كتب وشخصيات (1946)/في البحوث والدراسات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


 
 
 
 
 
 
 
 
 
في البحوث والدراسات
علي هامش التاريخ المصري القديم

عبد القادر حمزة - ۲۶۲ – للمرحوم ليس في أمم العالم تلوك ألسنتهم عبارات الفخر بالأجداد ، والمباهاة بالماضي ، والتشدق بالمجد القديم كالمصريين . ولا سيما بعد نهضة مصر الحديثة ، وشعور أبناء الجيل بحاجتهم إلى سند من مجد التاريخ لما يطلبون من مجد حديث . وليس في أمم العالم كذلك من هو منبت عن ماضيه ، منقطع الصلة الروحية عن قديمه ، جاهل بحقيقة تاريخه كالمصريين ، الذين لا تربطهم بماضيهم العظيم إلا معرفة غامضة ، ومعلومات مشوهة . لهذا كان الفخر بالماضي في مصر فخراً سطحيا لفظياً ، تلوكه الألسن ولا تستشعره القلوب ، وتصرح به الألفاظ ولا تجيش به الدماء ، ويستمد قوته الجمجمة لا من الحياة ، وتهبط سورته بانقضاء مناسبته السياسة ، ولا يبقى بعد ذلك حافزاً دائما للنهضة والطموح ولم يكن بين أم الأرض – وربما لن يكون - من هم أعجب من هؤلاء المصريين ، الذين يملكون أمجد تاريخ ، ويتصلون بأعظم ماض ؛ ثم يفرطون ( - في هذا التراث كله ، ويتركونه ليد التشويه والإهمال والجهل ، عشرات المئات ( ( ( من السنين . حتى إذا نهضوا نهضتهم ، وأحسوا بالحاجة إلى تراثهم الثمين گاه لم يفتشوا عن هذا التراث ، ولم يستنقذوه من الزيف ، ولم ينفضوا عنه ركام القرون ؛ وإنما راحوا يكتفون بجمجمة جوفاء : نحن بناة الهرم الخالد : نحن أبناء الفراعنة الأمجاد . نحن أبطال التاريخ ... إلى آخر ذلك الصياح الأجوف الملول ! ۳۶۳ القدعة الخالدة بقيت مد وبقيت بعد ذلك مصر الفرعونية ، مصر منابت الزمن . الضاربة في مجاهل التاريخ نفوس الهاتفين ، لا يعرفون عنها إلا ما رواه بعض المؤرخين القدماء من الخرافات والأباطيل، مما كشفت البحوث الحديثة عن زيفه ، ولكنه بقي يدرس في المدارس ا ی المصرية ؛ وهو – على ما فيه من أخطاء – لا يبلغ أن يكون تاريخاً حياً وإنما هو مقتطفات سريعة ، ووقائع منفصلة ، وحوادث للملوك لا ذكر فيها للشعب ، مما يجعلها مملة مبتورة ، لا تعلق بنفس ، ولا تنبض بها حياة . ولم يبسط هذا التاريخ بسطاً متسلسلا حيا ، على أنه وصف لحياة أقوام وأجيال عاشوا فعلا على هذه الأرض معيشة طبيعية في عصر من المصور ، حتى يشعر المصرى الآن بما بينه وبين أجداده من وشائج القربي ، وصلات الإحساس ، وروابط التفكير ، وعلاقات التقاليد . فيحس حينئذ أنه امتداد لهؤلاء الأجداد ، وأن بينه وبينهم صلة من الدم ، ورابطة من الحس ، وعلاقة من العادة ، ومشابه الحياة ، على الرغم من تطاول الزمن السحيق . والأمم التي تريد النهوض ، ولا تجد لها ركيزة من الماضي ، ترور لها تاريخاً وتحاول أن تنفخ فيه روح الحياة ! وتتصيد لها أبطالا من كل نوع ، وتلتف حول ، ، ذكراهم ، لأن الحاضر والمستقبل وتكزان على الماضى ارتكاز سوق النبات على الجذور . ( ... . مصر العريقة في هذه وها غامضاً في 6 أما مصر . مصر الخالدة التي عاملها التاريخ بسخاء عجيب ، فحفظ لها ماضيها خالداً ماثلا على مر الأجيال ، فلا تحاول أن تنتفع بهذه الميزة المفردة ، فتكتفى من ا هـذا الماضي كله ، بألفاظ جوفاء ، وصيحات فارغة ، حتى في عهد نهضتها و ابان بعثها في العصر الحديث وحينها سار المصرى الآن يجد مصر القديمة العريقة ماثلة في الآثار والتماثيل 6 – ٢٦٤ - والكتابات الأثرية ، سارية في العادات والتقاليد والأساطير التي صانها الزمن من يد النسيان ، ونقلها نقلا أمينا خلال هذه الأجيال ومع هذا لا يفتح قلبه ليسمع نداء هذه الأطياف السارية في مجاهل الأبد ، إنما يقف كالأبله أمام آثار أجداده التي تهتف به أرواحها الحية من كل مكان ، وهو عن دعائها أصم أوغفلان! وللمرة الأولى نجد في المكتبة العربية كتاباً عن مصر لها القديمة ، يرسم صورة حية شاعرة بقلم الباحث المؤرخ الأديب المرحوم عبد القادر حمزة باشا فياله من عمل فذ خالد هذا الذي نهض به ذلك الرجل لحسن الحظ قبل أن ينتقل إلى عالم البقاء .

يقول المؤلف في مقدمة كتابه العظيم : « زرت الأقصر في سنة ١٩٢٤ لمشاهدة قبر الملك توت عنخ آمون الذي كان مستر هوارد كاتر قد اهتدى إليه وكشف عنه بمساعدة اللورد كارنارفون ، فزرت في الوقت نفسه كثيراً من قبور وادى الملوك ووادي الملكات ، وزرت الدير البحرى ومعبد الكرنك ، وكنت نازلا في فندق « ونتر بالاس » فررت بمعبد الأقصر رائحاً وغادياً ؛ ولكني لم أجشم نفسي عناء دخوله . ووقع في يدى وأنا في الفندق كتاب « طيبة » للأستاذ «كابار » وقيل لي : إن ثمنه مائتا قرش فترددت في شرائه ولكنى اشتريته . ثم عدت إلى القاهرة وفي نفسي من ذلك كله أثر غامض . وقرأت الكتاب فخيل إلى أن الآثار التي مررت بها مرور الطير أخذت تتجسم أمام ناظري رويداً رويداً ، وأن الحياة أخذت تدب فيها ، فتحدثني عن مجد عجبت من أنني لم أجد في مدارس الحكومة التي تلقيت فيها t تعليمي في جميع درجاته ما يرشد إليه أو يبعث في الذهن فكرة عنه « وحفزني ذلك إلى زيارة الأقصر مرة أخرى ، فزرتها في سنة ١٩٢٦ ، والسكن الزيارة في هذه المرة لم تكن زيارة مشاهد يريد أن يمتع نظره بمناظر غريبة 6 . <-8401 بل كانت زيارة مشوق كان قد فهم بعض الشيء عن حياة طيبة ، فكان يهمه أن يدرس ما فيها من الآثار . « وعدت من هذه الزيارة وقد ازددت شغفاً لمس القديمة ، فأحسست رغبة قوية في زيارة المتحف المصرى مع أني قد زرته من قبل مرتين ، فجعلت أزوره من جديد زيارات كان لها في نفسي معنى جديد « وتكررت زياراتي للآثار وانكبيت على المؤلفات التي وضعها علماء « المصرولوجيا » فكنت كلمـا أوغلت فيها شعرت كأن مصر تكبر في عيني وكأني أمتلى بذلك زهواً ، وأخذتنى الدهشة من أننا ونحن أبناء مصر لا نعرف عنها هذا الذي يعرفه الأجانب ، ولا نعجب بها هذا الإعجاب الذي يبذله لها الأجانب ، ولا تغرم بمجدها وتقصى خفاياه هذا الإغراق الذي يقبل عليه ويرتاح له الأجانب . « وكان من الضروري أن أقرأ هذه المؤلفات أو بعضها على الأقل مرة وثانية بل ثالثة في بعض الأحيان . فلم أجد في ذلك كلفة ، ولم ينقص التكرار شيئا من متعنى بالقراءة ، لأننى كنت أفهم في الثانية ما يبهم على في الأولى؛ وأنفذ في الثالثة إلى ما يغيب عنى في الثانية » في هذه الفقرات قص المؤلف قصته مع مصر القديمة ، وهي قصة كل شاب مصرى ينشأ ويكبر ويغادر مقاعد الدراسة دون أن يعرف عن مصر ذا قيمة ، ودون أن تعقد الصلة بين وجدانه وهذا الماضي البعيد ، ودون أن يسايره تاريخ بلاده خطوة خطوة حتى ينموفى شعوره ، ويتجسم في إحساسه ، ويشخص في خياله كائنا حيا يعاطفه ويناجيه ، فيحب هذه الأرض لأنها تضم ذلك الماضي الذي كان مسرحا له في غياهب التاريخ ومن هنا يقف المصرى وقفة البلاهة الجامدة أمام آثار بلاده وتماثيل أجداده ، لأن تلك الآثار وهذه التماثيل قطع جامدة ميتة لا تصله بها صلة من ( المعرفة ، ولم تحاول المدرسة أن تبعثها حية في خياله نابضة في ضميره ، - ۲۶۶ -

ثم يمضى المؤلف في كتابه فيتحدث عن الخرافات المكذوبة على مصر القديمة وكيف شاءت عنها ، ويثبت أن مدنية مصر القديمة لم تقم على أساس هذه الخرافات ، بل قامت على أسس علمية وخلقية سليمة ، ثم يتحدث عن عقائد المصريين القديمة ، وكيف عرفوا التوحيد وعرفوا التثليث ، وقالوا فيه مثل ما يقوله فيه علماء اللاهوت المسيحيون . ويعرض خرافة ولادة النيل ويتتبع تطورها ويناقش هيردوت في دعاويه على المصريين ، ويفند خرافة عروس النيل تفنيداً قاطعا بالحجة البينة ، وبالأسلوب العلمي الدقيق التمهيد . ( . وبذلك ينتهى من ا ويبدأ الفصل الأول بالبحث عن منشأ المدنية المصرية : أمي أصيلة أم طرأت عليها من الكلدان ، فيثبت بما لا مجال للشك فيه أن المدنية المصرية مدنية عريقة أصيلة ، نبتت في هذا الوادي ، وسبقت كل مدنية في هذا الوجود ثم يعرض لقصة « التقويم المصرى » أول تقويم عرفه العالم وأكمله ، وقد كان موجوداً قبل أكثر من أربعة آلاف عام قبل الميلاد . ثم يفصل المعركة التي ثارت بين الكنيسة في أوربا وعلم الآثار المصرية ، وكيف أثبت البحث أن هذا العلم أصح في تقدير التاريخ مما ورد في « العهد القديم » عن عمر العالم . ويعرض « لعقيدة الحساب بعد الموت » فإذا الضمير المصرى قد كان أول ضمير بشرى يستيقظ ، ويرتب للفضيلة والرذيلة جزاء عادلا ، ويسبق الإنسانية بألفى عام في هذه اليقظة العجيبة في فجر التاريخ . ثم يستعرض آثار المدنية المصرية في المدنية الإغريقية وفي الأدب الإغريق - ۲۶۷ – فنعرف فضل مصر القديمة على شاعر الإغريق الخالد هوميروس ، وفضلها كذلك على رجال الفن الإغريقي ، ورجال القانون الروماني المشهور . هذا إلى عرض بعض القصص الفنية المصرية وآثارها في « ألف وينتقل من ليلة وليلة » وفى قصص « روبنصن كروزو » وفي قصص التوراة . وفي الفصل السابع يفصل العلاقات بين مصر وجاراتها ، ويثبت كثيراً من الرسائل السياسية وغير السياسية المتبادلة بين مصر وسوريا وفلسطين في عهد الأسرة الثامنة عشرة أيام الامبراطورية المصرية ويختم الجزء الأول من كتابه بملحق للتقويم المصرى ، يثبت فيه نصوصاً تدل على أن الكهنة ورجال الحكومة كانوا يدونون أيام المواسم الزراعية طبقاً للتقويم ، وأمام كل واحد اليوم المعادل له طبقاً لدورة الشعرى اليمانية . ثم يسجل نص الأمر الذي أصدره بعلليموس الثالث بتعديل التقويم على أساس إضافة يوم كل أربع سنوات إلى الخمسة الأيام الإضافية فإذا كان المجلد الثاني من الكتاب . عرفنا في الفصل الأول : أن « عبادة إيزيس كانت مرشداً روحيا لأوربا مدة خمسمائة سنة بعد انطفاء المدنية المصرية » مع شرح علمى واف لهذه العبادة ومنشئها وعلاقتها بعقيدة الحساب بعد الموت . ثم الفصل الثاني عن « الأدب المصرى القديم » وفيه استعراض للشعر الغزلى وفصول غيره من الأدب التهذيبي والديني ، معروضة عرضاً جميلا حيا ، تبدو فيه روح الناقد المتذوق الأديب بجانب روح الباحث العالم الدقيق ، وتلك سمات عبد القادر حمزة ، الذي اشتهر بالصحافة ، ولكن هذه السمات كلها كانت طابعه حتى في الصحافة – ۳۳۸ – وقبل أن يتم الرجل كتابه عاجلته المنية ، فترك هذا التراث العظيم ناقصاً - بعض الشيء – ولكنه قام بما فيه الكفاية لتبدو مصر على حقيقتها ، حية خالدة عريقة ، وضع بهذا الكتاب الأساس العلمى والفنى الصحيح لعرض هذا الماضي ، الذي ضللنا الطريق إليه كل هذا العهد الطويل . رحم الله عبد القادر حمزة . أما التاريخ الأدبى ، فكالتاريخ القومى ، سيخلده وسيحتفظ له بهذا الجميل على الفن والعلم والقومية والتاريخ . )) – ۳۶۹ – أنطون الجميل – رئيس تحرير الأهرام - صحفى من فرع رأسه إلى أخمص قدمه ، يطل على الدنيا من نافذة الصحافة ، ويرى الحياة والأحياء بعين الصحفى ، ولما كان – مع هذا – أديباً متذوقا للأدب ، فقد كان هذا بلا شك كسبا لصاحبة الجلالة ! وأخص صفاته : الألمعية واللباقة . . . وكلتاهما صفتان من صفات الصحفي الأصيل . والألمعية واللباقة تعجبات الجميل في الحياة والسلوك ، وفي الأدب والشعر ؛ كما تعجبانه في ميدان الصحافة . . . سرعة البديهة ، وحسن المدخل ، ولطف المأخذ ، والتاع الفكرة ، ورشاقة العبارة التفكير ، وبراعة. التصوير . . . كل أولئك من خصائص الصحفي الأصيل . وكلها من خصائص الجميل « الأديب » : وكلها مما يعجب الجميل « المتذوق للأدب » . . . وكلها كذلك مما يروق الجميل « الإنسان » ، في السلوك والحياة . ، ولسمر وقد عرف أنطون باشا في مجلس الشيوخ بأنه « حــلال المشكلات » و « همزة الوصل » و « صاحب ألبق الاقتراحات » . . . وكم من أزمات تفادي المجلس الاصطدام بصخرتها بفضل البراءة واللباقة والألمعية في أنطون الجميل عضو الشيوخ ! وهو في كل يوم يصنع مثل هذا في جريدة الأهرام ! وتطرد آراؤه – على هذه الأسس – في السلوك الشخصي ، وفي العمل - أنطون الجميـل الصحافي والأديب والناقد – ۲۷۰ الفني سواء بسواء... يدعى لإلقاء بعض المحاضرات على الشبان والشواب ، فيتحدث « الفضائل الصغيرة » وعن « العيوب الصغيرة » . . . أليست هذه العيوب )) وتلك الفضائل هي التي تبرز في الحياة اليومية ، وتطبع السلوك، وتؤثر في علاقات الأفراد الاجتماعية ؟ . . إن الفضائل الكبيرة ، والعيوب الكبيرة ، لما يميز الشخصيات الفذة النادرة ، وهذه لا تغنى الصحف الألمعي اللبق كثيراً . إنما تعنيه اليوميات وما هو بسبب اليوميات . تعنيه المناسبات الكثيرة المتكررة التي تلون الحياة اليومية ، وتدخل في يسر وسهولة إلى الدائرة الصحفية . واسمعه يعلل اختياره لموضوع « الفضائل الصغيرة » فيقول : « إن الحياة لا تمهد دائماً لجميع الناس الوقوف موقف البطولة ، والظهور في مظهر العظمة . ولكنها تمهد كل يوم ، ولكل منا ، موقفاً من مواقف الفضائل الصغيرة . « لا يعطى الشكل إنسان أن يعيش في أوج العز أو يموت بين طعن القنا وخفق البنود كما يريد المتنبي. ولكنه يعطى لكل إنسان أن يعيش عيشة الكرامة والاستقامة ، وأن يموت راضيا مطمئنا . ( ولا يعطى لكل إنسان أن يقف موقف السموأل ، فيضحي بابنه في سبيل جاره ، فيصبح مضرب المثل في الوفاء . ولكنه يعطى لكل منا أن يكون وفيا أمينا بلا طنطنة ولا إعلان . « لا يعطى لكل فتاة أن تكون كجان دارك نقود الجيوش وتهزم الأعداء ، فتنقذ وطنها ، ولكنه يتاح لكل فتاة ، وقد تسلحت بالعلم والفضل أن تطرد من بينها أعداء الجسم والروح ، فتحرر أسرتها من الخرافات والعادات البالية ... » الخ . واسمعه يضرب الأمثال على هذه « الفضائل الصغيرة » : _ - ۳۷۱ - « هي شيء من التساهل يحملنا على اغتفار أخطاء الناس ، يقابله التشدد مع أنفسنا فلا نغتفر لها زلاتها وإن كانت من الهنات الهيئات « وهى شيء من الإغضاء المقصود ، يجعلنا نغض الطرف عن عيوب غيرنا بدلا من تلك اليقظة المتنبهة للكشف عن عيوبهم المستورة ، وتقصيها في مكامنها . ه هي قليل من مرونة الفكر ، لقبول السليم من آراء أصدقائنا ، وإن لم تنطبق كل الانطباق على آرائنا » . الخ . « هي فضائل نستطيع أن نزاولها في كل يوم وفي كل ساعة ، وفي كل عمل، وفي كل قول . وهي مشتركة بين جميع طوائف الناس ، كبيرهم وصغيرهم ، وبين العصور ماضيها وحاضرها . « بل إذا شئتم قولوا : إنها الملابس العادية التي ترتديها كل يوم ، في حين أن الفضائل الكبرى هي الملابس الرسمية التي لا تظهر بها إلا في المواسم والأعياد . وإذا كان للثانية أناقتها وبهجتها ، فإن الأولى لها فائدة أهم ، وفيها سد . لحاجة ماسة » اللباقة .. ومستلزماتها : المرونة ، التسامح ، الإغضاء . في محاضرة ة « العيوب الصغيرة » على النسق ذاته ، يصف العيوب اليومية التي تقع لكل فرد ، وتزاولها كل نفس ، ويقرر أنها أشد أثراً في الحياة مما اعتدنا أن نسميه « الكبائر » أو العيوب الكبيرة ويضرب الأمثلة على العيوب الصغيرة . فيكون من بينها هذا المثال . وله دلالة خاصة فيما نحن بصدده ، على طبيعته التي أسلفنا عنها الحديث : صغير كثير الشيوع . وقد يبد في أول أمره لطيفاً خفيفاً ، « هناك ا ه عیب إلى القلوب ؛ ولكن ما أسهل ما ينقلب ثقيلا كريها ، وهو المزاح . « فاللطيف من المازحة يفكه النفس ، ويسرى عن الخاطر ، فيعرف المازح 6 - ۲۷۲ - الظريف اللبق أن يجعل مزاحه مزيجاً من المدح والنقد ؛ فلا يشير إلى عيب صغير في من يمازحه إلا ليظهر فيه فضيلة كبيرة . وإلا انقلب المزاح بين الإخوان استهزاء يذهب بالصفاء ، وسخرية تقطع الإخاء ، وهل نعتقد أننا بلا عيب حتى نسخر من عيوب الناس » . یم والذين عاشروا أنطون الجميل أو عاملوه يدركون أن هذه أخص خصائصه لا في المزاح وحده بل في الجد أيضا . فهو قد ينقدك ويوجه نظرك إلى عيب فيك . ولكنه لا يجرحك ، ولا ينسى أن يلف النقد في غلاف من الثناء أو الدعابة . إنها اللباقة هنا أيضاً تطل على الموقف وتعالجه في لطف دقيق . وإن الذين لا يعرفون الجميل ليستطيعون من قراءة ما يكتب أن يعرفوه ! ا

بهذه الروح تناول الجميل « شوقى » ... في كتابه المرسوم بهذا العنوان . نقده نقداً ملفوفاً ، وحدد مكانه في العالم الأدبي في لباقة . وأعجب في الوقت ذاته بلباقة شوقى ومهارته ومرونته في تفادي العقبات الشائكة ، واللف حول الصخرة التي يكلف تسلقها جهداً أكبر من جهد المهارة واللباقة ... ! تسلل في لباقة كاملة في أول الأمر إلى لقب شوقى « أمير الشعراء » فرد أصله إلى « شاعر الأمراء » على طريقة القلب في لغة العرب ! وتلك غمزة لطيفة تشير إلى ما كان للملابسات الرسمية في حياة شوقى من أثر في شهرته وتقديره . ولكن الجميل لا يعلق عليها هذا التعليق المكشوف ... بل يقول : « قالوا : إذا لقب « بأمير الشعراء » ، فلانه كان « شاعر الأمراء » على ا قاعدة القلب المعروفة عند العرب . « مدح أقيال مصر من إسماعيل ، إلى توفيق ، إلى عباس ، إلى حسين ، إلى فؤاد . وكثيراً ما ذهب صعوداً من الأحفاد إلى الأجداد ، فتطرق إلى مدح سعيد وإبراهيم ومحمد على ، بل رجع إلى التاريخ القديم يقلب صفحاته ، فيمدح - ۲۷۳ سلاطين مصر وخلفاءها وفراعينها ، ويتغنى بمآثرهم ، ويشدو بآثارهم ، مجيداً في جمعنا . مدحهم مدح عبد « وكذلك كان شأنه مع سلاطين بني عثمان الذين تعاقبوا على عهده . فكما الحميد أطرى رشاداً ؛ وكما أطرى رشاداً أشاد بمحمد الخامس(1) . وكما تغنى بعظمة السلاطين والخواقين ، تغنى بأبطال الحرية والدستور العثماني ، وكما أطنب بذكر سلاطين الاستانة أطنب بذكر رجال أنقرة . ا « فكان من وراء ذلك أن اتهمه البعض في صحة عقيدته السياسية ، وشك في نزاهة مبدئه الاجتماعي . وقيلت عنه أحياناً كلمات : الزلفي والتملق ؛ فزعموا أنه مداح السلطة أية كانت السلطة ، ومطرى القائمين بالأمر، أيا كان القائمون بالأمر . « تهمة لا تقوم على أساس ، إذا حللنا نفسية شوقي ، وتشكك بضمحل من نفسه إذا نظرنا إلى الحوادث والأحوال التي أحاطت بالشاعر ... الخ » . ويلاحظ القارى هنا أن « الجميل » ساق مسألتين : الأولى لقب شوق . والثانية اتهام شوقى ... فرد عن الثانية وحدها . وترك الأولى تستقر في الأذهان . . لباقة في بيان نشأة هذا اللقب ، وقيمته الحقيقية في تقدير النقد الأدبي الخالص بعيداً عن الملابسات والمسببات فأما تعليله لتقلب شوقي بين المبادئ والأشخاص فسنناقشه بعد قليل . إنما ننتقل في الكتاب صفحات ، لنراه يحدد في لباقة كاملة ، عمل شوقي في الشعر العربي : «لم يشد إلى قيثارة الشعر وتراً جديداً ؛ ولكنه عرف أن ينطق الأوتار القديمة بنات جديدة مستعذبة . فأوتار العود معدودة ، وهي هي ، ، عدا ونوعا ، تحت (۱) رشاد هو محمد الخامس . وهى فلتة قلم - . ( م – ۱۸ ) - ٣٧٤ - أنامل العازف ، ولكن كل عازف يفتن في النقر عليها ما شاء له الافتنان ، فيسمعنا الألحان . وألوان الشيح الشمسي واحدة ، ولكن كل منها الجديد من يبتدع من مزيجها شتى الألوان . ل وهكذا كانت أوتار القيثارة القديمة في يده ، تخرج ألحاناً مستجدة في كل ( موضوع » . وهذا تحديد دقيق لعمل شوقي في حقل الشعر العربي ، وإدراك صحيح لحقيقة هذا العمل ... أما ما جاوره من تبريرات ، وتحسينات ... فتلك هي اللباقة في عرض الحقائق بأسلوب لطيف ، ينقد ولا يجرح ، أو يجرح ولا يسيل الدماء ! ( ( أما دفاعه عن تقلب شوقى بين المبادئ والأشخاص . فنحن نسهب هنا في الاقتطاف منه، لأنه يصورقضية تحسن مناقشتها بالتفصيل . قال بعد الفقرات التي اقتطفناها هناك : « تهمة لا تقوم على أساس إذا حللنا نفسية شوقي ؛ وتشكك يضمحل من نفسه إذا نظرنا إلى الحوادث والأحوال التي أحاطت بالشاعر ، فحملته على تغيير اسم الممدوح دون أن يغير مطلبه من المدح ، وعلى تبديل العنوان دون أن يبدل ما تحت العنوان . فالنصائح هي هي مهما تغيرت المدائح ، وهو القائل : « ولى غرر الأخلاق في المدح والهوى » . « خدم الحرية لأنه أحبها ، ودعا إلى الإصلاح لأنه لمس الحاجة إليه ، وقال بوجوب نشر العلم ومكارم الأخلاق ، لأنه عرف أنها أساس العمران . ومن أجل ذلك خدم السلطة لأنه رآها واجبة لازمة لتحقيق جميع تلك المطالب . لا يصلح القوم فوضى لاسراة لهم ولا سراة إذا جهالهم « مدح جميع من ذكرنا من الملوك والأمراء ، ولكنه نصح لكل منهم سادوا - ۳۷۵ بالإصلاح ، واحترام الحرية ، والعمل على ترقية البلاد ، وحسن سياسة العبـاد ، ورفع منار العلم ، وهو يرى أن جميع هذه الأمور لا تتم في الشرق إلا على أيدى القائمين بالأمر فيه ، لأن الإصلاح إذا كان محققا ولا محالة ، كما يقولون ، إما من الأعلى وهو التحول ، وإما من الأدنى وهو الثورة ، فهو يريده عن طريق التحول ، أي من الأعلى : على يد صاحب السلطان . هذه هي نظريته الاجتماعية . فهو يطلب الخير لهذا المجتمع الشرقي عن هذه الطريق . ولا جال إلا الخير بين سرائري د يمدح الخديو عباسا ، ولكنه يقول له : لا يظهر الكبراء آية عزهم ويذكره وهو يفتتح الجامعة المصرية ، أن : ترك النفوس بلا علم ولا أدب وإذا قال لتوفيق : لدى شدة خبرية الرغبات حتى يـــزوا آية الأفكار ترك المريض بلاطب ولا آس لك مصر يجرى تحت عرشك نيلها ولك البلاد عريضها وطويلها فقد قال له في القصيدة نفسها : كانت خزائن ملكها بيد البلى نهبا مباحا للرقيب دخولها ألقت مفاتحها إليك فأصبحت بزن الزمان كنوزها ويكيلها « وإذا مدح إسماعيل أنصفه في قوله : لم ير الناس مثل أيام نعها كنت إن شئت بدل السعد حسا ك زماناً ولا كبؤسك عهدا وإذا شئت بدل النحس سعدا فاستنهض البانيين العلم والأدبا . وارفع له من حبال الحق قاعدة ومد من سبب الشورى لها طنبا « وإذا مدح الملك فؤاد عقب على المدح بقوله : إن سرك الملك تبنيه على أسس - ۲۷۶ يدعو الأزهريين إلى الالتفاف حول العرش : كونوا سياج العرش والتمسوا له « ولكنه يعلق على ذلك بقوله : وتقيأوا الدستور تحت ظلاله نصرا من الملك العزيز مؤزرا كنفا أهش من الرياض وانضرا « فماذا يهمنا اسم الممدوح ، وماذا يهم بنوع خاص ، الأجيال القادمة إذا كان المدح ينطوى على مثل هذه العظات والحكم البالغة . فليمدح الشاعر من شاء من الملوك ما دام يقول له : والعدل في الدولات أس ثابت يفنى الزمان وينقد الأجيالا أو ما دام مهیب به : إن ملكت النفوس فابغ رضاها فلها ثورة وفيها مضــاء يسكن الوحش للوثوب من الأس ر، فكيف الخلائق العقلاء « ألا يحتاج الشاعر – كما يحتاج الحكيم – إلى الحيلة ليحمل حملته على روح الاستبداد كما يفعل شوقى مشيرا إلى توت عنخ آمون : المستبد يطاق في ناووسه لا تحت تاجيه وفوق وثابه(۱) والفرد يؤمن شره في قبره كالسيف نام الشر خلف قرابه « ألا يعد الشاعر أبلغ مرشد وأهدى هاد – في مدح الملوك - إذا عرف أن يقول كشوق : زمان الفرد يا فرعون ولی ودالت دولة المتجــــــــبرينا وأصبحت الرعاة بكل أرض على حكم الرعية نازلينا فؤاد أجل بالدستور دنيا وأشرف منك بالاسلام دينا على جنباتها للمالكينا بني ( الدار(٢) ) التي لا عز إلا ولا استقلال إلا في ذراهـا لمتبوع ولا للتـــــابعينا (۲) دار النيابة (۱) الوثاب السرير الذي لا يبرح الملك عليه . - ۳۷۷ « أليس من البراءة أن تمدح المرء بمحمدة لتحببها إليه ، وأن تدم له منقصة لتكرهه فيها ؟ أليس ذلك ما فعله شوقى في قوله للسلطان محمد رشاد : جددت عهد ( الراشدين ) بسيرة نسج الرشاد لها على منواله بنيت على الشورى كصالح حكمهم وعلى حياة الرأي واستقلاله وفي قوله : وإذا سبا الفرد المسلط مجلسا

ألفيت أحرار الرجال عبيـــــــدا « بمثل هذا مدح شوقى الملوك والأمراء ، متخذا المديح في أغلب الأحيان وسيلة لطلب العدل والإنصاف في الرعية ولتمجيد الشورى والحرية ، كما رأيت في ما ذكرنا وما تجد منه الشيء الكثير في سواه . « وهكذا لم يغير عقيدته السياسية ومبدأه الاجتماعي ، فما هما في جميع مدائحه وإن تبدل اسم الممدوح . والشاعر شاعر أيا كان الروي الذي يختاره لقصيدته ، ما دامت نفسه حساسة وقريحته فياضة . وهل اسم الممدوح في جميع ما ذكرنا سوى الروى ؟ وقد قال هو نفسه : ولا يمضى جلال الخالدينا جلال الملك أيام وتمضى « ونعتقد أنه لا بد من شجاعة في النفس للاقدام على ذلك ، كما أنه لا بد من كثير من البراعة والمرونة واللباقة لهذا التغيير في الشكل دون التغيير في الجوهر حتى يتم ذلك بلا تبجح ولا تعصب للمبدأ الجديد . والتعصب كما هو معروف ملازم عادة لمن يذهب مذهبا جديدا ، في السياسة أو في الدين . وهذا ما عرف شوق أن يتجنبه » ... الخ ونحن نخالف الأستاذ المؤلف في هذا لأمرين اثنين : 6 - ۲۷۸ – الأول : أن المسافة بعيدة بين الشاعر والواعظ . فلا يحتج للشاعر بأنه قام بدور الوعظ والإرشاد . والثاني : أن الشاعر هنا لم يقم حتى بدور الواعظ . والعودة إلى التاريخ تكشف وجه الحق في الموضوع فالواعظ ذو الشخصية الذي يسلكه التاريخ في تاريخ الوعاظ ، ويعرف له قيمته في هذا المجال هو الواعظ الذي يوجه الأشخاص والتيارات ، لا الذي يتبع الأشخاص والتيارات ونحن حين نتتبع شوقى في مواعظه التي ضمنها أماديحه لا نراه مرة واحدة قام بدور الموجه ، إنما قام دائما بدور المحبذ للأمر الواقع حقيقة إذا ذكر الدستور لم يذكره في إبان النضال من أجله ، والتضحية في سبيله . وإنما يذكره بعد أن . يصبح قاعة ، ويدافع عن الدستور حين يكون الدستور في غير حاجة للدفاع ، ويصمت عنه حين يحتاج للذود والكفاح ! مدح عبد الحميد عدة مدائح قبل إعلان الدستور ، فلم يذكر الدستور مرة واحدة ، ثم رنى نكبته أديل عن السرير ، وهنا فقط نصح له أو تمنى له أن كان قد سمع لصوت الشعب وقبل الدستور ! وكذلك في مصر ، لم يتحدث عن زمان الفرد الذي ولى ، إلا بعد أن ولى فعلا . وبعد أن اختار الملك فؤاد أن يحكم بلاده حكما دستوريا فصدر دستور سنة 1973 . أما قبل ذلك فلم ينبس عن الدستور بكلمة . وأما بعد ذلك حين عطل الدستور . فصمت كذلك عن هذا الدستور . وكذلك الفضائل التي أثنى عليها في الممدوحين ، أثنى عليها بعد أن تقررت ، ولم يذكرها إطلاقا وهي فكرة براد تحقيقها وبذلك لم يكن شوقى واعظا ، بل كان مؤيدا لكل حالة واقعة بعد وقوعها – ۲۷۹ – ولقد كان – من غير شك – في جميع الأوقات ينفذ وصيته في « مجنون ليلى » إذا الفتنة اضطرمت في البلاد ورمت النجـــــــاة فكن إمعة فالنجاة والسلامة هي التي كانت تسير شوقى في أماديحه وموا اعظه كلها بحيث لا تكلفه جهدا ولا مشقة ولا تضحية من أي نوع ومن أي لون . وإذا احتاج هذا لشيء فإنما يحتاج إلى «كثير من البراعة والمرونة واللباقة » كما يقول الجميل باشا في فقرة سابقة. واسكنه لا يحتاج أبدا « إلى شجاعة في النفس الاقدام على ذلك ، كما يقول في الفقرة ذاتها ، فالسلامة مكفولة ، ولا ضرر من هذه النصائح ولا ضرار ! ! . . وعلى ذكر « التعصب » الذي ورد ذكره في السياق ، والذي « عرف شوقى كيف يتجنبه » أقرر أنه ليس كل تعصب ضيقا في آفاق النفس والفكر ولا كل تسامح رحابة نفس وفسحة عقل . فالتعصب في حالات كثيرة ثمرة اقتناع برسالة كبيرة . وجميع وأصحاب الدعوات الضخمة كانوا – على نحو من الأنحاء -- متعصبين لدعواتهم مصرين عليها . ولولا هذا ما نجحت تلك الدعوات الأنبيـاء 6 والتسامح قد يكون منشؤه حب السلامة واتقاء الضرر ، وضعف النفس عن الإصرار والمقاومة ، وعجزها عن بذل الجهد الذي يبذله عادة أصحاب المبادىء والعقائد وربما كانت الفترة التي عاش فيها شوقى أشد الفترات حاجة للتعصب المبادىء والدفاع عنها ، فقد كانت فترة اليقظة والنهضة في مبدئها . وهذه تحتاج إلى جهد وتضحية ، أكثر مما تحتاج إلى التراخي والاسترخاء وأصدق ما يقال عن شوقى : إن هذه لم تكن سماحة نفس ، وإنما كانت هي – ۲۸۰ سمة رجل البلاط الذي عليه أن يستقبل صاحب السلطة أيا كان ، بالانحناءة المحفوظة والابتسامة المعروفة . وهكذا كان يرحمه الله

وكذلك نحب أن نقف عند قول الجميل باشا : « وصفوة القول : إن شعره مرآة للرأى العام ، وتبع لتقلبات الحوادث يسجلها فيه ، ويرويها في تلك القصائد التي يتغنى بها أبناء العربية في كل قطر ، فتتجلى فيها نزعات الرأي العام أكثر مما تتجلى فيها مبادىء الشاعر السياسية » . فهذا صحيح . ولكنه يحتاج إلى التوضيح . إن الشاعر يكون مرآة للرأى العام . ولكن موقفه من انعكاس صورة الرأي العام في نفسه يختلف فشاعر كحافظ ند شوق وزميله . كان شعره مرآة للرأي العام . وكان هذا يتهيأ له لأنه هو نه هو واحد من هذه الجماهير ، لا يرتفع في إحساسه عنها . ولكنه ينفعل كما تنفعل ، ويستجيب للحوادث من داخل نفسه ، كما يستجيب أي فرد الشعب . فهو متصل بالشعب من الداخل ، وهو يحس في صميم نفسه ما يحسه الشعب كله . فإذا تحدث كان حديثه صدى الحرارة الكمينة الدفينة التي يشارك فيها كل فرد في شعوره . أما شوقي فلم يكن حسه كحس الجمهور ، ولم يكن التعاطف بينه وبين أفراد الشعب ينبع من داخل نفسه ، ولم يكن ينفعل بالحوادث في نفس اللحظة التي تنفعل فيها نفس كل فرد . إنما كان ينظر مهب الريح ، ويتأمل انفعالات الجمهور ، ويرقب مشاعر الشعب ... يفعل ذلك كله من الخارج ، ثم يعبر في اتجاه الجماهير فإذا سمعت الجماهير صوته وهي منفعلة بالحادث ومناسبته الحاضرة لم تفرق بين الحرارة النابعة من ضميرها ، والحرارة التي يبتها شعر شوقى فيها . فتهتف لشوق ، وهي في الواقع إنما تهتف لصورتها هي في مرآة شعره . 1 وما من شك أن هذه براعة تحسب لشوق من الناحية الفنية البحتة : أن يستطيع تصوير اتجاه الجماهير ، في الوقت الذي لا تنفعل نفسه بما تنفعل به نفوسهم ! ولكن «حافظ» – وهو أقل براءة من شوقى بلا جدال ، وأضيق أفقا وثقافة – أصدق حسا عما عنه ، وإن كان كلاهما لا يرتفع في إحساسه وتصوراته عن الجماهير العادية ، ولا يمتاز إلا بالقدرة على الأداء حيث لا تقدر الجماهير على هذا الأداء ! يعبر <- TAI - وهذا هو الوضع الصحيح – لشوقى ، ولحافظ – في كونهما عاشا مرآة للرأى العام .

  • * *

قرر الجميل باشا أن شوفى « لم يشد إلى قيثارة الشعر وترا جديدا ولكنه عرف كيف ينطق الأوتار القديمة بنغات جديدة مستعذبة » . ثم أخذ يستعرض الأوتار القديمة التي وقع عليها شوقى هذه النغمات الجديدة . فتحدث عن : « وتر الدين » و « وتر الوطن » و « وتر الحكمة » و « الوتر المصور » و « الوتر الخاص » في الغزل والرثاء ، والعواطف الشخصية على وجه العموم . وفي هذا الفصل تلخيص جيد لموضوعات شوقى واتجاهاته ، تدل على دراسة كاملة لشعر شوقى ، واستخلاص أوتاره الأساسية ، والاستشهاد عليها ی ... مقتطفات شتی والتعليق هنا على بعض هذه المختارات مفيد في فصل النقد ، ومصور للاتجاهات المختلفة في النظر إلى الأعمال الفنية الواحدة من زوايا متعددة !

    • ** *

يقول الناقد الأديب عند استعراضه للنفات التي عزفها شوقى على وتر الحكمة : ا ال اي فورية - ۲۸۲ – « وهناك وتر ثالث شده أمير الشعراء إلى قيثارته كما شده غيره من الشعراء عنيت به وتر الحكمة ، أو الاجتماعيات ، وله فيه أيضا الشيء الكثير . ولا عجب أن تكثر الحكم والنصائح وضروب الإرشاد في شعر من تقنى بالدين والوطن ولقد أشار شوقى نفسه إلى ذلك ، بل رأى الحكمة فنا من فنون الشعر الرئيسية . نصيحة ملؤها الإخلاص صادقة والنصح خالصه دين وإيمـان والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة أو حكمة ، فهو تقطيع وأوزان ید « وقد امتاز بما استخرجه من هذا النوع أيضا ، وطبعه بطابعه الخاص شأنه فيه شأنه في الألحان التي استنبطها من سائر الأوتار. « فقد امتازت حكمه واجتماعياته بسهولة معناها ، ورواء مبناها ، فجمعت إلى أبهة الحكمة وجلالتها ، عذوبة الحياة وطلاوتها . ففلسفته في الحياة فلسفة باسمة ، لا عبوس فيها ولا تجهم ، فهي الحكمة تحمل زهرا ؛ وهي فلسفة هيئة سهلة ، لا تصعيب فيها ولا تعقيد ، بل تبدو وضاحة المذهب ، سهلة المطلب ، لا يقصـد منها إلا إلى العدل والوئام ومكارم الأخلاق » . وفي اعتقادي أن المسألة هنا تحتاج إلى شيء من التحديد والتخصيص فالأولى أن نسمى حكمة شوقى : « مواعظ شوقی » » أو « اجتماعيات شوقی » كما )) 6 عبر عنها أنطون باشا في بعض المواضع . فهذا التعريف أدق وأكثر تحديدا لطبيعة هذا القسم من شعر شوقى والمسافة كبيرة بين الحكمة والموعظة ، فالحكمة تقتضى فلسفة خاصة وطابعا معينا . كالذي نلحظه في حكمة المتنبي مثلا أو حكمة المعرى ، وكلاهما يطبع فلسفته بطابعه فيعرف به ولو لم يذكر اسمه . ولا طابع لحكم شوقى ومواعظه فهي مواعظ شائعة لا تحمل سمة شخص معين . ولا تتناول إلا مسائل يومية كالحض على مكارم الأخلاق ! 4 ۲۸۳ - وأنطون باشا يقول : « امتازت حكمه واجتماعياته بسهولة معناها ورواء مبناها »

. وهذه ميزة في الصياغة لا في الطابع النفسي والعقلي . ويقول : « فلسفته في الحياة فلسفة باسمة لا عبوس فيها ولا تجهم » ... ونحن لم نلمح فلسفة معينة على الإطلاق لا باسمة ولا عابسة ، إلا إذا كان الأستاذ يعني ما أشار إليه مرة ، وهو أن شوقى لا يتعصب الذهب من المذاهب ، ولا يتحرج من استقبال الخلف والسلف والآراء المتضادة في يسر وهوادة . وهذا شيء آخر غير الابتسام والعبوس . إنه شيء من ليونة الأخلاق يلخصه البيت الذي اقتطفناء : إذا الفتنة اضطرمت في البلاد ورمت النجاة فكن إمعة الذي تسميته فلسفة شوقية ، وطابعا ظاهرا وهذا وحـده ، هو لحياته وشعره ! إننا نفهم من الفلسفة المعينة أن تكون كفلسفة المتنبى مثلا : فلسفة الصراع الأحياء . أو كفلسفة والغلاب والاقتحام تنبعث من الطبع الحي المصطرع مع المعرى : فلسفة التشاؤم المنعزل الزاري على الحياة في أساسها العميق فما فلسفة شوقي في مثل هذا المجال ؟ لا شيء إلا الحكم والمواعظ الشائعة التي لا تحمل فلسفة خاصة ، ولا تدل على مزاج معين لفرد خاص من بنى الإنسان .

ونتجاوز وتر الحكمة إلى وتر الوصف . فنرى مؤلف « شوقى » يختار بعض المقطوعات الوصفية . ونقف نحن منها أمام وصف شوقى لهيـكل أنس الوجـود حيث يقول : قف بتلك القصور في اليم غرقي ممسكا بعضها من الذعر بعضا کعذاري أخفين في الماء بضاً سابحات به وأيدين بضــا فمن الوجهة البصرية البحتة نرى هذا الوصف دقيقا ، ومن وجهة التشبيهات الشعرية نرى كذلك تشبيها في كل بيت – على حدة جميلا ولكن هنالك شيئاً آخر ، هو جمال التناسق في الظلال النفسية التي تلقيها التشبيهات لتؤثر في الحس ، فتغمره مشاعر خاصة إزاء المنظر المتخيل من وراء هذه الظلال . – ٢٨٤ - ( فتعالوا ننظر في الظلال النفسية لكل تشبيه من هذين التشبيهين : قف بتلك القصور في اليم غرق ممسكا بعضها من الذعر بعضا الذعر نحن إذن أمام مشهد غرق ، والفرق مذعورون يمسـك بعضهم من بعضاً والظل الذي يلقيه هذا المشهد في النفس هو ظل كئيب منبعث من شبح الفناء ، ومن مشهد الغرق ومن حركة الذعر . ففيه إذن ما يقبض الصدر ، .ويكمد النفس ، ويثير الأسى . وفى وسط هذا الجو القابض الآسى الحزين ننتقل فجأة إلى ظل آخر يلقيه البيت التالي : گذاري أخفين في الماء بضا سابحات به وأبدين يضا فأي شعور بالانطلاق والخفة والمرح ، يوحيه مشهد العذارى يرتدن المـاء سابحات ، يخفين في الماء بضاً ، ويبدين بضا ! إنه ظل لا يتسق بحال مع الظل الأول . والمفروض أن الشاعر إنسان حساس يتأثر بالمشاهد ، فتطبع شعوره في وقت ما بطابع معين . فأي الشعورين كان في نفس شوقى ، وهو يقف أمام هيكل أنس الوجود ؟ أهو شعور المرح والغبطة .والطلاقة والعبث فخطر له خاطر العذاري المرحات السابحات في الماء ؟ أم شعور الانقباض والكآبة والأسى ، فخطر له خاطر الغرق ممسكا بعضهم من الذعر ( – ۲۸۵ - بعضا ؟ أم إنها تشبيهات وعبارات وليس وراءها رصيد من شعور ، ولا عاطفة إنسانية – بله العاطفة الشاعرية – ؟ تلك سمة مطردة في كل أوصاف شوقى . تدل على أن المسألة كانت مسألة صياغة ومرانة عليها . لا مسألة حساسية شاعرية معينة . فالشاعر الذي يتحرك وجدانه أية حركة أمام المشاهد والحوادث ، يكون شعوره مطبوعا بطابع معين في اللحظة المعينة . ويكون انفعاله انفعال فرح أو ألم ، وصرح أو انقباض وسعادة أو شقاء ... إلى آخر الانفعالات الإنسانية الصادقة ، ولا يكون هكذا صرحاً إلى أقصى حدود المرح ، وكئيباً إلى أقصى حدود د الكآبة ، في لحظة واحدة أمام مشهد واحد ! t وتصحيح موقف واحد كهذا الموقف ربما كان ذا قيمة في بيان معنى الشعر والشاعرية للكثيرين من النظامين الوصافين في هذه الأيام الشاعر إنسان على الأقل . لا آلة تشبيهات وتعبيرات !!!

ونكتفي بهذا القدر من التعليق . ولكننا ننبه إلى ملابسة قد يكون لها دخل في موقف أنطون باشا في هذا الكتاب : الكتاب محاضرتان : قيلت إحداها بمناسبة تكريم شوقى ، وقيلت الثانية بمناسبة رثائه . وكلتا المناسبتين تقتضى مجاملة خاصة ، ولباقة خاصة . وقد كان أنطون باشا أن ينفذ بلباقته الأدبية الصحفية من خلال المجاملة فيقرر المسألتين اللتين سبقت الإشارة إليهما : مسألة « شاعر الأمراء » وعلاقتها « بأمير الشعراء » ومسألة : الأوتار التي ضرب عليها شوقى والقيثارة التي لم يشدد فيها وتراً جديداً والباقى جاء استعراضاً أكثر منه نقداً . وهو استعراض جامع دقيق فيه - ۲۸۶ - الباقة في العرض وبراعة في الأداء ، وجهد في الاختيار

أما أنطون الجميل الأديب الناقد فتجده في مقدمة ديوان « طانيوس عبده » سنة ١٩٢٥ حيث يلخص الخصائص ، ويبرز السمات الشخصية في أسلوب مصور تشع منه شاعرية في الإحساس وفي التعبير على السواء . ذلك حين يقول : « ما جلست يوما إلى طانيوس عبده إلا نظرت طويلا إلى ابتسامته وهى أشبه شيء أحيانا بالكشرة ، تشترك فيها شفتاه وعيناه ، فترتسم في حديثه وعند سکوته ، ارتساماً غريباً حاولت كثيراً إدراك معناه : أهي ابتسامة رضى واهتمام ، أم ابتسامة تزهد وازدراء ؟ أهي آية ارتياح وطمأنينة ، أم أثر ألم هاج نفساً مكلومة حزينة ؟ إنها لابتسامة غريبة مهمة ، كأنها نشأت في حنايا ضلوعه ، فلا ترى مصدرها ، ثم ظهرت ند فجوة فيه ، فاستقرت لحظة على زاوية شفتيه ، ی ثم ذهبت صعوداً إلى عينه ، فغارت منها في دماغه . وما كان أنفه الأقنى ، وقد اعترضها في الطريق التي ارتسمتها ، إلا ليزيدها إبهاماً ولبسا . فتبقى عندها بين الشك واليقين : أهي أثر دمعة جمدت في عينيه ؟ أم بداية ضحكة ستنطلق من بين شفتيه ؟ أهي الغلس الذي يعقبه إشراق النهار؟ أم الشفق الذي ينذر بزوال الأنوار ؟ ه إنى لألمح جميع معانى شعره بين تجهم وجهه ، وانبلاج تغره ! « قرأت ديوانه هـذا فرأيت تلك الابتسامة المبهمة مرسومة في قصائده وأبياته : تطل عليك من قوافيه ، تارة ساخرة منك ، وطوراً مشفقة عليك ، وحينا مرتاحة إليك ، فلا تدرى أتشاركه فيها ، أم تغت وتعض على ابتسامتك بالنواجذ وتداريها . « وكأن الشاعر قد تعمد حجب قلبه عن عين الرقيب . ليتركك بين الشك واليقين » و بعد أن يعرض مقتطفات شتى للشاعر يعلق عليها تعقيبا تحليلياً حاسماً فيقول: – ۲۸۷ – « ففي هذه الأبيات التي اقتطفناها من مختلف قصائده ، وفى الكثير غيرها مما لا متسع هنا لإيراده ، تراه دائماً أبداً جامعاً بين التقيضين مبنى ومعنى : البشاشة والانقباض . الضحك والبكاء ، الحزن والفرح ، دمع العين وضحك القلب ، الويل والنعمة ، الشؤم واليمن . افترار الثغر الحزين ، واكتئاب الوجه الباسم . « هذا شأنه في الشعر الذي أنشأ ، وفي الشعر الذي ترجم : استوقفته معان كثيرة في ترجماته القصصية ، فحفظ منها فقط ما كان صدى لشعوره معنى وحسنا ، فنظمه شعراً . « وهكذا يضرب دائماً على وتر واحـد ؛ ولكنه قادر على إخراج أنغام مختلفة على هذا الوتر . وتلك الأنغام المختلفة الطبقات ، المتنوعة الدقات والغنات ، ترجع دائماً إلى قرار واحد : الدمعة الضاحكة أو الضحكة الباكية » وهكذا يلخص طبيعة « طانيوس عبده » تلخيص ناقد شاعر في حسه وتعبيره ، فإذا رجعت إلى ديوان طانيوس رأيته مصداق هذا التلخيص الفذ . الفذ في كل ما كتب أنطون الجميل من نقد ومن تقدمات لدواوين الشعراء وهم كثيرون . ويقرب من هذه المقدمة البارعة كلمة كتبها عن « شاعرية خليل مطران » في « مجلة الزهور » سنة 1913 . يلخص فيها منابع شاعرية مطران ، وآثارها الواضحة في شعره "

. 6 وبعد فإن الألمعية واللباقة ها السمتان البارزتان في أنطون الجميل الأديب بروزهما في أنطون الجميل الصحافي وعضو الشيوخ . وإنه لصحافي من فرع رأسه إلى أخمص قدمه كما قلت في أول المقال . الناقد وقد وافق فراغي من هذه الكلمة الإنعام على أنطون الجميل الصحفى بالباشوية فرأيت أن أقتطف هنا مقدمة كلته : « شاعرية مطران » إذ كانت هذه الكلمة بمناسبة الانعام على خليل مطران الشاعر بنيشان : وهى تعطى نموذجا من براعة الاستهلال ولباقة العرض ، وتؤدى كذلك حق المناسبة ! قال : « على راية الفرقة يعلق القائد شارة المجد والشرف ؛ عند ما يبلى أفراد تلك الفرقة البلاء الحسن في مواقع القتال – ۲۸۸ - ) ))> « وفي ميدان النهضة الأدبية الحديثة أبلى شعراؤنا بلاء حسنا ، فكأن سمو أفندينا المعظم قد علق تلك الشارة على رايتهم إذ وضعها على صدر شاعرنا خليل مطران . فليهنأ الخليل حامل لواء الشعر المصرى وليهنأ النيشان الذي حلى بصدر يحوى الدر والجوهر ، وليحمد مليك البلاد على آلائه وليشكر « أما بعد فقد رأيت أن خير ما يصاغ من التهاني في مثل هذا الاحتفال الزاهر و حديث أطار حكم إياه . أيها السادة عن المحتفل به وعن شاعريته . هو مناسبة ومناسبة ، ودراسة ودراسة !

      • « دفاع عن البـــــلاغة »



للمرة الأولى بعد كتابي « عبد القاهر » في القرن الرابع الهجري ، تعرض قضية البلاغة على بساط البحث في هذا المحيط الشامل ، وتناقش بوصفها وحدة في بحث مستقل ، لا في صدد دراسة لكاتب أو كتاب١

ونحن قد تخالف الأستاذ في الكثير من قضايا هذا الكتاب كما نوافقه على أسس معينة لهـذا البحث . ولكن هذا كله شيء آخر لايمس القيمة الذاتية للكتاب في المكتبة العربية ، بوصفه أول علاج شامل لقضية البلاغة بعد كتابي عبد القاهر ، لا يقف فيه مؤلفه عند الأدب العربي وحده ، بل يسترشد كذلك بالنقاد الفرنسيين ، وبتطور المذاهب الأدبية هناك ، كما يسترشد بالنقاد العرب ، وتطور الأساليب في العصر الحديث .

وعنوان الكتاب قد يدل على موضوعه دلالة كافية « دفاع عن البلاغة » والأستاذ الزيات أولى الكتاب المعاصرين بالدفاع عن البلاغة فهو صاحب « مذهب التنسيق التعبيري» كما وضعت له عنوانه في كتابي القادم : « المذاهب الفنية المعاصرة » ذلك المذهب المتفرع عن المنفلوطي ، صاحب « مذهب الابتداع التعبيري » .

- ۲۹۰ - والذي يجعل للتعبير وتنسيقه أهمية كبرى في الفن بل الذي يجعل أساس العمل هذا « التنسيق التعبيري » الفني هو

الأستاذ في أساس القضية ، وهو أن العمل الفني في الأدب نحن نتفق مع لا يوصف بالجودة إلا أن يتهيأ للفكرة الجيدة ، أو الإحساس الجيد ، أسلوب جيد وعبارة جيدة ؛ وأن التعبير ليس نافلة في العمل الفني في الأدب ، وأنه لا يفسد ويرك ويتعقد ثم تبقى لهذا العمل قيمته الفنية « فالفكرة والصورة في الاسلوب كل لا يتجزأ ، ووحدة لا تتعدد . وليس أدل على اتحادها من أنك إذا غيرت في الصورة تغيرت الفكرة ، وإذا غيرت في الفكرة تغيرت الصورة . فقولك : أعنيك ، غيرقولك : إياك أعنى . وقولك : كل ذلك لم يكن غير قولك : لم يكن كل ذلك . وقولك : ما شاعر إلا فلان غير

ما فلان إلا شاعر . فترتيب الألفاظ في النطق لا يكون إلا بترتيب المعاني

قولك في الذهن » ... ص 60 « من ذلك نرى أن الأسلوب خلق مستمر : خلق الألفاظ بواسطة المعاني وخلق المعاني بواسطة الألفاظ . ومن ذلك نرى أن الأسلوب ليس هو المعنى وحده ، ولا اللفظ وحده ، وإنما هو مركب فنى من عناصر مختلفة ، يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه . تلك العناصر هي الأفكار والصور والعواطف ، ثم الألفاظ المركبة ، والمحسنات المختلفة . والمراد بالصور إبراز المعنى العقلي أو الحسى في صورة محسة . وبالعاطفة تحريك النفس لتميل إلى المعنى المعبر عنه أو لتنفر منه » . ص ٦٢ أوافق الأستاذ على هذا الأساس الذي عبرت عنه على طريقتي في كتاب « التصوير الفني في القرآن » والذي سبقنا إليه الإمام عبد القاهر فعبر عنه على طريقته في كتابه « دلائل الإعجاز » . كما قررت هذه الحقيقة في كتاب التصوير بهذه الفقرات : « وإنا لنحسب أن « عبد القاهر » قد وصل فيها إلى رأى حاسم حين انتهى إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ ، إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه ؛ وأن المعنى وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير ، إنما من حيث أنه ممثل في لفظ يدور البحث فيه . وأن المعنى مقيد في تحديده بالنظم الذي يؤدى به ، فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد - ۲۹۱ – عنه « لم يصغ « عبد القاهر » القضية هذه الصياغة المختصرة ، فنحن نترجم - وإلا فقد استغرق فيها كتابا لا نستطيع نقله هنا ، ولكن له فضله العظيم في تقرير هذه القضية ، ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها ابلغ الذروة في النقد الفنى . فنحن نقول عنه : إن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى ، وإنه حينما اختلفت طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد ، اختلفت صورتا هذا المعنى في النفس والذهن . وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطا لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد ، فلن يبرز المعنى الواحد إلا في صورة واحدة فإذا تغيرت الصورة تغير المعنى بمقدارها . وقد لا يتأثر المعنى العام في ذاته ، ولكن صورته في النفس والذهن تتغير . وهي المعول عليها في الفن ، إذ التعبير في الفن للتأثير – فإذا اختلف الأثر الناشىء عنه فالمعنى المنقول مختلف بلا مراء » . ص ۱۹۰ ويرتب الأستاذ الزيات على هذه الحقيقة نتائجها الطبيعية التي رتبها عليها بعض النقاد في الشرق والغرب ، ولكن في شيء من الحماسة قد يجاوز القصد قال في ص 66 : )) - . - ۲۹۲ - « وقد غالى علماؤنا البيانيون ، فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق ، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها ، فمن أخذ معنى بلفظه كان سارقا ، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالح) أخذه فكساه لفظا أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه(۱) ، ومن ألقاها « على أن هذا الرأى الجرىء لم يكن من رأى العرب وحدهم وإنما يراه معهم ( بوفون ) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن « الأسلوب » التي ا يوم دخل الأكاديمية الفرنسية : إن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس ، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه . « نعم قال بوفون : إن الأسلوب من الرجل نفسه ، ولم يقل : إن الأسلوب هو الرجل ، كما شاع ذلك على الألسنة ولم يرد بما قال ، إن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب ، ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس ؛ وإنما أراد أن الأسلوب ، ويعنى به النظام والحركة المودعين في الأفكار ، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة ؛ ومعنى ذلك أن الأفكار تكون قبل أن يفرغها الفنان في قالبه الخاص ، من الأملاك العامة ؛ فإذا عرف كيف يصوغها على الصورة اللازمة الملائمة تصبح ملكا خالصا له ، تسير في الناس موسومة بوسمه ، وتعيش في الحياة مقرونة باسمة ، فالأسلوب وحده هو الذي يملكك الأفكار وإن كانت لغيرك . ألا ترى أن أثر الأخلاق في بقاء الأمم وفنائها معنى من المعاني المأثورة المطروقة ، فلما أجاد شوق سبك اللفظ عليه في بيته المشهور : ( وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا أصبح بهذه الصيغة من حسناته المعدودة ، وأبياته المروية ! » ونحن – على اتفاقنا الأستاذ في المبدأ السابق – مختلف معه هنا كما مع (1) الصناعتين ص ١٤٦ - ۳۹۳ – مختلف مع الجاحظ صاحب نظرية المعاني الملقاة على قارعة الطريق . فإن كون العمل الفني يتألف من المعنى والصورة ، بحيث لا يمكن الفصل بينهما . لا يقتضى أن تكون الصورة وحدها هي العمل الفني الذي يثبت ملكيته لمن يجيده ، ولا يقتضى كذلك أن تكون جودة الصياغة كفيلة برفع المعنى إلى مرتبة الجودة ، كما جاء في بحث الأستاذ في مكان آخر حيث يقول في ص 73 : « إذا حلى في صدرك بعد ذلك أن تذهب إلى ما ذهبت إليه من أن تجويد الأسلوب يتضمن تجويد الفكرة ويضمن خلودها ، فدعك من أولئك الذين عادوا الكمال الفني بطبائعهم ... الخ » . أو حيث يقول في ص ٢٦ : « وليس أدل على أن الشأن الأول في البلاغة إنما هو لرونق اللفظ وبراءة التركيب ، من أن المعنى المبذول أو المرذول أو التافه قد يتسم بالجمال ، ويظفر بالخلود ، إذا جاد سبكه وحسن معرضه . ولا بأس أن أقدم إليك مثلا آلاف الأمثلة ، ، بلغ معناه الغاية في السوقية والفحش ، ، ومع ذا ذلك تحب أن تسمعه وتحفظه وتعيده لأنه بلغ من سر الصناعة غاية تطلع دونها أكثر الأقلام . « قال أبو العيناء الأعمى لابن ثوابة : بلغنى ما خاطبت به أبا الصقر ، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم ير عرضا فيمضغه ، ولا مجدا فيهدمه « فقال له ابن ثوابة : ما أنت والكلام یا مکدی(۱) ؟ « فقال أبو العيناء : لا ينكر على ابن ثمانين سنة ، قد ذهب بصره ، وجفاه سلطانه ، أن يعول على إخوانه ، ثم رماه بمعنى فاحش مكشوف . فقال ابن ثوابة : « الساعة آمر أحد غلماني بك . فقال أبو العيناء : (1) المكدى : من يسأل كلام الناس . « أيهما ؟ الذي إذا خلوت ركب ، أم الذي إذا ركبت خلا ؟ » . فانظر في هذه الجملة الأخيرة تره رمى ابن ثوابة في نفسه وفى زوجه ، وهما معنيان سوقيان يترددان كل ساعة على ألسنة السبابين من أوشاب العامة . وإنك مع ذلك تقف من هذه الجملة موقف المشدوه المعجب ، تحرك بها لسانك ، وتعمل فيها فكرك ، وتعرضها على مقاييس البلاغة وشروطها ، فتطول على كل قياس وتزيد على كل شرط » . إلى أن يقول في ص ٢٨ : - ٣٩٤ Do « فأنت ترى أن الصياغة وحدها هي التي سمت بهذه المعاني الخسيسة إلى أفق البلاغة فتداولتها الألسن ، وتناقلتها الكتب . وليس حال المعنى في ذلك حال اللفظ ، فإن اللفظ في ذاته كالموسيقى يخلب الأذن ، ويلذ الشعور وإن لم يترجم . أما المعنى فكالكهرباء ، إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل ، انقطع تياره ، فلا يعرب ولا يطرب . اقرأ قول القائل : لما أطعناكم في سخط خالقنا لا شك سل علينا سيف نقمته « ثم وازن معناء الشريف ونسجه السخيف ، بما رويت لك من كلام أبي العيناء فلا يسعك إلا أن تقول كما أقول : « إن القذر يوضع في آنية الذهب فيقبل ويحمل ، وإن المسك يوضع في تافية الطين فيرفض ويهمل » ونريد نحن أن نقف عند الحقيقة الأولى التي اتفقت فيها مع الأستاذ كل الاتفاق ، فتجاوزها قد يوقع في الزلل . والسبيل الأقوم في هذا المجال أن نقول : إن العمل الفني لا يكون بالفكرة الجيدة المبتكرة وحدها ، ولا بالإحساس الصادق الجميل وحده ، إنما يتم بالصورة الجميلة التي يبرز فيها المعنى والإحساس . . -7901 أما الصورة وحدها ، فلا تستطيع أن تخلق فنا إنسانياً خالداً إذا خلا من الإحساس الجميل الصادق ، ومن الفكرة العميقة المبتكرة ، ومن التصور الفذ الخاص ، هذه العناصر التي يجب أن يحسب لها حسابها في كل فن براد له السمو أو الخلود . وأقصى ما تصل إليه الصياغة أن ترفع المعنى أو الإحساس في صورة عنه في صورة أخرى ، ولكنها لا ترفع بذاتها عملا فنيا على عمل فني آخر ، إذا ارتفعت في الأول مع مفول معانيه ، وانخفضت في الثاني مع ارتفاع قيمته . إنها تصلح مقياسا حين تتحد الفكرة أو المعنى العام ثم تختلف الصورة ، ولكنها لا تصلح للقياس الدقيق حين يكون هناك فكرتان أو معنيان يختلفان في قيمتهما الإنسانية والشعورية . وهذه كلة أبي العيناء ، إنها ستبقى – على براعة صياغتها - مجرد نكتة لاذعة ، لا تتسامى إلى الآفاق الشعورية في الفن العالى ، وكذلك سيبقى بيت « شوقى » حكمة مكرورة شائعة ، ولكنها لا تسلك في مستوی المحكمة النابعة من طبع ذي خصوصية وامتياز . أما البيت الذي استشهد به الأستاذ على ما تصنعه الركة بالمعنى العالى ، فهو صالح كذلك للاستشهاد به على سوقية التفكير إذ لا خصوصية فيه ولا ارتفاع عن تفكير العوام . ی والخصوصية في الأحاسيس والمشاعر والأفكار شيء ثابت ، وله قيمته التي لاننكر ، وهي مناط الأصالة في الفن ، وكل ما نريده هو القول بأن هذه الخصوصية لا تبدو كاملة إلا في صورة جيدة الصياغة ، وفي أصالة أسلوب وتعبير ، تكافىء أصالة الشعور والتفكير ، وإلا بقيت مطموسة ناقصة لا تبدو في جلالها الكامل ولا ترقى إلى الآفاق العالية في الفنون . - 6 - ۲۹۶ - وقد تحدث الأستاذ عن الأصالة والخصوصية في الأسلوب حديثاً في غاية الجودة والصحة حين قال في ص ۸۲ : « يراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين من خصوصية اللفظ وطرافة العبارة ، وتلك هي الصفة الجوهرية للاسلوب البليغ ، والسمة المميزة للكاتب الحق ، وملاك الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس ، ملاكها أن تكون أصيلا في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك ، فلا تستعمل لفظاً عاما ، ولا تعبيراً محفوظاً ، ولا استعارة مشاعة . ولعلك قرأت فيها قرأت كلاماً يرضى اللغويين ويعجب النحاة ، ولكنه مضطرب الدلالة ، مختلف الألوان ، تفه المذاق ، لا تستقله روح ، ولا تمثله صورة ، ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة ، ولم يصدر عن الذهن ، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس وعبر بالجمل لا بالكلمات ، وأبان بالتقريب لا بالدقة ، وصور بالسوق المبتذل لا بالأصيل المبتكر » 6 وكان من حق الأصالة في الشعور والتفكير أن تنال من الأستاذ مانالته الأصالة في الأسلوب والتعبير ، فالمعاني والأحاسيس ليست شائعة ملقاة على جانب الطريق ، وإلا فأين تذهب الطبائع الأصيلة الممتازة التي ترى الدنيا والأشياء بعين خاصة ، فإذا هي تعيش في كون خاص بها من صنع أحاسيسها وتفكيرها ؟ تلك فلتة فلتات الحماسة للبلاغة من صاحب « دفاع عن البلاغة » يرد بها الغلو" في إنكار قيمة التعبير ، فيجعل المزية كلها للتعبير على أن الأستاذ يعود فيضع الأمر في نصابه إلى حد كبير في ص 78 حين يقول « خلص لنا من تخض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفنى يتكون من الصورة والفكرة ، كما يتكون الماء القراح من الهدروجين والأكسجين ، وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه ، فقد استحال في . - ۳۹۷ فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزأيه . ولا أقصد وجه الشبه بين الأسلوب والماء على تركب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب ؛ إنما أمد الشبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهيدروجين إلى الأكسجين في الماء ! وإذن لا يعد الأساليب الفنية تلك المعاني الحكيمة التي تعرض في معرض بشع من الركاكة والغثاثة والتعقيد والخطأ ، ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع ، وتبرق بريق الشرر ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة » ا ففي هذا التقرير قصد ودقة تعود بنا إلى الحقيقة الأولى التي اتفقنا عليها و تحسب لكل من الفكرة والصورة حسابها الصحيح . ويبلغ الأستاذ الزيات فصل الخطاب حين يتحدث عن « الذوق » فيقول في ص 33 : . 6 « ولكل لغة من اللغات المتمدنة عبقرية تستكن في طرق الأداء ، وتنوع الصور ، وتلاؤم الألفاظ . وهذه العبقرية لاتدرك إلا بالذوق . والذوق لا يعلم ، وإنما يكتسب بمخالطة الصفوة المختارة من رجال الأدب ، ومطالعة الروائع العالمية لعباقرة الفن . واطلاع الكاتب على الأمثلة الرفيعة من البيان الخالد يرهف ذوقه أفقه ، ويريه كيف تؤدى المعانى الدقيقة ، وتحيا الكلمات الميتة » . ولكي لا يقع اللبس في ما يعنيه الأستاذ بالكلمات الميتة ، نقتبس فقرات له في ص ۸۲ توضح هذا المعنى ، ولها في ذاتها قيمة في بيان قضية البلاغة : « وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق ؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم ؛ فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب ، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة ، دبت فيها الحياة ، وسرت فيها الحرارة ، وظهر عليها اللون ، ويوسع . امن و امان کا ایمان اور ان کا – ۳۹۸ – وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة ، إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة . وللكلمات أرواح كما قال ( موباسان ) . وأكثر القراء ، وإن شئت فقل أكثر الكتاب لا يطلبون منها غير المعاني . فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ، ولا عوض منها ، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها ، وهندس عليها ، ونفخت فيها الروح التي تعيد لها الحياة ، وترسل عليها الضوء ، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبعية والوضوح ، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة وذلك في الجهاد الفنى فوز غير قليل » . وهذا كلام جيد ، فلقد آن الأوان لأن نقدر قيمة الكلمة في تلوين الصورة الفنية ، فهي أشبه شيء باللون المعين في الصورة ، وكما تتبين مهارة المصور في اختيار الألوان وتنسيقها لتحدث التأثير اللازم في جو الصورة العام ، فكذلك اختيار الكلمات وتنسيقها لتشع ظلالها الخاصة ، وليتألف صورة منسقة . من هذه الظلال مجتمعة ( ( . 4 هذا الاختيار والتنسيق لا يتم كله عن طريق الوعى ، فهناك الذوق الخفى الذي تربى شيئا فشيئا ، وأساسه موهبة لدنية ، ولكن المرانة هي التي تبرز هذه الموهبة ، وتلونها ، وتجعلها في النهاية عاملا من عوامل الخلق والاختيار . ولقد غالت المدرسة العقلية في تقدير قيمة المعاني وإهمال قيمة اللفظ المصور ، اكتفاء باللفظ الدال . والمسألة هي تعريف هذا اللفظ الدال في الفن . فنحن قد نرتضى هذا الوصف للفظ ؛ ولكن على معنى أوسع مما تريده المدرسة العقلية في الفن . إن اللفظ لا يكون دالا في الفن بمجرد أدائه للمعنى اللغوى أو الذهني ، فذلك يصلح في العلم وربما في الفلسفة . ولكنه لا يكفي في الفن ، فالصورة - من وراء المعنى – هي المقصودة في الفن . واللفظ والعبارة يكونان - ۲۹۹ - دالين في الفن حين يؤديان المعنى الذهنى ، ويخلعان بجواره ظلالا معينة تتسق مع هذا المعنى ، ويحدثان في الوقت ذاته إيقاعا معيناً يتسق مع الغلال والمعانى . ومن مجموع هذه الخواص تتكون دلالة اللفظ أو العبارة في النص الفنى ، كما تتكون الصورة الفنية المعبرة عن فكرة فنية . وفي هذا المجال يتفاضل الأدباء وذلك مع عدم إهمال القيم الذاتية لخصائص الشعور ، وطبيعة التفكير . هذه القيم التي لا تبدو على حقيقتها إلا عند ما يعبر عنها في صورة جيدة كما أسلفنا الحديث

  • * *

« اكل لغة عبقرية تستكن في طرق الأداء ، وتنوع الصور وتلاؤم الألفاظ ورى الأستاذ الزيات أن عبقرية اللغة العربية من حيث طريقة الأداء تستكن في الإيجاز . وعبقريتها من حيث تلاؤم الألفاظ ، تستكن في السجع والإزدواج عن الأستاذ <( وهذه ملاحظة صادقة في تسجيل خصائص المأثور من البيان العربي . ولكن الدعوة إلى الوقوف عندها في أساليبنا المصرية ، هي التي تفترق فيهـا فلننظر فيما يقول في هذين الأصلين الكبيرين « إذا كانت الوجازة أصلا في بلاغات اللغات ، فإنها في بلاغة العربية أصل وروح وطبع . وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية ، والأخرى تفصيلية . يظهر ذلك في مثل قولك « قتل الإنسان ! » فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل . وهي معان لا تستطيع أن تعبر عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس . وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز 8 والاقتصار على الجوهر ، والتعبير بالكلمة الجامعة ، والاكتفاء باللمحة الدالة . كما ا ی أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق ، والإحاطة بالفروع ، والاهتمام بالملابسات ، والاستطراد إلى المناسبات ، والميل إلى الشرح . ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس . ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة ، أو ترجيح أسلوب على أسلوب ؛ فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج . والتفصيل إذا سلم من اللغو كان كالإجمال إذا برىء من الإخلال . وكلاها حسن في موقعه ، بليغ في بابه . وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه » وإلى هنا فالكلام جيد دقيق ، لأنه يكتفى بتقرير حالة واقعة في اعتدال وقصد . وإن كان في هذا التعميم ما يستحق بعض الاستدراك . فالميل إلى الإجمال أو التفصيل قد لا يكون مزاج أمة ولا لغة بهذا الإطلاق ، بل مزاج فرد أو جماعة في كل لغة . ولكن هذا الكلام مقبول في حدود السمات العامة للغات . ثم يقول : ا « اختصر في صفة واحدة صفات البلاغة في أساليب القرآن والحديث وأشعار الجاهليين وخطب الأمويين وكتب العباسيين فلن تكون هذه الصفة غير الإيجاز . « وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى ، وسهل ابن هرون يتوخون جانب القصـد ، ويؤثرون طريق الإيجاز . حتى قال جعفر للكتاب : « إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا » . والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال . وهي تجرى مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة » وهذا كلام جيد حين يراد به تسجيل حالة واقعة القرآن فلنا فيه رأي آخر سنيديه – أما حين يراد اتخاذه مثالا فلا .

- ۳۰ + - 1 ما عدا الكلام عن إيجاز - ۳۰۱ - ان طبيعة الموضوعات التي عالجها النثر العربي المأثور ، وأهمها الحكم والأمثال ، والتوقيعات ، والرسائل ، هي التي اقتضت هذا الإيجاز ، وكان سائغا فيها ولكنه في الشعر بدا عيبا في كثير من الأحيان . فعظم الشعر العربي يعمد إلى بلورة المعنى وإرساله كالقذيفة ، وقلما يعنى بتصوير الحالات النفسية ووصفها وبسط التجارب الشعورية التي تمتع الحس بتتبعها . إنه يخاطب الذهن غالبا بالمعنى الذهبي الأخير الذي لا يتمتع به إلا الذهن وحده . وفي هذا تتفوق طريقة الأداء في غير الشعر العربي : في الشعر الأوربي والهندي والفارسي . ولقد سبقت عدة فصول عن « طريقة الأداء في الشعر » وعن « الصور والظلال في الشعر » وكلها تبرز تقصير طريقة الأداء في الشعر العربي عن نظائرها في الشعر العالمي . والعيب كله راجع إلى بلورة المعاني ، واقتضاب التفصيلات . أي إلى هذا الايجاز الذي قد يفلح في شعر الحكم ، ولكنه يخفق في تصوير الحالات النفسية ، والخطرات الشعورية كل الإخفاق . كما يخفق في القصة التي تقتصى مزيداً ر العناية بالدقائق ، والإحاطة بالفروع ، والاهتمام بالملابسات » تلك الخصائص التي ذكر الأستاذ الزيات أنها من خصائص اللغات التفصيلية .... وقد نقل الأستاذ كلاما لابن الأثير في ص 94 ، له دلالته في موضوعنا : قال ابن الأثير « جلس إلى في بعض الأيام جماعة من الإخوان ، وأخذوا في مفاوضة الأحاديث ، وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم ، فذكر كل الجماعة شيئا . فقال شخص منهم : « إنى كنت بالجزيرة العمرية ، في زمن الملك فلان ، وكنت إذ ذاك صبيا صغيراً ، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية ، وصعدنا إلى سطح طاحون لبني فلان ، وأخذنا نلعب على السطح ، ۔ فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون ، فوطئه بغل من بغال الطاحون ، فخفنا أن – ۳۰۲ - يكون آذاه ، فأسر عنا النزول إليه ، فوجدناه قد وطئه البغل، فتنه ختانة صحيحة حسنة ، لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها » . «فقال له شخص من الحاضرين : والله إن هذا عي" فاحش ، وتطويل كثير لا حاجة إليه . فإنك بصدد أن تذكر أنك كنت صبيا تلعب مع الصبيان على سطح طاحون ، فوقع صبي منكم إلى أرضها ، فوطئه بغل من بغالها فختنه ولم يؤذه . ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه . ولو كانت بأقصى المغرب ، لم يكن ذلك قدحاً في غرابتها . وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان ، فإن مثال هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم بدونه » . وتعليق ابن الأثير على لسان « شخص من الحاضرين » هو نموذج من فهم العقلية العربية التقليدية للفن . فالمعنى هو المقصود ، المعنى في أوجز نفظ وأخصره ، مجرداً عن ظلاله وملابساته وظروفه . المعنى المركز في « برشامة » ! ونحن لا نتردد في إيثار طريقة صاحب الطاحونة – من الناحية القصصية – الجو والملابسات ، ويطيل التشويق ، ويتضمن المفاجأة في النهاية . وهو يصبح قصاصا ! أما لأنه يصور على تفاهة حكايته « صاحب فن » في روايتها صاحبه الآخر الذي رد عليه فرجل عجول ، وهو قد يكون أشد عروبة ، ولكنه ا ليس أحسن فنا ! أما القرآن فلم يتبع خطة واحدة موضعه ، وحسب الغرض النفسي الذي يتوخاه . وقد جاء في فصل « التناسق الفني في القرآن » من كتاب « التصوير الفنى في القرآن » ما بأنى : د بعض المشاهد يمر سريعا خاطفا ، يكاد يخطف البصر من سرعته ، ويكاد 6 لقد استخدم الإيجاز والإطناب كلا في « – ۳۰۳ - الخيال نفسه لا يلاحقه . وبعض المشاهد يطول ويطول حتى ليخيل للمرء في بعض الأحيان أنه لن يزول . وبعض هذه المشاهد الطويلة حافل بالحركة ، وبعضها شاخص لا يريم . وكل أولئك يتم تحقيقا لعرض خاص في المشهد ، يتسق مع الغرض العام للقرآن ، ويتم به التناسق في الإخراج أبدع النمام » ثم ضربت أمثلة متعددة للقصر الخاطف ، وأمثلة متعددة للطول المقصود في عرض المواقف . ويحسن أن أختار هنا مثالين من تلك الأمثلة الكثيرة : « 1 – يريد أن يصور للناس قصر هذه الحياة الدنيا التي تلهيهم عن الآخرة ، فيخرج القصر في هذه الصورة : « واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ، كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح » . ه ( « وانتهى شريط الحياة كله في هذه الجمل القصار ، وفي هذه المشاهد الثلاثة المتتابعة : « ماء أنزلناه من السماء » في « اختلط به نبات الأرض » ف « أصبح هشيما تذروه الرياح » . « ألا ما أقصرها حياة ! ی « ۲ – ويريد أن يبصر الناس بنعمة من نعم الله عليهم ، فيعرض عليهم هذه الصورة نفسها : صورة نزول الماء من السماء ، وإنبات الزرع به ، وصيرورته ولكن في تطويل وتريث وتفصيل ، لأن التذكير بالنعمة يقتضى حطاما ا التريث والتفصيل . فالقسم الأول من الصورة وهو نزول الماء من السماء يعرض هكذا : « الله الذي يرسل الرياح ، فتثير سحاباً ، فيبسطه في السماء كيف يشاء ، ويجعله كسفاً ، فترى الودق يخرج من خلاله ، فإذا أصاب" به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون » . والقسم الثاني بعد وصول الماء إلى الأرض يعرض هكذا : « ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به زرعاً مختلفا ألوانه ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم ا يجعله حطاما » (( - 17.21 فالرياح تثور ، فتثير السحب في السماء ، فيتراكم السحاب ، فيخرج منه المطر فينزل المطر من السماء ، فيستبشر به عباد الله . فإذا نزل إلى الأرض ، فلا يختلط بالأرض ولا بنبات الأرض – كما حدث هناك – إنما يسلك ينابيع . « ثم » – في تراخ – يخرج به زرعا . « ثم » - مرة أخرى – بهيج فتراه مصفراً – وفي الوقت مهلة لنراء – « ثم» - مرة - . « يجعله ! » وهناك « أصبح هشيا » كأنما هكذا من ثالثة – يحمله حطاما يصير ! نفسه بلا حاجة إلى مصير وفي مشاهد القيامة مثل هذا الإطناب وذلك الإيجاز ، وفي المواقف القصصية وفى كل موضع يقتضى التفصيل أو الإجمال ، فالقرآن في هذا خارج على مأثور النثر العربي . متميز بخصائصه الفنية في كل موقف وفي كل حال . }

فلننظر في السمة الثانية من سمات اللغة العربية ، في تلاؤم الألفاظ . وهى السجع والازدواج ، والازدواج بشكل خاص . يقول الأستاذ : ( « فالا زدواج على إطلاقه ، والسجع على تقييده ، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ ، منذ كان للعرب ذوق ، وللعربية أدب ، فليست الحال فيهما هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف ، وسمجت بالفضول ، وفسدت بالتكلف . فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف الأصوات ، والمزاوجة بين الكلمات ، والمجانسة بين الفواصل ، إما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله . وإذا أقررناهم على أن ذوق العصر بين 17.01 لا يسيغ ذلك البديع الذي أولع به كتاب العصر الخامس ، ومن خلف من بعدهم فذلك لأننا لا نقحم في ذلك البديع تلك الأنواع التي تحسب في عناصر الأسلوب وتنسب إلى خصائص اللغة ، كصحة المقابلة ، وحسن التقسيم ، وائتلاف اللفظ مع المعنى ، واتفاق الفقرة والفقرة في الوزن ، أو أتحاد الفاصلة في الروي" . « وأقطع الحجج على أن الازدواج والسجع من لوازم الأسلوب العربي أن القرآن ، وهو «كتاب أحكمة آياته ، ثم فصلت من لدن حكيم خبير » قد تجوز في بعض الألفاظ والصيغ محافظة عليهما » ونحن لا تجادل الأستاذ في أن السجع والازدواج أساسان من أسس النثر العربي المأثور – وندع الحديث عن القرآن إلى موضعه – ولا تجادله في أن فيهما جمالا حين يحسن استخدامهما . ولكن هذا لا يعني أنهما مفروضان ضربة لازب على الأساليب العصرية . وقبل كل شيء نود أن نقرر في صراحة . أنه إذا كان في اللغة العربية شعر يبلغ نهاية الجودة وقمة الفن – في بعض الأحيان – فإنه ليس في اللغة العربية نثر يتسم بهذه السمة ! إن الأسلوب النثرى المأثور في اللغة العربية أسلوب متخلف متصنع تنقصه الطلاقة والحيوية والاندفاع . ولم يبلغ النثر العربي يوما ما بلغه على أيدى كتاب العصر الحاضر، الذين أطلقوه من قيوده البطيئة في التعبير والتنغيم على السواء . وهذه حقيقة تنفعنا ، فإنه إذا جاز أن نتجه إلى الشعر العربي المأثور للمحاكاة والانتفاع ، فلا يجوز أن نتجه إلى النثر العربي المأثور إلا لتكوين الذوق اللغوى ، لا المحاكاة الفنية = وإيقاع السجع والازدواج – على تفاوت بينهما – هو إيقاع « التقاسيم » (۱) }} (1) أنا أستخدم كلمة مأثور مقابل - كلاسيك ، وأرى أنها تدل على كامل معناها بشطريه الجودة والاتباع بخلاف كلمة تقليدي . أو اتباعي. فانها تغفل شطر المعنى وهو سبب تقليده واتباعه ( م – ۲۰ ) - ۳۰۶ - الشرقية في الموسيقى ، فيه الإرنان المتوازي أو المتقابل . ولكن تنقصه الموجات العريضة العميقة ، وتنقصه الرفرفة الخفيفة والاندفاعات الطليقة، وهو على أية حال ليس إلا لونا واحداً من ألوان الإيقاع ، لا يصلح لجميع الأحوال . والتناسق الحقيقي اتفاق صورة الكلام وإيقاعه مع طبيعة الشعور الذي انبعث عنه ، والجو النفسي دو الذي يصوره . وهو بهذا الوضع جزء من دلالة العبارة كالمعنى الذهني سواء والسجع والازدواج لا ينفسحان للتعبير عن جميع الصور النفسية . ثم نصل إلى الحديث عن القرآن وأنا الذي ألفت كتابا كاملا عن « التصوير الفني في القرآن » وأبرزت سمة ا « الإيقاع الموسيقى » في هذا التصوير ، لا أتردد في الجهر بأن القرآن لم يستخدم السجع والازدواج في كافة أغراضه ، بل استخدمهما في المواضع الخطابية التأثيرية وفى هذه المواضع وأمثالها دون سائر الأغراض بحسن السجع والازدواج . فإذا خطر لنا أن نتأثر أسلوب القرآن ، فلنعرف مواضع كل طريقة من طرق الأداء فيه . ولنفرق بين السمات المطردة فيه ، والسمات الخاصة بموضع دون موضع فطريقة التعبير بالتصوير سمة مطردة . أما الايقاع في السجع والازدواج فسمة موضعية ومن هنا يأتي الخطأ لجماعة ممن يمن لهم تقليد أسلوب القرآن في العصر الحديث . فهم لا يقلدونه في طريقة التعبير بالتصوير ، ولكن في طريقة تركيب الجمل وتنسيق العبارات . ولقد دعوت مرة إلى التأثر بطريقة الأداء القرآنية ، وعنيت بها الصور والظلال وتجانس الصور والإيقاع . ولكني لم أعن تركيب الجمل على النسق القرآني في كل المواضع والموضوعات . وهناك أساليبه الطليقة التي استخدمها للشرح والتقرير ، والأساليب التأثيرية التي استخدمها في مواضع خاصة تصلح لهذه المواضع ، ولا تطرد في كل المواقف . وهذا مفصل القول في هذا الموضوع الدقيق .

.

« بين الفلسفة والأدب »

لعـــــــــلـى أدهم

عنوان يلخص الكتاب، ويلخص الكاتب في الوقت ذاته – وهي مصادفة فذة ! – فالكتاب بين اتجاهين في كل موضوعاته : إما فلسفة الأدب، وإما أدب الفلسفة. والكاتب كذلك في هذا الكتاب وفي سواه من كتبه وبحوثه يتجه إلى هذين الاتجاهين ؛ فهما قطبا تفكيره وإحساسه بالحياة. سواء كتب في الأدب أو الفلسفة أو التاريخ. وهي موضوعاته المختارة.

أخرج قبل هذا الكتاب : محاورات رينان ( مترجمة)، وصقر قريش، وتلاقى الأكفاء، والمنصور بن أبي عامر، والخطايا السبع ( مترجمة). والمذاهب السياسية المعاصرة، ونظرات في الحياة والمجتمع. كما نشر عشرات الفصول في شتى المجلات في مثل هذه الموضوعات.

وحينما نظرت في عمل من أعماله لاحظت أنه ينظر للأدب بعين الفيلسوف، ويتذوق الفلسفة بحس الأديب، ويتناول الشخصيات والحوادث بشعور مزيج من الفلسفة والأدب على السواء.

والأستاذ أدهم هنا في كتابه الجديد يجول في ميدانه الأصيل، ويستخدم أفضل ملكاته، فينتج أفضل نتاجه. فالكتاب مجموعة فصول متفرقة يلخصها العنوان المتقدم، وتحتوى على الموضوعات التالية بعد المقدمة : « ملتقى الشعر والفلسفة، موازنة بين أبي العلاء وشوبنهاور، أبو العلاء وفلسفة التاريخ تولستوى وفلسفة التاريخ، شوبنهاور وفلسفة التاريخ، فكرة التقدم، فلسفة - ۳۰۸ - تاريخ الفلسفة ، بين الفن والفلسفة ، البطل والإنسان الأعلى ، السياسة والأخلاق التمرد على العقل ، التاريخ والأبطال فهى من حيث الموضوع تلخص اتجاهاته جميعا على حسب ما أسلفنا . وهي من حيث الشكل فصول مستقلة كل فصل يتضمن فكرة . وفي هذا النحو من الكتابة يتفوق الأستاذ على أدهم . فهو هنا خير منه في أي كتاب ذي موضوع واحد ، وفصول مترابطة داخل هذا الموضوع . وهوفي دراسة الأفكار خير منه في دراسة الشخصيات الدقة ولست أدرى إن كان هذا القول يسره أو يغضبه . ولكنه هو الواقع – في يكتب بحثاً في مقال تتجلى أفضل خصائصه من تقدیری – فهو حين والعمق والوضوح ، والإحاطة بأطراف موضوعه ، وتجليتها للقارىء ، بحيث تعطيه الكفاية التي يستريح إليها في حيز محدود ؛ وبحيث يشعر أن في هذا الفصل غناء ، ما لم يكن من هواة المراجع المطولة في الموضوع الذي يطالعه . فهو كاتب مقالة مجيد ، بل هو في الصف الأول عندنا من كتاب المقالة ويحسن أن أصوب هنا خطأ أو بدعة يروجها من يفهمون الأدب كما يفهمه عشاق الأزياء و « الموديلات » ! ( t لدينا طائفة من هؤلاء يفهمون أن لفنون الأدب مواسم ومواعيد ، ولكل فن أو لكل « موديل » إبتانا معيناً لا يتعداه . فأدب المقالة قد انتهى في عرف هؤلاء المتحذلقة ، كما أن الأوان هو أوان القصة ، وكل ما ليس بقصة فهو فصل متخلف في الأدب . وفي وقت ما كان المطلوب من الأدباء أن يكتبوا تراجم أو يوميات . وكان المطلوب من الشعراء أن يكتبوا ملاحم أو مسرحيات ! كما يطلب من الأدباء اليوم أن يكتبوا قصة أو أقصوصة ، وإلا فهم متخلفون ! - ۰۹ كل هذه الحذلقات منشؤها ضيق الأفق ، وضعف التذوق والنظرة إلى الأدب كالنظرة إلى الأزياء كما أسلفت ، لكل ذي موعد وإبان ! والحقيقة أن لكل لون من ألوان الأدب موسمه الحاضر في كل آن ، والعبرة هي بطريقة التناول لا بشكله ، وكل ميسر لما خلق له ، وكل أدب أصيل في ذاته فهو أصيل في شكله على تعدد الأشكال ، وتباعد الأعصار ، والمفاضلة بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي به مفاضلة زائفة ، فالفنون كلها من هذه الناحية سواء . وإذا لم يكن بد من المفاضلة ، فإنني أحس أن كتابة « المقالة » قد تكون أشقها جميعاً . إذا أردنا أن تحصل على مقالة جيدة ، فلا بد في المقالة من فكرة وموضوع ، ولا بد من تنسيق داخلي في تسلسل الموضوع ، لا يقل عن التنسيق الخارجي بين الفصول المتعددة في الكتاب أو القصة أو المسرحية أو في الترجمة . وأقل فراغ في المقالة أو تقصير يظهر للقارى بارزاً ، في حين قد تختفى هذه المواضع في القصة ، لأن الحكاية أو الحبكة تغطى عليها ولا أحب أن أرتكب الغلطة ذاتها التي يقع فيها من يفاضلون بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي فيه . ولكني أريد فقط أن أقول : إن أدب المقالة ليس أسهل ولا أقل مؤنة من سائر الآداب . ونعود إلى كتاب الأستاذ أدهم ، فأقرر أننى خرجت من كل فصل من فصوله بفكرة واضحة كاملة عن موضوعه « مقالة » أن تحيط بمقدار ما تستطيع بحدود الموضوع – وكل فصل من هذه الفصول لا يقف عند إعطاء فكرة عن الموضوع الذي يعالجه ، بل هو يصلح مرجعاً قريباً للباحث في موضوعه ، وعلى الأقل مفتاحا لمراجعه ودليلا إلى هذه المراجع مأمون الإشارة ، موثوقا بصدقه في الهداية إلى الطريق ! - - . - ۳۱۰ - ويشعر القاري – مع سهولة الأداء ودقته ووضوحه – بأن هناك جهداً ضخها قد بذل في التحضير، وإخلاصاً للبحث قد توافر في المراجعة ، وتثبتا وتدقيقاً أمام الجزئيات التي يعرض لها ... وهذه الخصائص هي أقوى ما تطلبه من کاتب يقدم لك قطافه من شتى حدائق الفكر في الشرق والغرب في حيز صغير محدود . كذلك يشعر القارى" في نهاية قراءته للكتاب أنه خير منه وأوسع نظرة إلى الأدب والأشخاص والحياة قبل أن يقرأه – وهذه ميزة ليست بالقليلة ، وليست كذلك بالشائعة في الكثير مما تخرجه المطبعة العربية من سيل الكتب في السنوات الأخيرة – بل لا أبالغ إذا قلت : إنها لا تتوافر إلا لعدد محدود من الكتب الكثيرة التي تصدر في كل عام . م الدقة ومع أن طبيعة الموضوعات التي تناولها الأستاذ على أدهم تجعل مجال الخلق الفنى فيهـا محدوداً ، إلا أنها استعاضت هذه السمة سمات أخرى والعمق والوضوح تجعلها في النهاية عملا فنيا في هذا الحيز المعلوم ، وبخاصة ذلك الفصل القيم الذي كتبه عن أبي العلاء ، فهو من أفضل ما قرأت عن المعري في القديم والحديث . وقد جاء في مقدمة المؤلف قوله : « عمل المفكرين والفلاسفة هو إعداد الجو الذي يموج بمختلف الآراء والمذاهب والنظريات. ومن طبيعة القوة الخالقة أنها لا تكشف الأفكار، ولاتبتكر النظريات ، ولا توجد المذاهب الفكرية ؛ لأنها موكلة بالبناء والتركيب والإنشاء ، وليس من أربها الكشف والتحليل والتوضيح والتفسير ؛ فهي تتناول الأفكار والمذاهب والنظريات ، وتنفخ فيها روح الحياة ، وتضفى عليها الحلل السابغة والألوان الزاهية . ولكى يزدهر الأدب ويسمو الفن ، لابد من وجود الجو المليء بالأفكار ، الحافل بالمذاهب والنظريات ، ومن ثم كانت أزمة الخلق الأدبي العظيم في تواريخ الآداب قليلة نادرة ؛ وبلوغ هذه الذروة في الأدب هذا - ۱۱ - والفن يستلزم تلاقى قوتين : قوة العبقرية الخالقة ، وقوة الزمن . والشاعر أو الكاتب أو الفنان يسمو فنه ويتسع أفقه إذا عرف أشياء قيمة عن الحياة والدنيا قبل أن يتناولها في فنه ؛ والتفكير الفلسفي يجدى على الأدب ويزيد ثروة الخيال ، ويعين على إطلاق العقول من قيود الأهواء والنعرات ، وتصفيتها من شوائب التعصب والضيق ؛ وتأمل عظمة الكون وجلاله ، يكسب الفكر عظمة وجلالا . وقد تخفق الفلسفة في معالجة مشكلات الحياة ومسائل الوجود ، وربما كانت تلك المشكلات والمسائل من وراء طاقة عقولنا المحدودة ؛ ولكني أعتقد أنها توفق على الدوام في شيء واحد ، وهو أنها ترينا أن الكون أرحب ممـا نقدر ، وأعظم مما نرى » وهذه كلمات جيدة ، وهى تعطى القاري فكرة عن طريقة المؤلف في تناول موضوعاته ؛ وفكرة عن نظرته للحياة والأدب والفلسفة أيضاً . وهي جديرة بأن تفتح أعين الأدباء الخالقين من الشعراء والقصاصين وغيرهم على أن الموهبة وحدها لا تكفى ، فلا بد من التزود والاطلاع ، لا في موضوع فنهم وحده ، ده ، ولكن في محيط أوسع ، يشمل الفلسفة فيما يشمل . ومع أننى أنا شخصياً ممن يدعون إلى تخليص الفن ، والشعر خاصة ، من ربقة الذهنيات ؛ إلا أن القصد والاعتدال والدقة في بيان الأستاذ أدهم لمنطقة الفلسفة ومنطقة الفن في مقدمته وفي الفصول التي تلتها ، تجعلني أتفق معه في وجوب تنوع الدراسات والثقافات لمن يريد أن ينشى" فنا ذا قيمة إنسانية . وكل ما أبديه من تحفظات ألا تظهر الذهنية ، وقد أغالى فأقول : بل هو الفكرية . في العمل الفني ، وبخاصة الشعر الذي أحب له أن ينطلق مرفرفاً متخففاً من أثقال الذهن المقيد ، والفكر الواعي على قدر الإمكان . t - ۳۱۲ – وفى النهاية أذكر أن كتاب الأستاذ أدهم قد حقق في اللغة العربية قسطه المناسب من هذا الغرض الذي يريده مؤلفه . وهو « تزويد الثقافة المصرية العربية الشرقية بطائفة من الأفكار والآراء والنظريات التي تمهد السبيل للخلق الأدبى والفني العظيمين » وقد حقق هذا الغرض بأكثر مما حققتها كتب كاملة ظهرت في بعض الموضوعات التي تناولها أو في موضوعات قريبة منها . وذلك بلا شك فصول مختصرة في كتاب



خطأ استشهاد: وسوم <ref> موجودة لمجموعة اسمها "arabic-indic"، ولكن لم يتم العثور على وسم <references group="arabic-indic"/>