كتاب الفوائد/8
الأصل الثاني - وهو اقتضاء الفجور والكبر والكذب للضلال
[عدل]فكثير أيضا في القرآن كقوله تعالى : « يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون » البقرة : 26 - 27 ، وقال تعالى « يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء » سورة إبراهيم ، الآية 27 ، وقال تعالى : « فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا » النساء : 88 ، وقال تعالى : « وقالوا قلوبهم غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون » البقرة : 88 ، وقال تعالى : « ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة» الأنعام : 110 . فأخبر أنه عاقبهم على تخلفهم عن الإيمان لمن جاءهم وعرفوه وأعرضوا عنه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم وحال بينهم وبين الإيمان، كما قال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه » الأنفال : 24 فأمرهم بالاستجابة له ولرسوله حين يدعوهم إلى ما فيه حياتهم ، ثم حذرهم من التخلف والتأخر عن الاستجابة الذي يكون سببا لأن يحول بينهم وبين قلوبهم. وقال تعالى : «فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين» الصف : 5.وقال تعالى : «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» المطففين: 24
فأخبر سبحانه أن كسبهم غطى على قلوبهم وحال بينها وبين الإيمان بآياته ، فقالوا أساطير الأولين. وقال تعالى في المنافقين : «نسوا الله فنسيهم» سورة التوبة : 67، فجازاهم على نسيانهم له أن نسيهم فلم يذكرهم بالهدى والرحمة ، وأخبر أنه أنساهم أنفسهم فلم يطلبوا كمالها بالعلم النافع والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق. فأنساهم طلب ذلك ومحبته ومعرفته والحرص عليه عقوبة لنسيانهم له وقال تعالى في حقهم: «أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم. والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم » محمد : 16-17.فجمع لهم بين اتباع الهوى والضلال الذي هو ثمرته وموجبه كما جمع للمهتدين بين التقوى والهدى.
الهدى قرين الرحمة والضلال قرين الشقاء
[عدل]وكما يقرن سبحانه بين الهدى والتقى والضلال والغي، فكذلك يقرن بين الهدى والرحمة والضلال والشقاء ، فمن الأول قوله : «أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون» البقرة : الآية رقم : 5، وقال : «أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون» البقرة : الآية رقم : 157. وقال عن المؤمنين: «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» آل عمران : الآية رقم :8، وقال أهل الكهف: «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا» الكهف: الآية رقم : 10، وقال : «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون» سورة يوسف : الآية رقم : 111، وقال : « وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون» النحل : الآية رقم : 64 وقال: «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين» النحل: الآية رقم : 89، وقال : «يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين» يونس : الآية رقم : 57، ثم أعاد سبحانه ذكرهما فقال : «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» يونس : الآية رقم : 58.
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة ، والصحيح أنهما الهدى والنعمة ، ففضله هداه ، ورحمته نعمته ، ولذلك يقرن بين الهدى والنعمة كقوله في سورة الفاتحة: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم» الفاتحة: الآية رقم : 6.
ومن ذلك قوله لنبيه يذكره بنعمه عليه: «ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى» الضحى : الآية رقم :6، 7، 8 فجمع له بين هدايته له وإنعامه عليه بإيوائه و إغنائه. ومن ذلك قول نوح: «يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده» هود : الآية رقم : 28، : وقول شعيب : « أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا» هود : الآية رقم : 88، وقال عن الخضر: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما» الكهف : الآية رقم : 65، وقال لرسوله: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا» الفتح : الآية رقم :1، 2، 3 ، وقال : «وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما» النساء : الآية رقم : 113، وقال «ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا» النور : الآية رقم : 21، ففضله هدايته ورحمته إنعامه وإحسانه إليهم وبره بهم. وقال : «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى» طه : الآية رقم : 123، والهدى منعة من الضلال، والرحمة منعة من الشقاء ، وهذا هو الذي ذكره في أول السورة في قوله: «طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» طه : الآية رقم : 1، فجمع له بين إنزال القرآن عليه ونفي الشقاء عنه، كما قال في آخرها في حق أتباعه: «فلا يضل ولا يشقى» .
فالهدى والفضل والنعمة والرحمة متلازمان لا ينفك بعضهما عن بعض ، كما أن الضلال والشقاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: «إن المجرمين في ضلال وسعر» القمر : الآية رقم : 47، والسعر: جمع سعير ، وهو العذاب الذي هو غاية الشقاء ، وقال تعالى: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون» الأعراف : الآية رقم : 179، وقال تعالى عنهم: «وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير» الملك : الآية رقم : 10.
ومن هذا أنه سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيبة وبين الضلال وضيق الصدر والمعيشة والضنك ، قال تعالى : «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» الأنعام : الآية رقم : 125 وقال : «أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه» الزمر : الآية رقم : 22، وكذلك يجمع بين الهدى والإنابة وبين الضلال وقسوة القلب ، قال تعالى: «الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب» الشورى : الآية رقم : 13، وقال تعالى : «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين» الزمر : الآية رقم : 22.
العطاء والمنع
[عدل]والهدى والرحمة وتوابعهما من الفضل والإنعام كله من صفة العطاء، والإضلال والعذاب وتوابعهما من صفة المنع، وهو سبحانه يصرف خلقه بين عطائه ومنعه وذلك كله صادر عن حكمة بالغة، وملك تام، وحمد تام ، فلا إله إلا الله .
العاقل لا يتعلق بالعالم السفلي
[عدل]إذا رأيت النفوس المبطلة الفارغة من الإرادة والطلب لهذا الشأن قد تشبث بها هذا العالم السفلي وقد تشبثت به فكلها إليه، فإنه اللائق بها لفساد تركيبها ولا تنقش عليها ذلك فإنه سريع الانحلال عنها ويبقى تشبثها به مع انقطاعه عنها عذابا عليها بحسب ذلك التعلق ، فتبقى شهوتها وإرادتها فيها. وقد حيل بينها وبين ما تشتهي على وجه يئست معه من حصول شهوتها ولذتها . فلو تصور العاقل ما في ذلك من الألم والحسرة لبادر إلى قطع هذا التعلق كما يبادر إلى حسم مواد الفساد ، ومع هذا فإنه ينال نصيبه من ذلك وقلبه وهمه متعلق بالمطلب الأعلى والله المستعان.
مفاسد الكذب
[عدل]إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس ، فإن الكذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما ، والحق باطلا والباطل حقا، والخير شرا والشر خيراً، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له. ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه . ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل. وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب إليها فصار صدورها عنه كمصدر الكذب عن اللسان، فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله.
ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي ﷺ : « إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار» ورد الحديث في البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي بألفاظ مختلفة ، ولفظه عند مالك: إن عبد الله بن مسعود كان يقول: « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ألا ترى أنه يقال : صدق وبر ، وكذب وفجر» . الموطأ - الحديث 1814- طبعة دار النفائس.وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله ، فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتدراكه الله بدواء الصدق يقلع المادة من أصلها.
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق . وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب. والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده و يثبطه عن مصالحه ومنافعه ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ، ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب. وقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» سورة التوبة : الآية رقم :119 ، وقال تعالى : « هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم» المائدة : الآية رقم :119 ، وقال : «فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم» محمد : الآية رقم :21 ، وقال : «وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم» التوبة : الآية رقم :90 .
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
[عدل]في قوله تعالى: «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون» البقرة : الآية رقم :216
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد ، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب ، والمحبوب قد يأتي بالمكروه ، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة ، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعاقب ، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد « وِ» أوجب له ذلك أمورا:
منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء؛ لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح ، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهي وإن هويته نفسه ومالت إليه، فإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب ، وخاصة العقل تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل ، فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها فيرى ما وراء تلك الستور من الغابات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل ، فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مفض إلى العافية والشفاء ، وكلما نهاه كرهه مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول. ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤمل عند الغاية ، فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك ، وإذا قوي يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التعويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة. ومنها : أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم ، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم ، فلا يختار على ربه شيئا بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه ، بما يختاره هو لنفسه .
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات ، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى ، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه؛ لأنه مع اختياره لنفسه ، ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره ، ولطفه يهون عليه ما قدره. إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه تحيله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميتة ، فإن السبع لا يرضى بأكل الجيف.
لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه
[عدل]لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها ولم يتجاوزه إلى ما ليس له ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي ، وتيقن أنه الله ومن الله وبالله فهو المانُّ به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه ، فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا ألبتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه. فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا وخشوعا ومحبة وخوفا ورجاء ، وهذا نتيجة علمين شريفين : علمه بربه وكماله وبره وغناء وجودة وإحسانه ورحمته، وأن الخير كله في يديه وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء ، وله الحمد على هذا ، وهذا أكمل حمد وأتمه . وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها، وأنها لا خير فيها ألبتة ولا لها ولا بها ولا منها وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص ، فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس لها ولا بها.
فإذا صار هذان العلمان صبغة لها لا صبغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله والأمر كله والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها ، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقيق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله. فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علما وحالا، وانقطاعه بفواتهما. وهذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه، فإنه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم، عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله، وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده، وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقة العبودية، والله المستعان. ويحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته : إنه لن ينتفع بحكمتنا إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها ، فمن كان كذلك فليدخل وإلا فليرجع حتى يكون بهذه الصفة.
مساوئ الشهوات
[عدل]الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة ، فإنها إما أن توجب ألما وعقوبة ، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة ، وإما أن تثلم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه ، وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه ، وإما أن تضيع قدرا وجاها قيامه خير من وضعه ، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسى علما ذكره ألذ من نيل الشهوة ، وإما أن تشمت عدوا وتحزن وليا وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبا يبقى صفة لا تزول ، فإن الأعمال تورث للصفات والأخلاق.
حدود الأخلاق
[عدل]للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا، ومتى قصرت عنه كان نقصا ومهانة : فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة والأنفة من الرذائل والنقائص ، وهذا كماله، فإذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار، وإن نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل.
وللحرص حد وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها، فمتى نقص تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه، ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس . قال النبي ﷺ : « لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطة على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس» رواه أحمد بن حنبل والبخاري ولفظه عند البخاري في باب التمني: « لا تحاسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن ، فهو يتلوه آناء الليل والنهار يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل: ورجل آتاه الله مالا ينفقه في حقه فيقول : لو أوتيت ، مثل ما أوتي لفعلت كما يفعل» .، فهذا حسد منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود.
وللشهوة حد وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك، فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقا والتحق صاحبها بدرجة الحيوان ، ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفا وعجزا ومهانة.
وللراحة حد وهو إجماع النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها، فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا وإضاعة وفات به أكثر مصالح العبد، ومتى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبتِّ الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
والجود له حد بين طرفين ، فمتى جاوز حده صار إسرافا وتبذيرا. ومتى نقص عنه كان بخلا وتقتيرا. وللشجاعة حد متى جاوزته صارت تهوراً، ومتى نقصت عنه صارت جبنا وخوراً، وحدها الإقدام في مواضع الإقدام والإحجام، كما قال معاوية لعمرو بن العاص: أعياني أن أعرف أشجاع أنت أم جبان تقدم حتى أقول من أشجع الناس، وتجبن حتى أقول من أجبن الناس، فقال:
شجاع إذا أمكنتني فرصة * * * فإن لم تكن لي فرصة فجبان
والغيرة لها حد إذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئاً بالبريء، وإذا قصرت عنه كانت تغافلاً ومبادئ دياثة.
وللتواضع حد إذا جاوزه كان ذلا ومهانة، ومتى قصر عنه انحرف إلى الكبر والفخر.
وللعز حد إذا جاوزه كان كبراً وخلقاً مذموماً، وإن قصر عنه انحرف إلى الذل والمهانة.
خير الأمور الوسط
[عدل]وضابط هذا كله العدل، وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به، فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك، إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا.
فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي . فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخل فيها . قال تعالى: «الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله» سورة التوبة : الآية رقم :97. فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلا، وبالله التوفيق.
التقوى في القلوب
[عدل]قال أبو الدرداء رضي الله عنه : يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين. وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير ، رضي الله عنهم.
فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه. والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح. قال تعالى «ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب» سورة الحج: الآية رقم :32 ، وقال : «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم» الحج : الآية رقم :37 ، وقال النبي ﷺ « التقوى ههنا: وأشار إلى صدره» رواه الترمذي وأحمد بن حنبل.
فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل ، أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة ، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام الإحسان.
أكمل الهدي
[عدل]فأكمل الهدي هدي رسول الله ﷺ ، وكان موفيا كل واحد منهما حقه ، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله حتى تَرِم قدماه ، ولا يترك شيئا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر . والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم وحقائق الإيمان على بواطنهم ، ولا يقبل واحدا منهما إلا بصاحبه وقرينه.
وفي المسند مرفوعا : «الإسلام علانية والإيمان في القلب » فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن ، وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت . فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار.
وإذا عرف هذا ، فالصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان :
قسم صرفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها ،وإن لم يكونوا خالين من أصلها ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال .
وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم و عكفوها على الله وحده والجمعية عليه وحفظ الخواطر والإرادات معه .وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل والإنابة ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلبه من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية ، فإذا حصل لأحدهم جمعية ووارد أنس أو حب أو اشتياق أو انكسار وذل ، لم يستبدل به شيئا سواه ألبتة ، إلا أن يجيء الأمر فيبادر إليه بذلك الوارد إن أمكنه ، وإلا بادر إلى الأمر ولو ذهب الوارد . فإذا جاءت النوافل فههنا معترك التردد ، فإن أمكن القيام بها فذاك وإلا نظر في الأرجح .والأحب إلى الله هل هو القيام إلى تلك النافلة ولو ذهب وارده كإغاثة الملهوف وإرشاد ضال وجبر مكسور واستفادة إيمان ونحو ذلك ، فههنا ينبغي تقديم النافلة الراجحة ، ومتى قدمها لله رغبة فيه وتقربا إليه فإنه يرد عليه ما فات من وارده أقوى مما كان في وقت آخر ، وإن كان الوارد أرجح من النافلة فالحزم له الاستمرار في وارده حتى يتوارى عنه فإنه يفوت والنافلة لا تفوت. وهذا موضع يحتاج إلى فضل فقه في الطريق ومراتب الأعمال وتقديم الأهم منها فالأهم ، والله الموفق لذلك لا إله غيره ولا رب سواه.
أصل الأخلاق الممدوحة والمذمومة
[عدل]أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة ، وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة ، فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك كلها ناشئة من الكبر .
وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير الله واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك ، فإنها من المهانة والدناءة وصغر النفس .
وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحلم والعفو والصفح والاحتمال والإيثار وعزة النفس عن الدناءات والتواضع والقناعة والصدق والإخلاص والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل والتغافل عن زلات الناس وترك الاشتغال بما لا يعنيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك ، فكلها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة . والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتأخذ زينتها وبهجتها ، فكذلك المخلوق منها إذا أصابه حظه من التوفيق.
وأما النار فطبعها العلو والإفساد ثم تخمد فتصير أحقر شيء وأذله ، وكذلك المخلوق منها ، فهي دائما بين العلو إذا هاجت واضطربت ، وبين الخسة والدناءة إذا خمدت وسكنت ، والأخلاق المذمومة تابعة للنار والمخلوق منها ،والأخلاق الفاضلة تابعة للأرض والمخلوق منها . فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل ، ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل.
مستلزمات المطالب العليا
[عدل]المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة ، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه ، فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره . وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه ، فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب ، فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته ، وإذا كانت همته سافلة تعلقت بالسفليات ولم تتعلق بالمطلب الأعلى ، وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة إليه ، فمدار الشأن هل همة العبد ونيته وهما مطلوبه وطريقه ولا يتم له إلا بترك «ثلاثة أشياء :» العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس . «الثاني : » هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها . «الثالث : » قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب . والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة ، فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه ، والله المستعان .
من حكم ابن مسعود
[عدل]من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قال رجل عنده : ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين ، أحب أن أكون من المقربين. فقال عبد الله : لكن ههنا رجل وَدَّ أنه إذا مات لم يبعث ؛ يعني نفسه .
وخرج ذات يوم فاتبعه ناس فقال لهم : ألكم حاجة ؟ قالوا لا ، ولكن أردنا أن نمشي معك ، قال : ارجعوا ، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال : لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب. وقال : حبذا المكروهان : الموت والفقر ، و أيم الله إن هو إلا الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت ، أرجو الله في كل واحد منهما ، إن كان الغنى أن فيه العطف، وإن كان الفقر أن فيه الصبر . وقال : إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة ، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع مثل ما زرع ، لا يسبق بطيء بحظه ولا يدرك حريص ما لم يقدر له.
من أعطي خيرا فالله أعطاه ،ومن وقي شرا فالله وقاه . المتقون سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة . إنما هما اثنتان : الهدي والكلام ، فأفضل الكلام كلام الله ، وأفضل الهدي هدي محمد ﷺ ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب ، ألا وإن البعيد ما ليس آتيا ، ألا وإن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن السعيد من وعظ بغيره ، إلا وإن قتال المسلم كفر وسبابه فسوق ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويعوده إذا مرض. ألا وإن شر الروايا روايا الكذب ، ألا وإن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه ألا وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ، والصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ، وإنه يقال للصادق صدق وبر، ويقال للكاذب كذب وفجر، وإن محمدا ﷺ حدثنا أن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقى، وخير الملة ملة إبراهيم ، وأحسن السنن سنة محمد ﷺ وخير الهدي هدي الأنبياء ، وأشرف الحديث ذكر الله وخير القصص القرآن وخير الأمور عواقبها وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ونفس تنجيها خير من نفس أمارة لا تحصبها، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والريب من الكفر، وشر العمى عمى القلب ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والنوح من عمل الجاهلية.
من الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ولا يذكر الله إلا هجرا. وأعظم الخطايا الكذب ، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يصبر على الرزية يعقبه الله ، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، وإنما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه ، وإنما يصير إلى أربعة أذرع والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه ، وأشرف الموت قتل الشهداء، ومن يستكبر يضعه الله ، ومن يعص الله يطع الشيطان.
ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون . وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حكيما حليما سكينا. ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا سخابا ولا صياحا ولا حديدا.
من تطاول تعظما حطه الله ومن تواضع تخشعا رفعه الله. وإن للملك لمة وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله. و لمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فإذا رأيتم ذلك فتعوذوا بالله. إن الناس قد أحسنوا القول، فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبخ نفسه. لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار، إني لأبغض الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ، ومن لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا.
من اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدا على رزق الله، ولا تلوم أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره، وإن الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك ، يفتح له. إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت سرج الليل، جدد القلوب ، خلقان الثياب، تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض.
إن للقلوب شهوة وإدبارا فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها ودعوها عند فترتها وإدبارها. ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية. إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما وأمرضه قلبا، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضه جسما، و أيم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان.
لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته، ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده و ذامه عنده سواء ، وإن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه منه شيء، يأتي الرجل ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، فيقسم له بالله إنك لذيت و ذيت، فيرجع وما حبى من حاجته بشيء ويسخط الله عليه.
لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. الإثم جَوَّاز القلوب . ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطمعا. مع كل فرحة ترحة وما ملئ بيت حبرة إلا ملئ عبرة، وما منكم إلا ضيف وما له عارية، فالضيف مرتحل والعارية مؤداة إلى أهلها. يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان. إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه فليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. الحق ثقيل مريء والباطل خفيف وبيء. رب شهوة تورث حزنا طويلا. ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان . إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها. من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل ، فإن قلب الرجل مع كنزه . لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، فإن آمن آمن وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
لا يكن أحدكم إمعة، قالوا وما الإمعة؟ قال: يقول أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت ، ألا ليوطن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر. وقال له رجل: علمني كلمات جوامع نوافع، فقال اعبد الله لا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيبا قريبا.
يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له أد أمانتك فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فتمثل على هيئتها يوم أخذها في قعر جهنم ، فينزل فيأخذها فيضعها على عاتقه فيصعد بها، حتى إذا ظن أنه خارج بها هوت وهوى في أثرها أبد الآبدين. اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن ، وفي مجالس الذكر وفي أوقات الخلوة ، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك.
قال الجنيد دخلت على شاب فسـألني عن التوبة فأجبته، فسألني عن حقيقتها ، فقلت : أن تنصب ذنبك بين عينيك حتى يأتيك الموت ، فقال لي : مه ، ما هذا حقيقة التوبة ، فقلت له فما حقيقة التوبة عندك يا فتى؟ قال : أن تنسى ذنبك، وتركني ومضى . فكيف هو عندك يا أبا القاسم؟ فقلت : القول ما قال الفتى قال : كيف قلت إذا كنت معه في حال ثم نقلني من حال الجفا إلى حال الوفا ، فذكري للجفا في حال الوفا جفا.
اللذة حسب الهمة
[عدل]لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله ، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال . فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا التفتت إليه وربما تألمت من ذلك، كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه.
وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والأنس بربه فهذا ممن قال تعالى فيه: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة» سورة الأعراف : الآية رقم :22 ، وأنجسهم حظا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات : «أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها» الأحقاف : الآية رقم :20 ، فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات . وافترقوا في وجه التمتع ، فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي آذن لهم فيه فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة وسواء أذن لهم فيه أم لا ، فانقطعت عنهم لذة الدنيا و فاتتهم لذة الآخرة فلا لذة الدنيا دامت لهم ولا لذة الآخرة حصلت لهم، فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلا له إلى لذة الآخرة بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله إرادته وعبادته ، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى ، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة ، و يجم نفسه ههنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك ، فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همته لما هناك ، و بئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهمته، وحولها يدندن، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة ، و بئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة . فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعا وإلا خسرهما جميعا.
آثار ترك المعاصي
[عدل]سبحان الله رب العالمين . لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال الذي جعله الله قواما لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق وجواز القول بينهم وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة القلب وطيب النفس ونعيم القلب وانشراح الصدر ، والأمن من مخاوف الفساق والفجار ، وقلة الهم والغم والحزن ، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية ، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار ، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب ، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي ، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس ، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس ، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب ، وسرعة إجابة دعائه ، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله ، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن منه ، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت ، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير ، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة ووجد حلاوة الإيمان ، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه.
فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة ، وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق، وهو في ظل العرش ، فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين و «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم» .
ورع عمر بن عبد العزيز
[عدل]ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطعه، وإذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي .
اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله مطالعا فيه منة الله عليه به وتوفيقه له فيه وأنه بالله لا بنفسه ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته ، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن ، فالذي من عليه بذلك هو الذي من عليه بالقول والفعل فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبت عن شهود منه ربه وتوفيقه وإعانته . فإذا غاب عن تلك الملاحظة وثبت النفس وقامت في مقام الدعوى ، فوقع العجب ففسد عليه القول والعمل، تارة يحال بينه وبين تمامه ويقطع عليه ويكون ذلك رحمة به حتى لا يغيب عن مشاهدة المنة والتوفيق . وتارة يتم له ولكن لا يكون له ثمرة، وإن أثمر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود. وتارة يكون ضرره عليه أعظم من انتفاعه، ويتولد له منه مفاسد شتى بحسب غيبته عن ملاحظة التوفيق والمنة ورؤية نفسه وإن القول والفعل به.
من هذا الموضع يصلح الله سبحانه أقوال عبده وأعماله ويعظم له ثمرتها أو يفسدها عليه ويمنعه ثمرتها فلا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس ، فإذا أراد الله بعبده خيرا أشهده منته وتوفيقه وإعانته له في كل ما يقوله ويفعله فلا يعجب به. ثم أشهده تقصيره فيه وأنه لا يرضى لربه به فيتوب إليه منه ويستغفره، ويستحي أن يطلب عليه أجرا وإذا لم يشهده ذلك وغيبه عنه فرأى نفسه في العمل ورآه بعين الكمال والرضا، لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرضا والمحبة ، فالعارف يعمل العمل لوجهه مشاهدا فيه منته وفضله وتوفيقه ، معتذرا منه إليهن مستحييا منه إذ لم يوفه حقه، والجاهل يعمل العمل لحظه وهواه ناظرا فيه إلى نفسه يمن به على ربه راضيا بعمله، فهذا لون وذاك لون آخر.
فوائد هجر العوائد
[عدل]الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق . فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفروه أو بدعوه وضللوه، أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السنن، ونصبوها أندادا للرسول يوالون عليها ويعادون ،فالمعروف عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها.
وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء والمطوعين والعامة. فربي فيها الصغير ونشأ عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند أصحابها من السنن. الواقف معها محبوس والمتقيد بها منقطع . عم بها المصاب، وهجر لأجلها السنة والكتاب . من استنصر بها فهو عند الله مخذول ، ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسوله فهو عند الله غير مقبول، وهذه أعظم الحجب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله.
العوائق
[عدل]وأما العوائق فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها ، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه ، وهي ثلاثة أمور: شرك، وبدعة ، ومعصية، فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد ، وعائق البدعة بتحقيق السنة ، وعائق المعصية بتصحيح التوبة. وهذه العوائق لا تبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة. فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحسن بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر، وإلا فما دام قاعدا لا يظهر له كوامنها وقواطعها.
العلائق
[عدل]وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها و رياساتها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضه إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى ، وإلا فقطعها عليه بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع. فإن النفس لا تترك مألوفها و محبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه وآثر عندها منه. وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره، وكذا بالعكس . والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه . وذلك على قدر معرفته وشرفه وفضله على ما سواه.
منزلة الرسول ﷺ
[عدل]لما كمل الرسول ﷺ مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج الخلائق كلها إليه في الدنيا والآخرة، أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم. وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله حتى يريحهم من ضيق مقامهم . فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع هو لهم وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة.
علامات السعادة والشقاوة
[عدل]من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره .وكلما زيد في عمره نقص من حرصه. وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله . وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.
وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه ، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام.
وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء ، كالملك والسلطان والمال . قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده: «هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر» سورة النمل : الآية رقم : 40 فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور . كما أن المحن بلوى منه سبحانه ، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب، قال تعالى : «فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا....» الفجر : الآية رقم :15- 17 أي ليس كل من وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراما مني له، ولا كل من ضيقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك إهانة مني له.