كتاب المناظر/المقالة الأولى/الفصل الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


إن المتقدمين من أهل النظر قد أمعنوا البحث عن كيفية إحساس البصر وأعملوا فيه أفكارهم وبذلوا فيه اجتهادهم وانتهوا منه إلى الحد الذي وصل النظر إليه ووقفوا منه على ما وقفهم البحث والتمييز عليه.

ومع هذه الحال فآرائهم في حقيقة الإبصار مختلفة ومذاهبهم في هيئة الإحساس غير متفقة فالحيرة متوجهة واليقين متعذر والمطلوب غير موثوق بالوصول إليه.

فالحقائق غامضة والغايات خفية والشبهات كثيرة والأفهام كدرة والمقاييس مختلفة والمقدمات ملتقطة من الحواس والحواس التي هي العدد غير مأمونة الغلط.

فطريق النظر معفى الأثر والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة وتتشتت الآراء وتفترق الظنون وتختلف النتائج ويتعذر اليقين.

وفي هذا البحث عن هذا المعنى مع غموضه وصعوبة الطريق إلى معرفة حقيقته مركب من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.

أما تعلقه بالعلم الطبيعي فلأن الإبصار أحد الحواس والحواس سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر وإن كل شعاع يدرك به مبصر من المبصرات فشكل جملته شكل مخروط رأسه وقاعدته سطح المبصر.

وهذان المعنيان أعني رأي أصحاب الطبيعة ورأي أصحاب التعاليم متضادان متباعدان إذا أخذا على ظاهرهما. ثم مع ذلك فأصحاب التعاليم مختلفون في هيئة هذا الشعاع وهيئة حدوثه. فبعضهم يرى أن مخروط الشعاع جسم مصمت متصل ملتئم.

وبعضهم يرى أن الشعاع خطوط مستقيمة هي أجسام دقائق أطرافها مجتمعة عند مركز البصر وتمتد متفرقة حتى تنتهي إلى المبصر وإن ما وافق أطراف هذه الخطوط من سطح المبصر أدركه البصر وما حصل بين أطراف خطوط الشعاع من أجزاء المبصر لم يدركه البصر ولذلك تخفى عن البصر الأجزاء التي في غاية الصغر والمسام التي في غاية الدقة التي تكون في سطوح المبصرات.

ثم إن طائفة ممن يعتقد أن مخروط الشعاع مصمت ملتئم ترى أن الشعاع يخرج من البصر على خط واحد مستقيم إلى أن ينتهي إلى المبصر ثم يتحرك على سطح المبصر حركة في غاية السرعة في الطول والعرض لا يدركها الحس لسرعتها فيحدث بتلك الحركة مخروط المصمت.

وطائفة ترى أن الأمر بخلاف ذلك وان البصر إذا فتح أجفانه قبالة المبصر حدث المخروط في الحال دفعة واحدة بغير زمان محسوس.

ورأى طائفة من جميع هؤلاء أن الشعاع الذي يكون به الإبصار هو قوة نورية تنبعث من البصر وتنتهي إلى المبصر وبتلك القوة يكون الإحساس.

ورأى طائفة أن الهواء إذا اتصل بالبصر قبل منه كيفية فقط فيصير الهواء في الحال بتلك الكيفية شعاعاً يدرك به البصر المبصرات.

ولكل طائفة من هذه الطوائف مقاييس واستدلالاات وطرق أدتهم إلى اعتقادهم وشهادات إلا أن الغاية التي عليها استقر رأي جميع من بحث عن كيفية إحساس البصر تنقسم بالجملة إلى المذهبين المتضادين اللذين قدمنا ذكرهما.

وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً وإما أن يكونا جميعاً كاذبين والحق غيرهما جميعاً وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية فوقف دون الغاية ووصل أحدهما إلى الغاية وقصر الآخر عنها فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة.

وقد يعرض الخلاف أيضاً في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث وإذا حقق البحث وأنعم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف.

ولما كان ذلك كذلك وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة وكيفية الإبصار غير متيقنة رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان ونخلص العناية به ونتأمله ونوقع الجد في البحث عن حقيقته ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات ونميز خواص الجزئيات ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات.

وما نحن مع جميع ذلك برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور.

ونحن نقسم هذا الكتاب سبع مقالات: ونبين في المقالة الأولى كيفية الإبصار بالجملة ونبين في المقالة الثانية تفصيل المعاني التي يدركها البصر وعللها وكيفية إدراكها ونبين في المقالة الثالثة أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها ونبين في المقالة الرابعة كيفية أدراك البصر بالانعكاس عن الأجسام الصقيلة ونبين بالمقالة الخامسة مواضع الخيالات وهي الصور التي ترى في الأجسام الصقيلة ونبين في المقالة السادسة أغلاط البصر فيما يدركه بالانعكاس وعللها ونبين في المقالة السابعة كيفية إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة المخالفة الشفيف لشفيف الهواء ونختم الكتاب عند آخر هذه المقالة.

وقد كنا ألفنا مقالة في علم المناظر سلكنا في كثير من مقاييسها طرقاً إقناعية فلما توجهت لنا البراهين المحققة على جميع المعاني المبصرة استأنفنا تأليف هذا الكتاب.

فمن وقع إليه المقالة التي ذكرناها فليعلم أنها مستغنى عنها بحصول المعاني التي فيها في مضمون هذا الكتاب.