تلك الرواية ان الاذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء وبعد ما جرحه لو عفى عن الجناية ومات لم يجب شئ فكذلك إذا أذن في الابتداء وهذا لان الحق في بدل نفسه له حتى يقضى منه ديونه فيسقط باسقاطه كما في الطرف وجه قول زفر ان بدل النفس انما يجب بعد زهوق الروح والحق عند ذلك للوارث فاذنه في القتل صادف محلا هو حق الغير فكان لغوا وعليه القصاص بخلاف بدل الطرف

[ 92 ] فان الحق له بعد تمام الفعل فيعتبر اسقاطه وهذا بخلاف العفو فان العفو اسقاط بعد وجود السبب والاسقاط بعد وجود السبب وقبل الوجوب يصح فاما الاذن فلا يمكن أن يجعل اسقاطا لان السبب لم يوجد بعد وباعتبار عينه الاذن لاقى حق الغير فلا يصح ووجه ظاهر الرواية ان اذنه في القتل باعتبار ابتدائه صادف حقه وباعتبار مآله صادف حق الوارث فلاعتبار الابتداء يمكن شبهة والقصاص يسقط بالشبهة ولاعتبار المال تجب عليه الدية في ماله ولهذا قال أبو يوسف في الآذن في قتل أبيه أو ابنه انه باعتبار الابتداء لاقى حق الغير وباعتبار المآل لاقى حقه فيصير المال شبهة في اسقاط القود ويجب عليه الدية ولو قطع يده باذنه فمات منه لم يكن على القاطع ولا على الآمر في ذلك شئ لان أصل الفعل صار هدرا فلو سرى إلى النفس كان كذلك كما لو قطع يد مرتد فاسلم ثم سرى إلى النفس وروى الحسن عن أبى حنيفة انه تجب الدية هنا لان القطع إذا اتصلت به السراية كان قتلا فإذا لم يتناوله الاذن فلا شك انه يجب الضمان به وان تناوله الاذن فهو بمنزلة قوله اقتلني فيكون موجبا للدية ولو أكرهه على أن يصنع به شيأ لا يخاف منه تلف من ضرب سوط أو نحوه ففعل ذلك به رجوت أن لا يأثم فيه لانه يدفع الهلاك عن نفسه بما يلحق الهم والحزن بغيره وقد رخص له الشرع في ذلك فان المضطر يباح له أن يأخذ مال الغير فيتناوله بغير رضاه فان أبى عليه ذلك فمات منه كانت ديته على عاقلة المكره لان فعل المكره صار منسوبا إلى المكره فكأنه فعل ذلك بنفسه وهذا بمنزلة الخطأ وهو يوجب الدية على عاقلته وهذا إذا لم يكن المقتول أذن له في ذلك فان كان أذن له في ذلك طوعا فلا ضمان فيه على أحد لان فعل الغير به باذنه كفعله بنفسه ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال رجل فيرمى به في مهلكة فاذن له صاحبه فيه ففعله فلا شئ على واحد منهما لان صاحب الحق أسقط حقه بالاذن له في الاتلاف طوعا ولو كان أكره صاحب المال بوعيد تلف ايضا على أن أمره بذلك فاذنه مع الاكراه لغو والضمان على المكره لان المكره آلة في ذلك الفعل والفعل صار منسوبا إلى المكره ولا ضمان على الفاعل ان علم أن صاحب المال مكره على الاذن أو لم يعلم لانه بالالجاء يصير كالآلة ولا يختلف ذلك باختلاف صاحب المال في الاذن طوعا أو كرها ولو كان الفاعل أكره على ذلك بحبس أو قيد لم يحل له أن يستهلك مالا لان هذا من مظالم العباد فلا يرخص له في الاقدام عليه بدون الالجاء وبالحبس والقيد لا يتحقق الالجاء الا أن يأمره به صاحبه بغير اكراه فحينئذ لا شئ

[ 93 ] عليه من اثم ولا ضمان لان صاحب المال صار باذلا ماله بالاذن والمال مبتدل وانما كان ممنوعا من اتلافه لمراعاة حق صاحب المال فإذا رضى به طوعا كان له الاقدام عليه والعبد والامة فيما يأذن فيه مولاهما في جميع ما وصفنا بمنزلة الحر والحرة الا في خصلة واحدة ان القاتل لا يغرم نفس المملوك إذا أذن المولى في قتله بغير اكراه لان الحق في بدل نفسه له باعتبار الحال والمال فيعتبر اذنه في اسقاط الضمان كما يعتبر اذن صاحب اليد في اسقاطه حقه في بدله عن القاطع والله أعلم بالصواب (باب الاكراه على البيع ثم يبيعه المشترى من آخر أو يعتقه) (قال رحمه الله) وأذا أكره الرجل بوعيد تلف على بيع عبد له يساوى عشرة آلاف درهم من هذا الرجل بالف درهم ويدفعه إليه ويقبض الثمن ففعل ذلك وتقابضا والمشترى غير مكره فلما تفرقوا عن ذلك المجلس قال البائع قد أجزت البيع كان جائزا لان الاكراه لا يمنع انعقاد أصل البيع فقد وجد ما به ينعقد البيع من الايجاب والقبول من أهله في محل قابل له ولكن امتنع نفوذه لانعدام تمام الرضا بسبب الاكراه فإذا أجاز البيع غير مكره فقد تم رضاه به ولو أجاز بيعا باشره غيره نفذ باجازته فإذا أجاز بيعا باشره هو كان أولى به ولان بيع المكره فاسد والفساد بمعنى وراء ما يتم به العقد فباجازته يزول المعنى المفسد وذلك موجب صحة البيع كالبيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد إذا أسقط من له الاجل أو الخيار ما شرط له قبل تقرره كان البيع جائزا وكذلك لو لم يكن البائع قبض الثمن فقبضه من المشترى بعد ذلك كان هذا اجازة للبيع لوجود دليل الرضا منه بقبض الثمن طائعا فانه قبضه لتملكه ملكا حلالا ولا يكون ذلك الا بعد اجازة البيع ودليل الرضا كصريح الرضا وفى البيع بشرط الخيار للبائع إذا قبض البائع الثمن روايتان في اسقاط خيار البائع في احدى الروايتين يسقط به خياره لوجود دليل الرضا منه بتمام البيع وفى الرواية الاخرى لا يسقط خياره على ما ذكر في الزيادات وهو الاصح والفرق على تلك الرواية أن يقول هناك انعدام الرضا باعتبار خيار مشروط نصا وقبض الثمن لا ينافى شرط الخيار ابتداء فلا ينافى بقاءه بطريق الاولى وهنا الخيار ثبت حكما لانعدام الرضا بسبب الاكراه وبين قبض الثمن الذى هو دليل الرضا وبين الاكراه منافاة وبقبض الثمن طوعا ينعدم معنى الاكراه * ويوضحه أن هناك

[ 94 ] العقد في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وبقبض الثمن لا يصير الشرط موجودا وهنا العقد في حق الحكم منعقد غير متعلق بالشرط ولكنه غير نافذ لانعدام الرضا وقبض الثمن دليل الرضا فيتم به البيع ولو لم يفعل ذلك حتى أعتق المشترى العبد فعتقه جائز عندنا لانه ملكه بالقبض وانما أعتق ملك نفسه فان قال المكره بعد ذلك قد أجزت البيع كانت اجازته باطلة لان الاجازة انما تعمل في حال بقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ابتداء وبعد العتق أو التدبير أو الاستيلاد لم يبق محلا لذلك فلا تصح اجازته كما في البيع الموقوف إذا أجازه المالك بعد هلاك المعقود عليه في يد المشترى ولان الفساد قد تقرر حين وجب على المشترى قيمة العبد للبائع دينا في ذمته فان ذلك حكم العقد الفاسد وبعد ما تقرر المفسد لا ينقلب العقد صحيحا ولان العبد قد وجب للمشترى بالقيمة فبعد ما تقرر ملكه فيه بضمان القيمة وانتهى لا يمكن ان يجعل مملوكا له بالثمن ولو لم يقبض المشترى ولم يحدث فيه شيأ ولم يجز البائع البيع حتى التقيا فقال المشترى قد نقضت البيع فيما بينى وبينك وقال البائع لا أجيز نقضك وقد أجزت البيع فقد انتقض البيع لان في البيع الفاسد قبل القبض كل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخه فان فسخه لاجل الفساد مستحسن شرعا على كل واحد منهما وما يكون مستحقا عليه شرعا يتم بمباشرته فإذا انفسخ العقد بفسخ المشترى لا تلحقه الاجازة بعد ذلك من جهة البائع لان الاجازة تلحق الموقوف لا المفسوخ والحاصل أن بيع المكره بمنزلة البيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد وهنا لكل واحد من المتعاقدين أن ينفرد بفسخه قبل القبض وبعد القبض من له الخيار أو الاجل الفاسد ينفرد بفسخه وصاحبه لا ينفرد بفسخه على ما فسره في آخر الباب لان قبل القبض العقد ضعيف جدا وكل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخ العقد الضعيف فأما بعد القبض فقد تأكد العقد بثبوت حكمه وانضمام ما يقويه إليه وهو القبض فالمنفرد به من ليس له خيار ولا أجل لان رضاه بالعقد مطلقا قد تم وانما ينفرد بفسخه من شرط الخيار والاجل له لانه لا يتم منه الرضا بالعقد مطلقا فكذلك في مسألة الاكراه قبل القبض ينفرد كل واحد منهما بالفسخ وبعد القبض المكره ينفرد بالفسخ لانعدام الرضا من جهته والآخر لا ينفرد بفسخه ما لم يساعده المكره عليه أو يقض القاضى به وهذا بخلاف البيع بالخمر فهناك كل واحد منهما ينفرد بفسخه قبل القبض وبعده لان المفسد هناك متمكن في صلب العقد ولهذا لا يحتمل التصحيح الا بالاستقبال فلتمكن المفسد في صلب العقد كان ضعيفا قبل القبض

[ 95 ] وبعده فينفرد كل واحد منهما بفسخه والذى شرط الخمر لا أشكال أنه ينفرد بفسخه وصاحبه كذلك لانه ما رضى بوجود بدل آخر عليه سوى المسمى فكان له أن ينفرد بفسخه فأما في هذه الفصول فالمفسد غير متمكن في صلب العبد ولكنه لمعنى وراء ما يتم به العقد ولهذا أمكن تصحيحه بالاجازة فمن ليس في جانبه المعنى المفسد قد تم الرضا منه بملك المعقود عليه بالبدل المسمى وباجازة صاحبه لا يثبت الا ذلك فلهذا لا ينفرد بفسخه بعد تأكد العقد بالقبض ولو باعه المشترى من المكره من آخر وقد كان قبضه بتسليم البائع مكرها فالبائع على خياره ان شاء نقض البيع الاول والثانى وأخذ عبده وان شاء أجاز البيع الاول لان البيع الثاني في كونه محتملا للفسخ كالاول والبائع غير راض بواحد من البيعين فيكون متمكنا من استرداده وباسترداده ينفسخ البيعان جميعا كما لو اشترى عبدا بالف درهم حالة وقبضه المشترى بغير أمر البائع فباعه كان جائزا لمصادفته ملكه وللبائع الاول أن يسترده لانه غير راض بالعقد الثاني حين كان ممتنعا من تسليمه إلى المشترى فإذا استرده انتقض البيع الثاني وكذلك في حق المكره بخلاف البيع الفاسد بشرط أجل أو خيار لمجهول فالمشترى هناك إذا باعه من غيره ونفذ بيعه لا يكون للبائع أن يسترده لان البيع الثاني حصل برضا البائع الاول وتسليطه عليه فتسليمه المبيع إلى المتشرى طائعا يكون تسليطا له على التصرف وهنا البيع الثاني كان بغير رضا المكره لانه كان مكرها على التسليم فيتمكن من نقض البيعين واسترداد العبد فان اجاز البيع الاول فقد أسقط حقه في استرداد العبد فينفذ البيع الثاني لانه حصل من المشترى في ملكه ويده كما لو قبض المبيع بغير اذن البائع وباعه ثم سلم البائع الاول للمشترى الاول فقبضه جاز البيع الثاني لهذا المعنى وكذلك في الفصلين يجوز كل بيع جرى فيه وان تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض إذا نفذ البيع الاول باجازة البائع كذلك البيع بقبض المشترى لان كل واحد منهم باع ملكه بعد ما قبضه بحكم عقد صحيح الا أنه كان للبائع الاول حق الفسخ فإذا سقط حقه بالاجازة نفذت البيوع كلها وكذلك في مسألة المكره لو تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض كان للمكره أن ينقض البيوع كلها ويأخذ عبده فان سلم بيع من هذه البيوع الاول أو الثاني أو الآخر جازت البيوع كلها لان تسليمه اسقاط منه لحقه في استرداد المبيع فاما البيع من كل مشتر فكان في مكله لنفسه ولكن يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الفسخ وبالاجازة سقط حقه فتنفذ البيوع كلها كالراهن إذا باع المرهون وأجاز المرتهن البيع أو الآخر

[ 96 ] باع المستأجر فاجازه المستأجر بعد البيع من جهة المباشر والمجيز يكون مسقطا حقه في الفسخ الا أن يكون مملوكا باجازته وإذا جازت البيوع كلها كان الثمن للمكره على المشترى الاول ولكل بائع الثمن على المشترى لان العقد الاول نفذ بين المكره والمشترى الاول بهذه الاجازة فله أن يطالبه بالثمن وكل عقد بعد ذلك انما نفذ بين البائع والمشترى منه فيكون الثمن له وهذا بخلاف الغاصب إذا باع المغصوب وسلمه ثم باعه المشترى من غيره حتى تناسخته بيوع ثم أجاز المالك بيعا من تلك البيوع فانه ينفذ ما أجازه خاصة لان الغصب لا يزيل ملكه فكل بيع من هذه البيوع يوقف على اجازته لمصادفته ملكه فتكون اجازته لاحد البيوع تمليكا للعين من المشترى بحكم ذلك البيع فلا ينفذ ما سواه وهنا المشترى من المكره كان مالكا فالبيع من كل مشتر صادف ملكه وانما يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الاسترداد وعلى هذا لا يفترق الحال بين اجازة البيع الاول أو الآخر فلهذا نفذت البيوع كلها باجازته عقدا منها فان أعتقه المشترى الآخر قبل أجازة البائع وقد تناسخ العبد عشرة كان العتق جائزا من الذى أعتقه ان لم يقبضه لان كل بائع صار مسلطا المشترى منه على اعتاقه بايجابه البيع له مطلقا وصح هذا التسليط لانه يملك الاعتاق بنفسه فيملك أن يسلط الغير عليه ويستوى ان الآخر قبضه أو لم يقبضه لان شراءه من بائعه صحيح وان كان للمكره حق الفسخ بالاسترداد وفى الشراء الصحيح المشترى تملك المعقود عليه بنفس العقد وينفذ العتق فيه قبضه أو لم يقبضه بخلاف المشترى من المكره فان شراءه فاسد لانعدام شرط الجواز وهو رضا البائع به فلا يكون مالكا قبل القبض فلهذا لا ينفذ عتقه فيه الا بعد قبضه فإذا سلم المكره بعد ذلك لم يجز تسليمه لما بينا أن حقه تقرر في ضمان القيمة فلا يتحول إلى ضمان الثمن وان المحل بعد العتق لم يبق قابلا لحكم العقد ابتداء فلا تعمل اجازته أيضا وكان له أن يضمن قيمة عبده أيهم شاء لان كل واحد منهم متعد في حقه بقبض العين على وجه التملك لنفسه بغير رضاه فله أن يضمن قيمته أيهم شاء وان شاء ضمن المكره لانه في التسليم كان مكرها من قبله بوعيد تلف فيصير الاتلاف الحاصل به منسوبا إلى المكره فله أن يضمنه قيمته فان ضمن الذى أكرهه رجع بها المشترى الاول لانه قام مقام المكره في الرجوع عليه بعد ما ضمنه القيمة وقد بينا ان البيع لا ينفذ من جهة المكره حين ضمن القيمة لانه ما قصد البيع من جهته فإذا رجع بالقيمة على المشترى الاول جازت البيوع كلها وكذلك ان ضمن البائع المشترى الاول برئ الذى أكرهه وتمت البيوع

[ 97 ] الباقية كلها لان الملك قد تقرر للمشترى الاول من حين قبضه وهو انما باع ملك نفسه فينفذ بيعه وكذلك كل بائع بعده ولانه في هذا لا يكون دون الغاصب والغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة ينفذ بيعه فهنا كذلك فان ضمنها أحد الباعة الباقين سلم كل بيع كان بعد ذلك البيع وبطل كل بيع كان قبل ذلك لان استرداد القيمة منه كاسترداد العين وان القيمة سميت قيمة لقيامها مقام العين ولو استرد العين منه بطل كل بيع كان قبله للاستحقاق فكذلك إذا استرد القيمة وجاز كل بيع كان بعده لان الملك قد تقرر للضامن حين ضمن القيمة فتبين انه باع ملك نفسه فيكون بيعه جائزا حتى إذا ضمن المشترى الآخر بطلت البيوع لان استرداد القيمة منه كاسترداد العبد ويرجع هو على بائعه بالثمن الذى اعطاه وكذلك كل مشتر يرجع على بائعه حتى ينتهوا إلى البائع المكره لان البيوع كلها قد انقضت وكل واحد منهم قبض الثمن بحكم بيعه فبعد الانتقاض يلزمه رده على من قبضه منه ولو أكره بوعيد تلف على أن يشترى من رجل عبدا له يساوى ألف درهم بعشرة آلاف درهم والبائع غير مكره فاكره على الشراء والقبض ودفع الثمن فلما قبضه المشترى أعتقه أو دبره أو كاتب أمة فوطئها أو قبلها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة وأقر بذلك أو قال قد رضيتها فهذا كله جائز عليه لان البيع تام من جهة البائع وانما امتنع لزومه في حق المشترى لانعدام الرضا منه بحكمه حين كان مكرها فإذا أجازه فقد تم رضاه به وكذلك دليل الاجاة منه كصريح الاجازة ومباشرته هذه التصرفات المختصة بالملك حالا أو منقودا دليل الرضا منه بالحكم وهو الملك فلهذا يتم به البيع وهو بمنزلة ما لو اشترى جارية على انه بالخيار أبدا وقبضها فالبيع فاسد فان تصرف فيها بشئ من هذه التصرفات نفذ تصرفه وجاز البيع لانه بتصرفه صار مسقطا لخياره مزيلا للمفسد وهو بمنزلة ما لو اشترى عبدا بألف درهم إلى الحصاد أو الدياس فالبيع فاسد فان أبطل المشترى الاجل وأعطى الثمن حالا جاز شراؤه الا أن في هذه المسألة بالاعتاق والوطئ لا ينقلب العقد صحيحا لان المفسد شرط الاجل ولم ينعدم ذلك بمباشرته هذه التصرفات وفى مسألة الخيار والاكراه المفسد انعدام الرضا منه بالحكم وهذه التصرفات منه دليل الرضا بالحكم وهو الملك فلهذا نفذ به البيع ولو كان أكره البائع ولم يكره المشترى فلم يقبض المشترى العبد حتى أعتقه كان عتقه باطلا لما بينا ان بيع المكره فاسد والبيع الفاسد لا يملك به الا بعد القبض فاعتاقه قبل القبض لم يصادف ملكه فان أجازه البائع بعد عتق المشترى جاز البيع لبقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ولم يجز ذلك العتق الذى كان من

[ 98 ] المشترى لانه سبق ملكه فلا ينفذ لحدوث الملك له في المحل كمن أعتق عبد الغير ثم اشتراه ولو أعتقا جميعا العبد جاز عتق البائع لانه صادف ملكه وانتقض به البيع لانه فوت باعتاقه محل البيع وهو نظير ما لو كان البائع بالخيار في البيع ثلاثة أيام فاعتقه هو والمشترى جاز عتق البائع وبطل عتق المشتري ولو كان المشترى قبضه ثم أعتقاه جميعا عتق العبد من المشترى لان البيع فاسد والمشترى بالقبض صار مالكا فعتقه صادف ملكه وعتق البائع صادف ملك الغير فلهذا نفذ العتق من المشترى دون البائع ولو كانا مكرهين جميعا على العقد والتقابض ففعلا ذلك فقال أحدهما بعد ذلك قد أجزت البيع كان البيع جائزا من قبله وبقى الآخر على حاله لان الذى أجاز صار راضيا به فكأنه كان في الابتداء راضيا وذلك يوجب نفوذ البيع من قبله لا من قبل صاحبه المكره وهو نظير ما لو شرط في البيع الخيار ثم أسقط أحدهما خياره نفذ العقد من جهته وكان الآخر على خياره فان أجازا جميعا بغير اكراه جاز البيع لوجود تمام الرضى بينهما ولو لم يجيزا حتى أعتق المشتري العبد جاز عتقه لانه ملكه بالقبض مع فساد العقد فكان ضامنا لقيمته فان أجاز الآخر بعد ذلك لم يلتفت إلى اجازته لتقرر ضمان القيمة على المشتري وفوات محل حكم العقد ابتداء وان لم يتقابضا فاجاز أحدهما البيع بغير اكراه فالبيع فاسد على حاله لان بقاء الاكراه في جانب صاحبه كاف لفساد البيع فان اعتقاه جميعا معا وقد أجاز أحدهما البيع فان كان العبد غير مقبوض فعتق البائع فيه جائز وعتق المشتري باطل لانه قبل القبض باق على ملك البايع لفساد البيع فاعتاقه صادف ملكه وان أعتقه أحدهما ثم أعتقه الآخر فان كان البائع أجاز البيع وقد أعتقه المشترى قبله فهذا اجازة منهما للبيع لان اقدام المشترى على الاعتاق رضا منه بحكم البيع منه وذلك يوجب نفوذ العتق من قبله وانما يوقف نفوذه لعدم الرضى من البائع فإذا أجاز البيع ثم بتراضيهما والثمن المسمى للبائع على المشترى والعتق لا ينفذ من المشترى لانه سبق ملكه وان كان البائع أعتق أولا فهو باعتاقه قد نقض البيع ونفذ العتق من قبله فلا يعمل فيه اجازة واحد منهما ولا اعتاق المشترى بعد ذلك وان كان الذى أجازه أول مرة من المشترى ولم يجزه البائع فعتق البائع جائز فيه وقد انتقض البيع به ان أعتقه قبل المشترى أو بعده لانه باق على ملك البائع بعد اجازة المشترى فاعتاق البائع يصادف ملكه فينفذ وينتقض به البيع وانما مثل هذا مثل رجل اشترى عبدا بالف درهم على أن المشترى بالخيار أبدا فلم يقبضه حتى أعتقاه فعتق البائع جائز

[ 99 ] لان شرط الخيار بهذه الصفة يفسد البيع وفى البيع الفاسد المبيع على ملك البائع قبل تسليمه إلى المشترى فينفذ عتقه فيه وكذلك لو سبق البائع بالعتق فان أعتقه المشترى أولا فالقياس فيه أن عتقه باطل لان البيع فاسد فلا يملكه المشترى قبل القبض والاعتاق إذا لم يصادف الملك كان باطلا ولكنا نستحسن فنجعل عتقه اياه رضا بالبيع لان الخيار الفاسد لا يكون أقوى من الخيار الصحيح ولو كان المشترى شرط لنفسه خيار ثلاثة أيام ثم أعتقه كان اعتاقه اسقاطا منه الخيار وباسقاط الخيار يزول المعنى المفسد وهذا لان الفساد لانعدام الرضا منه بحكم البيع واقدامه على العتق يتضمن الرضا منه بالحكم وهو الملك فيقدم الرضى وثبوت الملك له على العتق لتنفيذ العتق كما قصده فان من قصد تنفيذ تصرف في محل لا يمكنه ذلك الا باعتبار تقديم شرط في المحل بعد ذلك ليصح كمن يقول لغيره اعتق عبدك عنى على ألف درهم فيقول قد أعتقت أو يقول صاحب العبد أعتقت عبدى عنك على ألف درهم وقال الآخر قد رضيت عتق العبد على المعتق عنه ووقع العتق والملك معا برضاه بذلك أو تقدم الملك في المحل على العتق فكذلك فيما سبق ولو كان المشترى قبض العبد في الاكراه وفى الخيار الفاسد ثم أجاز أحدهما البيع في الاكراه لم يجز عتق البائع فيه على حال لان ملك البائع زال بتسليمه إلى المشترى ويكون البيع مطلقا من جهته وجاز عتق المشترى فيه لمصادفته ملكه فان كان الذى أجاز البيع في الاكراه البائع جاز العتق والبيع بالثمن لان المشترى بالاعتاق صار مجيزا وان كان الذى أجاز البيع المشترى جاز عتقه وغرم القيمة للبائع لان البيع فاسد لانعدام الرضى من البائع به فان كان قبض منه الثمن حاسبه به وأعطاه فضلا أن كان له ولو أن المشتري اكره على الشراء والقبض ودفع الثمن ولم يكره البائع على ذلك وتقابضا ثم التقيا فقال البائع قد نقضت البيع لم يلتفت إلى قوله وكان ذلك إلى المشترى وما بعد هذا إلى آخر الباب مبنى على ما قررناه في أول الباب ان بعد القبض انما ينفرد بالفسخ من كان مكرها منهما دون صاحبه الذى لم يكن مكرها وقبل القبض كل واحد منهما متمكن من النقض بعد صحة النقض عاد إلى ملك البائع فلا ينفذ عتق المشترى فيه بعد ذلك لان ملك البائع مضمون في يده كالمغصوب وينفذ عتق البائع فيه لمصادفته ملكه

[ 100 ] (باب الاكراه على ما يجب به عتق أو طلاق) (قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على ان يشترى من رجل عبدا بعشرة آلاف درهم وقيمته ألف وعلى دفع الثمن وقبض العبد وقد كان المشترى حلف ان كل عبد يملكه فيما يستقبل فهو حر أو حلف على ذلك العبد بعينه فقد عتق العبد لانه ملكه بالقبض بعد الشراء لما بينا أن شراء المكره فاسد وبالملك يتم شرط العتق فاسدا كان السبب أو صحيحا والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فكأنه أعتقه بعد ما قبضه فيعتق وعلى المشترى قيمته للبائع ولا يرجع على المكره بشئ لانه ألزمه بالاكراه على الشراء والقبض مقدار القيمة وقد ادخل في ملكه بمقابلة ما يعدله ثم دخل في ملكه تلف بالعتق ولم يوجد من المكره اكراه على هذا الاتلاف لان الملك شرط العتق فأما السبب وهو الثمن السابق فلان كلمة الاعتاق وهو قوله أنت حر وجدت في اليمين دون الشرط وانما يحال بالاتلاف على السبب دون الشرط وهو ما كان مكرها عليه من جهة أحد (ألا ترى) أنه لو قال لعبده ان دخلت الدار فأنت حر فشهد شاهدان انه قد دخلها وقضى القاضى بالعتق ثم رجعا لم يضمنا شيأ وفى قياس قول زفر رحمه الله يجب الضمان على المكره لانه يقول الحكم مضاف إلى الشرط وجودا عندي ولهذا أوجب الضمان على شهود الشرط فكذا في الاكراه يوجب الضمان على المكره على الشرط لحصول تلف المالية عنده ولكنا نقول المكره انما يضمن إذا صار الاتلاف منسوبا إليه ولا يكون ذلك الا بالاكراه على ما يحصل به التلف بعينه وكذا لو أكرهه على شراء ذى رحم محرم منه وعلى قبضه باكثر من قيمته فاشتراه وقبضه عتق عليه لانه ملكه ومن ملك ذا رحم محرم منه فهو حر وعليه قيمته لان الشراء فاسد وقد تعذر رد المشترى لنفوذ العتق فيه فليزمه قيمته ويبطل عنه ما زاد على قدر القيمة من الثمن لانه التزمه مكرها والتزام المال مع الاكراه لا يصح ولا يرجع إلى المكره بشئ لانه عتق بقرابته ولم يوجد من المكره اكراه على تحصيل السبب الذى به حصل العتق فان قيل لا كذلك فالملك هنا متمم عليه العتق لان القريب انما يعتق على القريب بالقرابة والملك جميعا والحكم متى تعلق بعلة ذات وصفين يحال به على آخر الوصفين وجودا ولهذا لو اشترى قريبه ناويا عن كفارته جاز لان بالشراء يصير معتقا متمما لعلة العتق فهنا المكره يكون متمما عليه العتق فيضمن قيمته كما لو كان أكرهه على الاعتاق بعينه قلنا نعم الملك متمم عليه العتق ولكن بين المشترى والعبد لان القرابة

[ 101 ] وجدت في حقهما فأما في حق المكره فالشراء ليس بمتتم عليه العتق لان أحد الوصفين وهو القرابة غير موجود في جانب المكره إذ لا صنع له في ذلك اصلا والاضافة إليه باعتبار صنعه فإذا انعدم ذلك الوصف في حقه لم يكن الشراء اتلافا في حقه وما لم يصر الاتلاف منسوبا إليه لا يجب الضمان عليه فاما في الكفارة فالشراء متمم للعلة في حق المشترى والقريب فيصير به معتقا والثانى ان عتق القريب بطريق المجازاة مستحق عليه عند دخوله في ملكه الا أنه إذا نوى به الكفارة وقع عما نوى ولم يكن مجازاة للقرابة فتتأدى به الكفارة فاما هنا فالمكره ما نوى شيئا آخر سوى المجازاة لانه إذا نوى شيئا آخر يصير طائعا والمكره انما أكرهه على المجازاة فيكون هذا اكراها على اقامة ما هو مستحق عليه وذلك لا يوجب الضمان على المكره كما لو أكرهه على أن يؤدى زكاة ماله أو يكفر يمينه وكذلك لو أكرهه على شراء أمة قد ولدت منه أو أمة مدبرة ان ملكها لان التدبير والاستيلاد انما يحصل عند وجود الشرط بالسبب المتقدم وهو لم يكن مكرها على ذلك السبب وثبوت حق العتق بها عند وجود الشرط لا يكون أقوى من ثبوت حقيقة الحرية وقد بينا ان الاكراه على ايجاد الشرط في حقيقة الحرية لا يوجب الضمان على المكره فكذلك في حق الحرية واستوضح بفصل الشهادة إذا شهد شاهدان على رجل انه اشترى هذا العبد بألف درهم هي قيمته والبائع يدعى البيع وقد كان المشترى قال ان ملكته فهو حر فقضى القاضى بذلك واعتقه ثم رجعا فلا ضمان عليهما لانه انما أعتقه بقوله فهو حر لا بشرائه والشهود ما أثبتوا تلك الكلمة بشهادتهم وكذلك لو قال عبده حر ان دخل هذه الدار فأكرهه بوعيد تلف حتى دخل فانه يعتق لانه هو الداخل بنفسه وان كان مكرها بخلاف ما إذا حمل فادخل لانه الآن مدخل لا داخل فلا يصير الشرط به موجودا الا أن يكون قال ان صرت في هذه الدار فعبدي هذا حر فحمله المكره حتى أدخله الدار وهو لا يملك من نفسه شيئا فانه يعتق لوجود الشرط ولا ضمان على المكره في الوجهين لان العتق انما حصل بقوله هو حر لا بحصوله في الدار فان الحرية من موجبات قوله هو حر لا من موجبات دخول الدار فالاتلاف الحاصل به لا يكون مضافا إلى من أدخله الدار ولذلك لو قال ان تزوجت فلانة فهى طالق فاكره على تزوجها بمهر مثلها طلقت ولزمه نصف الصداق لها بسبب الطلاق قبل الدخول ولم يرجع على المكره بشئ لانه ما أكرهه على الطلاق انما أكرهه على التزويج وقد دخل في ملكه بالتزوج ما يعادل ما لزمه من المهر لان

[ 102 ] البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم قال (ألا ترى) أنه لو قال لامرأته ولم يدخل بها ان شجني اليوم أحد فأنت طالق أو قال ذلك لعبده فشج ان العبد يعتق والمرأة تطلق وعلى الشاج أرش الشجة وليس عليه من قيمة العبد ولا من نصف الصداق شئ للمعنى الذى قلنا وزفر رحمه الله في الكل مخالف ولكن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لايضاح الكلام ولو أكره بوعيد تلف حتى يحصل عتق عبده في يد هذا الرجل أو طلاق امرأته ولم يدخل بها ففعله فطلق ذلك الرجل المرأة أو أعتق العبد وقع الطلاق والعتاق لان الاكراه لا يمنع صحة الاعتاق والطلاق فكذلك لا يمنع صحة التسليم بها عليه وصحة تمليكه من غيره تجعله في يده (ألا ترى) ان الاكراه في هذا كشرط الخيار وشرط الخيار كما لا يؤثر في الاعتاق لا يؤثر في تفويض العتق إلى الغير ثم القياس فيه أن لا يغرم المكره شيئا لانه ما أكرهه على السبب المتلف فان السبب قول المجعول إليه للعبد أنت حر وللمرأة أنت طالق الا أنه يشترط لحصول التلف بهذا تقدم التفويض من المالك فالمكره على ذلك التفويض يمنزلة المكره على شرط العتق والدليل عليه فصل الشهادة فان شاهدين لو شهدا على رجل أنه جعل أمر عبده في العتق في يد فلان أو أمر امرأته في الطلاق ثم أعتق فلان العبد وطلق المرأة ثم رجعا عن شهادتهما لم يضمنا شيئا فلما جعل التفويض بمنزلة الشرط في حكم الشهادة فكذلك في حكم الاكراه ولكنه استحسن فقال على المكره ضمان قيمة العبد ونصف المهر الذى غرم لامرأته لان هذا اكراه على الامر بالعتق بعينه أو بالطلاق بعينه فيصير به متلفا عند وجود الايقاع من المفوض إليه (ألا ترى) أنه لو أكرهه على أن يجعل ذلك في يد المكره ففعل ذلك وأوقعه كان ضامنا ولا يكون ضامنا بايقاعه انما يكون ضامنا باكراهه على جعل ذلك في يده والاخذ بالقياس في هذا الفصل قبيح لانه لو أكرهه على اعتاقه كان المكره متلفا فإذا أكرهه على جعل العتق في يد المكره فأعتقه المكره كان أولى أن يكون متلفا والفرق بين الاكراه والشهادة من حيث ان المكره مضار متعنت فيتعدى الاكراه إلى ما يتحقق فيه الضرر والشاهد محتسب في أداء الامانة فلا تتعدى شهادته عما شهد به إلى غيره (ألا ترى) أن الاكراه على الهبة يجعل اكراها على التسليم لان الضرر به يتحقق والشهادة على الهبة لا تكون شهادة على التسليم * يوضحه أن الشاهد مخبر عن تفويض قد كان منه والايقاع من المفوض إليه ليس من جنس الخبر بل هو انشاء فلا يصح أن يكون متمما لما ثبت باخبار الشاهد فاما المكره فانما ألجاه إلى انشاء التفويض فيمكن جعل

[ 103 ] ايقاع المفوض إليه متمما لما أكرهه المكره عليه حتى يصير هو متلفا وفي الكتاب استشهد لايضاح هذا الفرق فقال (ألا ترى) أن شهود الاحصان إذا رجعوا بعد الرجم وقالوا شهدنا بالباطل ونحن نعلم انه باطل لم يكن عليهما غرم ولو لم يشهدوا بالاحصان وقال القاضى علمت انه غير محصن وانه لا رجم ولكنه أرجمه وأكره الناس حتى رجموه كان ضامنا وبهذا تبين الفرق بين الشهادة والاكراه ثم في هذه المسألة على قول أبى حنيفة رحمه الله الاشكال ان القاضى يضمن الدية لانه لا يرى القود في القتل رجما على من باشره فكذلك على من أكره عليه وكذلك عند أبى يوسف رحمه الله لانه لا يرى القود على المكره إذا أكره على القتل بالسيف فبالحجارة أولى فان عند محمد رحمه الله في القياس يجب القصاص على القاضى لانه يوجب القود على المكره والقتل بالحجر عنده كالقتل بالسيف في حكم القصاص وهذا قتل بغير حق فكان موجبا للقصاص عليه ولكنه استحسن فجعل عليه الدية في ماله للشبهة التى دخلت من حيث ان السبب المبيح لدمه موجود وهو الزنا فان عند ظهور احصانه انما يرجم لزناه لا لاحصانه فيصير هذا السبب شبهة في اسقاط القود عن القاضي ولان بعض الرجم قائم مقام اقامة الحد المستحق عليه (ألا ترى) انه بعد ما رجمه القاضى بعض الرجم لو بدا له في ذلك لم يكن له أن يقيم عليه الحد فيصير ذلك شبهة في اسقاط القود عن القاضى وتلزمه الدية في ماله لان المال ثبت مع الشبهات ولو أكره على أن يجعل كل مملوك يملكه فيما يستقبل حرا ففعل ثم ملك مملوكا بوجه من الوجوه عتق ولا ضمان على المكره فيه لان العتق انما حصل باعتار صنع من جهته وهو مختار فيه وهو قبول الشراء والهبة أو الصدقة أو الوصية وذلك منه دليل الرضا بالعتق فيكون مانعا من وجوب الضمان على المكره وان ورث مملوكا فالقياس فيه ان لا يضمن المكره شيأ لانه أكرهه على اليمين واليمين تصرف لا يحصل الاتلاف به (ألا ترى) ان العتق لا يحصل الا بعد انحلال اليمين بوجود الشرط فلم يكن الاكراه على اليمين أو تعليق العتق بالملك اكراها على ما يحصل به التلف بعينه ولكنه استحسن فقال المكره ضامن قيمة المملوك الذى ورثه لان الميراث يدخل في ملكه شاء أو أبى بغير اختيار ولا يرتد برده وعند وجود الشرط انما ينزل العتق بتكلمه بكلام العتق وقد كان مكرها على ذلك فإذا لم يوجد منه ما يدل على الرضا بعد ذلك كان المكره ضامنا (ألا ترى) أنه لو أكرهه على أن يقول كل مملوك أرثه فهو حر فقال ذلك ثم ورث مملوكا يعتق ويصح أن يقال لا يضمن المكره هنا لان بذلك الاكراه قصد

[ 104 ] اتلاف هذا الملك عليه ولابد من ايجاب الضمان عليه فكذلك فيما سبق ولو أكرهه في هذا كله بحبس لم يضمن المكره شيأ لان الاتلاف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا النوع من الاكراه ولو أكرهه على أن قال لعبده ان شئت فأنت حر فشاء العبد عتق وغرم المكره قيمته لانه عند مشيئته عتق بقوله أنت حر وقد كان مكرها على ذلك القول ولم يوجد منه بعد ذلك ما يدل على الرضا به وكذلك لو أكرهه على أن قال له أن دخلت الدار فأنت حر ثم دخلها العبد لانه لم يوجد من المولى ما يدل على الرضا بذلك العتق * فان قيل لا كذلك فقد كان يمكن أن يخرج العبد من ملكه قبل أن يدخل الدار وان شاء العتق يبيعه من غيره فإذا لم يفعل صار باستدامة الملك فيه راضيا بذلك العتق * قلنا لا كذلك فالبيع لا يتم به وحده انما يتم به وبالمشترى وربما لا يجد في تلك الساعة مشتريا يشتريه منه فلا يصير هو بهذا الطريق راضيا ولو كان أكرهه على أن قال لعبده ان صليت فأنت حر أو ان أكلت أو شربت فأنت حر ثم صنع ذلك فان العبد يعتق ويغرم المكره قيمته وكذلك كل فريضة لا يجد المكره بدا من أن يفعل ذلك لانه بمباشرة ذلك الفعل لا يصير راضيا بالعتق فانه يخاف التلف بالامتناع من الاكل والشرب ويخاف العقوبة بترك الفريضة فيكون هو مضطرا في الاتيان بذلك الفعل والمضطر لا يكون راضيا وهو نظير المريض إذا قال لامرأته ان أكلت أو صليت الظهر فانت طالق ثلاثا ففعلت ذلك كان الزوج فارا بهذا المعنى ولو قال له فلان ان تقاضيت دينى الذى على فلان أو أكلت طعام كذا لطعام خاص بعينه أو دخلت دار فلان فانت حر ففعل ذلك ثم فعل الذى حلف عليه عتق العبد ولم يغرم المكره شيأ لانه كان يجد من ذلك الفعل بدا فبالاقدام عليه يصير راضيا بالعتق ويخرج الاتلاف به من أن يكون منسوبا إلى المكره وقد قال في الطلاق إذا قال المريض لامرأته ان تقاضيت دينك الذى على فلان فانت طالق ثلاث ففعلت ذلك يصير الزوج فارا والفرق بين الفصلين أن المعتبر هنا انعدام الرضا من المرأة بالفرقة ليصير الزوج فارا لا الالجاء (ألا ترى) أنه لو أكرهها بالحبس حتى سألته بالطلاق كان الزوج فارا لان الرضا ينعدم بالاكراه بالحبس فكذلك الرضا ينعدم منها إذا كانت تخالف هلاك دينها على فلان بترك التقاضى فأما في هذا الموضع فالمعتبر هو الالجاء والضرروة لايجاب الضمان على المكره لا انعدام الرضا من المكره (ألا ترى) أنه لو أكره بحبس أو قيد على أن يعتق عبده لم يضمن المكره شيأ وانما يتحقق الالجاء عند خوف التلف على نفسه أو خوف العقوبة

[ 105 ] بترك الفريضة فأما خوفه على الدين الذى له على فلان فلا يوجب الضرورة والالجاء فلهذا لا يضمن المكره شيأ ولو أن رجلا قتل عبده قتلا خطأ فاختصموا فيه إلى القاضي فأكره القاضى المولى على عتق عبده بوعيد تلف فاعتقه وهو عالم بالجناية فلا ضمان على المولى لانه بالالجاء خرج من أن يكون مختارا للدية أو مستهلكا للعبد وانما الضمان على الذى أكرهه لان تلف العبد منسوب إليه فيغرم قيمته فيأخذها المولى منه لانه بدل ملكه ثم يدفعها إلى ولى الجناية لان الرقبة كانت مستحقة لولى الجناية وقد فاتت وأخلفت بدلا ولو كان الاكراه بحبس أو قيد لم يضمن المكره شيأ لان التلف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا التهديد ويغرم المولى قيمة العبد لاصحاب الجناية ولا يلزمه أكثر منها لانه بالاكراه بالحبس ينعدم الرضا فيخرج به من أن يكون مختارا للفداء ملتزما للدية ولكنه يكون مستهلكا للرقبة فيغرم قيمته بمنزلة ما لو أعتقه وهو لا يعلم بالجناية ولو كان المولى أكره بوعيد تلف حتى قتل عبده عمدا كان للمولى أن يقتل الذى أكرهه لان القتل صار منسوبا إلى المكره فصار المكره آلة له بالالجاء فيجب القصاص عليه ويكون استيفاء القصاص إلى المولى لانه عوض عن العبد وهو ملكه فباعتبار الملك يخلفه في عوض نفسه خلافة الوارث المورث ويبطل حق أصحاب الجناية لفوات محل حقهم فالقصاص الواجب غير صالح لايفاء حقهم منه وان كان اكرهه بحبس أو قيد فلا شئ على المكره وعلى المولى قيمته لاصحاب الجناية لانه مستهلك للعبد فانه لم يصر ملجأ بالاكراه بالحبس فكان الفعل مقصورا عليه ولكنه لم يصر مختارا للفداء لانعدام الرضا منه بالتزام الدية لاجل الاكراة بالحبس فليزمه قيمته للاستهلاك كما لو قتله وهو لا يعلم بالجناية والله أعلم بالصواب (باب الاكراه على النذر واليمين) (قال رحمه الله) ولو أكره بوعيد تلف حتى جعل على نفسه صدقة لله أو صوما أو حجا أو عمرة أو غزوة في سبيل الله أو بدنة أو شيأ يتقرب به إلى الله تعالى لزمه ذلك وكذلك لو أكرهه على اليمين بشئ من ذلك أو بغيره من الطاعات أو المعاصي والاصل فيه حديث حذيفة رضى الله عنه ان المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله في غزوة حلف مكرها ثم أخبر به رسول الله صلى الله وسلم فقال عليه

[ 106 ] الصلاة والسلام أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم وقد بينا ان اليمين بمنزلة الطلاق والعتاق في أن الهزل والجد فيه سواء وهذا لان فيه منع نفسه عن شئ وايجاب شئ على نفسه لحق الله تعالى فيكون في معنى الطلاق والعتاق الذى يتضمن تحريم الفرج حقا لله تعالى فيستوي فيه الكره والطوع والنذر بمنزلة اليمين في هذا المعنى وقال عليه الصلاة والسلام النذر يمين ولا ضمان على المكره في شئ من ذلك لان التزامه لا يصير منسوبا إلى المكره وانما ينسب إليه التلف الحاصل به ولا يتلف عليه شئ بهذا الالتزام ثم المكره انما ألزمه شيأ يؤثر الوفاء به فيما بينه وبين ربه من غير ان يجبر عليه في الحكم فلو ضمن له شيأ كان يجبر على ايفاء ما ضمن في الحكم فيؤدى إلى أن يلزمه أكثر مما يلزم المكره وهذا لا يجوز ولو كان اكراهه على أن يظاهر من امرأته كان مظاهرا لان الظهار من أسباب التحريم ثم يستوى فيه الجد والهزل وقد كان طلاقا في الجاهلية فأوجب الشرع به حرمة مؤقتة بالكفارة فكما ان الاكراه لا يؤثر في الطلاق فكذلك في الظهار فان أكرهه على أن يكفر ففعل لم يرجع بذلك على الذى أكرهه لانه أمره بالخروج عن حقه لزمه وذلك منه حسنة لا أتلاف شئ عليه بغير حق وان أكرهه على عتق عبد بعينه عن ظهار ففعل عتق وعلى المكره قيمته لانه صار متلفا عليه مالية العبد باكراهه على ابطاله ولو لم يكن عتق هذا العبد بعينه مستحقا عليه بل المستحق كان واجبا في ذمته يؤمر بالخروج عنه فيما بينه وبين ربه وذلك في حكم العين كالمعدوم فلهذا ضمن المكره قيمته بخلاف الاول لان هناك أمره بالخروج عما في ذمته من غير أن يقصد ابطال ملكه في شئ من أعيان ماله ثم لا يجزيه عن الكفارة هنا لانه في معنى عتق بعوض ولو استحق العوض على العبد بالشرط لم يجز على الكفارة فكذلك إذا استحق العوض على المكره فان قال أنا أبرئه من القيمة حتى يجزينى من الكفارة لم يجز ذلك لان العتق نفذ غير مجزئ عن الكفارة والموجود بعده ابراء عن الدين وبالابراء لا تتأدى الكفارة وان قال اعتقه حين أكرهني وأردت به كفارة الظهار ولم أعتقه لاكراهه اجزه عن كفارة الظهار ولم يكن له على المكره شئ لانه أقر انه كان طائعا في تصرفه قاصدا إلى اسقاط الواجب عن ذمته واقراره حجة عليه وان قال أردت العتق عن الظهار كما أمرنى لم يخطر ببالي غير ذلك لم يجزه عن كفارة الظهار وله على المكره القيمة لانه أجاب المكره إلى ما أكرهه عليه وهو العتق عن الظهار فلا يخرج به من أن يكون مكرها فإذا كان مكرها كان التلف

[ 107 ] منسوبا إلى المكره بخلاف الاول فان هناك لو أقر انه لم يعتقه لاكراهه بل لاختياره اسقاط الواجب عن ذمته به طوعا وان كان أكرهه بحبس أو قيد فلا ضمان على المكره لانعدام الالجاء وجاز عن كفارته لان العتق حصل بغير عوض واقترنت به نية الظهار ولو أكرهه بوعيد تلف حتى آلى من امرأته فهو مول لان الايلاء طلاق مؤجل أو هو يمين في الحال والاكراه لايمنع كل واحد منهما فان تركها أربعة أشهر فبانت منه ولم يكن دخل بها وجب عليه نصف المهر ولم يرجع به على الذى أكرهه لانه كان متمكنا من أن يقربها في المدة فإذا لم يفعل فهو كالراضي بما لزمه من نصف الصداق وان قربها كانت عليه الكفارة ولم يرجع على المكره بشئ لانه ما جرى على سنن اكراهه فانه بالاكراه منعه من العربان وقد أتى بضده ولانه لزمه كفارة يعني بها فلا يرجع عليه بضمان يحبس به ولو أكرهه على أن قال ان قربتها فهى طالق ثلاثا ولم يدخل بها فقربها فطلقت ولزمه مهرها لم يرجع على المكره بشئ لانه خالف ما أكرهه عليه ولان المهر لزمه بالدخول فانما أتلف عليه باكراهه ملك النكاح وذلك ليس بمتقوم فلا يمضن المكره له قيمته وان لم يقر بها حتى بانت بمضي أربعة أشهر فعليه نصف الصداق ولم يرجع به على الذى أكرهه لانه كان يقدر على أن يجامعها فيجب المهر بجماعه اياها لا بما ألجأه إليه المكره واكثر ما فيه انه بمنزلة الاكراه على الجماع وذلك لا يوجب الضمان على المكره وكذلك لو أكرهه على أن يقول ان قربتها فعبدي هذا حر فان قربها عتق عبده ولا ضمان على المكره لانه ما جرى على سنن اكراهه وان تركها فبانت بالايلاء قبل الدخول غرم نصف الصداق ولا يرجع على المكره بشئ لانه كان يقدر على أن يبيع عبده في الاربعة الاشهر ثم يقربها فيسقط الايلاء ولا يلزمه شئ فان قبل البيع لا يتم به وحده وانما يتم به وبالمشترى وقد بينا قبل هذا ان تمكنه من البيع غير معتبر في ازالة معنى الاكراه قلنا هناك كان الوقت ضيقا لان العبد يعتق بدخول الدار وبمشيئة العتق ولا يتفق وجود مشتر في ذلك القدر من المدة وهنا الوقت أربعة أشهر والظاهر انه في هذه المدة يجد مشتريا يرغب في شراء العبد منه وان كان مدبرا لا يقدر على بيعه وان كانت جارية هي أم ولد فان قرب المرأة عتق هذا ولا ضمان على الذى أكرهه لانه خالف ما أكرهه عليه وان تركها حتى بانت بالايلاء وقد دخل بها لم يرجع على الذى أكرهه أيضا بشئ لانه أتلف عليه النكاح وان لم يكن دخل بها لزمه نصف المهر وفى القياس لا يرجع على

[ 108 ] المكره بشئ لانه كان متمكنا من قربانها في المدة ليسقط به الايلاء فإذا لم يفعل كان في معنى ما لزمه من نصف المهر وفى الاستحسان يرجع على المكره بالاقل من نصف الصداق ومن قيمة الذى التى استحلفه على عتقه لانه ملجأ في التزام الاقل فانه اما أن يدخل بها فيبطل ملكه عن المدبر أو لا يدخل بها فليزمه نصف المهر بوقوع الطلاق قبل الدخول فكان ملجأ مضطرا في أقلهما والمكره هو الذى ألجأه إلى ذلك فلهذا رجع عليه بالاقل وجمع في السؤال ببن المدبر وأم الولد وقيل في ام الولد الجواب قولهما فاما عند تحقيقه فلا يرجع بشئ لان رق أم الولد عنده فليس بمال متقوم وانما له عليه ملك المتعة بمنزلة ملك النكاح وذلك لا يكون مضمونا على المكره بالاتلاف ولو أكرهه على أن قال ان قربتها فمالي صدقة في المساكين فتركها أربعة أشهر فبانت ولم يدخل بها أو قربها في الاربعة الاشهر فلزمته الصدقة لم يرجع على المكره بشئ لانه أن قربها فقد خالف ما أمره به المكره وان لم يقربها فقد كان هو متمكنا من أن يقربها في المدة ويلزمه بالقربان صدقة فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبره السلطان عليها ولهذا لا يرجع على المكره بشئ وهو في المعنى نظير ما لو أكرهه على النذر بصدقة ماله في المساكين والله أعلم (باب اكراه الخوارج المتأولين) (قال رحمه الله) وان غلب قوم من الخوارج المتأولين على أرض وجرى فيها حكمهم ثم أكرهوا رجلا على شئ مما وصفنا في اكراه اللصوص أو اكره قوم من المشركين رجلا على شئ مما ذكرنا في اكراه اللصوص فهذا في حق المكره فيما يسعه الاقدام عليه أو لا يسعه بمنزلة اكراه اللصوص لان الالجاء تحقق بخوف التلف على نفسه وذلك عند قدرة المكره على ايقاع ما هدده به سواء كان من اللصوص أو من المشركين أو من الخوارج فاما ما يضمن فيه اللصوص أو يلزمهم به القود في جميع ما ذكرنا فانه لا يجب شئ من ذلك على أهل الحرب ولا على الخوارج المتأولين كما لو باشروا الاتلاف بايديهم وهذا لان أهل الحرب غير ملتزمين لاحكام الاسلام وإذا انضمت المنعة بالتأويل في حق الخوارج كانوا بمنزلة اهل الحرب في سقوط الضامن عنهم فيما أتلفوا من الدماء والاموال للحديث الذى جاء ان الفتنة وقعت وأصحاب رسول الله كانوا متوافرين واتفقوا أنه لا قود في دم استحل بتأويل القرآن ولا حد في فرج استحل بتأويل القرآن ولا ضمان في مال استحل

[ 109 ] بتأويل القرآن الا أن يوجد شئ بعينه فيرد إلى أهله وقد تقدم بيان هذا في السير ولو أن المتأولين الشاهدين علينا بالشرك المستحلين لمالنا اقتسموه وأخذوا جوارا من جوارينا فاقتسموهن فيما بينهم كما تقسم الغنيمة واستولدوهن ثم تابوا أو ظهر عليه ردت الجوارى إلى مواليهن لانهم لم يتملكوهن اما لانعدام تمام الاحراز فتمامه بالاحراز بدار تخالف دار المستولي عليه أو لبقاء احراز الملاك لبقاء الجوارى في دار الاسلام ولا حد على الواطئ منهن ولا عقر لان المستوفى بالوطئ في حكم جزء هو عين واتلاف الجزء معتبر باتلاف الكل والاولاد احرار بعين القيمة لان الواطئ بمنزلة المغرور باعتبار تأويله والتأويل الفاسد عند انضمام المنعة بمنزلة التأويل الصحيح وولد المغرور حر ثابت النسب من المغرور الا أن في غير هذا الموضع المغرور يضمن قيمة الاولاد لانه منع حدوث الرق فيهم فنزل ذلك منزلة الاتلاف وهنا هو لا يضمن الولد بالاتلاف لصاحب الجارية فكذلك لا يغرم قيمته بسبب الغرور وكذلك أهل الحرب فيما أخذوا من المسلمين من مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة فولدت لهم ثم أسلموا ان هؤلاء لا يملكون بالاحراز فيكون حال المشركين فيه كحال الخوارج في الجوارى على ما بيناه والله أعلم (باب ما يخالف المكره فيه ما أمر به) (قال رحمه الله) ولو أكره الرجل على أن يهب نصف داره غير مقسوم أو لم يسم له مقسوما ولا غيره وأكره على التسليم فوهب الدار كلها وسلمها فهو جائز لانه أتى بغير ما أكره فالجميع غير النصف وهبة نصف الدار غير مقسوم هبة فاسدة وهو قد أتى بهبة صحيحة عرفنا أن ما أتى به غير ما أكره عليه فكان طائعا فيه وكذلك لو أمر بهبة الدار فتصدق بها عليه أو بصدقتها عليه فوهبها له وهو ذو رحم محرم منه أو أجنبي لان الهبة غير الصدقة فالهبة تمليك المال من الموهوب له والمقصود به العوض والصدقة جعل المتصدق به لله تعالى خالصا ثم الصرف إلى الفقراء لتكون كفاية من الله تعالى والدليل عليه أن صرف الصدقة الواجبة إلى بنى هاشم لا تجوز والهبة لهم حسن وانه وأنه لا رجوع في الصدقة وحق الرجوع ثابت للواهب وفى الهبة من ذى الرحم المحرم انما لا يرجع لصيانة الرحم عن القطيعة أو لحصول المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لانه بمنزلة الصدقة إذا ثبت أن ما أتى به غير

[ 110 ] ما أكره عليه حقيقة وحكما كان طائعا فيه ولو أمره بالهبة فنحلها أو أعمرها كان باطلا لان النحلة والعمرى هبة فهذه الفاظ مختلفة والمقصود بالكل واحد وفى الاكراه يعتبر المقصود دل على الفرق ان اختلاف الشاهدين في لفظة الهبة والنحلة والعمرى لا يمنع قبول الشهادة واختلافهما في الهبة والصدقة يمنع قبول الشهادة سواء كان الموهوب له ذا رحم محرم أو أجنبيا ولو أكره على الهبة والدفع فوهب على عوض وتقابضا كان جائزا لانه أتى بغير ما أمر به فالهبة بشرط العوض بعد التقابض بيع فكأنه أكرهه على الهبة فباع ولان مقصود المكره الاضرار باتلاف ملكه بغير عوض ولم يحصل ذلك إذا وهبه على عوض وقد يكون المرء ممتنعا من الهبة بغير عوض ولا يمتنع من الهبة بعوض ولو أكرهه على أن يهبه على عوض ويدفعه فباعه بذلك وتقابضا كان باطلا وكذلك أو أكره على البيع والتقابض فوهبه على عوض وتقابضا كان بعد التقابض والهبة بشرط العوض بمنزلة البيع حتى ثبت فيه جميع أحكام البيع فيكون هو مجيبا إلى ما طلب المكره في المعنى وان خالفه في اللفظ ولان قصد المكره الاضرار به وذلك لا يختلف باختلاف لفظ البيع والهبة بشرط العوض ولو أكره على أن يهبه ويدفعه ففعل فعوضه الآخر من الهبة بغير أكراه فقبله كان هذا اجازة منه بهبته حين رضى بالعوض لان العوض اما يكون عن هبة صحيحة فرضاه بالعوض يكون دليل الرضا منه بصحة الهبة ودليل الرضا كصريح الرضا فان سلم له العوض فان قبضه بتسليم العوض فهو جائز ولا رجوع لواحد منهما على صاحبه كما لو كانت الهبة بغير كره فعوضه وكما في الهبة بشرط العوض وان أبى أن يسلم العوض وقال قد سملت الهبة حين رضيت بالعوض فلا أدفع اليك العوض ولا سبيل لك على الهبة لم يكن له ذلك لان الرضا كان في ضمن العوض وانما يكون راضيا بشرط سلامة العوض له وإذا لم يسلم له كان له أن يرجع في الهبة كما لو وهبه بشرط العوض (ألا ترى) أنه لو قال قد سلمته على ان يعوضنى كذا فأبى لم يكن هذا تسليما منه للهبة (ألا ترى) أن رجلا لو وهب جارية رجل بغير أمره لرجل وقبضها الموهوب له فقال له رب الجارية عوضني منها فعوضه عوضا وقبضه كان هذا اجازة منه للهبة وان أبى أن يعوضه لم يكن هذا اجازة منه للهبة فكذلك ما سبق وكذلك لو أجبره على بيع عبده بالف درهم وعلى دفعه وقبض الثمن ففعل ذلك ثم قال للمشتري زدنى في الثمن ألف درهم لم يكن هذا اجازة للبيع الاول الا أن يزيده فان زاده جاز البيع وان لم يزده فله أن يبطله وكذلك لو قال قد أجزت ذلك البيع على أن تزيدني

[ 111 ] ألف درهم والمعني في الكل واحد وهو انما رضى بشرط أن يسلم له العوض والزيادة فإذا لم يسلم لم يكن راضيا به ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يبيع عبده من هذا بألف درهم ولم يأمره بالدفع فباعه ودفعه لم يكن على الذى أكرهه شئ وينبغى أن يجوز البيع إذا كان هو الدافع بغير اكراه بمنزلة ما لو دفعه بعد ما افترقا من موضع الاكراه وقد بينا فيما تقدم أن الاكراه على البيع لا يكون اكراها على التسليم بخلاف الهبة (ألا ترى) لو أن لصا قال له لاقتلنك أو لتبيعنه عبدك هذا فانى قد حلفت لتبيعنه اياه فباعه خرج المكره من يمينه وهذا إشارة إلى الجواب عن اشكال يقال في هذه المسألة ان قصد المكره الاضرار وذلك انما يكون تمامه بالاخراج من يده لان زوال الملك في بيع المكره لا يكون الا به كما في الهبة فتبين أنه قد يكون للمكره مقصود في نفس البيع ولكن هذا الذى أشار إليه يتأتى في الهبة أيضا والمعتمد هو الفرق الذى تقدم بيانه ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يهبه له فوهبه ودفعه فقال قد وهبته لك فخذه فاخذه الموهوب له فهلك عنده كان للمكره ان شاء ضمن المكره القيمة لان اكراهه على الهبة أكراه على التسليم وان شاء ضمن القابض لان قبضه على سبيل التملك لنفسه بغير رضاه (ألا ترى) أن رجلا لو أمر رجلا ان يهب جاريته هذه لفلان فأخذها المأمور فوهبها ودفعها إلى الموهوب له جاز ذلك فلما جعل التوكيل بالهبة توكيلا بالتسليم كان المقصود بالهبة لا يحصل الا بالتسليم فكذلك الاكراه على الهبة يكون اكراها على التسليم ثم بين في الاصل ما يوضح هذا الفرق وهو ان ايجاب الهبة للموهوب له يكون اذنا في القبض إذا كان بمحضر منهما وايجاب البيع لا يكون اذنا في القبض وان كان المبيع حاضرا حتى لو قبضه بغير أمر البائع كان للبائع أن يأخذه منه حتى يعطيه الثمن والبيع الفاسد بمنزلة الهبة في هذا الحكم وكان الطحاوي رحمه الله يقول في البيع الصحيح أيضا للمشترى أن يقبضه بمحضر منهما ما لم ينهه البائع عن ذلك وقال ايجاب البيع الصحيح أقوى من ايجاب البيع الفاسد ولكن ما ذكره محمد في الكتاب أصح لان القبض في البيع الفاسد والهبة نظير القبول في البيع الصحيح من حيث ان الملك يحصل به فاما قبض المشترى في البيع الصحيح فيكون مسقطا حق البائع في الحبس وايجاب البيع لا يكون اسقاطا لحقه في الحبس فلا بد من الامر بالقبض ليسقط به حقه ولو أكرهه على ان يبيعه منه بيعا فاسدا فباعه بيعا جائزا جاز البيع لانه أتى بغير ما أمره به فالبيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه والبيع الجائز يزيل الملك بنفسه وكذلك الممتنع

[ 112 ] من البيع الفاسد لا يكون ممتنعا من البيع الجائز فهو طائع فيما أتى به من التصرف ولو أكره على أن يبيعه منه بيعا جائزا ويدفعه إليه فباعه بيعا فاسدا ودفعه إليه فهلك عنده فللبائع أن يضمن المكره ان شاء وان شاء المشترى لانه لم يخالف ما أمر به فانه وان أتى به على الوجه الذى أمر به يكون البيع فاسدا لكونه مكرها عليه وانه أتى بدون ما أمره به والممتنع من البيع الجائز يكون ممتنعا من البيع الفاسد وانما هذا بمنزلة رجل أمره أن يبيع بالف درهم نقد بيت المال فباعه بالف درهم عليه جاز ولو أمره ان يبيعه بألف فباعها بالفين جاز ولم يكن مكرها فكذلك فيما سبق ولو أكرهه على أن يهب له نصف هذه الدار مقسوما ويدفعه إلى الموهوب له فوهب له الدار كلها ودفعها إليه جازت الهبة في القياس لانه أمره أن يقسم ثم يهب له فحين وهب الدار كلها قبل ان يقسم فقد خالف ما أمره وكذلك هذا القياس في البيع لو أمره أن يبيعه نصف الدار مقسوما فباعه الدار كلها لانه أمره بالبيع بعد القسمة فهو في البيع قبل القسمة لا يكون مطيعا له فيما أمره به ولانا لو جعلناه مخالفا لم يكن بد من القسمة وفى البيع قبل القسمة لا ندرى أي شئ يضمنه لان بين نصفى الدار مقسوما تفاوتا في المالية ومع الجهالة لا يمكن ايجاب الضمان ولكنه استحسن فقال لا أجيز هبته ولا بيعه في شئ مما أكرهه عليه لانه مكره على بعض ذلك فلا بد من ان تبطل هبته فما كان مكرها عليه وذلك يبطل هبته فكذلك في البيع الصفقة واحدة فذا بطلت في البعض بطلت في الكل وكذلك لو أكرهه على أن يهب له أو يبيعه بيتا من هذه البيوت فباعه البيوت كلها أو وهبها كان ذلك باطلا في الاستحسان لانه قد بطل في بعض البيوت للاكراه فيبطل فيما بقى لاتحاد الصفقة وجهالة ما ينفذ فيه العقد والله أعلم (باب الاكراه على أن يعتق عبده عن غيره) (قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق عبدا يساوى ألف درهم عن رجل بالف درهم ففعل ذلك وقبل المعتق عنه طائعا فالعبد حر عن المعتق عنه طائعا والولاء له لان المولى لو كان طائعا في هذا الايجاب كان العبد حرا على المعتق عنه فكذلك إذا كان مكرها إذ لا تأثير للاكراه في المنع من العتق فان قيل إذا كان طائعا يصير كانه ملك العبد بالف درهم واعتقه عنه وان كان مكرها لا يمكن تصحيح العقد عن المعتق عنه بهذا الطريق لان تمليك المكره بعوض يكون فاسدا والملك بالسبب الفاسد لا يثبت الا بالقبض ولم يوجد

[ 113 ] القبض فكيف يعتق العبد عن المعتق عنه * قلنا هذا التمليك غير مقصود بسببه ولكنه في ضمن العتق فيكون حكمه حكم العتق والاكراه لا يمنع صحة العتق فكذلك لا يمنع صحة هذا التمليك بدون القبض (ألا ترى) أن التمليك إذا كان مقصودا فسببه لا يثبت بدون القبول وإذا كان في ضمن العتق يثبت بدون القبول بان يقول اعتق عبدك عنى بالف درهم ويقول الآخر أعتقت يصح بدون القبول والقبض في البيع الفاسد كالقبول في البيع الصحيح فكما سقط اعتبار القبول هناك سقط اعتبار القبض هنا على ان الاعتاق يجعل قبضا في البيع الصحيح فكذلك في البيع الفاسد الذى هو في ضمن العقد وهو نظير ما لو قال لغيره اعتق عبدك عنى على الف درهم ورطل من خمر فقال أعتقت يصير الآمر قابضا بنفوذ العتق عنه وان كان البيع المندرج في كلامه فاسدا وقد قررنا هذا في الظهار من كتاب الطلاق فكذلك في مسألة الاكراه ثم رب العبد بالخيار ان شاء ضمن قيمة عبد المعتق عنه وان شاء المكره لان المعتق عنه قبله باختياره وقد تعذر عليه رده لنفوذ العتق من جهته فيكون ضامنا قميته والمكره متلف ملكه عليه بالاكراه الملجئ فيكون ضامنا له قيمته * فان قيل المكره انما ألجأه إلى ازالة الملك بعوض يعدله وهو الالف فكيف يجب الضمان عليه * قلنا هو أكرهه على ابطال الملك بالاعتاق وليس بازائه عوض وانما العوض بمقابلة التملك الثابت بمقتضى بكلامه والمقتضى تابع للمقتضى فانما ينبنى الحكم على ما هو الاصل وباعتبار الاصل هو متلف عليه ملكه بغير عوض فان ضمن المكره قيمته رجع بها على المعتق عنه لانه قائم مقام المولى حين ضمن له قيمة ولان العبد قد احتبس عند المعتق عنه حين عتق على ملكه ويثبت الولاء له وكان هو المعتق بقوله طوعا فلا يسلم له مجانا وان ضمنها المعتق عنه لم يرجع بها على المكره لانه ضمن باحتباس الملك عنده ولو أكرهه بحبس كانت القيمة له على المعتق عنه ولا شئ له على المكره لان الالجاء لا يحصل بالاكراه بالحبس وبدونه لا يصير الاتلاف منسوبا إلى المكره ولو كان اكره المعتق والمعتق عنه بوعيد تلف حتى فعلا ذلك فالعبد حر عن المعتق عنه والولاء له وضمان العبد على المكره خاصة لمولى العبد لان المعتق عنه ملجأ إلى القبول وهذا النوع من الضرورة يخرجه من أن يكون متلفا مستوجبا للضمان وانما المتلف هو المكره فالضمان عليه خاصة بخلاف الاول فهناك المعتق عنه طائع في القبول فيصير به متلفا للعبد ضامنا * فان قيل العبد قد احتبس عند المعتق عنه فان عتق على ملكه وثبت الولاء له وان كان هو ملجأ في القبول فينبغي أن يجب عليه الضمان

[ 114 ]

  • قلنا المحتبس عنده مقدار ما ثبت له من الولاء وذلك ليس بمتقوم (ألا ترى) أن من أكره رجلا على أن يعتق عبده كان المكره ضامنا له جميع قميته وان كان الولاء ثابتا للمعتق فلما لم يعتبر الولاء في اسقاط حقه في الضمان فكذلك لا يعتبر الولاء في ايجاب الضمان عليه وانما هذا بمنزلة ما لو أكره رجلا على بيع عبده من هذا بالف درهم ودفعه إليه وأكره الآخر على شرائه وقبضه وعتقه بوعيد تلف ففعلا ذلك ففى هذا الضمان يكون على المكره خاصة فكذلك فيما سبق ولو أكرههما على ذلك بالحبس ففعلا ضمن المعتق عنه قيمته لمولاه لان المكره غير ملجأ هنا فلا ضمان عليه والاتلاف حاصل بقبول المعتق عنه وقد بقى مقصورا عليه حين لم يكن ملجأ إلى ذلك فكان ضامنا قيمته فان قيل الاكراه بالحبس يمنع صحة التزام المال بالقبول والمعتق عنه انما يلتزم الضمان هنا بقوله وهو القبول * قلنا لا كذلك بل هو ملتزم لصيرورته قابضا بالاعتاق متلفا والاكراه بالحبس لا يمنع تحقق الاتلاف منه موجبا للضمان عليه ولو أكرهه المولى بوعيد تلف وأكره الآخر بحبس حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يضمن أيهما شاء قيمته لان المكره ألجأ المولى إلى اتلاف ملكه فيكون ضامنا له قيمته والمعتق عنه بالقبول متلف معتق لان ما كان ملجأ إليه فيكون للمولى الخيار فأيها اختار ضمانه لم يكن له بعد ذلك ان يضمن الآخر شيأ فان ضمن المكره رجع على المعتق عنه بما ضمن لانه قام مقام المولى ولان المعتق عنه متلف للملك بفعل مقصور عليه فلا بد من ايجاب ضمان القيمة عليه ولو أكره المولى بالحبس وأكره المعتق عنه بوعيده تلف فالعبد حر عن المعتق عنه ثم المعتق بقيمته غير مدبر لانه قام مقام المولى في الرجوع عليه حين ضمن له قيمته فان لم يرجع المكره على المدبر عنه يضمن الذى أكرهه قيمة العبد لانه ملجأ إلى القبول من جهته وبه تلف الملك عليه فكان له ضامنا له قيمته وإذا قبضها دفعها إلى مولى العبد لان القيمة قائمة مقام العين ولو كان العبد في يده على حاله كان عليه رده على المولى لكونه مكرها بالحبس فكذلك إذا وصل إليه قيمته ولا سبيل للمعتق على المكره لانه ما كان ملجأ من جهته حين أكرهه بالحبس ولو أكرههما بوعيد تلف حتى دبره صاحبه عنده بألف درهم وقبل ذلك صاحبه فالتدبير جائز عن الذى دبره عنه لان التدبير يوجب حق الحرية للعبد ومن شرطه ملك المحل بمنزلة حقيقة الحرية والاكراه كما لا يمنع صحة العتق لا يمنع صحة التدبير ثم المولى بالخيار ان شاء ضمن الذى أكرهه قيمته عبدا غير مدبر لانه أتلف عليه ملكه حتى ألجأه إلى تدبيره عن

[ 115 ] الغير وفى حقه هذا والالجاء إلى الاعتاق سواء لان ملكه يزول في الموضعين وإذا ضمنه ذلك يرجع المكره على الذى دبره عنه بقيمته مدبرا ولا يرجع بفضل مابين التدبير وغيره لان النقصان الحاصل بالتدبير كان لقبوله ولكنه كان ملجأ إلى القبول من جهته فصار هذا النقصان كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا قبل هذا نظيره في العتق ان المكره لا يرجع على المعتق عنه فهنا أيضا لا يرجع عليه بالنقصان ولكن يرجع عليه بقيمته مدبرا لان العبد قد احتبس عنه بهذه الصفة والمدبر مال متقوم فلا يجوز أن يسلم له مجانا ولكنه يضمن قيمته لاحتباسه عنده وان انعدم الصنع منه لكونه ملجأ إلى القبول كمن استولد جارية بالنكاح ثم ورثها مع غيره يضمن قيمة نصيب شريكه منها لاحتباسها عنده بالاستيلاد وان كان لا صنع له في الميراث وان شاء مولى العبد يرجع بقيمته مدبرا على الذى دبره عنه لاحتباسه عنده ويرجع إلى المكره بنقصان التدبير لان ذلك الجزء قد تلف بفعل منسوب إلى المكره لوجود الالجاء منه ولو كان انما أكرههما على ذلك بالحبس فالعبد مدبر للذى دبره عنه يعتق بموته ولا ضمان على المكره لان الاتلاف لم يصر منسوبا إليه بالاكراه بالحبس ولكن المولى يرجع بقيمة عبده تامة على المدبر عنه لان ما تلف بالتدبير وما أحتبس عنده صار كله مضمونا عليه حين لم يكن ملجأ إلى القبول فلهذا ضمن قيمته غير مدبر ولو كان اكره المولى بوعيد تلف وأكره الآخر بالحبس فالمولى بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمته عبدا غير مدبر لانه كان ملجأ من جهته إلى ازالة ملكه وان شاء ضمن المدبر عنه قيمته غير مدبر لانه غير ملجأ إلى القبول فكان حكم الاتلاف والحبس مقصورا عليه وان ضمن المكره رجع على المدبر عنه بعد ما أختار المولى تضمينه حتى أبرأ المولى المكره من القيمة التى ضمنها اياه أو وهبها له أو اخرها عنه شهرا فكان للمكره أن يرجع على المدبر عنه على حاله لان المولى باختياره تضمينه يصير مملكا منه القيمة التى على المدبر عنه ولهذا لم يكن له أن يرجع على المدبر عنه بشئ بعد ذلك فابراؤه اياه وتأجيله لا يسقط حق المكره في الرجوع على المدبر عنه كالوكيل بالشراء إذا أبرأ عن الثمن كان له أن يرجع على الموكل وهذا بخلاف الكفيل بالدين أذا أبرأ لان هناك الحق لم يسقط عن الاصيل وهنا باختياره تضمين المكره سقط حقه عن الرجوع على المدبر عنه وتعين ذلك حقا للمكره ولو كان المولى أكره بالحبس وأكره الآخر بوعيد تلف حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يرجع على المدبر عنه بقيمته مدبرا لاحتباس العبد عنده مدبرا

[ 116 ] لسبب فاسد ويرجع على المكره بنقصان التدبير لان تلف هذا الجزء حصل بقبول المدبر عنه وهو كان ملجأ إلى ذلك وان لم يكن المولى ملجأ بالاكراه بالحبس والاصح عندي أن الرجوع بنقصان التدبير على المكره يكون للمدبر عنه يأخذ ذلك منه فيدفعه إلى المكره لان نقصان التدبير هنا كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا هناك أن المعتق عنه هو الذى يستوفى القيمة فيدفعها إلى المكره وهذا لان العبد دخل في ملك المدبر عنه ثم صار مدبرا والمولى كان مكرها من جهة المكره بالحبس وبالاكراه بالحبس لا يجب له عليه الضمان وانما يجب بالاكراه بوعيد تلف وذلك انما وجد بين المكره والمدبر عنه وكذلك في هذه الوجوه كلها لو أكرههما بالبيع والقبض وأكره المشترى على التدبير فهو في التخريج نظير ما سبق ولو أكرههما بوعيد تلف على أن يتبايعا ويتقابضا ثم أكره المشتري بوعيد تلف على أن يقتل العبد عمدا بالسيف فالقياس فيه ان للبائع ان يقتل المكره بعبده لان المشترى في القبول والقبض والقتل كان ملجأ من جهة المكره فيكون بمنزلة الآلة له ويجعل في الحكم كان المكره هو الذى قتله بنفسه فيلزمه القود ولكنه استحسن فقال عليه ضمان قيمته في ماله ولا قود عليه لانهما وان كانا مكرهين فالمشترى صار مالكا بالقبض ثم قتله صادف ملك نفسه ولو قتله طائعا لم يلزمه القصاص فلو قتله مكرها لا يكون قتله أيضا موجبا للقصاص لمعنى وهو ان المستحق لهذا القود مسببه فباعتبار ان العبد صار ملك المشترى القود يجب له وباعتبار ان المشترى في حكم الاتلاف الحاصل بقبوله وقبضه وقتله آلة للمكره القود يكون للبائع وعند اشتباه المستوفى يمتنع وجوب القصاص كالمكاتب إذا قتل عن وفاء وله وارث سوى المولى وإذا سقط القود للشبهة وجب ضمان قيمته على المكره لان التكلم بالبيع والشراء وان لم يصر منسوبا إلى المكره فتلف المال به صار منسوبا إلى المكره والمشترى في القتل والقبض كان له فلا يجب عليه شئ من الضمان بل ضمان القيمة على المكره في ماله ولو أكرههما بالحبس على البيع وأكره المشترى على القتل بوعيد تلف فللبائع قيمة العبد على المشترى لان البيع مع الاكراه بالحبس كان فاسدا ولكن القبض مقصور على المشترى وقد تعذر عليه رده فيلزمه قيمته وهو ان كان ملجأ إلى القتل فتأثير الاكراه في انعدام الفعل في جانبه فكأنه تلف العبد في يده بغير صنعه فعليه قيمته بسبب البيع الفاسد وللمشترى ان يقتل الذى اكرهه على القتل لان العبد كان مملوكا له حين اكرهه على قتله بوعيد تلف فيصير فعل القتل منسوبا إلى المكره ويجب القصاص * فان

[ 117 ] قيل كيف ينبغى أن لا يجب لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله فان من أصل زفر والشافعي رحمهم الله ان المشترى لا يملك بالقبض عند فساد البيع بسبب الاكراه فلا يكون القصاص واجبا له * قلنا أصحابنا رحمهم الله لا يعتبرون خلاف الشافعي في تفريع المسائل لانه ما كان موجودا عند هذه التفريعات منهم وخلاف زفر في هذا كخلافه في المبيع من وجوب القود على المكره في الاصل وذلك لا يمنعنا من ان نلزمه القود لقيام الدليل ولو كان اكرهه على القتل بحبس لم يضمن المكره شيأ لان الالجاء لم يحصل بالاكراه بالحبس ولو أكره البائع بوعيد تلف وأكره المشترى على الشراء والقبض والقتل بالحبس فالبائع بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمة عبده لانه كان ملجأ من جهته إلى البيع والتسليم فيكون متلفا عليه ملكه وان ضمنه قيمته رجع المكره بها على المشترى لانه لم يكن ملجأ إلى القتل ولا إلى العتق وان شاء البائع ضمن المشترى قيمة عبده لان فعله في القبض والعتق مقصور عليه فيكون ضامنا له قيمته ولو كان أكره المشترى على الشراء بالحبس وعلى القتل عمدا بالقتل فالبائع بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمة عبده لما بينا وإذا ضمنه لم يرجع هو على المشترى بشئ لان المشترى كان ملجأ إلى القتل من جهته فيصير فعله منسوبا إلى المكره وكانه قتله بيده وذلك استرداد منه للعبد وزيادة فلا يضمن المشترى لذلك بخلاف ما سبق فالاكراه بالحبس على الفعل لا يجعل الفعل منسوبا إلى المكره وان شاء البائع ضمن المشترى قيمة عبده لان فعله في الشراء والقبض مقصور عليه فان كان مكرها على ذلك بالحبس فان ضمنه كان للمشترى أن يقتل المكره لان العبد تقرر في ملكه من حين قبضه حين ضمن قيمته فتبين أنه أكرهه على قتل عبده عمدا بوعيد تلف وذلك يوجب القود على المكره وان كان أكره البائع بالحبس على البيع والدفع وأكره المشترى على الشراء والقبض والقتل بالوعيد بالقتل فلا ضمان على المشترى لانه بمنزلة الآلة في جميع ما كان منه للاكراه الملجئ ويغرم المكره قيمة العبد لمولاه لان فعله في البيع والتسليم وان لم يصر منسوبا إلى المكره ففعل المشترى بالقبض والقتل صار منسوبا إلى المكره فكان المكره هو الذى فعل بنفسه الا أنه سقط عنه القود استحسانا لاشتباه المستوفى فيجب عليه ضمان قيمته لمولاه وان كان انما أكره المشترى على الشراء والقبض بوعيد تلف واكرهه على القتل أو العتق أو التدبير بالحبس فلا ضمان على المكره لان البائع بعد قبض المشترى كان متمكنا من استرداد العين وانما تعذر ذلك عليه بالقتل أو العتق أو التدبير وذلك مقصور على

[ 118 ] المشترى غير منسوب إلى المكره لانه كان مكرها على ذلك بالحبس فلهذا لا ضمان على المكره ويضمن المشترى قيمة العبد لان اقدامه على هذه التصرفات بمنزلة الرضا منه أن لو كان طائعا ولكن الاكراه يمنع تمام الرضا فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع ولو كان البائع غير مكره ولكنه طلب الذى أكرهه أن يكره المشترى بوعيد تلف على أن يشترى عبده بالفين وقيمته الف ويقبضه ففعل ذلك ثم أكرهه على ان يقتله عمدا أو يعتقه بوعيد تلف فلا ضمان على المشترى في ذلك لانه ملجأ إلى جميع ما كان منه فكان هو بمنزلة الآلة فيه وعلى المكره قيمة العبد للبائع لانه انما طلب المكره الاكراه على الشراء والقبض وقد كان متمكنا من الاسترداد لانعدام الرضا من المشترى فانما تعذر ذلك عليه بالقتل وقد كان المشترى فيه آلة للمكره فكأنه هو الذى قتله بنفسه فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع ولو كان أكرهه بقتل حتى دبر العبد فالبائع بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمته غير مدبر لانه انما تعذر استرداده بالتدبير ثم يرجع المكره بقيمته مدبرا على المشترى لانه احتبس في ملك المشترى وهو مدبر فلا بد من ايجاب ضمان القيمة عليه (ألا ترى) انها لو كانت جارية استخدمها واستكتبها ووطئها فكيف يسلم له ذلك مجانا وان شاء ضمن المشترى قيمته مدبرا لهذا المعنى أيضا وضمن الذى أكرهه نقصان التدبير لان ذلك الجزء قد تلف بالتدبير وقد كان المشترى ملجأ إلى التدبير من جهة المكره ولم يوجد من البائع الرضا بذلك ولو كان أكره المشترى على الشراء والقبض بالحبس والمسألة بحالها لم يكن للبائع على المكره شئ وكان له أن يضمن المشترى قيمة عبده لان الفعل في الشراء والقبض كان مقصورا عليه وإذا تقرر عليه ضمان قيمته تبين أن المكره أكرهه على أن يقتل عبده بالاكراه بالقتل فله ان يقبض منه وان أكرهه على العتق ضمنه قيمته وان كان أكرهه على التدبير ضمنه نقصان التدبير في الحال فإذا مات المشترى والعبد يخرج من ثلثه ضمنه ورثة المشترى قيمته مدبرا لان تلف الباقي بعد موته حصل بذلك التدبير وقد كان ملجأ إليه من جهة المكره ولو كان أكرهه في ذلك كله بالحبس والمسألة بحالها لم يكن للبائع مع المكره ضمان لان ما تلف به العبد لم يصر منسوبا إليه بالاكراه بالحبس ولكنه يضمن المشترى قيمة عبده لان فعله فيما يحصل به تلف العبد مقصور عليه ولو كان أكرهه بوعيد تلف على أن يقبل من فلان أن يعتق عبده عنه بالف درهم وقيمته ألفان أو خمسمائة بطلب من رب المال فقبله منه فالعتق جائز عن المعتق عنه لان فعله في القبول مقصور عليه ولا

[ 119 ] ضمان عليه ولا على المكره اما على القابل فلانه ملجأ إلى هذا القبول بوعيد تلف وذلك يمنع نسبة التلف إليه في حكم الضمان واما على المكره فلان رب العبد هو الذى طلب منه ما حصل به تلف العبد فلا يكون له أن يضمن المكره شيأ (ألا ترى) أنه لو شاء اللص ان يكره هذا الرجل بوعيد تلف على أن يشترى منه هذا العبد بالف درهم ويقبضه ففعل ذلك فمات في يده لم يضمن المكره ولا المشترى للمولى شيأ وكذلك ان سأل مع ذلك ان يكرهه على عتقه بوعيد تلف ففعل بخلاف مااذا كان اكرهه على العتق بغير سؤال من البائع لان هناك لم يوجد منه الرضا بتلف العبد وهنا قد تحقق منه الرضا بذلك ولو أكرهه المولى بالحبس على البيع والدفع واكره الآخر يومئذ بوعيد تلف على الشراء والقبض ففعلا ذلك ثم أكره المولى بالحبس على أن يأمر المشترى بالعتق وأكره المشترى على أن يعتق بوعيد تلف ففعلا كان العبد حرا وكان ضمان القيمة على المكره لان أمر البائع اياه بالعتق وهو مكره بالحبس أمر باطل فان المشترى كان متمكنا من العتق باعتبار ملكه وانما تأثير أمر البائع في رضاه به ليسقط حقه في الضمان بهذا السبب وبالاكراه بالحبس ينعدم الرضا (ألا ترى) أنه لو أكره رجل بالحبس حتى يأذن للمكره في قتل عبده فأذن له في ذلك فقتله كان على المكره القيمة لان اذنه مع الاكراه بالحبس باطل فهذا كذلك وإذا ثبت بطلان أمره بقى اكراهه المشترى على العتق بالقتل وذلك يوجب نسبة الاتلاف إلى المكره والله أعلم بالصواب (باب الاكراه على الوديعة وغيرها) (قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بالحبس على أن يودع ماله هذ الرجل فأودعه فهلك عند المستودع وهو غير مكره لم يضمن المستودع ولا المكره شيأ أما المكره فلان التهديد بالحبس لا يجعل الدفع من صاحب المال منسوبا إليه وأما المستودع فلانه قبض المال بتسليم صاحبه إليه ليرده عليه وذلك غير موجب للضمان وهذا لان فعل التسليم مقصور على المالك فانه لم يكن ملجأ إليه وانما هو غير راض به فهو كمن أودع ماله غيره عند خوفه من اللصوص أو عند وقوع الحريق في دراه وهناك لا يضمن المودع إذا هلك في يده بغير صنعة وان كان أكرهه بوعيد تلف فلرب المال أن يضمن المستودع وان شاء المكره لان فعله في التسليم صار منسوبا إلى المكره للالجاء فكان المكره هو الذى باشر الدفع فيكون كل واحد

[ 120 ] منهما جانيا في حق صاحب المال وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشئ لان المكره ان ضمن فانما يضمن بكون الدفع منسوبا إليه ولو كان هو الذى دفعه إليه وديعة لم يرجع على المودع بشئ وان شاء ضمن المودع فلانه كان في القبض طائعا وبه صار ضامنا وهو لم يكن في هذا القبض عاملا للاكراه لانه لم يقبض ليسلمه إلى المكره ولو أكره بتلف أو حبس على أن يأمر رجلا بقبض المال فأمر بقبضه والمأمور غير مكره فضاع في يده فالقابض ضامن للمال لان الامر قول منه والاكراه بالحبس يبطل قوله في مثله (ألا ترى) أنه يبطل شراؤه وبيعه فكان كالقابض بغير أمره بخلاف الاول فهناك صاحب المال هو الدافع والاكراه بالحبس لا يعدم فعله في الدفع (ألا ترى) أنه لو أكرهه بالحبس على أن يطرح ماله في ماء أو نار ففعل لم يضمن المكره شيأ ولو أكرهه بالحبس على أن يأمر انسانا بان يطرح ماله في ماء أو نار فأمره بذلك ففعله المأمور كان المكره ضامنا ولا شئ على المكره الا أن يكون الطارح مكرها من جهته بوعيد تلف فحينئذ يكون الضمان على المكره وكذلك لو أكرهه بالحبس على أن يأذن له في أن يأخذ ماله فيهبه أو يأكله أو يستهلكه ففعل ذلك كان المستهلك ضامنا لان أمره بالتهديد بالحبس لغو فكأنه فعله بغير أمره ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في أن يقتل عبده عمدا فأذن له في ذلك فقتله كان للمولى أن يقتله به لانه لا معتبر باذنه بعد الاكراه التام ولو أكرهه على ذلك بالحبس كان كذلك في القياس لان الاذن كان باطلا فان التهديد بالحبس يسقط اعتبار ما يحتمل الابطال من أقاويله والاذن انما كان مؤثرا باعتبار انه دليل الرضا ومع الاكراه بالحبس الاذن لا يكون دليل الرضا ولكنه استحسن في هذا فقال لا يلزمه القود ولكنه ضامن له قيمة عبده لان الاكراه بالحبس يؤثر في ابطال بعض الاقاويل دون البعض (ألا ترى) انه لا يؤثر في أبطال قوله في الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ويؤثر في البيع والشراء فان اعتبرناه بما يؤثر فيه يجب القصاص على المكره وان اعتبرناه بما لا يؤثر فيه لا يجب القصاص على المكره والقصاص مما يندرئ بالشبهات فلهذا سقط القود * فان قيل هذا في الاكراه بوعيد التلف موجود * قلنا لا كذلك فالاكراه بوعيد التلف مؤثر في جميع الاقاويل فيما يحصل بها من الاتلاف حتى يكون موجبا للضمان على المكره بخلاف الاكراه بالحبس ثم الاذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء والعفو مع الاكراه بالحبس صحيح على أن يكون مقصورا على العافى من كل وجه بخلاف الاكراه بالقتل فالعفو هناك صحيح

[ 121 ] على أن يكون ما يتلف به مما هو متقوم منسوبا إلى المكره فكذلك الاذن في الابتداء مع الاكراه بالحبس * قلنا يجعل معتبرا في اسقاط القود الذى يندرئ بالشبهات ولا يجعل معتبرا في اسقاط الضمان الذى يثبت مع الشبهات وكذلك ان كان المأمور بالقتل غير المكره فان المعني في الكل سواء ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يوكل ببيع أو شراء ففعل كان ذلك باطلا لان التوكيل قول وانما يعتبر ليتحقق به الرضا من الموكل بتصرف الوكيل على سبيل النيابة عنه وذلك ينعدم إذا كان مكرها على التوكيل ثم الاكراه بالقتل والحبس يمنع صحة البيع والشراء فكذلك يمنع صحة التوكيل بالبيع والشراء ولو أكرهه بالحبس على أن يوكل هذا بعتق عبده فأعتقه الوكيل والوكيل غيره مكره كان العبد حرا عن مولاه ولم يضمن المكره شيأ لان الاكراه بالحبس لا يجعل بالفعل منسوبا إلى المكره في معنى الاتلاف ولا يمنع صحة الاعتاق فكذلك لا يمنع صحة التسليط على الاعتاق والتوكيل في الابتداء كالاجازة في الانتهاء ولو أن أجنبيا أعتق عبد رجل بغير أمره فاكره بالحبس على أن يجيزه بعد العتق لم يضمن المكره شيأ فهذا مثله ولو أكرهه على ذلك بوعيد تلف كان الضمان على المكره دون الذى ولى العتق أما نفوذ العتق فلان الاكراه على التوكيل بالعتق بمنزلة الاكراه على الاعتاق وأما وجوب الضمان على المكره فلان الاتلاف منسوب إليه بسبب الالجاء وحصول التلف بالامر الصادر من المولى عند اعتاق المأمور لا باعتاق المأمور (ألا ترى) أنه لو لم يسبق الامر كان اعتاقه لغوا وبه فارق القتل والقطع فالاتلاف هناك يحصل بمباشرة المأمور دون الامر به (ألا ترى) أنه يتحقق وان لم يسبقه أمر فإذا كان المباشر طائعا كان الضمان عليه (ألا ترى) أن المشترى لو أمر رجلا بان يقتل المبيع قبل القبض فقتله كان القاتل ضامنا قيمته للبائع حتى يحبسه بالثمن ولو أمر رجلا فاعتقه كان العبد حرا ولا ضمان على المعتق والفرق بينهما بما أشرنا إليه أن الاعتاق بدون أمر المشترى لغو فيكون اعتاق المأمور كاعتاق المشترى والقتل بدون أمر المشترى يتحقق فيكون موجب الضمان على القاتل ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في عتقه فأذن له فيه فأعتقه عتق والولاء للمولى ويضمن المكره قيمته لا باعتبار انه أعتقه بل باعتبار انه ألجأه إلى الامر بالعتق حتى لو كان أكرهه على ذلك بحبس لم يضمن له شيأ فهذا يبين لك ما سبق أن الاكراه على الامر بالعتق بمنزلة الاكراه على العتق في حكم الضمان وكل اكراه بوعيد تلف على الامر لا يمكن رده بعد وقوعه نحو العتق والطلاق والقتل واستهلاك المال

[ 122 ] فاكراهه فيه بمنزلة جنايته بيده لان المكره في حكم الاتلاف صار آلة للمكره وان كان أكرهه على ذلك بقيد أو بحبس لم يلزمه ضمانه وانما الاكراة بالحبس بمنزلة الاكراه بالقتل في البيع والشراء والاقرار بالاشياء كلها والوكالة بذلك والامر به لان صحة هذا كله تعتمد الرضا ومع الاكراه بالحبس ينعدم الرضا ثم أوضح الفرق بين الفعل وبين الامر به عند الاكراه بالحبس بفعل العبد المحجور عليه فانه لو غصب مالا فدفعه إلى عبد آخر محجور عليه فهلك عنده كان لصاحب المال أن يضمن الثاني ثم يرجع مولاه بما ضمن في رقبة الاول ولو لم يدفعه ولكنه أمره أن يأخذه والمسألة بحالها لم يكن لمولى الآخر أن يضمن الاول (ألا ترى) أن الحجر عليه أسقط اعتبار أمره ولم يسقط اعتبار دفعه فكذلك الاكراه بالحبس يسقط اعتبار أمره ولا يسقط اعتبار دفعه والله أعلم بالصواب (باب التلجئة) (قال رحمه الله) رجل قال لرجل انى أريد أن ألجئ اليك عبدى هذا فأبيعكه تلجئة وباطلا وليس بشراء واجب لشئ أخافه فقال نعم وحضر هذه المقالة شهود ثم قال له في مجلس آخر قد بعتكه بالف درهم فقال قد فعلت ثم تصادقا على ما كان بينهما فالبيع باطل لان التلجئة بمنزلة الهزل والهزل أن يراد بالكلام غير ما وضع له والهازل لا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به ويكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب فالملجئ أيضا يكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب ولا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به فلا يمتنع الهزل والتلجئة انعقاد السبب ولكن لا يكون موجبا لحكمه لما لم ينعدم هذا الوصف وهو كالبيع بشرط الخيار لهما بدا يكون منعقدا ولكن لا يكون موجبا لحكمه مع بقاء الخيار لهما إذا عرفنا هذا فنقول ان تصادقا على انهما بينا على تلك المواضعة فالبيع باطل لاتفاقهما على انهما يعزلانه وان تصادقا انهما أعرضا عن تلك المواضعة فالبيع لازم بينهما لانهما تصادقا على انهما قصدا الجد وهذا ناسخ لما كان بينهما من المواضعة وإذا كان العقد بعد العقد يكون ناسخا للعقد فالعقد بعد المواضعة أولى أن يكون ناسخا لها وان تصادقا انه لم يحضرهما نية عند العقد ففى ظاهر الجواب البيع باطل وروي المعلى عن أبى يوسف عن أبى حنيفة أن البيع صحيح وجه تلك الرواية أن مطلق فعل العاقل المسلم محمول على الصحة وما يحل شرعا وعند الاطلاق يجب حمل كلامهما إليه فلا يجوز

[ 123 ] الغاء كلامهما مع امكان تصحيحه ووجه ظاهر الرواية انهما ما تواضعا الا ليبنيا على تلك المواضعة فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يظهر منهما خلافه وهذا لانه إذا لم يجعل بناء كان استعمالها بتلك المواضعة استعمالا بما لا يفيد والحاصل أن في ظاهر الرواية تعارض الامران في الاطلاق فيرجح السابق منهما وهو المواضعة وفى الرواية الاخرى جعل الثاني ناسخا للاول واما إذا اختلفا فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر أعرضنا عنها فعلى قول أبى حنيفة القول قول من يدعى صحة العقد وعند أبى يوسف ومحمد القول قول من يدعي البناء على تلك المواضعة لان عند الخصومة القول قول من يشهد له الظاهر وانما يشهد الظاهر لمن يدعي البناء على المواضعة * يوضحه انا نجعل في حق كل واحد منهما كانه قصد ما أخبر به ولكن باعراض أحدهما عن المواضعة لا يصح العقد فيما بينهما كما لو بنيا عل المواضعة ثم أجاز العقد أحدهما وأبو حنيفة يقول عند الاختلاف يجب الرجوع إلى الاصل والاصل أن مطلق العقد يقتضى اللزوم فدعوى البناء من احدهما على المواضعة كدعواه شرط الخيار * يوضحه ان تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما فينفرد كل واحد منهما بابطالها بطريق الاعراض عنها وإذا بطلت المواضعة بقى العقد صحيحا ثم اختلافهما في بناء العقد على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة ولو أدعى أحدهما المواضعة السابقة وجحد الآخر كان القول قول المنكر وكان البيع صحيحا بينهما حتى تقوم البينة للآخر على هذا القول منهما فكذلك إذا اختلفا في البناء عليها وان تصادقا على البناء على المواضعة ثم قال أحدهما قد أجزت البيع لم يجز على صاحبه لان ذلك بمنزلة اشتراط الخيار منهما فالمجيز يكون مسقطا لخياره ولكن خيار الآخر يكفى في المنع من جواز العقد فان قال صاحبه قد أجزت أنا أيضا فالبيع جائز لانهما أسقطا خيارهما ولان البيع كان هزلا منهما ولم يكن مفيدا حكمه لانعدام الاختيار منهما للحكم وقد اختارا ذلك وان لم يجيزاه حتى قبض المشترى فأعتقه كان عتقه باطلا بمنزلة ما لو كان شرطا الخيار لهما وهذا لان الحكم وهو الملك غير ثابت لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل فتوقف الحكم على اختيارهما له وقبل الاختيار لا ملك للمشترى فلا ينفذ عتقه بخلاف المشتري من فالمكره المكره مختار للحكم ولكنه غير راض به لان الحكم للجد من الكلام وانما أكره على الجد فأجاب إلى ذلك فلهذا ينفذ عتقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيعه تلجئة فباعه لم يجز عتق المشترى فيه أيضا ولو قال

[ 124 ] رجل لامرأة أتزوجك تزوجا هزلا فقالت نعم ووافقهم على ذلك الولى ثم تزوجها كان النكاح جائزا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق ولان النكاح لا تمتنع صحته بعد اختيار السبب لعدم اختيار الحكم كما لو شرط الخيار فيه كان النكاح صحيحا وبهذا الفصل يتبين أن بيع الهازل منعقد تلحقه الاجازة منهما لان بالهزل لو كان ينعدم اختيار أصل السبب لما صح النكاح والطلاق والعتاق من الهازل وأصل السبب لابد من اعتباره في هذه الاشياء وكذلك لو طلق أمرأته على مال على وجه الهزل أو أعتق جاريته على مال على وجه الهزل وقد تواضعا قبل ذلك أنه هزل وقع الطلاق والعتاق ووجب المال وهذا عندنا قول أبى يوسف ومحمد أما عند أبى حنيفة رحمه الله فيتوقف وقوع الطلاق والعتاق على وجود الاجازة من المرأة والعبد لما بينا أن الهزل بمنزلة شرط الخيار وعند أبى حنيفة شرط الخيار في جانب المرأة والعبد يمنع وقوع الطلاق والعتاق ووجوب المال قبل اسقاط الخيار لان الذى في جانبهما مال فيعتبر بالعقد الذى هو مبادلة مال بمال وعندهما شرط الخيار لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق إذ هو المقصود بالعقد فأما المال فتبع فيه وثبوت التبع بثبوت الاصل فكذلك الهزل والاجارة والقسمة والكتابة بمنزلة البيع في حكم التلجئة لان هذه العقود محتملة للنقض بعد وقوعها كالبيع ولو تواضعا على أن يجيزا أنهما تبايعا هذ العبد أمس بألف درهم ولم يكن بينهما بيع في الحقيقة ثم قال البائع للمشتري قد كنت بعتك عبدى يوم كذا بكذا وقال الآخر صدقت فليس هذا ببيع لان الاقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والمخبر عنه إذا كان باطلا فبالاخبار به لا يصير حقا ولو أجمعا على اجازته بعد ذلك لم يكن بيعا لان الاجازة انما تلحق العقد المنعقد وبالاقرار كاذبا لا ينعقد العقد فلا تلحقه بالاجازة (الا ترى) أنهما لو صنعا مثل ذلك في طلاق أو عتاق أو نكاح لم يكن ذلك طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا وكذلك لو أقر بشئ من ذلك من غير تقدم المواضعة لم يكن طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا فيما بينه وبين ربه وان كان القاضى لا يصدقه في الطلاق والعتاق على أنه كذب إذا أقر طائعا وقد بينا الفرق بين الاقرار والانشاء في هذه التصرفات مع الاكراه فكذلك مع التلجئة ولو كان قبض العبد الذى قال فيه ما قال فأعتقه ثم قامت البينة على ما كانا قالا في السر من المواضعة على الاقرار بطل العتق ورد العبد على مولاه لانه ثبت ان اقرارهما كان كذبا وان اعتاقه حصل في غير ملكه

[ 125 ] فكان لغوا ولو أن رجلا قال لامرأة ووليها أو قال لوليها دونها انى أريد أن أتزوج فلانة على ألف درهم وتسمى ألفين والمهر ألف فقال الولي نعم افعل فتزوجها على ألفين علانية كان النكاح جائزا والصداق ألف درهم إذا تصادقا على ما قالا في السر أو قامت به البينة لانهما قصدا الهزل بذكر أحد الالفين والمال مع الهزل لا يجب وصار ذكر أحد الالفين على وجه الهزل بمنزلة شرط فاسد والشرط الفاسد في النكاح لا يؤثر في أصل العقد ولا في الصداق وكذلك الطلاق على المال والعتاق عليه قال في الكتاب وكذلك البيع وهذا الجواب في البيع قول أبى يوسف ومحمد وهو احدى الروايتين عن أبى حنيفة رحمه الله وأما في رواية أبى يوسف عن أبى حنيفة فالبيع فاسد إذا تصادقا على أيهما شاء على تلك المواضعة لان الالف التى قصد الهزل بها يكون ذكرها شرطا فاسدا والبيع يبطل بالشرط الفاسد بخلاف النكاح وفى الرواية الاخرى ما قصد الهزل به فذكره والسكوت عنه سواء والبيع صحيح بدون ذكره وان تصادقا على الاعراض عن تلك المواضعة كان البيع بينهما بالفين وان تصادقا على انه لم يحضرهما نية فعند أبى حنيفة في احدى الروايتين البيع بينهما بالفين لما ذكرنا في المواضعة على أصل البيع وهذا لان تصحيح العقد غير ممكن الا بجميع المسمى فيه وعند الاطلاق يجب المضى إلى تصحيح العقد وعندهما البيع منهما بألف وهو احدى الروايتين عن أبى حنيفة وان اختلفا في البناء فعند أبى حنيفة البيع بينهما بالفين وعندهما على قياس المواضعة في أصل البيع ولو قال المهر مائة دينار ولكنا نسمع بعشرة آلاف درهم وأشهدوا عليه ثم تزوجها في الظاهر على عشرة آلاف درهم كان النكاح جائزا بمهر مثلها كانه تزوجها على غير مهر لانهما قصدا الهزل بما سمياه في العقد ومع الهزل لا يجب المال وما تواضعا على أن يكون صداقا بينهما ثم يذكرانه في العقد والمسمى لا يثبت بدون التسمية فإذا لم يثبت واحد منهما صار كانه تزوجها على غير مهر فيكون لها مهر مثلها بخلاف الاول فهناك قد سميا في العقد ما تواضعا على أن يكون مهرا وزيادة لان في تسمية الالفين تسمية الالف وكذلك لو قالا في السر على أن يكون النكاح على مائة دينار وتزوجها في العلانية ولم يسم لها مهرا فلها مهر المثل لما قلنا وان قالا عند العقد عقدنا على ما تراضينا به من المهر فالنكاح جائز على مائة دينار لان هذه الاضافة بمنزلة التسمية منهما لما تواضعا عليه من الدنانير وأكثر ما فيه ان الشهود لم يسمعوا ما سميا من مقدار المهر ولكن سماع الشهود التسمية ليس بشرط لصحتها ولو كان هذا في البيع فقالوا

[ 126 ] البيع على مائة دينار الا أنا نظهر بيعا بخمسة آلاف درهم فالبيع جائز بخمسة آلاف درهم وما تواضعا عليه باطل وهذا استحسان وفى القياس البيع باطل لانهما قصدا الهزل بما سميا ولم يذكرا في العقد ما تواضعا على أن يكون ثمنا بينهما فبقى البيع بينهما بغير ثمن ووجه الاستحسان أن البيع لا يصح الا بتسمية البدل وهما قصدا الجد في أصل البيع هنا فلا بد من تصحيحه ولا وجه لذلك الا أن يعقد بالمسمى فيه من البدل بخلاف النكاح فهناك اعمال الهزل في المسمى مع تصحيح أصل العقد ممكن لان النكاح لا تتوقف صحته على تسمية البدل * يوضح الفرق أن المعاقدة بعد المعاقدة في البيع يكون مبطلا الاول بالثاني فانهما لو تبايعا بمائة دينار ثم تبايعا بخمسة ألاف درهم كان البيع الثاني مبطلا للاول فكذلك يجوز أن يكون البيع بعد المواضعة بخلاف جنس ما تواضعا عليه فيكون مبطلا للمواضعة واما في النكاح فالعقد بعد العقد لا يكون مبطلا فانه لو تزوجها بمائة دينار ثم حدد العقد بعشرة آلاف درهم لم يصح الثاني فكذلك تسمية الدراهم في العقد بعد ما تواضعا على أن يكون الصداق دناينر يمنع وجوب الدراهم فيكون لها مهر مثلها وكل ما يحتمل النقض لا يصح الا بتسمية البدل كالقسمة والاجارة والكتابة في ذلك قياس البيع وكذلك هذا في الخلع والطلاق والعتاق بجعل لان البدل في هذه العقود لا يجب بدون التسمية فلو أعملنا الهزل في المسمى لوقع الطلاق والعتاق بغير جعل ولم يوجد منهما الرضا بذلك فلهذا صححنا ذلك بالمسمى فيه بخلاف النكاح فهناك وان جعلنا ما سميا في العقد هزلا انعقد النكاح بينهما مواضعة بمهر المثل فلهذا أعتبرنا الموضعة في المنع من وجوب المسمى في العقد يوضحه ان في الطلاق بجعل لا بد من وقوع أصل الطلاق لقصدهما الجد فيه فلو لم يجب ما سمينا من البدل فيه كان الطلاق رجعيا ولا وجه لذلك مع وجود تسمية البدل فلهذا أوجبنا المال عليها وجعلنا الطلاق ثابتا ولو كانوا عقدوا البيع أو الطلاق أو العتاق أو النكاح أو الاجارة على ما كانوا تواضعوا عليه في السر ثم أظهروا شيأ غير ذلك وادعى أحدهم السر وأقام عليه البينة وادعي الآخر العلانية وأقام عليها البينة أخذ بالعلانية وأبطل السر لان نية العلانية دافعة لدعوى مدعى السر فانها تثبت اقدامه في العلانية على ما شهدت به وذلك يمنع منه دعوى شئ آخر بخلافه في السر أو يجعل هذا الثاني ناسخا للاول عند المعارضة لان البينة لا توجب شيأ بدون القضاء الا أن يشهد الشهود انهم قالوا في السر إنا نشهد بذلك في العلانية بسمعه فان شهدوا بذلك على الولي الذى زوج أو على المرأة أو على

[ 127 ] الذى ولى ما ادعى من العلانية أخذت بينة أصحاب السر وأبطلت العلانية لان الثابت بالبينة كالثابت بالعلانية أو باتفاق الخصوم وبهذه البينة ثبت أن الاشهاد في العلانية كان تحقيقا لما كان بينهما في السر لا فسخا لذلك بخلاف الاول وذكر عن الشعبي رحمه الله قال إذا كان مهر سر ومهر علانية أخذنا بالعلانية الا أن تقوم بينة أنه أعلم ذلك وان المهر هو الذى في السر وبهذا نأخذ ولو قال في السر إنا نريد أن نظهر بيعا علانية وهو بيع تلجئة وباطل ثم ان أحدهما قال علانية وصاحبه حاضر إنا قد قلنا كذا وكذا في السر وقد بدا لى أن أجعله بيعا صحيحا وصاحبه يسمع ذلك ولم يقل شيأ ثم تبايعا فالبيع جائز لان تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما وينفرد أحدهما بابطالها ثم اقدام الآخر على العقد بعد ما سمع منه ابطال تلك المواضعة يكون رضا منه بصحة البيع فانما تم البيع بينهما بتراضيهما ولو لم يكن سمع ذلك من صاحبه ولم يبلغه كان البيع فاسدا لانعدام الرضا من الآخر بصحة البيع ولزومه حين لم يعلم بمناقضة صاحب المواضعة فان قبضه المشترى على ذلك وأعتقه فان كان الذى قال ذلك القول البائع فالبيع جائز لان البائع صار راضيا بلزوم العقد حين أبطل المواضعة والمشتري صار راضيا بذلك حين أعتقه فيتم البيع وعلى المشترى الثمن وهو بمنزلة ما لو شرطا الخيار ثم أسقط القائع خياره وأعتق المشترى العبد وان كان المشترى قاله لم يجز العتق لان البائع لما لم يظهر منه ما يدل على الرضا بالعقد كان خياره باقيا وبقاء الخيار للبائع يمنع نفوذ عتق المشترى فان أجاز البائع البيع جاز البيع ولا يجوز العتق الذى كان قبل ذلك من المشترى لانه سبق ملكه فلا ينفذ وان حدث له الملك من بعد وان بلغ الذى لم يقل مقالة صاحبه بعد أن تبايعا فرضى بالبيع فالبيع جائز لان صاحبه بنقض المواضعة صار راضيا والآخر بالرضا بعد ما بلغه مقالة صاحبه صار راضيا أيضا وان لم يرض حتى نقض صاحبه البيع فان كانا لم يتقابضا فنقضه جائز وهو نظير ما تقدم في البيع الفاسد قبل القبض لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ وبعد القبض للذى المفسد من قبله أن ينفرد بالفسخ وليس للآخر ذلك فهذا قياسه وان كان المشترى قد قبض فان كان البائع هو الذى قال ذلك القول فليس له أن ينقض والامر إلى المشترى لان رضا البائع قد تم وانما بقى المفسد في جانب المشترى لما بينا أن المواضعة بمنزلة شرط الخيار أبدا وان كان المشترى هو الذى قال ذلك القول فالامر إلى البائع ان شاء نقض وان شاء سلم المبيع وليس إلى المشترى من النقض شئ لان الرضا قد تم منه فان كان البائع والمشترى قالا في السر نريد أن نظهر بيعا هزلا وباطلا

[ 128 ] ونظهر أنه غير هزل ولا باطل ونظهر مع ذلك أنا ان كنا جعلنا في السر هزلا فقد أبطلنا ذلك وجعلناه جدا جائزا وأشهدا على أنفسهما بذلك ثم قال علانية قد أبطلنا كل هزل في هذا البيع ونحن نجعله بيعا صحيحا فتبايعا على هذا وادعى أحدهما جواز البيع بينهما فالبيع جائز باعتبار الظاهر فانه شاهد لمن يدعي جوازه الا أن يقيم الآخر البينة على ما كانا قالا في السر من ذلك فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وما كان منهما في العلانية من ابطال كل هزل تحقيق لما كانا تواضعا عليه في السر لا ابطال له فلهذا كان البيع بينهما باطلا وان كانا قالا في العلانية انا قلنا في السر نريد أن نتبايع في العلانية بيعا باطلا هزلا وقد أبطلنا ذلك فقال صاحبه صدقت ثم تبايعا فالبيع باطل إذا قامت البينة على ما كانا قالا في السر لما بينا أن هذا الابطال تحقيق منهما للمضي على تلك المواضعة فلا يتغير به الحكم الا أن يقول أحدهما بمحضر من صاحبه وهو يسمع انا كنا قلنا في السر انا نتبايع بيعا هزلا وقلنا في السر أيضا انا نظهر في العلانية أنا قد ابطلنا كل قول قلناه في السر من هذا وانا قد أبطلنا جميع ما قلنا في السر من هذا وانا بعنا بيعا صحيحا فإذا قالا هذا أو قال أحدهما والآخر يسمع فالبيع جائز لا يقدر أحدهما على أن يبطله لانهما وضعا جميع ما كانا قالا في السر ثم أبطلا جيمع ذلك وهذا النوع من الابطال ليس يمضي على موافقة ما تواضعا عليه بل هو ابطال لذلك وتلك المواضعة ما كانت لازمة فتبطل بابطالهما فاما إذا وضعا ابطال ما قالا في البيع خاصة وأبطلا ذلك فهذا مضى منهما على موافقة ما تواضعا عليه وذلك مبطل للبيع لا مصحح له والله أعلم (باب العهدة في الاكراه) (قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف أو سجن على أن يبيع متاع اللص من هذا الرجل بالف درهم فباعه والمشترى غير مكره فالبيع جائز لان البيع مع الاكراه منعقد والمالك راض بنفوذه والمشترى راض به أيضا والثمن للص على المشترى ولا عهدة على البائع لانه غير راض بالتزام العهدة حين كان مكرها على ذلك وعهدة البيع لا تلزمه بغير رضاه فإذا تعذر ايجاب العهدة على العاقد كانت العهدة على المنتفع بالعقد وهو المالك كما لو أمر عبدا محجورا عليه أو صبيا ببيع متاعه فباعه كانت العهدة على الآمر فإذا طلب البائع الثمن من المشتري بعد ذلك بغير أكراه فله أن يقبضه وعلى المشترى دفعه إليه وتكون عهدته عليه

[ 129 ] لان امتناع وجوب العهدة عليه لعدم الرضا منه بذلك فإذا وجد منه ما يدل على الرضا فقد زال المانع بمنزلة ما لو كان الوكيل بالبيع عبدا محجورا عليه فأعتق كان له أن يقبض الثمن والعهدة عليه لزوال المانع ولو كان أكره رجلا على أن يشترى له متاعا بالف درهم من رجل فاشتراه كان الثمن على المكره الراضي بذلك كما لو وكل صبيا أو عبدا محجوار عليه بالشراء له فان طلب المشترى المتاع من البائع فقبضه بغير اكراه فله ذلك وعليه الثمن ويرجع به على الآمر لوجود دليل الرضا منه بالتزام العهدة حين طالبه بتسليم المبيع طائعا فان بدا له أن يأخذه بعد ذلك فقد وجب عليه الثمن حين طلبه بغير اكراه لان دليل الرضا كصريح الرضا وبعد ما لزمته العهدة برضاه لا يكون له أن يأبى كما لو كان راضيا به في الابتداء ولو أن رجلا باع عبدا من رجل فلم يقبض الثمن حتى أكرهه لص على دفعه إلى المشترى بوعيد تلف أو سجن فدفعه كان له أن يرتجعه حتى يأخذ الثمن لان الاكراه يعدم الرضا منه بالقبض فكان المشترى قبضه بغير رضاه ولان اسقاط حقه في الحبس بمنزلة الابراء عن الثمن فكما ان الاكراه يمنع صحة الابراء عن الثمن فكذلك يمنع سقوط حقه في الحبس وكذلك لو كان المشترى باعه أو وهبه كان للبائع أن ينقضه ويرتجع العبد بمنزلة ما لو قبضه بغير تسليم منه وتصرف فيه وهذا لان البيع والهبة يحتملان النقض فينتقض لقيام حق البائع في الحبس وكذلك لو أكره المرتهن على أن يرد الرهن إلى الراهن ويناقضه الرهن ففعل ذلك وباعه الراهن أو وهبه وسلمه كان للمرتهن أن ينقض جميع ذلك لانه مكره على اسقاط حقه في حبس الرهن ومع الاكراه لا يسقط حقه في الحبس فكان له أن يعيده كما كان وان يبطل تصرف الراهن فيه كما لو تصرف قبل استرداده من المرتهن والله أعلم (باب ما يخطر على بال المكره من غير ما أكره عليه) (قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل على الكفر بالله تعالى فقال قد كفرت بالله وقلبه مطمئن بالايمان لم تبن منه امرأته استحسانا وقد بينا ثم المسألة على ثلاثة أوجه أحدها أن يقول قد خطر على بالى أن أقول لهم قد كفرت بالله أريد به الخبر عما مضى فقلت ذلك أريد به الخبر والكذب ولم أكن فعلت ذلك فيما مضى وهذا مخرج له صحيح فيما بينه وبين ربه ولا يسعه الا ذلك إذا خطر بباله لان الانشاء جناية صورة من حيث تبديل الصدق باللسان

[ 130 ] وان لم يكن جناية معنى لطمأنينة القلب بالايمان والاخبار لا يكون جناية صورة ولا معني فعليه أن ينوى ذلك إذا خطر بباله ولكن لا يظهره للناس فان أظهر هذا المراد للناس بانت منه امرأته في الحكم وان لم تبن فيما بينه وبين الله تعالى لانه أقر أنه أتى بغير ما أكره عليه فقد أكره على الانشاء وانما أتى بالاقرار فكان طائعا في هذا الاقرار ومن أقر بالكفر طائعا بانت منه امرأته في الحكم وفيما بينه وبين ربه لا تبين منه والثانى أن يقول خطر على بالي ذلك تم قلت قد كفرت بالله أريد به ما طلب منى المكره ولم أرد به الخبر عن الماضي فهذا كافر تبين منه امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لانه بعد ما خطر هذا بباله قد يمكن من الخروج عما ابتلى به بان ينوى غير ذلك والضرورة تنعدم بهذا التمكن فإذا لم يفعل وانشأ الكفر كان بمنزلة من أجرى كلمة الشرك طائعا على قصد الاستحقاق أولا على قصده ولكن مع علمه أنه كفر وفى هذا تبين منه امرأته في القضاء وفيما بنيه وبين الله تعالى فينبغي أن يتوب عن ذلك والثالث أن يقول لم يخطر ببالى شئ ولكني كفرت بالله كفرا مستقبلا وقلبي مطمئن بالايمان فلا تبين منه امرأته استحسنانا لانه لما لم يخطر بباله سوى ما أكره عليه كانت الضرورة متحققة ومتى تحققت الضرورة يرخص له اجراء كلمة الشرك مع طمأنينة القلب بالايمان وكذلك لو أكره على أن يصلى لهذا الصليب ومعناه يسجد لهذا الصليب فان لم يخطر بباله شئ لم تبن امرأته منه وان خطر بباله أن يصلى لله وهو مستقبل القبلة أو غير مستقبل القبلة ينبغي أن يقصد ذلك لان الصلاة غير مستقبل القبلة تجوز عند الضرورة والاعمال بالنيات فان ترك هذا بعد ما خطر بباله فصلى يريد الصلاة للصليب كما أكره عليه كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته لانه بعد ما خطر بباله قد وجد المخرج عما ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا وهذه المسألة تدل على ان السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر وكذلك لو أكره على شتم محمد عليه الصلاة والسلام فان أجابهم إلى ذلك ولم يخطر بباله شئ لم تبن منه امرأته وان خطر على باله رجل من النصارى يقال له محمد فان شتم محمدا ويريد به ذلك الرجل فلا تبين منه امرأته وقد أظرف في هذه العبارة حيث لم يقل خطر بباله رجل من المسلمين يقال له محمد غير رسول الله وانما قال رجل من النصارى لان الشتم في حق النصارى أهون منه في حق المسلمين فان ترك ما خطر بباله وشتم محمدا وقلبه كاره لذلك كان كافرا وتبين منه امرأته لانه بعد ما خطر

[ 131 ] بباله قد وجد مخرجا عما ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا فان شتم النبي في غير موضع الضرورة كفر وكراهته بقلبه لا تنفع شيأ ولو أكره بوعيد تلف على أن يعتق عبده فخطر على باله أن يقول هو حر يريد الخبر والكذب وسعه أن يمسكه فيما بينه وبين الله تعالى لما بينا أن المخبر به إذا كان باطلا فبالاخبار لا يصير حقا ولكن إذا ظهر ذلك للقاضى أعتقه عليه لاقراره به أي بغير ما أكره عليه فانه أكره على انشاء العتق والاقرار غير الانشاء ومن أقر بحرية مملوكه طائعا يعتق عليه في القضاء ولا يضمن المكره له شيأ لانه حين أقر أنه بغير ما أكره عليه فقد صار مغريا المكره على الضمان (ألا ترى) أنه لو بين لهم ذلك وقال كيف تكرهونني على العتق وهو حر الاصل أو قد أعتقه أمس أعتقه القاضى ولم يضمن له المكره شيأ ولو قال خطر ذلك على بالى فقلت هو حر أريد به عتقا مستقبلا كان حرا في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وضمن الذى أكرهه قيمته لان الذى خطر على باله لو فعله عتق به في القضاء أيضا فاتلاف المالية بفعل المكره في القضاء متحقق وسواء قصد ما خطر بباله أو لم يقصد كان الاتلاف في القضاء مضافا إلى المكره فعليه قيمته ثم قد أنشأ عتقا مستقبلا وذلك يجعل المملوك حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى سواء كان مكرها أو لم يكن مكرها (ألا ترى) انه لو لم يخطر بباله شئ ولكن أتى بما أكره عليه كان حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ويضمن المكره قيمته فكذلك ما سبق فان قال المكره قد خطر على باله الخبر بالكذب فقال هو حر يريد به الخبر الكذب فأنا أريد يمينه على ذلك كان له أن يستحلف عليه لانه أدعى ما لو أقر به كان مكرها اياه ولا يكون له أن يضمن المكره بعده فإذا أنكره كان له أن يستحلف لرجاء نكوله وكذلك لو أكره على طلاق امرأته ولم يدخل بها فقال هي طالق ثم قال بعد ذلك أردت الخبر بالكذب أو انها طالق عن وثاق أو قيد وسعه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فهى بائن منه ولا ضمان على المكره لاقراره أنه أتى بغير ما أكره عليه وان كان طائعا فيما قاله بناء على قصده وان كان قال قد كان خطر ببالي أن أقول هي طالق أريد الخبر أو انها طالق من وثاق أو قيد فلم أقل ذلك وقلت هي طالق أريد طلاقا مستقبلا كانت طالقا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ولها على الزوج نصف المهر ويرجع على الذى أكرهه لان الاتلاف مضاف إلى المكره في القضاء سواء قصد ما خطر بباله أو لم يقصد فهو وما لم يخطر بباله شئ في الحكم سواء وان قال المكره انما

[ 132 ] قال ذلك يريد الخبر بالكذب أو طلاق من قيد فطلب يمينه على ذلك استحلف له عليه لرجاء نكوله فانه لو أقر بذلك يسقط حقه في تضمين المكره (باب زيادة المكره على ما أمر به) (قال رحمه الله) ولو أكره رجل رجلا بوعيد تلف على أن يطلق امرأته واحدة ولم يدخل بها فقال هي طالق ثلاثا فلا ضمان على المكره لانه أتى بغير ما أكره عليه اما من حيث الصورة فلا اشكال وأما من حيث الحكم فلان زوال الملك بالثلاث لانتفاء صفة الحل عن المحل وأما بواحده فتحصل ازالة الملك مع بقاء الحل في المحل وهما غيران فكان هو طائعا فيما أتى به ولان ما زاد مما لم يكرهوه عليه يبينها لو لم يكن غيره لانه زاد اثنتين وهما كافيتان في البينونة وتأكد نصف الصداق بينهما قبل الدخول وكذلك لو طلقها اثنتين أو قيل له طلقها اثنتين وطلقها ثلاثا ولو قال طلقها ثلاثا فطلقها واحدة رجع عليه بنصف الصداق الذى غرم لان ما أتى به بعض ما أكره عليه فيكون مكرها على ذلك والتلف الحاصل به يصير منسوبا إلى المكره (ألا ترى) أن المأمور بايقاع الثلاث إذا أوقع الواحدة تقع والمأمور بايقاع الواحدة إذا أوقع الثلاث لم يقع شئ عند أبى حنيفة رحمه الله ولو أكره على أن يضرب هذا بهذه الحديدة فيقطع يده ففعل المكره ذلك ثم ثنى فقطع رجله من غير اكراه فمات من ذلك كله فعليهما القود لانه في الفعل الاول صار آلة للمكره فكان المكره فعل ذلك بنفسه وهو في الفعل الثاني طائع والقصاص يجب على المثنى بقتل الواحد ولو كان أكره على أن يضربه بعصا ففعل ثم ضربه ضربة أخرى بعصا بغير اكراه أو أكرهه على أن يضربه مائة سوط فضربه مائة وعشرة فمات من ذلك فعلى عاقلة الآمر نصف الدية في ثلاث سنين وعلى عاقلة الضارب كذلك لانه آلة في الفعل الذى أكره عليه فكان المكره فعل ذلك بنفسه ولو قتل رجلان رجلا بالعصا والسوط يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف الدية في ثلاث سنين فان كان قطع يده بالسيف مكرها ثم ضربه بغير اكراه خمسين سوطا فمات فنصف الدية في مال الآمر في ثلاث سنين لانه آلة في الفعل الاول فكان المكره فعله بنفسه الا أنه اجتمع في المحل الفعل الموجب للقود وغير الموجب فسقط القود بالشبهة ويكون نصف الدية في مال الآمر في ثلاث سنين لان فعله عمد محض ونصف الدية على عاقلة الضارب في ثلاث سنين لان

[ 133 ] فعله الضرب بالسوط وهو بمنزلة الخطأ ولو كان أكرهه على ذلك بالحبس كان ذلك كله على الفاعل لان الاكراه بالحبس لا يجعل المكره آلة ولا يوجب نسبة الفعل إلى المكره ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق نصف عبده فاعتقه كله فلا شئ على الذى أكرهه في قياس قول أبى حنيفة لان العتق عنده يتجزأ وما أتى به غير ما أكره عليه فلا يصير الاتلاف به منسوبا إلى المكره (ألا ترى) أن أصله لو أمر رجلا أن يعتق نصف عبده فاعتقه كله كان باطلا وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله المكره ضامن لقيمة العبد لان عندهما العتق لا يتجزأ فالاكراه على اعتاق النصف بمنزلة الاكراه على اعتاق الكل ولو أكرهه على أن يعتق كله فاعتق نصفه فكذلك عندهما لان اعتاق النصف كاعتاق الكل فاما في قياس قول أبى حنيفة رحمه الله فالعتق يتجزأ فيستسعى العبد في نصف قيمته لمولاه بمنزلة ما لو كان اعتق نصف عبده طائعا ويرجع المولى على المكره بنصف قيمته لانه أتى ببعض ما أكره عليه فكان حكم الاكراه ثابتا فيما أتى به (ألا ترى) أن المأمور باعتاق العبد لو أعتق نصفه نفذ فان نوى ما على العبد من نصف القيمة كان للمولى أن يرجع به أيضا على المكره ويرجع المكره به على العبد فيكون الولاء بينهما نصفين لان المكره صار كالمعتق لذلك النصف واعتاق النصف افساد لملكه في النصف الآخر من حيث انه يتعذر عليه استدامة الملك فيه فيكون ضامنا له قيمة النصف الاخر ثم يرجع به على العبد لانه يملك ذلك النصف بالضمان فيستسعيه فيه ويكون الولاء بينهما نصفين لان هذا النصف عتق على ملك المكره باداء السعاية إليه قالوا وينبغى أن يكون هذا الجواب فيما إذا كان المكره موسرا على قياس ضمان المعتق ولو أن مريضا أكرهت امرأته بوعيد تلف أو حبس حتى تسأله ان يطلقها تطليقة بائنة فسألته ذلك فطلقها كما سألت ثم مات وهو في العدة ورثته لان سؤالها مع الاكراه باطل فان تأثير سؤالها في الرضا منها بالفرقة واسقاط حقها من الميراث وذلك مع الاكراه لا يتحقق ولو سألته تطليقتين بائنتين ففعل ثم مات وهى في العده لم ترثه لانها سألته غير ما أكرهت عليه ولان ما زادت من عندها كاف لاسقاط حقها في الميراث (ألا ترى) أنها لو سألت زوجها أن يطلقها تطليقة بائنة فطلقها تطليقتين بائنتين ثم مات وهى في العده لم ترثه للمعنيين اللذين اشرنا اليهما (ألا ترى) أنه لو لم يدخل بامرأته حتى جعل أمرها بيد رجل يطلقها تطليقة إذا شاء وأكره بوعيد تلف على أن جعل في يد ذلك الرجل تطليقة أخرى ففعل فطلقها الرجل التطليقتين جميعا لم يرجع الزوج على

[ 134 ] المكره بشئ من المهر لان ما جعله في هذه طائعا كاف لتقرير الصداق به ولا رجوع على المكره بشئ من المهر وكذلك لو طلقها التطليقة التى جعلها الزوج إليه بغير اكراه ولو كان طلقها التطليقة التى أكره الزوج عليها دون الاخرى رجع الزوج على المكره بنصف المهر لان تقرر نصف الصداق عليه كان باعتبار ما أكره عليه (ألا ترى) انه لو قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق تطليقة إذا شئت ثم أكره بعد ذلك أو قبله على أن يقول لها أنت طالق تطليقة إذا شئت فقال لها ذلك فطلقت نفسها التطليقتين جميعا غرم لها الزوج نصف المهر ولم يرجع على المكره بشئ ولو طلقت نفسها التطليقة التى أكرهه عليها خاصة وثبت ذلك رجع الزوج بنصف المهر على المكره للمعنى الذى بينا ولو كانت هي المسلطة فاكرهته على أن يطلقها بوعيد تلف ففعل لم يكن لها عليه شئ من المهر لان الاتلاف منسوب إليها للاجاء فكان الفرقة وقعت من جهتها قبل الدخول ولو كانت أكرهته بالحبس أخذته بنصف الصداق لان الاتلاف لا يصير منسوبا إليها بهذا النوع من الاكراه فبقيت الفرقة منسوبة إلى الزوج قبل الدخول فيلزمه نصف الصداق لها ولو أكره رجل الزوج بوعيد تلف على أن يطلقها واحدة بألف درهم فطلقها ثلاثا كل واحدة بالف فقبلت جميع ذلك طلقت ثلاثا ووجب لها عليه ثلاثة آلاف درهم ولها عليه نصف مهرها لوقوع الفرقة قبل الدخول لا بسبب مضاف إليه ولم يرجع إلى المكره بشئ وان كان نصف المهر أكثر من ثلاثة آلاف درهم لان ما زاد الزوج من عنده طائعا كاف في تقرير نصف الصداق عليه ولو أكرهه على أن يطلقها واحدة بألف ففعل وقبلت ذلك وجب له عليها ألف درهم ثم ينظر إلى نصف مهرها فان كان أكثر من ألف درهم أدى الزوج إليها الفضل على ألف درهم ويرجع به على المكره ان كان أكرهه بوعيد تلف وهذا قول أبى يوسف ومحمد فأما عند أبى حنيفة فلا شئ لها عليه وللزوج عليه الالف وهى مسألة الطلاق إذ الخلع يوجب براءة كل واحد من الزوجين عن صاحبه في الحقوق الواجبة بالنكاح وفى الكتاب ذكر قولهما ولم يذكر قول أبى حنيفة لانه وضع المسألة في لفظ الطلاق وفيه شبهة أختلاف الروايات عن أبى حنيفة بخلاف لفظ الخلع على ما بينا في الطلاق ثم عندهما قد وجب له عليها ألف درهم بدل الطلاق ولها على الزوج نصف مهرها فتقع المقاصة ويؤدى الزوج إليها الفضل فيرجع به على الذى أكرهه ان كان أكرهه بوعيد تلف لانه قرر عليه تلك الزيادة من غير عوض ولو عتقت أمة لها زوج حر لم يدخل بها فأكرهت بوعيد تلف

[ 135 ] أو حبس على أن اختارت نفسها في مجلسها بطل الصداق كله عن زوجها ولا ضمان على المكره في ذلك لانه أكرهها على استيفاء حقها والشرع ملكها أمر نفسها حين عتقت وليس في هذا الاكراه ابطال شئ عليها لان المهر للمولى دونها ولو دخل بها الزوج ولان ما كان بمقابلة المهر عاد إليها ولو كان قد دخل بها قبل ذلك كان الصداق لمولاها على الزوج ولم يرجع الزوج على المكره بشئ لانه ما أكره الزوج على شئ ولان الصداق قد تقرر عليه كله بالدخول وانما أتلف المكره ملك البضع على الزوج وقد بينا أن ذلك لا يتقوم بالاكراه لانه لا قيمة للبضع عند خروجه من ملك الزوج والله أعلم (باب الخيار في الاكراه) (قال رحمه الله) وإذا قال اللص الغالب لرجل لاقتلنك أو لتعتقن عبدك أو لتطلقن امرأتك هذه أيهما شئت ففعل المكره أحدهما ولم يدخل بالمرأة فما باشر نافذ لان الاكراه على كل واحد منهما بعنيه لا يمنع نفوذه فكذلك الاكراه على أحدهما بغير عينه ويغرم المكره الاقل من نصف المهر ومن قيمة العبد لانه ان لتزم بمباشرته الاقل منهما فالاتلاف مضاف إلى المكره وان التزم الاكثر فالضرورة انما تحققت له في الاقل لانه كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه باختيار الاقل فيكون هو في التزام الزيادة على الاقل غير مضطر ورجوعه على المكره لسبب الاضطرار فيرجع بالاقل لذلك ولو كان الزوج دخل بها لم يغرم المكره له شيأ لانه ان أوقع الطلاق فالمهر قد تقرر عليه بالدخول وانما اتلف المكره عليه ملك البضع وذلك لا يضمن بالاكراه وان أوقع العتق فقد كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه بايقاع الطلاق فيكون هو في ايقاع العتق بمنزلة الرضا به أو غير مضطر إليه بمنزلة ما لو أكره عليه بحبس أو قيد وهناك لا يرجع على المكره بشئ وان لم يدخل بالمرأة لانعدام الضرورة والالجاء ولو قيل له لنقتلنك أو لتكفرن بالله أو تقتل هذا المسلم عمدا فان كفر بالله تعالى باقلبه مطمئن بالايمان فهو في سعة ولا تبين امرأته منه لتحقق الضرورة في ذلك بسبب الاكراه فانه لا يحل له قتل المسلم بحال فتتحقق الضرورة في اجراء كلمة الشرك كما لو أكره على ذلك بعينه والاصل فيه ما روى أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب رسول الله فقال لاحدهما أتشهد أن محمد رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أنى رسول الله فقال

[ 136 ] لا أدرى ما تقول فقتله وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أنى رسول الله فقال نعم فخلى سبيله فبلغ ذلك رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام أما الاول فقد آتاه الله تعالى أجره مرتين وأما الآخر فلا أثم عليه ففى هذا دليل انه يسعه ذلك عند الاكراه وانه ان امتنع منه حتى قتل كان أعظم لاجره لانه أظهر الصلابة في الدين ولان اجراء كلمة الشرك جناية على الدين من حيث الصورة وان لم تكن جناية معنى عند طمأنينة القلب بالايمان والتحرز عن الجناية على الدين صورة ومعنى سبب لنيل الثواب ولا يحل له أن يقتل المسلم بحال لانه لو أكره على ذلك بعينه لم يحل له أن يفعله فعند التردد بينه وبين غيره أولى فان قتل الرجل المسلم ففى القياس عليه القود لانه كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه باجراء كلمة الشرك على اللسان فلا يأثم به ولا تبين منه امرأته فإذا ترك ذلك وأقدم على القتل كان بمنزلة الطائع في ذلك ولما لم يتحقق الالجاء فيه فيصير حكم القتل عليه بمنزلة ما لو أكره عليه بالحبس فيلزمه القود ولكنه استحسن لاسقاط القود عنه إذ لم يكن عالما بان الكفر يسعه في هذا الوجه لان حرمة الشرك حرمة بانة مضمنة لا تنكشف بحال ولكن يرخص له مع طمأنينة القلب بالايمان فهو يتحرز مما هو حرام لان هذه الرخصة سببها خفى قد يخفى على كثير من الناس فيصير جهله بذلك شبهة في اسقاط القود عنه ولكن يجب عليه الدية في ماله في ثلاث سنين لان الضرورة لم تتحقق له في الاقدام على القتل فيكون فعل القتل مقصورا عليه وان أسقطنا عنه القود للشبهة والمال يثبت مع الشبهات فتجب الدية في ماله ولكن الدية بنفس القتل تجب مؤجلة ولم يذكر في الكتاب ما إذا كان عالما بان الكفر يسعه وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه يلزمه القود لانه لا يبقى له شبهة في الاقدام على القتل إذا كان عالما بان الكفر يسعه فهو نظير المسلم إذا أكره على أكل الميتة ولحم الخنزير على ما بينه وهذه من جملة المسائل التى يضره العلم فيها ويخلص في جهله وفى هذا الكتاب من هذا الجنس خمس مسائل جمعناها في كتاب الوكالة ومن اصحابنا رحمهم الله من يقول وان كان يعلم ذلك لا يلزمه القود لانه بما صنع قصد مغايظة المشركين واظهار الصلابة في الدين ويباح للانسان أن يبذل نفسه وماله لما يكون فيه كبت وغيظ للمشركين فيقاتلهم وان كان يعلم أنهم يقتلونه فإذا كان يحل له في نفسه ففى نفس الغير أولى وان كان لا يحل له ذلك فيصير شبهة في درء القود عنه ولو قيل له لتقتلنك أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن هذا المسلم عمدا فينبغي له أن يأكل الميتة لما

[ 137 ] بينا أن حرمة الميتة تنكشف عند الضرورة وقد تحققت الضرورة هنا فالتحقت الميتة بالمباح من الطعام كما لو أكره عليه بعينه فان لم يأكل الميتة وقتل المسلم فعليه القود لانه طائع في الاقدام على القتل حين تمكن من دفع البلاء عن نفسه بتناول الميتة وذلك مباح له عند الضرورة وليس في التحرز عن المباح اظهار الصلابة في الدين فلهذا لزمه القود وأشار إلى الفرق بين هذا وبين ما تقدم فقال (ألا ترى) أنه لو لم يكفر حتى قتل كان مأجورا ولو لم يأكل الميتة حتى قتل كان آثما إذا كان يعلم أنه يسعه ذلك وقد بينا في أول الكتاب قول ابى يوسف رحمه الله في أنه لا يأثم إذا أمتنع من التناول عند الضرورة وان الاصح ما ذكره في الكتاب من انكشاف الحرمة ولو أكرهه في هذا بوعيد أو سجن أو قيد لم يسعه ان يكفر فان فعل بانت منه امرأته لان الضرورة لم تتحقق فان شرب الخمر عند الاكراه بالحبس ففى القياس عليه الحد لانه لا تأثير للاكراه بالحبس في الافعال فوجوده كعدمه (ألا ترى) ان العطشان الذى لا يخاف على نفسه الهلاك إذا شرب الخمر يلزم الحد فالمكره بالحبس قياسه وفى الاستحسان لا حد عليه لان الاكراه لو تحقق به الالجاء صار شرب الخمر مباحا له فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الحر وفى الجارية المشتركة يصير شبهة في اسقاط الحد عنه بوطئها ولان الاكراه بالحبس معتبر في بعض الاحكام غير معتبر في البعض وحد الخمر ضعيف ثبت باتفاق الصحابة رضى الله عنهم على ما قال علي رضى الله عنه ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فاجد في نفسي من ذلك شيأ الا حد الخمر فانه ثبت بآرائنا فلهذا صار هذا القدر من الاكراه شبهة في اسقاط هذا الحد خاصة وان قتل المسلم قتل به في الوجوه كلها لان الاكراه بالحبس لا أثر له في نسبة الفعل إلى المكره ولا في اباحة القتل فلا يصير الاكراه بالحبس شبهة في اسقاط القود عن القاتل ولو قال له لاقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم عمدا أو تزني بهذه المرأة لم يسعه أن يصنع واحدا منهما حتى يقتل فان صنع واحد منهما فهو آثم لان كل واحد من هذين الامرين لا يحل له بالاكراه وان أكره عليه بعينه فكذلك إذا أكره على أحدهما بغير عينه فان أبى أن يفعل واحدا منهما حتى قتل كان مأجورا لانه بذل نفسه في التحرز عن الحرام وقتل بالذى قتله لانه قتله ظلما فعليه القود وان زنا كما أمره ففى القياس عليه الحد وفى الاستحسان عليه المهر ومن أصحابنا من قال المراد بالقياس في قول أبى حنيفة رحمه الله الاول وبالاستحسان قوله الآخر كما بينا فيما إذا أكره على الزنا بعينه والاصح ان هذا قياس واستحسان أجريناه على

[ 138 ] قوله الآخر وجه القياس انه إذا أقدم على قتل المسلم كان آلة في ذلك الفعل وكان الفعل منسوبا إلى غيره وهو المكره فلا يكون هو مؤاخذا بشئ من أحكامه وإذا أقدم على الزنا كان الفعل منسوبا إليه بحكمه فهو للاقدام على الزنا هنا مع تمكنه من دفع البلاء عن نفسه على وجه لا يصير مؤاخذا بشئ من أحكام الفعل بان يقتل الرجل فيلزمه الحد بخلاف ما لو أكره على الزنا بعينه ووجه الاستحسان ان في هذه الحالة لا يحل له الاقدام على قتل المسلم فهو أقدم على الزنا دفعا للقتل عن غيره ولو أقدم على الزنا دفعا للقتل عن نفسه بان أكره عليه بعينه سقط عنه الحد ولزمه المهر فهذا مثله * يوضحه ان الضرورة تحققت له في كل واحد من هذين الفعلين حين لم يسعه الاقدام على واحد منهما فيجعل في حق كل واحد منهما كانه أكره عليه بعينه حتى لو قتل المسلم كان القود على المكره وكان المكره مستحقا للتعزير والحبس بمنزلة ما لو أكره عليه بعينه فلذلك إذا أقدم على الزنا كان عليه الصداق وهذا عند الحد بمنزلة ما لو أكرهه عليه بعينه (ألا ترى) أنه لو أكرهه أن يقتل أحد هذين الرجلين عمدا كان القود على المكره إذا قتل أحدهما لانه لما لم يسعه الاقدام على قتل واحد منها صار في حق كل واحد منهما كانه أكره على قتله بعينه ولو أكرهه على ذلك بالحبس أخذ بحد الزنا ان زنا وبالقود ان قتل الرجل لانه لا يسعه الاقدام على واحد من الفعلين بسبب الاكراه وان تحققت الضرورة به فالاكراه بالحبس لا يكون مؤثرا في موجب واحد منهما كما لو أكره عليه بعينه ولو أكرهت المرأة على الزنا بحبس أو قيد درئ عنها الحد لانها لو أكرهت على ذلك بالقتل يسعها بالتمكين ولا تأثم فيه فإذا أكرهت عليه بالحبس يصير شبهة في اسقاط الحد عنها بمنزلة شرب الخمر وانما فرقنا بين جانب الرجل والمرأة في الاكراه بالقتل لان الرجل مباشر لفعل الزنا مستعمل للآلة في ذلك وحرمة الزنا حرمة تامة فلا تنكشف عند الضرورة لحرمة القتل فأما المرأة فهى مفعول بها وليس من جهتها مباشرة للفعل انما الذى منها التمكين وذلك بترك الامتناع الا أن في غير حالة الضرورة لا يسعها ذلك لوجوب دفع المباشرة للزنا عن نفسها وذلك المعنى ينعدم عن تحقق الضرورة بالاكراه بالقتل فلا يأثم في ترك الامتناع كمن ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر عند خوف الهلاك عن نفسه لا يكون آثما في ذلك ولو قال له لاقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم أو تأخذ ماله فتستهلكه وهو أكثر من الدية أو أقل فلا بأس بان يأخذ المال أو يستهلكه ويكون ضمانه

[ 139 ] على المكره لان الالجاء قد تحقق ويباح اتلاف المال عند الالجاء كما لو أكره عليه بعينه ويصير هو في ذلك آلة للمكره فضمانه على المكره وان قتل الرجل قتل به الذى ولى القتل لانه لما أبيح له الاقدام على اتلاف المال ولا يلحقه بذلك اثم ولا ضمان كان هو غير مضطر في الاقدام على القتل فيكون بمنزلة الطائع فيلزمه القود وهو نظير ما تقدم من مسألة الميتة وشرب الخمر الا أن هنا ان لم يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم في ذلك بخلاف مسألة الميتة لان الحرمة هناك لحق الشرع وحالة الضرورة مستثناة من الحرمة شرعا وهنا بخلافه فان تناول مال الغير واستهلاكه بغير رضاه ظلم في حق صاحب المال والظلم حرام الا أن بسبب الضرورة يباح له الاتلاف شرعا مع بقاء حق الملك في المال فلهذا وجب الضمان له على المكره جبرانا لحقه فإذا امتنع من ذلك كان ممتنعا من الظلم فلا يأثم به (الا ترى) أن المضطر إلى طعام الغير يسعه أن يأخذه بغير رضا صاحبه فان أبى صاحبه أن يعطيه فلم يأخذ حتى مات لم يكن آثما في تركه لهذا المعنى فكذلك المكره (ألا ترى) أنه لو قيل له لنقتلنك أو لتدلنا على مالك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما فإذا كان لو قتل في دفعه عن مال نفسه لم يكن آثما فكذلك إذا امتنع عن استهلاك مال الغير حتى قتل قال ولو اثم في هذا في ماله أو مال غيره ألم يقل رسول الله من قتل دون ماله فهو شهيد وهذا حديث مشهور أشار إلى الاستدلال به من حيث انه لو قتل دفعا عن مال نفسه أو عن مال غيره كان شهيدا فكيف لا يكون شهيدا في دفع ما لا يسعه الاقدام عليه فبهذا تبين أنه لا يأثم إذا امتنع من ذلك كله وكذلك لو قال لاقتلنك أو لتطلقن امرأتك أو لتعتقن عبدك فلم يفعل حتى قتل لم يأثم لانه بذل نفسه دفعا عن ملك محترم له فان ملك النكاح محترم لملك المال وربما يكون الاحترام لملك النكاح أظهر فلا يكون هو آثما وان كان يسعه الاقدام على كل واحد منهما لتحقق الضرورة ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده عمدا وقيمته ألف درهم أو يستهلك ماله هذا وهو ألفا درهم فان أبى أن يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم لان حرمة القتل لم تنكشف بالاكراه وحرمة المال قائمة مع الاكراه وان أبيح له الاقدام على استهلاكه للدفع عن نفسه فلا يكون آثما في الامتناع لانه يمتنع من السفه في استهلاك المال وقتل النفس من السفه فان استهلك ماله فقد أحسن وضمانه على المكره بالغا ما بلغ لان الالجاء قد تحقق فيكون فعله في اتلاف المال منسوبا إلى المكره وهو محسن فيما صنع لانه جعل ماله

[ 140 ] دون نفسه وقال عليه الصلاة والسلام لواحد من أصحابه أجعل مالك دون نفسك ونفسك دون دينك فان قتل العبد ولم يستهلك المال فهو آثم ولا شئ على المكره لان الالجاء لم يتحقق في القتل فانه كان متمكنا من دفع الشر عن نفسه من غير مباشرة القتل فبقى فعله في القتل مقصورا عليه فليس له على المكره قود ولا قيمة ولا أكرهه بوعيد القتل على أن يقتل أحد عبديه هذين وأحدهما أقل قيمة من الآخر فقتل أحدهما عمدا كان له أن يقتل المكره لتحقق الالجاء هنا فيما أقدم عليه من القتل فحكم القتل في العبد الذى هو قليل القيمة كهو في كثير القيمة وإذا تحقق الالجاء صار القتل منسوبا إلى المكره بخلاف الاول فانه لا مساواة بين استهلاك المال والقتل وانما يتحقق الالجاء في الادنى والادنى استهلاك المال الذى يباح له الاقدام عليه عند الضرورة فبقى في قتل العبد مباشرا للفعل مختارا وهنا حرمة نفس العبدين سواء فيتحقق الالجاء في حق كل واحد منهما وكذلك لو أكرهه بوعيد القتل على أن يقطع يعد نفسه أو يقتل عبده عمدا ففعل أحدهما كان له ان يقتص من المكره لان الجاء تناول كل واحد منهما بمنزلة ما لو أكره عليه بعينه فان قيل لا كذلك فانه يباح له الاقدام على قطع يد نفسه عند الاكراه ولا يباح له الاقدام على قتل عبده فينبغي أن يجعل هذا نظير الفصل الاول قلنا لا كذلك فالاطراف محترمة كالنفوس الا أنه إذا أكره على قطع يد نفسه فباعتبار مقابلة طرفه بنفسه جوزنا له أن يختار أدنى الضررين وهذا المعنى لا يتحقق عند مقابلة طرفه بنفس عبده فالضرر عليه في قطع طرفه فوق الضرر في قتل عبده (ألا ترى) أنه لو خاف على عبده الهلاك لا يحل له أن يقطع يد نفسه ليتناوله العبد فبهذا تبين ان المساواة بينهما في الحرمة عند مقابلة أحدهما بالآخر فيتناول الاكراه كل واحد منهما ولو أكرهه على أن يضرب أحد عبديه مائة سوط ففعل ذلك بأحدهما فمات منه غرم المكره أقل القيمتين ان كان الذى بقي أقلهما قيمة لان الواجب بهذا الفعل ضمان المالية في حق المولى وفيما يرجع إلى المالية الضرورة للمولى انما تتحقق في الاقل فهو إذا أقدم على ضرب أكثرهما قيمة كان مختارا في الزيادة بمنزلة ما لو أكره على الهبة والتسليم في أحدهما بغير عينه بخلاف ما سبق فهناك موجب الفعل القود يستوى فيه قليل القيمة وكثير القيمة وهنا موجبه المال بطريق الجبران لما فات عن المولى وبينهما في المالية تفاوت وانما تتحقق له الضرورة في أقلهما ولو أكرهه في كله بوعيد حبس لم يكن على المكره شئ ولو أكرهه على أن يأخذ مال هذا الرجل أو مال هذا الرجل فلا بأس أن يأخذ

[ 141 ] مال أحدهما لان الاكراه قد تناولهما لاستوائهما في بقاء الحرمة والتقوم في حق كل واحد منهما كحق المالك وان أبيح له الاقدام على الاخذ لدفع الهلاك عن نفسه واحب الينا أن يأخذ مال أغناهما عن ذلك لان أخذ المال من صاحبه يلحق الهم والحزن به وذلك يتفاوت بتفوات حال المأخوذ منه في الغني فالاخذ من الفقير يلحق به هما عظيما لانه لا يرجع إلى ملكه مثله بخلاف الاخذ من الغنى في مباسطة الشرع مع الاغنياء في المال الكثير منه مع الفقراء يعنى به الزكاة وصدقة الفطر وضمان العتق والنفقة فلهذا يستحب له أن يأخذ مال أغناهما فان كانا في الغنى عنه سواء قلنا خذ أقلهما لان الضرورة تتحقق في الاقل وفى القليل من المال من التساهل بين الناس ما ليس في الكثير وقيل ان استويا في المقدار قلنا خذ مال أحسنهما خلقا وأظهرهما جودا وسماحة لان الهم والحزن بالاخذ منه يتفاوت بحسن خلقه وسوء خلقه وبخله وجوده فان أخذه واستهلكه كما أمره غرمه الذى أكرهه لان الاكراه لما تناوله صار الاتلاف منسوبا إلى المكره وان أخذ أكثرهما فاستهلكه غرم المكره مقدار أقلهما لان الاتلاف انما يصير منسوبا إلى المكره فيما تحقق الالجاء فيه وهو الاقل ثم يغرم المستهلك الفضل لصاحب المال لانه في الزيادة على الاقل لا ضرورة له في الاستهلاك فيقتصر حكم الاستهلاك عليه ولو أكرهه على ان يقتل عبد هذا الرجل عمدا أو يأخذ مال هذا الآخر أو مال صاحب العبد فيطرحه في مهلكة أو يعطيه انسانا فلا بأس أن يعمل في المال ما أمره به لتحقق الضرورة فيه وغرمه بالغا ما بلغ على المكره لان الاتلاف صار منسوبا إليه وان قتل العبد فعلى القاتل القود لان الاكراه لم يتناول هنا إذا لا مساواة بين حرمة القتل وحرمة استهلاك المال وإذا تمكن من دفع البلاء عن نفسه بغير التقل كان هو في الاقدام على القتل طائعا فعليه القود وعلى المكره الادب والحبس لارتكابه ما لا يحل ولو كان انما أمره أن يستهلك المال ويضرب العبد مائة سوط فلا بأس باستهلاك المال وضمانه على المكره ولا يحل له ضرب العبد لان مثل هذا الضرب يخاف منه الهلاك فيكون بمنزلة القتل فان ضربه فمات منه كانت قيمته على عاقلة الضارب ولا ضمان على المكره لانه طائع في الاقدام على الضرب حتى يتمكن من التخليص بدونه على وجه لا يلحقه اثم ولا ضمان والقتل بالسوط يكون سببه العمد فيوجب القيمة على عاقلة الضارب ولو كان العبد والمال للمكره لم يسعه ضرب عبده ولكنه يستهلك ماله ويرجع به على المكره فان ضرب عبده فمات لم يكن على المكره ضمان لان المكره

[ 142 ] لما كان يتخلص بدون الضرب كان هو في الاقدام على الضرب طائعا ومن قتل عبد نفسه طائعا لم يجب الضمان له على غيره ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده هذا أو يقتل العبد الذى أكرهه أو يقتل ابنه أو قال أقتل عبدك هذا الآخر أو أقتل أباك لم يسعه أن يقتل عبده الذى أكرهه على قتله لان الاكراه لم يتحقق هنا فالمكره من يخاف التلف على نفسه وهنا انما هدده بقتل من سماه دون نفسه فلا يكون هو ملجأ به إلى الاقدام على القتل فان قتل عند ذلك فلا شئ على المكره سوى الادب لانه لم يصر آلة للمكره حين لم يتحقق الالجاء (ألا ترى) انه لو قيل له لتقتلن ابنك أو لتقتلن هذا الرجل وهو لا يخاف منه سوى ذلك لم يسعه أن يقتل الرجل وان قتله قتل به وكذلك لو أكرهوه على أن يستهلك مال هذا الرجل أو يقتلون أباه فاستهلكه ضمنه ولم يرجع به على المكره لانه لم يصر ملجأ إلى هذا الفعل حتى لم يصر خائفا على نفسه ولان قتل أبيه أو ابنه يلحق الهم والحزن به بمنزلة الحبس والقيد في نفسه ولو أكره بالحبس على القتل أو استهلاك المال اقتصر حكم الفعل عليه كذلك ههنا الا انه لا يأثم في ذلك الاستهلاك لانه يجعل مال الغير وقاية لنفس ابنه وكما يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية لنفسه يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية لنفس ابنه أو لنفس أجنبي آخر (ألا ترى) أن المضطر الذى يخاف الهلاك إذا عجز عن اخذ طعام الغير وهناك من يقوى على أخذ ذلك منه وسعه أن يأخذه فيدفعه إلى المضطر فيأكله ويكون ضامنا لما يأخذه وهذا لان فعله من باب الامر بالمعروف فانه يحقق على صاحب الطعام شرعا دفع الهلاك عن المضطر فإذا امتنع من ذلك كان فعل الغير به ذلك من نوع الامر بالمعروف فيسعه ذلك فكذلك في الاستهلاك للمال ولو لم يستهلكه حتى قتل الرجل اباه لم يكن عليه اثم ان شاء الله لانه كان يلزمه غرمه إذا استهلكه فيكون له أن يمتنع من ذلك كما يكون للقوى في فصل المضطر أن يمتنع من أخذ الطعام ودفعه إلى المضطر (ألا ترى) أن حرمة أبيه في حقه لا تكون أعظم من حرمة نفسه وفى حق نفسه يسعه أن يمتنع من الاستهلاك حتى يقتل ففى حق أبيه أولى ألا أن يكون شيأ يسيرا فلا أحب له أن يترك استهلاكه ثم يغرم لصاحبه لانه يحق عليه احياء ابيه بالغرم اليسير يعنى بالانفاق عليه فكذلك في فصل الاكراه إذا كان شيأ يسيرا لا يستحب له أن يمتنع من التزام غرمه ويدع أباه يقتل وكذلك في الناس التحرز عن التزام القليل لاحياء أبيه يعد من العقوق والعقوق

[ 143 ] حرام وكذلك في مسألة المضطر المستحب للقوي أن لا يمنع من أخذ الطعام ودفعه إلى المضطر لان ذلك يسير لا يجحف به غرمه ولو كان بحيث يجحف به لم أر بأسا أن لا يأخذه ولو رأى رجلا يقتل رجلا وهو يقوى على منعه لم يسعه الا أن يمنعه وان كان يأتي ذلك على نفس الذى أراد قتل صاحبه بخلاف فضل المال لان هذا لا يلتزم غرما بهذا الدفع وان أتى على نفس القاصد فالقاصد باغ قد أبطل دمه بما صنع (ألا ترى) أنه إذا قصد قتله فقتله المقصود لم يلزمه شئ فكذلك إذا قصد قتل غيره فقتله هذا الذى يقوى عليه فأما في فضل المال القوى فيلتزم الغرم بما يأخذه لان بسبب الضرورة للمضطر لا تسقط الحرمة والقيمة في حق صاحب المال فلهذا كان له أن يمتنع من ذلك ولو انتهوا إلى بئر فيها ماء فمنع المضطر من الشرب منها فلم يقو عليهم وقوى صاحبه على قتالهم حتى يأخذ الماء فيسقيه اياه لم يسعه الا ذلك وان أتى على أنفسهم لانهم ظالمون في منع المضطر حقه فحق السقيا في ماء البئر ثابت لكل أحد ولو قوى المضطر بنفسه على أن يقاتلهم بالسيف حتى يقتلهم ويخلوا بينه وبين الماء فكذلك من يقوى على ذلك من رفقائه (ألا ترى) أنه لا يلتزم غرما يفعله فهو نظير القاصد إلى قتل الغير فأما في الطعام والشراب الذى أحرزوه في أوعيتهم فلم يبق للغير فيه حق وان اضطر إلى ذلك (ألا ترى) أنه لا يسعه أن يقاتلهم عليه أن منعوه فكذلك لغيره أن يمتنع من التزام الغرم بأخذه (ألا ترى) أن الماء الذي في البئر لو باعوه منه لم يجز بخلاف ما لو أحرزوه في أوعيتهم ولو بذلوا له الطعام أو الشراب بثمن مثل ما يشترى به مثله فأبى أن يأخذه بذلك حتى مات وهو يقدر على ثمنه كان آثما في ذلك لانه في معنى قاتل نفسه حين امتنع من تحصيل ما هو سبب لبقائه مع قدرته على ذلك وقد قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ولانه ملق نفسه في التهلكة في بالامتناع من آداء الثمن عند عرضهم عليه إذا كان واجدا للثمن ولو قيل له لتشربن هذه الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن ابنك هذا أو أباك لم يسعه شرب الخمر ولا أكل الميتة لانعدام الضرورة (ألا ترى) أن هذا بمنزلة التهديد بالحبس في حقه كما قررنا ولو قيل له لتقتلن ابنك هذا أو أباك أو لتبيعن عبدك هذا بألف درهم فباعه فالقياس ان البيع جائز لانه ليس بمكره على البيع فالمكره من يهدد بشئ في نفسه ولكنه استحسن فقال البيع باطل لان البيع يعتمد تمام الرضا وبما هدد به ينعدم رضاه فالانسان لا يكون راضيا عادة بقتل أبيه أو ابنه ثم هذا يلحق الهم والحزن به فيكون بمنزلة الاكراة بالحبس والاكراه

[ 144 ] بالحبس يمنع نفوذ البيع والاقرار والهبة والعقود التى تحتمل الفسخ فكذلك الاكراه بقتل ابنه وكذلك التهديد بقتل ذى رحم محرم لان القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد في حكم الاحياء بدليل انها توجب العتق عند الدخول في ملكه ولو قيل له لنحبسن أبنك في السجن أو لتبيعن هذا الرجل عبدك بالف درهم ففعل ففى القياس البيع جائز لما بينا أن هذا ليس باكراه فانه لم يهدد بشئ في نفسه وحبس ابنه في السجن لا يلحق ضررا به والتهديد به لا يمنع صحة بيعه واقراره وهبته وكذلك في حق كل ذى رحم محرم وفى الاستحسان ذلك اكراه كله ولا ينفذ شئ من هذه التصرفات لان حبس ابنه يلحق به من الحزن ما يلحق به حبس نفسه أو أكثر فالولد إذا كان بارا يسعى في تخليص أبيه من السجن وان كان يعلم انه يحبس وربما يدخل السجن مختارا ويحبس مكان أبيه ليخرج أبوه فكما أن التهديد بالحبس في حقه بعدم تمام الرضا فكذلك التهديد بحبس أبيه والله أعلم (باب الاكراه فيما يوجب لله عليه أن يؤديه) (قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يكفر يمينا قد حنث فيها فكفر بعتق أو صدقة أو كسوة أجزأه ذلك ولم يرجع على المكره بشئ لانه أمره باسقاط ما هو واجب عليه شرعا وذلك من باب الحسبة فلا يكون موجبا للضمان على المكره وكانه يعوضه ما جبره عليه من التكفير بسقوط التبعة عنه في الآخرة وأما الجواز عن الكفارة فلان الفعل في التكفير مقصور عليه لما لم يرجع على المكره بشئ ومجرد الخوف لا يمنع جواز التكفير (ألا ترى) ان كل مكفر يقدم على التكفير خوفا من العذاب ولا يمنع ذلك جوازه ولو أكرهه على أن يعتق عبده هذا عنها ففعل لم يجزه لان المستحق عليه شرعا الكفالة لا ابطال الملك في هذا العبد بعينه فالمكره في اكراهه على اعتاق هذه العبد بعينه ظالم فيصير فعله في الاتلاف منسوبا إلى المكره ويجب عليه ضمان قيمته وإذا لزمه قيمته لم يجز عن الكفارة لانعدام التكفير في حق المكره حين صار منسوبا إلى غيره ولان هذا في معنى عتق بعوض والكفارة لا تتأتى بمثله ولو كان أكرهه بالحبس أجزأه عن الكفارة لان الفعل منسوب إليه دون المكره ولم يستوجب الضمان على المكره بهذا الاكراه فتتأدى به الكفارة لاقتران النية بفعل الاعتاق ولو أكرهه بوعيد تلف على الصدقة في الكفارة ففعل ذلك نظر فيما

[ 145 ] تصدق به فان كانت قيمته أقل من قيمة الرقاب ومن أدنى الكسوة التى تجزئ لم يضمن المكره شيأ لتيقننا بوجوب هذا المقدار من المال عليه في التكفير فيكون المكره مكتسبا سبب اسقاط الواجب عنه وان كان أكثر قيمة من غيرها ضمنه الذى أكرهه لانه لا يغبن في وجوب هذا المقدار عليه ولا هذا النوع بل هو مخير شرعا بين الانواع الثلاثة ويخرج عن الكفارة باختياره أقلها فيكون المكره متلفا عليه هذا النوع بغير حق فيضمنه له ولا يجزئه عن الكفارة وان قدر على الذى أخذه منه كان له أن يسترده لانه كان مكرها على التسليم إليه وتمليكه اياه مع الاكراه فاسد فيتمكن من استرداده وان كان أكرهه بالحبس لم يضمن المكره شيأ لان الفعل لا يصير منسوبا إليه بهذا الاكراه ولكنه يرجع به على الذي أخذ منه لانه ما كان راضيا بالتسليم إليه والتمليك مع الاكراه بالحبس فان أمضاه له بعد ذلك بغير اكراه أجزأه ان كان قائما وان كان مستهلكا لم يجزه لانه إذا كان قائما في يده فامضاؤه بمنزلة ابتداء التصدق عليه وان كان مستهلكا فهو دين عليه والتصدق بالدين على من هو عليه لا يجزئ عن الكفارة وكذلك هذا في كفارة الظهار وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله انه إذا أكرهه في كفارة الظهار على عتق عبد بعينه وذلك أدنى ما يجزئ في الكفارة لا يكون على المكره فيه ضمان ويجزيه عن الكفارة لانا تيقنا ان ذلك القدر واجب عليه فالتكفير بالعتق عين في الظهار والاصح أن ذلك لا يجزيه وعلى المكره قيمته لانه وان لم يكن ظالما له في القدر فهو ظالم له في العين إذ ليس عليه اعتاق هذا بعينه وللناس في الاعتاق أغراض فيلزم المكره الضمان بهذا الطريق وإذا لزمه الضمان لم يجزه عن الكفارة قال وكذلك كل شئ وجب لله تعالى عليه من بدنة أو هدى أو صدقة أو حج فأكره على أن يمضيه ففعل ولم يأمره المكره بشئ بعينه فلا ضمان على المكره ويجزي عن الرجل ما أمضاه ولان المكره محتسب حين لم يزد على أمره باسقاط الواجب والوفاء بما التزمه وقد قال الله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم فان أوجب شيأ بعينه على نفسه صدقة في المساكين فأكره بحبس أو قيد على أن يتصدق بذلك جاز ما صنع منه ولم يرجع على المكره بشئ لان الوفاء بما التزمه مستحق عليه شرعا كما التزمه فإذا التزم التصدق بالعين كان عليه الوفاء به في ذلك العين والمكره ما زاد في أمره على ذلك فلا يرجع عليه بشئ وكذلك الاضحية وصدقة الفطر لو أكره عليهما رجل حتى فعلهما اجزاه ولم يرجع على المكره بشئ لان ذلك واجب عليه شرعا وهذا الجواب في الاضحية بناء على ظاهر الرواية انها واجبة ومقصوده

[ 146 ] أن يبين أن الواجب الذى يثبت للامام فيه ولاية الاخذ والذي لا يثبت له في ذلك ولكن من عليه يقضي بادائه في حكم الاكراه سواء ولو قال لله تعالى على هدى أهديه إلى بيت الله فأكره بالقتل على أن يهدى بعيرا أو بدنة ينحرها ويتصدق بها ففعل كان المكره ضامنا قيمتها ولا يجزيه ما أوجبه على نفسه لان بلفظ الهدى لا يتعين عليه البعير والبقرة ولكن يخرج عنه بالشاة فالمكره ظالم له في تعيينن البدنة فيلزمه ضمان قيمتها ولا يجزيه عما أوجبه لحصول العوض أو لان الفعل صار منسوبا إلى المكره ولو أكرهه على أدنى ما يكون من الهدى في القيمة وغيرها فامضاه لم يغرم المكره شيأ لانه ما زاد على ما هو الواجب عليه شرعا ولو قال لله على عتق رقبة فأكرهه على أن يعتق عبدا بعينه بقتل فأعتقه ضمن المكره قيمته ولم يجزه عن النذر لانه التزم بعتق رقبة بغير عينها والمكره في أمر بعتق عبد بعينه ظالم فيكون ضامنا قيمته وان كان يعلم الذى اكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يكون من التسمية لم يكن على المكره ضمان واجزأ عن المعتق لتيقننا بوجوب هذا المقدار عليه ومن قال من أصحابنا في مسألة كفارة الظهار ان المكره لا يضمن إذا أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يجزى انما أخذ جوابه من هذا الفصل وعلى ما قلنا من الجواب المختار هذه لا تشبه تلك لان الناذر انما يلتزم الوفاء بالمنذور من أعيان ملكه فيصير كالعتق للادنى عن نذره فأما في الكفارة فالواجب دين في ذمته ولا يتناول اعيان ملكه (ألا ترى) أن في الكفارات قد يخرج بغير الاعتاق عند العجز عن الاعتاق وفى النذر لا يخرج بدون الاعتاق ولا يكون الاعتاق الا في مكله فمن هذا الوجه يقع الفرق ولو قال لله على أن أتصدق بثوب هروى أو مروى فأكرهه على أن يتصدق بثوب بعينه فانه ينظر إلى ذلك الذى تصدق به فان كان العلم محيطا بأنه أدنى ما يكون من ذلك الجنس في القيمة وغيرها أجزأه ذلك ولا ضمان على المكره لانه ما ألزمه بالاكراه الا ما يعلم أنه مستحق عليه بنذره شرعا وان كان غيره أقل من قيمته نظر إلى فضل ما بين القيمتين فغرم المكره ذلك لانه في الزيادة على الادنى يلزمه ذلك بالاكراه من غير ان كان واجبا عليه وهذا بخلاف الهدى والاضحية والعتق لان ذلك مما لا ينتقض فإذا ضمن المكره بعضه صار ناقضا ما وجب عليه فلا يجزيه عن الواجب فلهذا يغرم المكره جميع القيمة والتصدق بالثوب مما يحتمل التجزى فانه لو تصدق بنصف ثوب جيد يساوي ثوبا كما لزمه أجزأه عن الواجب فنحن وان أوجبنا ضمان الزيادة على المكره وقع المؤدى في مقدار الادنى مجزيا

[ 147 ] عن الواجب * يوضحه أن في التصدق تعتبر المالية (ألا ترى) أن له أن يتصدق بقيمة الثوب مكان الثوب وعند النظر إلى القيمة يظهر الفضل وفى الهدايا والضحايا وعتق الرقاب لا تعتبر المالية حتى لا يتأدى الواجب بالقيمة فلهذا قلنا إذا صار ضامنا للبعض ضمن الكل وذا قال لله على أن أتصدق بعشرة أقفزة حنطه على المساكين فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق بخمسة أقفزة حنطة جيدة تساوى عشرة أقفزة حنطة رديئة فالمكره ضامن لطعام مثله لان المؤدى لا يخرج عن جميع الواجب فانه لا معتبر بالجودة في الاموال الربوية عند مقابلتها بجنسها ولا يمكن تجويزها عن خمسة أقفزة حنطة لان في ذلك ضررا على الناذر فالمكره ظالم له في التزام الزيادة على الادنى فلهذا يضمن له طعاما مثل طعامه وعلى الناذر أن يتصدق بعشرة أقفزة رديئة ولو أن رجلا له خمسة وعشرون بنت مخاض فحال عليها الحول فوجب فيها ابنة مخاض وسط فاكره بوعيد قتل على أن يتصدق على المساكين بابنة مخاض جيدة غرم المكره فضل قيمتها على قيمة الوسط لانه ظالم له في الزام هذه الزيادة وقد جازت الصدقة عن المتصدق في مقدار الوسط فلا يغرم المكره ذلك لان هذا ليس بمال الربا فيمكن تجويز بعضه عن كله (ألا ترى) انه لو تصدق بنصف ابنة مخاض جيدة فبلغ قيمته قيمة ابنة مخاض وسط أجزأه عن الواجب فلهذا لا يوجب على المكره الا ضمان الفضل بينهما والله أعلم (باب الاكراه في الوكالة) (قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد قتل عن أن يوكل رجلا بعتق عبد له أو بطلاق امرأة لم يدخل بها ففعل ذلك جاز التوكيل ونفذ تصرف الوكيل لان الاكراه لما لم يمنع صحة مباشرة الاعتاق والطلاق لا يمنع صحة التوكيل بهما أيضا ولا ضمان على الوكيل لانه نائب معبر فعبارته كعبارة الموكل ولكن الضمان على المكره كما لو أكرهه على مباشرة الايقاع وهذا استحسان قد بيناه في جعل الامر في يد الغير عن اكراه فالتوكيل قياسه ولو أكرهه على أن وكله بيع عبده من هذا بالف درهم وأكرهه على دفعه إليه حتى يبيعه ففعل ذلك فباعه الوكيل وأخذ الثمن ودفع العبد إلى المشترى فهلك العبد في يده من غير فعله والوكيل والمشترى غير مكرهين فالمولى بالخيار ان شاء ضمن المشترى قيمة عبده لانه قبضه طائعا بشراء فاسد وان شاء ضمن الوكيل لانه متعد في البيع والتسليم طائعا وان شاء ضمن

[ 148 ] المكره لان اكراهه على التوكيل والتسليم بمنزلة الاكراه على مباشرة البيع والتسليم في حكم الاتلاف والضمان فان ضمن المشترى لم يرجع على أحد بشئ لانه ضمن بسبب باشره لنفسه وان ضمن الوكيل يرجع الوكيل على المشترى بالقيمة لانه قائم مقام المالك في الرجوع على المشترى ولانه ملكه بالضمان وقد قبضه المشترى منه بحكم شراء فاسد فيكون له أن يسترد منه قيمته لما تعذر استرداد العين وعلى الوكيل رد الثمن ان كان قبض ولا يكون له الثمن بما ضمن له من القيمة لانه باعه للمكره ونقض ما ضمنه له من القيمة لانه باعه للمكره وقد نقض المكره البيع بتضمينه القيمة ولا يشبه هذا الغصب يعنى ان الغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة ينفذ البيع من جهته لانه باعه هناك لنفسه وقد تقرر الملك له بالضمان وهنا باعه بطريق الوكالة عن المكره (ألا ترى) أن المكره لو رضى بعد زوال الاكراه نفوذ البيع من جهته والمشترى بالقبض صار متملكا على المكره حتى لو أعتقه نفذ عتقه فلا يمكن أن يجعل متملكا بهذ السبب على الوكيل فلهذا لا ينفذ البيع من جهته ولا يسلم له الثمن بل يرده على المشترى لان استرداد القيمة من المشترى كاسترداد العين ولا شئ للوكيل على المكره لانه ما أكرهه على شئ وانما التزم الوكيل ضمان القيمة بالبيع والتسليم وهو كان طائعا في ذلك وان كان المكره ضمن المكره القيمة كان له أن يرجع بها ان شاء على المشترى وان شاء على الوكيل لانه قائم مقام المكره وقد كان له أن يرجع على أيهما شاء فان قال الوكيل للمكره لا أضمن لك شيأ لانك أنت الذى أمرته أن يدفع إلى لم ينفعه ذلك شيأ لانه كان غير مكره على قبضه وقد كان له أن لا يقبضه وانما ضمنه الذى أكرهه بقبضه وتسليمه فان قال الوكيل حين ضمن القيمة انا أجيز البيع فيما بينى وبين المشترى ويكون الثمن لى لم يكن له ذلك لان المشترى انما يملكه على المكره فلا يمكن جعله متملكا على الوكيل وان مكله بخلاف الغصب على ما بينا ولو كان أكرهه بالحبس على ذلك كان كذلك الا أنه لا يضمن المكره لان الاتلاف لا يصير منسوبا إليه بالاكراه بالحبس ولو كان المولى والوكيل مكرهين بالقتل فان المولى بالخيار ان شاء ضمن المشترى قيمة عبده لانه قبضه بشراء فاسد طائعا وان شاء ضمن المكره باكراهه اياه على التسليم بوعيد تلف ثم يرجع بها المكره على المشترى لانه قائم مقام من ضمنه ولانه ملكه بالضمان ولا ضمان له على الوكيل لانه كان مكرها بالقتل على القبض والتسليم فلا يبقى في جانبه فعل معتبر وان كانوا جميعا مكرهين بالقتل فالضمان على المكره خاصة لان الاتلاف

[ 149 ] منسوب إليه إذ لم يبق للمكره فعل معتبر في التسليم والقبض ولا يرجع المكره على أحد بشئ لانهم صاروا كالآلة له وليس للمتلف أن يرجع على الآلة بشئ وان كانوا مكرهين بالحبس فلا ضمان على المكره وللمولى أن يضمن المشترى قميه عبده لان فعل المشترى في القبض مقصور عليه وكذلك فعل الوكيل في التسليم فان الاكراه بالحبس لا يخرج واحد منهما من أن يكون مباشرا للفعل فان ضمن الوكيل رجع الوكيل بالقيمة على المشترى لانه قام مقام من ضمنه وان اختار تضمين المشترى فهو الذى يلى خصومته بما دون الوكيل لان الوكيل كان مكرها على البيع والتسليم بالحبس وذلك ينفى التزامه العهدة بالعقد فيخرج من الوسط إذا اختار المولى تضمين المتشرى وتكون الخصومة فيه لمن باشر العقد له بمنزلة ما لو وكل عبدا محجورا عليه أو صبيا محجورا ببيع فاسد وهذا لان الوكيل لو خاصم المشترى انما يخاصمه بحكم العقد فانه قد استفاد البراءة من الضمان حين اختار المولى تضمين المشتري وهو كان مكرها على العقد بالحبس وذلك يمنع ثبوت أحكام العقد في حقه ولو أكره المولى بالقتل وأكره الوكيل والمشترى بالحبس فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء لان فعلهم في التسليم منسوب إلى المكره وفعل الوكيل والمشترى مقصور عليهما فان ضمن المشترى لم يرجع على أحد بشئ وان ضمن الوكيل كان له أن يرجع إلى المشترى ولا شئ له على المكره لما بينا وان ضمن المكره كان له أن يرجع على المشترى بالقيمة التى ضمن ولا يرجع على الوكيل بشئ لانه أمر الوكيل بالقبض والبيع والدفع حين أكرهه عليه بالحبس والمكره بالضمان يصير كالمالك فلا يكون له أن يرجع بشئ على من قبضه ودفعه إلى غيره باكراهه على ذلك ولو أكره المولى والوكيل بالقتل وأكره المشترى بالحبس فلا ضمان على الوكيل لانعدام الفعل منه حين كان مكرها بالقتل وللمولى أن يضمن المكره قيمته ان شاء ويرجع به المكره على المشترى وان شاء ضمن المشترى لان فعله في القبض مقصور عليه فان قيل إذا ضمن المكره ينبغي ان لا يرجع على المشترى بشئ لان المشترى كان مكرها من جهته بالحبس كما في حق الوكيل في المسألة الاولى * قلنا نعم ولكن المشترى قبضه على وجه التمليك لنفسه بالشراء فلا بد من أن يكون ضامنا لما كان حكم قبضه مقصورا عليه وأما الوكيل فما قبضه لنفسه وانما قبضه ليدفعه إلى غيره بامر المكره فلا يكون للمكره أن يرجع عليه بشئ ولو أكره المولي والوكيل بالحبس وأكره المشترى بالقتل فلا ضمان على أحد منهم الا الوكيل خاصة لان المولى انما

[ 150 ] يضمن المكره بتسليمه إلى الغير مكرها من جهته وانما كان مكرها هنا على ذلك بالحبس فلا يرجع عليه بشئ والمشترى على القبض مكره بالقتل فلا يكون قبضه موجبا للضمان عليه وأما الوكيل فهو مكره على القبض والتسليم بالحبس وذلك لا يوجب نقل الفعل عنه إلى غيره فيكون ضامنا قيمته * فان قيل ينبغى أن يكون المكره ضامنا لان فعل المشترى في القبض صار منسوبا إليه فيجعل كأنه قبضه بنفسه وهلك في يده * قلنا المالك انما يضمن المكره باعبتار سبب جرى بينهما لا باعتبار سبب جري بينه وبين غيره والذى جرى بينهما اكراهه اياه عل التسليم بالحبس فما اكراهه المشترى فهو سبب بين المكره والمشترى فلا يكون للمولى أن يضمن المكره بذلك السبب وانما يكون ذلك للمشترى في الموضع الذى لا يكون عاملا لنفسه في القبض ويتقرر عليه ضمان وهذا لان المالك انما يثبت له حق التضمين بتفويت يده وتفويت يده بالتسليم لا باعتبار قبض المشترى ولو أكره المولى والمشترى بالقتل وأكره الوكيل بالحبس والمسألة بحالها كان للمولى أن يضمن المكره ان شاء لانه فوت يده حين أكرهه بالقتل على التسليم وان شاء ضمن الوكيل لان فعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشئ أما إذا ضمن الوكيل فلانه ما كان عاملا في البيع والتسليم للمكره وفعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأما إذا ضمن المكره فلانه أذن له في بيعه ودفعه حين أكره بالحبس عللى ذلك ولا ضمان على المشترى لانه كان مكرها على القبض بوعيد قتل وذلك ينفى الضمان عنه ولو أكرهه بالقتل على أن يوكل هذا الرجل بأن يهب عبده هذا لهذا الرجل فوكله بذلك فقبضه الوكيل ودفعه إلى الموهوب له ومات في يده والوكيل والموهوب له غير مكرهين فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء بمنزلة الشراء لان الموهوب له يقبض لنفسه على وجه التملك بهبة فاسدة فيكون ضامنا كالمشترى فان ضمن الموهوب له لم يرجع على أحد وان ضمن الوكيل رجع به الوكيل على الموهوب له وان ضمن المكره رجع المكره ان شاء على الموهوب له وان شاء على الوكيل ورجع به الوكيل على الموهوب له لما بينا في فصل الشراء ولو كان الاكراه بحبس لم يضمن المكره شيأ وكان للمولى أن يضمن ان شاء الوكيل وان شاء الموهوب له فان ضمن الوكيل رجع به على الموهوب له لانه قام مقام من ضمنه أو لانه ملكه بالضمان ولم يقصد تنفيذ الهبة من جهته فكان له أن يرجع على الموهوب له لانه بالقبض متملك عامل لنفسه بغير اذن المالك فلا يسلم له مجانا والله أعلم

[ 151 ] (باب ما يسع الرجل في الاكراه وما لا يسعه) (قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أكل الميتة أو لحم الخنزير أو شرب الخمر فلم يفعل حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما لان حالة الضرورة مستثناة من التحريم والميتة والخمر في هذه الحالة كالطعام والشراب في غير حالة الضرورة ولا يسعه أن يمتنع من ذلك حتى يتلف (ألا ترى) أن الذى يخاف الهلاك من الجوع والعطش إذا وجد ميتة أو لحم خنزير أو دما فلم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم ان ذلك يسعه كان آثما وقد بينا هذا فيما سبق في الماء الذى خالطه الخمر التحرز عن قول من خالفنا في شرب الخمر عند العطش وفائده وذكره عن مسروق رحمه الله قال من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير أو دم فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا دليلنا على قول أبى يوسف وفيه دليل انه لا بأس باطلاق القول بدخول الدار لمن يرتكب ما لا يحل له وان كان المذهب انه في مشيئة الله تعالى ان شاء عذبه وان شاء عفى عنه حتى اشتغل بعضهم بالتأويل بهذا اللفظ قالوا مراده الدخول الذى هو تحلة القسم قال الله تعالى وان منكم الا واردها أي داخلها وهو المذهب عند أهل السنة والجماعة ولكن هذا بعيد لان مراده بيان الجزاء على ارتكاب ما لا يحل ولكن لا يظن أحد بمثله انه يقصد بهذا اللفظ نفى المشيئة وقطع القول بالعذاب فان كان لا يعلم أن ذلك يسعه رجوت أن لا يكون آثما لانه قصد به التحرز عن ارتكاب الحرام في زعمه وهذا لان انكشاف الحرمة عند تحقق الضرورة دليله خفى فيعذر فيه بالجهل كما ان عدم وصول الخطاب إليه قبل أن يشتهر يجعل عذرا له في ترك ما ثبت بخطاب الشرع يعنى الصلاة في حق من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوبها عليه ثم ذكر في فصل الاكراه على الكفر انه إذا امتنع من ذلك حتى قتل لم يكن آثما وقد بينا أنه مأجور فيه كما جاء في الاثر ان المجبر في نفسه في ظل العرش يوم القيامة أن أبى الكفر حتى قتل وحديث خبيب رضى الله عنه فيه معروف وأشار إلى الاصل الذى بينا أن اجراء كلمة الشرك في هذه الحالة رخصة له والامتناع هو العزيمة فان ترخص بالرخصة وسعه وان تمسك بالعزيمة كان أفضل له لان في تمسكه بالعزيمة اعزاز الدين وغيظ المشركين فيكون أفضل وعلى هذا إذا قيل له لئن صليت لاقتلنك فخاف ذهاب الوقت فقام وصلى وهو يعلم انه يسعه تركه فلما صلى قتل لم يكن آثما في ذلك لانه تمسك بالعزيمة أيضا وكذلك صوم رمضان لو قيل له وهو مقيم لئن لم تفطر

[ 152 ] لنقتلنك فأبى أن يفطر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا لانه متمسك بالعزيمة وفيما فعله اظهار الصلابة في الدين وأن أفطر وسعه ذلك لان الفطر رخصة له عن الضرورة الا أن يكون مريضا يخاف على نفسه ان لم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه فحينئذ يكون آثما وكذلك لو كان مسافرا فصام في شهر رمضان فقيل له لنقتلنك أو لتفطرن فأبى أن يفطر حتى قتل كان آثما لان الله تعالى أباح له الفطر في هذين الوجهين معتدا بقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فعند خوف الهلاك شهر رمضان في حقهما أيامه كلياليه وكايام شعبان في حق غيرهما فيكون في الامتناع حتى يموت بمنزلة المضطر في فصل الميتة بخلاف الصحيح المقيم فالامر بالصوم في حقه عزيمة قال الله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه والفطر عند الضرورة رخصة فان ترخص بالرخصة فهو في سعة من ذلك وان تمسك بالعزيمة فهو أفضل له وهذا كله بناء على مذهبنا انه يصير مفطرا بالتناول مكرها وعند الشافعي رحمه الله لا يصير مفطرا وقد بينا هذا في الصوم فان الخاطى والمكره عنده في الحكم سواء وقال المكره مسلوب الفعل (ألا ترى) ان الاتلاف الحاصل بفعله يصير منسوبا إلى المكره ولكنا نقول المكره انما يجعل آلة للمكره فيما يصلح أن يكون آلة له وهو في الجناية على صوم نفسه لا يصلح أن يكون آلة للغير فيقتصر حكم فعله في حق الافطار عليه (ألا ترى) أن المكره لو كان صائما لم يصر مفطرا بهذا فلو جعلنا الفعل عدما في حكم المكره في حق الصوم رجع إلى الاهدار وليس للاكراه تأثير في الاهدار ولا في تبديل محل الجناية وبه فارق حكم الضمان لانا لو جعلنا الفعل منسوبا إلى المكره لا يؤدى إلى الاهدار ولا إلى تبديل محل الجناية ولو قال له لاقتلنك أو لتأخذن مال هذا الرجل فتعطينيه فابى أن يفعل ذلك حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا ان شاء الله لان الاخذ عند الضرورة مباح له بطريق الرخصة وقيام الحرمة والتقوى حقا للمالك يوجب أن تكون العزيمة في ترك الاخذ فان تمسك بالعزيمة كان مأجورا وقيده بالاستثناء لانه لم يجعل هذا بعينه نصا بعينه وانما قاله بالقياس على ما تقدم وليس هذا في معنى ما تقدم من كل وجه لان الامتناع من الاخذ هنا لا يرجع إلى اعزاز الدين فلهذا قيده بالاستثناء ولو أن محرما قيل له لنقتلنك أو لتقتلن هذا الصيد فأبى أن يفعل حتى قتل كان مأجورا ان شاء الله لان حرمة قتل الصيد على المحرم حرمة مطلقة قال الله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فكان لا الامتناع عزيمة واباحة قبل الصيد رخصة

[ 153 ] عند الضرورة فان ترخص بالرخصة كان في سعة من ذلك وان تمسك بالعزيمة فهو أفضل له فان قتل الصيد فلا شئ عليه في القياس ولا على الذى أمره وفى الاستحسان على القاتل الكفارة أما الآمر فلا شئ عليه لانه حلال لو باشر قتل الصيد بيده لم يلزمه شئ فكذلك إذا أكره عليه غيره وأما المحرم ففى القياس لا شئ عليه لانه صار آلة للمكره بالالجاء التام فينعدم الفعل في جانبه (ألا ترى) أن في قتل المسلم لا يكون هو ضامنا شيأ لهذا المعنى وان كان لا يسعه الاقدام على القتل ففى قتل الصيد أولى ووجه الاستحسان أن قتل الصيد منه جناية على احرامه وهو بالجناية على احرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره فاما قتل المسلم فجناية على المحل وهو يصلح أن يكون آلة للمكره في ذلك حتى ان في حق الاثم لما كان ذلك جناية على حق دينه وهو لا يصلح آلة لغيره في ذلك اقتصر الفعل عليه في حق الاثم * توضيحه انه لما لم يجب على الآمر هنا شئ فلو لم توجب الكفارة على القاتل كان تأثير الاكراه في الاهدار وقد بينا انه لا تأثير للاكراه في الاهدار ولا في تبديل محل الجناية وان كان محرمين جميعا فعلى كل واحد منهما كفارة أما على المكره فلانه لو باشر قتل الصيد بيده لزمته الكفارة فكذلك إذا باشر بالاكراه وأما المكره فلانه في الجناية على احرام نفسه لا يصلح آلة لغيره * يوضحه أنه لا جاحة هنا إلى نسبة اصل الفعل إلى المكره في ايجاب الكفارة عليه فكفارة الصيد تجب على المحرم بالدلالة والاشارة وان لم يصر أصل الفعل منسوبا إليه فكذلك هنا وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ أو شبه عمد فانه يكون على المكره دون المكره بمنزلة ضمان الدية ولا قصاص لان تلك الكفارة لا تجب الا بمباشرة القتل ومن ضرورة نسبة المباشرة إلى المكره أن لا يبقى فعل في جانب المكره وهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز ايجابه على المكره بالمباشرة وعلى المكره بالتسبيب ولان السبب هنا الجناية على الاحرام وكل واحد منهما جان على احرام نفسه فأما هناك فالسبب هو الجناية على المحل والمحل واحد فادا أوجبنا الكفارة باعتبارها على المكره قلنا لا يجب على المكره ولو توعده بالحبس وهما محرمان ففى القياس تجب الكفارة على القاتل دون الآمر لان قتل الصيد فعل ولا أثر للاكراه بالحبس في الافعال وفى الاستحسان على كل واحد منهما الجزاء أما على القاتل فلا يشكل وأما على المكره فلان تأثير الاكراه بالحبس أكثر من تأثير الدلالة والاشارة وإذا كان الجزاء يجب على المحرم بالدلالة

[ 154 ] والاشارة فبالاكراه بالحبس أولى ولو كانا حلالين في الحرم وقد توعده بقتل كانت الكفارة على المكره لان جزاء الصيد في حكم ضمان المال ولهذا لا يتأدى الصوم فلا تجب بالدلالة ولا تتعدد بتعدد الفاعلين وهذا لان وجوبها باعتبار حرمة المحل فيكون بمنزلة ضمان المال وذلك على المكره دون المكره عند التهديد بالقتل وان توعده بالحبس كانت الكفارة على القاتل خاصة بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمى خطا ولو أن رجلا وجب عليه أمر بمعروف أو نهى عن منكر فخاف أن فعل أن يقتل وسعه أن لا يفعل وان فعل فقتل كان مأجورا لان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض مطلقا قال الله تعالى وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك الآية والترك عند خوف الهلاك رخصة قال الله تعالى الا أن تتقوا منهم تقاة فان ترخص بالرخصة كان في سعة وان تمسك بالعزيمة كان مأجورا وذكر في السير الكبير أن المسلم أذا أراد أن يحمل على جمع من المشركين وهو يعلم انه لا ينكى فيهم وانه يقتل لم يسعه ذلك لانه يكون ملقيا نفسه في التهلكة من غير فائدة ولو أراد أن يمنع قوما من فسقة المسلمين عن منكر اجتمعوا عليه وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بسببه وانهم يقتلونه فانه يسعه الاقدام على ذلك لان هؤلاء يعتقدون الاسلام فزجره اياهم يؤثر فيهم اعتقادا لا محالة وأولئك غير معتقدين فالشرط أن ينكى فعله فيهم حسا فإذا علم أنه لا يتمكن من ذلك لا يسعه الاقدام ولو أكره بالقتل على أن يزنى لم يسعه أن يفعل فان فعل وكان محرما فسد احرامه وعليه الكفارة دون الذى أكرهه لما بينا أن فعله جناية على احرامه وهو في الجناية على احرامه لا يصلح أن يكون آلة لغيره ولو أكرهت امرأة محرمة بالقتل على الزنا وسعها أن تمكن من نفسها وقد بينا الفرق بين جانبها وجانب الرجل في حكم الاثم فأما فساد الاحرام فلا فرق حتى يفسد احرامها ويجب عليها الكفارة دون المكره لان تمكنها من نفسها جناية على احرامها وهى لا تصلح في ذلك آلة للمكره وان لم تفعل حتى تقتل فهى في سعة من ذلك لان حرمة الزنا والجماع في حالة الاحرام حرمة مطلقة فهى في الامتناع تتمسك بالعزيمة وفى كل موضع من هذه المواضع أوجبنا الكفارة على المكره لا يرجع به على المكره لانه ألزمه كفارة يفى بها ولو رجع بها عليه يقضى بها عليه ولا يجوز أن يرجع عليه باكثر مما التزمه وكل أمر أحله الله تعالى مثل ما أحل في الضرورة من الميتة وغيرها والفطر في المرض والسفر فلم يفعل حتى مات أو قتل فهو آثم وكل أمر حرمه الله تعالى ولم

[ 155 ] يجئ فيه احلال الا أن فيه رخصة فأبى أن يأخذ بالرخصة حتى قتل فهو في سعة لان هذا اغرار بالدين وليس في الاول اغرار بالدين (ألا ترى) أن محرما لو اضطر إلى ميتة والى ذبح صيد حل له عندنا أكل الميتة ولم يحل له ذبح الصيد ما دام يجد الميتة لان الميتة حلال في حال الضرورة والصيد جاء تحريمه على المحرم جملة ولانه لو ذبح الصيد صار ميتة أيضا فيصير هو جامعا بين ذبح الصيد وتناول الميتة وإذا تناول الميتة كان ممتنعا من الجناية على احرامه بقتل الصيد والحل لاجل الضرورة فان كانت الضرورة ترتفع باحدهما لم يكن له أن يجمع بينهما ولو قيل لرجل دلنا على مالك أو لنقتلنك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما لانه قصد الدفع عن ماله وذلك عزيمة قال عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد ولان في دلالته اياهم عليه اعانة لهم على معصية الله تعالى وقد قال الله تعالى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان فلهذا يسعه أن لا يدلهم وان دلهم حتى أخذوه ضمنوا له لان بدلالته لا يخرجون من أن يكونوا غاصبين لماله متلفين فعليهم الضمان والله أعلم بالصواب (باب اللعان الذى يقضى به القاضي ثم يتبين أنه باطل) (قال رحمه الله) وإذا ادعت امرأة على زوجها قذفا وجحده الرجل فأقامت عليه البينة بذلك وزكوا في السر والعلانية وأمر القاضى الزوج أن يلاعنها فأبى أن يفعل وقال لم أقذفها وقد شهدوا على بالزور فان القاضى يجبره على اللعان ويحبسه حتى يلاعن لانه ممتنع من ايفاء ما هو مستحق عليه فيحبسه لاجله ولا يضربه بالحد وقد بينا هذا في الطلاق فان حبسه حتى يلاعن وقال أشهد بالله انى لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا قاله أربع مرات ثم قال ولعنة الله علي ان كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا والتعنت المراة أيضا وفرق القاضى بينهما ثم ظهر أن الشهود عبيد أو محدودون في قذف أو بطلت شهادتهم بوجه من الوجوه فان القاضى يبطل اللعان الذى كان بينهما ويبطل الفرقة ويردها إليه لانه تبين أنه قضى بغير حجة والقضاء بغير حجة باطل مردود ولا يقال فقد أقر بالقذف بالزنا في شهادات اللعان لان ذلك كان باكراه من القاضى اياه على ذلك والاكراه بالحبس يمنع صحة الاقرار (ألا ترى) انه لو هدده بالحبس على أن يقر بانه قذف هذ الرجل فاقر بذلك لم يلزمه بهذا الاقرار شئ فكذلك هنا فان قيل ذاك اكراه بالباطل وهذا اكراه بحق

[ 156 ] قلنا هذا اكراه بحق ظاهر فأما إذا تبين أن الشهود عبيد فقد ظهر ان الاكراه كان بالباطل حقيقة ولو كان القاضى لم يحبسه حتى يلاعن ولم يهدده بحبس ولكنه قال قد شهدوا عليك بالقذف وقضيت عليك باللعان فالتعن ولم يزده على هذا فالتعن الرجل كما لو وصفت لك والتعنت المرأة وفرق القاضى بينهما ثم ظهر ان الشهود كانوا عبيدا فأبطل شهادتهم فانه يمضى اللعان بين الزوج والمرأة وتمضي الفرقة ويجعلها بائنا من زوجها لان القاضى لما لم يهدده بحبس ولا غيره حتى قال أشهدكم بالله انى لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا كان هذا اقرارا منه بانه قذفها بغير اكراه فيلزمه ما أقر به من ذلك ويصير كانه أقر بقذفه اياها بعد ما جحد ثم التعن ثلاث مرات وفرق القاضى بينهما فيكون ذلك تفريقا صحيحا باعتبار حجة شرعية (ألا ترى) انه لو قال له القاضى قد شهدوا عليك انك قذفت هذا الرجل بالزنا وقد قضيت عليك بالحد فقال المقضى عليه أجل قد قذفته بالزنا ثم علم أن شهادة الشهود باطلة ضرب الحد لاقراره على نفسه بالقذف ولو قال قد شهد عليك الشهود بالقذف فلتقرن بذلك أو لاحبسنك ثم علم أن شهادة الشهود باطلة لم يكن عليه حد باقراره انه قدفه لانه كان مكرها على ذلك فكذلك ما وصفنا من حكم التفريق بسبب اللعان ولو لم يظهر ان الشهود عبيد ولكنهما يعلمان انهم شهدوا عليهما بزور فالتعنا وفرق القاضي بينهما كان قضاؤه نافذا ظاهرا وباطنا في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الاول رحمهما الله وفى قول أبى يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله لا ينفذ قضاؤه باطنا وقد بينا هذا في كتاب الرجوع عن الشهادات والله أعلم بالصواب (كتاب الحجر) (قال الشيح الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رحمه الله إملاء إعلم بان الله تعالى خلق الورى وفاوت بينهم في الحجى فجعل بعضهم أولى الرأى والنهى ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى وجعل بعضهم مبتلى ببعض أصحاب الردي فيما يرجع إلى معاملات الدنيا كالمجنون الذى هو عديم العقل والمعتوه الذى هو ناقص العقل فاثبت الحجر عليهما عن التصرفات نظرا من الشرع لهما واعتبارا بالحجر الثابت على الصغير في حال الطفولية بسبب عدم العقل بعد ما صار مميزا بسبب نقصان العقل وذلك منصوص عليه في الكتاب فيثبت الحجر في حق المعتوه والمجنون استدلالا بالنصوص

[ 157 ] بطريق التشبيه لان حالهما دون حال الصبى فالصبي عديم العقل إلى الاصابة عادة والمجون عديم العقل إلى الاصابة عادة ولهذا جاز اعتاق الصبى في الرقاب الواجبة دون المجنون فأما إذا بلغ عاقلا فلا حجر عليه بعد ذلك على ما قال أبو حنيفة رحمه الله الحجر على الحر باطل ومراده إذا بلغ عاقلا وحكى عنه أنه كان يقول لا يجوز الحجر الا على ثلاثة على المفتى الماجن وعلى المتطبب الجاهل وعلى المكارى المفلس لما فيه من الضرر الفاحش إذا لم يحجر عليهم فالمفتي الماجن يفسد على الناس دينهم والمتطبب الجاهل يفسد أبدانهم والمكارى المفلس يتلف أموالهم فيمتنعون من ذلك دفعا للضرر فان الحجر في اللغة هو المنع والاختلاف بين العلماء رحمهم الله ورأى هذا في فصلين أحدهما الحجر على السفيه المبذر والآخر الحجر على المديون بسبب الدين والسفه هو العمل بخلاف موجب الشرع وهو اتباع الهوى وترك ما يدل عليه العقل والحجي وأصل المسامحة في التصرفات والبر والاحسان مندوب إليه شرعا ولكن بطريق السفه والتبذير مذموم شرعا وعرفا ولهذا لا تنعدم الاهلية بسبب السفه ولا يجعل السفه عذرا في اسقاط الخطاب عنه بشئ من الشرائع ولا في اهدار عبارته فيما يقر به على نفسه من الاسباب الموجبة للعقوبة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات بسبب السفه ايضا وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ الا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله قالا ان الحجر عليه على سبيل النظر له وقال الشافعي على سبيل الزجر والعقوبة له ويتبين هذا الخلاف بينهم فيما إذا كان مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق فعند الشافعي رحمه الله يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريق الزجر والعقوبة ولهذا لم يجعل الفاسق أهلا للولاية وعندهما لا يحجر عليه فالفاسق عند أصحابنا جميعا رحمهم الله أهل للولاية على نفسه على العموم وعلى غيره إذا وجد شرط تعدى ولايته لغيره أما من جوز الحجر على السفيه فقد احتج بقوله تعالى فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لايستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل وهو تنصيص على أن اثبات الولاية على السفيه وانه مولى عليه ولا يكون ذلك الا بعد الحجر عليه وقال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى أن قال واكسوهم وهذا أيضا تنصيص على اثبات الحجر عليه بطريق النظر له فان الولى الذى يباشر التصرف في ماله على وجه النظر منه له وروى ان حبان بن منقذ الانصاري رضى الله عنه كان يغبن في البياعات لآمة أصابت رأسه فسأل أهله رسول الله

[ 158 ] أن يحجر عليه فقال انى لا أصبر عن البيع فقال عليه الصلاة والسلام إذا بايعت فقل لا خلابة ولى الخيار ثلاثة أيام فلو لم يكن الحجر بسبب التبذير في المال مشروعا عرفا لما سأل أهله ذلك ولما فعله رسول الله وان عبد الله بن جعفر رضى الله عنه كان يفنى ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى دار للضيافة بمائة ألف فبلغ ذلك علي ابن أبى طالب رضى الله عنه فقال لآتين عثمان ولاسألنه أن يحجر عليه فاهتم بذلك عبد الله رضى الله عنه وجاء إلى الزبير رضى الله عنه وأخبره بذلك فقال اشركني فيها فأشركه ثم جاء علي إلى عثمان رضى الله عنه وسأله أن يحجر عليه فقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير وانما قال ذلك لان الزبير رضي الله عنه كان معروفا بالكياسة في التجارة فاستدل برغبته في الشركة على أنه لا غبن في تصرفه فهذا اتفاق منهم على جواز الحجر بسبب التبذير فان عليا رضى الله عنه سأل وعثمان رضى الله عنه اشتغل ببيان العذر واهتم لذلك عبد الله رضى الله عنه واحتال الزبير لدفع الحجر عنه بالشركة فيكون اتفاقا منهم على جواز الحجر بهذا السبب وان عائشة رضى الله عنها كانت تتصدق بمالها حتى روى انها كان لها رباع فهمت ببيع رباعها لتتصدق بالثمن فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير فقال لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لاحجرن عليها والمعنى فيه أنه مبذر في ماله فيكون محجورا عليه كالصبي بل أولى لان الصبي انما يكون محجورا عليه لتوهم التبذير منه وقد تحقق التبذير والاسراف هنا فلان يكون محجورا عليه أولى وتحقيقه وهو أن للصبي ثلاثة أحوال حال عدم العقل وحال نقصان العقل بعد ما صار مميزا وحال السفه والتبذير بعد ما كمل عقله بان قارب أو أن بلوغه ثم عدم العقل ونقصانه بعد البلوغ يساوى عدم العقل ونقصانه قبل البلوغ في استحقاق الحجر به فكذلك السفه والبلوغ يساوى السفه قبل البلوغ بعد كمال العقل في استحقاق الحجر به وكان هذا الحجر بطريق النظر له لان التبذير وان كان مذموما فهو مستحق النظر باعتيار أصل دينه (ألا ترى) ان العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا والآخرة وذلك يكون نظرا له والدليل عليه أن في حق منع المال يجعل السفه بعد البلوغ كالسفه قبل البلوغ بالقياس على عدم العقل ونقصان العقل وكان منع المال بطريق النظر له فكذلك الحجر عليه عن التصرف لان منع المال غير مقصود لعينه بل لابقاء ملكه ولا يحصل هذا المقصود ما لم يقطع لسانه عن ماله تصرفا فإذا كان هو مطلق التصرف لا يفيد منع المال شيأ وانما يكون فيه زيادة مؤنة وتكلف على الولى في حفظ ماله

[ 159 ] إلى أن يتلفه بتصرفه وأما أبو حنيفة رحمه الله فاستدل بقوله تعالى ولا تأكلوها اسرافا وبدارا ان يكبروا فقد نهى الولي عن الاسراف في ماله مخافة أن يكبر فلا يبقى له عليه ولاية والتنصيص على زوال ولايته عنه بعد الكبر يكون تنصيصا على زوال الحجر عنه بالكبر لان الولاية عليه للحاجة وانما تنعدم الحاجة إذا صار هو مطلق التصرف بنفسه ولما سئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذه المسألة استدل بآيات الكفارات من الظهار والقتل وغيرها ففى هذه العمومات بيان أن هذه الكفارات تجب على كل من يتحقق منه أسبابها شرعا سفيها كان أو غير سفيه وارتكاب هذه الاسباب اختيارا نوع من السفه فدل انه مع السفه يتصور منه السبب الموجب لاستحقاق المال ومن ضرورته أن لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا وبه يتبين ان الحجر عن التصرفات ليس فيه كثير فائدة لتمكنه من اتلاف جميع ماله بهذه الاسباب والمعنى فيه أنه حر مخاطب فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد وفى هذين الوصفين إشارة إلى اهلية التصرف والمحلية فيه لان بكونه مخاطبا تثبت أهلية التصرف فان التصرف كلام ملزم وأهلية الكلام بكونه مميزا والكلام المميز بنفسه بكونه مخاطبا والمحلية تثبت بكونه خالص ملكه وذلك يثبت باعتبار حرية المالك وبعد ما صدر التصرف من أهله في محله لا يمتنع نفوذه الا لمانع والسفه لا يصلح أن يكون معارضا للحرية والخطاب في المنع من نفوذ التصرف لان بسبب السفه لا يظهر نقصان علقه ولكن السفيه يكابر عقله ويتابع هواه وهذا لا يكون معارضا في حق التصرف كما لا يكون معارضا في توجه الخطاب عليه بحقوق الشرع وكونه معاقبا على تركه ان زوال الحجر وتوجه الخطاب في الاصل ينبنى على اعتدال الحال الا أن اعتدال الحال باطنا لا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا على ما هو الاصل انه متى تعذر الوقوف على المعاني الباطنة تقام الاسباب الظاهرة مقامها كما أقيم السير المديد مقام المشقة في جواز الترخص وأقيم حدوث ملك الحل بسبب ملك الرقبة مقام حقيقة استعمال الرحم بالماء في وجوب الاستبراء ثم هذا السبب الظاهر يقوم مقام ذلك المعنى الخفى فيدور الحكم معه وجودا وعدما فكما لا يعتبر الرشد قبل البلوغ وان علم انه أصاب ذلك في زوال الحجر عنه فكذلك لا يعتبر السفه والتبذير بعد البلوغ في اثبات الحجر عليه (ألا ترى) أن في حكم الخطاب اعتبر هذا المعنى فدار مع السبب الظاهر وهو البلوغ عن عقل وجودا وعدما فكذلك في حكم التصرفات بل أولى لان توجه الخطاب عليه

[ 160 ] انما يكون شرعا والله تعالى أعلم بحقيقة باطنه وحكم التصرف بينه وبين العباد لا طريق لهم إلى معرفة ما في باطنه حقيقة فلما أقيم هناك السبب الظاهر مقام المعنى الخفى فهنا أولى والدليل عليه جواز اقراره على نفسه بالاسباب الموجبة للعقوبة وأقامة ذلك عليه وتلك العقوبات تندرئ بالشبهات فلو بقى السفه معتبرا بعد البلوغ عن عقل لكان الاولى أن يعتبر ذلك فيما يندرئ بالشبهات ولو جاز الحجر عليه بطريق النظر له لكان الاولى أن يحجر عليه عن الاقرار بالاسباب الموجبة للعقوبة لان الضرر في هذا أكثر فان الضرر هنا يلحقه في نفسه والمال تابع للنفس فإذا لم ينظر في دفع الضرر عن نفسه فعن ماله أولى وما قالا من أن النظر له باعتبار أصل دينه يضعف بهذا الفصل ثم هذا النوع من النظر جائز لا واجب كما في العفو عن صاحب الكبيرة ومن أصلهم أن الحجر عليه يجب وانما يجوز النظر له بطريق لا يؤدى إلى الحاق الضرر به وهو أعظم من ذلك النظر وفى اهدار قوله في التصرفات الحاق له بالبهائم والمجانين فيكون الضرر في هذا أعظم من النظر الذى يكون له في الحجر من التصرفات لان الآدمى انما باين سائر الحيوانات باعتبار قوله في التصرفات فاما منع المال منه فعلى طريق بعض مشايخنا رحمه الله هو ثابت بطريق العقوبة عليه ليكون زجرا له عن التبذير والعقوبات مشروعة بالاسباب الحسية فاما اهدار القول في التصرفات فمعنى حكمي والعقوبات بهذا الطريق غير مشروعة كالحدود ولا يدخل عليه اسقاط شهادة القاذف فانه متمم لحده عندنا ويكون تابعا لما هو حسى وهو اقامة الجلد لا مقصودا بنفسه ولئن ثبت جواز ذلك ولكن لا يمكن اثبات العقوبة بالقياس بل بالنص وقد ورد النص بمنع المال إلى أن يؤنس منه الرشد ولا نص في الحجر عليه عن التصرف بطريق العقوبة فلا ثبته بالقياس وهو نظير ما قال أصحابنا رحمهم الله ان البكر إذا كانت مخوفا عليها فللولي أن يضمها إلى نفسه وكذلك الغلام البالغ إذا كان مخوفا عليه فللولي أن يضمه إلى نفسه وبان ثبت له حق الحيلولة بينه وبين نفسه في التفرد بالسكنى لمعنى الزجر لا يستدل به على أنه يسقط اعتبار قوله في التصرف في نفسه نكاحا أو منع المال منه باعتبار بقاء أثر الصبى لان العادة أن أثر الصبي يبقى زمانا في أوائل البلوغ ولهذا لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال منه وبان جعل أثر الصبي كنفس الصبا في منع المال منه فذلك لا يدل على أن يجعل كذلك في الحجر عليه كما أن العدة تعمل عمل النكاح في المنع من النكاح دون ايفاء الحل بعد البينونة وهذا لان نعمة اليد على المال نعمة

[ 161 ] زائدة واطلاق اللسان في التصرفات نعمة أصلية فبان جواز الحاق ضرر يسير به في منع نعمة زائدة لتوفر النظر عليه لا يستدل على أنه يجوز الحاق الضرر العظيم به بتفويت النعمة الاصلية لمعنى النظر له فاما الآيات فقيل المراد بالسفيه الصغير أو المجنون لان السفه عبارة عن الخفة وذلك بانعدام العقل ونقصانه وعليه يحمل قوله تعالى فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أي صبيا أو مجنونا وكذلك قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم أما أن يكون المراد الصبيان أو المجانين بدليل انه لا يثبت ولاية الولى عليه ومن يوجب الحجر على السفيه يقول ان ولاية الولى تزول عنه بالبلوغ عن عقل على ما بينه أو المراد نهى الازواج عن دفع المال إلى النساء وجعل التصرف اليهن كما كانت العرب تفعله (ألا ترى) انه قال وأموالكم وذلك يتناول أموال المخاطبين بهذا النهى لا أموال السفهاء وحديث حبان بن منقذ دليلنا ذكر أبو يوسف رحمه الله في الاماني أن رسول الله لم يحجر عليه وعلى الرواية الاخرى أطلق عنه الحجر لقوله لا أصبر عن البيع ومن يجعل السفه موجبا للحجر لا يقول يطلق عنه الحجر بهذا القول فعرفنا أن ذلك لم يكن حجرا لازما وحديث عبد الله بن جعفر رضى الله عنه دليلنا أيضا لان عثمان رضى الله عنه امتنع من الحجر عليه مع سؤال على رضى الله عنه وأكثر ما فيه انه لم يكن في التصرف غبن ذلك حين رغب الزبير رضي الله عنه في الشركة ولكن المبذر وان تصرف تصرفا واحدا على وجه لا غبن فيه فانه يحجر عليه عند من يرى الحجر فلما لم يحجر عليه دل ان ذلك على سبيل التخويف وحديث عائشة رضى الله عنها دليلنا فانه لما بلغها قول أبن الزبير حلفت أن لا يكلم ابن الزبير أبدا فان كان الحجر حكما شرعيا لما استجازت هذا الحلف من نفسها مجازاة على قوله فيما هو حكم شرعي وبهذا يتبين أن الزبير انما قال ذلك كراهة أن يفنى مالها فتبتلي بالفقر فتصير عيالا على غيرها بعد ما كان يعولها رسول الله والمصير إلى هذا أولى ليكون أبعد عن نسبة السفه والتبذير إلى الصحابة رضى الله عنهم فان بلغ خمسا وعشرين سنة لم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه في قول أبى حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لم يدفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لقوله تعال فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فهذه آية محكمة لم ينسخها شئ فلا يجوز دفع المال إليه قبل ايناس الرشد منه (ألا ترى) أن عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع المال إليه بهذه الآية فكذلك إذا بلغ خمسا وعشرين لان السفه يستحكم بمطاولة المدة ولان

[ 162 ] السفه في حكم منع المال منه بمنزلة الجنون والعته وذلك يمنع دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبله فكذلك السفه وأبو حنيفة استدل بقوله تعالى ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا معناه ان يكبروا يلزمكم دفع المال إليهم وقال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم والمراد البالغين فهذا تنصيص على وجوب دفع المال إليه بعد البلوغ الا انه قام الدليل على منع المال منه بعد البلوغ إذا لم يؤنس رشده وهو ما تلوا فان الله تعالى قال حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون بين ان دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط ايناس الرشد وما يقرب من البلوغ في معنى حالة البلوغ فأما إذا بعد عن ذلك فوجوب دفع المال إليه مطلق بما تلونا غير معلق بشرط ومدة البلوغ بالسن ثمانية عشر سنة فقدرنا مدة القرب منه بسبع سنين اعتبار بمدة التمييز في الابتداء على ما أشار إليه النبي في قوله مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ثم قد بينا ان أثر الصبا يبقى بعد البلوغ إلى أن يمضى عليه زمان وبقاء أثر الصبا كبقاء عينه في منع المال منه ولا يبقى أثر الصبا بعد ما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان به منذ بلغ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال لان هذا ليس بأثر الصبا فلا يعتبر في منع المال منه أو منع المال كان على سبيل التأديب له والاشتغال بالتأديب ما لم ينقطع رجاء التأديب فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده فقد انقطع رجاء التأديب لانه يتوهم أن يصير جدا لان البلوغ بالانزال بعد اثنتى عشرة سنة يتحقق فإذا أحبل جاريته وولدت لستة أشهر فإذا ثم ان ولده أحبل جاريته بعد اثنتى عشرة سنة وولدت لستة أشهر صار الاول جدا بعد تمام خمس وعشرين سنة ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى في الاصلية فإذا لم يؤنس رشده عرفنا أنه انقطع منه رجاء التأديب فلا معنى لمنع المال منه بعد ذلك والى هذا أشار في الكتاب فقال أرأيت لو بلغ ستين سنة ولم يؤنس منه الرشد وصار ولده قاضيا أو نافلته أكان يحجر على أبيه وحده ويمتنع المال منه هذا قبيح ثم يقول بعد تطاول الزمان به لابد أن يستفيد رشدا اما بطريق التجربة أو الامتحان فان كان منع المال عنه بطريق العقوبة فقد تمكنت شبهة باصابة نوع من الرشد والعقوبة تسقط بالشبهة وان كان هذا حكما ثابتا بالنص غير معقول المعنى فقوله رشدا منكر في موضع الاثبات والنكرة في موضع الاثبات تخص ولا تعم فإذا وجد رشدا ما فقد وجد الشرط فيجب دفع المال إليه وهذا معنى ما نقل عن مجاهد رحمه الله في معنى قوله فان آنستم منهم رشدا

[ 163 ] أي عقلا لانه بالعقل يحصل له رشد ما وفى الكتاب تتبع على أبى حنيفة رحمه الله بقوله أي فائدة في منع المال منه مع اطلاق التصرف وفى منع المال منه زمانا ثم الدفع إليه قبل ايناس الرشد منه وقد أوضحنا الفرق لابي حنيفة رحمه الله بما ذكرنا ثم السفيه انما يبذر ماله عادة في التصرفات التى لا تتم الا باثبات اليد على المال من اتخاذ الضيافة أو الهبة أو الصدقة فإذا كانت يده مقصورة من المال لا يتمكن من تنفيذ هذه التصرفات فيحصل المقصود بمنع المال منه وان كان لا يحجر عليه ثم إذا بلغ سفيها عند محمد رحمه الله يكون محجورا عليه بدون حجر القاضى وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضى وكذلك لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها فمحمد يقول قد قامت الدلالة لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والحجر يثبت بهما من غير حاجة إلى قضاء القاضى فكذلك في السفه وقاس الحجر بسبب الصغر والرق وأبو يوسف يقول الحجر على السفيه لمعنى النظر له وهو متردد بين النظر والضرر ففى ابقاء الملك له نظر وفى اهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه الا بقضاء القاضى * توضيحه ان السفه ليس بشئ محسوس وانما يستدل عليه بان يغبن في التصرفات وقد يكون ذلك للسفه وقد تكون جبلة لاستجلاب قلوب المجاهرين فإذا كان مختبلا مترددا لا يثبت حكمه الا بقضاء القاضي بخلاف الصغر والجنون والعبد ولان الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله فلا يثبت الا بقضاء القاضى كالحجر بسبب الدين والكلام في الحجر بسبب الدين في موضعين أحدهما أن من ركبته الديون إذا خيف أن يلجئ ماله بطريق الاقرار فطلب الغرماء من القاضى أن يحجر عليه عند أبى حنيفة رحمه الله لا يحجر عليه القاضى وعندهما يحجر عليه وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذى كان في يده عند الحجر وتنفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفى هذا الحجر نظر للمسلمين فإذا جاز عندهما الحجر عليه بطريق النظر فكذلك يحجر لاجل النظر للمسلمين وعند أبى حنيفة لا يحجر على المديون نظرا له فكذلك لا يحجر عليه نظرا للغرماء ولما في الحيلولة بينه وبين التصرف في ماله من الضرر عليه وانما يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه الحاق الضرر به الا بقدر ما ورد الشرع به وهو الحبس في الدين لاجل ظلمه الذى تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق ثم الضرر عليه في اهدار قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الادنى على ثبوت الاعلى كما في منع المال من السفيه مع الحجر عليه ثم

[ 164 ] هذا الحجر عندهما لا يثبت الا بقضاء القاضى ومحمد رحمه الله يفرق بين هذا وبين الاول فيقول هنا الحجر لاجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم وذلك لا يتم الا بقضاء القاضى له والحجر على السفيه لاجل النظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فيثبت حكمه بدون القضاء والفصل الثاني انه لا يباع على المديون ماله في قول أبى حنيفة رحمه الله العروض والعقار في ذلك سواء لا مبادلة أحد النقدين بالآخر فللقاضي أن يفعل ذلك استحسانا لقضاء دينه وقال أبو يوسف ومحمد يبيع عليه ماله فيقضي دينه بثمنه لحديث معاذ رضى الله عنه فانه ركبته الديون فباع رسول الله ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه في خطبته أيها الناس اياكم والدين فان أوله هم وآخره حزن وان اسيفع جهينة قد رضى من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد دين به الا أنى بائع عليه ماله فقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص فمن كان له عليه دين فليفد ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان هذا اتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله والمعنى فيه أن بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل انه يحبس إذا امتنع منه وهو ما يجزى فيه النيابة والاصل ان امتنع عن ايفاء حق مستحق عليه وهو مما يجزي فيه النيابة ناب القاضي فيه منابه كالذى إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضى عليه بهذا والتعيين بعد مضى المدة إذا أبى أن يفارقها ناب القاضى منابه في التفريق بينهما وهذا بخلاف المديون إذا كان معسرا فان القاضى لا يؤاجره ليقضى دينه من أجرته وكذلك لا يبيع ما عليه من ثياب بدنه لان ذلك غير مستحق عليه بدليل انه لا يحبسه لاجله وكذلك الدين إذا وجب على امرأة فان القاضى لا يزوجها ليقضى الدين من صداقها لان ذلك غير مستحق عليها بدليل انها لا تحبس لتباشر ذلك بنفسها فلا ينوب القاضى فيه منابها وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض وقال عليه الصلاة والسلام لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيبة نفس منه ونفسه لا تطيب ببيع القاضى ماله عليه فلا ينبغى له أن يفعله لهذا الظاهر والمعنى في أن بيع المال غير مستحق عليه فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عند امتناعه كالاجارة والتزويج بيان الوصف أن المستحق عليه قضاء الدين وجهة بيع المال غير متعين لقضاء الدين فقد يتمكن من قضاء الدين بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون

[ 165 ] للقاضى تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله والدليل عليه انه يحبسه بالاتفاق وقد ورد الاثر به على ما روى أن رجلا من جهينة أعتق شقصا من عبد بينه وبين غيره فحبسه رسول الله حتى باع غنيمة له وضمن نصيب شريكه ونحن نعلم انه ما حبسه الا بعد علمه بيساره لان ضمان المعتق لا يجب الا على الموسر ومع ذلك اشتغل رسول الله بحبسه حتى باع بنفسه فعرفنا أن المديون يحبس لقضاء الدين ولو جاز للقاضى بيع ماله لم يشتغل بحبسه لما في الحبس من الاضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم فلا معنى للمصير إليه بدون الحاجة وفى اتفاق العلماء رحمهم الله على حبسه في الدين دليل على أنه ليس للقاضى ولاية بيع ماله في دينه وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم لان عند اصرار المولى على الشرك اخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه فينوب القاضى منابه وكذلك في حق العنين لما تحقق عجزه عن الامساك بالمعروف فالتسريح مستحق عليه بعينه فأما مبادلة أحد النقدين بالآخر بان كان الدين عليه دراهم وماله دنانير ففى القياس ليس للقاضى ان يباشر هذه المصارفة لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه وهو قضاء الدين وفى الاستحسان يفعل ذلك لان الدراهم والدنانير جنسان صورة وجنس واحد معنى ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان * للقاضى أن يقضى دينه به فذكلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى * فان قيل فعلى هذا ينبغى أن يكون لصاحب الدين ولاية الاخذ من غير قضاء كما لو ظفر بحبس حقه بالاجماع ليس له ذلك قلنا لانهما جنسان صورة وان كان جنسا واحدا حكما فلانعدام المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين بأخذه لان فيه معنى المبادلة من وجه ولوجود المجناسة معنى قلنا للقاضى أن يقضى دينه به * يوضحه ان من العلماء من يقول لصاحب الدين أن يأخذ أحد النقدين بالآخر من غير قضاء ولا رضا وهو قول ابن أبى ليلى رحمه الله والقاضى مجتهد فجعلنا له ولاية الاجتهاد هنا في مبادلة أحد النقدين بالآخر لقضاء الدين منه ولا يوجد هذا المعنى في سائر الاموال وفيه اضرار بالمديون من حيث ابطال حقه عن عين ملكه وللناس في الاعيان اغراض ولا يجوز للقاضى أن ينظر لغرمائه على وجه يلحق الضرر به فوق ما هو مستحق عليه ثم هذا المعنى لا يوجد في النقود لان المقصود هناك المالية دون العين وأما تأويل معاذ رضى الله عنه فنقول انما باع رسول الله ماله بسؤاله لانه لم يكن في ماله وفاء بدينه فسأل رسول

[ 166 ] الله أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله فيصير فيه وفاء بديونه وهذا لان عندهما يأمر القاضى المديون ببيع ماله أولا فإذا امتنع فحينئذ يبيع ماله ولا يظن بمعاذ رضى الله عنه أنه كان يأبى أمر رسول الله اياه ببيع ماله حتى يحتج ببيعه عليه بغير رضاه فانه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيأ ولاجله ركبته الديون فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله والمشهور في حديث أسيفع رضى الله عنه ان عمر رضى الله عنه قال انى قاسم ماله ببن غرمائه فيحمل على انه كان ماله من جنس الدين وان ثبت البيع فانما كان ذلك برضاه (ألا ترى) ان عندهما القاضى لا يبيعه الا عند طلب الغرماء ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وانما المنقول انه ابتدأهم بذلك وأمرهم ان يفدوا اليله فدل انه كان ذلك برضاه ثم قد تم الكتاب على قول أبى حنيفة رحمه الله وانما التفريع بعد هذا على قول من يرى الحجر فنقول بين من يرى الحجر بسبب السفه اختلاف في صفة الحجر فعلى قول الشافعي رحمه الله الحجر به بمنزلة الحجر بسبب الرق حتى لا ينفذ بعد الحجر شئ من تصرفاته سوى الطلاق لان السفه لا يزيل الخطاب ولا يخرجه من أن يكون أهلا لالتزام العقوبة باللسان باكتساب سببها اؤ بالاقرار بها بمنزلة الرق فكما أن بعد الرق لا ينفذ شئ من تصرفاته سوى الطلاق فكذلك بعد الحجر بسبب السفه وأبو يوسف ومحمد قالا المحجور عليه بسبب السفه في التصرفات كالهازل يخرج كلامه على غير نهج كلام العقلاء لقصده اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في عقله فكذلك السفيه يخرج كلامه في التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله وكل تصرف لا يؤثر فيه الهزل كالنكاح والطلاق والعتاق لا يؤثر فيه السفه ولا يجوز أن يجعل هذا نظير الحجر بسبب الرق لان ذلك الحجر لحق الغير في المحل الذى يلاقيه تصرفه حتى فيما لا حق للغير فيه يكون تصرفه نافذا وهنا لا حق لاحد في المحل الذى يلاقيه تصرفه ثم على مذهبهما القاضى ينظر فيما باع واشترى هذا السفيه فان رأى اجازته أجازه وكان جائزا لانعدام الحجر قبل القضاء عند أبى يوسف رحمه الله ولاجازة القاضى عند محمد رحمه الله فان حاله لا يكون دون حال الذى لم يبلغ إذا كان عاقلا وهناك إذا باع واشترى وأجازه القاضى جاز وهذا لان الحجر عليه لمعنى النظر وربما يكون النظر له في اجازة هذا التصرف فلهذا نفذ باجازة القاضى سواء باشره السفيه أو الصبي العاقل قال وهما

[ 167 ] سواء في جميع الاشياء الا في خصال أربع أحدهما لا يجوز لوصي الاب أن يبيع شيأ من مال هذا الذى بلغ وهو سفيه الا بامر الحاكم ويجوز له البيع والشراء على الذى لم يبلغ لان ولاية الوصي عليه ثابتة إلى وقت البلوغ (ألا ترى) أنه ينفرد بالاذن له والحجر عليه وانه قائم مقام الاب في ذلك وللاب ولاية على ولده ما لم يبلغ فاما بعد ما بلغ عاقلا لا يبقى للوصي عليه ولاية أما عند أبى يوسف فلانه صار ولى نفسه ما لم يحجر عليه القاضى ومن ضرورة كونه ولى نفسه انتفاء ولاية الوصي عنه وأما عند محمد فلان البلوغ عن عقل مخرج له من أن يكون مولى عليه وتثبت له الولاية على نفسه (ألا ترى) ان لمعنى النظر له امتنع ثبوت أحد الحكمين وهو ثبوت الولاية له في التصرفات بنفسه ولا يتحقق مثل ذلك النظر في ابقاء ولاية الولى عليه ثم قد بينا أن تأثير السفه كتأثير الهزل ولا أثر للهزل في اثبات الولاية عليه للوصي وللهزل تأثير في ابطال تصرفه فلهذا لا يجوز تصرف الوصي عليه الا أن يأمره الحاكم بذلك فحينئذ يقوم هو في التصرف له مقام القاضى ومعلوم ان القاضى إذا حجر عليه لا يتركه ليموت جوعا ولكن يتصرف له فيما يحتاج إليه وربما لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه لكثرة اشغاله فلابد من أن يقيم غيره فيه مقامه والثانى أن السفيه إذا أعتق مملوكا له نفذ عتقه بخلاف الذى لم يبلغ لما بينا ان تأثير السفه كتأثير الهزل ثم في قول محمد وهو قول أبى يوسف الاول على العبد أن يسعى في قيمته وفى قول أبى يوسف الآخر ليس عليه السعاية في قيمته لانه لو سعى انما يسعى لمعتقه والمعتق لا تلزمه السعاية قط لحق معتقه بحال انما تلزمه السعاية لحق غيره والثانى ان تأثير السفه كتأثير الهزل ومن أعتق مملوكه هازلا لا تلزمه السعاية في قيمته فهذا قياسه وجه قول محمد رحمه الله ان الحجر على السفيه لمعنى النظر له فيكون بمنزلة الحجر على المريض لاجل النظر لغرمائه وورثته ثم هناك إذا أعتق عبدا وجب عليه السعاية لغرمائه أو في ثلثى قيمته لورثته إذا لم يكن عليه دين ولا مال سواه لان رد العتق واجب لمعنى النظر وقد تعذر رده عليه فيكون الرد بايجاب السعاية فهنا أيضا رد العتق واجب لمعنى النظر وقد تعذر رد عينه فيكون الرد بايجاب السعاية فهنا أيضا واجب لمعنى النظر له وقد تعذر رده فكان الرد بايجاب السعاية وقد بينا أن معنى النظر له في حكم الحجر بمنزلة النظر للمسلمين في الحجر بسبب الدين فكذلك في حكم السعاية والثالث أن الذى لم يبلغ إذا دبر عبده لا يصح تدبيره وهذا السفيه إذا دبر عبده جاز تدبيره لان التدبير يوجب حق العتق للمدبر فيعتبر بحقيقة العتق الا أن

[ 168 ] هناك تجب عليه السعاية في قيمته وهنا لا تجب الا بعد صحة التدبير في مال مملوك له يستخدمه ولا يمكن ايجاب نقصان التدبير عليه لانه لما بقى على ملكه والمولى لا يستوجب على مملوكه دينا تعذر ايجاب النقصان عليه (ألا ترى) أنه لو دبر عبده بمال وقبله العبد كان التدبير صحيحا ولا يجب المال بخلاف ما إذا كاتبه أو أعتقه على مال فان مات المولى قبل أن يؤنس منه لرشد سعى الغلام في قيمته مدبرا لان بموت المولى عتق فكأنه أعتقه في حياته فعليه السعاية في قيمته وانما لاقاه المعتق وهو مدبر فيسعى في قيمته مدبرا (ألا ترى) أن مصلحا لو دبر عبدا له في صحته ثم مات وعليه دين يحيط بقيمته أن على العبد أن يسعى في قيمته مدبرا لغرمائه فهذا مثله وكذا لو أعتقه بعد التدبير نفذ عتقه وعليه السعاية في قيمته لما قلنا والرابع أن وصايا الذى لم يبلغ لا تكون صحيحة والذى بلغ مفسدا إذا أوصى بوصايا فالقياس فيه كذلك انها باطلة بمنزلة تبرعاته في حياته ولكنا نستحسن أن ما وافق الحق وما يتقرب به إلى الله تعالى وما يكون على وجه الفسق من الوصية للقرابات ولم يأت بذلك سرف ولا أمر يستقبحه المسلمون أنه ينفذ ذلك كله من ثلث ماله لان الحجر عليه لمعنى النظر له حتى لا يتلف ماله فيبتلى بالفقر الذى هو الموت الاحمر وهذا المعنى لا يوجد في وصاياه لان أوان وجوبها بعد موته وبعدما وقع الاستغناء عن المال في أمر دنياه فإذا حصلت وصاياه على وجه يكون فيه نظر منه لامر اضربه أو لاكتساب الثناء الحسن بعد موته لنفسه وجب تنفيذه لان النظر له في تنفيذ هذه الوصايا والتدبير من هذه الجملة فيعتق به بعد الموت لهذا وكان ينبغى أن لا يجب على المدبر السعاية ولكنه أوجب السعاية لما فيه من معنى ابطال المالية فكلام أبى يوسف يتضح في هذا الفصل ثم العلماء رحمهم الله اختلفوا في وصية الذى لم يبلغ فأهل المدينة رحمهم الله يجوزون من وصاياه ما وافق الحق وبه أخذ الشافعي رحمه الله على ما سنبينه في كتاب الوصايا وقد جاءت فيه الاثار حتى روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أجاز وصية غلام يفاع وفى رواية يافع وهو المراهق وأن شريحا رحمه الله سئل عن وصية غلام لم يبلغ قال ان أصاب الوصية فهو جائز وهكذا نقل عن الشعبي رحمه الله فحال هذا الذى بلغ وصار مخاطبا بالاحكام أقوى من حال الذى لم يبلغ فاختلاف العلماء في وصية الذى لم يبلغ يكون اتفاقا منهم في وصية السفيه انه إذا وافق الحق وجب تنفيذه فهذا وجه آخر للاستحسان ثم الحاصل أن السفه لا يجعل كالهزل في جميع التصرفات ولا كالصبا ولا كالمرض ولكن الحجر به لمعنى النظر له فالمعتبر فيه توفر النظر عليه وبحثه يلحق ببعض هذه الاصول

[ 169 ] في كل حادثة فان جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد له فان مات كانت حرة لا سبيل عليها لان توفر النظر في الحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد فانه محتاج إلى ذلك لابقاء نسله وصيانة مائه ويلحق في هذا الحكم بالمريض المديون إذا ادعي نسب ولد جاريته كان هو في ذلك كالصحيح حتى انها تعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها في شئ لان حقه مقدم على حق غرمائه بخلاف ما لو أعتقها ولو لم يكن معها ولد وقال هذه أم ولد كانت بمنزلة أم الولد يقدر على بيعها فان مات سعت في جميع قيمتها بمنزلة المريض إذا قال لجاريته وليس معها ولد هذه أم ولدى وهذا لانه إذا كان معها ولد فثبوت نسب الولد بمنزلة الشاهد لها في ابطال حق الغير فكذلك في دفع حكم الحجر عن تصرفه بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد فانه لا شاهد له هنا فاقراره لها بحق العتق بمنزلة اقراره بحقيقة الحرية فلا يقدر على بيعها بعد ذلك ويسعى في قيمتها بعد موته كما لو أعتقها ولو كان له عبد لم يولد في ملكه فقال هذا ابني ومثله يولد لمثله فهو ابنه يعتق ويسعى في قيمته لانه أصل العلوق ولما لم يكن في ملكه كانت دعواه دعوى تحرير فيكون كالاعتاق (ألا ترى) أن المريض المديون إذا قال لعبد لم يولد في ملكه هذا ابني عتق وسعى في قيمته ولو اشترى هذا المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه لانه ملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشترى شئ من ذلك لانه وان ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي وإذا لم يجب على المحجور شئ لا يسلم له أيضا شئ من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع ولو وهب له ابنه المعروف أو وهب له غلام فقبضه وادعى انه ابنه فانه يعتق ويلزمه السعاية في قيمته بمنزلة ما لو اعتقه (ألا ترى) أن المريض المديون لو وهب له ابنه المعروف أو وهب له غلام في مرضه فادعى انه ابنه ثم مات سعى الغلام في قيمته لغرمائه ولو أن هذا الذى بلغ مفسدا تزوج امرأة جاز نكاحه وينظر إلى ما تزوجها عليه والى مهر مثلها فيلزمه أقلهما ويبطل الفضل عن مهر مثلها مما سمى وهو في ذلك كالمريض المديون فان التزوج من حوائجه ومن ضرورة صحة النكاح وجوب مقدار مهر المثل فأما الزيادة على ذلك فالتزام بالتسمية ولا نظر له في هذا الالتزام فلا تثبت هذه الزيادة كالمريض

[ 170 ] إذا تزوج امرأة بأكثر من صداقها مثلها يلزمه من المسمى مقدار مهر مثلها فإذا طلقها قبل الدخول وجب لها نصف المهر في ماله لان التسمية صحيحة في مقدار مهر المثل وتنصف المفروض بالطلاق قبل الدخول حكم ثابت بالنص وكذلك لو تزوج أربع نسوة أو تزوج كل يوم واحدة ثم طلقها وبهذا يحتج أبو حنيفة رحمه الله أنه لا فائدة في الحجر عليه لانه لا ينسد باب التلاف المال عليه وانه يتلف ماله بهذ الطريق إذا عجز عن اتلافه بطريق البيع والهبة وهو يكتسب المحمدة في البر والاحسان والمذمة في التزويج والطلاق قال عليه الصلاة والسلام لعن الله كل ذواق مطلاق ولو حلف بالله أو نذر نذورا من هدى أو صدقة لم ينفذ له القاضى شيأ من ذلك ولم يدعه يكفر أيمانه بذلك لانه حجره عن التصرف في ماله فيما يرجع إلى الاتلاف ولو لم يمنعه ذلك إذا أوجبه على نفسه لم يحصل المقصود بالحجر لانه تيسر عليه النذر بالتصدق بجميع ماله ثم عليه أن يصوم لكل يمين حنث فيها ثلاثة أيام متتابعات وان كان هو مالكا للمال لان يده مقصورة عن ماله فهو بمنزلة ابن السبيل المنقطع عن ماله وبمنزلة من يكون ماله دينا على انسان أو غصبا في يده وهو يأبى أن يعطيه فله أن يكفر بالصوم كذلك هنا ولو ظاهر هذا المفسد من امرأته صح ظهاره كما يصح طلاقه ويجزيه الصوم في ذلك لقصور يده عن ماله بمنزلة من كان ماله غائبا عنه * فان قيل هناك لو كان في ماله عبد لم يجز له أن يكفر بالصوم قلنا لان هناك يقدر على اعتاقه عن ظهاره وان لم يكن في يده وهنا لا يقدر على ذلك لانه لو أعتق عبده وجب على العبد السعاية في قيمته ومع وجوب السعاية عليه لا يجوز عتقه عن الظهار (ألا ترى) أن مريضا مصلحا لو أعتقه عبده عن ظهاره أو قتله وعليه دين مستغرق ثم مات سعى الغلام في قيمته ولم يجز عن الكفارة للسعاية التى وجبت فلهذا أوجبنا عليه صوم شهرين متتابعين في كفارة الظهار والقتل فان قيل كان يبنغى أن ينفذ أعتاقه من غير سعاية لان هذا مما يتقرب به إلى ربه ويسقط به الواجب عن ذمته فالنظر له في تنفيذه * قلنا لو فتح عليه هذا الباب لكان إذا شاء أن يعتق عبدا من عبيده وقيل له ان عتقك لا يجوز الا بالسعاية ظاهر من أمراته ثم أعتق بعد ذلك العبد أو حلف بيمين وحنث فيها ثم أعتق ذلك فيحصل له مقصوده من التبذير بهذا الطريق لانه يصير بعد هذا العتق بمنزلة من لم يظاهر فلزجره عن هذا القصد أوجبنا السعاية على العبد إذا أعتقه وعينا عليه التكفير بالصوم فان صام المفسد أحد الشهرين ثم صار مصلحا لم يجزه الا العتق بمنزلة معسر أيسر لانه كان معسرا ابتداء وقد وصلت يده إلى المال

[ 171 ] قبل سقوط الكفارة عنه بالصوم فعليه التكفير بالمال وأما ما وجب على المفسد من أمر أوجبه الله تعالى من زكاة ماله أو حجة الاسلام أو غير ذلك فهو والمصلح فيه سواء لانه مخاطب وان كان مفسدا وبسبب الفساد لا يستحق النظر في اسقاط شئ من حقوق الشرع عنه بمنزلة الفاسق الذى يقصر في أداء بعض الفرائض لا يستحق به التخفيف في حكم الخطاب وهذا بخلاف ما أوجبه على نفسه لا فيما يوجبه على نفسه بسبب التزامه فيمكن فيه معنى التبذير فيما يرجع إلى الدنيا وان كان فيه معنى النظر له في الآخرة كما في مباشرة التصدق فأما فيما أوجب الله تعالى عليه فلا يتوهم معنى التبذير فهو والمصلح فيه سواء وينبغى للحاكم أن ينفذ له ما أوجب الله تعالى عليه من ذلك إذا طلبه من أداء زكاة ماله ولكن لا يدفع المال إليه ويخلى بينه وبينه لانه يصرفه إلى شهوات نفسه ولكن لا يخلى بينه وبين ذلك حتى يعطيه المساكين بمحضر من أمينه لان الواجب عليه الايتاء وهو عبارة عن فعل هو عبادة ولا يحصل ذلك الا بنيته فلهذا يدفع المال إليه ليعطيه المساكين من زكاته بمحضر من أمينه وكذلك ان طلب من القاضى ما لا يصل به قرابته الذى يجبر على نفقتهم اجابة إلى ذلك لان وجوب نفقتهم عليه يكون شرعا لا بسبب من جهته ولكن القاضى لا يدفع المال إليه بل يدفعه بنفسه إلى ذوى الرحم المحرم منه لانه لا حاجة إلى فعله ونيته حتى ان من له الحق إذا ظفر بجنس حقه من ماله كان له أن يأخذه فكذلك القاضى يعينه على ذلك بالدفع إليه ولكن لا ينبغى للقاضى أن يأخذ بقوله في ذلك حتى تقوم البينة على القرابة وعسرة القرائب لان اقراره بذلك بمنزلة الاقرار له بدين على نفسه فلا يكون ملزما اياه شيأ الا في الوالد فانهما إذا تصادقا على النسب قبل قولهما فيه كل واحد منهما في تصديق صاحبه يقر على نفسه بالنسب وقد بينا ان السفه لا يؤثر في المنع من الاقرار بالنسب لان ذلك من حوائجه ولكن لا يعتبر قوله في عسرة المقر له حتى يعرف انه كذلك كما في عسرة سائر الاقارب وكذلك يقبل اقراره بالزوجية لانه يملك انشاء التزوج فيملك الاقرار به ويجب لها مقدار مهر مثلها ويعطيها القاضى ذلك لان وجوب ذلك حكما لصحة النكاح وان كان قد مضى بعد اقراره أشهر ثم أقر انه كان فرض عليه نفقة في أول تلك الشهور لم يصدق على ما مضى من ذلك لان هذا منه اقرار بالدين لها فان نفقتها لزوجة في الزمان الماضي لا تصير دينا الا بقضاء القاضى واقراره لها بالدين باطل وان أراد أن يحج حجة الاسلام لم يمنع منها لانها تلزمه شرعا من غير صنع من جهته فلا يتوهم معنى التبذير فيه

[ 172 ] ثم لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا ويعطى ما يحتاج إليه كالزاد والراحلة لان ذلك من أصول حوائجه وان أراد عمرة واحدة لم يمنع منها أيضا استحسانا وفى القياس لا يعطى نفقة السفر لذلك لان العمرة عندنا تطوع كما لو أراد الخروج للحج تطوعا بعد ما حج حجة الاسلام ولكنه استحسن لاختلاف العلماء في فريضة العمرة وتعارض الاخبار في ذلك ولظاهر قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فهذا منه أخذ بالاحتياط في أمر الدين وهو من جملة النظر له ليس من التبذير في شئ وان أراد أن يقرن عمرة وحجا وسوق بدنة لم يمنع من ذلك لان القران فضل عندنا وإذا لم يكن هو ممنوعا من انشاء سفر لاداء كل واحد من النسكين فلان لا يمنع من الجمع بينهما في سفر أولى ثم القارن يلزمه هدى ويجزيه فيه الشاة عندنا ولكن البدنة فيه أفضل وقد اختلف العملاء من السلف في ذلك فكان أبن عمر رضى الله عنه يقول لا يجزيه الا بقرة أو جزور فهو حين ساق البدنة قد قصد به التحرز عن موضع الخلاف وأخذ بالاحتياط في أمر الدين واراد أن يكون فعله أقرب إلى موافقة رسول الله فلم يكن في سوق البدنة من معنى الفساد شئ فان أراد الخروج لاداء ذلك نظر الحاكم إلى ثقة من يريد الخروج إلى مكة فيدفع إليه ما يكفى المحجور عليه للكراء والنفقة والهدى فيلى ذلك الرجل النفقة عليه وما أراد من الهدى وغيره بأمر المحجور عليه ولا يدفع إلى المحجور عليه شيأ من ذلك المال مخافة أن يتلفه في شهوات نفسه ثم يقول ضاع منى فأعطوني مثله وهذا لانه في حالة الحضر كان ماله في يد وليه ينفق عليه منه بحسب حاجته وإذا ولاه القاضى ذلك كان هو بمنزلة وليه في الهدى ولا بد من اعتبار أمره ونيته لمعنى القربة فاما أن يباشره الولى بأمره أن يدفع إليه ليباشر بحضرته ما يحق عليه مباشرته فان اصطاد في احرامه صيد أو حلق رأسه من أذى أو صنع شيأ يجب فيه الصوم أمره بان يصوم لذلك ولم يعط من ماله لما صنع شيأ لان وجوب هذا بسبب من جهته وأصل ذلك السبب جناية فلا يستحق باعتبار النظر فيؤمر بالصوم لذلك حتى يكون ذلك زجرا عن السفه فان رأى الحاكم أن يأمر الرجل ان ابتلى بأذى في رأسه أو أصابه وجع احتاج فيه إلى لبس قميص أو غير ذلك أن يذبح عنه أو يتصدق لم يكن بهذا بأس لانه هذا من النظر له عند حاجته ولهذا جوز الشرع ذلك للمضطر فلا بأس بأن ينظر القاضى له في ذلك فيأمره بالاداء من ماله عند حاجته ولكن لا يفعله الوكيل الا بأمر المحجور عليه لمعنى القربة فيه فان الولاية الثابتة عليه لوليه لم تكن باختياره والعبادة

[ 173 ] لا تتأدى بمثل هذه الولاية فلا بد من أمره ونيته لتحقيق معنى القربة وان تطيب المحجور في احرامه بطيب كثير أو قبل للشهوة أو صنع ما يلزمه فيه الدم أو الطعام مما لا يجوز فيه الصوم فهذا لازم له يؤدى إذا صار مصلحا ولا يؤدى عنه في حال فساده وانه لزمه لانه مخاطب ولكن سبب هذا الالتزام منه فلا يؤدى من ماله في حال فساده بل يتأخر إلى أن يصير مصلحا بمنزلة المعسر الذى لا يجد شيأ إذا صنع ذلك أو هو بمنزلة العبد المأذون في الاحرام من جهة مولاه إذا فعل شيأ من ذلك وهذا لانه لو أدى عنه الحاكم هذا فعله في كل يوم مرة فيفنى ماله فيه وكذلك لو جامع امراته بعد ما وقف بعرفة فعليه بدنة يتأخر إلى أن يصير مصلحا وان جامعها قبل أن يقف بعرفة لم يمنع نفقة المضي في احرامه إلى ذلك لانه يحتاج إلى ذلك التحلل من الاحرام ولا يمنع نفقة العود من عام قابل للقضاء لان ذلك لازم عليه شرعا ويمنع من الكفارة لان وجوب ذلك بسبب من جهته وفى هذا السبب من الفساد ما لا يخفى والعمرة في هذا كالحج (ألا ترى) أن المرأة ليس لها أن تحج غير حجة الاسلام الا باذن زوجها فإذا خرجت لحجة الاسلام ثم جومعت في احرامها مطاوعة أو مكرهة مضت في الحج الفاسد ولم تمنع من العود للقضاء مع المحرم فإذا كانت لا تمنع هي لحق الزوج لم يمنع المحجور من ذلك أيضا لاجل الحجر ولو أن هذا المحجور عليه قضى حجة الاسلام الا طواف الزيارة ثم رجع إلى أهله ولم يطف طواف الصدر فانه يطلق له نفقة الرجوع للطواف ويصنع في الرجوع مثل مايصنع في ابتداء الحج لانه محرم على النساء ما لم يطف للزيارة فالرجوع للطواف من أصول حوائجه لانه محتاج إليه للتحلل ولكن يأمر الذى يلى النفقة عليه أن لا ينفق عليه راجعا حتى يحضره ويطوف بالبيت لانه لسفهه ربما يرجع ولا يطوف ثم يطلب النفقة مرة أخرى وهكذا يفعل ذلك في كل مرة حتى يفنى ماله فللزجر عن ذلك لا ينفق عليه راجعا حتى يطوف بالبيت بحضرته وان طاف جنبا ثم رجع إلى أهله لم يطلق له نفقة الرجوع للطواف لانه تحلل للطواف مع الجنابة ولكن عليه بدنة لطواف الزيارة وشاة لطواف الصدر يؤديهما إذا صلح لان وجوبهما كان بسبب من جهته وذلك السبب من الغشيان يعنى طواف الزيارة جنبا وترك طواف الصدر من غير عذر وان أحصر في حجة الاسلام فانه ينبغى للذى أعطى نفقته أن يبعث بهدى فيحل به لما بينا أن التحلل بالهدى من أصول حوائجه وماله معد لذلك (ألا ترى) أن العبد إذا حج باذن مولاه فأحصر وجب على مولاه أن يبعث بهدى ليحل

[ 174 ] به ولو ان هذا المحجور أحرم بحجة تطوعا لم ينفق عليه في قضائها نفقة السفر لانه التزم بسبب باشره ولكن يجعل من النفقة ما يكفيه في منزله لانه مستحق لذلك إذا أقام في منزله ولم يحرم بالحج ولا يمنع ذلك بسبب احرامه ولا يزاد له على ذلك ما يحتاج في السفر من زيادة النفقة والراحله ثم يقال له ان شئت فاخرج ماشيا (ألا ترى) انه لو قال اعطوني من مالي شيأ أتصدق به لم يعط ذلك فالذي يخرج بالحج تطوعا في المعنى ملتمس للزيادة على مقدار نفقته في منزله ليتقرب به إلى ربه فلا يعطى ذلك وان كان موسرا كثير المال وقد كان الحاكم يوسع عليه في منزله بذلك فكان فيما يعطيه من النفقة فضل عن قوته فقال انا اتكارى بذلك وأنفق على نفسي بالمعروف أطلق له ذلك من غير أن يدفع إليه النفقة ولكن يدفعها إلى ثقة ينفقها عليه على ما أراد لان هذا التدبير دليل الرشد والصلاح وفيه نظر له فلا يمنعه القاضى منه فان لم يقدر على الخروج ماشيا ومكث حراما فطال به ذلك حتى دخله من احرامه ذلك ضرورة يخاف عليه من ذلك مرضا أو غيره فلا بأس إذا جاءت الضرورة أن ينفق عليه من ماله حتى يقضى احرامه ويرجع لان ايفاء ماله لتوفير النظر له لا للاضرار به ومن النظر هنا له أن يعطى له ما يحتاج إليه لاداء ما التزمه حتى يخرج من احرامه وكذلك لو أحصر في احرام التطوع لم يبعث الهدى عنه لانه باشره بسبب التزمه باختياره الا أن يشاء أن يبعث بهدى من نفقته وان شاء ذلك لا يمنع منه لانه من باب النظر وحسن التدبير فان لم يكن في نفقته ما يقدر على أن يبعث بذلك منه تركه على حاله حتى تأتى الضرورة التى وصفت لك ثم يبعث عنه بهدى من ماله يحل به وانما ينظر في هذا إلى ما يصلحه ويصلح ماله لان الحجر عليه لصيانة ماله فالمقصود اصلاح نفسه فينظر في كل شئ من ذلك إلى ما يصلحه ويصلح ماله فإذا بلغت المرأة مفسدة فاختلعت من زوجها جاز الخلع لان وقوع الطلاق في الخلع يعتمد وجوب القبول لا وجوب المقبول وقد تحقق القبول منها وكان الزوج علق طلاقها بقبولها الجعل فإذا قبلت وقع الطلاق لوجود الشرط ولم يلزمها المال وان صارت مصلحة لانها التزمت بالمال لا بعوض هو مال ولا لمنفعة ظاهرة لها في ذلك فكان النظر في أن يجعل هذه كالصغيرة في هذا الحكم لا كالمريضة فان كان الزوج طلقها تطليقة على ذلك المال فهو يملك رجعتها لان وقوع الطلاق باللفظ الصريح لا يوجب البينونة الا عند وجوب البدل ولم يجب البدل هنا بخلاف مااذا كان بلفظ الخلع فان مقتضى لفظ الخلع البينونة وقد قررنا هذا الفرق في حق الصغيرة في

[ 175 ] كتاب الطلاق وهذا بخلاف الامة التى يطلقها زوجها تطليقة على ألف درهم وقد كان دخل بها فان الطلاق هناك بائن لان قبول الامة المال صحيح في حقها حتى يلزمها المال الا إذا أعتقت فلوجوب المال في ذمتها كان الطلاق بائنا وفى المفسدة والصغيرة المال لا يجب بقبولها أصلا حتى إذا كانت الامة مع رقها مفسدة ممن لو كانت حرة لم يجز أمرها في مالها كان الطلاق رجعيا لان التزامها المال لم يصح في حق نفسها حتى لا يلزمها المال إذا أعتقت ولو أن غلاما أدرك مفسدا فلم يرفع أمره إلى القاضى حتى باع شيأ من تركة والده وأقر بديون ووهب هبات وتصدق بصدقات ثم رفع أمره إلى القاضى فانه يبطل جميع ذلك وهو محجور عليه وان لم يحجر عليه القاضى وهذا قول محمد رحمه الله فأما عند أبى يوسف رحمه الله فهذا كله صحيح منه ما لم يحجر عليه القاضى واستدل محمد على أبى يوسف بمنع المال منه فان الوصي لا يدفع إليه ولو لم يكن محجورا عليه قبل حجر القاضى لما منع المال منه ومن يقول لا يدفع إليه ماله لم يكن محجورا عليه قبل حجر القاضى لما منع ويكون تصرفه جائزا فقد دخل فيما قال الذين لم يروا الحجر شيأ فانا ما أحتججنا عليهم الا بهذا ولم يكن بين هذا القائل وبينهم افتراق في رد الآية يعنى قوله تعالى فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فانما عرض في هذا الكلام لابي حنيفة ومن قال بقوله رحمهم الله قال رحمه الله وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول انه في هذه الكلمات جاوز حد نفسه ولم يراع حق الاستناد ولاجل هذا لم يبارك له فيه حتى لم يكثر له تفريع في هذا الكتاب ولا في كتاب الوقف ولو كان أبو حنيفة رحمه الله في الاحياء لدمر عليه وكل مجرى في الحلائس فان كان هذا المفسد قبض ثمن ما باع ببينة ثم رفع ذلك إلى القاضى فانه ينظر فيه فان رأى ما باع به رغبة أجازه وان كان الثمن قائما جاز باجازته وان كان ضاع في يده لم يجزه القاضى لان الاجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء وللقاضي أن يأذن للسفيه في التجارة إذا رآه أهلا لذلك فكذلك له أن يجز تصرفه وإذا رأى النظر فيه فان كان الثمن قائما بعينه والبيع بيع رغبة فالنظر في اجازته فإذا ضاع الثمن في يده فلا نظر له في هذه الاجازة لانه أن أجازه زال ملكه عن العين من غير عوض يسلم له في الحال فان اجازة البيع اجازة منه بقبض الثمن بمنزلة مالو باع الفضولي مال انسان وقبض الثمن وهلك في يده ثم أجاز المالك البيع كان ذلك اجازة منه بقبض الثمن حتى لا يرجع على واحد منهما بشئ فهذا كذلك فإذا لم يسلم له بعد الاجازة شئ لم يكن في الاجازة نظر له فلا يشتغل القاضى به ولا يكون

[ 176 ] للمشترى على الثمن الذى ضاع في يد المفسد سبيل لان قبضه كان بتسليم منه وتسليطه اياه على ذلك فلا يدخل به المقبوض في ضمانه وهو في هذا كالذى لم يبلغ وكذلك ان كان قبض الثمن يدفع المشترى إليه فاستهلكه بين يدى الشهود ثم رفع إلى القاضى فانه ينقض بيعه ولا يلزم المحجور من الثمن شئ وهذا على قول محمد رحمه الله فأما عند أبى يوسف رحمه الله فيكون هو ضامنا لما استهلك من الثمن وللقاضي أن يجيز البيع ان رأى النظر فيه وأصله في الصبي والمحجور عليه إذا استهلك الوديعة أو استهلك شيأ أشتراه وان كان المحجور حين قبض الثمن أنفقه على نفسه نفقة مثله في تلك المدة أو حج به حجة الاسلام أو أدى منه زكاة ماله أو صنع فيه شيأ مما كان على القاضى أن يصنعه عند طلبه ثم دفع إليه نظر فيه فان كان البيع فيه رغبة فان كانت قيمته مثل الثمن الذى اخذه أجاز البيع وابرأ المشترى من الثمن لان هذا التصرف لم يتمكن فيه من معنى الفساد شئ فانه لو طلبه من القاضى وجب عليه أن يجيبه إلى ذلك فان باشر بنفسه كان على القاضى أن ينفذه لان الحجر لمعنى الفساد ففيما لا فساد فيه هو كغيره والنظر له في تنفيذ هذا التصرف لانه لا يمكنه أن يرفع الامر إلى القاضى في كل حاجة وفى كل وقت لما فيه من الحرج البين عليه وان كان في تصرفه محاباة فأبطل القاضى ذلك لم يبطل الثمن عن المحجور عليه ولكن القاضي يقضيه من ماله لانه لا فساد فيما صرف المال إليه من حوائجه وفيما لا فساد فيه هو كالرشيد فيصير المقبوض دينا عليه يصرفه له في حاجته وعلى القاضى أن يقضيه من ماله الا أن يرى أن المحجور عليه لو أستقرض من رجل مالا فقضى به مهر مثل المرأة قضى القاضى القرض من ماله فان كان استقرضه لذلك ثم استهلكه في بعض حاجته لم يكن للمقرض عليه شئ له حال فساده ولا بعد ذلك لانه صرف المال إلى وجه التبذير والفساد وهو كان محجورا عن ذلك فيكون فيه بمنزلة الذى لم يبلغ فأما ما صرفه إلى مهر مثل امرأته فانما صرفه إلى ما فيه نظر له وهو اسقاط الصداق عن ذمته وربما كان محبوسا فيه أو كانت المرأة تمنع نفسها منه لذلك فيصير ذلك دينا عليه * يوضحه أن المقرض ممنوع من دفع مال نفسه إليه ليصرفه إلى تبذيره لان فيه اعانة له على الفساد فيكون مضيعا ماله بذلك وهو مندوب إلى أن يقرضه ليصرفه إلى مهر مثل امرأته فلا يكون به مضيعا ماله ولو أستقرض مالا فأنفقه على نفسه نفقة مثله ولم يكن القاضى أنفق عليه في تلك المدة أجاز ذلك له وقضاه من ماله لانه لا فساد فيما صنعه وان كان أنفقه باسراف حسب القاضى للمقرض من ذلك

[ 177 ] مثل نفقة المحجور عليه في تلك المدة وقضاه من ماله وأبطل الزيادة على ذلك لان في مقدار نفقة مثله لا فساد وفيما زاد على ذلك معنى الفساد والاسراف وانما جعل هو كالذى لم يبلغ فيما فيه الفساد فاما في ما لا فساد فيه فهو كالرشيد (ألا ترى) أنه لو أقر على نفسه بالاسباب الموجبة للعقوبة كان مؤاخذا بذلك لانه لا فساد في اقراره وانما به يحصل التطهير لنفسه وآثر عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة وهو نظير أحد الورثة إذا أسرف في جهاز الميت وكفنه فانه يحسب من أصل التركة مقدار جهاز مثله وما زاد على ذلك مما فيه اسراف يكون محسوبا عليه دون سائر الورثة ولو أودعه رجل مالا فاقر أنه استهلكه لم يصدق على ذلك ولم يلزمه بهذا الاقرار شئ أبدا لان اقراره غير ملزم اياه المال وهو فيه كالذى لم يبلغ ما دام محجورا عليه فان صلح سئل عما أقر به في حال فساده فان اقر انه قد كان استهلكه في حال فساده لم يلزمه ذلك أيضا لان الثابت باقراره كالثابت بالبينة والمعاينة ولو عايناه استهلك الوديعة في حال فساده ولم يكن ضامنا ابدا في قول محمد رحمه الله أما في قول أبى يوسف رحمه الله هو ضامن فكذلك هنا وأصل الخلاف في الذى لم يبلغ إذا أودعه رجل مالا واستهلكه وعلل في هذا بما علل به هناك فقال لان رب المال هو الذى سلطه على ماله حين دفعه إليه وإذا أودع المحجور عليه غلاما أو جارية فقتله خطأ كانت قيمته على عاقلته لان الحجر في الافعال لا يتحقق فالافعال حسية تحققها بوجودها وأصله في الصبي إذا أودع غلاما أو جارية فقتله قال فان أقر المحجور بذلك لم يلزمه ما دام محجورا عليه لان قوله هدر في التزام المال بنفسه أو الالزام على عاقلته فان صلح فيسئل عما كان أقر به فان أقر به في حال صلاحه أخذت منه القيمة من ماله قى ثلاث سنين من يوم يقضى عليه لان باقراره في حال صلاحه يظهر هذا الفعل في حقه فيكون بمنزلة الظاهر بالمعاينة في حقه وهو لم يظهر في حق عاقلته لكونه متهما في حقهم فتكون القيمة عليه في ماله مؤجلا لانها وجبت بفعل القتل وابتدأ بالاجل من حين يقضى عليه لانه صار دينا الآن والاجل يكون في الدين وهذا بخلاف الصبي فانه غير مخاطب ولا يلزمه من الدية شئ من موجب جنايته إذا كان عمدا فكذلك إذا كان هو خطأ فهو وان أقر عند البلوغ فانما أقر على عاقلته وذلك لا يلزمه شيأ فأما المحجور عليه فمخاطب ولو كان فعله عمدا كان هو كالرشيد في موجبه فكذلك إذا كان خطأ يكون هو كالرشيد في أن الدية عليه ثم تتحمله العاقلة عنه للتخفيف عليه وإذا أقر بعد ما صلح فانما يظهر باقراره في حقه دون عاقلته فلهذا كانت القيمة عليه في ماله ولو أقر المحجور

[ 178 ] عليه أنه أخذ مال رجل بغير أمره فاستهلكه لم يصدق على ذلك لكونه محجورا عن الاقرار بوجوب الدين عليه فان صلح سئل عما كان أقر به فان أقر أنه كان حقا أخذ به كما لو لم يسبق منه الاقرار في حالة الحجر ولكن أقر بعدما صلح ابتداء انه استهلك مال رجل بغير أمره وأن أنكر أن يكون حقا لم يؤخذ به لانه لا حجر عليه بذلك سوى الاقرار الذي كان منه في حالة الحجر وذلك باطل وكذلك لو قال بعد ما صلح انى قد كنت أقررت وأنا محجور على انى استهلكت لك ألف درهم فقال رب المال أقررت لى بذلك في حال صلاحك أو قال قد أقررت به في حال فسادك ولكنه حق وقال المقر لم يكن ذلك حقا فالقول قول المقر لانه أضاف الاقرار إلى حالة معهودة تنافى صحة اقراره فيكون في الحقيقة منكرا لا مقرا فيجعل القول قوله في ذلك وهو في هذا بمنزلة الذى لم يبلغ ولو قال بعد ما صلح قد كنت أقررت بذلك في حال الفساد وكان ذلك حقا فانه يقضى عليه بذلك لان بقوله كان ذلك حقا صار مقرا له بوجوب المال الآن فيلزمه القاضى ذلك بهذا الاقرار (ألا ترى) أن الذى لم يبلغ لو أودعه رجل أو أقرضه مالا ثم كبر فأقر انه استهلكه في حال صغره وقال رب المال أستهلكته بعد الكبر ان القول قول الغلام لانه أضاف استهلاكه إلى حالة معهودة تنافى وجوب الضمان عليه فيكون هو منكرا للضمان ولو قال رب المال أنا أقرضتك أو أودعتك بعد الكبر فاستهلكته وقال الغلام استهلكته قبل الكبر كان الغلام ضامنا لجميع ذلك لان الغلام يدعى اسناد الايداع والاقراض إلى حالة الصغر ليثبت به تسليطه اياه على الاستهلاك مطلقا ورب المال منكر لذلك فالقول قوله وإذا قبل قوله مع يمينه بقى استهلاكه للمال وهو سبب موجب للضمان عليه في الحال (ألا ترى) أن من أتلف مال انسان وقال اتلفته باذنك وأنكر صاحب المال ذلك كان القول قوله فهذا مثله وإذا بلغت المرأة محجورا عليها لفسادها فزوجت كفؤا بمهر مثلها أو باقل مما يتغابن الناس فيه فهو جائز لانه لا فساد فيما صنع والحجر بسبب الفساد لا يؤثر فيما لا يؤثر فيه الهزل في جانب الرجل فكذلك في جانبها والغبن اليسير مما لا يستطاع التحرز عنه الا بحرج والحرج مدفوع ولو زوجت نفسها باقل من مهر مثلها فيما يتغابن الناس فيه ولم يدخل بها قيل لزوجها ان شئت فأتم لها مهر مثلها لان معنى الفساد يتمكن في هذ النوع من المحاباة فلا يسلم ذلك للزوج ولكنه يتخير لانه يلزمه زيادة لم يرض بالتزامها فان شاء رضى به والتزمه وان شاء أبى فيفرق بينهما لانه لما كان لا يتمكن من

[ 179 ] استدامة أمساكها الا بالمعروف الا بهذه الزيادة فإذا أباها كان راضيا بالتفريق بينهما وان كان قد دخل بها فعليه لها تمام مهر مثلها لان مهر المثل قيمة بضعها مستحق بالدخول لشبهه العقد الا إذا تقدمه تسمية صحيحة ولم يوجد ذلك حين تمكن الفساد في تسميتها فكأنها زوجت نفسها منه بغير مهر ودخل هو بها فيلزمه تمام مهر مثلها ولا يفرق بينهما لان التفريق كان للنقصان عن صداق المثل وقد انعدم حين قضى لها بمهر مثلها بالدخول كذلك ان كان الذى تزوجها محجورا عليه فالجواب ما بينا الا في خصلة واحدة وهو ان كان تزوجها على أكثر من مهر مثلها بطل الفضل عن مهر مثلها عن الزوج لان الزام المفسد للزيادة بالتسمية غير صحيح فان في التزام ما زاد على مهر مثلها معنى الفساد ثم لا خيار للمرأة في ذلك ان دخل بها أو لم يدخل بها لان حقها في قيمة البضع وقد سلم لها ذلك وانعدام الرضا منها لتملك البضع عليها بدون هذه الزيادة ولا يمنع لزوم النكاح اياها كما لو أكرهت هي ووليها على أن تزوج نفسها فلانا بمهر مثلها وان كانت تزوجت بمهر مثلها غير كفؤ فرق القاضى بينهما لان طلب الكفاءة فيه حقها وحق الولى ولم يوجد الرضا من الولى بانعدام الكفاءة ورضاها بذلك غير معتبر في ابطال حقها لما تمكن فيه من معنى الفساد واتباع الهوى فلهذا كان لها أن تخاصم ويفرق القاضى بينهما لخصومتها وخصومة أوليائها ولو أن غلاما أدرك وهو مصلح قد أونس منه الرشد فدفع إليه وصيه أو للقاضي ماله وسلطه عليه ثم أفسد بعد ذلك وصار ممن يستحق الحجر فهو محجور عليه وان لم يحجر القاضى عليه وهو قول محمد رحمه الله بمنزلة ما لو صار معتوها وعند أبى وسف ما لم يحجر عليه القاضى فتصرفه نافذ ثم عندهما القاضى يسترد المال منه ويجعله في يد وليه كما لو بلغ مفسدا لان ايناس الرشد منه شرط لدفع المال إليه بالنص فيكون شرطا لابقاء المال في يده استدلالا بالنص وعند أبى حنيفة رحمه الله لا يخرج المال من يده لان ما هو شرط ابتداء الشئ لا يكون شرط بقائه لا محالة ثم منع المال منه باعتبار أثر الصبي وفساده عند البلوغ دليل اثر الصبي فمنع المال منه إلى أن يزول لان ذلك بعرض الزوال فأما فساده بعد ما بلغ مصلحا فليس بدليل أثر الصبي فلا يوجب الحيلولة بينه وبين ماله لان ذلك جناية منه ولا تأثير للجناية في قطع يده عن ماله ولا في قطع لسانه عن المال بالتصرف فيه ولو كان باع عبدا ولم يدفعه ولم يقبض ثمنه وهو حال أو مؤجل حتى فسد فسادا استحق الحجر به ثم دفع الغريم إليه المال فدفعه باطل لان الحجر عليه لمعنى

[ 180 ] النظر له عند من يرى الحجر وليس من النظر دفع الثمن إليه بعد ما صار سفيها فهو بمنزلة ما لو باع عبدا وسلمه ولم يقبض ثمنه حتى صار معتوها الا ان مثله يقبض فكما لا يجوز قبضه للثمن هناك إذا دفعه إليه المشترى كذلك هنا وكذلك لو أن الصبي أذن له وليه في التجارة فباع شيأ ثم حجر عليه وليه قبل قبض الثمن فدفع الثمن إليه المشترى لم يبرأ بمنزلة ما لو كان الولى هو الذى باشر البيع والصبي محجور عليه لان قبض الصبي انما يكون مبرئا للمشترى إذا تأيد رأيه بانضمام رأى الولى إليه وقد انعدم ذلك بالحجر عليه وهنا قبضه انما كان مبرئا للمشترى بكونه رشيدا حافظا لماله وقد انعدم ذلك بفساده وكذلك لو أن رجلا وكله ببيع عبد له وهو مصلح فباعه ثم صار البائع مفسدا ممن يستحق الحجر عليه فقبض الثمن بعد ذلك لم يبرأ المشترى الا أن يوصله القابض إلى الآمر فان أوصله المشترى برئ المشترى بوصول الحق إلى مستحقه وان لم يصل إلى الآمر حتى هلك في يد البائع هلك من مال المشترى ولا ضمان على البائع والآمر فيه ويؤخذ من المشترى الثمن مرة أخرى لان الآمر انما رضى بقبضه للثمن باعتبار أنه مصلح حافظ للمال فلا يكون راضيا به بعد ما صار سفيها وهذا كله بخلاف ما لو نهاه عن قبض الثمن لانه استحق بالبيع قبض الثمن فاستحق المشترى البراءة بتسليم الثمن إليه فلا يبطل استحقاقها بنهي الآمر لان ذلك تصرف منه في حق الغير وأما الفساد عند من يرى الحجر به فمعنى حكمي حتى يخرج به المفسد من أن يكون مستحقا لقبض الثمن فيعمل ذلك في حقه وحق المشترى وهذا لان الآمر بالنهي قصد الحاق الضرر بهما وليس له هذه الولاية في اثبات الحجر عليه عن القبض بعد ما صار مفسدا دفع الضرر عن الآمر وهذا ضرر لم يرض الآمر بالتزامه فيجب دفعه عنه بخلاف ما لو كان الآمر أمره بالبيع والمأمور مفسد فيما باع وقبض الثمن جاز بيعه وقبضه لانه راض بالتزام ذلك الضرر حين أمره بالبيع وهو كذلك وهو نظير ما لو أمر صبيا محجورا أو معتوها يعقل البيع والشراء ببيع ماله فباعه جاز ولو أمره وهو صحيح العقل ثم صار معتوها لم يكن له أن يبيعه ويستوى أن كان الآمر يعلم بفساده أو لم يعلم لان أمره تصريح منه بالرضى بتصرفه على الصفة التى هو عليها ومع التصريح لا معتبر بعلمه وجهله لان ذلك لا يمكن الوقوف عليه ولو باع المفسد متاعه بثمن صالح ولم يقبضه حتى رفع ذلك إلى القاضى فانه يجيز البيع وينهى المشترى عن دفع الثمن إلى المحجور عليه لان في اجازة البيع نظرا له فانه لو نقضه احتاج إلى اعادة مثله

[ 181 ] وليس في مباشرته قبض الثمن نظرا له بل فيه تعريض ماله للهلاك فينهي المشترى عن دفع الثمن إليه لمعنى النظر ويصح ذلك منه لانه بمنزلة الحكم منه في فصل مجتهد فيه فان دفعه بعد مانهاه فضاع في يد المحجور عليه لم يبرأ المشترى منه ويجبر على دفع ثمن آخر إلى القاضى لان نهيه لما صح صار حق قبض الثمن للقاضى أو لامينه فدفعه إلى المحجور عليه بعد ذلك كدفعه إلى أجنبي آخر وكدفع ثمن ما باعه القاضى أو أمينه من ماله إلى المحجور عليه ولا خيار للمشترى في ذلك البيع لانه ضيع ماله بالدفع إليه بعد مانهاه القاضى وأساء الادب بمخالفة القاضى فيما خاطبه به فلا يستحق لسعيه تخفيفا ولا خيارا ولو كان القاضى حين أجاز البيع لم ينهه عن دفع الثمن إليه فدفعه إليه فهو جائز لان في اجازة بيعه اجازة لدفع الثمن فان الاجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء ومطلق الاذن له في البيع يكون تسليطا على قبض الثمن فكذلك مطلق الاجازة في الانتهاء الا أن يبنى الامر على وجه فيقول قد أجزت البيع ولا أجيز للمشترى أن يدفع الثمن إليه فإذا قال ذلك فهذا بمنزلة الحكم منه وحكم القاضى يقيد بما قيده به ولو أجاز البيع في الابتداء جملة ثم قال بعد ذلك قد نهيت المشترى أن يدفع الثمن إليه كان نهيه باطلا وكان دفع المشترى الثمن إلى المحجور عليه جائزا حتى يبلغه ما قال القاضى في ذلك لانه سلطه على دفع الثمن باجازته البيع جملة ثم نهيه اياه عن دفع الثمن إليه خطاب ناسخ أو مغير لحكم الاجازة المطلقة فلا يثبت في حقه حكمه ما لم يعلم به لانه لا يتمكن من العلم به ما لم يبلغه وفى الزامه اياه قبل أن يعلم به اضرار فإذا بلغه ثم أعطاه الثمن لم يبرأ منه لان الناسخ قد وصل إليه فليس له أن يعمل بالمنسوخ بعد ما بلغه الناسخ وهذا نظير الناسخ والمنسوخ في خطاب الشرع فانه كان في الصحابة رضوان الله عليهم من شرب الخمر بعد ما نزل تحريمها ولم يعاتب على ذلك لانه لم يبلغه الناسخ وفى قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ومن أعلمه بذلك وكان خبره حقا فهو اعلام لان على قول من يرى الحجر خبر الواحد في المعاملات حجة سواء كان ملتزما أو غير ملتزم كان المخبر رسولا أو لم يكن فاسقا كان أو عدلا بعد أن يكون الخبر حقا (ألا ترى) لو أن مفسدا قال له القاضى بع عبدك هذا بالف درهم ولم ينهه عن قبض الثمن فباعه وقبض الثمن وضاع عنده كان جائزا ولو قال بعه ولا تقبض الثمن لم يجز قبضه وأجبر المشترى على ادائه مرة أخرى ولا خيار له في نقض البيع علم بذلك أو لم يعلم ولو أمره بالبيع ولم ينهه عن قبض الثمن ثم قال بعد ذلك إذا باع

[ 182 ] فلا يقبض الثمن فانى نهيته عن ذلك فله أن يبيع ويقبض الثمن ما لم يبلغه نهى القاضى ومعنى هذا الاستشهاد ما أشرنا إليه ان الاجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء وإذا أدرك اليتيم مفسدا فحجر القاضى عليه أو لم يحجر فسأله وصيه أن يدفع إليه ماله فدفعه إليه فضاع في يده أو أتلفه فالوصى ضامن للمال لان دفع المال إلى من هو مفسد يكون تضييعا له فهو بمنزلة ما لو طرح الوصي ماله في مهلكة وكذلك لو كان الوصي أودعه المال ايداعا لانه تسليط له على اتلافه حين مكنه منه فيكون ذلك من الوصي بمنزلة الاستهلاك لماله وليس هذا كدفع الوصي مال يتيم مصلح لم يبلغ إليه وديعة أو ليبيع به ويشترى به لا ضمان عليه إذا ضاع منه أو ضيعه لان الصغير المصلح مأمون على نفسه وماله (ألا ترى) أن للوصي أن ياذن له في التجارة فلا يكون دفع المال إلى مثله تضييعا له وأما الكبير المفسد فدفع ماله إليه ما دام هو على فساده يكون تضييعا له ولهذا لو أذن له في التجارة وهو عالم بانه فاسد ولم يؤنس منه رشدا لم يجز اذنه وهذا لانه مأمور بالنظر في حق كل واحد منهما والنظر في حق الصبي المصلح اختباره بالاذن له في التجارة كما قال الله تعالى وابتلوا اليتامى والنظر في حق الكبير المفسد منعه من التصرف ومنع المال منه فيكون دفع المال إليه والاذن له في التجارة خلاف المأمور به في حقه فلا ينفذ من الوصي (ألا ترى) أن الغلام المصلح لماله لو رفع الامر إلى القاضى وكان ممن يشترى ويبيع ويربح كان الذى ينبغى للقاضى أن ياذن له في التجارة ولو رفع هذا المفسد لم يأذن له في ذلك فلذلك اختلف حال الوصي فيهما ولو أن القاضى أمر هذا المفسد أن يبيع شيئا من ماله ويشترى به ففعل ذلك جاز وكان هذا اخراجا من القاضى له من الحجر وذلك صحيح من القاضى لانه حكم منه في موضع الاجتهاد لينفذ منه ولا ينفذ مثله من الوصي لانه ليس له ولاية الحكم فان وهب أو تصدق هذا المفسد بذلك المال لم يجز لان القاضي انما دفع الحجر عنه في التجارة خاصة وحكم القاضى يتقيد تنفيذه فبقى الحجر عليه فيما ليس بتجارة على ما كان قبل هذا الاذن حتى إذا أعتق الغلام سعى الغلام في قيمته وان اشترى وباع بما لا يتغابن الناس فيه لم يجز لان المحاباة ممن لا يملك التبرع بمنزلة الهبة وان أذن له في بيع عبد بعينه أو في شراء عبد بعينه لم يجز له أن يشتري ولا أن يبيع الا الذى أذن له فيه خاصة لانه بهذا الاذن ينيبه مناب نفسه ولا يرفع الحجر عنه في شئ فانه لم يفوض إليه شيئا من التصرف إلى رأيه ولكن رأى فيه رأيه ثم أمره أن ينوب عنه في

[ 183 ] مباشرة العقد فلا يكون ذلك رفعا للحجر عنه ولو أذن له في شراء البر وبيعه خاصة دون ما سواه من التجارات كان مأذونا في التجارات كلها لان هذا الاذن اطلاق للحجر عنه في التجارة في نوع مفوضا إلى رأيه وهو نظير المولى يأذن لعبده في نوع من التجارة يصير مأذونا في التجارات كلها ولو أمره أن يشترى شيئا بعينه لا يصير مأذونا وكذلك الوصي في حق الذى لم يبلغ والفقه فيه أن الفاسد المحجور عليه يقدر على افساد ماله فيما أذن له من التجارة لان اتلاف المال بطريق التجارات في الضرر دون اتلافه بطريق التبرع مثل ما يقدر عليه في غيره فليس في تقييد الاذن بنوع من التجارة معنى النظر بخلاف التبرع فلا يكون فك الحجر عنه في التجارة فكا للحجر عنه في التبرع فان قال القاضى في السوق بمحضر من أهلها أو بمحضر من جماعة منهم قد أذنت لهذا في التجارة ولا أجيز له منها الا ما أعلم انه اشترى أو باع ببينة فاما ما لا يعمل الا باقراره فانه لا أجيز عليه فالامر على ما قال القاضى من ذلك لان تقييده فلك الحجر عنه بما قيده به يرجع إلى النظر له والقاضى مأمور في حق السفيه بما يكون فيه توفير النظر عليه * يوضحه ان صحة اقراره بعد انفكاك الحجر عنه باعتبار انه من توابع التجارة وانما يكون تابعا إذا لم يصرح به بخلاف ما صرح به في اصل تجارته وله ولاية هذا التصريح مع بقاء فك الحجر عنه فلابد من اعتباره ولو لم يعتبر هذا انما لا يعتبر دفعا للضرر والغرور عمن يعامله وقد اندفع ذلك حين جعل القاضى هذا القيد مشهورا كاشهار الاذن وهذا بخلاف الغلام المصلح الذى لم يبلغ يأذن له أبوه أو وصيه في التجارة على هذا الوجه أو العبد يأذن له مولاه على هذا الوجه حيث لا يلزمهم وما أقروا به مثل ما يلزمهم بالبينة لانه ليس للولى ولا للمولى ولاية تقييد الاذن بما قيده به مع بقاء أصل الاذن فيلغو بقيده وهذا لان الاذن للمحجور عليه على وجه النظر وفى التقييد توفير النظر فيستقيم من القاضى وفى حق من كان مأمونا على ماله أو في حق العبد ليس في هذا التقييد معنى التطويل بل هو تقييد غير مفيد لان الحاجة إلى اذن المولى لتتعلق ديونه بمالية رقبته ولا فرق في ذلك بين الدين الذى يثبت عليه باقرار أو بالبينة في حق المولى والفاسد الذى يستحق الحجر عليه كل من كان مضيعا ماله مفسدا له لا يبالى ما صنعه منتفعا بالسرف في غير منفعة على جهة المجون فان كان فاسدا في دينه لا يؤمن عليه من فجوره ولا غيره الا أنه حافظ لماله حسن التدبير له لم يستحق الحجر عليه لان الحجر على قول من يراه لابقاء المال ولا حاجة إليه في حق الفاسد الذى هو حسن التدبير في ماله انما

[ 184 ] الحاجة إليه في حق المبذر المتلف لماله ولو أن قاضيا حجر على فاسد يستحق الحجر ثم رفع إلى قاض آخر فأطلق عنه الحجر وأجاز ما كان باع أو اشترى ولم ير حجر الاول شيأ فأبطل حجره جاز اطلاق هذا عنه لان الاول لو تحول رأيه فاطلق عنه الحجر جاز فكذلك الثاني وهذا لان نفس الحجر على السفيه مجتهد فيه فانه باطل عند أبى حنيفة رحمه الله ونفس القضاء متى كان مجتهدا فيه يوقف على امضاء غيره فإذا أبطله بطل ثم الحجر عليه لم يكن قضاء من القاضى لان القضاء يستدعى مقضيا له ومقضيا عليه ولم يوجد ذلك انما كان ذلك نظرا منه له وقد رأى الآخر النظر له في الاطلاق عنه فينفذ ذلك منه الا أن يكون شئ من بيوعه أو شرائه المتقدمة رفع إلى القاضى الذى يرى الحجر عليه أو إلى قاض آخر يرى الحجر فأبطل مبايعاته ثم رفع إلى هذا القاضى الآخر فأبطل قضاء الاول وأجاز ما كان أبطله ثم رفع إلى قاض آخر يرى الحجر أو لا يراه فانه ينبغى له أن يجيز قضاء الاول بابطال ما أبطل بيوعه واشريته ويبطل قضاء الثاني فيما أبطله من قضاء الاول لان قضاء الاول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ذلك وكان ذلك قضاء تاما بوجود المقضى له والمقضى عليه وقضاء القاضى في المجتهدات نافذ بالاتفاق ثم الابطال من الثاني حصل بخلاف الاجماع لانه أبطل قضاء أجمع المسلمون على نفوذه وقضاء القاضى بخلاف الاجماع فهذا يبطل الثالث قضاء القاضى بابطال قضاء الاول ويمضي قضاء الاول باطال ما أبطل من بيوعه أو أشريته والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (تم الجزء الرابع والعشرون ويليه الجزء الخامس والعشرون وأوله كتاب المأذون) باقرار أو بالبينة في حق المولى والفاسد الذى يستحق الحجر عليه كل من كان مضيعا ماله مفسدا له لا يبالى ما صنعه منتفعا بالسرف في غير منفعة على جهة المجون فان كان فاسدا في دينه لا يؤمن عليه من فجوره ولا غيره الا أنه حافظ لماله حسن التدبير له لم يستحق الحجر عليه لان الحجر على قول من يراه لابقاء المال ولا حاجة إليه في حق الفاسد الذى هو حسن التدبير في ماله انما