كتاب حجة الوداع/الفصل الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الفصل الأول خلاصة في أعمال الحج

أعلم رسول الله الناس أنه حاج ، ثم أمر بالخروج للحج فأصاب الناس بالمدينة جدري أو حصبة ، منعت من شاء الله تعالى أن تمنع من الحج معه ، فأعلم رسول الله أن عمرة في رمضان تعدل حجة ، وخرج رسول الله عامدا إلى مكة عام حجة الوداع التي لم يحج من المدينة منذ هاجر إليها غيرها ، فأخذ على طريق الشجرة ، وذلك يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن ، وبعد أن صلى الظهر بالمدينة وصلى العصر من ذلك اليوم بذي الحليفة ، وبات بذي الحليفة ليلة الجمعة ، وطاف تلك الليلة على نسائه ، ثم اغتسل ، ثم صلى الصبح بها ، ثم طيبته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بيدها بذريرة وطيب فيه مسك ، ثم أحرم ولم يغسل الطيب ، ثم لبد رأسه وقلد بدنته بنعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن وسلت الدم عنها ، وكانت هدي تطوع ، وكان ، ساق الهدي مع نفسه ثم ركب راحلته ، وأهل حين انبعثت به من عند المسجد ، مسجد ذي الحليفة بالقران بالعمرة والحج معا ، وذلك قبل الظهر بيسير ، وقال للناس بذي الحليفة : « من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليفعل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل » .

وكان معه من الناس جموع ، لا يحصيها إلا خالقهم ورازقهم عز وجل ، ثم لبى رسول الله ، فقال  : « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك » ، وقد روي أنه زاد على ذلك ، فقال  : « لبيك إله الحق » ، وأتاه جبريل ، فأمره أن يأمر أصحابه بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ، وولدت أسماء بنت عميس الخثعمية زوج أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، محمد بن أبي بكر ، فأمرها رسول الله أن تغتسل وتستثفر بثوب ، وتحرم وتهل ، ثم نهض وصلى الظهر بالبيداء ، ثم تمادى واستهل هلال ذي الحجة ليلة الخميس ، ليلة اليوم الثامن من يوم خروجه من المدينة ، فلما كان بسرف حاضت عائشة رضي الله عنها ، وكانت قد أهلت بعمرة ، فأمرها رسول الله أن تغتسل وتنقض رأسها وتمتشط وتترك العمرة وتدعها وترفضها ، ولم تحل منها وتدخل على العمرة حجا ، وتعمل جميع أعمال الحج إلا الطواف بالبيت ، ما لم تطهر . وقال وهو بسرف للناس : « من لم يكن منكم معه هدي ، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا » ، فمنهم من جعلها عمرة كما أبيح له ، ومنهم من تمادى على نية الحج ولم يجعلها عمرة ، وهذا فيمن لا هدي معه ، وأما من معه الهدي فلم يجعلها عمرة أصلا وأمر في بعض طريقه ذلك من معه شاء أن يهل بالقران : بالحج والعمرة معا . ثم نهض إلى أن نزل بذي طوى ، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون لذي الحجة ، وصلى الصبح بها ، ودخل مكة نهارا من أعلاها من كداء من الثنية العليا صبيحة يوم الأحد المذكور المؤرخ فاستلم الحجر الأسود ، وطاف رسول الله بالكعبة سبعا ، رمل ثلاثا منها ومشى أربعا يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوفة ، ولا يمس الركنين الآخرين اللذين في الحجر ، وقال بينهما { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ثم صلى عند مقام إبراهيم ركعتين ، يقرأ فيهما مع أم القرآن قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد جعل المقام بينه وبين الكعبة ، وقرأ إذ أتى المقام قبل أن يركع { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه ، ثم خرج إلى الصفا والمروة ، فقرأ ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) « أبدأ بما بدأ الله به » ، فطاف بين الصفا والمروة أيضا سبعا راكبا على بعيره ، يخب ثلاثا ويمشي أربعا ، إذا رقي على الصفا استقبل الكعبة ونظر إلى البيت ووحد الله وكبره ، وقال  : « لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده » ، ثم يدعو ، ثم يفعل على المروة مثل ذلك ، فلما أكمل الطواف والسعي أمر كل من لا هدي معه بالإحلال حتما ولا بد ؛ قارنا كان أو مفردا ، وأن يحلوا الحل كله ، من وطء النساء والطيب والمخيط ، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية وهو يوم منى ، فيهلوا حينئذ بالحج ويحرموا حين ذلك عند نهوضهم إلى منى ، وأمر من معه الهدي بالبقاء على إحرامهم ، وقال لهم حينئذ إذ تردد بعضهم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته ، ولجعلتها عمرة ، ولأحللت كما أحللتم ، ولكني سقت الهدي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي » .

وكان أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعلي ورجال من أهل الوفر ساقوا الهدي ، فلم يحلوا وبقوا محرمين ، كما بقي محرما ؛ لأنه كان ساق الهدي مع نفسه ، وكان أمهات المؤمنين لم يسقن هديا فأحللن ، وكن قارنات حج وعمرة ، وكذلك فاطمة بنت النبي وأسماء بنت أبي بكر ، أحلتا حاشا عائشة ، رضي الله عنها ، فإنها من أجل حيضها لم تحل كما ذكرنا ، وشكا علي فاطمة إلى النبي إذ أحلت فصدقها النبي في أنه هو أمرها بذلك ، وحينئذ سأله سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ، فقال : يا رسول الله متعتنا هذه ، ألعامنا هذا أم للأبد ؟

فشبك بين أصابعه ، وقال : « بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة » ، وأمر من جاء إلى الحج على غير الطريق التي أتى عليها ممن أهل بإهلال كإهلاله أن يثبتوا على أحوالهم ، فمن ساق معه الهدي لم يحل ، فكان علي في أهل هذه الصفة ، ومن كان منهم لم يسق الهدي أن يحل ، فكان أبو موسى الأشعري من أهل هذه الصفة ، وأقام بمكة محرما من أجل هديه يوم الأحد المذكور والاثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس ثم نهض صلى الله عليه وسلم ضحوة يوم الخميس ، وهو يوم منى ، وهو يوم التروية مع الناس إلى منى ، وفي ذلك الوقت أحرم بالحج من الأبطح كل من كان أحل من الصحابة رضي الله عنهم ، فأحرموا في نهوضهم إلى منى في اليوم المذكور ، فصلى رسول الله بمنى الظهر من يوم الخميس المذكور والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، وبات بها ليلة الجمعة ، وصلى بها الصبح من يوم الجمعة ثم نهض ، بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور إلى عرفة بعد أن أمر بأن تضرب له قبة من شعر بنمرة ، فأتى عرفة ، ونزل في قبته التي ذكرنا ، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء ، فرحلت له ، ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس على راحلته خطبة ذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض ، ووضع فيها أمور الجاهلية ودماءها ، وأول ما وضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد بن بكر من هوازن ، فقتله هذيل ، وذكر النسابون أنه كان صغيرا يحبو أمام البيوت ، وكان اسمه آدم ، فأصابه حجر غائر أو سهم غرب ، من يد رجل من بني هذيل فمات ، ثم نرجع إلى وصف عمله ، ووضع أيضا في خطبته بعرفة ربا الجاهلية ، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس رضي الله عنه ، وأوصى بالنساء خيرا وأباحهم ضربهن غير مبرح ، إن عصين بما لا يحل وقضى لهن بالرزق والكسوة بالمعروف على أزواجهن .

وأمر بالاعتصام بعده بكتاب الله عز وجل وأخبر أنه لن يضل من اعتصم به وأشهد الله عز وجل على الناس أنه قد بلغهم ما يلزمهم ، فاعترف الناس بذلك ، وأمر أن يبلغ ذلك الشاهد الغائب ، وبعثت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية ، وهي أم عبد الله بن العباس لبنا في قدح فشربه أمام الناس ، وهو على بعيره فعلموا أنه لم يكن صائما في يومه ذلك ، فلما أتم الخطبة المذكورة أمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، لكن صلاهما بالناس مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد لهما معا وبإقامتين ، لكل صلاة منهما إقامة ، ثم ركب راحلته حتى أتى الموقف ، فاستقبل القبلة وجعل جبل المشاة بين يديه ، فلم يزل واقفا للدعاء ، وهنالك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم في جملة الحجيج فمات ، فأمر رسول الله بأن يكفن في ثوبيه ولا يمس بطيب ولا يحنط ولا يغطى رأسه ولا وجهه ، وأخبر أنه يبعث يوم القيامة ملبيا ، وسأله قوم من أهل نجد هنالك عن الحج ، فأعلمهم بوجوب الوقوف بعرفة ووقت الوقوف بها ، وأرسل إلى الناس أن يقفوا على مشاعرهم ، فلم يزل واقفا للدعاء حتى إذا غربت الشمس من يوم الجمعة المذكور وذهبت الصفرة أردف أسامة بن زيد خلفه ، ودفع وقد ضم زمام ناقته القصواء ، حتى إن رأسها ليصيب طرف رجله ، ثم مضى يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص ، وكلاهما ضرب من السير ، والنص آكدهما ، والفجوة الفسحة من الناس ، كلما أتى ربوة من تلك الروابي أرخى للناقة زمامها قليلا ، حتى تصعدها ، وهو يأمر الناس بالسكينة في السير ، فلما كان في الطريق عند الشعب الأيسر ، نزل فبال وتوضأ وضوءا خفيفا ، وقال لأسامة : « المصلى أمامك » أو كلاما هذا معناه ، ثم ركب حتى أتى المزدلفة ليلة السبت العاشرة من ذي الحجة ، فتوضأ ثم صلى بها المغرب والعشاء الآخرة مجموعتين في وقت العشاء الآخرة دون خطبة ، ولكن بأذان واحد لهما وبإقامتين ، لكل صلاة منهما إقامة ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم اضطجع بها ، حتى طلع الفجر ، فقام وصلى الفجر بالناس بمزدلفة يوم السبت المذكور ، وهو يوم النحر ، وهو يوم الأضحى ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر مغلسا أول انصداع الفجر ، وهنالك سأله عروة بن مضرس الطائي ، وقد ذكر له عمله أنه حج ، فقال له  : « إن من أدرك الصلاة ، يعني صلاة الصبح ، بمزدلفة في ذلك اليوم مع الناس فقد أدرك الحج ، وإلا فلم يدرك » .

واستأذنته سودة وأم حبيبة في أن تدفعا من مزدلفة ليلا ، فأذن لهما ولأم سلمة في ذلك وللنساء وللضعفاء بعد وقوف جميعهم بمزدلفة ، وذكرهم الله تعالى بها ، إلا أنه أذن للنساء في الرمي بليل ولم يأذن للرجال في ذلك ، لا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم ، وكان ذلك اليوم يوم كونه عند أم سلمة ، فلما صلى الصبح كما ذكرنا بمزدلفة أتى المشعر الحرام بها فاستقبل القبلة ودعا الله عز وجل بها ، وكبر وهلل ووحد ، ولم يزل واقفا بها حتى أسفر جدا ، وقبل أن تطلع الشمس ، فدفع حينئذ من مزدلفة ، وقد أردف الفضل بن العباس وانطلق أسامة على رجليه في سباق قريش ، وهنالك سألت الخثعمية النبي الحج عن أبيها الذي لا يطيق الحج ، فأمرها أن تحج عنه ، وجعل يصرف بيده وجه الفضل بن عباس عن النظر إليها وإلى النساء ، وكان الفضل أبيض وسيما ، وسأله أيضا رجل عن مثل ما سألت عنه الخثعمية ، فأمره بذلك ، ونهض يريد منى ، فلما أتى بطن محسر حرك ناقته قليلا ، وسلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى منى ، فأتى الجمرة التي عند الشجرة ، وهي جمرة العقبة ، فرماها من أسفلها بعد طلوع الشمس من اليوم المؤرخ بحصى التقطها له عبد الله بن عباس من موقفه الذي رمى فيه مثل حصى الخذف ، وأمر بمثلها ونهى عن أكبر منها ، وعن الغلو في الدين ، فرماها وهو على راحلته بسبع حصيات كما ذكرنا يكبر مع كل حصاة منها ، وحينئذ قطع التلبية ولم يزل بمنى حتى رمى الجمرة التي ذكرنا ورماها راكبا ، وبلال وأسامة أحدهما يمسك خطام ناقته ، والآخر يظله بثوبه من الحر ، وخطب الناس في اليوم المذكور وهو يوم النحر بمنى خطبة كرر فيها أيضا تحريم الدماء والأموال والأعراض والأبشار ، وأعلمهم عليه السلام فيها بحرمة يوم النحر وحرمة مكة على جميع البلاد ، وأمر بالسمع والطاعة لمن قاد بكتاب الله عز وجل ، وأمر الناس بأخذ مناسكهم فلعله لا يحج بعد عامه ذلك ، وعلمهم مناسكهم وأنزل المهاجرين والأنصار والناس منازلهم ، وأمر أن لا يرجعوا بعده كفارا ، وأن لا يرجعوا بعده ضلالا يضرب بعضهم رقاب بعض .

وأمر بالتبليغ عنه وأخبر أن رب مبلغ أوعى من سامع .

ثم انصرف إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة ، ثم أمر بنحر ما بقي منها مما كان علي أتى به من اليمن مع ما كان أتى به من المدينة وكانت تمام المائة .

ثم حلق رأسه المقدس وقسم شعره فأعطى نصفه الناس الشعرة والشعرتين ، وأعطى نصفه الثاني كله أبا طلحة الأنصاري ، وضحى عن نسائه بالبقر ، وأهدى عمن كان اعتمر منهن بقرة ، وضحى في ذلك اليوم بكبشين أملحين ، وحلق بعض الصحابة ، وقصر بعضهم ، فدعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة ، وأمر أن يؤخذ من البدن التي ذكرنا من كل بدنة بضعة ، فجعلت في قدر وطبخت ، فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها ، وكان قد أشرك عليا فيها ، ثم أمر عليا بقسمة لحومها كلها وجلودها وجلالها ، وأن لا يعطي الجازر منها على جزارتها شيئا ، وأعطاه الأجرة على ذلك من عند نفسه ، وأخبر الناس أن عرفة كلها موقف حاشا بطن عرنة ، وأن مزدلفة كلها موقف حاشا بطن محسر ، وأن منى كلها منحر ، وأن رحالهم بمنى كلها منحر ، وأن فجاج مكة كلها منحر . ثم تطيب قبل أن يطوف طواف الإفاضة ، ولإحلاله قبل أن يحل في يوم النحر ، وهو السبت المذكور ، طيبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك بيديها ، ثم نهض راكبا إلى مكة في يوم السبت المذكور نفسه فطاف في ذلك اليوم طواف الإفاضة وهو طواف الصدر قبل الظهر ، وشرب من ماء زمزم بالدلو ومن نبيذ السقاية .

ثم رجع من يومه ذلك إلى منى فصلى بها الظهر .

هذا قول ابن عمر ، وقالت عائشة وجابر : بل صلى الظهر ذلك اليوم بمكة ، وهذا الفصل الذي أشكل علينا الفصل فيه بصحة الطرق في كل ذلك ، ولا شك أن أحد الخبرين وهم ، والثاني صحيح ، ولا ندري أيهما هو .

وطافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس وهي شاكية استأذنت النبي في ذلك فأذن لها ، وطافت أيضا عائشة ذلك اليوم ، وفيه طهرت وكانت رضي الله عنها حائضا يوم عرفة ، وطافت أيضا صفية في ذلك اليوم ثم حاضت بعد ذلك ليلة النفر ، ثم رجع إلى منى وسئل حينئذ عما تقدم بعضه على بعض من الرمي والحلق والنحر والإفاضة ؟

فقال في ذلك : « لا حرج » ، وكذلك قال أيضا في تقديم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالكعبة ، وأخبر أن الله تعالى أنزل لكل داء دواء إلا الهرم ، وعظم إثم من اقترض عرض مسلم ظلما ، فأقام بمنى باقي يوم السبت ، وليلة الأحد ، ويوم الأحد ، وليلة الاثنين ، ويوم الاثنين ، وليلة الثلاثاء ، ويوم الثلاثاء ، وهذه هي أيام منى ، وهي أيام التشريق ، يرمي الجمرات الثلاث كل يوم من هذه الأيام الثلاثة بعد الزوال بسبع حصيات كل يوم لكل جمرة يبدأ بالدنيا وهي التي تلي مسجد منى ، ويقف عندها للدعاء طويلا ، ثم التي تليها وهي الوسطى ويقف عندها للدعاء كذلك ، ثم جمرة العقبة ولا يقف عندها ويكبر مع كل حصاة , وخطب الناس أيضا يوم الأحد ثاني يوم النحر ، وهو يوم الرءوس ، وقد روي أيضا أنه خطبهم أيضا يوم الاثنين وهو يوم الأكارع ، وأوصى بذوي الأرحام خيرا ، وأخبر أنه لا تجني نفس على أخرى .


واستأذنه العباس عمه في المبيت بمكة ليالي منى المذكورة من أجل سقايته فأذن له ، وأذن للرعاء أيضا في مثل ذلك اليوم . ثم نهض بعد زوال الشمس من يوم الثلاثاء المؤرخ ، وهو آخر أيام التشريق ، وهو الثالث عشر من ذي الحجة ، وهو يوم النفر إلى المحصب ، وهو الأبطح ، فضربت له قبته ضربها أبو رافع مولاه ، وكان على ثقله ، وقد كان قال لأسامة أن ينزل غدا بالمحصب خيف بني كنانة ، وهو المكان الذي ضرب فيه أبو رافع قبته وفاقا من الله عز وجل دون أن يأمره بذلك .

وحاضت صفية أم المؤمنين ليلة النفر بعد أن أفاضت فأخبر بذلك رسول الله فسأل : { أفاضت يوم النحر } ؟ فقيل : نعم ، فأمرها أن تنفر ، وحكم فيمن كانت حالها كحالها أيضا بذلك . وصلى بالمحصب الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة من ليلة الأربعاء الرابع عشر من ذي الحجة ، وبات بها ليلة الأربعاء المذكورة ، ورقد رقدة ، ولما كان يوم النحر وهو يوم النفر رغبت إليه عائشة بعد أن طهرت أن يعمرها عمرة منفردة ، فأخبرها أنها قد حلت من عمرتها وحجتها ، وأن طوافها يكفيها ويجزئها لحجها وعمرتها فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة ، فقال لها  : {ألم تكوني طفت ليالي قدمنا } ؟ قالت : لا ، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أخاها بأن يردفها ويعمرها من التنعيم ففعلا ذلك ، وانتظرها بأعلى مكة ، ثم انصرفت من عمرتها تلك ، وقال لها : { هذا مكان عمرتك } ، وأمر الناس أن لا ينصرفوا حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت ، ورخص في ترك ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها .

ثم إنه دخل مكة في الليل من ليلة الأربعاء المذكورة فطاف بالبيت طواف الوداع لم يرمل في شيء منه سحرا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكور .

ثم خرج من كداء أسفل مكة من الثنية السفلى ، والتقى بعائشة رضي الله عنها وهو ناهض في الطواف المذكور وهي راجعة من تلك العمرة التي ذكرنا ثم رجع ، وأمر بالرحيل ومضى من فوره ذلك راجعا إلى المدينة ، فكانت مدة إقامته بمكة مذ دخلها إلى أن خرج إلى منى إلى عرفة إلى مزدلفة إلى منى إلى المحصب إلى أن وجه راجعا عشرة أيام ، فلما أتى ذا الحليفة بات بها ثم لما رأى المدينة كبر ثلاث مرات ، وقال : { لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده} ، ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرس ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم .


كتاب حجة الوداع
مقدمة المؤلف | الفصل الأول | الفصل الثاني | الفصل الثالث