كتاب السيرة النبوية وأخبار الخلفاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
كتاب السيرة النبوية وأخبار الخلفاء
كتاب عن مجمل أبواب السيرة النبوية وأخبار الخلفاء إلى العصر العباسي


قال أبو الحاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي:

الحمد لله الذي ليس له حد محدود فيتوى، ولا له أجل معدود فيفنى، ولا يحيط به جوامع المكان، ولا يشتمل عليه تواتر الزمان، ولا يدرك نعمته بالشواهد والحواس، ولا يقاس صفات ذاته بالناس، تعاظم قدره عن مبالغ نعت الواصفين، وجل وصفه عن إدراك غاية الناطقين، وكل دون وصف صفاته تحبير، اللغات، وضل عن بلوغ قصده تصريف الصفات، وجاز في ملكوته غامضات أنواع التدبير، وانقطع عن دون بلوغه عميقات جوامع التفكير، وانعقدت دون استبقاء حمده ألسن المجتهدين، وانقطعت إليه جوامع أفكار آمال المنكرين، إذ لا شريك له في الملك ولا نظير، ولا مشير له في الحكم ولا وزير، وأشهد أن لا إله إلا الله أحصى كل شيء عددا، وضرب لكل امرئ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وأشهد أن محمدا عبده المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور الساطع، والضياء اللامع، فبلغ عن الله عز وجل الرسالة، وأوضح فيما دعا إليه الدلالة، فكان في اتباع سنته لزوم الهدى، وفي قبول ما أتى به وجود السنا، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين.

أما بعد فإن الله اختار محمدا من عباده، واستخلصه لنفسه من بلاده، فبعثه إلى خلقه بالحق بشيرا، ومن النار لمن زاغ عن سبيله نذيرا، ليدعو الخلق من عباده إلى عبادته، ومن اتباع السبيل إلى لزوم طاعته، ثم لم يجعل الفزع عند وقوع حادثة، ولا الهرب عند وجود كل نازلة، إلا إلى الذي أنزل عليه التنزيل، وتفضل على عباده بولايته التأويل، فسنته الفاصلة بين المتنازعين، وآثاره القاطعة بين الخصمين.

فلما رأيت معرفة السنن من أعظم أركان الدين، وأن حفظها يجب على أكثر المسلمين، وأنه لا سبيل إلى معرفة السقيم من الصحيح، ولا صحة إخراج الدليل من الصريح، إلا بمعرفة ضعفاء المحدثين وكيفية ما كانوا عليه من الحالات، أردت أن أملي أسامي أكثر المحدثين، ومن الفقهاء من أهل الفضل والصالحين، ومن سلك سبيلهم من الماضين، بحذف الأسانيد والاكثار، ولزوم سلوك الاختصار، ليسهل على الفقهاء حفظها، ولا يصعب على الحفاظ وعيها، والله أسأل التوفيق لما أوصانا، والعون على ما له قصدنا، وأسأله أن يبني دار المقامة من نعمته، ومنتهى الغاية من كرامته، في أعلى درجة الأبرار المنتخبين الأخيار، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

ذكر الحث على لزوم سنن المصطفى

أخبرنا أحمد بن مكرم بن خالد البرتي ثنا علي بن المديني ثنا الوليد بن مسلم ثنا ابن يزيد ثنا خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر ابن حجر الكلاعي قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كان هذا موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا مجدعا، فإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافا! فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال الوليد: فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن العلاء بن زبر؟ فقال: نعم، حدثني بنحو من هذا الحديث.

قال أبو حاتم: إن الله جل وعلا اصطفى محمدا من بين خلقه، وبعثه بالحق بشيرا ونذيرا، وافترض على خلقه طاعته ومذكوره وحدثنا فقال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وقال وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا الآية فأمر الله بطاعة رسوله مع طاعته، وعند التنازع بالرجوع إلى سنته، إذ هو المفزع الذي لا منازعة لأحد من الخلق فيه، فمن تنازع في شيء بعد رسالله وجب رد أمره إلى قضاء الله ثم إلى قضاء رسوله ، لأن طاعة رسوله طاعته، قال الله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث الآية، وقال من يطع الرسول فقد أطاع الله، فقد أعلمهم جل وعلا أن اتباعهم رسوله اتباعه، وأن طاعتهم له طاعته، ثم ضمن الجنة لمن أطاع رسوله واتبع ما أجابه، فقال: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم الآية ثم أعلمنا جل وعلا أنه لم يجعل الحكم بينه وبين خلقه إلا رسوله، ونفى الإيمان عن من لم يحكمه فيما شجر بينهم، قال فلا وربك لا يؤمنون الآية، ثم أعلمنا جل وعلا أن دعاهم إلى رسوله ليحكم بينهم إنما دعاهم إلى حكم الله، لا أن الحاكم بينهم ورسول الله ، وأنهم متى ما سلموا الحكم لرسول الله فقد سلموه بفرض الله، قال الله عز وجل إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إلى قوله فأولئك هم الفائزون، ذا حكم الله فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله، وإعلامهم أنها طاعته، ثم أعلمنا أن الفرض على رسوله اتباع أمره، فقال اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين، وقال جل وعلا ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع الآية وقال يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين إلى قوله خبيرا ثم شهد الله جل وعلا لرسوله باتباع أمره واستمساك بأمره لما سبق في علمه من إسعاده بعصمته وتوفيقه للهدى مع هداية من اتبعه، فقال ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم الآية، ثم أمره الله جل وعلا بتبليغ ما أنزل إليه مع الشهادة له بالعصمة من بين الناس. فقال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، ثم أعلمنا أن الذي يهدي إليه رسوله هو الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه فقال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان إلى قوله وما في الأرض ففي هذه الآية التي طولناها ما أقام بها الحجة على خلقه بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره فكل ما بين رسول الله فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنه ووجب علينا اتباعه، وفي العنود عن اتباعه معصية، إذ لا حكم بين الله وبين خلقه إلا الذي وصفه الله جل وعلا موضع الإبانة لخلقه عنه.

فالواجب على كل من انتحل العلم أو نسب إليه حفظ سنن المصطفى والتفقه فيها، ولا حيلة لأحد في السبيل إلى حفظها إلا بمعرفة تاريخ المحدثين، ومعرفة الضعفاء منهم من الثقات، لأنه متى لم يعرف ذاك لم يحسن تمييز الصحيح من السقيم، ولا عرف المسند من المرسل، ولا الموقوف من المنقطع، فإذا وقف على أسمائهم وأنسابهم وعرف ـ أعني بعضهم بعضا ـ وميز العدول من الضعفاء، وجب عليه حينئذ التفقه فيها، والعمل بها، ثم إصلاح النية في نشرها إلى من بعده رجاء استكمال الثواب في العقبى بفعله ذلك، إذ العلم من أفضل ما يخلف المرء بعده، نسأل الله الفوز على ما يقربنا إليه ويزلفنا لديه.

ذكر الحث على نشر العلم إذ هو من خير ما يخلف المرء بعده

أخبرنا الفضل بن الحباب ثنا موسى بن إسماعيل ثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

ذكر الخبر الدال على استحباب حفظ تاريخ المحدثين

أخبرنا محمد بن محمد الهمداني ثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ثنا بشر ابن المفضل ثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة ذكر النبي قال: وقف على بعيره وأمسك إنسان بخطامه ـ أو قال: بزمامه ـ فقال: أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال: أليس بيوم النحر؟ قلنا بلى، قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى، فقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من أوعى له منه.

قال أبو حاتم في قوله : ليبلغ الشاهد منكم الغائب، كالدليل على استحباب حفظ تاريخ المحدثين، الوقوف على معرفة الثقات منهم من الضعفاء، إذ لا يتهيأ للمرء أن يبلغ الغائب ما شهد إلا بعد المعرفة بصحة ما يؤدي إلى من بعده، وأنه إذا أدى إلى من بعده ما لم يصح عن رسول الله فكأنه لم يؤد عنه شيئا، ولا سبب له إلى معرفة صحة الأخبار وسقيمها إلا بمعرفة تاريخ من ذكر اسمه من المحدثين. وكتابا أبين فيه الضعفاء والمتروكين، وأبدأ منهما بالثقات. فنذكر ما كانوا عليه في الحالات، فأول ما أبدأ في كتابنا هذا ذكر المصطفى ومولده ومبعثه، وهجرته إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته، ثم نذكر بعده الخلفاء الراشدين المهديين بأيامهم إلىأن قتل علي رحمة الله عليه، ثم نذكر صحب رسول الله واحدا واحدا على المعجم، إذ هم خير الناس قرنا بعد رسول الله ، ثم نذكر بعدهم التابعين الذين شافهوا أصحاب رسول الله في الأقاليم كلها على المعجم، إذ هم خير الناس بعد الصحابة قرنا، ثم نذكر القرن الثالث الذين رأوا التابعين، فأذكرهم على نحو ما ذكرنا الطبقتين الأوليين، ثم نذكر القرن الرابع الذين هم أتباع التابعين على سبيل من قبلهم، وهذا القرن ينتهي إلى زماننا هذا.

ولا أذكر في هذا الكتاب الأول إلا الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم، وأقنع بهذين الكتابين المختصرين عن كتاب التاريخ الكبير الذي خرجناه لعلمنا بصعوبة حفظ كل ما فيه من الأسانيد والطرق والحكايات، ولأن ما نمليه في هذين الكتابين إن يسر الله ذلك وسهله من توصيف الأسماء بقصد ما يحتاج إليه يكون أسهل على المتعلم إذا قصد الحفظ، وأنشط له في وعيه إذا أراد العلم من التكلف بحفظ ما لو أغضى عنه في البداية لم يخرج في فعله من التكلف لحفظ ذلك، فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق، يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرى خبره عن خصال خمس، فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن أذكره في كتابي هذا فإن ذلك الخبر لاينفك من إحدى خمس خصال: إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرت اسمه في كتابي هذا في الإسناد رجل ضعيف لا يحتج بخبره، أو يكون دونه رجل واه لا يجوز الاحتجاج بروايته، والخبر يكون مرسلا لا يلزمنا به الحجة، أو يكون منقطعا لا يقوم بمثله الحجة، او يكون في الإسناد رجل مدلس لم يبين سماعه في الخبر من الذي سمعه منه، فإن المدلس ما لم يبين سماع خبره عمن كتب عنه لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر، لأنه لا يدري لعله سمعه من إنسان ضعيف يبطل الخبر بذكره إذا وقف عليه وعرف الخبر به، فما لم يقل المدلس في خبره وإن كان ثقة: سمعت أو: حدثني، فلايجوز الاحتجاج بخبره، فذكرت هذه المسألة بكمالها بالعلل والشواهد والحكايات في كتاب شرائط الأخبار، فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب، وإنما أذكر في هذا الكتاب الشيخ بعد الشيخ وقد ضعفه بعض أئمتنا، ووثقه بعضهم، فمن صح عندي منهم أنه ثقة بالدلائل النيرة التي بينتها في كتاب الفصل بين النقلة أدخلته في هذا الكتاب لأنه يجوز الاحتجاج بخيره، ومن صح عندي منهم أنه ضعيف بالبراهين الواضحة التي ذكرتها في كتاب الفصل بين النقلة لم أذكره في هذا الكتاب، لكني أدخلته في كتاب الضغفاء بالعلل لأنه لا يجوز الاحتجاج بخبره، فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره، لأن العدل من لم يعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعلم بجرح فهو عدل إذا لم يبين ضده، إذ لم يكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم! وإنما كلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم، جعلنا الله ممن أسبل عليه جلاليب الستر في الدنيا واتصل ذلك بالعفو عن جناياته في العقبى! إنه الفعال لما يريد.

ذكر مولد رسول الله

أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ببغداد ثنا يحيى بن معين ثنا حجاج بن محمد عن يونس بن أبي إسحاق عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: ولد رسول الله عام الفيل.

قال أبو حاتم: ولد النبي عام الفيل يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول في اليوم الذي بعث الله طيرا أبابيل على أصحاب الفيل، وكان من شأن الفيل أن ملكا كان باليمن غلب عليها وكان أصله من الحبشة يقال له أبرهة بنى كنيسة بصنعاء فسماها القليس وزعم أنه يصرف إليها حج العرب، وحلف أنه يسير إلى الكعبة فيهدمها، فخرج ملك، من ملوك حمير فيمن أطاعه من قومه يقال له [ ذو نفر ] فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذه، فلما أتى به قال له ذو نفر: أيها الملك! لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه، وأوثقه ثم خرج ثائرا يريد الكعبة، حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه، فهزمهم وأخذ النفيل، فقال النفيل: أيها الملك! إني عالم بأرض العرب فلا تقتلني وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه وخرج معه يدله، حتى إذا بلغ الطائف خرج معه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف فقال: أيها الملك! نحن عبيد لك ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتنا وبيتك الذي تريد ـ يعنون ـ اللات إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه مولى لهم يقال له [ أبو رغال ] فخرج معهم حتى إذا كان بالمغمس مات [ أبو رغال ] وهو الذي رجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلا يقال له الأسود بن مقصود على مقدمة خيله.

فجمع إليه أهل الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير بالأراك، ثم بعث أبرهة حناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حناطة حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إن الملك أرسلني إليك ليخبرك أنه لم يأتي لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب ما عندنا له قتال، فقال: سنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى الله بينه وبينه فو الله ما لنا به قوة! قال: فانطلق معي إليه، قال: فخرج معه حتى قدم المعسكر وكان [ ذو نفر] صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر! هل غندكم من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة وعشية، ولكن سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فأمره أن يضع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه، فقال: إن هذا سيد قريش، صاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك! هذا سيد قريش وصاحب عين الكعبة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال يستأذن عليك وأنا أحب أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصب لك ولا مخالف عليك. فأذن له، وكان عبد المطلب رجلا عظيما جسيما وسيما، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه معه، فقال له عبد المطلب: أيها الملك إنك قد أصبت لي مالا عظيما فأردده علي، فقال له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت فيك، قال: ولم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم ومنعتكم لأهدمه فلم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك! قال: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه! قال: ما كان ليمنعه مني! قال: فأنت وذاك! قال: فأمر بإبله فردت عليه، ثم خرج عبد المطلب وأخبر قريشا الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبى جيشه وقرب فيله وحمل عليه ما أراد أن يحمل وهو قائم، فلما حركه وقف وكاد أن يرزم إلى الأرض فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت أقرانه ومرافقه فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، ويحملن أمثال الحمص والعدس من الحجارة، فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحد إلا هلك، وليس كل القوم أصاب فذلك قول الله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل السورة كلها، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعا يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة اتبعها مدة من قيح ودم فانتهى إلى اليمن وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه ثم مات، فلما هلك استخلف ابنه يكسوم بن أبرهة فهذا ما كان من شأن الفيل، وسميت هذه السنة [ سنة الفيل ].

ذكر نسب سيد ولد آدم وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة

أخبرنا عبد الله بن محمد بن سالم ببيت المقدس ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثنا شداد أبو عمار عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض وأنا أول شافع وأول مشفع. قال أبو حاتم: نسبة رسول الله تصح إلى عدنان، وما وراء عدنان فليس عندي فيه شيء صحيح أعتمد عليه غير أني أذكر اختلافهم فيه بعضهم لبعض من ليس ذلك من صناعته: فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ واسم عبد المطلب شيبة ـ بن هاشم ـ واسم هاشم عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسم عبد مناف المغيرة ـ بن قصي ـ واسم قصي زيد ـ بن كلاب ـ وهو المهذب ـ بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ـ وهو قريش ـ بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مهد بن عدنان إلى هنا ليس بين النسابة خلاف فيه ومن عدنان هم مختلفون فيه إلى إبراهيم:

فمنهم من قال: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تريح بن يعقوب بن نبت بن نابت بن أنوش بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن آزر.

ومنهم من قال: عدنان بن أدد بن الهميسع بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر.

ومنهم من قال: عدنان بن أدد بن سحب بن أيوب بن قيدر بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر.

ومنهم من قال: عدنان بن أدد بن أمين بن شاجب بن ثعلبة بن عتر بن يربح بن محلم بن العوام بن المحتمل بن دائمة بن العيقان بن علة بن شحدود بن الظريف بن عبق بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر.

ومنهم من قال: عدنان بن أدد بن عوج بن المعطم بن الطمح ابن القسود بن العبور بن دعدع بن محمود بن الزائد بن بدان بن الدرس بن حصن بن النزال بن القاسم بن المجشر بن معدد بن صيفي بن النبت بن قيدر بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر.

ثم اختلفوا أيضا فيما فوق إبراهيم:

فمنهم من قال: إبراهيم بن آزر بن ناحور بن شارغ بن الراغ بن القاسم الذي قسم الأرض بين أهلها ابن معن بن السايح بن الرافد ابن السايح وهو سام بن نوح نبي الله عليه الصلاة والسلام.

ومنهم من قال: إبراهيم بن آزر بن ناحور بن صاروح بن أرغو بن فالغ بن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح

ومنهم من قال: إبراهيم بن آزر بن تارخ بن ناحور بن ساروح بن أرغو بن فالج بن عيبر بن أرفخشد بن سام بن نوح. ثم اختلفوا فيما بعد نوح عليه السلام فمنهم من قال: نوح بن ملكان بن متوشلخ بن إدريس نبي الله بن الرائد بن مهلهل بن قنان بن الطاهر ابن هبة الله بن شيث بن آدم.

ومنهم من قال: نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام بن يارز بن مهابيل بن قبش بن أنش بن شيث بن آدم

ومنهم من قال: نوح بن لامك بن متوشلح بن خنوخ بن يارزا بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم.

ومنهم من قال: نوح بن لامك بن متوشلح بن مهليل بن قينين بن يافش ابن شيث بن آدم. وأم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. ولم يكن لها أخ ـ فيكون خالا للنبي ـ إلا عبد يغوث بن وهب ولكن بنو زهرة يقولون: إنهم أخوال رسول الله ، لأن آمنة أم رسول الله كانت منهم. وأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة اسمها مرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وأمها أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي. وأمها برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي. هؤلاء جدات رسول الله من قبل أم أمه. وأما جداته من قبل أبي أمه فإن أم وهب بن عبد مناف بن زهرة اسمها قيلة بنت أبي قيلة، واسم أبي قيلة فهر بن غالب بن الحارث، وهو غبشان وكان يعير بأبي كبشة الذي نسبت قريش رسول الله إليه إذ كان مشركا فتنصر لما سافر إلى الشام ورجع إلى قريش بدين غير دينها، فعيرت قريش رسول الله به وأما أم قيلة خالدة بنت عابس بن كرب بن الحارث بن الفهر. وأم عبد مناف وأم زهرة جدة أم رسول الله اسمها جمل بنت مالك بن سعد بن مليح وأمها سلمى بنت حيان بن غنم. وأم زهرة بن كلاب جدة رسول الله اسمها فاطمة بنت سعد بن سيل بن حرب. وأمها طريفة بنت قيس بن ذي الرأسين بن عمرو بن قيس بن عيلان. وأما أمهات آبائه فإن أم عبد الله بن عبد المطلب اسمها عاتكة بنت أرقص بن مالك ابن زهرة، وهي أول العواتك اللاتي ولدن رسول الله وأما أم عبد المطلب بن هاشم فهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار لذلك. وأم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة وهي الثانية من العواتك، وهي أم هاشم بن عبد مناف والمطلب بن عبد مناف وعبد شمس بن عبد مناف، وإنما سمى هاشم هاشما لأنه هشم الثريد لقوله:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكة مستنون عجاف

وكان اسمه عمرو العلاء. وأم عبد مناف بن قصي اسمها حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة، فهي والدة عبد الدار وعبد العزى أولاد قصي بن كلاب. وأم قصي فاطمة بنت سعيد بن سيل بن حرب بن حمالة ابن عوف بن الأزد، وكان قصي يسمى مجمعا لأن الله به جمع القبائل من فهر، وأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة وهي والدة بن مرة ويقظة ابني مرة. وأم مرة بن كعب مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وقد قيل وحشية بنت محارب بن فهر. وأم كعب بن لؤي ماوية بنت كعب بن القين بن أسد بن وبرة وأم لؤي بن غالب سلمى بنت عمرو بن عامر بن حارثة بن خزاعة. وأم غالب بن فهر عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة، وهي إحدى العواتك اللاتي ولدن النبي ، ما قال النبي يوم حنين: أنا ابن العواتك. وأم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن عامر بن الحارث الجرهمي.

وأم مالك بن النضر عكرشة بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان.

وأم النضر بن كنانة برة بنت مر أخت تميم بن مر، وقيل: إنها فكهة بنت هنى بن بلي، والنضر هو قيس، وإنما قيل للنضر: قريش، لتجمعها من تفرق من بيتها، لأن التقرش هو التجمع.

وأما أم كنانة فهي عوانة وقد قيل: هند بنت سعد بن قيس عيلان.

وأما أم خزيمة بن مدركة فهي سلمى بنت سعد بن قيس بن الحاف بن قضاعة.

وأما أم مدركة بن إلياس فهي خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكان لإلياس بن مضر ثلاثة من البنين: عمرو وهو مدركة، وعامر وهو طابخة، وعمير فهو قمعة، وأمهم خندف، وإنما سمي هؤلاء بهذه الأسماء لأن الناس خرجوا في نجعة لهم، فنفرت إبلهم من أرنب فخرج في أثرها عمرو فادركها فسمي مدركة، وأخذها عامر فنحر منها وطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في الخباء ولم يخرج معها فسمي قمعة، وخرجت أمهم تمشي في طلب الإبل فقيل لها: أين تخندفين وقدرت الإبل، فسميت خندف، والخندفة ضرب من المشي.

وأم إلياس بن مضر الربابة بنت إياس بن معد.

وأم مضر بن نزار سودة بنت عك بن عدنان بن أدد.

وأم نزار بن معد معانة بنت جوش بن جلهمة بن عمرو بن حليمة بن حرميه.

وأم معد بن عدنان مهددة بنت جلحب بن جديس.

وأم عدنان بن أدد بلها بنت ماعز بن قحطان.

فهذه جوامع ما يحتاج إليه معرفة نسبة أمهات آباء رسول الله

وأما أولاد عبد المطلب فهم عشرة: عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله ، والزبير بن عبد المطلب، والعباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، والمقوم بن عبد المطلب واسمه عبد العزى، والحارث بن عبد المطلب. والغيداق بن عبد المطلب، وأبو لهب بن عبد المطلب، وأبو طالب ابن عبد المطلب اسمه عبد مناف.

فأما عبد الله والد رسول الله فإنه لم يكن له ولد غير رسول الله ، لا ذكر ولا أنثى، وتوفي قبل أن يولد رسول الله ، وكان عبد الله والد رسول الله وأبو طالب من أم واحد.

وأما الزبير بن عبد المطلب فكنيته أبو طاهر وكان من أجلة قريش وفرسانها، وكان من المبارزين وكان يقول الشعر فيجيز.

وأما العباس بن عبد المطلب فإن كنيته أبو الفضل، وكان إليه السقاية وزمزم في الجاهلية، فلما فتح رسول الله دفعها إلى يوم فتح مكة، ومات العباس سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان وهو ابن ثمان وثمانين سنة بالمدينة وصلى عليه عثمان ابن عفان.

وأما ضرار بن عبد المطلب فإنه كان يتعاطى بقول الشعر، ومات قبل الإسلام من غير أن أعقب.

وأما حمزة بن عبد المطلب فإن كنيته أبو عمارة، وكان أسد الله وأسد رسول الله وقد قيل إن كنيته أبو يعلى، استشهد يوم أحد، قتله وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم في شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان حمزة أكبر من النبي بسنتين.

وأما المقوم بن عبد المطلب فكان من رجالات قريش، هلك قبل الإسلام، ولا عقب له.

وأما أبو لهب بن عبد المطلب فكنيته أبو عقبة وإنما سمي أبو لهب لجماله، وكان أحول، ممن يعادي رسول الله من بين عمومته، ويظهر له حسدا إلى أن مات عليه من العدسة في عقب يوم بدر لما بلغه ما كان في ذلك اليوم من المشركين من النكاية من المسلمين كمد منه حتى مات.

وأما الحارث بن عبد المطلب فهو أكبر ولد عبد المطلب، واسمه كنيته، وهو ممن حفر بئر زمزم مع عبد المطلب.

وأما الغيداق بن عبد المطلب فإنه مات ولم يعقب وكان من رجالات قريش.

وأما أبو طالب بن عبد المطلب فكان هو وعبد الله بن عبد المطلب لأم واحدة، وكان وصي عبد المطلب، أوصى إليه عبد المطلب في ماله بعده وفي حفظ رسول الله ، وتعهده على ما كان تعهده عبد المطلب في حياته ومات أبو طالب قبل أن يهاجر رسول الله بثلاث سنين وأربعة عشر.

وأما عمات رسول الله فهن ست بنات عبد المطلب بن هاشم لصلبه أولهن عاتكة بنت عبد المطلب، وأميمة بنت عبد المطلب، وأروى بنت عبد المطلب، والبيضاء بنت عبد المطلب وهي أم حكيم، وبرة بنت عبد المطلب، وصفية بنت عبد المطلب.

فأما عاتكة بنت عبد المطلب فكانت عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي.

وأما أميمة بنت عبد المطلب فكانت عند جحش بن رئاب الأسدي.

وأما البيضاء بنت عبد المطلب فكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.

وأما برة بنت عبد المطلب فكانت عند عبد الأسد بن بلال المخزومي.

وأما صفية بنت عبد المطلب فكانت عند العوام بن خويلد بن أسد.

وأما أروى بنت عبد المطلب فكانت عند عمير بن قصي بن كلاب. ولم يسلم من عمات النبي إلا صفية وهي والدة الزبير بن العوام، وتوفيت صفية في خلافة عمر بن الخطاب.

فهذه جوامع ما يجب أن يحفظ من ذكر عمومة رسول الله وعماته.

وأما أم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف فإنها لما وضعته جاءت به إلى جده عبد المطلب وأخبرته أنها رأت حين حملت به في النوم أنه قيل لها:

حملت سيد هذه الأمة، فإذا وضعته فسميه محمدا، فأخذه عبد المطلب فدخل به على هبل في جوف الكعبة، وقام عنده يدعو الله ويشكر ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، فقالت أمه: رأيت في المنام كأنه خرج مني نور أضاء لي قصور الشام.

ثم التمس له الرضاعة فاسترضع رسول الله من امرأة من بني سعد ابن بكر يقال لها: حليمة بنت أبي ذؤيب وأبو ذؤيب اسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، وزوج حليمة اسمه الحارث بن عبد العزى بن رفاعة من بني سعد بن بكر، وأخو رسول الله الذي أرضعته حليمة مع رسول الله اسمه عبد الله بن الحارث بن عبد العزى، ولعبد الله هذا أختان من حليمة: إحداهما أنيسة والأخرى جذامة بنت الحارث بن عبد العزى. قالت حليمة: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة، فخرجت على أتان لي قمراء في سنة شهباء ومعي زوجي ومعنا شارف لنا والله إن تبض بقطرة من لبن، ومعي صبي لي لا ننام ليلتنا من بكائه، ما في ثديي ما يغنيه، فلما قدمنا مكة لم تبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله فتأباه، وإنما نرجو الكرامة في رضاع من يرضع له من والد المولود وكان يتيما فكنا نقول: ما عسى أن تصنع به أمه، فكنا نأباه حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعة غيري، فكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئا وقد أخذ صواحبي ما أردن، فقلت لزوجي: والله لأرجع على ذلك اليتيم ولآخذنه! قالت: فأتيته فأخذته ثم رجعت إلى رحلي، قال زوجي: أصبت والله يا حليمة! عسى أن يجعل فيه خيرا، قالت: فو الله ما هو إلا أن وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء الله من لبن، فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي، ثم قام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا بها حافل فحلب لبنا، فشربت حتى رويت وشرب حتى روي، فبتنا بخير وقد نام صبينا وروي، فقال زوجي: والله يا حليمة! ما أراك إلا أصبت نسمة مباركة، قالت: ثم خرجنا فو الله! لخرجت أتاني أمام الركب حتى أنهم ليقولون لي: يا ويحك كفا علينا، أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها؟ فأقول: والله بلى، حتى قدمنا أرضنا من حاضر بني سعد بن بكر، قالت: قدمنا على أجدب أرض، فو الذي نفس حليمة بيده! إن كانوا ليسرحون بأغنامهم إذا أصبحوا ويسرح راعي غنمي فتروح غنمي حفلا بطانا لبنا وتروح أغنامهم جياعا هالكة ما بها من لبن فنشرب ما شئنا من اللبن، وما من الحاضر أحد يحلب قطرة ولا يجدها، قالت: فيقولون لرعاتهم: ويلكم! ألا تسرحون حيث راعي حليمة؟ فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه، فتروح أغنامهم جياعا هالكة، وتروح غنمي حفلا لبنا، قالت: وكان يشب في اليوم شاب الصبي في الشهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في السنة.

فلما بلغ سنتين قدمنا به على أمه فقالت: إن لابني هذا شأنا إني حملت به فو الله ما حملت حملا قط كان أخف علي منه! ولقد رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى ـ أو قالت: قصور بصرى ـ ثم وضعته، فو الله! ما وقع كما يقع الصبيان! لقد وقع معتمدا على يديه إلى الأرض، رافعا رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما، فقبضته وانطلقا.

قال أبو حاتم: فتوفيت أمه بالأبواء ورسول الله ابن أربع سنين، وكان عبد المطلب من أشفق الناس عليه، أبر الآباء به إلى أن توفي عبد المطلب ورسول الله ابن ثمان سنين، وأوصى به إلى أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف، ابن عبد المطلب وذلك أن عبد الله وأبا طالب كانا لأم، فكان أبو طالب الذي يلي أمور رسول الله بعد عبد المطلب إلى أن راهقه وبلغ مبلغ الرجال، وكان أبو طالب إذا رأى رسول الله قال:

فشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد

ذكر في الاستيعاب لابن عبد البر بإسناده إلى ابن عباس أن عبد المطلب ختن النبي يوم سابعه وجعل له مأدبة سماه محمدا، قال ابن عبد البر بعد هذا: قال يحيى بن أيوب: ما وجدنا هذا الحديث عند أحد إلا عند ابن أبي السري العسقلاني، قال: وقد روي أن رسول الله ولد مختونا مسرورا يعني: مقطوع السرة.

ذكر خروج النبي إلى الشام

حدثنا الحسن بن سفيان ثنا أبو بكرأبي شيبة ثنا قراد أبو نوح ثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبي موسى قال: خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله وأشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب. وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، فأتاهم وهم يحلون رواحلهم وأحلاسهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله فقال هذا سيد العالمين! هذا رسول رب العالمين! هذا يبعثه الله رحمة للعالمين! فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فقال: انظروا إليه، عليه غمامة تظله! فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا إلى الروم فإن الروم لو رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه فالتفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا إلى هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا وقد بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا بخبره فبعثنا إلى طريقك هذا، فقال لهم: [ أفرئيتم أمرا إذ أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ ] قالوا: لا، فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال لهم: [ أنشدكم بالله! أيكم وليه؟ ] قال أبو طالب: أنا، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك والزيت.

قال أبو حاتم: فقدم رسول الله بمكة، وكانت سفرته الثانية بعدها مع ميسرة غلام خديجة، ثم تزوج رسول الله خديجة بنت خويلد بن أسد وهو ابن خمس وعشرين سنة وخويلد هو ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب وكانت قبل أن يتزوج بها رسول الله تحت أبي هالة أخي بني تميم، ثم كانت تحت عتيق ابن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان السبب في ذلك أن خديجة كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضار بهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوما تجارا، فلما بلغها عن رسول الله ما بلغها من صدق حديثه وعظيم أمانته وكريم أخلاقه بعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له [ ميسرة ] فقبله منها رسول الله ، وخرج في مالها معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، نزل رسول الله في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فأطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول الله سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ظلا على رأس رسول الله من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، وأخبرها ميسرة عن قول الراهب وعن ما كان من أمر الإظلال، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها بعثت إلى رسول الله وقالت: إني قد رغبت فيك وفي قرابتك وفي أمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا فلما قالت ذلك لرسول الله ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه حمزة بن عبد المطلب عمه حتى دخل على خويلد ابن أسد فخطبها إليه، فزوجها من رسول الله ، فولد له منها زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، والقاسم [ وكان به يكنى والطاهر ] والطيب فهلكوا قبل الوحي.

وأما البنات فكلهن أسلمن وهاجرن إلى المدينة، وكانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد ـ وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد قرأ الكتب وعلم من علم الناس ـ ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان من الإظلال عليه فقال ورقة: إن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة، قد عرفت أنه كائن بهذه الأمة سيظهر في هذا الوقت.

ذكر تفضل الله على رسوله المصطفى بالكرامة والنبوة بين خلق آدم ونفخ الروح فيه

أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي بمنبج ثنا العباس بن عثمان البجلي ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله : متى وجبت لك النبوة؟ قال: بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ـ عليه الصلاة والسلام.

ذكر صفة بدء الوحي على رسول الله

أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة بعسقلان ثنا ابن أبي السري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة قالت: أول ما ابتدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة يراها في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد الليالي ذوات العدد ـ ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى فجئه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ قال رسول الله فقلت: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال لي اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم قال فرجع بها ترجف فؤاده حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني! فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال: يا خديجة! ما لي؟ وأخبرها الخبر وقال: خشيت علي، فقالت: كلا! أبشر فو الله لا يخشيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتمل الكل وتقري الضعيف وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن قصي وهو عم خديجة أخو أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي يكتبه بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمر فقالت له خديجة: أي عم! اسمع من أخيك، فقال ورقة: يا ابن أخي: ما ترى؟ فأخبره رسول الله بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى! يا ليتني أكون فيها جذعا! يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك! فقال رسول الله أمخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله حزنا غدا منه مرارا لكي يتردى من روؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منها فيرى له جبريل فقال له يا محمد! إنك رسول الله حقا! فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك.

قال أبو حاتم: روي في بدء الوحي عن النبي خبران: خبر عن عائشة وخبر عن جابر، فأما خبر عائشة فقد ذكرناه، وأما خبر جابر فحدثناه عبد الله بن محمد بن سالم ببيت المقدس ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل أول؟ قال: يا أيها المدثر فقلت أو اقرأ؟ قال: أحدثكم ما حدثنا رسول الله ، قال: جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدا، ثم نوديت فنظرت إلى السماء فإذا هو فوقي على العرش في السماء، فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، ثم صبوا علي الماء، وأنزل الله عز وجل علي يا أيها المدثر إلى قوله فطهر.

قال أبو حاتم: هذان خبران أوهما من لم يكن الحديث صناعته أنهما متضادان وليس كذلك، إن الله عز وجل بعث رسوله يوم الاثنين وهو ابن أربعين سنة، ونزل عليه جبريل وهو في الغار بحراء بـ اقرأ باسم ربك الذي خلق فلما رجع رسول الله إلى بيت خديجة ودثروه أنزل الله عليه في بيت خديجة يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر *، من غير أن يكون بين الخبرين تضاد ولا تهاثر، فكان أول من آمن برسول الله زوجته خديجة بنت خويلد، ثم آمن علي بن أبي طالب وصدقه بما جاء به وهو ابن عشر سنين، ثم أسلم أبو بكر الصديق فكان علي بن أبي طالب يخفي إسلامه من أبي طالب وأبو بكر لما أسلم أظهر إسلامه، فلذلك اشتبه على الناس أول من أسلم منهما ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله ، فكان أبو بكر أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا سهلا بليغا أظهر الإسلام ودعا إلى الله وإلى رسوله، فأجابه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله حين استجابوا له فأسلموا وصلوا، ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة ابن عبد الأسد المخزومي، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعبد الله وقدامة ابنا مظعون الجمحيان، وخباب بن الأرت ومسعود بن الربيع القاري، وعبد الله بن مسعود وعمير بن أبي وقاص، وسليط بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، وامرأته أسماء بنت سلامة التميمية، وعامر بن ربيعة أبو عبد الله وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش الأسدي، وجعفر ابن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس الخثعمية، وحاطب بن الحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المجال وحطاب بن الحارث، وامرأته فكيهة، وصهيب بن سنان، ومعمر بن الحارث الجمحي، وسعيد ابن الحارث السهمي، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحام واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد، وبلال بن رباح مولى أبي بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن سعيد بن العاص، وامرأته أميمة بنت خلف بن أسعد، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة التميمي، وخالد بن البكير، وإياس بن البكير، وعامر بن البكير، وعبد ياليل بن ناشب غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم.

فشا ذكر الإسلام بمكة

ودخل في الإسلام الرجال والنساء إرسالا، وأنزل الله عز وجل وأنذر عشيرتك الأقربين، فخرج رسول الله حتى أتى الصفا ثم صعد عليه ثم نادى: يا صباحاه! فاجتمع إليه الناس فمن رجل يجيء ومن رجل يبعث رسوله، فقال: يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني يا بني! أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أصدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ثم قال: يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله من شيء يا عباس بن عبد المطلب! يا صفية عمة رسول الله ! يا بني كعب بن لؤي! يا بني هاشم! يا بني عبد المطلب! اشتروا أنفسكم من النار فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب ثم نزل النبي ، وجعل يدعو الناس في الشعاب والأودية والأسواق إلى الله، وأبو لهب خلفه والحجارة تنكبه يقول: يا قوم! لا تقبلوا منه، فإنه كذاب.

ثم تزوج النبي رسول الله بعد خديجة سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن النضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، خطبها رسول الله إلى وقدان بن حلبس عمها، وكانت قبل رسول الله تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكانت سودة امرأة ثقيلة ثبطة وهي التي وهبت يومها لعائشة وقالت: لا أريد ما تريد النساء وقد قيل أن النبي لم يتزوج على خديجة حتى ماتت.

وزوج رسول الله ابنته رقية من عتبة بن أبي لهب، وأم كلثوم ابنته الأخرى من عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت تبت يدا أبي لهب أمرهما أبوهما أن يفارقهما ففارقهما، ثم زوج رسول الله عثمان بن عفان ابنته رقية بعد عتبة بن أبي لهب، ثم مرض أبو طالب فدخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، ولو بعثت إليه فنهيته! فبعث إليه فجاء النبي ودخل البيت وبين أبي جهل وبين أبي طالب مجلس رجل، فخشي أبو جهل أنه إذا جلس إلى جنب أبي طالب يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد النبي مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب، قال أبو طالب: أي ابن أخي! ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ فقال النبي : أي عم! إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية فقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ويقولون أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. ثم توفي أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب، فلقي المسلمون أذى من المشركين بعد موت أبي طالب، فقال لهم النبي حين ابتلوا وشطت بهم عشائرهم بمكة: تفرقوا ـ وأشار قبل أرض الحبشة وكانت أرضا دفئة ترحل إليها قريش رحلة الشتاء، أول هجرة في الإسلام، فأول من خرج من المسلمين إلى الحبشة عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود وسهيل ابن وهب بن ربيعة وهو سهيل بن بيضاء أمه، ثم خرج بعدهم جعفر ابن أبي طالب معه امرأته أسماء بنت عميس، وعمرو بن سعيد بن العاص ومعه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية، وأخوه خالد بن سعيد بن العاص ومعه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد، وعبد الله بن جحش بن رياب، وأخوه عبد بن جحش معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وقيس بن عبد الله من بني أسد بن خزيمة معه امرأته بركة بنت يسار، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، وعتبة بن غزوان، وأسد بن نوفل بن خويلد، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب، وسويط بن سعد بن حريملة، وجهم بن قيس بن عبد شرحبيل، وابناه عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم، وعامر بن أبي وقاص، والمطلب بن أزهر معه امرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة بن مسعود، والمقداد بن عمرو، والحارث بن خالد بن صخر معه امرأته ريطة بنت الحارث بن جبلة، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب، وشماس عثمان بن عبد بن الشريد بن سويد وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة، ومعتب بن عوف بن عامر بن الفضل، والسائب بن عثمان بن مظعون، وعماه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر معه امرأته فاطمة بنت المجلل، وابناه محمد بن حاطب والحارث بن حاطب وأخوه حطاب بن الحارث معه امرأته فكيهة بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب معه ابناه جابر بن سفيان وجنادة بن سفيان، ومعه امرأته حسنة وهي أمهما، وعثمان بن ربيعة بن أهبان، وخنيس بن حذافة بن قيس، وعبد الله بن الحارث بن قيس، وهشام ابن العاص بن وائل، وقيس بن حذافة بن قيس، والحجاج بن الحارث بن قيس ومعمر بن الحارث بن قيس، وبشر بن الحارث بن قيس، وسعيد بن الحارث ابن قيس، والسائب بن الحارث بن قيس، وعمير بن رئاب بن حذيفة ومحمية بن جزء حليف لهم، ومعمر بن عبد الله بن نضلة، وعدي بن نضلة ابن عبد العزى، معه ابنه النعمان، وأبو عبيدة بن الجراح بعدهم وعامر بن ربيعة معه امرأته ليلى، والسكران بن عمرو بن عبد شمس معه امرأته سودة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس، وعبد الله بن سهيل بن عمرو وعمرو بن الحارث بن زهير، وعياض بن زهير بن أبي شداد وربيعة بن هلال بن مالك، وعثمان بن عبد غنم بن زهير، وسعد بن عبد قيس بن لقيط، وعبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة جد الزهري، فخرجوا حتى قدموا أرض الحبشة وأقاموا بها على الطمأنينة ثم إن قريشا اجتمعت في أن يبعث إلى النجاشي حتى يرد من ثم من المسلمين عليها، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن ربيعة، وبعثوا معهما بهدايا كثيرة إليه وإلى بطارقته، فلما قدما عليه ما بقي بطريق من بطارقته إلا قدما إليه بهديته وسألاه أن يكلم الملك حتى يسلمهم إليهما قبل أن يكلمهم ويسمع منهم، فلما فرغا من بطارقته قدما إلى النجاشي هداياه فقبلها منهما، ثم قالا له: أيها الملك! إن قومنا بعثوا إليك في فتيان منهم خرجوا إلى بلادك فارقوا أديان قومهم ولم يدخلوا في دينك ولا دينهم، وقومهم أعلاهم عينا، قالت بطارقته: صدقا أيها الملك! فغضب النجاشي وقال لأيم الله إذا لا أدفعهم إليهما، قوم جاءوني لجئوا إلى بلادي حتى أنظر فيما يقولون وأنظر فيما يقول هؤلاء، فإن كانوا صادقين وكانوا كما قال هؤلاء أسلمناهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك لم ندفعهم إليهما ومنعتهم منهما فقال عمارة بن الوليد: لم نصنع شيئا، لو كان دفعهم إلينا من وراء وراء كان ذلك أحب إلينا قبل أن يكلمهم، ثم إن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ما الذي نكلم به الرجل؟ ثم قالوا: نكلمهم والله بالذي نحن عليه وعليه نبينا! كائنا ما كان فيه، فدخلوا عليه فقالوا لهم: اسجدوا للملك، فقال جعفر بن أبي طالب: لا نسجد إلا لله! فقال لهم ما يقول هذان؟ يزعمان أنهن فارقتم دين قومكم، ولن تدخلوا في ديني وأنكم جئتم بدين مقتضب لا يعرف! فقال جعفر بن أبي طالب: كنا مع قومنا في أمر جاهلية نعبد الأوثان، فبعث الله إلينا رسولا منا رجلا نعرف نسبه وصدقه ووفاءه، فدعا إلى أن نعبد الله وحده لا نشرك به، وأمرنا بالصلاة والزكاة وصلة الرحم وحسن الجوار، ونهانا عن الفواحش والخبائث، فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ قال: نعم، فدعا النجاشي أساقفته فنشروا المصاحف حوله، فقرأ عليهم جعفر بن أبي طالب كهيعص، فبكى النجاشي حتى اخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا! فلعمر الله لا أرسلهم معكما ولا هم وكان أتقى الرجلين عمارة بن الوليد فقال عمرو بن العاص: والله! لأجيبنه بما أبيد به خضراءهم، لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهك الذي تعبد عبد فقال له عمارة بن الوليد: لا تفعل فإن لهم رحما وإن كانوا قد خالفونا، قال: أحلف بالله لأفعلن، فرجع إليه الغد فقال أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فابعث إليهم فاسألهم عنه، فأرسل إليهم فقال: ماذا تقولون في عيسى؟ قالوا: نقول فيه ما قال الله عز وعلا وما قال لنا نبينا، فقال له جعفر: هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها الله إلى العذراء البتول، فأدلى النجاشي يده فأخذ من الأرض عودا وقال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتم هذا العود، فنخرت بطارقته فقال: وإن نخرتم والله ثم قال: اذهبوا فأنتم شيوم في أرضي ـ يقول: آمنون، من شتمكم غرم، ما أحب أن لي دبرا ذهبا ـ ودبر هو جبل بالحبشة ـ وأني آذيت رجلا منكم، وقال: ردوا عليهما هداياهما التي جاءا بها، لا حاجة لنا بها، واخرجوهما من أرضي، فأخرجا وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جار، لا يصل إليهم شيء يكرهونه. فولد بالحبشة عبد الله بن جفعر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي حذيفة وسعيد ابن خالد بن سعيد، وأخته أمة بنت خالد، وعبد الله بن المطلب بن أزهر، وموسى ابن الحارث بن خالد، وإخواته: عائشة وزينب وفاطمة بنات الحارث، فلم يزل المسلمون بأرض الحبشة إلى أن ذكر رسول الله الخروج إلى المدينة، فمنهم من رجع إلى مكة فهاجر مع النبي إلى المدينة، ومنهم من بقي بأرض الحبشة حتى لحق رسول الله بعد قدومه المدينة. وخرج أبو بكر من مكة مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج! أنت تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق! فأنا لك خافر فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عيشة في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بعد ذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره. فقد جاوز ذلك وابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فإنهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد في داره فعل، فإن أبى إلا يعلن بذلك فسله أن يرد ينادي بأعلى صوته: أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، ورجل يتبعه بالحجارة، قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس! لا تطيعوه، فإنه كذاب! قال قلت: من هذا؟ قالوا هذا غلام بني عبد المطلب، قال فقلت: من هذا الذي يتبعه يدميه؟ قالوا: عمه عبد العزى أبو لهب.

قال أبو حاتم: كان النبي يدعو الخلق إلى الله وحده لا شريك له، وكان أبو جهل يقول للناس: إنه كذاب يحرم الخمر ويحرم الزنا، وما كانت العرب تعرف الزنا، فبينما النبي يصلي في ظل الكعبة إذ قام أبو جهل في ناس من قريش ونحر لهم جزورا في ناحية مكة، فأرسلوا فجاءوا بسلاها وطرحوه عليه، فجاءت فاطمة وألقته عنه، فقال النبي : اللهم! عليك بقريش، اللهم! عليك بقريش، اللهم عليك بقريش بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط. ثم اجتمعوا يوما ورسول الله يصلي عند المقام وهم جلوس في ظل الكعبة فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جره حتى وجب النبي لركبته ساقطا، وتصايح الناس وظنوا أنه مقتول، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبعي رسول الله من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عن النبي ، فقام رسول الله يصلي، فلما قضى صلاته مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة فقال: يا معشر قريش! والذي نفس محمد بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح وأشار بيده إلى حلقه، فقال له أبو جهل: يا محمد! ما كنت جهولا! فقال رسول الله : أنت منهم فقال أبو جهل: ألم أنهك يا محمد؟ فانتهره النبي ، فقال أبو جهل: [ لم تنهرني والله لقد علمت ما بها رجل أكثر ناديا مني ]! فقال جبريل: فليدع ناديه، ولو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب، فقالت قريش: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد! فأتى عتبة فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله ، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله ، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى تسمع قولك، أما والله! ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش كاهنا، والله! ما تنتظر إلا أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل! إن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء قريش شئت حتى أزوجك عشرا، وإن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش مالا، فقال له رسول الله : أفرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله : حم * تنزيل من الرحمن الرحيم - حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فقال له عتبة: حسبك حسبك! ما عندك غير هذا، ثم رجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا تكلمت به، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا والذي نصبها ـ يعني الكعبة ـ ما فهمت شيئا مما قال غير أنه قال: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قالوا: ويلك! يكلمك رجل بالعربية ما تدري ما قال! قال: فو الله! ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة. فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى ورسول الله يبلغهم رسالات ربه صابرا محتسبا. ثم إن الله جل وعلا أراد هدي عمر بن الخطاب، وكان عمر من أشد قريش على رسول الله شغبا وأكثرهم للمسلمين أذى. وكان السبب في إسلامه أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل وكانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم يستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله بن النحام قد أسلم وكان يخفي إسلامه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا بسيفه يريد رسول الله ، وذكر له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء ومع رسول الله حمزة وعلي وأبو بكر في رجال من المسلمين ممن أقام مع رسول الله بمكة ولم يخرج إلى أرض الحبشة، فلقي نعيم بن النحام عمر بن الخطاب فقال: أين تريد؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابىء الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فاقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى أن عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! قال: وأي أهل بيتي؟ فقال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك، فقد أسلما وبايعا محمدا على دينه، فعليك بهما فرجع عمر عامدا لختنه وأخته وعندهما خباب بن الأرت ومعه صحيفة فيها طه يقرئها إياهما، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع حين دنا من البيت قراءتهما عليه، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله! لقد أخبرت أنكما بايعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد: فقامت إليه فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ـ وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا لنخشاك عليها، قال: لا تخافي ـ وحلف لها بآلهته ليردها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخي! إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا المطهرون، فقام عمر بن الخطاب فاغتسل ثم أعطته الصحيفة وفيها طه، فلما قرأ سطرا منها قال: ما أحسن هذا الكلام! فلما سمع خباب ذلك خرج إليه فقال له: يا عمر، والله لأرجو يكون خصك الله بدعوة نبيه فإني سمعته يقول اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هاشم أو بعمر بن الخطاب. فقال له عمر: دلني عليه يا خباب حتى أتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله ، فلما بلغ ضرب عليه الباب، فلما سمع المسلمون صوته قام رجل فنظر من خلال الباب فرآه متوشحا بالسيف فقال حمزة بن عبد المطلب: أئذن له، فإن كان يريد خيرا به لناله، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله : أئذن له، فأذن له الرجل ونهض إليه حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته ثم جبذه جبذة عظيمة وقال: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة. فقال له عمر: يا رسول الله! جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جئت به من عند الله، قال: فكبر رسول الله تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر أسلم فقال رسول الله : يا عمر! استره، فقال عمر: والذي بعثك بالحق لأعلنته كما أعلنت الشرك فتفرق أصحاب رسول الله عند ذلك وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر وحمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله ولذلك كان يقول ابن مسعود: ما زلنا أعزة مذ أسلم عمر.

ثم توفيت خديجة، فقال النبي : رأيت لخديجة بيتا في الجنة لا صخب فيه ولا نصب.

ثم تزوج رسول الله عند وفاة خديجة عائشة بنت أبي بكر قبل الهجرة بثلاثة سنين في شهر شوال وهي بنت ست لم يتزوج بكرا غيرها، وكانت أم عائشة أم رومان بنت عامر ابن عويمر بن عبد شمس.

ثم خرج رسول الله إلى الطائف يلتمس من ثقيف المنعة، وأشراف ثقيف يومئذ عبد يا ليل وحبيب ومسعود بن عمرو، فلما أتاهم رسول الله دعاهم إلى الله، فقال أحدهم: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الآخر هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك ـ وقال الآخر: إن كان كما تقول ـ ما ينبغي لي أن أكلمك أجلالا لك، وإن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله وقد سمع ما يكره فالتجأ إلى حائط لبني ربيعة وإذا عتبة وشيبة فيه فلما رأياه تحركت له رحمها، فدعوا غلاما لهما يقال له: عداس نصرانيا فقالا له: خذ هذا العنب واجعله في هذا الإناء واذهب به إلى ذلك الرجل، فلما أتاه به عداس وضع رسول الله يده في العنب وسمى الله، فنظره عداس في وجهه وقال: إن هذا لشيء ما يقوله الناس اليوم! قال: ومن أنت؟ قال: أنا رجل نصراني من أهل نينوى، قال: من قرية يونس بن متى؟ قال: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: ذلك أخي، كان نبيا من الأنبياء، فجعل عداس يقبل يديه ورجليه ويقول: قدوس! وقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما رجع إليهما فسألاه عما قال له، فقال: لقد أخبرني عن شيئ ما يعلمه إلا نبي! قالا: يا عداس ويحك! لا تخدع عن دينك.

ثم خرج رسول الله لما أيس من الطائف فمر بنخلة فقام يصلي من جوف الليل، فمر به النفر من الجن أصحاب نصيبين، فاستمعوا له عامة ليلته، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، وهم سبعة أنفس.

ثم قدم رسول الله مكة يدعوهم إلى الله ويستنصرهم ليمنعوا ظهره حتى ينفذ عن الله ما بعثه به، ثم افتقده أصحابه ليلة فباتوا بشر ليلة، فجعلوا يقولون: استطير أو اغتيل، وتفرقوا في الشعاب والأودية يطلبونه، فلقيه بن مسعود مقبلا من نحو حراء فقال: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي! بتنا بشر ليلة، قال رسول الله : أتاني داعي الجن فأتيتهم أقرئهم القرآن، وسألوني الزاد، فقلت: كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أو فرما كان لحما، والبعر علفا لدوابكم، فلذلك نهى رسول الله عن الاستنجاء بالروث والعظم، لأنه زاد إخواننا من الجن، وكان بن مسعود يقول: أراني رسول الله ليلة الجن آثارهم ونيرانهم، ثم أمر الله عز وجل رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب.

ذكر عرض رسول الله نفسه على القبائل

أخبرنا الحسن بن عبد الله بن يزيد القطان بالرقة ثنا عبد الجبار بن محمد ابن كثير التميمي ثنا محمد بن بشر اليماني عن أبان بن عبد الله البجلي عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس قال حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله ورسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: وأي ربيعة أنتم؟ أمن هامتها أم من لهازمها؟ فقالوا: لا، بل من هامتها العظمى، قال أبو بكر: وأي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال أبو بكر: فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك سالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال أبو بكر: فلستم إذا ذهلا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بقل وجهه فقال: على سائلنا أن نسأله، يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا فممن الرجل؟ فقال أبو بكر: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ، أهل الشرف والرئاسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة، قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة! فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمعا؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا، قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء الداجية؟ قال: لا، قال: فمن أهل السقاية؟ قال: لا، واجتذب أبو بكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله ، فقال الغلام:

صادف درء السيل درئا يدفعه يهيضه حينا وحينا يصدعه

أما والله لقد ثبت! قال: فتبسم رسول الله : فقال علي: فقلت: يا أبا بكر! لقد وقعت من الإعرابي على باقعة! فقال لي: أجل يا أبا الحسن! ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق، قال علي: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر وكان مقدما في كل خير فسلم وقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما وراء هذا القوم غر، هؤلاء غرر قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قصيبة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو وقد غلبهم جمالا ولسانا، وكان له غديرتان تسقطان على تربيته، وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر، فقال أبو بكر كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف، ولن يغلب ألف من قلة! فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق علينا الجهد ولكل قوم جد، قال أبو بكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش! قال أبو بكر: وقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا! قال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، قال: فإلى م تدعو يا أخا قريش! قال: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وأن تؤوني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله فكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد. فقال مفروق بن عمرو: إلى ما تدعونا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية، قال مفروق وإلى م تدعو يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا! فقال: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا زلة في الرأي وقلة فكر في العواقب، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا! فقال المثنى قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك وإنما نزلنا بين ضرتين، فقال رسول الله : ما هاتان الضرتان؟ قال: أنهار كسرى ومياه العرب، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله : ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم! نعم، قال: فتلا رسول الله إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ثم نهض رسول الله قابضا على يد أبي بكر وهو يقول: يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض.

قال أبو حاتم: إن الله جل وعلا أمر رسول الله أن يعرض على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئا، وينصروه ويصدقوه، فكان يمر على مجالس العرب ومنازلهم، فإذا رأى قوما وقف عليهم وقال: إني رسول الله إليكم! يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وتصدقوني، وخلفه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب عمه يقول: يا قوم لا تقبلوا منه، فإنه كذاب ـ حتى أتى كندة في منازلهم فعرض عليهم نفسه ودعاهم إلى الله فأبوا أن يستجيبوا له، ثم أتى كلبا في منازلهم فكلم بطنا منهم يقال له بنو عبد الله، فجعل يدعوهم حتى أنه ليقول لهم: يا بني عبد الله! إن الله قد أحسن اسم أبيكم، إني رسوله فاتبعوني حتى أنفذ أمره، فلم يقبلوا منه، ثم أتى بني حنيفة في منازلهم فردوا عليه ما كلمهم به، ولم يكن من قبائل العرب أعنف ردا عليه منهم، ثم أتى بني عامر بن صعصعة في منازلهم فدعاهم إلى الله، فقال قائل منهم: إن اتبعناك وصدقناك فنصرك الله ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال رسول الله ، الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقالوا: أنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر في غيرنا! لا حاجة لنا في هذا من أمرك.

وكان رسول الله يحضر الموسم فيعرض نفسه على من حضر من العرب، فبلغ رسول الله العقبة وإذا رهط منهم رموا الجمرة، فاعترضهم رسول الله وقال: ممن أنتم؟ قالوا: من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، فكلمهم بالذي بعثه الله به، فقال بعضهم لبعض: يا قوم! إن هذا الذي كانت اليهود يدعوننا به أن يخرج في آخر الزمان، وكانت اليهود إذا كان بينهم شيء قالوا: إنما ننتظر نبيا يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وثمود فنتبعه ونظهر عليكم معه، ثم قالوا لرسول الله : نرجع إلى قومنا ونخبرهم بالذي كلمتنا به، فما أرغبنا فيك! إنا قد تركنا قومنا على خلاف فيما بينهم، لا نعلم حيا من العرب بينهم من العداوة ما بينهم، وسنرجع إليهم بالذي سمعنا منك، لعل الله يقبل بقلوبهم ويصلح بك ذات بينهم ويؤلف بين قلوبهم وأن يجتمعوا على أمرك! فإن يجتمعوا على أمر واحد فلا رجل أعز منك، ثم قدموا إلى المدينة فأفشوا ذلك فيهم، ولما رجع حاج العرب كان لبني عامر شيخ قد كبر، لا يستطيع أن يوافي معهم الموسم وكان من أمرهم بمكان، فكانوا إذا رجعوا سألهم عما كان في موسهم ذلك، فلما كان ذلك العام سألهم، فأخبروه عما قال لهم رسول الله ودعاهم إليه، فوضع الشيخ يده على رأسه وقال: يا بني عامر! هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ فو الله ما تقولها إسماعيلي وإنها لحق! ويحكم! أين غاب عنكم رأيكم!

وسمعت قريش بمكة بالليل صوتا ولا يرون شخصه يقول: فإن يسلم السعدان يصبح محمد من الأمر لا يخشى خلاف المخالف فقالت قريش: لو علمنا من السعدان لفعلنا وفعلنا، فسمعوا من القائل وهو يقول:

فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس زلفة عارف

فإن ثواب الله للطالب الهدى جنان من الفردوس ذات رفارف

السعدان يريد به سعد الأوس ـ سعد بن معاذ، وسعد الخزرج ـ سعد بن عبادة.

ذكر بيعة العقبة الأولى

حدثنا محمد بن أحمد بن أبي عون الرازي ثنا عمار بن الحسن ثنا سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق قال أخبرني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة بن الصامت قال: كنا اثني عشر رجلا في العقبة الأولى، فبايعنا رسول الله على بيعة النساء أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فمن وفي فله الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

قال أبو حاتم: فلما كان الموسم جعل النبي يتبع القبائل يدعوهم إلى الله، فاجتمع عنده بالليل اثنا عشر نقيبا من الأنصار فقالوا: يا رسول الله إنا نخاف إن جئتنا على حالك هذه أن لا يتهيأ لنا الذي نريد ولكن نبايعك الساعة وميعادنا العام المقبل، فبايعهم النبي على أن لا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فمن وفى فله الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.

وأسماؤهم: منهم من بني النجار وثلاثة أنفس: أسعد بن زرارة بن عدس وهو أبو أمامة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة.

ومن بني زريق بن عامر بن زريق: رافع بن مالك بن العجلان وذكوان بن عبد قيس بن خالدة.

ومن بني غنم: عوف بن عمر بن عوف بن الخزرج.

ومنهم القوافل: عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم وأبو عبد الرحمن ابن يزيد بن ثعلبة حليف لهم من بلى. ومن بني سالم بن عوف: عباس بن عبادة بن نضلة.

ومن بني سلمة جعد بن سعيد. ثم من بني حرام: عقبة بن عامر بن نابي وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد.

ومن بني عبد الأشهل بن جشم: أبو الهيثم بن التيهان واسمه مالك وعويم بن ساعدة.

ثم رجعوا إلى قومهم بالمدينة وأخبروهم الخبر وفشا ذكر الإسلام بالمدينة، فكان الواحد بعد الواحد من الأنصار يخرج من المدينة إلى مكة، فيؤمن برسول الله ثم ينقلب إلى أهله، فيسلم بإسلامه جماعة حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.

ثم اختلف الأوس والخزرج في الصلاة وأبوا أن يترك بعضهم يؤم بعضا، فبعث رسول الله إلى المدينة مصعب بن عمير مع جماعة، وذلك أنهم كتبوا إلى رسول الله يسألونه أن يبعث عليهم رجلا من أصحابه يفقههم في الدين، فنز ل مصعب بن عمير على أسعد بن زرارة، فكان يأتى به دور الأنصار فيدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن، ويفقه من كان منهم دخل في الإسلام، وكان إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يد مصعب، وذلك أنه خرج مع أسعد بن زرارة إلى حائط من حوائط بني النجار معهما رجال من المسلمين، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لأسيد بن حضير: ائت هذا الرجل، فلولا أنه مع أسعد بن زرارة وهو ابن خالتي كما علمت كنت أنا أكفيك شأنه! فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم خرج حتى أتى مصعبا فوقف متشتما وقد قال أسعد لمصعب حين نظر إلى أسيد: هذا أسيد! من سادات قوم له خطر وشرف، فلما انتهى إليهما تكلم بكلام فيه بعض الغلظة، فقال له مصعب بن عمير: أوتجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته، وإن كرهت شيئا أو خالفك أعفيناك عنه، قال أسيد: ما بهذا بأس، ثم ركز حربته وجلس، فتكلم مصعب بالإسلام وتلا عليه القرآن، قال أسيد: ما أحسن هذا القول! ثم أمره فتشهد شهادة الحق، وقال لهم: كيف أفعل؟ فقال له: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين، ففعل ورجع إلى بني عبد الأشهل وثبتا مكانهما، فلما رآه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد رجع إليكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! فلما وقف عليه قال له سعد: ما وراءك؟ قال: كلمت الرجلين فكلماني بكلام رقيق، وزعما أنهما سيتركان ذلك، وقد بلغني أن بني حارثة قد سمعوا بمكان أسعد فاجتمعوا لقتله وإنما يريدون بذلك إحقارك وهو ابن خالتك، فإن كان لك به حاجة فأدركه، فوثب سعد وأخذ الحربة من يدي أسيد وقال: ما أراك أغنيت شيئا! ثم خرج حتى جاءهما ووقف عليهما متشتما وقد قال أسعد لمصعب حين رأى سعدا: هذا والله سيد من وراءه! إن تابعك لم يختلف عليه اثنان من قومه، فأبلى الله فيه بلاء حسنا، فلما وقف سعد قال لأسعد بن زرارة: أجئتنا بهذا الرجل يسفه شبابنا وضعفاءنا والله لولا ما بيني وبينك من الرحم ما تركتك وهذا! فلما فرغ سعد من مقالته قال له مصعب: أوتجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته وإن خالفك شيء أعفيناك، قال: أنصفت، فركز حربته ثم جلس، فكلمه بالإسلام وتلا عليه القرآن، فقال سعد: ما أحسن هذا! نقبله منك ونعينك عليه، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين، ففعل، ثم خرج سعد حتى أتى بني عبد الأشهل، فلما رأوه قالوا: والله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! فلما وقف عليهم قالوا: مما حئت؟ قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون رأيي فيكم وأمري عليكم؟ قالوا أنت خيرنا رأيا، قال فإن كان كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وحده وتشهدوا أن محمدا رسول الله وتدخلوا في دينه، فما أمسى من ذلك اليوم في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلم.

أول جمعة جمعت بالمدينة

جمعها أبو أمامة أسعد بن زرارة وهم أربعون رجلا في روضة يقال لها نقيع الخضمات من حرة بني بياضة، فكان كعب بن مالك يقول فيما بعد إذا سمع الأذان يوم الجمعة: رحمة الله على أبي أمامة أسعد بن زرارة!.

ذكر الإسراء برسول الله ليلة المعراج

أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني وأحمد بن علي بن المثنى التميمي وعمران بن موسى بن مجاشع السختياني قالوا ثنا هدية بن مجاشع السختياني قالوا ثنا هدية بن خالد القيسي ثنا همام ابن يحيى ثنا قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة أن نبي الله حدثهم عن ليلة أسري به قال: بينا أنا في الحطيم ـ وربما قال في الحجر ـ مضطجع إذ أتاني [ جبريل ] فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار يضع خطوة عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتح، فلما خلصت إذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد علي السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: ما هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قبل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتح له فلما خلصت إذا نحن بعيسى ويحيى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، قال: فسلمت وردا، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل؟ قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاسفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، قال: فسلمت عيه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتح، فلما خلصت إذا بهارون، قال: هذا هارون فسلم عليه قال: فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد وقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح! فلما تجاوزت بكى، قال: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي حتى أتى السماء السابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به! فنعم المجيء جاء! ففتحت، فلما خلصت إذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه قال: فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح! ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، قال، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: ما هذان يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع إلى البيت المعمور، ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة وأنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت بموسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بأربعين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، إني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلي موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بثلاثين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم، فإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عشرا، فرجعت إلى موسى، قال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بعشرين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، ثم رجعت إلى موسى، فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بعشر صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع عشر صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة. فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قلت: قد سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضى وأسلم، فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.

قال أبو حاتم: أسرى النبي إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، وفرض عليه خمس صلوات، ثم بعث الله جبريل ليؤم رسول الله عند البيت ويعلمه أوقات الصلوات، فلما كان الظهر نودي: إن الصلاة جامعة، ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم، فصلى بهم حين زالت الشمس على مثل الشراك، يؤم جبريل محمد ويؤم محمد الناس، ثم صلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى به المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى به العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى به الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم.

ثم صلى به الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم صلى به المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى به العشاء حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى به الفجر حين أسفر، ثم التفت جبريل إلى محمد ثم قال: يا محمد! هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين.

ذكر بيعة الأنصار بالعقبة الآخرة رسول الله

أخبرنا محمد بن صالح الطبري بالصيمرة ثنا أبو كريب ثنا إدريس عن يحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الله بن عمر ومحمد بن إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمكره والمنشط، وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث ما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.

قال أبو حاتم: فلما كان العام المقبل من حيث واعد الأنصار رسول الله أن يلقوه من العام المقبل بمكة، خرج سبعون رجلا من الأنصار فيمن خرج من أهل الشرك من قومهم من أهل المدينة، فلما كانوا بذي الحليفة قال البراء ابن معرور بن صخر بن خنساء وكان كبير الأنصار: إني قد رأيت رأيا ما أدري أتوافقوني عليه أم لا‍ قد رأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر، وأن أصلي إليها ـ يعني الكعبة، فقالوا له: والله ما هذا برأي وما كنا لنصلي إلى غير قبلة، فأبوا ذلك عليه وأبى أن لا يصلي إلا إليها‍، فلما غابت الشمس صلى إلى الكعبة وصلى أصحابه إلى الشام حتى قدموا مكة ن قال البراء بن معرور لكعب بن مالك: والله يا ابن أخي! قد وقع في نفسي مما صنعت في سفري هذا فانطلق بنا إلى رسول الله حتى أسأله عما صنعت وكانوا لا يعرفون رسول الله ، إنما كانوا يعرفون العباس بن عبد المطلب، لأنه كان يختلف إليهم إلى المدينة تاجرا، فخرجوا يسألون عن رسول الله بمكة حتى إذا كانوا بالبطحاء سألوا رجلا عنه فقال: هل تعرفونه؟ قالوا: لا، قال: فهل تعرفون العباس بن عبد المطلب؟ قالوا: نعم، قال: فإذا دخلتم المسجد فانظروا من الرجل الذي مع العباس جالس فهو هو، تركته معه الآن، فخرجوا حتى جاءوا فسلموا عليهما ثم جلسوا، فقال رسول الله للعباس: هل تعرف هذين الرجلين؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور وهذا كعب بن مالك، فقال له البراء يا رسول الله ! إني صنعت في سفري هذا شيئا قد وقع في نفسي منه شيء فأخبرني عنه، رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر وصليت إليها، فعنفني أصحابي وخالفوني فقال رسول الله لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها ـ ولم يزد على ذلك ثم خرجوا إلى منى، فلما كان في أوسط أيام التشريق ذات ليلة واعدوا رسول الله العقبة، فخرجوا في جوف الليل، يتسللون من رجالهم، ويخوفون ذلك من قومهم من المشركين، فلما اجتمعوا عند العقبة أتى رسول الله ومعه عمه العباس فكان أول من تكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج إن محمدا في منعة من قومه وبلاده وقد منعناه ممن ليس على مثل رأينا فيه وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم توفون له بما وعدتموه فأنتم وما جئتم به، وإن كنتم تخافون عليه من أنفسكمم شيئا فالآن فاتركوه، فإنه في عز ومنعة، قالوا: قد سمعنا ما قلت، ثم تكلم رسول الله وتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله، فآمنوا وصدقوه، ثم تكلم البراء معرور وأخذ بيد رسول الله فقال: بايعنا، فقال رسول الله : أبايعكم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني وتمنعوني بما تمنعون به أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فبايعوه على ذلك، فقال رجل من الأنصار يقال له عباس بن عبادة بن نضلة: يا معشر الأنصار! هل تدرون ما تبايعون عليه هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر، فإن كنتم ترون أنكم لتوفون بما عاهدتموه عليه فهو خير الدنيا والأخرة فخذوه، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه إذا كان ذلك فالآن فدعوه فهو خزي الدنيا والآخرة، فقال أبو الهيثم بن التيهان: يا رسول الله إن بيننا وبين قومه رحما، وإنا قاطعوها فيك، فهل عسيت إن نحن بايعناك وأظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فضحك رسول الله وقال: الدم الدم! الهدم الهدم! إني منكم وأنتم مني أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم ثم قال لهم رسول الله : ابعثوا إلي منكم اثني عشر نقيبا كفلا على قومهم بما كان منهم ككفالة الحواريين بعيسى ابن مريم، فقال أسعد بن زرارة: نعم يا رسول الله فقال رسول الله : وأنت نقيب على قومك، فقال: نعم، فأخذ رسول الله منهم اثني عشر نقيبا، فكان نقيب بني مالك بن النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار. وكان نقيب بني سلمة البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام، أبو جابر بن عبد الله. وكان نقيب بني ساعدة المنذر بن عمرو بن خنيس وسعد بن عبادة بن دليم. وكان نقيب بني زريق بن عامر رافع ابن مالك بن العجلان. وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة ابن مالك وسعد بن الربيع بن عمرو. وكان نقيب القوافل عبادة بن الصامت بن قيس. وكان نقيب بني عبد الأشهل أسيد بن حضير بن سماك وأبو الهيثم بن التيهان. وكان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة بن الحارث. فقال عباس بن عبادة بن نضلة: والله يا رسول الله! لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا! فقال رسول الله لم أؤمر بذلك، ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا إلى رحالهم وهم سبعون رجلا، فلما أصبحوا غدت عليهم قريش قالوا: يا معشر الخزرج! إنه قد بلغنا عنكم شيء لا ندري أحق هو أم باطل، إنه لأبغض قوم إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فجعل من كان من المشركين من قومهم يحلفون بالله ما علمنا ولا فعلنا، وصدقوا. قال: كعب بن مالك: فنظرت إلى عبد الله بن عمرو بن حرام فقلت: يا أبا جابر! أنت شيخ من شيوخنا وسيد من ساداتنا ألا تتخذ نعلا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ـ يريد الحارث بن هشام، فلما سمعه الحارث خلعهما ورمى بهما إليه فقال: البسهما، قال كعب: قال: والله صالح! ولئن صدق لأسلبنه.

فرجع الأنصار إلىالمدينة ورجع رسول الله إلى مكة، وكانت هذه البيعة في ذي الحجة قبل هجرة النبي إلى المدينة بثلاثة أشهر. فلما علمت قريش أن القوم قد عاقدوه ورأت من اتبعه من الأنصار اجتمع نفر من أشراف كل قبيلة ودخلوا دارالندوة ليدبروا أمرهم في رسول الله فاعترضهم إبليس في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: رجل من أهل نجد، سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمنكم مني رأي ونصح، قالوا: أجل، ثم قال: انظروا في أمر هذا الرجل، فقال بعضهم: احبسوه في وثاق تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء فإنما هو كأحدهم، قال النجدي: ما هذا برأي فيخرجنه من محبسه وليوشكن أن يثبوا عليكم حتى يأخذوه من بين أيديكم ثم لا آمن أن يخرج من بلادكم، انظروا في غير هذا، قال قائل: اخرجوه من بين أظهركم، فإنه إذا خرج غاب أذاه وشره، وأصلحتم أمركم بينكم، وخليتم بينه وبين ما هو فيه، قال النجدي: ما هذا برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب بما يسمع منه، ولئن فعلتم استعرض ولا آمن أن يدخل على كل قبيلة فيقبل منه ما جاء به، ثم يسيره إليكم حتى ينزع أمركم من أيديكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، انظروا رأيا غير هذا، قال أبو جهل: والله! لأشيرن برأيي عليكم ما أراكم أبصرتموه بعد، قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا ثم نعطيه سيفا صارما حتى يضربوه ضربة رجل واحد، فإذا تفرق دمه في القبائل فلا أظن أن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها، فإذا أرادوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا منه، ثم أصلحتم أمركم فاجتمع ملككم على ما كنتم عليه من دين آبائكم، فقال النجدي: القول ما قال هذا الفتى، لا رأي غيره، فتفرقوا على ذلك.

وأتاه جبريل وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم، فأمر النبي عليا فتغشى بردا له أحمر حضرميا فبات في مضجعه واجتمعت قريش لرسول الله عند باب بيته يرصدونه، فخرج رسول الله في يده حفنة من تراب فرماها في وجوههم، فأخذ الله بأعينهم عن رسول الله ، فباتوا رصدا على بابه وانطلق رسول الله لحاجته، فخرج عليهم من الدار خارج فقال: ما لكم؟ قالوا: ننتظر محمدا، قال: قد خرج عليكم، فانصرفوا يائسين ينفض كل واحد منهم التراب عن رأسه، قال أبو بكر الصديق، إنا لله وإنا إليه راجعون! أخرجوا ‍نبيهم، ليهلكن! فنزلت أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير فأمره الله بالقتال وفرض عليه الجهاد وهي أول آية نزلت في القتال ثم أمر الله جل وعلا رسول الله بالهجرة إلى يثرب.

ذكر هجرة رسول الله إلى يثرب

أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي ثنا ابن أبي السرى ثنا عبد الرزاق أن معمر عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله : أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين، وتجهز أبو بكر مهاجرا، فقال له رسول الله : على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن، فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر، قالت عائشة: فبينا نحن جلوس يوما في بيتنا في نحر الظهيرة فقال قائل لأبي: هذا رسول الله مقبل مقتنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فداه أبي وأمي! إن جاء به في هذه الساعة إلا لأمر! قالت: فجاء رسول الله فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال رسول الله لأبي بكر: أخرج من عندك، قال أبو بكر: إنما هو أهلك بأبي أنت يا رسول الله ! فقال رسول الله : فإنه قد أذن لي بالخروج فقال أبو بكر: فالصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله : نعم، فقال أبو بكر: بأبي أنت يا رسول الله! خذ إحدى الراحلتين هاتين، فقال رسول الله : بالثمن، قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت به الجراب، فلذلك كانت تسمى ذات النطاق، ولحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل يقال له: ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال.

قال أبو حاتم: لما أمر الله جل وعلا رسوله بالهجرة استأجر رسول الله رجلا من بني الديل وهو من بني عدي هاديا خريتا ـ والخريت: الماهر بالهداية ـ قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش، فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما وأوعداه بغار ثور بعد ثلاث، وخرج وأبو بكر حتى أتيا الغار في جبل ثور كمنا فيه، وخرج المشركون يطلبونهما حتى جاءوا إلى الجبل وأشرفوا على الغار، فقال أبو بكر: يا رسول الله! لو أبصر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فقال رسول الله : يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، فأعمى الله أعينهم عن رسول الله ، فلما أيسوا رجعوا، ومكث رسول الله وأبو بكر في الغار ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر الصديق وهو غلام شاب ثقف ئخن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها، فلا يسمع أمرا يكاد به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط للكلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منيحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، يفعل ذلك في كل ليلة من الليالي الثلاث، ثم خرج النبي بعد ثلاث، معه أبو بكر وعامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم الدليل طريق الساحل فاجتنوا ليلتهم حتى أظهروا وقام الظهيرة رمى أبو بكر بصره هل يرى ظلا يؤون إليه، فإذا هم بصخرة فانتهوا إليها فإذا بقية ظلها، فسوى أبو بكر ثم فرش لرسول الله ثم قال: اضطجع يا رسول الله! فاضطجع، ثم ذهب ينظر هل يرى من الطلب أحدا، فإذا هو براعي الغنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي يريدون من الظل، فسأله أبو بكر: لمن أنت يا غلام، قال: لفلان ـ رجل من قريش، فعرفه أبو بكر فقال: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، فقال: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم، فأمره فاعتقل شاة من غنمه وأمره أن ينفض عنها من الغبار، فحلب له كثبة من لبن، وكان معه إداوة لرسول الله على فمها خرقة، فصب اللبن حتى برد أسفله ثم ملأها، فانتهى بها إلى رسول الله وقد استيقظ فقال: اشرب يا رسول الله، فشرب وشرب أبو بكر، فقال أبو بكر: قد أتى الرجل يا رسول الله، قال: لا تحزن، والقوم يطلبونهم، قال سراقة بن مالك بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فقال سراقة: فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت لهم: إنهم ليسوا هم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبث في مجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحسبها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجة الأرض حتى أتيت فرسي، فركبتها ودفعتها تقرب بي حتى ذنوت منهم، فعرد بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستسقمت بها أخرج أما لا. فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، فقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكن تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله فقلت: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم بأخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم بالزاد والمتاع فلم يرزءاني ولم يسألاني إلا أنهما قالا: أخف علينا، فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة وأمن، فأمر أبا بكر، فكتب لي في رق من أدم قال سراقة: والله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله : لا حاجة لنا في إبلك وغنمك، وانطلق راجعا إلى أصحابه ومضى رسول الله فلقي الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله وأبا بكر ثيابا بيضاء.

ثم ساروا إلى خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة ثم تسقي وتطعم، فينالونها تمرا ويشترون، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، فإذا، القوم مرملون مسنتون، فنظر رسول الله إلى شاة في كسر خيمتها فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن، أحلبها؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي! إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا رسول الله بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله عليه وقال: اللهم! بارك لها في شاتها، فتفاجت ودرت واجترت فدعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه فشربوا حتى رووا وشرب آخرهم، وقال: ساقي القوم آخرهم شربا، فشربوا جميعا عللا بعد نهل حتى أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء، فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها، فقل ما لبث فجاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا له حفلا عجافا يتساوكن هزلا، مخهن قليل، لا نقى بهن.

فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين لك هذا والشاء عاذب ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال: والله إني أراه صاحب قريش الذي نطلبه، صفيه لي يا أم معبد! قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة مليح الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزره صلعة، وسيم جسيم، قسيم، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، أحور الأكحل، أزج أقرن، رجل شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرون، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا يتثنى من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، وله رفقاء يحفون، به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تسارعوا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند، قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره! لو كنت وافقت لالتمست إلى أن أصحب، ولأفعلنه إن وجدت إلى ذلك سبيلا. وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه ولا يدرون من يقوله، وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به فأفلح من أمسى رفيق محمد

فيال قصى ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجازى وسودد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت له بصريح ضرة الشاة مزبد

فغادره رهنا لديها لحالب يرددها في مصدر ثم مورد

فأجابه حسان بن ثابت:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم وقد سر من يسري إليه ويغتدي

ترحل عن قوم فضلت عقولهم وحل على قوم بنور مجدد

وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا عمي وهداة يهتدون بمهتدي

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلوا كتاب الله في كل مشهد

وإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقها في ضحوة اليوم أو الغد

ليهنئ أبا بكر سعادة جده بصحبته من يسعد الله يسعد

ليهنئ بني كعب مقام فتاتهم ومقعدها للمؤمنون بمرصد

فلما سمع المسلمون الأبيات خرج المسلمون سراعا فوجا فوجا يلحقون برسول الله فأخذوا على خيمة أم معبد.

وسمع المسلمون بالمدينة بخروج النبي من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرون قومهم حتى يردهم حر الظهيرة فكان أول من قدم عليهم من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قصي، فقالوا: ما فعل رسول الله ؟ قال: هو وأصحابه على إثري، ثم أتاهم بعده عمرو بن أم مكتوم الأعشى أخو بني فهر، فقالوا: ما فعل من ورائك رسول الله وأصحابه؟ فقال: هم الآن على أثري، ثم أتاهم بعده عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وبلال، ثم أتاهم عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، وكان رسول الله حيث خرج من الغار سلك بهم الدليل أسفل من مكة، ثم مضى بهم حتى جاوز بهم الساحل أسفل عسفان، ثم استجاز بهم على أسفل أمج حتى عارض بهم الطريق، ثم أجاز بهم فسلك بهم الخرار، ثم أجاز بهم ثنية المرة، ثم سلك بهم القفا، ثم أجاز بهم مدلجة لفف، ثم استبطن بهم مدلجة لفف، ثم استبطن بهم مدلجة مجاج، ثم سلك مرجح من ذي العضوين ثم بطن ذي كشد، ثم أخذ بهما الجداجد ثم الأجرد، ثم سلك بهم بطن أعداء ثم مدلجة تعهن ثم العبابيد ثم الفاجة ثم العرج ثم بطن العائر ثم بطن ريم، ثم رحلوا من بطن ريم ونزلوا بعض حرار المدينة، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، وبعثوا رجلا من أهل البادية يؤذن بهم الأنصار، فجاء البدوي وآذن بهم الأنصار، وصعد رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فنظر إلى رسول الله مبيضين؟ فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب! هذا جدكم الذي تنتظرون! فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظهر الحرة وهم خمسمائة رجل من الأنصار، فتلقى الناس والعواتق فوق الأجاجير، والصبيان والولائد يقولون:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

وأخدت الحبشة يلعبون بحرابهم لقدوم رسول الله فرحا بذلك.

ذكر قدوم النبي المدينة

أخبرنا أبو خليفة ثنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول: اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء: فليحمله إلى أهلي، فقال له عازب: لا حتى تحدثني كيف صنعت أنت ورسول الله حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم؟ فقال: ارتحلنا من مكة ـ فذكر حديث الرحل، وقال: حتى أتينا المدينة فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله ، فقال رسول الله : إني أنزل الليلة على بني النجار وأخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك، فخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: جاء محمد! جاء رسول الله ! فلما أصبح انطلق فنزل حيث أمر.

قال أبو حاتم: لما أمسى رسول الله الليل عدل فنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب، لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو كانت من بني عدي بن النجار، فلما أصبح نزل حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وأبو مرثد وابنه مرثد وأبو كبشة وزيد بن حارثة على كلثوم بن الهدم العمري أخي بني عمرو بن عوف، ونزل أبو بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف ونزل عمر وزيد ابنا الخطاب وعمر وعبد الله ابنا سراقة وعبد الله بن حذافة وواقد بن عبد الله، وخولى بن أبي خولى وعياش بن ربيعة وخالد وعاقل وإياس بن البكير على رفاعة بن عبد المنذر، ونزل عبيدة والطفيل والحصين بنو حرب ومسطح بن أثاثة وسويبط مولى أبي سعد وكليب ابن عمير وخباب بن الأرت على عبد الله بن سلعة العجلاني، ونزلت زينب بنت جحش وجدامة بنت جندل وأم قيس بنت محصن، وأم حبيبة بنت نباتة وأمية بنت رقيش وأم حبيبة بنت جحش وأم سخبرة بنت نعيم على سعد بن خيثمة، وعشى رسول الله المسلمون وأقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صامتا يسلمون، وأقام رسول الله في بني عوف بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس المسجد بقباء وصلى فيه تلك الأيام، فلما كان يوم الجمعة خرج على ناقته القصوى يوم الجمعة يريد المدينة، واجتمع عليه الناس فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف، فكانت أول جمعة جمعها رسول الله بالمدينة، ثم جعل رسول الله يمر بدور الأنصار فيدعونه للنزول ويعرضون عليه المؤاساة فيجزيهم النبي خيرا حتى مر على بني سالم، فقام عتبان بن مالك في أصحاب له فقالوا له: يا رسول الله! أقم في العدد والعدة والمعنة، فقال النبي : خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، ثم مر ببني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة وأبو دجانة والمنذر بن عمرو وداود راودوه على النزول، فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ثم مر ببني بياضة فاعترضه فروة بن عمرو وزياد ابن لبيد وراودوه على النزول، فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ثم مر على بني عدي بن النجار فقال أبو سليط بن أبي خارجة: عندنا يا رسول الله! فنحن أخوالك ـ وذكروا رحمهم، فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، وأقبلت الناقة حتى انتهت به إلى مربد التمر وهو يومئذ لغلامين يتيمين من بني النجار في ‍حجر أسعد بن زرارة اسمهما سهل وسهيل ابنا رافع بن أبي عمرو وكان المسلمون بنوا مسجدا يصلون فيه وهو موضع مسجده اليوم، فلما انتهت به الناقة إلى المسجد بركت، فنزل عنها رسول الله وقال: هذا إن شاء الله المنزل! وجاء أبو أيوب الأنصاري خالد بن زبد بن كليب فأخذ برحله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، ثم سأل رسول الله عن المربد، فقال معاذ بن عفراء. هو لغلامين يتيمين وانا مرضيهما عنه، فدعا رسول الله فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك، فأبى رسول الله أن يقبل منهما هبة حتى ابتاعه منهما، فلما خرج رسول الله من المسجد قالوا: يا رسول الله، المرء مع موضع رحله، فنزل على أبي أيوب الأنصاري ومنزله في بني غنم بن النجار، ثم أخذ رسول الله والمسلمون في بناء المسجد، وكان رسول الله ينقل معهم اللبن:

هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر

اللهم إن الخير خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة

وكان عمار بن ياسر جعدا قصيرا وكان ينقل اللبن وقد أغبر صدره فقال له رسول الله : يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية وقدم طلق بن علي على رسول الله وكان يعين المسلمين في بناء المسجد. فكان النبي يقول: قربوا الطين من اليمامى فإنه من أحسنكم به مسكا، ومات أسعد بن زرارة والمسجد يبنى، أخذته الشهقة، ودفن بالبقيع، وهو أول من دفن بالبقيع من المسلمين فكان النبي نازلا على أبي أيوب حتى فرغ من المسجد وبنى له فيه مسكن، فانتقل رسول الله حين فرغ من المسجد ومسكنه إليه، ثم بعث رسول الله زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليقفل سودة بنت زمعة زوجته وبناته، وبعث أبو بكر الصديق عبد الله بن أريقط إلى عبد الله بن أبي بكر أن يقدم بأهله، فلما قدم ابن أريقط على عبد الله بن أبي بكر خرج عبد الله بعيال أبي بكر: عائشة وعبد الرحمن وأم رومان أم عائشة وكان البراء بن معرور مات في صفر قبل قدوم النبي المدينة بشهر وأوصى عند موته أن يوجه إذا وضع في قبره إلى الكعبة ففعل به ذلك، فلما قدم رسول الله المدينة صلى على قبره، وولد مسلمة بن مخلد، وكان آخر الأنصار إسلاما بنو واقف وبنو أمية وبنو وائل وكانت الأنصار كل واحد منهم يهدي لرسول الله حين قدم المدينة تيسا، وكانت أم سليم لم يكن لها ما تهدي فأتت بابنها أنس إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، ابني هذا يخدمك وليس عندي ما أهديه، فادع الله له، فقال رسول الله : اللهم أكثر ماله وولده.

ثم دخل رسول الله دار أنس بن مالك وكان أنس له عشر سنين حيث قدم رسول الله المدينة، فكانت أمهاته يحثثنه، فلما دخل داره حلب له من داج وشاب له لبنها بماء يسير في الدار، وأبو بكر عن شماله وأعرابي عن يمينه، فناوله رسول الله الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين فرآهم رسول الله متنفلين فقال: يا أيها الناس، اقبلوا فريضة الله. فأقرت صلاة المسافر وزيد في صلاة المقيم وذلك اثنتي عشر ليلة من شهر ربيع الآخر بعد قدومه عليه السلام المدينة بشهر.

ووعك أصحاب رسول الله وعكا شديدا فدخلت عائشة على أبي بكر وهو يقول:

كل امرئ مصبح في أهله والموت أقرب من شراك نعله

ثم دخلت على عامر بن فهيرة وهو يقول:

كل امرئ مدافع بطوقه الثور يحمي جلده بروقه

فدخلت على بلال وهو يقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

وكان بلال يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام كما أخرجونا من مكة، فأخبر عائشة النبي بما رأت من وعكهم، فقال النبي : اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، وبارك لنا فيها كما باركت لنا في مكة، وبارك في صاعها ومدها وانقل وباءها إلى مهيعة وهي الجحفة.

ودخل رسول الله المسجد وقد حمى الناس وهم يصلون قعودا، فقال النبي : صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فختم الناس الصلاة قياما، ثم قال النبي : اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة. ثم أراد رسول الله أن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار في شهر رمضان، فدخل المسجد فجعل يقو ل: أين فلان بن فلان؟ فلم يزل يعدهم ويبعث إليهم اجتمعوا عنده فقال: إني أحدثكم بحديث فاحفظوه وحدثوا من بعدكم إن الله اصطفى من خلقه خلقا ثم تلى هذه الآية الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، خلقا يدخلهم الجنة، وإني مصطف منكم من أحب أن أصطفيه، ومؤاخ بينكم كما آخا الله بيت الملائكة، قم يا أبا بكر فقام فجيء بين يديه، فقال: إن لك عندي يد الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، وأنت عندي بمنزلة قميصي في جسدي ـ وحرك قميصه، ثم قال: ادن يا عمر فدنا فقال: لقد كنت شديد الثغب علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز الدين بك أو بأبي جهل، ففعل الله ذلك بك وكنت أحبهما إلى الله، فأنت معي ثالث ثلاثة من هذه الأمة. ثم تنحا وآخا بينه وبين أبي بكر، ودعا عثمان بن عفان فقال: ادن يا عثمان، ادن يا أبا عمرو، فلم يزل يدنو حتى ألزق ركبته بركبته، ثم نظر إلى السماء فقال: سبحان الله العظيم. ثم نظر إلى عثمان فإذا إزاره محلولة فزرها عليه ثم قال: اجمع لي عطفي ردائك على نحرك، فإن لك شانا عند أهل السماء، أنت ممن يرد علي الحوض وأوداجه تشخب دما ثم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: ادن يا أمين الله! يسلط الله على مالك بالحق، أما إن لك عندي دعوة قد أخرتها، فقال: خرلي فقال: أكثر الله مالك. ثم تنحى وآخى بينه وبين عثمان. ثم دعا طلحة والزبير فقال: ادنوا مني، فدنوا منه، فقال: أنتما حواري كحواري عيسى ابن مريم! ثم آخى بينهما.

ثم دعا سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر فقال: يا عمار! تقتلك فئة الباغية، ثم آخى بينهما.

ثم دعا عميرا أبا الدرداء وسلمان الفارسي فقال: يا سلمان! أنت منا أهل البيت، وقد آتاك الله العلم الأول والعلم الآخر، ثم قال: ألا أنشدك يا أبا الدرداء! قال: بأبي أنت وأمي بلى، قال: إن تنقدهم فينقدوك، وإن تتركهم لا يتركوك، فأقرضهم عرضك ليوم فقرك، واعلم أن الجزاء أمامك، ثم آخى بينهما، ثم نظر في وجوه أصحابه فقال: ابشروا وقروا عينا، فأنتم أول من يرد علي الحوض، وأنتم في أعلى الغرف، ونظر إلى عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله الذي يهدي من الضلالة من أحب.

فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله، ذهب روحي فانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، فإن كان من سخطة علي فلك العتبي والكرامة. قال: والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون بن موسى غير أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي قال: يا رسول الله، ما أرث منك؟ قال: ما ورثت الأنبياء قبلي، قال: وما ورثت الأنبياء قبلك؟ قال: كتاب الله وسنة نبيهم، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي، ثم تلا رسول الله إخوانا على سرر متقابلين.

ومات الوليد بن المغيرة بمكة وأبو أحيحة بالطائف، بلغ المسلمين نعيهما، وولد عبد الله بن الزبير في شوال، فكبر المسلمون وكانوا يخافون أن يكون اليهود سحرت نساءهم، وكان أول مولود ولد من المهاجرين بالمدينة، وهنئ به أبو بكر والزبير، ولم ترضعه أسماء بنت أبي بكر حتى أتت به النبي ، فأخذه ووضعه في حجرة فحكنه بتمرة، فكان أول شيء دخل بطنه ريق رسول الله ثم سماه عبد الله.

ثم عقد رسول الله اللواء لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد المناف على ستين من المهاجرين وليس فيهم من الأنصار أحد، هي أول راية عقدها بالمدينة،، وبعثه إلى بطن رابغ، فبلغ ثنية المرة بالقرب من الجحفة، فالتقوا على ماء يقال له أحياء، وأمير السرية أبو سفيان بن حرب في مائتين من المشركين، فلم يكن بينهم إلا الرمي بالرمي، ثم انحاز المسلمون على رامية، وانحاز من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو بن الأسود وقد قيل: عتبة بن غزوان، ثم انصرفوا من غير أن يسلوا السيوف، وقد قيل: إن المشركين أميرهم كان مكرز بن حفص بن الأخيف، وكان حامل اللواء لعبيدة بن الحارث مسطح بن أثاثة.

ثم عقد رسول الله اللواء لحمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا كلهم من المهاجرين، بعثه إلى ساحل البحر من قبل العيص من أرض الجهينة ليتعرض لعير قريش، فلقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان حليفا للفريقين، فانصرف الفريقان من غير قتال، وكان حامل لواء حمزة يومئذ أبو مرثد.

ثم بنى رسول الله بعائشة وهي بنت تسع على رأس ثمانية أشهر من هجرته وذلك في شوال، وكان تزوج بها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين وهي ابنة ست، فأهديت إلى النبي ومعه البهاء، ولم يزوج من النساء بكرا غيرها.

ثم عقد رسول الله اللواء لسعد بن أبي وقاص في عشرين رجلا يريد العير في ذي القعدة، فخرجوا على أقدامهم فكانوا يكفون بالنهار ويسيرون بالليل حتى أصبحوا لحرار صبح خامسة وقد سبقهم العير قبل ذلك بيوم فانصرفوا، وكان حامل اللواء يومئذ لسعد المقداد بن عمرو.

وجاء رسول الله أبو قيس بن الأسلت فعرض عليه رسول الله الإسلام، فقال: ما أحسن ما تدعو إليه. أنظر في أمري ثم أعود إليك. فلقيه عبد الله بن أبي فقال: كرهت والله حرب الخزرج، فقال أبو قيس: لا أسلم سنة، فمات في ذي الحجة.

السنة الثانية من الهجرة

حدثنا عبد الله بن محمد بن المدايني ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: قدم رسول الله فوجد اليهود يصومون عاشوراء فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: يوم عظيم، نجى الله فيه موسى وأغرق فرعون فيه وقومه، فصامه موسى شكرا لله تعالى، فقال رسول الله : أنا أولى بموسى وأحق بصيامه منكم، فصامه وأمر بصيامه.

قال: وجد رسول الله اليهود يصومون يوم عاشوراء في أول قدومه المدينة وهو أول السنة الثانية من الهجرة، فسألهم فأخبروه أن الله نجى الله موسىفي ذلك اليوم وأغرق آل فرعون فصامه موسى شكرا لله، فأمر رسول الله بصيامه وقال: أنا أولى بموسى، فصامه والمسلمون.

ثم زوج رسول الله ابنته فاطمة عليا في صفر، وقال له: أعطها شيئا، فقال: ما عندي يا رسول الله شيء، قال: فأين درعك الحطمية؟ فبعث إليها بدرعه.

وقد روي في تزويجها أخبار فيها طول تؤدي إلى مسلك القصاص فتنكبت عن ذكرها لعلمي بعدم صحتها من جهة النقل.

ثم غزا رسول الله غزوة الأبواء، وهي أول غزوة غزاها بنفسه، وبين الأبواء وودان ستة أميال، خرج رسول الله في المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وذلك في شهر ربيع الأول على رأس سنة من مقدمه المدينة، واستخلف سعد بن عبادة بن دليم وكان حامل لوائه حمزة بن عبد المطلب، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، والأبواء جبل وودان والأبواء بينهما الطريق، كلاهما ورد رسول الله ، وفي هذه الغزاة وادع رسول الله مخشي بن عمرو الضمري. ثم غزا رسول الله في مائتين من أصحابه إلى ناحية رضوى يريد عير قريش فيها أمية بن خلف.

واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.

ثم بعث رسول الله سعد بن أبي وقاص في السبعة نفر أو ثمانية حتى انتهى إلى الخرار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيدا. وكان سرح في المدينة يرعى في الحمى فاستاقه كرز بن جابر الفهري، فخرج رسول الله في إثره في المهاجرين، وكان حامل لوائه علي بن أبي طالب. واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وطلب رسول الله حتى بلغ بدرا، فلم يلحقه وفاته كرز فرجع إلى المدينة، وهذه الغزوة تسمى غزوة بدر الأولى.

ثم ولد النعمان بن بشير في جمادى الأولى، فحملته أمه عمرة بنت رواحة إلى رسول الله ، فحنكه رسول الله ، وهو أول مولود من الأنصار ولد بعد قدوم النبي المدينة.

ثم بعث رسول الله في رجب عبد الله بن جحش في اثني عشر نفسا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وكتب له كتابا وقال: أمسك كتابك فإذا سرت يومين فانشره فانظر ما فيه، ثم امض. وخرج مع عبد الله بن جحش أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص، وسهيل بن بيضاء، وعتبة بن غزوان وواقد بن عبد الله التميمي حليف بني عدي بن بيضاء، وخالد بن البكير حليف بني عدي، وعكاشة بن محصن، فسار عبد الله بن جحش ليلتين على ما أمره رسول الله ، ثم فتح الكتاب فإذا فيه: سر حتى تنزل نخلة على اسم الله، ولا تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك، وامض فيمن تبعك منهم حتى تقدم بطن نخلة فترصد بها عير قريش. فلما قرأ الكتاب قال: لست بمستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة فليمض، فإني ماض لأمر رسول الله ، فمضى ومضى القوم معه حتى إذا كانوا ببحران ـ معدن بالحجاز فوق الفرع ـ أضل عتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص بعيرا فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش حتى أتى المكان الذي أمره رسول الله ، فوجد عير قريش فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، فلما رأى أصحاب العير القوم هابوهم وحلزوهم، فأشرف لهم عكاشة ابن محصن وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه قال عمار: لا بأس عليكم! وأمنوا، فاستشاروا أصحاب رسول الله في أمرهم وكان آخر يوم من رجب.

فقال المسلمون: إن أخرنا عنهم هذا اليوم دخلوا الحرم فامتنعوا، وإن أصبناهم أصبناهم في الشهر الحرام، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان، وأعجزهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله ، فوقف رسول الله العير ولم يأخذ منها شيئا وحبس الأسيرين، وقال لأصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم هلكوا، وقالت قريش: استحل بهذا الشهر الحرام، قد أصاب فيه الدم والمال، فأنزل الله فيما كان قول رسول الله وما عظم في أنفس أصحابه وما جاؤوا به يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه إلى قوله أكبر من القتل يريد أنهم كانوا يفتنونكم في دينكم وأنتم في حرم الله حتى تكفروا بعد إيمانكم، فهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم في الشهر الحرام مع كفرهم وصدهم عن سبيل الله وإخراجكم منه، فلما نزل القرآن بذلك أخذ رسول الله العير، وأما الأسيران فإن الحكم أسلم وأقام عند رسول الله حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان ففاداه رسول الله ورجعوا به مكة، ومات بها مشركا.

ثم خرج رسول الله إلى ذي العشيرة في المهاجرين، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان حامل لوائه حمزة بن عبد المطلب حتى بلغ بطن ينبع، فوادع بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع. وكان النبي يحب أن يوجه إلى الكعبة فقال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله! لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى! فأنزل قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية، وقال السفهاء من الناس: من اليهود ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله قل لله المشرق والمغرب الآية، فصرفت القبلة إلى الكعبة في الظهر يوم الثلاثاء للنصف من شعبان، فكانت صلاته نحو بيت المقدس بعد قدومه المدينة سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام، فخرج رجل بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله وأنه قد وجه إلى الكعبة، فانحرف القوم حتى توجهوا إلى الكعبة.

ثم أنزل الله جل وعلا فريضة الصوم في شعبان، فلم يأمرهم رسول الله بعد فرض رمضان بصيام عاشوراء ولا نهاهم عنه.

غزوة بدر

خرج رسول الله في شهر رمضان لاثتني عشرة ليلة خلت منه يريد اعتراض عير قريش ومعه المهاجرون والأنصار، وضرب بعسكره قبل أن يخرج من المدينة ببئر أبي عيينة، وعرض أصحابه ورد من استصغر منهم، فكان ممن رد في ذلك اليوم من المسلمين عبد الله بن عمر ورافع بن خديج والبراء بن عازب وزيد ابن ثابت وأسيد بن حضير، وكان عمير بن أبي وقاص يستر في ذلك اليوم لأن لئلا يراه النبي ، فقال له سعد: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني النبي فيستصغرني فيردني! لعل الله أن يرزقني الشهادة، فرآه رسول الله فرده، فبكى بكاء شديدا فأجازه رسول الله ، وقتل ببدر شهيدا.

ثم رحل رسول الله من بئر أبي عيينة في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا، منهم أربعة وسبعون رجلا من المهاجرين وسائرهم من الأنصار، وكان لهم من الإبل سبعون بعيرا يتعاقب النفر البعير الواحد، فبعث رسول الله طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على طريق الساحل إلى الحوران يتجسسان خبر العير.

ورأت عاتكة بنت عبد المطلب بمكة رؤيا أفزعتها فبعثت إلى العباس فقالت: يا أخي! لقد رأيت البارحة رؤيا أفظعتني فاكتم علي، قال: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته: ألا! انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فإذا الناس قد اجتمعوا إليه فدخل المسجد والناس يتبعونه، فبيناهم حوله إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم خرج بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت، فما بقي بيت بمكة ولا دار إلا دخلها منها فلقة، قال العباس: والله! إن هذه لرؤيا فاكتميها ولا تذكريها.

ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة وكان له صديقا فذكرها له، فذكرها الوليد لأبيه، ففشا الحديث بمكة، فقال أبو جهل: ما يرضى بنو عبد المطلب أن يتنبأ رجالهم حتى تتنبأ نساؤهم.

وكان أبو سفيان بن صخر أقبل من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموالهم وتجاراتهم وفيها ثلاثون ـ وقيل: أربعون ـ رجلا من قريش، منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهري.

وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان، فأصاب خبرا من الركبان أن محمدا قد نفر في أصحابه، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها، فدخل ضمضم في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة مكة وهو يصرخ ببطن الوادي وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش! اللطيمة! اللطيمة! قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها أو لا تدركوها، الغوث! الغوث! فتجهزت قريش سراعا، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وخرجت تريد العير.

ولما بلغ رسول الله الصفراء بينها وبين المدينة ثلاث ليال بعث عدي بن أبي الزغباء الجهيني حليف بني النجار وبسبس بن عمرو الجهيني حليف بني ساعدة قدامه إلى مكة، فلما نزل الوادي أناخ إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنا لهما يستسقيان فيه، وعلى الماء إذ ذاك مجدي بن عمرو الجهني، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري جهينة وهما يتلازمان فقالت الملزومة لصاحبتها: إنما يأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم وأقضيك الذي على، فقال مجدي: صدقت، وخلص بينهما، فلما سمع بذلك عدي وبسبس ركبا راحلتيهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله فأخبراه، وأقبل أبو سفيان وقد تقدم العير حتى ورد الماء حذرا من الذي كان يخافه، فقال لمجدي بن عمرو: وهل أحسست أحدا؟ فقال: والله! ما رأيت أحدا إلا أني رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب! فرجع وضرب وجوه عيره فساحل بها وترك بدرا يسارا وانطلق حتى أسرع.

وأقبلت قريش فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة رؤيا فقال: أنا بين النائم واليقظان رأيت رجلا قد أقبل على فرس له حتى وقف ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف ـ وفلان وفلان، ثم ضرب في لبة بعيره وأرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه فبلغ أبا جهل رؤياه فقال: هذا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا! فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، قال: إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم وأموالكم وقد نجاهما الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا! ـ وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق ـ فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، فتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، ثم رحلت قريش حتى نزلت العدوة القصوى من بدر.

ولما بلغ رسول الله عرق الظبية دون بدر استشار الناس فقال: أشيروا علي أيها الناس! فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال مثل ذلك، ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله! أمض بنا لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تنتهي إليه رسول الله! فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير.

ثم قال: أشيروا علي أيها الناس! وإنما يريد رسول الله الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، فقال سعد بن معاذ: كأنك يا رسول الله إنما تريدنا! قال: أجل، فقال سعد: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا بما جئت به أنه الحق، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض بنا يا نبي الله لما أردت فنحن معك، والذي بعثك لو! استعرضت هذا البحر وخضت بنا لخضناه معك ما بقي منا رجل، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك! فسر بذلك رسول الله ثم ركب ورجل من أصحابه قدام الجيش، ومضى حتى وقف على شيخ قريبا من بدر فقال له: أيها الشيخ! ما بلغك عن محمد وأصحابه؟ فقال: ما أنا مخبرك حتى تخبرني من أنت! قال رسول الله : إذا أخبرتنا أخبرناك من نحن، فقال الشيخ: أذاك بذاك؟ قال: نعم، فقال الشيخ بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن يكن الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بكذا وكذا ـ بالمنزل الذي كان فيه رسول الله ، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن يكن الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بكذا وكذا ـ بالمنزل الذي هم فيه، ثم قال: ممن أنت؟ فقال رسول الله نحن من ماء، ثم انصرف رسول الله إلى أصحابه.

وأصاب علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رواية لقريش وفيها غلام لبني العاص وغلام لمنبه بن الحجاج، فأتوا بهما رسول الله ورسول الله قائم يصلي، فقالوا لهما: من أنتما؟ فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا لنسقي لهم الماء، فكره القوم خبر قريش ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فقالوا لهما: من أنتما؟ ألا لأبي سفيان؟ فأنكرا فضربوهما، فلما آذوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فأمسكوا عنهما، فانصرف رسول الله من صلاته وأقبل عليهم فقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما! والله إنهما لقريش! ثم دعاهما فقال: لمن أنتما؟ فأخبراه، ثم قال: أين قريش؟ قالا: خلف هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى من الوادي، قال: وكم هم؟ قالا: هم كثير، قال: ما عددهم؟ قالا: ما ندري، قال: فكم تنحر في اليوم؟ قالا: يوما عشرا ويوما تسعا، فقال رسول الله : هم بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ فسميا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة في رجال من قريش، وكان الذي ينحر لقريش تسعة رهط من بني هاشم: العباس بن عبد المطلب، ومن بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، ومن بني نوفل: الحارث بن عامر ابن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل، ومن بني الدار: النضر بن الحارث، ومن بني أسد: حكيم بن حزام، ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام، ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن بني سهم: منبه بن الحجاج، ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو. ثم أقبل رسول الله على المسلمين فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها، وبعث الله السماء فأصاب رسول الله والمسلمين ماء لبدلهم الأرض، وأصاب قريشا ماء لم يقدروا أن يرتحلوا معه. ثم رحل رسول الله بالمسلمين وقال لهم: سيروا على بركة الله فإنه قد وعدني إحدى الطائفتين، فكأني أنظر إلى مصارع القوم، ثم مضى يبادر قريشا إلى الماء حتى إذا جاء أدنى من ماء بدر نزل به فقال حباب بن المنذر ابن الجموح أحد بني سلمة: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل؟ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة، قال: فإن هذا ليس لك بمنزل، فانهض حتى نأتي أدنى قليب القوم فنزله ثم نغور ما سواه من القلب ثم نبني حوضا فنملأه ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله : قد أشرت بالرأي، ثم نهض رسول الله وسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل وبنى حوضا على القليب وقذفوا فيه الآنية، ثم أمر بالقلب فغورت، فقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كان علينا يا نبي الله جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام وما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فدعا له رسول الله بخير، وبنى له عريش، فقعد فيه رسول الله وأبو بكر، وارتحلت قريش حين أصبحت، فلما رآها رسول الله قال: اللهم! هذه قريش قد أقبلنا بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسلك، اللهم! فنصرك الذي وعدتني! اللهم فاحنهم الغداة. ورأى رسول الله عتبة بن ربيعة على جمل له أحمر فقال: إن يك في أحد من القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشد، فلما نرلت قريش أقبل نفر منهم حتى أقبلوا حوض رسول الله فيهم حكيم بن حزام، فقال النبي دعوهم بما شرب رجل منهم شربة إلا قتل غير حكيم بن حزام.

فلما اطمأنت قريش بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا احرز لنا محمد وأصحابه، فاستحال عمير بن وهب بفرس حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولكن امهلوني حتى أنظر هل لهم من كمين ومدد، فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع له إليهم فقال: ما رأيت شيئا ولكني رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح بثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله! ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منا، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم، فلما سمع بذلك حكيم بن حزام مشي في الناس حتى أتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد! أنت كبير قريش وسيدها والمطاع فيها! فهل لك أن لا تزال تذكر بخير آخر الدهر! قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك، قال: قد فعلت أنت على بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله ـ يعني عمر بن الحضرمي ـ وما أصيب من ماله، ولكن أنت ابن الحنظلية، فإني لا أخشى على الناس غيره ـ يعني أبي جهل، ثم قام عتبة فقال: يا معشر قريش! إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه، والله! لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه الرجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بينه وبين محمد وسائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، فجاء حكيم بن حزام أبا جهل فوجده قد نثل درعا له من جرابها وهو يهنئها فقال: يا أبا الحكم! إن عتبة أرسلني إليك بذلك بكذا وكذا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بينا وبين محمد! ثم قال أبو جهل: اللهم! اقطعنا الرحم وأتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة! ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا حلفيك عتبة يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، والله ما ذلك بعتبة ولكنه قد عرف أن ابنه فيهم وأن محمدا وأصحابه إنما هم آكلة جزور وقد رأيتم ثأركم فقم فانثل مقتل أخيك، فقام عامر بن الحضرمي ثم صرخ: واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب وحمى الناس واستوثقوا فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، فلما بلغ عتبة قول أبي جهل قال: سيعلم المصفر إسته من انتفخ سحره! ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتم على رأسه بعمامة له، وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه! فلما خرج يريد الحوض خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدميه بنصف ساقه وهو دون الحوض فخبا إلى الحوض فاقتحم فيه واتبعه حمزة بضربة أخرى فقتله في الحوض.

ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، فلما دنا إلى الصف دعا إلى البراز، فخرج إليه فتية ثلاثة من الأنصار: عوف ومعوذ ابنا الحارث ـ وأمهما عفراء ـ وابن رواحة، فسألهم فقالوا: رهط من الأنصار، فقال عتبة: أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، إنما نريد قومنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله قم يا حمزة بن عبد المطلب! قم يا علي بن أبي طالب! قم يا عبيدة بن الحارث! وكان أسن القوم فبارز عتبة بن ربيعة وبارز حمزة شيبة بن ربيعة وبارز علي بن أبي طالب الوليد بن عتبة.

فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، ولم يمهل علي الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي على عتبة واحتملا صاحبها فحازاه إلى أصحابه ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وقال رسول الله لأصحابه أن لا تحملوا حتى آمركم، وهو في العريش مع أبي بكر، ليس في العريش معه غيره، وهو يناشد الله ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول يا رسول الله! أقصر من مناشدتك الله، فإن الله موفيك بما وعدك، وشجع الله المسلمين على لقاء عدوهم وقللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم، وخفق رسول الله خفقة وهو في العريش ثم انتبه ثم قال: ابشر أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة يقول: أتاك نصر الله وعونه، فبعث الله الملائكة مسومين، فكان أبو أسيد مالك بن ربيعة شهد بدرا قال بعد أن ذهب بصره: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة. لا أشك ولا أمتري ولم تقاتل الملائكة في غزاة إلا ببدر، وإنما كانت تنصر وتعين، وكانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم.

ثم أخذ رسول الله حفنة من الحصى بيده وخرج من العريش فاستقبل القوم وقال: شاهت الوجوه! ثم نفخهم بها ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يقاتلهم رجل اليوم فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة! فقال عمير بن الحمام أحد بني سلمة وفي يده تمرات: يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت حتى قتلت مقبلا غير مدبر ما لي؟ قال: لك الجنة، فألقي التمرات من يده وتقدم فقاتل حتى قتل. ثم قال رسول الله لأصحابه: احملوا، ومن لقي العباس منكم فليدعنه، فإنه أخرج مستكرها، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس! والله لئن لقيته لألجمنه السيف! فبلغ رسول الله قوله فقال لعمر: يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟ فقال عمر: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، والله لقد نافق. فكان أبو حذيفة بعد ذلك يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة ـ فقتل يوم اليمامة شهيدا. وكان العباس قد أسلم بمكة ولكنه كان خاف قومه فيكتم إسلامه فحمل أصحاب رسول الله على المشركين فلم يكن إلا الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر منهم، فلما وضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله في وجه سعد بن معاذ الكراهة، فقال له : والله يا سعد! لكأنك تكره ما يصنع الناس! فقال: أجل يا رسول الله . قال: كانت هذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال، وكان ذلك يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، والمسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر نفسا، منهم أربعة وسبعون رجلا من قريش والمهاجرين، وسائر من الأنصار، والمشركون تسعمائة وخمسون مقاتلا، فقتل من المسلمين في ذلك اليوم من قريش ستة أنفس: من بني المطلب عبيدة بن الحارث بن المطلب، ومن بني زهرة بن كلاب: عمير بن أبي وقاص أخو سعد وذو الشمالين ابن عبد عمرو بن نضلة حليف لهم من خزاعة، ومن بني عدي بن كعب: عاقل بن البكير حليف لهم من بني سعد بن ليث ومهجع مولى عمر، ومن بني الحارث بن فهر: صفوان بن بيضاء.

وقتل من الأنصار من بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر. ومن بني الحارث بن الخزرج: يزيد بن الحارث وهو الذي يقال له ابن فسحم. ومن بني سلمة: عمير بن الحمام. ومن بني حبيب بن عبد الحارثة بن مالك بن غضب بن جشم: رافع بن المعلى. ومن بني النجار: حارثة ابن سراقة بن الحارث. ومن بني غنم بن مالك بن النجار: عوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد وهما ابنا عفراء.

فجميع من استشهد من بني قريش والأنصار أربعة عشر رجلا. وقتل علي بن أبي طالب في ذلك اليوم الوليد بن عتبة بن ربيعة، وقتل طعيمة ابن عدي بن نوفل أخاطعمة، فلما علاه بالسنة قال: والله! لا تخلصنا في الله بعد اليوم أبدا، وشارك حمزة في قتل عتبة بن ربيعة، وقتل عامر بن عبد الله الأنماري حليف بني عبد شمس، وقتل النضر بن الحارث بن كلدة أحد بني عبد مناف، وقتل العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة.

فجميع من قتل من المشركين في ذلك اليوم أربعة وسبعون رجلا وأسر مثل ذلك.

ثم أمر رسول الله أن يلتمس أبو جهل فسمع معاذ بن عمرو بن الجموح وهو يطلبه جماعة من المشركين يقولون: أبا الحكم! لا يصلون إليك، فلما سمعها علم أنه أبو جهل، جعله من شأنه وقصد نحوه، فلما أمكن منه حمل عليه وضربه ضربة فقطع قدمه بنصف ساقه، وكان عكرمة بن أبي جهل ابنه معه فحمل على معاذ، فضربه ضربة على عاتقه طرح يده فتعلقت بجلدة من جنبه وترك أبا جهل، وأجهضه القتال فقاتل عامة يومه وإنه يسحب يده خلفه بجلدة منه فلما آذته وضع عليها قدمه حتى طرحها، وعاش بعدها بلا يد حتى كان زمن عثمان. ومر معوذ بن عفراء بأبي جهل وهو مطروح فضربه حتى أثر فيه وتركه وبه رمق.

ثم مر عبد الله بن مسعود فوجده بآخر رمق فعرفه فوضع رجله على عاتقه ثم قال: أخزاك الله يا عدو الله! قال: وبماذا أخزاني هل إلا رجل قتلتموه! أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ فقال ابن مسعود: لله ولرسوله، ولما رآه أبو جهل قد وطي عنقه قال له: لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقى صعبا! فاحتز عبد الله رأسه ثم جاء به فقال: يا رسول الله! هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال النبي : آلله الذي لا إله غيره؟ فقال ابن مسعود: نعم، والله الذي لا إله غيره! فحمد الله رسول الله على ذلك: وكان عبد الرحمن بن عوف صديقا لأمية ابن خلف بمكة: أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ فيقول: نعم، فيقول أمية: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، فقال له عبد الرحمن: قل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، فكان يسميه في مكة عبد الإله، فمر به عبد الرحمن بن عوف في المعركة وهو واقف ومعه ابنه، ومع عبد أدرع يحملها، فلما رآه أمية بن خلف قال: عبد عمرو! فلم يجبه عبد الرحمن، قال: يا عبد الإله! فقال: نعم، فقال: أنا خير لك من هذه الأدرع التي معك، فقال عبد الرحمن: نعم والله هو الله إذا! فطرح عبد الرحمن الأدرع وأخذ بيده ويد ابنه، فقال له أمية بن خلف: يا عبد الإله! من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: ذلك حمزة بن عبد المطلب، فقال: ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل، فبينما عبد الرحمن يقودهما إذ رآهما بلال فقال: رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا! فقال عبد الرحمن: أي بلال! أسيرى، فقال: لا نجوت إن نجا! فقال عبد الرحمن: أتسمع يا ابن السوداء قال: لا نجوت إن نجا! ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا! فأحاط به المسلمون وعبد الرحمن يذب عنه، فخالف رجل بالسيف فضرب ابنه فوقع، فقال عبد الرحمن: انج بنفسك، فو الله ما أغني عنك شيئا! فعلاهم المسلمون بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول بعد ذلك: يرحم الله بلالا! اذهب أدرعي وفجعني بأسيري. وأسر أبو اليسر كعب بن عمرو العباس بن عبد المطلب وأوثقه، فبات رسول الله تلك الليلة ساهرا، فقيل له فقال: سمعت حنين العباس في وثاقه، فأطلق من وثاقه، فقال المسلمون: يا رسول الله! عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه وهو أسير: لا يصلح! فقال رسول الله ولم؟ قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك.

ثم قال النبي للمسلمين: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! قومك وأهلك استبقهم واستأنهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: كذبوك وأخرجوك قدمهم قدمهم فاضرب أعناقهم! قال رسول الله : إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فمن تبعني فإنه مني الآية، وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ـ الآية.

ثم نادى منادي رسول الله : من أسر أم حكيم فليخل سبيلها فإن رسول الله أمنها، وكان أسرها رجل من الأنصار وكتفها بذوابتها، فلما سمع منادي رسول الله ...

ثم أمر رسول الله بالقليب فطرح فيه جيف المشركين، ثم وقف عليهم فقال! يا أهل القليب! هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا! فقال المسلمون: يا رسول الله! نتادي قوما قد ماتوا؟ فقال رسول الله : لئن كنتم تسمعونها لقد سمعوها. ثم قام رسول الله يعرضهم ثلاثا.

وبعث رسول الله بالفتح إلى أهل المدينة، فبعث عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية، وزيد بن حارثة إلى أهل السافلة، فقدم زيد المدينة والناس يسوون على ابنة رسول الله رقية التي كانت تحت عثمان، فكان عثمان استأذن رسول الله في التخلف عن بدر ليقيم على امرأته رقية وهي عليلة، فأذن له رسول الله في ذلك وضرب له بسهمه وحده، فلما فرغوا من دفنها أتاهم الخبر بفتح الله المسلمين، فجاء أسامة بن زيد أباه، وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وزمعة ابن الأسود والعاص بن هشام، فقال: يا أبتاه! أحق هذا؟ فقال: نعم، يا بني! فقال المنافقون: ما هذا إلا أباطيل، فلم يصدقوه؟ حتى جيء بهم مصفرين مغللين.

وكان أول من قدم مكة من قريش بالخبر بمصابهم الحيسمان بن جابس بن عبد الله المدلجي، فقيل له: ما وراءك؟ فقال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم هشام وأمية بن خلف، فقال صفوان بن أمية ابن خلف: والله إن يعقل هذا بما يقول فسلوه عني، فقال: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذلك جالس في الحجر! وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

ثم قدم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مكة، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام، فلما رأى أبو لهب أبا سفيان بن الحارث مقبلا قال: هلم يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليهما، فقال: يا ابن أخي! كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء والله! إن هو إلا لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا حتى قتلونا كيف شاءوا وأسرونا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس لأنا لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم له شيء! فعاش أبو لهب بعد هذا الخبر سبعة أيام ورماه الله بالعدسة فمات فدفنوه بأعلى مكة، وكانت قريش لا تبكي على قتلاها مخافة أن يبلغ رسول الله وأصحابه فيشمتوا بهم.

ولما وقع بأيدي المسلمين ما وقع من المشركين اختلفوا فكانوا ثلاثا: فقال الذين جمعوا المتاع: قد كان رسول الله نفل كل امرئ ما أصاب، وقال الذين كانوا يطلبون العدو: والله! لولا نحن ما أصبتموه، ونحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم، وقال الحرس الذين كانوا يحرسون رسول الله مخافة أن يخالف إليه العدو: والله! ما أنتم أحق به منا، لو أردنا أن نقبل العدو حين منحونا أكتافهم وأن نأخذ المتاع حين لم يكن أحد دونه فعلنا! ولكنا خفنا على رسول الله كرة العدو فقمنا دونه، فما أنتم أحق به منا! وذلك أن النبي قال لهم: من صنع كذا فله كذا، فتنازعوا في ذلك شباب الرجال وبقيت الشيوخ تحت الرايات، فلما كان القائمون جاؤا يطلبون الذي جعل لهم رسول الله ، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا وراءكم وكنا تحت الرايات، ولو أنا كشفنا لكشفتم إلينا، فتنازعوا فأنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال ـ إلى آخر السورة، فانتزع الله ذلك من أيديهم وجعله إلى رسول الله فولى رسول الله الغنائم عبد الله بن كعب المازني.

ثم رحل رسول الله من بدر بعد ثلاث يريد المدينة وحمل الأسارى معه، فلما انحدر من بدر إذا بطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد قد أقبلا من الحوران، فضرب لهما النبي بسهميهما وأجرهما، فلما بلغ النبي الصفراء وبينهما وبين المدينة ثلاث ليال أمر بقتل النضر بن الحارث وكان أسيرا، قتله علي بن أبي طالب، فلما بلغ عرق الظبية قتل عتبة بن أبي معيط فقال عتبة لرسول الله : من للصبية يا محمد، فقال النبي : النار.

ثم قسم الغنائم بين الناس بالصفراء، وبين الصفراء وبين بدر سبعة عشر ميلا، قسمها على من حضر بدرا وأخذ سهمه مع المسلمين.

ثم إن رسول الله أقبل إلى المدينة قبل الأسارى بيوم ثم قدم بالأسارى يوم الثاني، فلما بلغوا الروحاء لقيهم المسلمون يهنؤونهم بفتح الله عليهم، فقال سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذي تهنئون به! والله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة ننحرها! فتبسم رسول الله ثم قال: يا ابن أخي! أولئك الملأ من قريش.

ثم قال رسول الله للعباس بن عبد المطلب: افد نفسك وبني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمر أحد بني الحارث ابن فهر، فإنك ذو مال، فقال يا رسول الله! إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني فقال رسول الله : الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك بذلك، فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك، وقد كان رسول الله أخذ منه عشرين أوقية من ذهب فقال العباس: يا رسول الله! فاحسبها من فدائي، قال: لا، ذلك شيء أعطانا الله منك، فقال العباس: فإنه ليس لي مال، فقال رسول الله : فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت عند أم فضل بنت الحارث فليس معكما أحد فقلت لها: إن أصبت في سفري فللفضل كذا ولقثم كذا ولعبد الله كذا؟ قال: فو الذي بعثك بالحق! ما علم بهذا أحد من الناس غيري وغيرهما، وإني لأعلم أنك رسول الله.

ثم بعث قريش في فك الأساري جبير بن مطعم إلى رسول الله فقتل النبي من قتل منهم وفادى من فادى منهم، ومن لم يكن له مال من عليهم وفادى من كان من العرب فيهم بأربعين أوقية، من كان منهم من الموالي بعشرين أوقية في غزوة بدر، ونزلت لولا كتاب من الله سبق لمسكم ـ إلى قوله فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا. فقال النبي : لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس من قبلكم، وذلك أن الله جل وعلا رأى ضعفكم فطيبها لكم، وكانت الغنائم فيما قبل تنضد فتجيء النار فتأكلها.

ذكر عدد وتسمية من شهد بدر مع رسول الله

أخبرنا الحسن بن سفيان أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

قال: شهد بدرا مع رسول الله من المهاجرين والأنصار ثلاثمائة وثلاثة عشر نفسا ـ عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ـ وإني ذاكر ما يحضرني من أساميهم على قبائلهم، لكيلا يبعد على سالك سبيل العلم الوقوف على أساميهم إن وفقه الله لذلك.

فنبدأ من ذلك من شهد منهم بدرا من قريش، ثم من بني هاشم ومن بني المطلب ابنى عبد مناف: حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عم رسول الله ، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة بن شر حبيل بن كعب بن عبد العزى بن يزيد بن امرئ القيس الكلبي، وأنسة مولى رسول الله ، وأبو كبشة مولى رسول الله، وأبو مرثد كناز بن حصين ابن يربوع بن عمرو بن يربوع بن خرشة بن سعد بن ظريف بن جلان بن غنم بن غني بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وابنه مرثد بن أبي مرثد حليفا حمزة بن عبد المطلب، وحصين بن الحارث بن المطلب، ومسطح بن أثاثة بن المطلب، ومن بني تيم بن مرة بن كعب: أبو بكر الصديق واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وبلال بن رباح مولى أبي بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، لم يحضر بدرا، وكان النبي بعثه لتجسس الخبر، فوافاهم وقد فرغ النبي من بدر، وضرب له بسهمه.

ومن بني عدي بن كعب بن لؤي: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وأخوه زيد بن الخطاب بن نفيل، ومهجع مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل قتل ببدر، وعامر ابن ربيعة، وعمرو بن سراقة بن المعتمر بن أنس بن أذاة بن رباح بن عدي بن كعب، وأخوه عبد الله بن سراقة، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، وخولى بن أبي خولى، وعاقل بن البكير، وخالد بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث، وسعيد بن زيد بن عمرو وبن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، لم يحضر بدرا، كان مع طلحة، بعثها رسول الله يتجسسان خبر العير فوافيا، وقد فرغ رسول الله من بدر فضرب لهما بسهميهما وأجرهما.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف، تخلف بالمدينة عن رسول الله على امرأته رقية وكانت عليلة، أذن له رسول الله في ذلك، وضرب له بسهمه وأجره، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وعكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن كبير بن غنم، وشجاع بن وهب بن ربيعة، وأخوه عقبة بن وهب بن ربيعة، ويزيد بن رقيش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم، وأبو سنان أخو عكاشة بن محصن بن حرثان، وابنه سنان بن أبي سنان، ومحرز بن نضلة بن عبد الله بن مرة بن كبير بن غنم، وربيعة بن أكثم ابن عمرو بن بكير بن عامر بن غنم، ومالك بن عمرو.

ومن بني زهرة بن كلاب: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث ابن زهرة بن كلاب، وسعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وعمير بن أبي وقاص بن أهيب أخو سعد.

ومن حلفائهم المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن زهير بن ثور بن ثعلبة بن مالك بن الشريد، ومسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العزى بن حمالة بن غالب بن محلم ابن عائذة بن الهون بن خزيمة من القارة وذو الشمالين بن عبد عمرو ابن نضلة بن غبشان بن سليم بن مالك بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن خزاعة، وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن سعد بن هذيل، وخباب بن الأرت وصهيب بن سنان بن عبد عمرو بن الطفيل بن عامر بن جندلة. ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وحاطب بن أبي بلتعة، وسعد مولى حاطب. ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نسيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة، وخباب مولى عتبة بن غزوان.

ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وكان صاحب رسول الله يوم بدر قتل يوم أحد، وسويبط بن سعد بن حرملة بن مالك بن عميله بن السباق بن عبد الدار بن قصي.

ومن بني مخزوم بن يقظة: أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وشماس بن عثمان بن الشريد بن هرمي بن عامر بن مخزوم والأرقم بن أبي الأرقم واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعمار بن ياسر، ومعتب بن عوف بن عامر بن الفضل بن عفيف.

ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي: عثمان بن مظعون ابن حبيب بن حذافة بن جمح، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون ابن حبيب، ومعمر بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب.

ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص: خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم.

ومن بني عامر بن لؤي: ابن غالب بن مالك بن حسل، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي القيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، وعمير بن عوف مولى سهيل ابن عمرو، وسعد بن خولة حليف له.

ومن بني الحارث بن فهر: أبو عبيدة بن الجراح واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، وسهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، وأخوه صفوان بن وهب وهما ابنا بيضاء أمهما، وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن أهيب.

فجميع من شهد بدرا من المهاجرين ومن ضرب له رسول الله بسهمه وأجره من قريش ثلاثة وثمانون رجلا.

وممن شهد بدرا من الأنصار ثم من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وعمرو بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أخوه، والحارث بن أوس بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس ابن رافع بن امرئ القيس، وسعد بن زيد بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل، وسلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة بن زعواء بن الأشهل، وعباد بن بشر بن وقش، وسلمة بن ثابت بن وقش، ورافع بن يزيد بن كرز بن السكن بن زعواء بن عبد الأشهل، والحارث بن خزمة بن عدي بن أبي غنم ابن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الحارث بن الخزرج، ومحمد بن مسلمة ابن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث حليف لهم، وسلمة بن أسلم ابن حريش بن عدي بن مجدعة حليف لهم، وأبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك، وعبيد بن التيهان حليف لهم، وعبد الله بن سهل.

ومن بني سواد بن كعب: قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر، وعبيد بن أوس بن مالك بن سواد.

ومن بني رزاح بن كعب: نصر بن الحارث، وعبد الله بن طارق، ومعتب بن عبيد حليفان لهم.

ومن بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: مسعود بن سعد بن عامر بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث، وأبو عبس اسمه عبد الرحمن بن جبر بن عمرو بن زيد بن جشم ابن مجدعة بن حارثة بن الحارث، وأبو بردة بن نيار واسمه هانئ حليف لهم.

ومن بني عمرو بن عوف ثم من بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ـ وأبو الأقلح قيس ـ بن عصمة بن مالك بن أمية بن ضبيعة، ومعتب بن قشير بن مليل بن زيد بن العطاف، وعمرو بن معبد بن الأزعر بن زيد بن العطاف، وسهل بن حنيف ابن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن مجدعة بن الحارث بن عمرو.

ومن بني أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: مبشر بن عبد المنذر بن زنبر، وسعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية، وعويم بن ساعدة بن عائش بن قيس، ورافع بن عنجدة، وعبيد بن أبي عبيد، وثعلبة بن حاطب، وقد قيل إن أبا لبابة بن عبد المنذر والحارث بن حاطب شهدا بدرا.

ومن بني عبيد بن زيد بن مالك: أنيس بن قتادة بن ربيعة بن خالد بن الحارث بن عبيد، وسالم مولى بنت يعار وهو الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة، وكانت بنت يعار تحت أبي حذيفة بن عتبة. ومن حلفائهم: معن بن عدي بن الجد بن عجلان، وربعي بن رافع بن زيد بن حارثة بن الجد بن عدي بن العجلان، وقد قيل: إن عاصم بن عدي ابن الجد بن العجلان رده النبي وضرب له بسهمه.

ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عوف: عبد الله بن جبير بن النعمان. وعاصم ابن قيس، وأبو ضياح بن ثابت، وسالم بن عمير، والحارث بن النعمان بن أبي خزمة وخوات بن جبير بن النعمان.

ومن بني جحجبي بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف: المنذر بن محمد ابن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبي، وأبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة بن بيحان بن عامر بن الحارث بن مالك بن عامر بن أنيف حليف له.

ومن بني غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس بن حارثة: سعد بن خيثمة، والمنذر بن قدامة، ومالك بن قدامة، وابن عرفجة، وتميم مولى بني غنم بن سلم. ومن معاوية بني معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف: جابر بن عتيك بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية، والنعمان بن عصر حليف له من بلى، وممالك بن نميلة حليف لهم.

ومن بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة، وخاجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس، وخلاد ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس.

ومن بني زيد بن مالك بن ثعلبة: بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد ابن مالك، وسبيع بن قيس بن عيشة بن مالك، وعبادة بن قيس، وسماك بن سعد، وعبد الله بن عبس، ويزيد بن الحارث ابن قيس وهو الذي يقال له ابن فسحم.

ومن بني جشم بن الحارث: عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه بن زيد ابن الحارث بن الخزرج الذي رأى النداء في النوم، وأخوه حريث بن زيد بن ثعلبة، وخبيب بن إساف بن عنبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم، وسفيان بن بشر.

ومن بني جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج: زيد بن المري ابن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة، وتميم بن يعار بن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة، وعبد الله بن عمير بن حارثة.

ومن بني الأبحر بن عوف: عبد الله بن الربيع بن قيس بن عمرو بن عباد ابن الأبجر.

ومن بني عوف بن الخزرج: عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك، وأوس بن خولي بن عبد الله بن الحارث بن عبيد بن مالك.

ومن بني جزء بن عدي بن مالك بن سالم: زيد بن وديعة بن عمرو بن قيس بن جزء، ورفاعة بن عمرو بن زيد، وعقبة بن وهب بن كلدة، وعامر بن سلمة بن عامر حليفان لهم، ومعبد بن عباد بن قشعر بن المقدم بن سالم بن غنم ويكنى معبد أبا خميصة، وعامر بن البكير حليفه.

ومن بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج: نوفل بن عبد الله بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم، ومليل بن وبرة ابن خالد بن العجلان بن زيد، وعتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان، وعصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان.

ومن بني قربوس بن غنم: أمية بن لوذان بن سالم بن ثابت بن هزال بن عمرو بن قربوس.

ومن بني أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف: عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، وأخوه أوس بن الصامت.

ومن بني دعد بن فهر بن ثعلبة بن غنم: النعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد وهو من الذين يقال لهم القوافل.

ومن بني مرضخة بن غنم بن عوف: مالك بن الدخشم بن مالك بن الدخشم بن مرضخة بن غنم.

ومن بني لوذان بن غنم: الربيع بن إياس بن عمرو بن غنم بن أمية بن لوذان، وورقة بن إياس، وعمرو بن إياس.

ومن حلفائهم: المجذر بن زياد بن عمرو بن زمزمة بن عمرو بن عمارة، وعباد بن الخشخاش بن عمرو بن زمزمة، وعبد الله بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم، ونحاب بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم، وعتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية حليف لهم.

ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج: أبو دجانة واسمه سماك بن أوس بن خرشة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة، والمنذر ابن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة.

ومن بني البدن: عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج، وأبو أسيد مالك بن ربيعة بن البدن، ومالك بن مسعود.

ومن بني طريف بن الخزرج: عبد الله بن حق بن أوس بن وقش بن ثعلبة بن طريف.

ومن حلفائه: كعب بن حمار بن ثعلبة بن خالد، وبسبس بن عمرو، وضمرة، وزياد.

ومن بني جشم بن الخزرج: خراش بن الصمة بن عمرو بن الجموح بن زيد ابن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وتميم مولى خراش بن الصمة، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام، بن كعب، وعمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب، والحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ ابن عمرو بن الجموح، وخلاد بن عمرو بن الجموح، وعقبة بن عامر بن نابئ بن زيد بن حرام، وحبيب بن الأسود مولاهم، وثابت بن ثعلبة بن زيد ابن الحارث بن حرام وهو الذي يقال له الجذع، وعمير بن الحارث بن ثعلبة.

ومن بني عبيد بن عدي بن غنم: عبد الله بن الجد بن قيس بن صخر بن خنساء، وبشر بن البرار بن معرور بن صخر بن خنساء، والطفيل بن النعمان بن خنساء، وعبد الله بن حمير وخارجة بن حمير حليفان لهم من أشجع.

ومن بني النعمان بن سنان بن عبد بن عدي بن غنم: جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان، وعبد الله بن عبد مناف بن النعمان بن سنان، وخليدة، بن قيس بن النعمان بن سنان.

ومن بني خناس: جبار بن صخر بن أمية بن خناس، ويزيد بن المنذر بن سرح بن خناس، وعبد الله بن النعمان بن بلدمة بن خناس، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة، وسواد بن زريق بن ثعلبة، ومعبد بن قيس بن صخر ابن حرام، وعبد الله بن قيس بن صخر بن حرام.

ومن بني سواد بن غنم بن كعب: سليم بن عمرو بن حديدة بن عمرو ابن سواد، وقطبة بن عامر بن حديدة أبو المنذر، وعنترة مولى سليم بن عمرو.

ومن بني عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن كعب: معاذ بن جبل بن عمرو بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن سعد بن علي بن أسد ابن سادرة بن تزيد بن جشم، وعبس بن عامر بن عدي بن نابي، وثعلبة بن غنمة بن عدي، وأبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد، وعبد الله بن أنيس، وعمرو بن طلق بن زيد بن أمية بن سنان بن كعب، وسهل بن قيس بن أبي كعب بن القين بن كعب.

ومن بني زريق بن عامر بن زريق: سعد بن عثمان بن خلدة بن مخلد، والحارث بن قيس بن خالد بن مخلد، وجبير بن إياس بن خالد بن مخلد، وعباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق، وأسعد بن يزيد ابن الفاكه بن زيد بن خلدة بن عامر، والفاكه بن بشر بن الفاكه بن زيد بن خلدة، وعائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة، وأخوه معاذ بن ماعص، ومسعود بن سعد بن قيس بن خلدة.

ومن بني العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق: رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، وأخوه خلاد بن رافع، وعبيد بن زيد بن عامر بن العجلان.

ومن بني بياضة بن عامر بن زريق: زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة، وفروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد بن عامر ابن بياضة، ورخلية بن ثعلبة بن عامر بن بياضة، وخالد بن قيس بن مالك بن العجلان بن عامر بن بياضة، وخليفة بن عدي بن عمرو مالك بن عامر بن فهيرة ابن بياضة.

ومن حبيب بن عبد الحارثة: رافع بن المعلى بن لواذن بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن زيد مناة بن حبيب بن عبد حارثة.

ومن بني النجار وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج: أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم.

ومن بني عمرو بن عبد عوف: عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان، وسراقة بن كعب بن عبد العزى بن غزية، وثابت بن خالد بن النعمان بن خنساء ابن عسيرة.

ومن بني عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك: حارثة بن النعمان بن رافع بن زيد بن عبيد، وسليم بن قيس بن قهد ـ واسم قهد خالد ـ بن قيس بن ثعلبة ابن عبيد بن ثعلبة.

ومن بني عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك: سهيل بن رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة، وعدي بن أبي الزغبا حليف لهم.

ومن بني زيد بن ثعلبة بن غنم: مسعود بن أوس بن زيد، وأبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة، ورافع بن الحارث بن سواد بن زيد.

ومن بني سواد بن مالك بن غنم: عوف بن الحارث، ومعوذ بن الحارث، ومعاذ بن الحارث، ورفاعة بن الحارث بن سواد ـ وأمهم عفراء، والنعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد، وعامر بن مخلد بن الحارث بن سواد، وعبد الله بن قيس بن زيد بن سواد، وقيس بن عمرو بن قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وعصيمة، ووديعة بن عمرو حليفان لهم.

ومن بني عامر بن مالك بن النجار ثم من بني عتيك بن عمرو بن مبذول: ثعلبة بن عمرو بن محصن بن عمرو بن عتيك، وسهيل بن عتيك بن النعمان ابن عمرو بن عتيك، والحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك كسر به بالروحاء فرجع فضرب له النبي بسهمه.

ومن بني قيس بن عبيد بن زيد: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، وأنس ابن معاذ بن أنس بن قيس بن عبيد.

ومن بني عدي بن عمرو بن مالك بن النجار: أبو طلحة واسمه زيد بن سهل ابن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي، وأوس بن ثابت بن المنذر ابن حرام.

ومن بني عدي بن النجار ثم من عدي بن عامر بن غنم بن النجار: حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر، وعمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر، وعمرو أبو خارجة بن قيس ابن مالك بن عدي بن عامر وسليط بن قيس بن عمرو بن عتيك بن مالك بن عدي، وأبو سليط اسمه أسيرة، وثابت بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدي، وعامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك بن عدي، وسواد بن غزية بن وهيب حليف لهم.

ومن بني حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار: أبو الأعور كعب بن الحارث بن ظالم بن عبس بن حرام بن جندب وقيس بن السكن بن قيس بن زعور بن حرام، وسليم بن ملحان، وحرام بن ملحان ـ وملحان مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب.

ومن بني مازن بن النجار ثم من بني عوف بن مبذول: قيس بن صعصعة ـ واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول، وعبد ابن كعب بن عمرو بن عوف وعيصمة حليف لهم. ومن بني ثعلبة بن مازن: قيس بن مخلد بن ثعلبة بن صخر بن حبيب الحارث بن ثعلبة بن مازن.

ومن بني مسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار بن النجار: النعمان عبد عمرو بن مسعود بن عبد الأشهل، والضحاك بن عبد عمرو بن مسعود، وابن الحارث بن ثعلبة بن كعب بن حارثة أخوهما لأمهما، وجابر بن خالد بن عبد الأشهل بن حارثة، وسعد بن سهل بن عبد الأشهل.

ومن بني قيس بن مالك: كعب بن زيد بن مالك بن كعب بن حارثة، وبجير بن أبي بجير حليف لهم.

فجميع من شهد بدرا من المسلمين مع رسول الله ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من الأوس، ومائة وسبعون رجلا من الخزرج.

ثم كان قتل عصماء، والعصماء هذه بنت مروان من بني أمية بن زيد، زوجها زيد بن الحصن الخطمي، كانت تحرض على المسلمين وتؤذيهم وتقول الشعر، فجعل عمير بن عدي عليه نذرا لئن رد الله رسوله سالما من بدر ليقتلنها، فلما قدم النبي المدينة بعد فراغه من بدر عدا عمير بن عدي على عصماء فدخل عليها في جوف الليل لخمس ليال بقين من رمضان فقتلها، ثم لحق بالنبي ، فصف مع الناس وصلى معه الصبح وكأن يتصلخهم، إذا قام يريد الدخول إلى منزله فقال لعمير بن عدي: أقتلت عصماء؟ قال: نعم يا رسول الله! هل علي في قتلها شيء؟ فقال رسول الله : لا ينتطح فيها عنزان.

ومات أبو قيس بن الأسلت في آخر شهر رمضان.

ثم خطب النبي قبل الفطر بيوم، وأمرهم بزكاة الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى، ثم خرج رسول الله إلى الفضاء والعنزة ركزت بين يديه وصلى إليها من غير أذان ولا إقامة ركعتين، ثم خطب خطبتين بينهما جلسة، وكانت العنزة للزبير بن العوام أعطاها إياه النجاشي، فوهبها الزبير لرسول الله .

غزوة بني قينقاع

في شوال، وذلك أن المسلمين لما قدموا المدينة وادعتهم اليهود أن لا يعينوا عليهم أحدا، فلما قفل رسول الله من قتل بدر ورجع إلى المدينة أظهروا البغي وقالوا: لم يلق محمد أحدا من يحسن القتال، لو لقينا للقي عندنا قتالا لا يشبه قتالهم، فأنزل الله وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم الآية.

فصار رسول الله إليهم، يحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، حتى أتاهم فحاصرهم خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله ، فأمر بهم رسول الله فكتفوا وأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي وأخذ بجمع درع رسول الله وقال: ما أنا بمرسلك حتى تهبهم لي، فقال النبي : خلو عنهم! ثم أمر بإجلائهم. وغنم رسول الله والمسلمون ما كان لهم من مال وكانوا صاغة لم يكن لهم الأرضون ولا قراب، فأخذ رسول الله سلاحهم وآلة صياغة، وولى أكثر ذلك لرسول الله محمد بن مسلمة، ثم أمر رسول الله عبادة بن الصامت أن يجليهم ويخرجهم بذراريهم من المدينة، فمضى بهم عبادة حتى بلغوا ذباب وأجلاهم. وهذه الغنيمة أول الخمس خمسها رسول الله في الإسلام، أخذ منهم صفيه وخمسه، وقسم أربعة أخماسا على المسلمين.

غزوة السويق

في ذي القعدة. وذلك أن أبا سفيان لما رجع من الشام بالعير وأفلت بها نذر أن النساء والدهن عليه حرام حتى يطلب ثأره من محمد وأصحابه، فخرج في مائتي راكب حتى أتى بني النضير وسلك النجدية ودق على حي بن أخطب بابه، فأبى أن يفتح له، ودق على سلام من مشكم ففتح له فقراه وسقاه خمرا، وأخبره سلام بأخبار النبي وأخبار المدينة.

فلما كان في السحر خرج فمر بالعريض، فإذا رجل معه أجير له معبد بن عمرو من المسلمين فقتلهما وحرق أبياتا هناك وتبنا ورأى أن يمينه قد بر، فجاء الخبر إلى رسول الله ، فخرج رسول الله في أثره في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار على المدينة أبا لباب بن عبد المنذر، فأعجزهم أبو سفيان، وكان هو وأصحابه عامة زادهم السويق، فجعلوا يلقون السويق يتخففون بذلك، فسميت هذه الغزوة [ غزوة السويق ] ورسول الله في أثرهم، فلما أعجزهم ولم يلحقهم رجع رسول الله في المدينة.

ومات أبو السائب عثمان بن مظعون في ذي الحجة. ثم ضحى رسول الله فخرج الناس في المصلى، وهي أول ضحية ضحى رسول الله ، ذبح كبشين أملحين أقرنين بيده، ووضع رجله على صفاحهما وسمى وكبر، وضحى المسلمون معه. ثم بنى علي بفاطمة بنت رسول الله في ذي الحجة.

السنة الثالثة من الهجرة

أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ثنا أبو يعلي بالموصل ثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل ثنا سفيان بن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول قال النبي : من لكعب بن أشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله فقال له محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله أتأذن لي أقول شيئا؟ قال: بلى، فأتاه فقال: إن هذا سألنا صدقة في أمولنا، قال وأيضا: والله... قال: فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وإني قد أتيتك استسلفك، قال: فارهنوا نسائكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا؟ وكنت أجمل العرب، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا؟ تسب الدهر وتعير، فيقال: رهين بوسق أو وسقين، ولكنا نرهنك اللأمة أي السلاح، فأتاه ومعه أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس بن معاذ وعباد بن بشر وأبو نائلة، فقال لهم محمد بن مسلمة: إني محبس رأسه وممسكه، فإذا قلت اضربوا فاضربوا. فقال: نعم، فمس وقال: ما أطيب ريحك! قال: عندي فلانة وهي أعظم نساء العرب، ثم قال له: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فمس رأسه حتى استمكن منه، قال لهم: اضربوا فضربوه حتى قتلوه، فرجعوا إلى النبي فأخبروه.

قال: خرج كعب بن الأشرف إلى مكة فقدمها ووضع رجله عند المطلب ابن أبي وداعة السهمي وجعل ينشد الأشعار ويحرض الناس على رسول الله ، ويبكي على قتلى بدر من أصحاب القليب، ثم رجع إلى المدينة فبلغ ذلك رسول الله فقال: من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله فقال: محمد بن مسلمة: أنا إن تأذن أن أقول ـ يريد ـ كذبا في الحرب، فأذن له رسول الله ، فخرج محمد بن مسلمة، ومعه أربعة نفر: أبو عبس بن جبر، وعباد بن بشر بن وقش، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ بن أخي سعد بن معاذ فانتهوا إلى كعب بن الأشرف وهو في أطم من آطام المدينة، فقال له محمد بن مسلمة: إن محمدا يأخذ صدقة أموالنا ـ وأراد المال منه ـ ثم قال له: أتيتك أستسلفك فأرهن السلاح، ثم جاء يغمر رأسه، فلما استمكن منه ضربه وضربوه حتى قتل، واحتزوا رأسه وجاءوا به إلى النبي .

ثم غزا رسول الله غزوة قرقرة الكدر، حامل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ثم رجع ولم يلق كيدا.

ثم زوج رسول الله أم كلثوم ابنته الأخرى من عثمان بن عفان في أول شهر ربيع الأول.

ثم غزا رسول الله غزوة بذي أمر في شهر ربيع الأول، فلما بلغ رسول الله ذا أمر عسكر به ذا من غطفان، أصاب رسول الله مطر فبل ثوبه، ثم نزع ثيابه فعلقها على شجرة ليسجفها ونام تحتها، فقالت غطفان لدعثور بن الحارث وكان شجاعا: تفرد محمد من أصحابه وأنت لا تجد أخلى منه الساعة فأخذ سيفا صارما ثم انحدر ورسول الله مضطجع ينتظر جفوف ثيابه، فلم يشعر إلا بدعثور بن الحارث واقف على رأسه بالسيف وهو يقول: من يمنعك مني؟ يا محمد! فقال رسول الله : الله! ودفعه جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذ رسول الله السيف، ثم قام على رأسه وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، فقال له رسول الله : قم فاذهب لشأنك، فلما ولى قال: أنت خير نبي يا محمد! قال رسول الله : أنا أحق بذلك منك، فلما سمعت الأعراب من غطفان برسول الله لحقت بذي الجبال، فلما أعجزوه رجع رسول الله إلى المدينة.

وولد السائب بن يزيد ابن أخت نمر.

وغزا رسول الله في شهر جمادى الأولى بحران معدن بناحية الفرع، ثم رجع رسول الله ولم يلق كيدا.

سرية الفردة

وذلك أن قريشا قالت: قد عور علينا محمد متجرنا وهو على طريقنا، وإن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا، فقال أبو زمعة بن الأسود بن المطلب: أنا أدلكم على رجل يسلك بكم طريقا ينكب على محمد وأصحابه، لو سلكها مغمض العينين لاهتدى! فقال صفوان بن أمية: من هو؟ قال: فرات بن حيان العجلي ـ وكان دليلا، فاستأجره صفوان بن أمية وخرج بهم في الشتاء وسلك بهم على ذات عرق ثم على غمرة، فلما بلغ الخبر إلى رسول الله بعث زيد بن حارثة في جمادى الأولى، فاعترض العير فظفر بها، وأفلت أعيان القوم وأسر فرات بن حيان العجلي وكان له مال كثير وأواقي من فضة فقسم رسول الله الغنائم على من حضر على من حضر الواقعة وأخذ الخمس عشرين ألفا وأطلق رسول الله فرات بن حيان فرجع إلى مكة.

ثم تزوج رسول الله بحفصة بنت عمر بن الخطاب، قال عمر بن الخطاب: لما تأيمت حفصة لقيت عثمان بن عفان فعرضتها عليه، فقال إن شئت زوجتك حفصة، قال: سأنظر في ذلك، فمكث ليال ثم لقيني فقال: بدأ لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت له: إن شئت زوجتك حفصة! فصمت أبو بكر ولم يرجع إلي بشيء، فكنت على أبي بكر أوجد مني على عثمان، ثم مكثت ليال فخطبها إلى رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت في نفسك؟ فقلت: نعم، فقال أبو بكر: لم يمنعني أن أرجع إليك فيها بشيء إلا أن النبي قد كان ذكرها فلم أكن أفشي سره، ولو تركها قبلتها.

ثم تزوج رسول الله زينب بنت خزيمة من بني هلال التي يقال لها أم المساكين، ودخل بها حيث تزوجها في أول شهر رمضان، وكانت قبله تحت الطفيل بن الحارث فطلقها، ثم ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان، وعق عنه رسول الله بكبشين وحلق رأسه، وأمر أن يصدق بوزن شعره فضة على الأوقاص من المساكين.

غزوة أحد

وذلك أن أبا سفيان لما رجع بعيره إلى مكة قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وعكرمة بن أبي جهل ورجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر: يا معشر قريش! إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا على حربه لعلنا أن ندرك منه بعض ما أصاب منا! فاجتمعت قريش على المسير إلى رسول الله بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل مكة وغيرها، وخرجوا معهم بالظعن، فخرج أبو سفيان بن حرب بهند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية، وخرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وخرج الحارث بن هشام بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية ببرة ابنة مسعود بن عمرو وهي أم عبد الله بن صفوان، وخرج عمرو بن العاص بريطة ابنة منبه بن الحجاج السهمي وهي أم عبد الله بن عمرو، وخرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة ابن شهيد أحد بني عروة بن عوف مع نسوة غيرهن، ودعا جبير بن مطعم غلامه وحشيا فقال: إن قتلت عم محمد حمزة بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. فخرجت قريش تريد رسول الله حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة على شفير الوادي مما يلي المدينة وهم ثلاثة آلاف رجل، معهم من الخيل مائتا فرس، ومن الظعن خمسة عشر امرأة، فقال رسول الله لما سمع بهم: إني رأيت فيما يرى الغنائم في ذباب سيفي ثلمة، ورأيت بقرة نحرت، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة، فتأولتها المدينة. وكره رسول الله الخروج إليهم، فقال عبد الله ابن أبي سلول: يا رسول الله ! لا تخرج إليهم، فو الله! ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا، وما دخلها علينا إلا أصبناه. فقال رجال من المسلمين ممن كان فاتهم بدر: يا رسول الله! اخرج بنا إلى أعداء الله، لا يرون أنا جبنا عنهم أو ضعفنا، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله! أقم فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا علينا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم. فلم يزل برسول الله الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله فلبس لأمته ثم خرج عليهم، وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله ولم يكن لنا ذلك، ثم قالوا: يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا ذلك، إن شئت فاقعد ـ صلى الله عليك! فقال رسول الله : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل! فخرج رسول الله شوال يوم السبت في ألف رجل، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وصلى المغرب بالشيخين في طرف المدينة ـ وقد قيل: بالشوط.

ثم عرض المقاتلة فأجاز من أجاز ورد من رد، فكان فيمن رد زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأسيد بن ظهير والبراء بن عاذب وعرابة بن أوس الحارثي وأبو سعيد الخدري. وأجاز سمرة بن جندب، وأما رافع بن خديج فإن رسول الله استصغره، فقام على خفين وتطاول على أطرافه، فلما رآه رسول الله أجازه. وكان دليل النبي أبو حثمة الحارثي. فقال عبد الله بن أبي لمن معه: أطاعهم رسول الله وعصاني، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا معه، أيها الناس ارجوا! فعزل من العسكر ثلاثمائة رجل ممن تبعه ورجع بهم المدينة.

ومضى رسول الله في سبعمائة رجل وسلك حرة بني حارثة ثم نزل حتى مضى بالشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحد حتى أمره.

ثم أمر رسول الله على الرماة عبد الله بن جبير أحد بني عمرو بن عوف، وهم خمسون رجلا، وقال: انضح عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت علينا أو لنا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك! ثم ظاهر رسول الله في درعين، وأعطى اللواء علي بن أبي طالب، وقال: من يأخذ مني هذا السيف بحقه؟ قال أبو دجانة سماك بن خرشة: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: تضرب به في العدو حتى ينحني، فقال: يا رسول الله! أنا آخذه بحقه، فأعطاه إياه ـ وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء ويعصب بها رأسه، فإذا رأوا علموا أته سيقاتل، فأخذ السيف من رسول الله وأخرج عصابة فعصب بها رأسه ثم أخذ يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله : إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن.

وتعبأت قريش، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وقال أبو سفيان بن حرب لأصحابه: إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا مالت مالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك ستعلم كيف نصنع! وجاءت هند بنت عتبة والنسوة اللواتي معها يحرضنهم على القتال، وتقول فيما تقول:

إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق فراق غير دامق

وأول من خرج من المشركين أبو عامر بن أمية في الأحابيش وقال: يا معشر الأوس! أنا أبو عامر! قالوا: فلا أنعم الله بك عينا، ثم راضخ المسلمين بالحجارة وقاتلهم قتالا شديدا، وقاتل أبو دجانة في رجال من المسلمين حتى حميت الحرب وأنزل الله النصر، وكشفهم المسلمون عن معسكرهم، وكانت الهزيمة عليهم، فلم يكن بين أخذ المسلمين هندا وصواحبها إلا شيء يسير، وقتل علي بن أبي طالب طلحة وهو حامل لواء قريش، وأبا الحكم بن الأخنس بن شريق، وعبيد الله بن جبير بن أبي زهير، وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة. وأخذ اللواء بعد طلحة أبو سعد فرماه سعد بن أبي وقاص فقتله، وبقي اللواء صريعا لا يأخذه أحد، فتقدم رجل من المشركين يقال له صؤاب فأخذ اللواء وأقامه لقريش، فكر المسلمون عليه حتى قطعوا يديه ثم قتل، وصرع اللواء.

فلما رأى الرماة الذين خلف رسول الله أن المشركين قد انهزموا وتركوا، تركوا مصافهم يريدون النهب وخلوا ظهور المسلمين للخيل، وأتاهم المشركون من خلفهم وصرخ صارخ: ألا! أن محمدا قد قتل! فانكشف المسلمون فصاروا بين قتيل وجريح ومنهزم حتى خلص [ العدو إلى ] رسول الله وأصيب رباعيته، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم.

ثم قام زياد بن السكن في خمسة من الأنصار، فقاتلوا دون رسول الله رجلا رجلا حتى قتلوا، وكان آخرهم زياد بن السكن فأثبته الجراحة، وجاء المسلمون فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله : ادنوه مني! فوسده قدمه حتى مات في حجره، وترس أبو دجانة دون رسول الله بنفسه، فكانت النبل تقع في ظهره وهو ينحني عليه حتى كثرت فيه النبل. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله حتى قتل، أصابه ابن قميئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله .

ثم رجع إلى قريش وقال: قتلت محمدا! والتقى حنظلة بن أبي عامر وأبو سفيان فاستعلى حنظلة أبا سفيان بالسيف، فلما رآه ابن شعوب أن أبا سفيان قدعلاه حنظلة بالسيف ضربه فقتله، فقال رسول الله: إن صاحبكم لتغسله الملائكة! وخرج حمزة بن عبد المطلب فمر به سباع بن عبد العزى الخزاعي وكان يكنى أبا نيار، فقال: هلم يا ابن مقطعة البظور! فالتقيا فضربه حمزة فقتل، ثم جعل يرتجز ومعه سفيان إذعثر دابته فسقط على قفاه وانكشف الدرع عن بطنه، فانتزع وحشي حربته فهزها ورماها فبقر بها بدنه ثم أخذ حربته وتنحاه.

وقد انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة ابن عبيد الله ورجال من المهاجرين والأنصار قد أسقطوا ما في أيديهم وألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا قتل رسول الله ، قال: فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، ووجد فيه سبعون ضربة بالسيف والرمح.

وكان أول من عرف رسول الله حيث كانت الهزيمة كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه نزهران من تحت المغفر فناديت بصوتي: يا معشر المسلمين! ابشروا فهذا رسول الله ! فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا إليه، فيهم: أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد والحارث بن الصمة، فكان رسول الله يناول النبل سعدا ويقول: ارم فداك أبي وأمي.

ثم أدرك رسول الله أبي بن خلف وهو يقول: يا محمد! لا نجوت إن نجوت. فقال القوم: يا رسول الله! أيعطف عليه رجل منا؟ فقال: دعوه! فلما دنا تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتفض بها انتفاضة ثم استقبله وطعنه بها فمال عن فرسه، وقد كان أبي بن خلف يلقى رسول الله بمكة فيقول: إن عندي العود أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه! فيقول رسول الله : بل أنا أقتلك إن شاء الله. فرجع أبي بن خلف إلى المشركين وقد خدشته حربة رسول الله خدشا غير كبير، فقال قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك والله إن بك من بأس، فقال: إنه قد كان يقول بمكة: إني أقتلك، والله! لو بصق علي لقتلني، فمات بسرف وهم قافلون إلى مكة.

فانتهى رسول الله بمن معه من أصحابه إلى الشعب، ومر علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس، وجاء بها إلى رسول الله ، فأراد رسول الله شربه فوجد له ريحا فعافه فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وقال: اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله . ثم نهض رسول الله إلى الصخرة ليعلوها، فلما ذهب لينهض لم يستطع ذلك، فجلس طلحة تحته فنهض رسول الله حتى استوى على الصخرة، ثم قال: أوجب طلحة الجنة.

وكانت هند واللاتي معها جعلن يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله يجدعن الآذان والآناف حتى اتخذت هند قلائد من آذان المسلمين وآنفهم وبقرت عن كبد حمزة فلاكته فلم تستطعه فلفظته، ثم علت صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها بشعر لها طويل ـ أكره ذكره. فقتل من المسلمين سبعون رجلا في ذلك اليوم، منهم أربعة من المهاجرين. وكان المسلمون قتلوا اليمان أبا حذيفة وهم لا يعرفونه، فأمرهم رسول الله أن يخرجوا ديته. وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلا.

ثم أن أبا سفيان أراد الانصراف فصرخ بأعلى صوته: الحرب سجال أعلى هبل يوم بيوم ببدر، فقال رسول الله ثم ناحية: الله أعلى وأجل لا سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: يا عمر أنشدك الله أقتلنا محمدا؟ فقال: اللهم لا وإنه ليسمع كلامك. فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة، ولكن موعدكم بدر، فقال رسول الله : هو بيننا وبينكم.

رحل أبو سفيان بالمشركين، فقال رسول الله لعلي بن أبي طالب: أخرج في آثار القوم، فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأنجزتهم! فخرج في آثارهم فرآهم قد اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، فرجع إلى رسول الله فأخبره.

وفرغ الناس لقتلاهم، وخرج رسول الله يلتمس حمزة فوجده ببطن الوادي قد بطنه عن كبده ومثل به، فوقف عليه وقال: لولا أن تحزن صفية أن تكون سنة بعدي ما غيبته ولتركته حتى يكون في بطون السباع والطير، ولئن أظهرني الله عليهم لأمثلن! فأنزل الله وإن عاقبتم فعاقبوا الآية، ثم أمر رسول الله فسجى ببردة.

ثم قال : من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع، أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله ! فنظره فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، فقال له: إن رسول الله أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات، فقال: أنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول، جزاك الله عنا خير ما جزى نبي عن أمته، وأبلغ قومك السلام، وقل لهم إن سعدا يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ـ ثم مات، فجاء إلى رسول الله وأخبره.

واحتمل الناس قتلاهم، فأمر رسول الله أن يدفنوهم حيث صرعوا بدمائهم وأن لا يغسلوا ولا يصلى عليهم، فكان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ويقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير إليه بأحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. قال: انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو فإنهما كانا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد.

ثم قال : إن الله جعل أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وسقياهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع ربنا بنا! فأنزل الله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الآية. وكان ابن عمير لم يترك إلا بردة واحدة، فكانوا إذا غطوا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله : غطوا رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر.

ثم قدم رسول الله المدينة بمن معه من المسلمين، فمر بدار من دور الأنصار فسمع البكاء على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له! فلما سمع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير أمرا نساء بني عبد الأشهل أن يذهبن فبيكن على عم رسول الله ، فلما سمع رسول الله بكاءهن قال: اجعل.

ثم ناول علي بن أبي طالب سيفه فاطمة وقال: اغسلي عن هذا دمه، فو الله! لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله : لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة.

فلما كان ثاني يوم أحد أذن مؤذن رسول الله بالخروج في طلب القوم، فخرج رسول الله واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وقال: لا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، وكان أكثر أصحاب رسول الله جرحى. فمر على رسول الله معبد بن أبي معبد الخزاعي ـ وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة رسول الله بتهامة ـ فقال: والله يا محمد! لقد عز علينا ما أصابك ولوددنا أن الله كان أعفاك منهم. ثم خرج فلحق أبا سفيان بالروحاء ومن معه من قريش وقد أزمعوا الرجوع إلى رسول الله وقد توامروا بينهم وقالوا: رجعنا قبل أن نصطلم أصحاب محمد، نرجع فنكر على بقيتهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا مقبلا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه في طلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، قال: ويلك ما تقول! والله لقد أجمعنا الكرة على أصحابه لنصطلمهم. قال: فإني والله أنهاك عن ذلك بهم! عليكم من الجود بشيء ما رأيته بقوم قط، فساءه ذلك.

ومر بأبي سفيان ركبة من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فاخبروا محمدا أنا قد أجمعنا الكرة عليه وعلى أصحابه لنصطلهم.

ثم رحل أبو سفيان راحلا إلى مكة، ومر الركب برسول الله فأخبروه بما قال أبو سفيان، فقال رسول الله والمسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل! فأنزل الله جل وعلا في ذلك الذين استجابوا لله والرسول إلى قوله والله ذو فضل عظيم لما صرف عنهم من لقاء عدوهم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ـ الآية. فأقام رسول الله بحمراء الأسد ثلاثا. ثم انصرف إلى المدينة.

السنة الرابعة من الهجرة

أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري قال أنا أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك عن اسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: دعا رسول الله على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو على رعل وذكوان وعصية، قال أنس: فأنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه حتى نسخ [ بلغوا عنا قومنا إنا قد لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه ].

قال: في أول هذه السنة كانت غزوة بئر معونة، وذلك أن أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة قدم المدينة [فأهدى لرسول الله فرسين وراحلتين، فقال رسول الله : لاأقبل هدية مشرك، فعرض رسول الله عليه الإسلام ] فلم يسلم وقال: يا محمد لو بعثت معي رجالا من أصحابك إلى نجد رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله : إني أخاف عليهم من أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لجار فابعثهم فليدعوا الناس إلى ما أمرك الله به، فبعث رسول الله المنذر بن عمرو الساعدي في أربعين راكبا، وقد قيل في سبعين رجلا من الأنصار، حتى نزلوا ببئر معونة ـ وهي بئر أرض بني عامر وحرة بني سليم، ثم بعثوا حرام بن ملحان من بني عدي بن النجار بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه بما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء إنه قد عقد لهم عقدا. فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: رعلا وذكوان وعصية، فأجابوه إلى ذلك، فخرج حتى غشي القوم في رحالهم فأحاطوا بهم، فلما رآهم المسلمون أخذوا أسيافهم ثم قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق.

وكان من المسلمين عامر بن فهيرة طعنه جبار بن سلمى الكلابي بالرمح، ثم طلب في القتلى فلم يجد جثته، فمن ذلك قيل: رفع عامر بن فهيرة إلى السماء.

وكان في سرحهم ابن أمية ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: إن لهذا الطير لشأنا! فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب عن موطن قتل فيه هؤلاء، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. ورجع عمرو بن أمية حتى قدم رسول الله فأخبره الخبر، فدعا النبي على رعل وذكوان وعصية ثلاثين صباحا، فأنزل الله فيهم [ بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه ].

غزوة الرجيع في صفر

أميرها مرثد بن أبي مرثد، فيها قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وخالد ابن البكير، وأسر خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، وخرجوا بهما إلى مكة وباعوهما.

غزوة بني النضير

وكان السبب في ذلك أن عمرو بن أمية لما انفلت من رعل وذكوان وعصية وجاء إلى رسول الله وأخبره بقتل أصحاب بئر معونة لقيه في الطريق رجلان من بني عامر، وقد كان معهم عهد من رسول الله وجوار لا يعلم عمرو بذلك، فلما نزلا سألهما عمرو: من أنتما؟ قالا: رجلان من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب ثأرة من بني عامر بما أصابوا من أصحاب بئر معونة. فلما أخبر رسول الله قال: بئس ما عملت قد كان لهما مني جوار. وكتب عامر بن الطفيل إلى رسول الله إنك قد قتلت رجلين لهما منك جوار فابعث بديتهما، فانطلق رسول الله إلى قباء ثم مال إلى بني النضير ليستعين في ديتهما ومعه نفر من المهاجرين، فجلس رسول الله إلى مجلسهم فاستند إلى جدار هناك فكلمهم، فقالوا: أنى لك أن تزورنا، يا أبا القاسم نفعل ما أحببت، فأقم عندنا حتى تتغدى، وتآمروا بينهم، فقال عمرو بن جحاش بن عمرو بن كعب: يا معشر بني النضير! والله لا تجدونه أقرب منه الساعة! أرقى على ظهر هذا البيت فأدلي عليه صخرة فأقتله بها، فنهاهم سلام بن مشكم فعصوه. وصعد عمرو بن جحاش ليدحرج الصخرة، وأخبر الله جلا وعلا رسوله فقام كأنه يريد حاجة، وانتظر أصحابه من المسلمين فأبطأ عليهم، وجعلت اليهود تقول: ما حبس أبا القاسم! فلما أبطأ على المسلمين انصرفوا، فقال كنانة ابن صوريا: جاءه والله الخبر الذي هممتم به! فلقي أصحاب النبي رجلا مقبلا من المدينة فقالوا: أرأيت رسول الله ؟ فقال: رأيته داخلا المدينة، فانتهوا إليه وهو جالس في المسجد فقالوا: يا رسول الله! انتظرناك فمضيت وتركتنا، فقال: هممت اليهود بقتلي، ادعوا لي محمد بن مسلمة، فأتي بمحمد، فقال: اذهب إلى اليهود فقل لهم: اخرجوا من المدينة، لا تساكنونني وهممتم بما هممتم من الغدر.

فجاءهم محمد بن مسلمة فقال لهم: إن رسول الله يأمركم أن تظعنوا من بلاده، فقال: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس، فقال محمد ابن مسلمة: تغيرت القلوب ومحا الإسلام العهود، فقالوا: نتحمل، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي: لا تخرجوا فإن معي ألفي رجل من العرب يدخلون معكم، وقريظة تدخل معكم. فبلغ الخبر كعب بن أسد صاحب عهد بني قريظة، فقال: لا ينقض العهد رجل من بني قريظة وأنا حي.

فأرسل حيي بن أخطب إلى رسول الله وكان من سادات بني النضير: إنا لا نفارق ديارنا فاصنع ما بدا لك! فكبر رسول الله والمسلمون وقال: حاربت يهود.

ثم زحف إليهم رسول الله يحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، حتى أتاهم فحاصرهم خمسة عشر يوما، وقطع نخلهم وحرقها، وكان الذي حرق نخلهم وقطعها عبد الله بن سلام وعبد الرحمن بن كعب أبو ليلى الحراني من أهل بدر، فقطع أبو ليلى العجوة، وقطع ابن سلام اللون، فقال رسول الله : لم قطعتهم العجوة؟ قال أبو ليلى: يا رسول الله كانت العجوة أحرق لهم وأغيظ، فنزل ما قطعتم من لينة أو تركتموها الآية، فاللينة ألوان النخل، والقائمة على أصولها العجوة، فنادوا: يا محمد! قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما لك وقطع النخل وتحريقها.

ثم تربصت اليهود نصرة عبد الله بن أبي إياهم، فلما لم يجئ وقذف الله في قلوبهم الرعب صالحوا رسول الله على أن يحقن لهم دماءهم وله الأموال، وينجلون من ديارهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم. فاحتملوا من استقلت به الإبل، حتى أن كان الرجل منهم يهدم بيته فيضع بابه على ظهر بعيره فينطلق به، وخرجوا إلى خيبر وذلك قوله يخربون بيوتهم بأيديهم الآية.

ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما، فأحرزاها، فقسم رسول الله غنائمهم على المهاجرين، فأنزل الله سورة الحشر إلى آخرها.

ثم رجع رسول الله إلى المدينة، ثم بعث رسول الله أبا سلمة بن عبد الأسد إلى ماء لبني أسد، فقتل عورة بن مسعود الأنصاري وغنم نعما وشاء، ورجع إلى المدينة.

ومات عبد الله بن عثمان بن عفان وهو ابن ست سنين، فصلى عليه رسول الله ، ونزل في حفرته عثمان بن عفان. ثم ولد الحسين بن علي بن أبي طالب لليالي خلون من شعبان.

بدر الموعد

وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أحد قال لرسول الله : موعدك بدر الموسم، وكان بدر موضع سوق لهم في الجاهلية، يجتمعون إليها في كل سنة ثمانية أيام، فلما قرب الميعاد جهز رسول الله لغزوة الموعد.

وكان نعيم بن مسعود الأشجعي قد اعتمر وقدم على قريش فقالوا: يا نعيم! من أين وجهك؟ قال: من يثرب، قالوا: هل رأيت لمحمد حركة؟ قال: نعم تركته على هيئة الخروج ليغزوكم ـ وذلك قبل أن يسلم نعيم، فقال له أبو سفيان: يا نعيم! إن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام غيداق ترعى فيه الإبل الشجر ونشرب اللبن، وقد جاء أوان موعد محمد، فالحق بالمدينة فثبطهم وأخبرهم أننا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا حتى يأتي الخلف منهم، ولك عشر فرائض أضعها لك على يد سهيل بن عمرو! فجاء نعيم سهيلا فقال: يا أبا يزيد! تضمن لي هذه الفرائض وانطلق إلى محمد فأثبطه؟ فقال: نعم.

فخرج نعيم حتى أتى المدينة، فوجد الناس يتجهزون فجلس يتجسس لهم ويقول: هذا ليس برأيي قدموا عليكم في عقر دوركم وأصابوا فتخرجون إليهم، ليس هذا برأيي، ألم يجرح محمد بنفسه! ألم يقتل عامة أصحابه! فثبط الناس عن الخروج حتى بلغ رسول الله ، قال: والذي نفسي بيده! لو لم يخرج معي أحد خرجت وحدي.

ثم خرج رسول الله والمسلمون في شهر رمضان، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، ومع المسلمين تجارات كثيرة، حتى وافوا بدر الموعد فأصابوا بها سوقا عظيما، وربحوا لدرهم درهما، ولم يلقوا عدوا. ثم رجع رسول الله إلى المدينة.

ثم تزوج رسول الله بأم سلمة بنت أبي أمية وفي شوال، ودخل بها في ذلك الشهر، وكانت قبله تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي.

ثم رجم رسول الله يهوديا ويهودية تحاكما إليه وكانا محصنين.

وأمر رسول الله زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود وقال: إني لا آمن أن يبدلوا كتابي! فتعلم زيد بن ثابت ذلك في خمسة عشر يوما.

سرية الخزرج إلى سلام بن أبي الحقيق

وذلك أنه كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله في الإسلام! قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك، فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف قالت الخزرج: من رجل في العداوة لرسول الله ككعب بن الأشرف، فذكروا سلام بن أبي الحقيق بخيبر، فاستأذنوا رسول الله في قتله، فأذن لهم ونهاهم عن قتل النساء والولدان. فخرج عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس ومسعود بن سنان وأبو قتادة بن ربعي بن بلدمة بن سلمة وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم، حتى قدموا خيبر فدخلوا على سلام بن أبي الحقيق داره ليلا، ولم يبق في الدار بيت إلا أغلقوه، ثم صعدوه في درجة إلى علية له فضربوا عليه بابه، فخرجت امرأته وقالت: من أنتم؟ قالوا: نفر من العرب أردنا الميرة، فقالت: هو ذاك في البيت، فدخلوا عليه وغلقوا الباب عليهم، فما دلهم عليه إلا بياضه في ظلمة البيت وكان قبطي، فابتدروه بأسيافهم، وتحامل عليه عبد الله بن أنيس فوضع سيفه في بطنه، وهتفت امرأته، وخرجوا. وكان عبد الله ابن عتيك أمير القوم وكان في بصره شيء، فسقط من الدرجة فوثئت يده وثأ شديدا.

فلما قدموا على رسول الله وأخبروه، واختلفوا في قتله وادعى كل واحد منهم أنه قتله، فقال رسول الله : هاتوا سيوفكم، فأعطوه، فنظر فقال: سيف عبد الله بن أنيس هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.

السنة الخامسة من الهجرة

حدثنا محمد بن أحمد بن أبي عون الدماتي ثنا عمار بن الحسن الهمداني ثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن ابن عباس حدثني سلمان الفارسي من فيه قال: كنت رجلا مجوسيا من أهل جي من أهل أصبهان، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب الخلق إليه، فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية، وكنت قد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة فيها بعض العمل، بني أبي بنيانا له في داره، فدعاني فقال: أي بني! إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، فإنك إن احتسبت عني كنت أهم عندي مما أنا فيه، فخرجت فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون فيها، فسمعت أصواتهم ودخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فو الله! ما زلت قاعدا عندهم وأعجبني دينهم وما رأيت من صلاتهم، وأخذ بقلبي فأحببتهم حبا لم أحبه شيئا قط، وكنت لا أخرج قبل ذلك ولا أدري ما أمر الناس، فقلت في نفسي: هذا والله خير من ديننا، فو الله! ما برحت حتى غربت الشمس، وتركت حاجة أبي التي أرسلني إليها وما رجعت إليه، ثم بعث في الطلب يلتمس لي فلم يجد حيث أرسلني، فبعث رسله فبغوني بكل مكان حتى جئته عشيا، وقد قلت للنصارى حين رأيت ما أعجبني من هيئتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فلما أتيت أبي فقال: أي بني! أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك أن لا تحتسب علي؟ فقلت: بلى، وإني مررت على كنيسة النصارى فأعجبني ما رأيت من أمرهم وحسن صلاتهم، ورأيت دينهم خيرا، قال: كلا يا بني! إن ذلك الدين لا خير فيه، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت: كلا والله إنه لخير من ديننا! قال فخافني أن أذهب من عنده فكلبني ثم حبسني، فأرسلت إلى النصارى وأخبرتهم أني قد رضيت أمرهم، وقلت: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم أذهب معهم.

فقدم عليهم ركب من الشام فأخبروني بهم فأرسلوا إلي، فأرسلت إليهم إذا أرادوا الرجعة فأخبروني، فلما أرادوا الخروج جئتهم فانطلقت معهم، فلما قدمت الشام سألت عن عالمهم، فقالوا: صاحب الكنيسة أسقفهم، فدخلت عليه فأخبرته خبري وقلت له: إني أحب أن أكون معك في كنيستك أخدمك وأصلي معك وأتعلم منك، فإني قد رغبت في دينك، قال: أقم! فمكثت معه في الكنيسة أتفقه في النصرانية، وكان رجل سوء فاجر في دينه، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه الأموال اكتنزها لنفسه، وكنت أبغضه لما أرى من فجوره، وقد جمع سبع قلال دنانير ودراهم، ثم إنه مات، فاجتمعت النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: تعلمون أن صاحبكم هذا رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا، قالوا: وما علامة ذلك؟ قلت: أدلكم على كنزه؟ قالوا: أنت وذاك، فدللتهم عليه، فأخرجوا قلالا مملوءة ذهبا وورقا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا نغيبه أبدا! فصلبوه على خشبة ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل فجعلوه مكانه، قال: فيقول سلمان: يا ابن أخي! ما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه زهادة في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه اجتهاد في العبادة، قال سلمان: فأقمت معه وأحببته حبا ما علمت أني أحببت شيئا كان قبله، فكنت معه أخدمه وأصلي معه في الكنيسة حتى حضرته الوفاة، قلت يا فلان! إني قد كنت معك وما أحببت حبك شيئا قط فإلى من توصي بي ومن ذا الذي تأمرني، متبع أمرك ومصدق حديثك؟ قال: أي بني! ما أعلم أحدا على مثل ما نحن عليه إلا رجلا بالموصل يقال له فلان، فإني وإنه كنا على أمر واحد في الرأي والدين، وهو رجل صالح، وستجد عنده بعض ما كنت ترى مني، فأما الناس قد بدلوا وهلكوا. فلما توفي لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري، فقال: أقم! فكنت معه في كنيسته فوجدته كما قال صاحبي رجلا صالحا، فكنت معه ما شاء الله، فلما حضرته الوفاة قلت: يا فلان! إن فلانا أوصاني إليك حين حضرته الوفاة، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وإلى من تأمرني؟ قال: أي بني! ما أعلم أحدا على أمرنا إلا رجلا بنصيبين يقال له فلان فالحق به. فلما توفي لحقت بصاحب نصيبين وأخبرته خبري، وأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه صاحباه، فمكثت معه ما شاء الله، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إن فلانا أوصاني إلى فلان صاحب الموصل ثم أوصاني صاحب الموصل إليك، فإلى من توصي بي بعدك؟ قال أي بني! ماأعلم أحدا على مثل ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية في أرض الروم، فإنك واجد عنده بعض ما تريد، فإن استطعت أن تلحق به فالحق به. فلما توفي لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم، فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه أصحابه وأثاب لي شيئا حتى أتخذت بقرات وغنيمة، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إن فلانا أوصاني إلى فلانا صاحب الموصل، ثم أوصاني صاحب الموصل إلى فلان صاحب نصيبين، ثم أوصاني صاحب نصيبين إليك، فإلى من توصي بي؟ قال: يا بني! ما أعلمه أصبح في هذه الأرض أحد على ما كنا عليه، لكنك قد أظلك خروج نبي يخرج بأرض العرب، يبعث بدين إبراهيم الحنفية، يكون منها مهاجره وقراره إلى أرض يكون بها النخل بين حرتين ـ نعتها بكذا وكذا، بظهره خاتم النبوة بين كتفيه، إذا رأيته عرفته، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، ثم مات. فمر بي ركب من كلب فسألتهم من هم؟ فقالوا: من العرب، فسألتهم من بلادهم، فأخبروني عنها، فقلت لهم: أعطيكم بقري وغنمي هذا على أن تحملوني حتى تقدموا أرضكم، قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملوني معهم، حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني برجل من اليهود. فأقمت ورأيت بها النخل ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، حتى قدم رجل من يهود بني قريظة فابتاعني من ذلك اليهودي، ثم خرج بي حتى قدم المدينة، فو الله! ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي وأيقنت أنه البلد، فمكثت بها أعمل له في ماله في بني قريظة حتى بعث محمد وخفي علي أمره وأنا في رقي مشغول، حتى قدم المدينة مهاجرا فنزل في قباء في بني عمرو بن عوف، فو الله! إني لفي رأس نخلة أعمل لصاحبي فيها وصاحبي تحتي جالس إذ أقبل ابن عم له من اليهود فقال: يا فلان! قاتل الله بني قيلة! إنهم آنفا لمجتمعون يقبلون على رجل بقباء قدم من مكة يزعمون أنه نبي، فو الله! ما هو إلا أن قالها له أخذتني رعدة من النخلة، حتى ظننت أني سقطت على صاحبي، فنزلت سريعا فقلت: أي سيدي! ما الذي تقول؟ فغضب مما رأى في ورفع يده فضربني بها ضربة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا! أقبل على عملك، قلت: لا شيء، سمعت منك شيئا فأردت أن أعلمه، فسكت عنه ثم أقبلت على عملي. فلما أمسيت جمعت ما كان عندي حتى أتيت رسول الله وهو بقباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت: بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحابا لك أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة من طعام يسير فجئتكم به وهو ذا ـ فقربت إليه، فقال رسول الله لأصحابه: كلوا، وأمسك يده وأبى أن يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة من صفة فلان، ثم رجعت، فتحول رسول الله إلى المدينة، فجمعت شيئا ثم جئته فسلمت عليه فقلت: هذا شيء كان لي وأحببت أن أكرمك وهو هدية أهديها لك كرامة ليست بصدقة، فإني رأيتك لا تأكل الصدقة، فأمر رسول الله أصحابه فأكلوا وأكل معهم، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم رجعت فمكثت شيئا ثم جئته وهو ببقيع الغرقد، مشى مع جنزة وحوله أصحابه، وعليه شملتان مرتديان بواحدة ومتزرا بالأخرى، فسلمت عليه، ثم تحولت حتى قمت وراءه لأنظر في ظهره، فعرف رسول الله إني إنما أريد أن أنظر وأثبته فقال بردائه فألقاه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصفه لي صاحبي، فأكببت على رسول الله أقبل موضع الخاتم من ظهره وأبكى، فقال: تحول عني، فتحولت عنه فجلست بين يديه وقصصت عليه قصتي وشأني وحديثي، فأعجب رسول الله وأحب أن يسمع ذلك أصحابه، ثم أسلمت ومكثت مملوكا حتى مضى شأن بدر وشأن أحد، وشغلني الرق فلم أشهد مجامع النبي . ثم قال لي رسول الله : كاتب نفسك، فسألت صاحبي الكتابة، فلم أزل حتى كاتبني على أن أفي له ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية ورق ـ وتلك أربعة آلاف، فقال رسول الله لأصحابه: أعينوا أخاكم بالنخل، فأعانني الرجل بقدر ما عنده، منهم من يعطيني العشرين والثلاثين والعشرة والخمس والست والسبع والثمان والأربع والثلاث حتى جمعتها، فقال لي رسول الله : اذهب فإذا أردت أن تضعها فأتني حتى أكون أنا أضعها لك بيدي، فقمت في تفقيرها وأعانني أصحابه حتى فرغنا من شربها، وجاء أصحابي كل رجل بما أعانني من النخل فوضعته، ثم جئت رسول الله فأخبرته، فخرج فجعلنا نحمل إليه النخل فيضعها بيده، فما مات منها ودية، وبقيت الدراهم ثم قال رسول الله : يا سلمان! إذا سمعت بشيء قد جاءني فأتني أغنيك بمثل ما بقي من مكاتبتك، فبينا رسول الله ذات يوم في أصحابه إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي، فقال رسول الله : خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان! قال قلت: وأين تقع هذه مما علي من المال؟ قال: إن الله سيؤديها عنك، فو الذي نفسي بيده! لقد وزنت لهم أربعين أوقية حقهم جميعا. وعتق سلمان وغزا مع رسول الله الخندق وما كان بعده من المغازي. قال: في أول هذه السنة كان فك سلمان من الرق وأداؤه بما كوتب عليه.

ثم كانت غزوة ذات الرقاع في المحرم

خرج رسول الله واستخلف على المدينة عثمان بن عفان يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، حتى نزل نخلا، فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب إلا أن الناس قد خاف بعضهم من بعض، حتى صلى رسول الله صلاة الخوف، وإنما سميت هذه الغزاة غزاة ذات الرقاع لأن الخيل كان فيها سواد وبياض فسميت الغزوة بتلك الخيل.

ثم انصرف رسول الله والمسلمون، فبينا جابر إذ أبطأعليه جمله فقال لحقه رسول الله فقال: يا جابر! قال: نعم، قال: ما شأنك؟ قال: أبطأعلي جملي، فحجنه رسول الله بمحجنه وقال: اركب، فقال جابر: ولقد أريتني أكفه عن رسول الله ، فقال: يا جابر! تزوجت؟ قلت: نعم، قال: بكرا أم ثيبا؟ قلت: بل ثيبا، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: إن لي أخوات فأحببت أن أتزوج بمن يجمعهن ويمشطهن وتقوم عليهن، قال: أما! إنك قادم فإذا قدمت فالكيس الكيس! ثم قال: أتبيع جملك؟ فقلت: نعم، فاشتراه منه بأوقية، ثم قدم المدينة ، قال جابر: فوجدته عند باب المسجد فقال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فدع جملك وادخل المسجد فصل ركعتين، فدخلت فصليت ركعتين، ثم أمر بلالا أن يزن لي أوقية، فوزن لي فأرجح في الميزان، فانطلقت حتى إذا وليت فقال: ادعوا لي جابرا، قلت: الآن يرد علي الجمل، وليس شيء أبغض إلي منه، قال: خذ جملك ولك ثمنه.

غزوة دومة الجندل

وذلك أن رسول الله بلغه أن جمعا تجمعوا بها، فغزاهم رسول الله حتى بلغ دومة الجندل فلم ير كيدا، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، ثم رجع إلى المدينة.

وتوفيت أم سعد بن عبادة وسعد مع رسول الله بدومة الجندل، فلما رجع جاء رسول الله قبرها وصلى عليها، فقال سعد: يا رسول الله! إن أمي أفتلتت نفسها ولم توص أفأقضي عنها؟ قال: نعم.

وكسف القمر في جمادى الآخرة، فجعلت اليهود يرمونه بالشهب ويضربون بالطاس ويقولون: سحر القمر، فصلى رسول الله صلاة الكسوف.

وبلغ رسول الله أن قريشا أصابتهم شدة حتى أكلوا الرمة، فبعث رسول الله بشيء من الذهب إليهم مع عمرو بن أمية وسلمة بن أسلم بن حريش.

ثم قدم على رسول الله وفد من مزينة، وهو أول وفد قدم عليه في رجب وفيهم بلال بن الحارث المزني في رجال من مزينة، فقال لهم رسول الله : أنتم مهاجرون أينما كنتم! فرجعوا إلى بلادهم. ثم قدم بعدهم ضمام بن ثعلبة، بعثه بنو سعد بن بكر فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله، قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: الله، آلله تعالى أرسلك؟ قال: نعم، قال: فبالذي خلق السماوات والأرض ونصب الجبال وجعل فيها هذه المنافع هو الله الذي أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: فو الله الذي بعثك بالحق! لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئا، فلما قفا قال النبي : لئن صدق ليدخلن الجنة! فأسلم ضمام ورجع إلى قومه بالإسلام.

غزوة المريسيع

في شعبان قصد بني المصطلق من خزاعة على ماء لهم قريب من الفرع، فقتل منهم رجالهم وسباهم، وكان فيمن سبى جويرة بنت الحارث ابن أبي ضرار، تزوجها رسول الله ، وجعل صداقها أربعين أسيرا من قومها.

في هذه الغزوة سقط عقد عائشة، فأقام رسول الله بالناس على التماسه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر! فبعثوا العير التي كانت عليه، فوجدوا العقد تحته.

وبعث رسول الله أبا نملة الطائي بشيرا إلى المدينة بفتح المريسيع.

غزوة الخندق

وكان من شأنها أن النبي لما أجلى بني النضير خرج نفر من اليهود فيهم حي بن أخطب النضري وهوذة بن قيس الوائلي وكنانة بن الربيع النضري في نفر من بني النضير وبني وائل وحزبوا الأحزاب حتى قدموا على قريش مكة ودعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نسستأصله ومن معه، فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود! إنكم أهل الكتاب والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم، وأنتم أولى بالحق منه، فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله وأجمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرجوا حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله ، وأخبروهم أن قريشا قد تابعوهم على ذلك وأجمعوا معهم على ذلك.

وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت، غطفان، وقائدها عيينة ابن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان قائد أشجع مسعود بن رخيلة.

فلما سمع رسول الله بأمرهم استشار المسلمين، فأشار عليه سلمان بضرب الخندق على المدينة، وهي أول غزوة غزاها سلمان مع رسول الله فخندق على المدينة فيما بين المذاد إلى ناحية راتج.

وأقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة في عشرة آلاف رجل من أحابيشهم ومن تابعهم من أهل كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد.

وخرج رسول الله واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر شوال ـ حتى جعل سلعا وراء ظهره والخندق بينه وبين القوم، وهو في ثلاثة آلاف من المسلمين، وخرج حي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب بني قريظة، فلم يزل يفتله حتى بايعه على ذلك.

ثم بعث رسول الله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير يستخبرون خبر كعب بن أسد أهم على وفاء أم لا، فمضوا إليه فسألوه، فقال: لا عهد بيننا وبين محمد، ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه.

فأقام رسول الله بحذاء المشركين بضعا وعشرين ليلة. ثم قال النبي : من يأتيني بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال النبي : إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير. ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل، غير أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أخو بني عامر وعكرمة بن أبي جهل المخزومي وهبيرة بن أبي وهب المخزومي وضرار بن الخطاب بن مرداس المحاربي، قد تهيأوا للقتال وتلبسوا وخرجوا على خيلهم ومروا بمنازل كنانة، ثم أقبلوا بخيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها! ثم أتوا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه وجالت في السبخة بين الخندق وسلع. فلما رآهم المسلمون خرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الموضع الذي منه اقتحموا وأقبلت الفوارس تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود فارس قريش وقد كان قاتل يوم بدر ولم يشهد أحدا، فخرج عام الخندق معلما ليرى مشهده، فلما وقف هو وخيله قال علي بن أبي طالب: يا عمرو! إني أدعوك إلى البراز، قال: ولم يا ابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتلك! قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك! فحمى عمرو عند ذلك واقتحم عن فرسه وعقره ثم أقبل إلى علي، فتنازلا وتجاولا إلى أن قتله علي وخرجت خيله منهزمة من الخندق.

وحبس رسول الله عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وذلك بعد أن كفوا، كما قال الله تعالى: وكفى الله المؤمنين القتال.

ولم يقتل من المسلمين غير ستة نفر: كعب بن زيد الدنباني، ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع أكحله، وعبد الله بن سهل، وأنس بن أوس بن عتيك، والطفيل بن النعمان بن خنساء، وثعلبة بن غنمة، وقتل من المشركين جماعة.

ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله وقال يا رسول الله! إني أسلمت وإن قومي لا يعلمون بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول الله : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا، فإن الحرب خدعة، فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا معشر قريظة! إنكم قد عرفتم ودي لكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، قال: فإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وإنهم ليسوا كهيئتكم، البلد بلدكم لا تقدرون على أن تتحولوا عنه، وإن قريشا وغطفان إن وجدوا فرصة أشهروها، وإن كان غير ذلك هربوا وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم على أن يقاتلوا مع القوم حت تناجزوه،فقالوا: قد أشرت برأي ونصح. ثم خرج نعيم حتى أتى قريشا وأبا سفيان فقال: يا معشر قريش إنكم قد عرفتم ودي لكم، قد رأيت أن حقا علي أن أبلغكموه وأنصح لكم فاكتموه علي، قالوا: نفعل، قال: إن معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك منا أن ناخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم، فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون رهنا فلا تدفعوا إليهم.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان! إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا علي، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش في شأن بني قريظة وحذرهم مثل الذي حذرهم. فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر معه من رؤوس غطفان إلى بني قريظة فقالوا: لسنا بدار مقام، قد هلك الكراع والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا أن غدا لسبت وهو يوم لا نعمل فيه ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من أشرافكم يكونون عندنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى الحرب إن اشتدت أن تتشمروا إلى بلادكم وتتركونا، فلما رجع عكرمة إلى قريش وغطفان بما قالت بنو قريظة قالوا: والله! إن جاءكم به نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة أنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا! فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا وقاتلوا، فقالت بنو قريظة: إن الذي ذكر لنا نعيم لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل فأرسلوا إلى قريش وغطفان أنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. وبعث الله على المشركين ريحا تطرح آنيتهم وتكفأ قدورهم في يوم شديد البرد، فلما انتهى إلى رسول الله ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان، قال: اذهب فادخل بين القوم وانظر ما يقولون ولا تحدثن شيئا حتى ـ تأتيني وذلك ليلا فدخل حذيفة في الناس، وقام أبو سفيان بن حرب وقال: يا معشر قريش! لينظر كل امرئ من جليسه؟ قال حذيفة: وأخذت رجلا إلى جنبي وقلت له: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش! إنكم والله! ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله! ما يستمسك لنا بناء ولا تطمئن لنا قدور فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ثم قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله إلى ألا تحدث شيئا حتى تأتيني لقتلته بسهمي، فرجع حذيفة إلى رسول الله فأخبره الخبر. فسمعت غطفان بما صنعت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، ورجع رسول الله إلى المدينة هو المسلمون ووضعوا السلاح.

غزوة بني قريظة

فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله وقال: قد وضعتم السلاح وأن الملائكة لم تضع سلاحها بعد، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة! فأذن مؤذن رسول الله : ألا! لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، وخرج رسول الله يحمل لواءه علي بن أبي طالب، فلما بلغ الصورين قال: هل مر بكم أحد؟ قالوا: نعم، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء، فقال رسول الله : ذاك جبريل! فسار رسول الله حتى نزل على بئر لبني قريظة في ناحية أموالهم، وتلاحق به الناس، وأتى رجال بعد عشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حي بن أخطب قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد، فلما تيقنوا أن رسول الله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم بعثوا إلى رسول الله إن بعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف لنستشيره، فأرسله رسول الله إليهم، فقالوا: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم ـ وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح فقالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فقال رسول الله : انزلوا على حكمه.

ثم إن ثعلبة بن سعيه وأسد بن سعيه وأسد بن عبيد أسلموا فمنعوا ديارهم وأموالهم. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فقال الأوس: يا رسول الله! إنهم موالينا دون الخزرج فقال رسول الله : ألا ترضون أن يحكم فيكم رجل منكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال رسول الله : فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان قال رسول الله لقومه حين أصابه السهم: اجعلوه في خيمة قريب مني حتى أعوده، فلما حكمه رسول الله في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار ثم أقبلوا به إلى رسول الله وهم يقولون: يا أبا عمرو! إن رسول الله إنما ولاك مواليك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما جاء سعد قال لهم رسول الله : قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو! إن رسول الله قد ولاك الحكم، قال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيكم ما حكمت، قالوا: نعم، قال وعلى من كان ههنا في هذه الناحية التي فيها رسول الله ـ وهو معرض عن رسول الله إجلالا له، فقال رسول الله نعم، فقال سعد فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء... قال رسول الله لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، فحبسهم رسول الله في دار ثم قدم رسول الله المدينة. فلما قدمها خرج إلى سوق المدينة فحفر حفرا ثم بعث إليهم وأمر بضرب أعناقهم وهم ما بين ستمائة إلى تسعمائة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم، فيهم حي بن أخطب وكعب بن أسد.

ثم إن رسول الله قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، فكان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا، فأعطى الفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وللراجل الذي ليس له فرس سهم، وأخرج منها الخمس، وقد قيل: إنه اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة.

ثم مات سعد بن معاذ، فأمر رسول الله بغسله، فغسله أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش، ثم وضع في أكفافه على سريره، فقال رسول الله اهتز العرش لموت سعد بن معاذ! وكان رسول الله أمام جنازة سعد حتى صلى عليه، ونزل في حفرته أربعة نفر: الحارث بن أوس وأسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش وأبو نائلة مالك بن سلامة. ثم بنى رسول الله بزينب ابنة جحش، فلما أصبح دعا القوم، فأصابوا من الطعام ثم خرجوا ونفر منهم عند النبي فأطالوا القعود، وقام رسول الله فخرج حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم رجع ونزلت آية الحجاب وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب.

سرية عبد الله بن أنيس

إلى خالد بن سفيان بن خالد بن ملهم الهذلي ثم اللحياني بعرنة فصادفه ببطن عرنة ومعه أحابيش، فقتله وحمل رأسه إلى النبي . ثم ركب رسول الله في ذي الحجة إلى الغابة، فسقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، فخرج فصلى بهم جالسا فقال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين. وفي ذي الحجة دفت دافة من عامر بن صعصعة فقال رسول الله : لا يبقى عندكم من ضحاياكم بعد ثلاثة شيء، أراد به أن يوسع السعة عمن لا سعة عنده، ثم قال لهم رسول الله : كلوا وادخروا بعد ثلاث.

السنة السادسة من الهجرة

أخبرنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن أبي معشر بحران ثنا سلمة بن شبيب ثنا عبد الرزاق أنا عبد الله بن عمر عن سعيد المقربي عن أبي هريرة: أن ثمامة بن أثال الحنفي أسر فكان النبي يعوده يقول: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل لا تمن، وإن تمن تمن على شاكر، وإن ترد المال تعط، قال: فكان أصحاب النبي يحبون الفداء ويقولون: ما نصنع بقتل هذا؟ فمر به النبي فأسلم، فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين، فقال النبي : حسن إسلام صاحبكم.

قال: في أول هذه السنة بعث رسول الله محمد بن مسلمة إلى القرطاء فأخذ ثمامة بن أثال الحنفي فأمر به، فربط بسارية من سواري المسجد، فخرج النبي فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله حتى كان الغد، ثم قال: ما عندك يا ثمامة؟ قال له مثل ذلك، فتركه النبي حتى كان بعد الغد فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، فقال رسول الله : أطلقوا ثمامة، فأطلق فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله [ ]، يا محمد! ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله! ما كان من دين أبغض إلي من دينك فقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله! ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فقد أصبح اليوم بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما ترى؟ فبشره رسول الله وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا ولكني أسلمت مع محمد رسول الله .

ثم بعث رسول الله عكاشة بن محصن الأسدي سرية الغمر فنذر به القوم فهربوا، فنزل على مياههم وبعث الطلائع، فـأصابوا عينا فدلهم على ماشيتهم، فساقوا مائتي بعير إلى المدينة.

ثم كسفت الشمس فصلى رسول الله صلاة الكسوف وقال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا.

وبعث رسول الله أبا عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة وهي بلاد بني ثعلبة وأنمار ـ فصلوا المغرب، وخرج أبو عبيدة في أربعين رجلا فساروا ليلتهم حتى أتوا ذا القصة عند الصبح، فأغاروا عليهم وهربوا في الجبال ثم قدموا المدينة، فخمس رسول الله الغنيمة وقسم ما بقي على أصحابه.

ثم بعث رسول الله محمد بن مسلمة إلى ذي القصة في عشرة أنفس، فخرج مائة من المشركين فكمنوا، فلما نام المسلمون خرجوا عليهم فقتلوهم، وانفلت محمد بن مسلمة جريحا وحده.

ثم بعث رسول الله زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم فأصاب نعما وشاء وأسراء، ثم سبق رسول الله بين الخيل فكان أول سباق بالمدينة، ثم سبق في الخف فكانت العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقه، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله : حق على الله أن لا يرتفع شيء في الدنيا إلا وضعه.

ثم بعث رسول الله زيد بن حارثة سرية إلى الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فتحسس الأعراب أن رسول الله سار إليهم فانهزموا، وأصاب المسلمون عشرين بعيرا من نعمهم ورجعوا إلى المدينة.

ثم بعث رسول الله أيضا زيد بن حارثة إلى العيص، فأسر جماعة منهم أبو العاص بن الربيع، فاستجار بزينب بنت النبي ، فأجارته.

ثم بعث رسول الله زيدا أيضا إلى حسمى، فرجع منها بنعم وسبي.

ثم تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح وهي أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فولد له منها عاصم بن عمر فطلقها عمر، فتزوج بها بعده زيد بن حارثة، فولد له عبد الرحمن بن زيد، فهو أخو عاصم بن عمرو لأمه.

ثم كانت سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنه إلى فدك في مائة رجل إلى حي من بني سعد بن بكر.

ثم كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل فعممه النبي بيده وقال: إن أطاعوا الله فتزوج ابنة ملكهم، فأسلم القوم، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وكان أبوها ملكهم.

ثم بعث رسول الله عبد الرحمن بن عوف في ثلاثة أنفس لينظر إلى خيبر وما عليها أهلها، فمضى وجاءوا إلى رسول الله بالخبر.

ثم أجدب الناس جدبا شديدا في أول شهر رمضان، فخرج رسول الله يستسقي بهم، فصلى ركعتين وجهر بالقراءة، ثم استقبل القبلة وحول رداءه.

ثم بعث رسول الله زيد بن حارثة سرية إلى أم قرفة فسبى سلمة بن الأكوع وزيد بن حارثة بنت مالك بن حذيفة وجدها في بيت من بيوتهم وأمها أم قرفة وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر.

ثم خرج رسول الله إلى بني لحيان حتى بلغ أمج وبين أمج وعسفان بلد لهم يقال له ساية فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فلما رأى رسول الله أنه قد أخطأهم خرج في مائتي راكب من المسلمين وهو صائم وهم صوام حتى بلغ عسفان وبلغ كراع الغميم فأفطر وأفطر المسلمون معه ثم رجع ولم ير كيدا، وجعل يقول في رجوعه: آيبون تائبون عابدون ولربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد.

فلما قدم رسول الله المدينة وأقام أياما أغار عيينة بن محصن بن بدر الفزاري في خيل من غطفان على لقاح رسول الله بالغابة وفيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة واللقاح، فخرج رسول الله في أثرهم حتى بلغ ذا قرد، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وتلاحق به الناس، وأقام رسول الله بذي قرد يوما وليلة وصلى بهم صلاة الخوف. ثم رجع رسول الله قافلا إلى المدينة، وانقلب عيينة بمن معه، وكانت سرح المسلمين بالمدينة بذي قرد، فقدم ثمانية نفر من عرينة فأسلموا، فبعثهم النبي إلى السرح فشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث النبي في طلبهم كرز بن جابر الفهري سرية في شوال في عشرين راكبا معهم قائفا، فأحدقوا بهم حتى أخذوهم، وجاءوا بهم النبي وكانوا قد ارتدوا، وقطعوا أيدي الرعاة وأرجلهم، وسملوا أعينهم كما أمر به النبي ، وطرحوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.

ثم غزا رسول الله غزوة بني المصطلق، وذلك أنه بلغه أن بني المصطلق تجمعوا وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث، فلما سمع بهم رسول الله خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله أبناءهم ونساءهم، وأموالهم، لما قسم رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله تستعينه في كتابتها فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي، قال: وهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله! قال: فعلت، وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله! فأرسلوا ما بأيديهم، فلقد أعتق وأطلق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها.

ثم أقبل رسول الله يريد المدينة، وكانت عائشة تحمل في هودج، فنزلوا منزلا، فمشت عائشة لحاجتها حتى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رحلها فإذا عقد لها من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت تلتمس عقدها وحبسها ابتغاؤه، فأذن بالرحيل وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونها فاحتملوا هودجها على بعيرها الذي كانت تركب عليه وهم يحبسون أنها فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفاقا وساروا، فرجعت عائشة بعد ما رحل الجيش فجاء منازلهم فإذا ليس بها داع ولا مجيب، فأمت منزلها التي كانت فيه وعلمت أنهم سيفقدونها فبينا هي جالسة إذ غلبت عينها عليها، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فرأى سواد إنسان نائم، فعرفها حين رآها وكان رآها قبل أن ينزل الحجاب، فاستيقظت عائشة باسترجاعه حين عرفها، فخمرت عائشة وجهها بجلبابها، وما كلمها حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقامت إليه فأركبها وانطلق يقود الراحلة حتى أتى الجيش فوجدهم موغرين في نحر الظهيرة، فهلك فيها من هلك، وكان الذي كبره عبد الله بن أبي بن سلول، فلما قدموا المدينة لبثت عائشة شهرا والناس يخوضون في قول أصحاب الإفك وهي لا تشعر بشيء من ذلك، فكان رسول الله يأتيها فيسلم عليها ويقول: كيف تيكم؟ وينصرف، وكان تراها ذلك من رسول الله فخرجت ذات ليلة مع أم مسطح قبل المناصع وكانت متبرزهم قبل أن تتخذ الكنف، فلما فرغتا من شأنهما عثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقالت لها عائشة: بئس ما تقولين! تسبين رجلا من أهل بدر! فقالت: أي هنتاه! ألم تسمعي ما قال؟ قالت عائشة: لا، فأخبرتها بقول أهل الإفك فازدادت مرضا، فلما دخل عليها رسول الله قالت: ائذن لي أن آتي إلى أبوي، أذن لها رسول الله ، فقالت: يا أبتاه! ماذا يتحدث الناس؟ قال: يا بنتي! هوني عليك، فو الله لقل ما كانت امرأة قط عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها، فبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، فلما أصبح دعا رسول الله عليا وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله وقال: أهلك لا نعلم إلا أخيرا، وأما علي فقال: يا رسول [ ا لله ] لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله بريرة فقال: أي بريرة! هل رأيت من أهلي شيئا يريبك؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحق! ما رأيت عليها شيئا قط أغمضه عليها أكثر من أنها حديثة السن تنام عن عجين فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله من يومه واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول وهو على المنبر فقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ والله! ما علمت على أهلي إلا خيرا! ولقد ذكروا رجلا ما علمت إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي، فقال أسيد بن حضير: [ يا ] رسول الله! أنا أعذر منه! فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإنا كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك! وكاد أن يكون بين الأوس والخزرج قتال بهذه الكلمة، فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا، وبكت عائشة يومها ذلك كله، فبين أبواها جالسين عندها وهي تبكي إذا استأذنت عليها امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معها، ثم دخل رسول الله فسلم ثم جلس ثم تشهد حين جلس ثم قال: أما بعد! يا عائشة! فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسست منها بقطرة وقالت لأبيها: أجب رسول الله فيما قال، فقال أبو بكر: والله! ما أدري ما أقول! فقالت لأمها: أجيبي رسول الله فيما قال، فقالت: والله! ما أدري ما أقول! فقالت عائشة! إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم! فلو قلت لكم: إني بريئة، لا تصدقوني بذلك، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لا تصدقوني، والله! ما أجد لي ولكم مثلا إلا ما قال أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ثم تحولت عائشة واضطجعت على فراشها فما راح رسول الله ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من الرحضاء حتى أن ينحدر منه العرق مثل الجمان وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه، فسرى عن رسول الله وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لها: يا عائشة! إما والله! فقد برأك! فقالت لها أمها: قومي إليه، فقالت: لا والله! ما أقوم، وإني لا أحمد إلا الله، وأنزل الله إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة إلى تمام العشر الآيات، فلما أنزل الله هذه الآيات قال أبو بكر: وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله! لا أنفق على مسطح شيئا بعد الذي قال لعائشة! فأنزل الله ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ـ الآية، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! والله إني لأحب أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنتزعها منه أبدا، وقد قيل: إن النبي حد أصحاب الإفك الذين رموا عائشة فيما رواه.

غزوة الحديبية

خرج رسول الله ومعه ألف وثمانمائة رجل وسبعون بدنة، فأحرم رسول الله ومن معه من ذي الحليفة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وساق أبو بكر بدنا وطلحة بدنا وسعد بن عبادة بدنا، فلما بلغ رسول الله غدير عسفان ذات الأشطاط لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله! هذه قريش سمعت بك وخرجت قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم، فقال رسول الله : يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب! فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وآووني، والله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله عليه حتى يظهرني الله! ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية، فلما بلغ ثنية المرار بركت ناقته، فقالوا: خلأت القصواء! فقال: ما خلأت القصواء وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله! لا يدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها! ثم قال للناس: انزلوا، فقالوا: يا رسول الله! ما بالوادي ما ينزل عليه الناس، فأخرج رسول الله سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغزره في جوفه، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس بعطن، فلما اطمأن رسول الله أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فقال رسول الله كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش! إنكم تعجلون على محمد، إن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، فقالوا: وإن جاء لذلك فلا والله لا يدخلها عنوة ولا تتحدث بذلك العرب! ثم بعثوا مكرز بن حفص بن الأحنف أحد بني عامر ابن لؤي، فلما رآه النبي قال: هذا الرجل غادر، فلما انتهى إلى رسول الله كلمه رسول الله لنحو ما كلم به أصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم بذلك، فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني وهو يؤمئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله قال: إن هذا من قوم يتألهون فاثعبوا الهدي في وجهه، فلما رأى الهدي يسير عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس رجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش! قد رأيت ما لا يحل صد الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، فقالوا: اجلس، لا علم لك، وبعث رسول الله خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل يقال له الثعلب، فلما دخل مكة أراد قريش قتله فمنعه الأحابيش، حتى أتى رسول الله ، فدعا رسول الله عمر بن الخطاب ليبعث إلى مكة، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس لي بها من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلطتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله وبعثه إلى قريش ليخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت المعظم لحرمته، فخرج عثمان بن عفان حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله بين يديه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله ، وانطلق حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال عثمان: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ، ثم رجع عثمان.

وبعث قريش سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي وقالوا: ائت محمدا وصالحه، ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا! فأتى سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي قال: قد أراد القوم الصلح حتى بعثوا هذا الرجل، فلما انتهى إلى رسول الله تكلم فأطال الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر فقال: يا رسول الله ! ألست برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله، ثم دعا رسول الله علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لأعرف هذا، ولكن اكتب [ باسمك اللهم ] وقال رسول الله : اكتب باسمك اللهم! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فقال: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن أكتب [ محمد بن عبد الله ] اسمك واسم ابيك، فقال رسول الله : اكتب محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، فكتب: محمد بن عبد الله هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين، يأمن بهذا الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله من أصحابهم بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله لم يرده، وأنه لا أسلال ولا أغلال فلما فرغ من الكتاب وكان رسول الله يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل ـ قام رسول الله فقال: يا أيها الناس! انحروا واحلقوا، فما قام رجل من المسلمين، فدخل رسول الله على أم سلمة فقال: يا أم سلمة! ما شأن الناس؟ قال له: يا رسول الله! قد أحل بهم ما رأيت كأنهم كرهوا الصلح، فاعمد إلى هديك حيث كان وانحر واحلق، فإنك لو فعلت ذلك فعلوا، فخرج رسول الله لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحرها ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون، فحلق رجال منهم وقصر آخرون، فقال رسول الله : يرحم الله المحلقين! قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: والمقصرين! قالوا: ما بال المحلقين يا رسول الله ذكرت لهم الترحم؟ قال: لأنهم لم يشكوا أمر رسول الله البيعة على الناس تحت الشجرة هناك أن لا يفروا، فبايعه الناس كلهم غير الجد بن قيس، اختبأ تحت إبط بعيره، فذلك قول الله عز وجل إذ يبايعونك تحت الشجرة وقال : لن يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية.

ثم انصرف رسول الله حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت عليه سورة الفتح إنا فتحنا لك فتحا ـ إلى آخر السورة، فما فتح في الإسلام فتح أعظم من نزول هذه السورة.

ثم قدم رسول الله المدينة وكانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها، وآمن الناس كلهم بعضا واستفاضوا، ولا يكلم أحد بالإسلام يعقل عنه إلا دخل فيه، حتى دخل فيه في تلك السنة من المسلمين قريبا مما كان قبل ذلك. وفي هذه العمرة أصاب كعب بن عجرة أذى في رأسه، فأمره رسول الله أن يحلق ويذبح شاة ويصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين مدين. وأهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله رجل حمار وحش فرده وقال: لم نرده ولكنا حرم.

وفي هذه العمرة صلى بهم رسول الله الصبح في إثر سماء في الحديبية، فلما انصرف أقبل عليهم بوجهه فقال: أتدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب.

وفي هذه العمرة أصاب الناس عطش شديد فحبسوا، فوضع رسول الله يده في الركوة، فثار الماء مثل العيون، فتوضئوا منها ورووا.

غزوة ذي قرد

خرج سلمة بن الأكوع ومعه غلام له يقال له رباح مع الإبل، فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله وقتل راعيها وجعل ينظر في أناس معه في خيل، فقال سلمة لرباح: اركب هذا الفرس واخبر رسول الله أنه قد أغير على سرحه، ثم قام سلمة على تل وجعل وجهه قبل المدينة ثم نادى ثلاث مرات ـ وكان صيتا: يا صباحاه! ثم اتبع القوم ومعه سيف ونبله، فجعل يرميهم وذلك حين كثر الشجر، فإذا كر عليه الفارس جلس له في أصل شجرة ثم رماه، ولا يظفر بفارس إلا عقر فرسه، فجعل يرمي ويقول:

أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

وإذا كان كثر الشجر رشقهم بالنبل، فإذا تضايقت الشجرة علا الجبل ورماهم بالحجارة، فما زال ذلك دأبه ودأبهم ويرتجز حتى ما بقي من ظهر النبي إلا استقذه من أيديهم وخلفه وراء ظهره، ثم لم يزل يرميهم حتى طرحوا أكثر من ثلاثين بردة يستخفون بها، فكلما ألقوا شيئا جمع عليه سلمة، فلما اشتد الضحى أتاهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري ممدا لهم وهم في ثنية ضيقة في علوة الجبل فقال لهم: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقد لقينا من هذا ـ يعنون سلمة، ما فارقنا منذ سحر حتى الآن، وأخذ كل شيء من أيدينا وخلفه وراءه، فقال عيينة: لولا أن هذا يرى وراءه طلبا لقد ترككم! فليقم إليه نفر منكم، فقام إليه نفر منهم أربعة وصعدوا في الجبل فقال لهم سلمة: أتعرفوني؟ قال: ومن أنت؟ قال: ابن الأكوع! والذي كرم وجه محمد ! لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني، فبينا سلمة يخاطبهم إذ نظر فرأى أصحاب رسول الله لحقوا يتخللون الشجر وإذ أولهم الأخرم الأسدي وعلى أثره أبو قتادة وعلى أثره المقداد الكندي، فولى المشركون مدبرين، فنزل سلمة من الجبل وقال: يا أخرم! احذر القوم، فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله وأصحابه، قال: يا سلمة! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة، ثم أرخى عنان فرسه ولحق بعبد الرحمن ابن عيينة ويعطف عليه عبد الرحمن واختلف بينهما طعنتان فقتله عبد الرحمن وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فلحق أبو قتادة بعبد الرحمن واختلف بينهما طعنتان فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم، ثم خرج سلمة يعدو في أثر القوم حتى ما يرى من غبار أصحاب النبي شيئا فلم يقرب غيبوبة الشمس، وقرب المشركون من شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد، فأرادوا أن يشربوا منه فالتفتوا فأبصروا سلمة وراءهم فعطفوا عن الماء وشدوا في الثنية وغربت الشمس، فلحق سلمة رجل منهم فرماه بسهم، وقال: خذها:

أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

قال: يا ثكل أمياه! أكوع بكرة؟ قلت: نعم أي عدو نفسه! وكان الذي رماه بكرة وأتبعه سهما آخر فأثبت فيه سهمين وخلقوا فرسين فجاء بهما يسوقهما، ورسول الله على الماء الذي خلفهم عند ذي قرد وإذا بلال قد نحر جزورا مما خلفه بسهمه وهو يشوي لرسول الله من كبدها وسنامها، فقال سلمة: يا رسول الله! خلني فأنتخب من أصحابك مائة رجل، وأتبع الكفار حتى لا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: أكنت فاعلا ذلك؟ قال: نعم والذي أكرم وجهك! فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، فجاء رجل من غطفان فقال: مر المشركون على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، ثم خرجوا هرابا، فلما أصبح رسول الله انصرف إلى المدينة وجعل يقول: خير فرساننا اليوم أبو قتادة! وخير رجالتنا سلمة! فأعطى سلمة ذلك اليوم سهم الراجل والفارس جميعا.

ثم إن رسول الله أردفه وراءه على العضباء فلما كان بينهم وبين المدينة قريب وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق فجعل ينادي: هل من مسابق! ألا رجل يسابق إلى المدينة! فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأ سابق الرجل! قال: إن شئت: قلت، اذهب إليك. فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إني ربطت عيله شرفا أو شرفين يعني استبقيت نفسي ثم عدوت حتى لحقته فأصكه بين كتفيه بيدي وقلت: سبقت والله! حتى قدمنا المدينة. ثم توفيت أم رومان امرأة أبي بكر الصديق أم عبد الرحمن وعائشة في ذي الحجة.

السنة السابعة من الهجرة

أخبرنا محمد بن حسن بن قتيبة نا ابن أبي السري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في قال: انطلقت في المدة التي كانت بيننا وبين رسول الله ، فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله إلى هرقل، جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، قال: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه فأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم: إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، قال أبو سفيان: والله! لولا مخافة أن يؤثروا عني كذبا لكذبته، ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ فقلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: من يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم، قال: فهل يزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه، قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها! قال: والله فما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه! قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا. ثم قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم قلت: إنه ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في الحساب قومها، وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: إن كان في آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه ضعفاء الناس أم أشرافهم قلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس فيذهب فيكذب على الله، وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطه له؟ فزعمت أن لا، فكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فزعمت أن الحرب بينكم وبينه سجال تنالون منه وينال منكم، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: هل قال هذا القول قبله أحد؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل يأتم بقول قيل قبله، ثم سألتك بما يأمركم؟ قلت: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، قال: إن يكن ما تقول فيه فإنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. فقال: ثم دعا بكتاب رسول الله فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله ـ إلى هرقل ملك الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد! فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين يا أهل الكتاب تعالوا - إلى قوله - بأنا مسلمون. فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا، فما زلت موقنا بأمر رسول الله سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

قال: في أول هذه السنة كتب رسول الله إلى الملوك وبعث إليهم بالرسل يدعوهم إلى الله، فقيل: إنهم لا يقرأون كتابا إلا بخاتم، فاتخذ رسول الله خاتما من فضة نقش فيه [ محمد رسول الله ] ليختم به الصحف، فكان يلبسه تارة بيمينه وتارة في يساره.

فبعث رسول الله عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بكتاب فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ليدفعه عظيم البحرين إلى كسرى. وبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وهو هرقل ملك الروم وأمره أن يدفع الكتاب إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية. وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى أصحم بن أبحر النجاشي، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث ابن أبي شمر الغساني صاحب دمشق. وبعث عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة.

فأما كسرى فمزق كتاب رسول الله ، فقال رسول الله لما بلغه ذلك مزق الله ملكه، إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده.

وأما قيصر فسأل أبا سفيان عما سأل ثم قرأ كتاب رسول الله ثم خلا بدحية الكلبي وقال: إني لأعلم أن صاحبكم نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكن أخاف الروم على نفسي ولولا ذاك لاتبعته، ولكن اذهب إلى ضغاطر الأسقف فاذكر له أمر صاحبكم وانظر ماذا يقول، فجاء دحية وأخبره مما جاء به من رسول الله إلى هرقل وبما يدعو إليه، فقال ضغاطر: صاحبك والله نبي مرسل! نعرفه بصفته ونجده في كتابنا باسمه، ثم دخل فألقى ثيابا كانت عليه سوداء ولبس ثيابا بيضا ثم أخذ عصاه وخرج على الروم وهم في الكنيسة فقال للروم: إنه قد أتانا كتاب من أحمد يدعو فيه إلى الله، وإني أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وضربوه حتى قتلوه، فرجع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر، قال: قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا فضغاطر كان والله أعظم عندهم وأجوز قولا مني.

وأما النجاشي فكان كتابه من محمد رسول االله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلم أنت، فأني أحمد الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين، فدع التجبر فإني أدعوك إلى الله وقد بلغت ونصحت فاقبل نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى فقرأ النجاشي الكتاب وكتب جوابه إلى رسول الله : بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله ، من النجاشي الأصحم بن الأبحر، سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض أن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما قلت، ولقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، وأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وبعثت إليك بابني أرها بن الأصحم فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق ـ والسلام عليك يا رسول الله! فخرج ابنه في ستين نفسا من الحبشة في سفينة البحر، فلما توسطوا ولججوا أصابتهم شدة وغرقوا كلهم.

وأما المقوقس فأهدى إلى رسول الله أربع جوار فيهن مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله وكذلك سائر الملوك أهدى إليه الهدايا فقبلها رسول الله ، وكان يقبل الهدية ويثيب عليها.

غزوة خيبر

خرج رسول الله في بقية المحرم إلى خيبر، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري وقدم عينا له ليجيئه بالخبر، وأخرج من نسائه أم سلمة، وخرج على الأموال بجيشه فلا يمر بمال إلا أخذه ويقتل من فيه ويفتتحها حصنا حصنا، فأول ما أصاب منها حصن ناعم ثم حصن الصعب بن معاذ ثم حصن القموص فلما افتتح رسول الله أتى حصنهم الوطيح والسلالم وكان رسول الله إذا أصبح قوما أو غزا لم يغر عليهم حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار، فلما أصبح رسول الله استقبلهم عمال خيبر بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا النبي والجيش قالوا: محمد والله والخميس! وأدبروا هرابا، فقال رسول الله : الله أكبر الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين! فخرج مرحب اليهودي من الحصن يرتجز ويطلب البراز فقال رسول الله : من لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله! فلما دنا أحدهما من صاحبه بادر مرحب بالسيف، فاتقاه محمد بن مسلمة بدرقته، فوقع سيفه فيها وعضت به الدرقة فأمسكت، فضربه محمد بن مسلمة فقتله، ثم بعث رسول الله رجلا يقاتل فمر ورجع ولم يكن فتحا ثم بعث آخر يقاتل فمر ورجع ولم يكن فتحا، وحمى الحرب بينهم وتقاعسوا، فقال النبي : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله! ويحبه الله ورسوله! يفتح الله على يديه، ليس بفرار، فلما أصبح دعا عليا وهو أرمد، فتفل في عينيه فبرأ، ثم قال: خذ هذه الراية واقبض بها حتى يفتح الله عليك فخرج علي يهرول والمسلمون خلفه حتى ركز رايته في رضم من حجارة، فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى! فلم يزل علي يقاتل حتى سقط ترسه من يده، ثم تناول بابا صغيرا كان عند الحصن فاترس به، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، فلما أيقن اليهود بالهلكة سألوا رسول الله أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم، ففعل رسول الله ذلك، فنزلوا على ذلك وقالوا: يا محمد! إنا نحن أرباب الأموال ونحن أعلم بها منكم فعاملناها، فعاملهم رسول الله الخيبر على النصف. فلما فعل ذلك أهل خيبر سمع بذلك أهل فدك، بعث إليهم رسول الله محيصة بن مسعود، فنزلوا على ما نزلت عليه اليهود بخيبر على أن يسيرهم ويحقن دماءهم، فعاملهم رسول الله على مثل معاملة أهل خيبر فكانت فدك لرسول الله خالصة، وذلك أنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وقسم رسول الله خيبر على ألف وثمانمائة سهم، وكان الرجال بها ألف وأربعمائة والفرس مائتي فرس، فقسم للفارس ثلاثة أسهم: سهمين لفرسه وسهما له، وللرجل سهما فكان للأفراس أربعمائة ولركابها، ولرجالهم ألف وأربعمائة سهم، وكان سهم رسول الله مع عاصم بن عدي، ثم أطعم رسول الله رجالا مشوا بين رسول الله وبين أهل فدك في الصلح، وأعطى محيصة ابن مسعود ثلاثين وسقا من شعير وثلاثين وسقا من تمر، وقسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، فكانت قسمة خيبر على ما وصفنا. وكانت صفية بنت حيي بن أخطب في السبي، أخرجوها من حصن القموص، فاصطفاها رسول الله لنفسه. وسئل رسول الله عن آنية المشركين، فقال: اغسلوها وكلوا فيها وأطعموا، وأطعم رسول الله تسعا من نسائه اللاتي توفي وهن عنده تسعمائة وسق تمر ومن القمح مائة وثمانين وسقا. فلما فرغوا من الغنائم وقسمها أكل المسلمون لحوم الحمر الأهلية فأمر مناديا فنادى في الناس: إن الله ورسوله ينهيانكم عن المتعة، وأمر بالقدور أن تكفأ، ثم قام رسول الله فيهم خطيبا فقال: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره يعني إتيان الحبائل من السبايا، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة ثيبا من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من غنيمة المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده، ثم اطمأن الناس.

وأهدت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم لرسول الله شاة مصلية وأكثرت فيها من السم، فلما وضعته بين يدي رسول الله قال: إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم! ثم دعاها فاعترفت، فقال،: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله ، وكان بشر بن البراء بن معرور يأكل مع رسول الله فأكل منها قطعة وكان ذلك سبب موته.

قتلى المسلمين بخيبر

ربيعة بن أكثم بن سخبرة وثقف بن عمرو بن سميط ورفاعة بن مسروح وعبد الله بن الهبيب ومسعود بن قيس بن خلدة ومحمود بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة وأبو الضياح بن ثابت بن النعمان بن أمية ومبشر بن عبد المنذر بن الزنبر بن زيد بن أمية بن سفيان بن الحارث والحارث بن حاطب وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس بن القائد وأنيف بن حبيب وثابت بن أثلة وعمارة بن عقبة بن حارثة بن غفار وبشر بن البراء بن معرور، وكان سبب موته أكله من الشاة المسمومة.

وعند فراغ المسلمين من خيبر قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة فقال النبي : والله! ما أدري بأي الأمرين أنا أشد فرحا بفتح خيبر أو قدوم جعفر. ثم قام إليه فقبل ما بين عينيه.

فلما فرغ رسول الله سار إلى وادي القرى، فحاصر أهله ليالي ومع رسول الله غلام له أهداه رفاعة بن زيد الجذامي، فبينا هو يضع رحل رسول الله إذ أتاه سهم غرب فقتله، فقال المسلمون: هنيئا له الجنة! فقال رسول الله : كلا والذي نفسي بيده! إن شملته الآن تحترق عليه في النار، وكان غلها من فيء المسلمين، فسمعها رجل من أصحاب رسول الله فقال: يا رسول الله! أصبت شراكين لنعلين لي! وقال رسول الله : يبدلك الله مثلها في النار.

ثم استأذن رسول الله الحجاج بن علاط السلمي وقال: يا رسول الله! إن لنا مالا بمكة فأذن لي، فأذن له، فقال: يا رسول الله! وأن أقول؟ قال فقل، قدم الحجاج بمكة وإذا قريش بثنية البيضاء يستمعون الأخبار، وقد بلغهم أن رسول الله قد سار إلى خيبر، وقد كانوا عرفوا أنها أكثر أرض الحجاز ريفا ومنعة ورجالا، فلما رأوه قالوا: يا حجاج! أخبرنا فإنه قد بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر، فقال الحجاج: عندي من الخبر ما يسركم! قالوا: ما هي يا حجاج؟ فقال هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وأسر محمدا أسرا، فقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان قتل من رجالهم، فقاموا وصاحوا بمكة: جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم، فقال الحجاج: أعينوني على مالي بمكة وعلى غرمائي. فإني أقدم خيبر فأصيب من فيء محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار. فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر أقبل حتى وقف على جنب الحجاج بن علاط، قال: يا حجاج! ما هذا الخبر الذي جئتنا به؟ قال: وهل عندك حفظا لما وضعت عندك؟ قال: نعم، قال: استأخر عني حتى ألقاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى، فانصرف، حتى إذا فرغ الحجاج من جمع ماله وأراد الخروج لقي العباس فقال: احفظ علي حديثي فإني أخشى الطلب، قال، افعل، قال: والله! إني تركت ابن أخيك عروسا على ابنة ملكهم صفية بنت حيي، ولقد افتتح خيبر فصارت له ولأصحابه له، قال: ما تقول يا حجاج! قال: أي والله! فاكتم علي ثلاثا، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي فرقا من أن أغلب عليه فإذا مضى ثلاث فأظهر أمرك فإن الأمر والله على ما تحب! ثم خرج الحجاج بماله، فلما كان اليوم الثالث من خروجه لبس العباس حلة وتخلق وأخذ عصاه ثم خرج حتى طاف بالكعبة، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل! هذا والله التجلد لحر المصيبة قال. كلا والذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وأصبح عروسا على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها، قالوا: من جاء بهذا الخبر؟ قال: الرجل الذي جاءكم بما جاءكم به ولقد دخل عليكم وأخذ ماله وانطلق فلحق برسول الله ليصحبه ويكون معه، قالوا: يا لعباد الله انفلت عدو الله، والله لو علمنا لكان لنا وله شأن فلم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك.

وكان رسول الله في رجوعه من خيبر إلى المدينة نزل بعض المنازل ثم قال: من يكلؤنا اللية؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله! فنزل رسول الله بالناس وناموا، وقام بلال يصلي فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم استند إلى بعيره واستقبل الفجر يرمقه، فغلبته عيناه فنام فلم يوقظهم إلا حر الشمس، وكان رسول الله أول أصحابه هبا فقال: ماذا صنعت يا بلال! فقال: يا رسول الله! أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قال: صدقت، ثم اقتاد رسول الله بعيره غير كثير ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس معه، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس، فلما سلم أقبل على الناس فقال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموهما فإن الله يقول: أقم الصلاة لذكري.

ثم قدم رسول الله المدينة وأبو هريرة أسلم وقدم المدينة والنبي بخيبر وعليها سباع بن عرفطة الغفاري فصلى مع سباع الغداة في مسجد رسول الله فسمعه يقرأ ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا ـ الآية. وكان عمرو بن أمية الضمري خطب أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى النجاشي لرسول الله وهم بأرض الحبشة حيث حمل كتاب النبي ، فزوجها النجاشي من رسول الله على مهر أربعمائة من عنده، وكان الذي زوجها خالد بن سعيد بن العاص وبعثها النجاشي مع من بقي من المسلمين بأرض الحبشة إلى المدينة في سفينتين، فلما بلغوا الجار ركبوا الظهر حتى قدموا على رسول الله عند انصرافه من خيبر. ورد رسول الله ابنته علي أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول. وقدم عمرو بن العاص زائرا لرسول الله ومسلما عليه من عند النجاشي وكان قد أسلم بأرض الحبشة ومعه عثمان بن طلحة العبدري وخالد بن الوليد بن المغيرة.

ثم بعث رسول الله بشير بن سعد سرية إلى بني مرة في ثلاثين رجلا فقتلوا ورجع وحده إلى المدينة.

ثم بعث رسول الله أبا بكر الصديق سرية إلى نجد ومعه سلمة بن الأكوع.

وبعث غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح في رمضان في مائة وثلاثين رجلا فأغاروا عليهم واستاقوا النعم والشاء وجاءوا بها إلى المدينة، ونذروا لخروج العدو خلفهم، فجاء السيل وحال الوادي بينهم وبين المسلمين، ورجعوا إلى المدينة بالغنائم.

ثم بعث رسول الله عمر بن الخطاب سرية في ثلاثين رجلا إلى أرض هوزان فخرج، معه بدليل من بني هلال، فكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار حتى ملكوا هوازن ونذر القوم وهربوا، ولم يلق عمر كيدا ثم رجع.

ثم بعث رسول الله بشير بن سعد إلى جناب في شوال معه حسيل بن نويرة فأصابوا نعما، وانهزم جمع عيينة بن حصن إلى المدينة.

ثم أراد رسول الله أن يعتمر في ذي القعدة عمرة القضاء لما فاتهم من العام الأول من عمرة الحديبية وعزم أن ينكح ميمونة فبعث أبا رافع ورجلا من الأنصار من المدينة إلى ميمونة ليخطبها له ثم أحرم وساق سبعين بدنة في سبعمائة رجل، واستعمل على المدينة ناجية بن جندب الأسلمي، وتحدثت قريش أن محمدا وأصحابه في عسر وجهد وحاجة، فقدم مكة وعبد الله بن رواحة أخذ بخطام ناقته يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله

يا رب إني مؤمن بقيله أعرف حق الله في قبوله

نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

واصطفت قريش عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى وقال: رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة! ثم استلم الركن فخب ثلاثا ومشى أربعا، وخب المسلمون معه، واستلم الركن، وهرول بين الصفا والمروة ليرى المشركون، أن به قوة، ثم حلق ونحر البدن، فكانت البدنة عن عشرة. وأقام رسول الله بمكة ثلاثا، وتزوج ميمونة بها وهي حل وهو حرام، فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود في نفر من قريش قد وكلته بإخراج رسول الله من مكة وقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا! فخرج رسول الله من مكة بالمسلمين وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى بها وهما حلالان ثم رجع إلى المدينة.

ثم بعث بعد رجوعه من مكة بخمسين رجلا ابن أبي العوجاء السلمي في سرية إلى بني سليم فلقيهم بنو سليم على حرة فأصيب أصحابه، ونجا هو بنفسه فقدم المدينة.

السنة الثامنة من الهجرة

حدثنا أحمد بن علي بن المثنى التميمي بالموصل ثنا عبد الواحد بن غياث ثنا حماد بن سلمة عن قتادة وثابت وحميد عن أنيس قال: غلا السعر على عهد رسول الله فقالوا: يا رسول الله! سعر لنا، فقال: إن الله هو القابض والباسط المسعر الرزاق، وإني أرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال.

قال: في أول هذه السنة غلا السعر على المسلمين فأتوا النبي يسعر لهم، فكره رسول الله ذلك ثم قال: لا تباغضوا ولا تحسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ثم قال: لا يسوم الرجل على سوم أخيه. ولا يبيع حاضر لباد، دعو الناس يرزق بعضهم من بعض.

ثم طلق رسول الله سودة بنت زمعة، فقعدت له على طريقه بين المغرب والعشاء ثم قالت: يا رسول الله! ارجعني، فو الله ما بي حب الرجال! لكني أحب أن أحشر في أزواجك ويومي لعائشة! فردها رسول الله .

ثم توفيت زينب بنت رسول الله، غسلتها سودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية زوجتا رسول الله .

ثم بعث رسول الله غالب بن عبد الله الليثي سرية إلى بني ليث في بضعة عشر رجلا، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وساق نعمهم ومواشيهم إلى المدينة.

ثم بعث رسول الله عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندي بعمان، فصدقا بالنبي واقرأ بما جاء به، وصدق عمرو بن العاص أموالهم، وأخذ الجزية من المجوس.

ثم صالح رسول الله المنذر بن ساوى العبدي وكتب إليه كتابا مع العلاء بن الحضرمي بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر ابن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني ورسلك، وأنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فإنه مسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، ومن أبى فعليه الجزية. فصالحهم العلاء بن الحضرمي على أن على المجوس الجزية، لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.

ثم بعث رسول الله كعب بن عمير الغفاري سرية في خمسة عشر رجلا حتى انتهى ذات أطلاح من ناحية الشام قريبا من مغار وكانوا من قضاعة، فوجد بها جمعا كثيرا فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب كعب جميعا، ونجا هو بنفسه حتى قدم المدينة.

ثم بعث رسول الله شجاع بن وهب سرية إلى بني عامر قبل نجد في أربعة وعشرين رجلا فأغار عليهم، فجاءوا نعما وشاء، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلهم النبي بعيرا بعيرا.

ثم بعث رسول الله زيد بن حارثة إلى مؤتة ناحية الشام، فأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، وتجهز الناس معه فخرج معه قريبا من ثلاثة آلاف من المسلمين ومضى حتى نزل معان من أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم، فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم من أجلها ـ الشهادة! ولا نقاتل الناس بعدد ولا قوة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة! ثم رحلوا، فلما كانوا بالقرب من بلقاء لقيهم جموع هرقل في الروم، فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فتعبأ لهم المسلمون وجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار من بني سعد بن هريم يقال له عبادة ابن مالك، ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى ألحمه القتال فاقتحم عن فرسه الشقراء وعرقبها وقاتل حتى قتل وفيه اثنتان وسبعون ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح، ثم أخذ عبد الله بن رواحة الراية وتقدم بها وهو على فرسه فقاتل حتى قتل وأخذ الراية ثابت بن أقرم وقال: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ خالد الراية ودافع القوم وحاشى بهم ثم انصرف بالناس فنعى رسول الله الناس جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة قبل أن يجيء خبرهم، ثم قال : اصنعوا لآل جعفر طعاما، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم، وقدم خالد بن الوليد بالمسلمين فتلقاهم رسول الله والمسلمون والصبيان يحثون على الجيش التراب ويقولون: أفررتم في سبيل الله! ورسول الله يقول: ليسوا بالفرارين ولكنهم الكرارون.

ثم بعث رسول الله عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل وهم قضاعة، وكانت أم العاص بن وائل قضاعية فأراد رسول الله أن يتألفهم بذلك فخرج في سراة المهاجرين والأنصار، ثم استمد رسول الله بأبي عبيدة ابن الجراح على المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر فلما اجتمعوا واختلف أبو عبيدة وعمرو بن العاص في الإمامة، فقال المهاجرون: أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أميرنا، فأبى عمرو بن العاص وقال: أنتم لي مدد، فقال أبو عبيدة: إن رسول الله قال لي: إذا قمت على أصحابك فتطاوعا، وإنك إن عصيتني لأطيعنك، فأطاعه أبو عبيدة بن الجراح وكانوا يصلون خلف عمرو بن العاص، وفيها صلى بهم وهو جنب. فلما قدموا على رسول الله أخبره الخبر، فقال عمرو: لقيت من البرد شدة وإني لو اغتسلت خشيت الموت! فضحك رسول الله ، قال عمرو: يا رسول الله ! قال الله ولا تقتلوا أنفسكم ـ الآية.

وفي هذا الشهر كتب رسول الله إلى خزاعة بن بديل وبشر وسروات بني عمرو يدعوهم إلى الله ويعرض عليهم الإسلام.

ثم بعث رسول الله أبا قتادة سرية إلى غطفان في ستة عشر رجلا، فبيتوهم وأصابوا نعما وشياه ورجعوا إلى المدينة.

ثم بعث رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار قبل جهينة وزودهم جراب تمر، فأصابهم جوع شديد وكان أبو عبيدة يعطيهم حفنة حفنة، ثم أعطاهم تمرة تمرة، ثم ضرب لهم البحرة بدابة يقال لها العنبر فأكلوا منها شهرا، ثم أخذ أبو عبيدة ضلعا فنصبه فمر راكب البعير تحته، فلما رجعوا إلى رسول الله أخبروه فقال: هو رزق رزقتموه من الله، هل عندكم منه شيء؟ وسمى هذا الجيش جيش الخبط وذلك أنهم جاعوا فكانوا يأكلون الخبط حتى صارت أشداقهم كأشداق الإبل.

ثم استشار عمر بن الخطاب رسول الله أن لي أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فحبس عمر أصلها وتصدق بها ـ ولا تباع ولا توهب ولا تورث ـ في الفقراء والغرباء، وما بقي أنفق في سبيل الله وابن السبيل، لا جناح على وليها أن يأكل منها بالمعروف وأن يعطي طريفا عنه غير متمول فيه. ثم إن بكر بن عبد مناة بن كنانة خرجت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة فقاتلوا، فلما بلغ رسول الله ذلك قال للمسلمين: كأنكم بأبي سفيان قد قدم لتجديد العهد بيننا! وكان بديل بن ورقاء بالمدينة فخرج إلى مكة راجعا، فلما بلغ عسفان لقيه أبو سيفان وكانت قريش قد بعثه إلى رسول الله لتجديد العهد، فقال له أبو سفيان: من أين أقبلت يا بديل؟ قال: سرت إلى خزاعة، قال: جزت بمحمد؟ قال: لا، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنيتي! ما أدري أرغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه؟ قالت: هذا فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس! فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله ، ثم خرج أبو سفيان حتى أتى النبي فكلمه فلم يرد عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله ، فقال: ما أنا بفاعل، ثم خرج حتى أتى عمر فكلمه فقال عمر: أنا أشفع لكم إلى رسول الله ! والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم بهم ثم خرج أبو سفيان حتى دخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله وعندها الحسن ابنها يدب فقال: يا علي! إنك أمس القوم بي رحما وأقربهم منى قرابة وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت، اشفع لي إلى رسول الله ، قال: ويحك يا أبا سفيان! لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، قالت: ما بلغ ذلك ابني أن يجير بين الناس، قال: يا أبا الحسن! إني أرى الأمور قد اشتدت علي، ما تنصح لي؟ قال: والله! ما أعلم شيئا يغني عنك ولكن قم فأجر بين الناس والحق بأرضك، قال: وترى ذلك يغني عني شيئا؟ قال: والله ما أدري! فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس! إني قد أجرت بين الناس ـ ثم خرج. فلما قدم على قريش مكة قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته، قال: فو الله ما رد علي بشيء! ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي برأي صنعته، فو الله! ما أدري هل يغنيني شيئا أم لا! قالوا: وبما ذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز محمد ذلك؟ قال: لا، قالوا: ويحك! والله إن زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك! والله ما يغني عنك ما فعلت!.

ثم عزم رسول الله على المسير إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: اللهم! خذ العيون والأخبار عن قريش، فلما صح ذلك منه ومن المسلمين كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبر بالذي قد أجمع عليه رسول الله ثم أعطاه امرأة من مزينة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت، وأخبر الله رسوله بما فعل حاطب، فبعث رسول الله علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وقال: أدركا امرأة من مزينة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قدمنا عليه، فخرجا حتى أدركاها بالحليفة فاستنزلا والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: إن أحلف بالله أن رسول الله ما كذب ولا كذبنا إما أن تخرجي الكتاب وإلا نكشفنك فلما رأت الجد قالت: أعرض عني، فأعرض عنها علي، فحلت قرون رأسها واستخرجت الكتاب فدفعته إليه، فجاء به رسول الله ، فدعا رسول الله حاطبا فقال: يا حاطب! ما حملك على هذا؟ قال: يا رسول الله! والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة وكان لي بينهم أهل وولد، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال النبي : وما يدريك يا عمر! لعل الله قد اطلع يوم بدر إلى أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم.

ثم خرج رسول الله من المدينة واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عبيد بن خلف الغفاري، وذلك لعشر مضين من رمضان، فصام رسول الله فصام المسلمون، ومع رسول الله عشرة آلاف من المسلمين، ولم يعقد الألوية ولا نشر الرايات، فلما بلغ الكديد ـ والكديد ما بين عسفان وأمج أفطر وأفطر المسلمون وقد كان عيينة بن حصن الفزاري لحق رسول الله بالعرج ولحقه الأقرع بن حابس التميمي في نفر من أصحابهما فقال عيينة: يا رسول الله! والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإجرام، فأين تتوجه؟ قال: رسول الله : حيث شاء الله، فلما بلغ رسول الله مر الظهران قد عميت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله ولا يدرون ما هو فاعل خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار وينظرون هل يرون خبرا أو يسمعون به، فقال العباس بن عبد المطلب: يا صباح قريش! والله لئن دخل رسول الله عنوة قبل أن يأتوه فاستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر! فركب العباس بغلة رسول الله البيضاء ومضى عليها حتى أتى الأراك وقال هل أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله ليخرجوا إليه ويستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، فبينما هو يسير إذ سمع كلام أبي سفيان وهو يقول: والله ما رأيت كالليلة نيرانا قط وعسكرا فقال بديل بن ورقاء: هذه والله نيران خزاعة! فقال أبو سفيان: خزاعة والله الأم وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها! فلما عرف العباس صوتهم قال: يا أبا حنظلة! فعرف أبو سفيان صوته فقال: أبو الفضل؟ قال: نعم، قال: ما لك؟ قال فداك أبي وأمي ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله ! قال: واصباح قريش! قال: فما الحيلة ـ فداك أبي وأمي؟ قال العباس: أما والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك! فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله ، فركب أبو سفيان خلف العباس ورجع صاحباه إلى مكة، فكلما مر العباس بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ وإذا رأوه قالوا: بغلة رسول الله والعباس عليها عمه، فلما مر بنار عمر ابن الخطاب قال: من هذا؟ وقام إليه فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك من غير عقد ولا عهد! ثم خرج يشتد نحو رسول الله ، وركض العباس بالبغلة فسبقه إلى رسول الله فاقتحم العباس على باب القبة ودخل على رسول الله ، ودخل عليه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد! فدعني أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلس العباس إلى رسول الله وأكثر عمر في شأن أبي سفيان، فقال العباس: مهلا يا عمر، أما والله لو كان من رجال بنيي عدي بن كعب ما قلت هذا ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فقال عمر: مهلا يا عباس: فو الله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم! وما بي إلا أني عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب، فقال رسول الله : اذهب به يا عباس إلى رحلك، إذا أصبحت فأتني به، فذهب به العباس إلى رحله فبات عنده، فلما أصبح غدا به إلى رسول الله ، فلما رآه رسول الله قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا! قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه فإن في النفس منها شيئا حتى الآن، فقال العباس: ويحك! أسلم قبل أن يضرب عنقك، فتشهد أبو سفيان شهادة وأسلم، فقال العباس: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن! ومن أغلق عليه بابه فهو آمن! ومن دخل المسجد فهو آمن! فلما أراد أبو سفيان أن ينصرف قال رسول الله : يا عباس احبسه، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها فخرج به العباس فحبسه حيث أمر به رسول الله ، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: من هؤلاء يا عباس؟ فيقول العباس: سليم، فيقول أبو سفيان: ما لي ولسليم! ثم مرت به القبيلة فقال: من هؤلاء؟ فقال العباس: مزينة، قال: ما لي ولمزينة ـ حتى مرت القبائل، لا تمر به قبيلة إلا سأله عنها، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله في الخضراء كتيبة رسول الله فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار! قال: ولا حد بها ولا قبل ولا طاقة يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! فقال العباس: يا أبا سفيان! إنه لنبوة! قال: فنعم إذا، قال العباس: أرحلك إلى قومك، فخرج أبو سفيان حتى إذا دخل مكة صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به! فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن! فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش! فقال أبو سفيان: لا يغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن! قالوا: قبحك الله! وما تغني دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن! ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

ولما بلغ رسول الله ذا طوى فرق جنوده، فبعث عليا من ثنية المدنيين، وبعث الزبير من الثنية التي تطلع على الحجون، وبعث خالد بن الوليد من الليط وأخذ رسول الله طريق أذاخر. أمرهم أن لا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم، فبلغ رسول الله أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن زمعة وسهيل ابن عمرو قد جمعوا جماعة من القريش والأحابيش بالخندمة ليقاتلوا رسول الله فلقيهم خالد بن الوليد بمن معه من المسلمين ناوشوهم فقتل منهم خالد بن الوليد ثلاثة وعشرين رجلا وهو معهم، وقتل من المشركين كرز بن جابر الفهري، فمن ههنا اختلف الناس في فتح مكة عنوة كان أم صلحا.

فلما بلغ أبا قحافة قدوم النبي مكة قال لابنة له من أصغر ولده: أي بنيتي! اظهري بي على ظهر قبيس وكان نظره قد كف إذ ذلك، فقال: أي بنية! ما ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا، قال: تلك الخيل، ثم قالت: والله قد انتشر السواد! فقال: والله لقد دفعت الخيل سرعى إلى بيتي! فانحبطت به وتلقته الخيل قبل أن يصل إلى بيته. ودخل رسول الله من أذاخر مكة على رأسه مغفر من حديد عليه عمامة سوداء ولم يلق أحد من المسلمين قتالا إلا ما كان من خالد بن الوليد، وكان رسول الله أمر بقتل ستة أنفس من المشركين قبل قدومهم إلى مكة، وقال: أي موضع رأيتم هؤلاء فاقتلوهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ومقيس بن صبابة الليثي وسارة مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب، فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح ففر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه في الرضاعة فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله فاستأمنه، وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب، وأما ابن خطل فتعلق بأستار الكعبة يلوذ بها فقال النبي : اقتلوه فقتله سعيد بن المخزومي وأبو بررة تحت الأستار، اشتركا في دمه، وأما مقسيس فقتله نميلة بن عبد الله، ثم قال رسول الله : لايقتل قرشي صبرا بعد اليوم! ونزل النبي الأبطح وضرب لنفسه فيه قبة، وجاءته أم هانئ بنت أبي طالب فوجدت رسول الله يغتسل في جفنة فيها أثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوب، فلمل اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إليها فقال مرحبا مرحبا وأهلا بأم هانئ! ما الذي جاء بك؟ قالت رجلان من أصهاري من بني مخزوم وقد أجرتهما وأراد علي قتلهما ـ وكانت أم هانئ تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي ـ فقال رسول الله : أجرنا من أجرت يا أم هانئ! ثم إن عمير بن وهب قال: يا رسول الله! إن صفوان بن أمية سيد قومه وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فآمنه، قال:هو آمن، قال: يا رسول الله! أعطني شيئا يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله عمامته التي دخل بها مكة، فخرج عمير بها حتى أدرك صفوان بن أمية بجدة وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان فداك أبي وامي! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان من رسول الله جئتك به، قال: ويلك! اغرب عني، قال: أي صفوان فداك أبي وأمي! أوصل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمتك رسول الله ، عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك، قال صفوان: ويلك! إني أخافه على نفسي، فأعطاه العمامة، وخرج به معه، فلما وقف على رسول الله فقال: يا رسول الله! هذا زعم أنك قد آمنتني، قال: صدق، قال: فاجعلني بالخيار شهرين، قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.

ثم جاء رسول الله وطاف بالبيت سبعا على بعيره يستلم الركن بمحجنه، ثم طاف بين الصفا والمروة، ثم دعا عثمان بن طلحة الحجبي فأخذ مفتاح الكعبة وفتحه ثم دخله وصلى فيه ركعتين بين الأسطوانتين، بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، ثم خرج فوقف على بابها وهو يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا! كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة وسقاية الحاج، ألا! وقتيل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها، يا معشر قريش! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم الآية ثم قال: يا أهل مكة! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء! فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله! اجعل الحجابة مع السقاية فلتكن إلينا جميعا، فقال رسول الله : أين عثمان بن طلحة الحجبي؟ فدعاه فقال: هل لك مفتاحك؟ فدفعه إليه.

فلما كان الغد من فتح مكة عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله خطيبا فقال: أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك دما، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلك عليها رسوله وإنها لم تحل لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي، لا ينفر صيدها، ولا يختلي شوكها ولا يحل ساقطتها إلا لمنشد فقال العباس: إلا الإذخر! فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله : إلا الإذخر. وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل وفاخنة بنت الوليد تحت صفوان بن أمية فلما أسلمتا قالت أم حكيم لرسول الله وسألته أن يستأمن عكرمة، فآمنه وقد كان خرج إلى اليمن فلحقته باليمن حتى جاءت به وأسلم عكرمة وصفوان فأقرهما رسول الله عندهما على النكاح الأول الذي كانا عليه.

ثم أمر رسول الله كل من كان في بيته صنم أن يكسره فكسروا الأصنام كلها، وكسر خالد بن الوليد العزى ببطن نخلة وهدم بيته فقال النبي : تلك العزى لا تعبد أبدا. وكسر عمرو بن العاص سواع ثم قال النبي للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. وكسر سعد بن زيد الأشهلي المناة بالمشلل.

ثم بعث رسول الله حول مكة الناس يدعون إلى الله ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ولم يبعثه مقاتلا ومعه سليم ومدلج وقبائل من غيرهم، فلما نزلوا بغميصاء وهي من مياه بني جذيمة وكانت بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة كانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما وأخذوا أموالهما، فلما كان الإسلام بلغ خالد بن الوليد إليهم ورآه القوم أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن القوم أسلموا فوضع القوم السلاح لقول خالد، فلما وضعوها أمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثم دعا رسول الله علي بن أبي طالب فقال: يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم وانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعثه به رسول الله ، ثم ودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال حتى لم يبق لهم شيء من دم ولا مال إلا وداه، وبقيت معه بقية فقال لهم علي: بقي لكم من دم أو مال لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من المال احتياطا رسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ثم رجع إلى رسول الله فأخبره، قال: أصبت.

ثم إن هوزان لما سمعت بجمع رسول الله ودخوله مكة اجتمعت مع ثقيف وجشم وسعد بن بكر، وكان في بني جشم دريد بن الصمة وهو شيخ كبير ليس فيه إلا التيمن برأيه وبعلمه بالحرب، وفي ثقيف قارب بن الأسود بن مسعود وفي بني بكر سبيع بن الحارث، وكان جماع أمر الناس إلى مالك بن عوف، فأجمع مالك بالناس على المسير إلى رسول الله ، فساروا حتى إذا أتوا بأوطاس ومعه الأموال والأبناء والنساء فقال دريد بن الصمة: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء الإبل ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء! قالوا: ساق مالك بن عوف بأوطاس مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فقال: أين مالك؟ فقيل: هذا مالك، فقال دريد يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، فقال مالك: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فانقض به فقال: وهل يرد القوم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ما فعلت كعب وكلاب؟ قال مالك لم يشهد منهم أحد، قال: غاب الحد والجد لو كان علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، يا مالك! لا تصنع بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئا ارفعهم في متمنع بلادهم وعليا قومهم ثم الق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت مالك وأهلك، قال: تلك والله لا أفعل لتطيعنني يا معشر هوزان أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري وكره أن يكون فيها لدريد ذكر ورأي، قالوا: أطعناك، فقال مالك للقوم: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا عليهم شد رجل واحد. وجاء الخبر رسول الله فبعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فدخل في الناس فأقام فيهم حتى سمع وعلم من كلام مالك وأمر هوزان ما كان وما أجمعوا له، ثم أتى رسول الله فأخبره.

المسير إلى هوازن

وقيل لرسول الله : إن عند صفوان بن أمية أدرعا، فأرسل إليه، فقال: يا أبا أمية! أعرنا سلاحك نلقى فيها عدونا، فقال صفوان: أغضبا؟ قال: لا، بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح، وسأله النبي أن يكفيه حملها، فحملها صفوان لرسول الله ، وخرج رسول الله من مكة معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحاب الذين فتح الله بهم مكة، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية أميرا، وكان مقامه بمكة خمس عشرة ليلة يقصر فيها الصلاة، فبينا الناس مع رسول الله يسيرون إذ مروا بسدرة قال أبو قتادة الليثي: يا رسول الله! اجعل هذه ذات أنواط، كما للكفار ذات أنواط ـ وكان للكفار سدرة يأتونها كل سنة ويعقلون عليها أسلحتهم ويعكفون عليها ويذبحون عندها ـ فقال رسول الله : الله أكبر! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة! لتركبن سنن من قبلكم.

فلما بلغ رسول الله وادي حنين وانحدر المسلمون في الوادي قرب الصبح وهو واد أجوف، وقد كمن المشركون لهم في شعابه ومفارقه فأعدوا للقتال، فبينا رسول الله ينحدر والمسلمون بالوادي إذ اشتدت عليهم الكتائب من المشركين شد رجل واحد، وانهزم المسلمون راجعين، لا يعرج أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال: أين أيها الناس! هلموا، أنا رسول الله! أنا محمد بن عبد الله! واحتملت الإبل بعضها بعضا ومع رسول الله رهط من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، فلما رأى رسول الله لا يعطفون على شيء قال: يا عباس! اصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فنادى العباس وكان امرأ جسيما شديد الصوت: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فأجابوا لبيك لبيك! وكان الرجل من المسلمين يذهب ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك فيـأخذ درعه فيقذفها في عنقه ثم يأخذ سيفه وترسه ثم يقتحم عن بعيره فيخلي سبيل بعيره ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله ، حتى اجتمع على رسول الله مائة رجل واستقبلوا الناس وقاتلوا وكانت الدعوة أول ما كانت: يا للأنصار! ثم جعلت أخيرا فقالوا: يا للخزرج! وكانوا صبرا عند الحرب، فأشرف رسول الله في ركابه ونظر إلى مجتلد القوم فقال: الآن حمي الوطيس! وإذ رجل من هوازن على جمل أحمر في يده راية سوداء وفي رأسه رمح طويل أمام الناس وهوازن خلفه، فإذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته رفعه لمن وراءه ويتبعونه، فأهوى إليه علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه، فأتاه علي من خلفه فضرب الجمل فوقع على عجزه، ووثبت الأنصار على الرجل فضربوه ضربة أطن بها قدمه بنصف ساقه، واختلف الناس، وكان شعار المهاجرين يومئذ: يا بني عبد الرحمن! وشعار الخزرج: يا بني عبد الله! وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.

وكانت أم سليم بنت ملحان مع زوجها أبي طلحة فالتفت رسول الله وهي حازمه وسطها ومعها جمل أبي طلحة فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله [ ]! اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فقال رسول الله : أويكفى الله يا أم سليم! وإنها يومئذ لحبلى بعبد الله بن أبي طلحة ومعها خنجر فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجت بطنه، فقال أبو طلحة: يا رسول الله! ألا تسمع ما تقوله أم سليم.

ورأى أبو قتادة رجلين يقتتلان: مسلم ومشرك، فإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه، فأتاه أبو قتادة فضرب يده فقطعها، فاعتنقه المشرك بيده الثانية وصدره فقال أبو قتادة: والله! ما تركني حتى وجدت ريح الموت! فلولا أن الدم تزفه يقتلني، فسقط وضربته فقتلته، ثم انهزم المشركون وأخذ المسلمون يكتفون الأسارى، فلما وضعت الحرب أوزارها قال رسول الله : من قتل قتيلا فله سلبه. فقال رجل من أهل مكة: يا رسول الله! لقد قتلت قتيلا ذا سلب وأجهضني عنه القتال فلا أدري من سلبه! فقال رجل من أهل مكة: يا رسول الله! أنا سلبته فأرضه مني عن سلبه، فقال أبو بكر الصديق: أيعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه سلبه! رد عليه سلبه، فقال رسول الله : صدق أبو بكر رد عليه سلبه، فرد عليه قال أبو قتادة: فبعته فاشتريت به مخرفا في المدينة لأنه أول مال تأثلته في الإسلام.

وكان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين قارب بن الأسود فلما رأى الهزيمة أسند رايته إلى شجرة وهرب. وكان على راية بني مالك ذو الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله وأقامها للمشركين، فقتل عثمان وانحاز المشركون منهزمين إلى الطائف وعسكر بعضهم بأوطاس.

وبعث رسول الله الخيول في آثارهم، فأدرك ربيعة بن رفيع دريد ابن الصمة وهو في شجار على راحلته فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة فلما أناخه إذ شيخ كبير وإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام فكان ربيعة غلاما، قال دريد ماذا تريد بي قال: أقتلك! قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي وضربه ربيعة بسيف فلم يقدر شيئا فقال له دريد: بئس ما أسلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في الشجار ثم أضرب وأرفع عن العظام وأخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة بسيفه.

ثم أمر رسول الله بالسبايا والأموال فجمعت بالجعرانة، وبعث في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك الناس بعض من انهزم فساروا يرمون كل من لقوه ورمي أبا عامر بسهم فقتل، وأخذ برايته بعده أبو موسى فقاتلهم ففتح له وهزمهم الله.

ثم بعث رسول الله إلى الطائف، وفيها مالك بن عوف وقد عسكر جماعة من المشكرين وعلى مقدمة خيل رسول الله خالد بن الوليد فرأى رسول الله امرأة مقتولة فقال: من قتل هذه؟ قال: خالد بن الوليد، فقال لرجل: أدرك خالدا وقل له: يقول لك رسول الله : لا تقتلوا امرأة ولا ولدا ولا عسيفا. فلما بلغ رسول الله الطائف نزل قريبا، فلم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطا فضرب معسكره رسول الله عند مسجده الذي بالطائف اليوم، وحاصرهم بضع عشرة ليلة، وأمر بقطع أعنابهم، وقاد رجلا من هذيل من بني ليث، وهو أول دم أقيد في الإسلام، ثم نصب المنجنيق على حصنهم حتى فتحه الله عليه، وكان في أيامه يقصر الصلاة.

وقد كان مع رسول الله مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ يقال له ماتع مخنث يدخل على نساء رسول الله ، فسمعه رسول الله وهو يقول لخالد بن الوليد: يا خالد! إن فتح رسول الله غدا فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال رسول الله : هذا يفطن لما سمع به، ثم قال لنسائه: لا يدخلن عليكن! فحجب عن بيت رسول الله ، ثم انصرف رسول الله من الطائف إلى الجعرانة فقال له سراقة بن جعشم المدلجي: يا رسول الله! ترد الضالة حوضي فهل فيه أجر إن أنا سقيتها؟ فقال رسول الله : في كل كبد حري أجر. ونهى رسول الله عن وطء الحبالى حتى يضعن. وبينما النبي قاعد بالجعرانة ومعه ثوب وقد أظل به مع ناس من أصحابه إذ جاءه أعرابي ـ عليه جبة ـ متضمخ بطيب فقال: يا رسول الله! كيف ترى برجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ وإذا النبي مخمر الوجه يغط، فلما سري عنه قال: أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ فأتي به فقال: أما الطيب فاغسله عنك وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك، وقسم رسول الله الغنائم بالجعرانة بين المسلمين، فأصاب كل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، ومن كان فارسا أخذ سهمه وسهمي فرسه، ثم أخذ رسول الله وبرة من سنام بعيره ثم قال: أيها الناس! إني والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله نارا وشنارا يوم القيامة! فجاءه رجل من الأنصار بكبة خيوط من شعر، قال: يا رسول الله! أخذت هذه الكبة أخيط بها بردعة بعير لي، فقال رسول الله : أما نصيبي منها فلك، فقال: أما إذا بلغت هذه فلا حاجة لي فيها.

ثم أسلم مالك بن عوف وقال: يا رسول الله! ابعثني أضيق على ثقيف، فاستعمله رسول الله على من أسلم من قومه من تلك القبائل ومن تبعه من بني سليم، فكان يقاتل ثقيفا، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليهم.

ثم جاء وفد هوازن راغبين في الإسلام ـ بعد أن قسم لهم رسول الله السبي ـ فأسلموا.

ثم أعطى رسول الله المؤلفة تألفا، فأعطى جويطب بن عبد العزى مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى صفوان ابن أمية مائة من الإبل، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس السلمي شيئا دونهم، فقال فيه أبياتا، ولم يعط الأنصار منها شيئا فقال قائل الأنصار: ألا! إن رسول الله قد لقي قومه، فانطلق سعد بن عبادة فدخل على رسول الله وقال: يا رسول الله! الأنصار قد وجدوا في أنفسهم مما رأوك صنعت في هذه العطايا، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلا رجل من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فخرج سعد فنادى في قومه: إن رسول الله يأمركم أن تجتمعوا في هذه الحظيرة، فقاموا سراعا وقام سعد على باب الحظيرة فلم يدخلها إلا رجل من الأنصار وقد رد أناسا، ثم أتى النبي فقال: هذه الأنصار قد اجتمعت لك، فخرج إليهم رسول الله وقال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ أكثرتم فيها! ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله؟ ألم تكونوا أعداء فألف الله بينكم؟ قالوا: بلى، قال: أفلا تجيبوني؟ قالوا: إليك المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم وصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، ومخذولا فنصرناك، وعائلا فآسيناك، ومكذبا فصدقناك! أوجدتم في أنفسكم من لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا وو كلتكم إلى إيمانكم، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم! فالذي نفس محمد بيده! لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، إن الأنصار كرشي وعيتبي، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار ولأبناء أبنائهم! فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله وبرسوله حظا وقسما ونصيبا! ثم تفرق الأنصار. وفي هذه المقالة قال ذو الخويصرة: يا رسول الله! اعدل، فقال رسول الله : شقيت إن لم أعدل، ثم علقت الأعراب برسول الله يسألونه حتى ألجأوه إلى شجرة عظيمة وخطفت رداءه. فقال رسول الله : ردوا علي ردائي، فو الذي نفس محمد بيده لو كانت عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني كذوبا ولا جبانا ولا بخيلا.

ثم خرج رسول الله من الجعرانة معتمرا فاعتمر منها فبات بالجعرانة واستخلف على مكة عتاب بن أسيد أميرا وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس ويعلمهم القرآن، وكانت هذه العمرة في ذي القعدة.

ثم خرج رسول الله من الجعرانة يريد المدينة فسلك في وادي سرف حتى خرج على سرف، ثم على مر الظهران حتى قدم المدينة في بقعة ذي القعدة.

ثم تزوج رسول الله فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية فاستعاذت، من رسول الله ، فقال لها رسول الله : قد عذت بعظيم! الحقي بأهلك، وفارقها. وحج بالناس عتاب بن أسيد.

وولد إبراهيم ابن رسول الله من مارية القبطية في ذي الحجة فوقع في قلب النبي منه شيء، فجاء جبريل عليه السلام فقال: [ السلام عليك يا إبراهيم ]! فسرى عن رسول الله ، وتنافست نساء الأنصار فيه أيتهن ترضعه، فدفعه رسول الله إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد وزوجها ابن مبذول فكانت ترضعه، وحلق رسول الله رأسه يوم السابع وتصدق بوزن شعره فضة على المساكين وعق عنه بكبشين، وعاش ستة عشر أشهر.

السنة التاسعة من الهجرة

أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان ثنا محمد بن المتوكل بن أبي السري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي اللتين قال الله لهما إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس! ثم قال: هي عائشة وحفصة ـ ثم أنشأ يسوق الحديث فقال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدناهم قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، وكان منزلي في بني أمية بن زيد في العوالي، قال فتغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقال: ما تنكر أن أراجعك! فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل! فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين على رسول الله ؟ قالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل قال: قد خاب من فعل ذلك منكم وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي قد هلكت، فلا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك أوسم وأحب إلى رسول الله منك ـ يريد عائشة، قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله فينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، قال: فنزل صاحبي يوما ثم أتاني عشاء فضرب على بابي ثم ناداني؟ فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم! فقلت: وماذا؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول! طلق رسول الله نساءه فقلت: خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائنا، فلما صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله ؟ فقال: لا أدري، هوذا معتزل في هذه المشربة، قال: فأتيت غلاما له أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي وقال: قد ذكرتك به ولم يقل شيئا، فانطلقت حتى أتيت المسجد فإذا قوم حول المنبر جلسوا يبكي بعضهم إلى بعض، قال: فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي وقال: قد ذكرتك له فصمت، فرجعت ثم جلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: اسـتأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فسكت، فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني ويقول: ادخل، قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر بجنبه فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إلي وقال: لا، فقلت: الله أكبر! لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني، فأنكرت ذلك عليها فقالت لي: أتنكر أن أراجعك! فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليلة! قال: فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر! أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت! قال: فتبسم رسول الله ! فقلت: يا رسول الله! فدخلت على حفصة فقلت لها: لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوسم وأحب إلى رسول الله منك، قال: فتبسم رسول الله أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع الله على فارس والروم وهم لا يعبدونه، قال: فاستوى جالسا ثم قال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: استغفر لي يا رسول الله! وكان أقسم أن لا يدخلن عليهن شهرا من شدة مودجته عليهن حتى عاتبه الله.

قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت: فلما مضى تسع وعشرون ليلة دخل علي رسول الله ، بدأ بي، فقلت: يا رسول الله! إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن، فقال: إن الشهر تسع وعشرون، ثم قال: يا عائشة! إني ذاكر لك أمرا فلا أراك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك! قلت: ثم قرأ علي الآية يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ـ إلى قوله: عظيما قالت عائشة: قد علم والله أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.

قال: في أول هذه السنة هجر رسول الله نساءه شهرا، وكان السبب في ذلك أن رسول الله ذبح ذبحا فأمر عائشة أن تقسم بين أزواجه، فأرسلت إلى زينب بنت جحش نصيبها فردته، قال: زيديها، فزادتها ثلاثا، كل ذلك ترده، فقالت عائشة: قد أقمأت وجهك. فقال رسول الله : أنتن أهون على الله من أن تغضبن، لا أدخل عليكن شهرا! فدخل عليهن بعد مضي تسع وعشرون يوما.

ثم بعث رسول الله علقمة بن مجزز في صفر إلى الحبشة فانصرف ولم يلق كيدا.

وفي هذه السرية أمر علقمة أصحابه أن يوقدوا نارا عظيما ثم أمرهم أن يقتحموا فيها، فتحرزوا وأبوا ذلك، فقال النبي : من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه.

ثم قدم على رسول الله وفد في ربيع الأول، ونزل على رويفع بن ثابت البلوي.

وقدم وفد بني ثعلبة بن منقذ. وفيها وفد سعد هذيم.

وقدم الداريون من لخم عشرة أنفس: هانئ بن حبيب والفاكه بن النعمان وحبلة بن مالك وأبو هند بن بر وأخوه الطيب بن بر وتميم بن أوس ونعيم ابن أوس ويزيد بن قيس وعروة بن مالك وأخوه مرة بن مالك، وأهدوا إلى رسول الله راوية خمر، فقال رسول الله : إن الله قد حرم الخمر، فأمروا ببيعها، فقال رسول الله : إن الذي حرم شربها حرم بيعها.

وقدم وفد بني أسد فقالوا: يا رسول الله! قدمنا عليك قبل أن ترسل إلينا رسولا، فنزلت هذه الآية يمنون عليك أن أسلموا.

وقدم عروة بن مسعود بن معتب الثقفي على رسول الله فأسلم، ثم استأذن أن يرجع إلى قومه فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله : هم قاتلوك! قال: أنا أحب إليهم من بكار أولادهم، فأذن له رسول الله ، فخرج إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام وأذن بالصبح على غرفة، فرماه رجل من بني ثقيف بسهم فقتله.

وبعث رسول الله الضحاك بن سفيان الكلابي إلى القرطاء سرية فأصابهم بغدير الزج، وكتب إليهم النبي كتابا فأبوا ورقعوا كتابهم بأسفل دلوهم.

وبعث رسول الله علي بن أبي طالب سرية إلى الفلس من بلاد طيء في ربيع الآخر، فأغار عليهم وسبى منهم نساء فيهن أخت عدي بن حاتم.

ثم نعى رسول الله النجاشي للناس في رجب وقال: صلوا على صاحبكم، فقام فصلى هو وأصحابه وصفوا خلفه، وكبر عليه أربعا.

غزوة الروم

في شدة الحر وجدب من البلاد حين طاب الثمار وأحبت الظلال، وكان رسول الله قلما يخرج في غزوة إلا ورى بغيرها غير غزوة تبوك هذه، فإنه أمر التأهب لها لبعد الشقة وشدة الزمان، وحض رسول الله أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله ورغبهم في ذلك، وحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته، ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله وهم البكاؤن وهم سبعة نفر، فاستحملوا رسول الله وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فاعتذروا إلى رسول الله بعذرهم وهم بنو غفار، وقد كان نفر من المسلمين أبطأ بهم النية عن رسول الله حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك أخو بني سلمة مرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف وهلال بن أمية أخو بني واقف وأبو خيثمة أخو بني سالم، وكانوا نفر صدق ولا يتهمون في إسلامهم، فخرج رسول الله من المدينة وضرب معسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي سلول معسكره أسفل منه، وخلف رسول الله علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة أخا بني غفار، فقال المنافقون: والله ما خلفه علينا إلا استثقالا له، فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه ثم خرج حتى لحق رسول الله وهو نازل بالجرف وقال: يا نبي الله! زعم المنافقون أنك إنما خلفتني استثقالا؟ فقال: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك! ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي! فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله ، وتخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين، فلما نزل رسول الله بالحجر استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله : لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا، ثم دعا رسول الله ، فأرسل الله السحاب فأمطر حتى ارتوى الناس وتوضأوا. ثم إن رسول الله نزل في بعض المنازل فضلت ناقته فخرج أصحابه في طلبها، فقال بعض المنافقين: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فقال رسول الله : والله ما أعلم إلا ما علمني الله! وقد علمني أنها في الوادي بين شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، قال: فانطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها، ثم سار رسول الله فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: والله يا رسول الله! تخلف فلان، فيقول: دعوه فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، حتى قيل له: يا رسول الله! تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره، فقال: دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، فلما أبطأ على أبي ذر بعيره أخذ متاعه على ظهره وترك بعيره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله! رجل على الطريق يمشي وحده! فقال رسول الله : كن أبا ذر! فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هذا والله أبو ذر، فقال رسول الله : رحم الله أبا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويبعث وحده، فانتهى رسول الله إلى تبوك، فلما أتاها أتاه يحنة ابن رؤبة صاحب أيلة، وصالح على رسول الله وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية، وكتب رسول الله لكل كتابا وهو عندهم، فكتب ليحنة بن رؤبة بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذه أمنة من الله ومن محمد النبي ليحنة بن رؤبة وأهل بلده وسيارته في البر والبحر، فهم في ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب للناس ممن أخذه، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر وبحر وكتب جهيم بن الصلب بأمر رسول الله .

وكتب لأهل جرباء وأذرح: بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذا كتاب من محمد النبي لأهل أذرح أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان، ومن لجأ إليهم من المسلمين. وقد كان أبو خيثمة أحد بني سالم رجع بعد أن خرج رسول الله من المدينة إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماء وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل أبو خيثمة قام على باب العريشين ونظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله في الريح والحر وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله ! فهيأتا له زادا، ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله ، فبينا أبو خيثمة يسير إذ لحقه عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله ، فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله ففعل عمير، ثم سار أبو خيثمة حتى إذا دنا من رسول الله وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله : كن أبا خيثمة! فقالوا: يا رسول الله! هو والله أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل وسلم على رسول الله ثم أخبره الخبر، فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير، ثم إن رسول الله دعا خالد بن الوليد وبعثه إلى أكيدر دومة، وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة، وكان ملكا عليهم وكان نصرانيا فقال رسول الله لخالد: إنك ستجده يصيد بقر الوحش، فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صاءفة وهو على سطح له ومعه امرأته، فباتت البقر تحك قرونها بباب القصر فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله! قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد، فنزل أكيدر دومة وأمر بفرسه فأسرج وركب في نفر من أهل بيته ومعه أخوه حسان، فلما خرجوا بمطاردهم تلقتهم خيل رسول الله معهم خالد بن الوليد فقتلوا أخاه حسانا، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد وبعث به إلى رسول الله ، فلما قدم به على رسول الله جعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويعجبون منه، فقال رسول الله : اتعجبون من هذا! والذي نفس محمد بيده! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا، ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله فحقن له دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله، ورجع إلى قريته.

وافتقد رسول الله كعب بن مالك فقال: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس والله ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا! فسكت رسول الله . وأقام رسول الله بتبوك بضع عشرة ليلة يقصر الصلاة ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له: المشقق، فقال رسول الله : من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى آتيه، فلما أتاه رسول الله وضع يده فيها فجعل ينصب في يده ما شاء الله أن ينصب ثم مجه فيه ودعا الله بما شاء أن يدعو فانخرق من الماء، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله : لئن بقيتم ـ أو بقي منكم ـ لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه، وذلك الماء فوارة تبوك اليوم.

ثم إن رسول الله نزل بعض المنازل ومات عبد الله ذو البجادين فحفروا له، ونزل رسول الله في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول: أدليا لي أخاكما، فأدلوه إليه، فلما هيأه لشقه قال رسول الله : اللهم! إنك قد أمسيت عنه راضيا فارض عنه، فقال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.

وكان المسلمون يقولون: لا جهاد بعد اليوم، فقال رسول الله : لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وجعل رسول الله من تبوك إلى المدينة مساجد في منازله معروفة إلى اليوم، فأولها مسجد تبوك ومسجد بثنية مدران ومسجد بذات الزراب ومسجد بالأخضر ومسجد بذات الخطمى ومسجد بذات البتراء ومسجد بالشق ومسجد بذي الجيفة ومسجد بالصدر ومسجد وادي القرى ومسجد الرقعة ومسجد بذي مروة ومسجد بالفيفاء ومسجد بذي خشب.

ثم قدم رسول الله المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فيهم كعب بن مالك ومرارة ابن الربيع وهلال بن أمية وغيرهم، فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فكان رسول الله يقبل منهم على نيتهم ويكل سرائرهم إلى الله حتى جاء كعب بن مالك فسلم عليه، فتبسم رسول الله تبسم المغضب ثم قال: تعال! فجاء كعب بن مالك يمشي حتى جلس بين يديه، فقال له النبي : ما خلفك! ألم تكن ابتعت ظهرك؟ قال: بلى يا رسول الله! والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا وإن لي لسانا، ولكن والله! لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضين به عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثا صادقا تجد علي فيه، وإني لأرجو عقبى الله فيه، لا والله ما كان لي عذر! والله ما كنت قط أقوى وأيسر مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله : أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك، فقام وثار معه رجال من بني سلمة واتبعوه وقالوا: ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله كما اعتذر إليه المخلفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك، وجعلوا ينوبونه حتى أراد أن يرجع إلى رسول الله ويكذب نفسه ثم قال لهم: هل لقي هذا أحد غيري؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت وقال لهما مثل ما قال لك، قال: ومن هما؟ قالوا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي.

ثم نهى رسول الله عن كلام هؤلاء الثلاثة، فأما مرارة وهلال فقعدا في بيوتهما، وأما كعب بن مالك فكان أشب القوم وأجلدهم، وكان يخرج ويشهد الصلاة مع المسلمين ويطوف في الأسواق ولا يكلمه في الأسواق ولا يكلمه أحد، ويأتي رسول الله ويسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ويقول في نفسه: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا! ثم يصلي قريبا منه ويسارقه النظر، فإذا أقبل كعب على صلاته نظر إليه رسول الله ، وإذا التفت نحوه أعرض عنه، حتى طال ذلك عليه من جفوة المسلمين.

ثم مر كعب حتى تسور جدار أبي قتادة ـ وهو ابن عمه وأحب الناس إليه ـ فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، فقال له: يا أبا قتادة! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت فعاد ينشده فسكت فعاد ينشده، فقال: والله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب ووثب فتسور الجدار ثم غدا إلى السوق، فبينا هو يمشي وإذا نبطي من نبط الشام يسأل عنه ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة وهو يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فجعل الناس يشيرون إليه حتى جاء كعبا فدفع إليه كتابا من ملك غسان في سرقة حرير فيه: أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك، فلما قرأ كعب الكتاب: وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك، ثم عمد بالكتاب إلى تنور فسجره به، ثم أقام على ذلك حتى إذا مضى أربعون ليلة أتاه رسول رسول الله فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك! فقال كعب: أطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى مرارة وهلال بمثل ذلك، فقال كعب لامرأته: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض، وجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له، أفتكره أن أخدمه، قال: لا، ولكن لا يقربنك! قالت: والله يا رسول الله ما به من حركة إلي! والله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان إلى يومه هذا، والله لقد تخوفت على بصره، فلبثوا بعد ذلك عشر ليال حتى كمل خمسون ليلة من حين نهى رسول الله المسلمين عن كلامهم، فصلى كعب بن مالك الصبح على ظهر بيت من بيوته على الحال التي ذكر الله منه: ضاقت عليه الأرض وضاقت عليه نفسه، إذا سمع صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر، فخرج كعب الله ساجدا وعرف أنه قد جاء الفرج، وأخبر رسول الله بتوبة الله عليهم حين صلى الصبح، ثم جاء كعبا الصارخ بالبشرى فنزع ثوبيه فكساهما إياه ببشارته، واستعار ثوبين فلبسهما، ثم انطلق يؤم رسول الله ، وتلقاه الناس يتهنأونه بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخل المسجد ورسول الله جالس حوله الناس، فقام إليه طلحة بن عبيد الله فحياه وهنأه، فلما سلم كعب على رسول الله قال له رسول الله ووجهه يبرق بالسرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك! فقال كعب: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال بل من عند الله! ثم جلس بين يديه فقال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، فقال: إني ممسك سهمي الذي بخيبر، ثم قال: يا رسول الله! إن الله قد نجاني بالصدق، فإن توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فتلا عليهم رسول الله لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ـ إلى قوله: إن الله هو التواب الرحيم.

ثم لاعن رسول الله بين عويمر بن الحارث بن عجلان ـ وهو الذي يقال له عاصم ـ وبين امرأته بعد العصر في المسجد في شعبان، وذلك أنه أتى رسول الله فقال: يا رسول الله! لو أحدنا رأى امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم! وأن سكت سكت على مثل ذلك! فلم يجبه رسول الله ، فلما كان بعد ذلك أتى النبي فقال: يا رسول الله! إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به! فأنزل هذه الآيات والذين يرمون أزواجهم ـ حتى ختم الآيات، فدعا رسول الله عاصما فتلا عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال عاصم: لا والذي بعثك! ما كذبت عليها ثم دعا بامرأته فوعظها وذكرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق! فبدأ بعاصم فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وأمر رسول الله فوضع يده على فيه عند الخامسة وقال: احذر فإنها موجبة! ثم ثنى بامرأته فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما وأحق الولد بالأم.

وماتت أم كلثوم بنت رسول الله في شعبان، وغسلتها صفية بنت عبد المطلب، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة.

وورد على رسول الله كتاب ملوك حمير في رمضان مقرين بالإسلام فكتب إليهم رسول الله كتاب جوابهم وبعثه مع عمرو بن حزم بسم الله الرحمن الرحيم ـ من محمد رسول الله ـ إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، أما بعد، فقد رفع رسولكم، وأعطيتم من المغانم خمس الله وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار، وما سقت السماء إذا كان سيحا أو بعلا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وما سقى بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق. وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعا وعشرين، فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين، فإن زادت واحدة على خمس وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمسا وأربعين، فإن زادت واحدة على خمس وأربعين ففيها حقة طروقة الجمل إلى أن تبلغ ستين، فإن زادت على الستين واحدة ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسا وسبعين، فإن زادت واحدة على خمس وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين، فإن زادت واحدة على التسعين ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فما زاد على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة، وفي أربعين باقورة بقرة. وفي كل أربعين شاة سائمة شاة إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين، فإن زادت واحدة فثلاث إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإن زادت ففي كل مائة شاة شاة. ولا تؤخذ في الصدقة بهرمة ولا عجفاء ولا ذات عوار ولا تيس الغنم. ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. وفي كل خمس أوراق من الورق خمسة دراهم، وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم، وليس فيما دون خمس أواق شيء. وفي كل أربعين دينارا دينار. وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا أهل بيته، إنما هي الزكاة يزكى بها أنفعهم، في فقراء المؤمنين وفي سبيل الله. وليس في رقيق ولا مزرعة ولا عمالها شيء إذا كانت تؤدى صدقتها من العشر، وليس في عبد المسلم ولا فرسه شيء. وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم. وإن العمرة هي الحج الأصغر. ولا يمس القرآن إلا طاهر. ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتاق حتى يبتاع. ولا يصلين أحد منكم في ثوب واحد ليس على منكبيه شيء، ولا يحتبين في ثوب واحد ليس بين فرجه وبين السماء شيء، ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد وشقه باد، ولا يصلين أحد منكم عاقصا شعره. وإن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينه فهو قود إلا أن يرضى أولياء المقتول. وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي الصلب الدية،و في العينين الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل. وإن الرجل يقتل بالمرأة. وعلى أهل الذهب ألف دينار فقرئ الكتاب على أهل اليمن.

ثم بعث رسول الله معاذ بن جبل إلى اليمن وذكر أنه صلى الغداة ثم أقبل على الناس بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار! أيكم ينتدب إلى اليمن؟ فقام عمر بن الخطاب فقال: أنا يا رسول الله! فسكت عنه ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار! أيكم ينتدب إلى اليمن؟ فقام معاذ بن جبل فقال: أنا يا رسول الله! فقال: يا معاذ أنت لها! يا بلال لها! يا بلال ائتني بعمامتي! فأتاه بعمامته فعمم بها رأسه، ثم خرج رسول الله والمهاجرون والأنصار يشيعون معاذ وهو راكب ورسول الله يمشي إلى جانب راحلته، ثم قال: يا معاذ! أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة وترك الخيانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخفض الجناح، وحفظ الجار، ولين الكلام ورد السلام، والتفقه في القرآن، والجزع من الحساب، وحب الآخرة على الدنيا، يا معاذ! لا تفسد أرضا، ولا تشتم مسلما، ولا تصدق كاذبا ولا تكذب صادقا، ولا تعص إماما، وإنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا ذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أمولهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس، يا معاذ! إني أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك ما أكره لها، يا معاذ! إذا أحدثت ذنبا فأحدث له توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية، يا معاذ! يسر ولا تعسر، واذكر الله عند كل حجر ومدر يشهد لك يوم القيامة، يا معاذ! عد المريض، وأسرع في حوائج الأرامل والضعفاء، وجالس المساكين والفقراء، وأنصف الناس من نفسك، وقل الحق حيث كان، ولا يأخذك في الله لومة لائم، والقني على الحال التي فارقتني عليها. فقال معاذ: بأبي وأمي أنت يا رسول الله! لقد حملتني أمرا عظيما فادع الله لي على ما قلدتني عليه، فدعا له رسول الله قم ودعه، وانصرف رسول الله إلى المدينة وأصحابه. ثم أردفه بأبي موسى الأشعري، فلما قدم صنعاء صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم عهده ثم نزل، فأتاه صناديد صنعاء فقالوا: يا معاذ! هذا نزل قد هيأناه لك وهذا منزل فرغناه لك، قال: بهذا أوصاني حبيبي، أوصاني رسول الله أن لا تأخذك في الله لومة لائم، وخلع رسول الله معاذ بن جبل من ماله لغرمائه حيث اشتدوا عليه وبعثه إلى اليمن وقال: لعل الله يجبرك!.

وقدم وفد كلاب على رسول الله ثلاثة عشر نفرا فيهم لبيد بن ربيعة.

ثم بعث رسول الله سرية مع جماعة من العرب ليس فيهم من المهاجرين أحد ولا من الأنصار إلى بني تميم. فأغار عليهم وسبى منهم النساء والولدان، وأخذ منهم عشرين رجلا فقدم بهم المدينة، فوضع رسول الله لحسان منبرا فقام عليه، فقال رسول الله : إن الله يؤيد حسانا بروح القدس، فقال القوم: شاعرهم أشعر من شاعرنا وخطيبهم أخطب من خطيبنا.

وقدم وفد الطائف ونزلوا دار المغيرة بن شعبة وطلبوا الصلح، فأمر النبي خالد بن سعيد بن العاص أن يكتب لهم كتاب الصلح.

ومرض عبد الله بن أبي سلول في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان النبي يعوده، فلما مات جاء ابنه إلى رسول الله فقال: يا رسول الله! أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه رسول الله قميصه، وأتى قبره فصلى عليه فنزلت الآية ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره.

وقدم وفد بني فزارة وهم بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن.

وقدم وفد بني عذرة ثلاثة عشر رجلا، ونرلوا على المقداد بن عمرو.

وفرض الله تعالى الحج على من استطاع إليه سبيلا، فبعث رسول الله أبا بكر يحج بالناس من المدينة في ثلاثمائة نفس، وبعث معه عشرين بدنة مفتولة قلائدها، ففتلها عائشة بيدها وقلدها وأشعرها، وساق أبو بكر لنفسه خمس بدنات، وحج معه عبد الرحمن بن عوف، فلما بلغ العرج وثوب بالصبح سمع أبو بكر خلفه رغوة وأراد أن يكبر الصلاة فوقف عن التكبير وقال: هذه رغوة ناقة رسول الله الجدعاء، لقد بدا لرسول الله في الحج، فلعله أن يكون رسول الله فنصلي معه! فإذا علي عليها فقال أبو بكر: أمير أم رسول؟ فقال: لا، بل رسول الله أرسلني ببراءة أقرأها على الناس في مواقف الحج، فقدموا مكة فقرأ على الناس سورة براءة حتى ختمها، فلما كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس وعرفهم مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأها على الناس حتى ختمها، فلما كان يوم النحر خطب أبو بكر الناس وحدثهم عن إفاضتهم ونحرهم ومناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها لينبذ إلى كل ذي حق حقه وذي عهد عهده وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر وخطب الناس وحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون فعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأعلى الناس براءة حتى ختمها، ثم رجعوا إلى المدينة.

السنة العاشرة من الهجرة

حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ثنا محمد بن بشار ثنا أبو عامر ثنا قرة بن خالد عن أبي جمرة الضبعي قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة ينبذ لي فيها، فإذا أطلت الجلوس مع القوم خشيت أن أفتضح من حلاوته، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله فقال: مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامي! قالوا: يا رسول الله! إن بينا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر الحرام فحدثنا جملا من الأمر إذا أخذنا به دخلنا الجنة وندعو إليه من وراءنا، فقال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وإن تعطوا الخمس من المغنم، وأنهاكم عن النبيذ في الدباء والنقير والحنتم والمزقت.

قال: في أول هذه السنة قدم وفد عبد القيس على رسول الله ، فلما دنوا من المدينة تركوا رواحلهم وبادروا إلى النبي ، ونزل عبد الله بن الأشج العبدي فعقل راحلته ونزع ثيابه فلبسها ثم أتى رسول الله ، فقال النبي : إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة ـ سألوه عما ذكرنا.

ثم بعث رسول الله خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان في شهر ربيع الأول وهم بنو الحارث بن كعب وأسلموا، وأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم.

ثم بعث رسول الله عمرو بن حزم عاملا على نجران، فخرج وأقام عندهم يعلمهم السنة ومعالم الإسلام إلى أن توفي رسول الله وهو على نجران.

وقدم عدي بن حاتم الطائي ومعه صليب من ذهب، فقال النبي : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

وقدم بعده وفد طيء فيهم زيد الخيل وهو رأسهم.

ثم قدم جرير بن عبد الله البجلي، فبعثه رسول الله إلى هدم ذي الخلصة، فهدمها.

ثم قدم وفد الأزد رأسهم صرد بن عبد الله في بضعة عشر رجلا، فبعثه رسول الله إلى جرش فافتتحها، وكان عاملا للنبي .

وولد محمد بن عمرو بن حزم بنجران، فكتب عمرو إلى رسول الله بذلك وأخبره أنه سماه محمدا وكناه أبا سليمان.

وقدم وفد سلامان، وهم سبعة نفر رأسهم حبيب السلاماني.

وقدم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة فقال: يا محمد! إن جعلت لي الأمر بعدك آمنت بك وصدقتك، وفي يد رسول الله جريدة فقال النبي: ولو سألتني هذه الجريدة ماأعطيتكها! ولن تعدوا أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، إني لأراك الذي أريت، وذلك أن رسول الله قال: بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن أنفخها، فنفختهما فطارا، فأولتهما الكذابين: أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة.

وقدم وفد غسان ووفد عبس ووفد كندة ووفد محارب ووفد خولان، وكان النبي إذا قدم عليه الوفود لبس أحسن ثيابه وأمر أحبابه بذلك.

وقدم وفد مراد رأسهم فروة بن مسيك المرادي، واستعمله رسول الله على مراد ومذحج. وبعث رسول الله خالد بن الوليد على الصدقات إليهم وكتب لهم كتابا بذلك. ودخل أبو ذر على رسول الله المسجد وهو جالس وحده فقال: يا أبا ذر! إن للمسجد تحية، قال: وما تحيته يا رسول الله؟ قال: ركعتان، فقام فركعهما، ثم قال: إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة؟ قال: خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر! فقال: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله، قال: فأي المؤمنين أكملهم إيمانا؟ قال: أحسنهم خلقا، قال: فأي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر السوء، قال: فأي الليل أفضل؟ قال: جوف الليل الغابر، قال: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قال: فأي الرقاب أفضل، قال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد من مقل إلى فقير في سر، قال: فما الصوم أفضل؟ قال: فرض مجزي وعند الله أضعاف كثيرة، قال: فأي آية مما أنزلها الله عليك أفضل؟ قال: آية الكرسي، قال: يا رسول الله! كم النبيون قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، قال: كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا، قال: من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قال: وكان من الأنبياء مرسلا؟ قال: نعم، خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه وكلمه قبلا ثم قال: يا أبا ذر! أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم وشيث وخنوخ ـ وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم ـ ونوح، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك محمد، وأول الأنبياء آدم وآخرهم محمد ، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل مو سى وآخرهم عيسى، وبينهما ألف نبي، قال: يا رسول الله! كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، قال: يا رسول الله! فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المسلط المبتلي المغرور! إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وعلى العاقل مالم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلوا فيها لحاجته من الحلال، فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، فإنه من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه، وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث: مرمة لمعاش، وتزود لمعاد، وتلذذ في غير محرم، وقال: يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرأ كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل، قال: هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر تقرأ قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى ـ الآية، قال: يا رسول الله! أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله فإنه زين لأمرك، قال: زدني، قال: عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك، وإياك والضحك فإنه يميت القلوب ويذهب نور الوجه، قال: زدني، قال: أحب المساكين ومجالستهم، قال: زدني، قال: قل الحق ولو كان مرا، قال: زدني، قال: لا تخف في الله لومة لائم، قال: زدني، قال: ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك ولا تجد عليهم فيما يأتي، ثم قال: يا أبا ذر! كفى للمرء غيا أن يكون فيها خصال: يعرف من الناس ما يجهل من نفسه، ويتجسس لهم ما هو فيه، ويؤذي جليسه فيما لا يعنيه، يا أبا ذر! لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق.

ثم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه سرية إلى اليمن في شهر رمضان، قال: يا رسول الله! كيف أصنع قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلوهم حتى تروهم أناة فإذا أتيتهم فقل لهم: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة فتردونها على فقرائكم، فإن قالوا: نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك، ولأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس.

ونزلت على رسول الله لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون فجاء عبد الله بن أم مكتوم فقال: يا رسول الله ! إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي ما ترى، قد ذهب بصري، قال زيد بن ثابت: فثقلت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها: ثم قال: غير أولي الضرر.

وقدم العاقب والسد من نجران فكتب لهم رسول الله كتابا صالحهم عليه ـ فهو في أيديهم إلى اليوم، وقالا: يا رسول الله! ابعث علينا رجلا أمينا نعطه ما سألتنا، فقال النبي : لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح، ومات أبو عامر الراهب عند هرقل، فاختلف كنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثه في ميراثه، فقضي برسول الله لكنانة بن عبد ياليل.

وقدم الأشعث بن قيس وافدا إلى رسول الله في قومه، فبعث معه رسول الله زياد بن لبيب البياضي إلى البحرين ليأخذ منهم الصدقات.

وبينما رسول الله قاعد مع أصحابه إذ طلع عليه رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منهم أحد، حتى جلس إلى نبي الله فوضع ركبته إلى ركبته ووضع كفه على فخذه، ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت! فعجب المسلمون منه يسأله ويصدقه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله خيره وشره، قال: صدقت، قال: أخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق فقال رسول الله : هذا جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم.

ثم إن النبي أراد أن يحج حجة الوداع فأذن في الناس أنه خارج، فقدم الدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن بأتم برسول الله ، حتى أتى ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله : كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري بثوب وأخرى. ثم صلى رسول الله في المسجد وأمر ببدنة أن تشعر وسلت عنها الدم، ثم ركب القصواء فلما استوت به ناقته على البيداء أهل، وإن بين ييديه وخلفه وعن يمينه ويساره من الناس ما بين راكب وماش، ورسول الله بين أظهرهم، فأهل: لبيك! اللهم لبيك! لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس معه، فمنهم من أهل مفردا ومنهم من أهل قارنا، حتى قدم رسول الله مكة من الثنية، فلما دخل مكة توضأ إلى الصلاة ثم دخل من باب بني شيبة، فلما أتى الحجر استلمه، ورمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وجعل المقام بينه وبين البيت وصلى ركعتين، فقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما رقى على الصفا قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله وقال: أبدأ بما بدأ الله، فلما رقى عليها ورأى البيت استقبل القبلة وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ـ قال ذلك ثلاث مرات، فلما نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي خب، حتى إذا صعد مشى، فلما أتى المروة صعد عليها وفعل عليها ما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة فقال: لو استقبلت ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقال سراقة ابن مالك بن جعشم: يا رسول الله! لعامنا هذا أو للأبد؟ فشبك رسول الله بين أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج ـ مرتين ـ لا، بل للأبد.

وقدم علي من اليمن فوجد فاطمة قد لبست ثياب صبغ واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أبي أمرني بهذا! ثم قال النبي لعلي: بم فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم! إني أهل بما أهل به رسولك. فقال رسول الله : فإن معي الهدي فلا تحل، فكان الهدي الذي قدم به علي بن أبي طالب من اليمن والذي أتى به النبي ماءة، فحل الناس وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي.

واعتل سعد بن أبي وقاص فدخل عليه رسول الله ، فبكى سعد فقال له النبي : ما يبكيك. فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة! فقال النبي : اللهم اشف سعدا ـ ثلاثا، فقال: يا رسول الله! إن لي مالا كثيرا، وأنعما، ومورثتي بنت لي واحدة، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: فالنصف؟ قال: لا، قال: الثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن صدقت مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وما تأكل امرأتك من طعامك صدقة، وأن تدع أهلك بخير خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، اللهم! أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله أن مات بمكة.

فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى وأهل الناس بالحج، فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له فضربت له بنمرة، ثما سار رسول الله ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فجاز رسول الله حتى جاء عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فلما أتى بطن الوادي خطب الناس وقال في خطبته: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا! ألا! كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم مالن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء: اللهم اشهد! ثم أذن وأقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن القصواء إلى الصخرة وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا ـ والمسلمون معه ـ حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا. ثم أردف أسامة بن زيد خلفه ودفع رسول الله وقد شفق للقصواء الزمام ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة! كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، فلما أتى المزدلفة صلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتىالمشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا وكبر وهلل، ثم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتى محسر فسلك الطريق الوسطى التي تخرج إلى الجمرة الكبرى، فلما أتى الجمرة رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، رماهامن بطن الوادي بمثل حصى الخذف، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا فنحر ماغير منها وأشركه في هدية، وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله القصواء فأتى البيت فطاف طواف الزيارة، ثم قال: يا بن عبد المطلب انزعوا، فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم فناولوه دلوا من زمزم فشرب منه ثم رجع إلى منى وصلى الظهر بها ثم أقام بها أيام منى، ثم ودع البيت وخرج إلى المدينة حتى دخلها والمسلمون معه فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وبعض صفر.

ذكر وفاة رسول الله

أخبرنا أبو يعلى حدثنا أحمد جميل المروزي ثنا عبد الله بن المبارك أنا معمر عن يونس عن الزهري أخبرني أنس بن مالك أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم يفجأهم إلا رسول الله قد كشف ستر حجر عائشة فنظر إليهم وهم صفوف في صلاتهم، ثم تبسم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاته فرحا برسول الله حين رأوه، فأشار إليهم رسول الله أن اقضوا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر بينه وبينهم وتوفي في ذلك اليوم.

قال: أول ما اشتكى رسول الله كان ذلك يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر وهو في بيت ميمونة حتى أغمي عليه من شدة الوجع، فاجتمع عنده نسوة من أزواجه والعباس بن عبد المطلب وأم سلمة وأسماء بنت عميس الخثعمية وهي أم عبد الله بن جعفر وأم الفضل بنت الحارث وهي أخت ميمونة، فتشاوروا في رسول الله حين أغمي عليه فلدوه وهو مغمر، فلما أفاق قال: من فعل هذا؟ قالوا: يا رسول الله! عمك العباس، قال: هذا عمل نساء جئن من ههنا وأشار إلى أرض الحبشة، فقالوا: يا رسول الله! أشفقن أن يكون بك ذات الجنب، فقال رسول الله : ما كان الله ليعذبني بذلك الداء، ثم قال: لا يبقين أحد في الدار إلا لد إلا العباس.

فلما ثقل برسول العلة استأذنت عائشة أزواجه أن تمرضه في بيتها فأذن لها، فخرج رسول الله بين رجلين رسول الله بين رجلين تخط رجلاه في الأرض: بين عباس وعلي، حتى دخل بيت عائشة، فلما دخل بيتها اشتد وجعه فقال: أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس، فأجلسوه في مخضب لحفصة ثم صب عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إليهن بيده أن فعلتن، ثم قال: ضعوا لي في المخضب ماء، ففعلوا فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق قال: وضعوا لي في المخضب ماء. ففعلوا، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه فأفاق وقال: أصلى الناس بعد؟ قالوا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك، والناس عكوف ينتظرون رسول الله ليصلي بهم العشاء الآخرة، فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فقالت عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق وإنه إذا قدم مقامك بكى، فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، ثم أرسل إلى أبا بكر فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر: يا عمر، صل بالناس. فقال: أنت أحق، إنما أرسل إليك رسول الله ، فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام.

ثم وجد رسول الله من نفسه خفة فخرج لصلاة الظهر بين العباس وعلي وقال لهما: أجلساني عن يساره، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو جالس والناس يصلون بصلاة أبي بكر، ثم وجد خفة فخرج فصلى خلف أبي بكر قاعدا في ثوب واحد ثم قام وهو عاصب رأسه بخرقة حتى صعد المنبر ثم قال: والذي نفسي بيده! إني لقائم على الحوض الساعة، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة، فلم يفطن لقوله إلا أبو بكر فذرفت عيناه وبكى وقال: بأبي وأمي! نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا! فقال رسول الله : إن أمن الناس علي في بدنه ودينه وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام، سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر، ثم نزل ودخل البيت وهي آخر خطبة خطبها رسول الله .

فلما كان يوم الاثنين كشف الستارة من حجرة عائشة والناس صفوف خلف أبي بكر وكأن وجهه ورقة مصحف فتبسم رسول الله فأشار إليهم أن مكانكم وألقى السجف وتوفي آخر ذلك اليوم، وكان ذلك اليوم لاثنتي عشرة خلون من شهر ربيع الأول.

وكان مقامه بالمدينة عشر حجج سواء، وكانت عائشة تقول: توفي رسول الله في بيتي ويومي وبين سحري ونحري، وكان أحدنا بدعاء إذا مرض فذهبت أعوذ فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى ومر عبد الرحمن ابن أبي بكر وفي يده جريدة خضراء رطبة فنظر إليه، فظننت أن له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ثم دفعتها إليه فاستن بها ثم ناولنيها وسقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.

وكان أبو بكر في ناحية المدينة فجاء فدخل على رسول الله وهو مسجى، فوضع فاه على جبين رسول الله وجعل يقبله ويبكي ويقول: بأبي وأمي! طبت حيا وطبت ميتا! فلما خرج ومر بعمر بن الخطاب وعمر يقول: ما مات رسول الله ولا يموت حتى يقتل المنافقين ويخزيهم! وكانوا قد رفعوا رؤسهم لما رأوا أبا بكر فقال أبو بكر لعمر: أيها الرجل! اربع على نفسك، فإن رسول الله قد مات، ألم تسمع الله يقول: إنك ميت وإنهم ميتون، وقال: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون، ثم أتى أبو بكر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن كان محمد إلهكم الذي تعبدون فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الذي في السماء فإن إلهكم لم يمت، ثم تلا وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ـ حتى ختم الآية، وقد استيقن المؤمنون بموت محمد .

وقد كان لعبد المطلب بن هاشم من الأولاد ستة عشرا ولدا: عشرة ذكور، منهم تسعة عمومة رسول الله وواحد والد رسول الله ، وست من الإناث عمات رسول الله .

فأما أولاد عبد المطلب الذكور منهم: عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله ، والزبير بن عبد المطلب، وأبو طالب بن عبد المطلب، والعباس ابن عبد المطلب، وضرار بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، والمقوم بن عبد المطلب، وأبو لهب بن عبد المطلب، والحارث بن عبد المطلب، والغيداق بن عبد المطلب.

فأما عبد الله والد رسول الله فلم يكن ولد غير رسول الله لا ذكر ولا أنثى، وتوفي قبل أن يولد رسول الله .

وأما الزبير بن عبد المطلب فكنيته أبو الطاهر، من أجلة القريش وفرسانها من المبارزين، وكان متعالما يقول الشعر فيجيد.

وأما أبو طالب بن عبد المطلب فإن اسمه عبد مناف، وكان هو وعبد الله والد رسول الله لأم واحدة وكان أبو طالب وصى عبد المطلب لابنه في ماله بعده وفي حفظ رسول الله وبعده على من كان يتعهده عبد المطلب في حياته، ومات أبو طالب قبل أن يهاجر رسول الله إلى المدينة بثلاث سنين وأربعة أشهر.

وأما العباس فكنيته أبو الفضل، وكان إليه السقاية وزمزم في الجاهلية فلما افتتح رسول الله مكة دفعها إليه يوم الفتح وجعلها إليه، ومات العباس بن عبد المطلب سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان.

وأما ضرار فإنه كان يقول الشعر ويجيده، ومات قبل الإسلام ولا عقب له.

وأما حمزة فكنيته أبو ليلى، وقد قيل: أبو عمارة، واستشهد يوم أحد، قتله وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان حمزة أكبر من النبي بسنتين.

وأما المقوم فكان من رجالات قريش وأشدائها، هلك قبل الإسلام ولم يعقب.

وأما أبو لهب فإن اسمه عبد العزى وكنيته أبو عتبة، وإنما كني أبا لهب لجماله، وكان أحول، يعادي رسول الله من بين عمومته ويظهر له حسده إلى أن مات عليه.

وأما الحارث ـ وهو أكبر ولد عبد المطلب ـ اسمه كنيته، وهو ممن شهد حفر زمزم مع عبد المطلب قديما.

وأما الغيداق فإنه كان من أسد قريش وأجلادها، ومات قبل الوحي ولم يعقب.

وأما بنات عبد المطلب فإن إحداهن عاتكة بنت عبد المطلب، وأميمة بنت عبد المطلب، والبيضاء وهي أم حكيم، وأروى بنت عبد المطلب، وصفية بنت عبد المطلب، وبرة بنت عبد المطلب.

وأما عاتكة فإنها كانت عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي.

وأما أميمة فإنها كانت عند جحش بن رئاب الأسدي.

وأما البيضاء فإنها كانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.

وأما صفية فكانت عند العوام بن خويلد بن أسد.

وأما برة فإنها كانت عند عبد الأسد بن هلال المخزومي.

وأما أروى فكانت عند عمير بن عبد مناف بن قصي.

ولم يسلم من عمات النبي إلا صفية، وهي والدة الزبير بن العوام، وتوفيت صفية في خلافة عمر بن الخطاب ـ فهذا ما يجب أن يعلم من ذكر عمات رسول الله .

وأما نساء رسول الله فإن رسول الله تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بمكة قبل الوحي ورسول الله ابن خمس وعشرين سنة، وكانت خديجة قبله تحت عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وولد له منها أولاده إلا إبراهيم، وتوفيت خديجة بمكة قبل الهجرة.

ثم تزوج بعد موت خديجة سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، خطبها رسول الله إلى عمها وقدان بن عبد شمس، وكانت قبل ذلك تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكانت امرأة ثقيلة ثبطة، وهي التي وهبت يومها لعائشة وقالت: لا أريد مثل ما تريد النساء، وتوفيت سودة سنة خمسين.

ثم تزوج رسول الله عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة الصديق في شوال وهي ينت ست، وبنى وهي بنت وهي بنت تسع بعد الهجرة، وتوفيت عائشة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، ولم يتزوج رسول الله بكرا غيرها.

ثم تزوج رسول الله حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان، وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وكانت قبل ذلك تحت خنيس ابن حذافة بن قيس، وذلك في سنة ثلاث من الهجرة، وتوفيت حفصة بنت عمرو سنة خمس وأربعين.

ثم تزوج رسول الله في هذه السنة في شهر رمضان زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة التي يقال لها: أم المساكين، وكانت قبله تحت الطفيل بن الحارث، وهي أول من لحقت بالنبي من نسائه.

ثم تزوج رسول الله في السنة الرابعة من الهجرة أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين.

ثم تزوج رسول الله في سنة خمس زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وكانت قبل ذلك عند زيد بن حارثة مولى رسول الله ، وتوفيت زينب هذه سنة عشرين.

ثم اصطفى رسول الله صفية بنت حيي بن أخطب في سنة سبع وهي من بني إسرائيل، وكانت قبله عند كنانة بن أبي الحقيق، سباها رسول الله فاصطفاها وكانت ممن اصطفاها وأعتقها وتزوج بها، وماتت صفية بنت حيي سنة خمسين.

ثم تزوج رسول الله في آخر هذه السنة أم حبيبة بنت أبي سفيان من حرب، وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش، وكانت بأرض الحبشة مع زوجها مهاجرة فمات زوجها عبيد الله بن جحش، فبعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها لرسول الله وكان وليها في تلك الناحية إذ كان سلطانا ولم يكن ولى بتلك الناحية، والسلطان ولي من لا ولي له، وكان الذي تولى الخطبة عليها والسعي في أمرها سعيد بن العاص، وكان وليها حينئذ بالبعد، فخرجت أم حبيبة مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة إلى رسول الله وماتت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.

تزوج رسول الله ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهرم بن رويبة بن عبد الله بن عامر بن صعصعة، وكانت قبله تحت أبي رهم بن عبد العزى من بني عامر بن لؤي، وماتت ميمونة سنة ثمان وثمانين، وهي خالة عبد الله بن عباس، لأن أم عباس أم الفضل أخت ميمونة.

تزوج رسول الله جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية ـ وكانت قبله عند صفوان بن تميم ـ سباها رسول الله في غزوة بني المصطلق، فصارت لثابت بن قيس بن الشماس، فاشتراها رسول الله وأعتقها، وتوفيت جويرية في شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين، فصلى عليها مروان بن الحكم.

وتزوج رسول الله أسماء بنت النعمان الجونية ولم يدخل بها، ثم طلقها وردها إلى أهلها.

وتزوج رسول الله عمرة بنت يزيد الكلابية، وطلقها قبل أن يدخل بها.

وتزوج رسول الله فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية فاستعاذت من رسول الله ، فقال لها رسول الله : تعوذت بعظيم فالحقي بأهلك.

وتزوج رسول الله ريحانة بنت عمرو القرظية فرأى بها بياضا قدر الدرهم ثم طلقها ولم يدخل بها، فماتت بعد ذلك بأربعة أشهر.

وقد أعطى المقوقس ملك الإسكندرية لرسول الله جارية يقال لها مارية القبطية، فأولدها رسول الله إبراهيم ابنه.

وخرج رسول الله من الدنيا يوم خرج وعنده تسع نسوة: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وزينب بنت جحش بن رئاب، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وميمونة بنت الحارث بن حزن، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وصفية بنت حيي بن أخطب.

وأما أولاد رسول الله فهم كلهم من خديجة بنت خويلد بن أسد إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.

وأما أولاد رسول الله فأولهم عبد الله وهو أكبرهم والطاهر والطيب والقاسم، وقد قيل: إن عبد الله هو الطاهر وهو أول مولود ولد لرسول الله حتى قالت قريش: صار محمد أبتر لأن ابنه توفي، أنزل الله إن شانئك هو الأبتر.

وبنات رسول الله زينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة رضي الله عنهن، فأما زينب بنت رسول الله فزوجها رسول الله من أبي العاص بن الربيع، فولدت له أمامة بنت أبي العاص وهي التي كان رسول الله يصلي وهو رافعها على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا قام رفعها، وماتت أمامة ولم تعقب.

وأما رقية بنت رسول الله فكانت عند عتبة بن أبي لهب.

وأما كلثوم فكانت عند عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت تبت يدا أبي لهب أمرهما أبوهما ان يفارقاهما، حينئذ لم يحرم الله تزويج المسلمين من نساء المشركين ولا حرم على المسلمات أن يتزوجهن المشركون، ثم حرم الله ذلك على المسلمين والمسلمات.

ثم زوج رسول الله رقية بنته عثمان بن عفان ورسول الله يومئذ بمكة،و خرجت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك عبد الله بن عثمان وبه يكنى عثمان، ثم توفيت رقية عند عثمان بن عفان مرجع رسول الله من بدر، ودفنت بالمدينة، وذلك أن عثمان استأذن رسول الله في التخلف عند خروجه إلى بدر لمرض ابنته رقية، وتوفيت رقية يوم قدوم زيد بن حارثة العقيلي من قبل يوم بدر.

ثم زوج رسول الله عثمان بن عفان ابنته أم كلثوم، فماتت ولم تلد.

وزوج رسول الله فاطمة علي بن أبي طالب بالمدينة، فولدت من علي الحسن والحسين ومحسنا وأم كلثوم وزينب، ليس لعلي من فاطمة إلا الخمس.

فأما أم كلثوم فزوجها علي من عمر، فولدت لعمر زيدا ورقية، وأما زيد فأتاه حجر فقتله، وأما رقية بنت عمر فولدت لإبراهيم بن نعيم بن عبد الله النحام جارية فتوفيت ولم تعقب.

وأما زينب بنت علي فولدت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب جعفرا ـ وكان يكنى به ـ الأكبر وأم كلثوم وأم عبد الله.

وكان ولاه رسول الله على الصدقات حتى توفي عدي بن حاتم على قومه، ومالك بن نوبرة على بني الحنظلة، وقيس بن عاصم على بني منقر، والزبرقان بن بدر على بني سعد، وكعب بن مالك بن أبي القيس على أسلم وغفار وجهينة، والضحاك بن سفيان على بني كلاب،و عمرو بن العاص على عمان، والمهاجر بن أبي أمية على صنعاء، وزياد بن لبيد على حضرموت.

ذكر وصف رسول الله

أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي ـ يخبر بإسناد ليس له في القلب وقع ـ ثنا سفيان بن وكيع بن الجراح ثنا جميع بن عمرو بن عبد الرحمن العجلي أملاه علينا من كتابه ثنا رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله عن ابن لأبي هالة عن الحسن بن علي قال: سألت خالي هند بن أبي هالة ـ وكان وصافا ـ من حديث النبي وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به. فقال: كان رسول الله فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري اليدين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائر أو سائل ـ شك ابن سعيد ـ الأطراف. خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفيا ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، يبدأ من لقي بالسلام.

قال: قلت: صف لي منطقه، فقال: كان رسول الله متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم فضل لا فضول ولا تقصير، دمث، ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا غير أن لا يذم ذواقا ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا نوزع الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن كفه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام ـ قال الحسن: فكتمها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبق إليه وسأله عما سألته.

قال الحسين: فسألت أبي عن دخول رسول الله قال: كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك، كان إذا أوى إلى منزله جزأ نفسه ثلاثة أجزاء: جزء لله وجزءا لأهله وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزءا بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئا، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم وإلا معه من مسألتهم يلائمهم ويخبرهم بالذي ينبغي لهم ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوا في الحاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإن من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها يثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا ولا يفترقون إلا عن ذواق ويخرجون أذلة.

قال: فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه، قال: كان يخزن لسانه إلا فيما يعنيه ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم القوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطهر على أحد بسره،و يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير متخلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، ولا يقصر عن الحق ولا يجاوزه الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة ومؤازرة،

قال: فسألته عن مجلسه، فقال: كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا جلس إلى قوم جلس حيث انتهى المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أوقاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المتصرف، ومن سأله عن حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فصار الناس أبا وصاروا في الحق عنده سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات،و لا تؤبن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى متواضعين يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذوي الحاجة ويحفظون الغريب.

قال: فسألته عن سيرته في جلسائه، فقال: كان رسول الله دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤنس معه، ولا يخيب فئة،قد نزه نفسه من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم صمتوا له حتى يفرغ، جل حديثه عندهم حديث أوليهم، يضحك مما يضحكون من، ويتعجب مما يعجبون منه ويصبرللغريب على الجفوة في منطقه حتى أن كان أصحابه يسجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفده، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوره فيقطعه بنهي أو قيام.

قال: وسألته: كيف كان سكوت رسول الله ؟ فقال: كان سكوته على أربعة: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر، فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم في الصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستنفزه، وجمع له الحذر في أربعة: أخذه بالحسن ليقتدي به، وتركه القبيح ليتناهى عنه، وإجهاده الرأي فيما يصلح أمته، والقيام فيما يجمع لهم فيه خير الدنيا والآخرة.

قال أبو حاتم: قد ذكر جمل ما يحتاج إليه من مولد رسول الله ومبعثه وأيامه وهجرته إلى أن قبضه الله إلى جنته، ثم إنا ذاكرون بعده الخلفاء الأربعة بأيامه وجمل ما يحتاج إليه من أخبارهم ليكون ذلك طريقا للمتأسين بهم إذ المصطفى أمر بذلك الحديث حيث قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ـ جعلنا الله وإياكم من المتبعين لسنة المبادرين إلى لزوم طاعته، إنه الفعال لما يريد بكم.

آخر مولد رسول الله ومبعثه.

أخبار الخلفاء

استخلاف أبي بكر بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنه

قال الشيخ أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي: واسمه عبد الله ولقبه عتيق، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأم أبي بكر أم الخير بنت صخر بن عامر بن كعب ـ أخو عمرو بن كعب ـ بن سعد بن تيم بن مرة بن لؤي بن غالب.

أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان ثنا محمد بن المتوكل ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: كنت عند عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب، فلما كان في آخر حجة حجها عمر أتاني عبد الرحمن بن عوف في منزلي عشاء فقال: لو شهدت أمير المؤمنين اليوم وجاءه رجل وقال: يا أمير المؤمنين! إني سمعت فلانا يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعت فلانا، فقال عمر: إني لقائم العشية في الناس ومحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم، فقلت: يا أمير المؤمنين: إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، وإني أخشى أن تقول فيهم اليوم مقالة لا يعونها ولا يضعونها مواضعها، وأن يطيروا بها كل مطير، ولكن أمهل يا أمير المؤمنين حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة ودار الهجرة فتخلص بالمهاجرين والأنصار وتقول ما قلت متمكنا فيعون مقالتك ويضعونها مواضعها، قال عمر: أما والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة! قال ابن عباس: فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمع هجرت لما حدثني عبد الرحمن ابن عوف فوجدت سعيد بن زيد بن نفيل قد سبقني بالهجرة جالسا إلى جنب المنبر فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته، فلما زالت الشمس خرج علينا عمر فقلت وهو مقبل: أما والله ليقولن اليوم أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقل عليه أحد قبله، قال: فغضب سعيد بن زيد فقال: وأي مقال يقول لم يقل قبله؟ فلما ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه فلما فرغ من أذانه قام عمر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد! فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلى، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن خشى أن لا يعيها فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي: إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها فرجم رسول الله ورجمنا بعده، وإني خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا! وإن الرجم على من أحصن إذا زنى وقامت عليه البينة أو كان الحمل أو الاعتراف، ثم إنا قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم ثم إن رسول الله قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله. ثم إنه بلغني أن فلانا منكم يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا، فلا يغتر امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك، ألا وإن الله وقى شرها ودفع عن الإسلام والمسلمين ضرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله ، إن عليا والزبير ومن تبعهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلف عنا الأنصار في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقا نؤمهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار شهدا بدرا فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء الأنصار، قالا: فارجعوا فامضوا أمركم بينكم، فقلت: والله لنأتينهم! فأتيناهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، قال: قلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد! فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط منا وقد دفت إلينا دافة منكم وإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحضنونا بأمر دوننا، وقد كنت زورت في نفسي مقالة أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر وكنت أدارئ من أبي بكر بعض الحد وكان أوقر مني وأحلم، فلما أردت الكلام قال: على رسلك! فكرهت أن أغضبه، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وو الله ما ترك كلمة قد كنت زورتها إلا جاء بها أو بأحسن منها في بديهته ثم قال: أما بعد! وأما ما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب دارا ونسبا، ولقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح، فو الله ما كرهت مما قال شيئا غير هذه الكلمة، كنت لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، فلما قضى أبو بكر مقالته قام رجل من الأنصار فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش وإلا أجلنا الحرب فيما بيننا وبينكم خذعة، قال معمر: فقال قتادة: قال عمر: فإنه لا يصلح سيفان في غمد، ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء، قال معمر عن الزهري في حديثه: فارتفعت الأصوات بيننا وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف فقلت: يا أبا بكر! ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار، قال: ونزونا على سعد بن عبادة حتى قال قائل منهم: قتلتم سعدا، قال قلت: قتل الله سعدا! وأنا والله ما أرينا فيما حضرنا أمرا كان أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم أن يحدثوا بعدنا بيعة، فأما أن نتابعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فسادا فلا يغرن امرأ يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها وليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا يبايع هو ولا الذي بايعه بعده، قال الزهري: وأخبرني عروة أن الرجلين اللذين لقياهما من الأنصار عويم بن ساعدة ومعن بن عدي، والذي قال: [ أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ] الحباب بن المنذر.

قال أبو حاتم: نظر المسلمون إلى أعظم أركان الدين وعماد الإسلام للمؤمنين فوجدوها الصلاة المفروضة، وإن رسول الله ولى أبا بكر إقامتها في الأوقات المعلومات، فرضي المسلمون للمسلمين ما رضي لهم رسول الله فبايعوه طائعين في سائر الأركان، وبايعوه في السر والإعلان.

فلما كان اليوم الثاني قام عمر بن الخطاب على المنبر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس! إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا مني وما جدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله ، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيأمرنا بقول يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان قد هدى به أهله، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا إليه فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.

ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم بالبلاء، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

فلما فرغ الناس من بيعة أبي بكر وهو يوم الثلاثاء أقبلوا على جهازه فاختلفوا في غسله فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم السبات حتى ما منهم أحد إلا وذقته في صدره، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت ـ لا يدري من هو أن اغسلوا رسول الله وعليه ثيابه، فقاموا فغسلوه وعليه قميصه، فأسنده علي إلى صدره، فكان العباس والفضل والقثم يقلبونه، وكان أسامة بن زيد وشقران مولياه يصبان عليه الماء وعلي يغسله ويدلكه من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله وهو يقول: بأبي أنت وأمي! ما أطيبك حيا وميتا! ولم ير من رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرج فيها إدراجا. ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالا، بدأ به الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ثم أدخل الصبيان ثم أدخل العبيد، ولم يؤم الناس على رسول الله أحد. وكان أبو عبيدة بن الجراح يحفر كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد ابن سهيل يحفر كحفر أهل المدينة وكان يلحد، فدعا العباس بن عبد المطلب رجلين فقال لأحداهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وقال: للآخر: اذهب إلى أبي طلحة، فقال: اللهم! خر لرسولك، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد برسول الله . وكان المسلمون اختلفوا في دفنه فقائل يقول: ندفنه في مسجده، وقائل يقول: ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض، فرفع فراش رسول الله الذي توفي عليه، فحفر أبو طلحة تحته. ثم دفن ليلة الأربعاء حين زاغت الشمس، ونزل في قبر رسول الله علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله وطرح تحته قطيفة، وكان آخرهم عهدا به قثم بن العباس، وكان المغيرة بن شعبة يقول: لا بل أنا، وكان يحكي قصة.

ثم قام أبو بكر في الناس خطيبا بعد خطبته الأولى فقال: الحمد لله أحمده وأومن بوحدانيته وأستعينه على أمركم كله سره وعلانيته، نعوذ بالله مما يأتي به الليل والنهار، وترتكب عليه السر والجهار، وأشهد أن لا إله إلا الله حافظا ونصيرا، وأن محمدا عبده ورسوله بالحق بشيرا ونذيرا قدام الساعة، فمن أطاعه رشد، ومن عصاه هلك وشرد، فعليكم أيها الناس بتقوى الله! فإن أكيس الكيس التقوى، وإن أحمق الحمق الفجور، فاتبعوا كتاب الله واقبلوا نصيحته، واقتدوا بسنة رسوله وخذوا شريعته، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو الحكيم العليم، وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ـ الآية، واحذروا الخطايا التي لكل بني آدم فيها نصيب، وتزودوا للآخرة فإن المصير إليها قريب، ولكن خيركم من اتبع طاعة الله واجتنب معصيته، فاحذروا يوما لا ينفع فيه من حميم ولا شفيع، ولا حميم يطاع، وليعمل عامل ما استطاع من عمل يقربه إلى ربه، واعملوا من قبل أن لا تقدروا على العمل، وإن الله لو شاء لخلقكم سدى، ولكن جعلكم أئمة هدى، فاتبعوا ما أمركم الله به واجتنبوا ما نهاكم عنه، واعملوا الخير فإن قليله كثير نام مبارك، واتقوا الله حق تقاته، واحذروا ما حذركم في كتابه، وتوقوا معصيته خشية من عقابه، فليس فيها رغبة لأحد، واستعفوا عما حرم الله وأمر باجتنابه، وإياكم والمحقرات فإنها تقرب إلى الموجبات، واعملوا قبل أن لا تعلموا، وتوبوا من الخطايا التي لا يغسلها إلا الله برحمته، وصلوا على نبيكم كما أمركم ربكم، ثم قال: أيها الناس! إن الذي رأيتم مني لم يكن على حرص على ولايتكم، ولكني خفت الفتنة والإختلاف فدخلت فيها، وهأنذا وقد رجع الأمر إلى أحسنه وكفى الله تلك الثائرة، وهذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم من الناس وأنا أجبيكم على ذلك، وأكون كأحدكم، فأجابه الناس: رضينا بك قسما وحظا إذ أنت ثاني اثنين مع رسول الله ، فقال أبو بكر: اللهم! صل على محمد والسلام على محمد ورحمة الله وبركاته، اللهم! إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع من يكفرك.

ثم نزل واستقام له الأمر بعد رسول الله وبايعه الناس ورضوا به وسموه خليفة رسول الله إلا شرذمة مع علي بن أبي طالب، تخلفوا عن بيعته.

وكان أسامة بن زيد يقول: أمرني رسول الله أن أغير صباحا على أهل أبني ثم أمر أبو بكر أن يبعثوا بعث أسامة بن زيد فقال له الناس: إن العرب قد انتفضت عليك، وإنك لا تصنع بتفرق المسلمين عنك شيئا، قال: والذي نفس أبي بكر بيده! لو ظننت أن السباع أكلتني بهذه القرية لأنفذت هذا البعث الذي أمر رسول الله بإنفاذه، ثم قال أبو بكر لأسامة: إن تخلف معي عمر بن الخطاب فافعل، فأذن له أسامة فتخلف عمر مع أبي بكر ومضى أسامة حتى أوطأهم، ثم رجع فسمع به المسلمون فخرجوا مسرورين بقدومه ولوائه معقود حتى دخل المسجد فصلى ركعتين ثم دخل بيته ولواءه معقود، ويقال: إنه لم يحمل اللواء حتى توفي ووضعه في بيته.

ثم كتب أبو بكر الصديق كتابا إلى معاذ بن جبل يخبره بموت رسول الله ، وبعثه مع عمار بن ياسر، وقد كان معاذ أتى اليمن فبينا هو ذات ليلة على فراشه إذا هو بهاتف يهتف عند رأسه: يا معاذ! كيف يهنئك العيش ومحمد في سكرات الموت؟ فوقف فزعا، ما ظن إلا أن القيامة قد قامت، فلما رأى السماء مصحية والنجوم ظاهرة استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم نودي الليلة الثانية: يا معاذ! كيف يهنئك العيش ومحمد بين أطباق الثرى؟ فجعل معاذ يده على رأسه وجعل يتردد في سكك صنعاء وينادي بأعلى صوته: يا أهل اليمن! ذروني لا حاجة لي في جواركم، فما شر الأيام يوم جئتكم وفارقت رسول الله ! فخرج الشبان من الرجال والعواتق من النساء وقالوا: يا معاذ! ما الذي دهاك؟ فلم يلتفت إليهم وأتى منزله وشد على راحلته وأخذ جرابا فيه سويق وأداوة من ماء ثم قال: لا أنزل عن ناقتي هذه إن شاء الله إلا لوقت صلاة حتى آتي المدينة، فبينا هو على ثلاثة مراحل من المدينة إذ لقيه عمار فعرفه بالبعير، قال: اعلم يامعاذ أن محمدا قد ذاق الموت وفارق الدنيا، فقال معاذ: يا أيها الهاتف في هذا الليل القار من أنت يرحمك الله! قال: أنا عمار بن ياسر، قال: وأين تريد؟ قال: هذا كتاب أبي بكر إلى معاذ يعلمه أن محمدا قد مات وفارق الدنيا، قال معاذ: فإلى من المهتدى والمشتكى؟ فمن لليتامى والأرامل والضعفاء؟ ثم سار ورجع عمار معه وجعل يقول: نشدتك بالله كيف أصحاب محمد قال: تركتهم كنعم بلا راع، قال: كيف تركت المدينة، قال: تركتها وهي أضيق على أهلها من الخاتم، فلما كان قريبا من المدينة سمعت عجوزا وهي تذكر رسول الله وهي تبكي، فقالت: يا عبد الله! لو رأيت ابنته فاطمة وهي تبكي وتقول: يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه! يا أبتاه! انقطع عنا أخبار السماء، ولا ينزل الوحي إلينا من عند الله أبدا، فدخل معاذ المدينة ليلا وأتى باب عائشة فدق عليها الباب فقالت: من هذا الذي يطرق بنا ليلا؟ قال: أنا معاذ بن جبل، ففتحت الباب فقال: يا عائشة! كيف رأيت رسول الله عند شدة وجعه؟ قالت: يا معاذ! لو رأيت رسول الله يصفار مرة ويحمار أخرى، يرفع يدا ويضع أخرى لما هنأك العيش طول أيام الدنيا! فبكى معاذ حتى خشي أن يكون الشيطان قد استفزه ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وأتى أصحاب محمد .

ثم ظهر طليحة في أرض بني أسد ومالت فزارة فيها عيينة بن حصن بن بدر مرتدين عن الإسلام وبايعه بنو عامر على مثل ذلك، وتربصوا ينظرون الوقعة بين المسلمين وبين بني أسد وفزارة. وقد كان أمر رسول الله الذين بعثهم على الصدقات قد جمعوا ما كان على الناس منها، فلما بلغهم وفاة رسول الله فأما عدي بن حاتم فتمسك بالإسلام وبقي في يده الصدقات، وكذلك الزبرقان بن بدر، وأما مالك بن نويرة فأرسل ما في يده وقال لقومه: قد هلك هذا الرجل فشأنكم بأموالكم، وقد كانت طيء وبنو سعد كلمهما عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فقالا ـ وهما كانا أحزم رأيا وأفضل في الإسلام رغبة من مالك بن نويرة ـ لقومهما: لا تعجلوا فإنه ليكونن لهذا الأمر قائم، فإن كان ذلك كذلك ألقاكم ولم تبدلوا دينكم ولم تعزلوا أمركم، وإن كان الذي تطلبون فلعمري إن ذلك أموالكم بأيديكم، لا يغلبنكم عليها أحد غيركم، وسكناهم بذلك حتى أتاهم خبر الناس واجتماعهم على أبي بكر بعد رسول الله وبيعة المسلمين إياه فبعثا ما بأيديهم من الصدقة إلى أبي بكر، فلم يزل أبو بكر يعرف فضلهما على من سواهما من المسلمين.

وجاء العباس وفاطمة إلى أبي بكر يلتمسان ميراثهما من النبي وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركناه صدقة. إنما يأكل محمد من هذا المال، وإني والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه فيه إلا صنعته فيه. فهرجته فاطمة ولم تكلمه حتى ماتت.

الفتوحات التي حدثت في عهد الخليفة أبي بكر الصديق

ثم جهز أبو بكر الجيش ليقاتل من كفر من العرب، فترك إعطاء الصدقات وارتد عن الإسلام، فقال له عمر: كيف تقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وقد سمعت رسول الله يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والذي نفس أبي بكر بيده! لو منعوني عقالا أو عناقا ـ كانو يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليه حتى آخذها، قال عمر: فلما رأيت شرح صدر أبي بكر لقتالهم علمت أنه الحق. فأمر أبو بكر على الناس خالد بن الوليد وأمر ثابت بن قيس بن شماس على الناس الأنصار وجمع أمر الناس إلى خالد بن الوليد، ثم أمرهم أن يسيروا وسار معهم مشيعا حتى نزل ذا القصة من المدينة على بريد وأميال فضرب معسكره وعبأ جيشه ثم تقدم إلى خالد بن الوليد وقال: إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم أذانا للصلاة فأمسكوا عنها حتى تسألوهم ما الذي يعلمون، وإن لم تسمعوا الأذان فشنوا الغارة واقتلوا وحرقوا، ثم أمر خالد بن الوليد أن يصمد لطليحة وهو على ماء من مياه بني أسد، وكان طليحة يدعي النبوة وينسج للناس الأكاذيب والأباطيل ويزعم أن جبريل يأتيه، وكان يقول للناس: أيها الناس! إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئا الأنصار واذكروا الله قعودا وقياما، وجعل يعيب الصلاة وهو يقول: إن الصريح تحت الرغوة، وكان أول ما ابتلى من الناس طليحة أنه أصلب هو وأصحابه العطش في منزلهم فيه، فقال طليحة فيما شجع لهم من أباطيله: اركبوا علالا يعني فرسا، واضربوا أميالا تجدوا قلالا، ففعلوا فوجدوا ماء، فافتتن الأعراب به، ثم قال أبو بكر لخالد بن الوليد: لآتيك من ناحية خيبر إن شاء الله فيمن بقي من المسلمين، وأراد أبو بكر أن يبلغ الخبر الناس بخروجه إليهم، ثم ودع خالدا ورجع إلى المدينة. ومضى خالد بالناس وكانت بنو فزارة وأسد يقولون: والله! لا نبايع أبا الفصيل ـ يعنون أبا بكر، وكانت طيء على إسلامها، لم تزل عنه مع عدي بن حاتم ومكنف بن زيد الخيل، فكانا يكالبانها ويقولان لبني فزارة: والله! لا نزال نقاتلكم إن شاء الله، فلما قرب خالد بن الوليد من القوم وبعث عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم أخا بني العجلان طليعة أمامه، وخرج طليحة بن خويلد المتنبئ وأخوه سلمة بن خويلد أيضا طليعة لمن وراءهما فالتقيا عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم فانفرد طليحة بعكاشة، وسلمة بن خويلد بثابت، فأما سلمة فلم يلبث ثابتا أن قتله، ثم صرخ طليحة وقال: يا سلمة! أعني على الرجل فإنه قاتلي، فاكتنفا عكاشة حتى قتلاه، وكرا راجعين إلى من وراءهما، فلما وصل خالد والمسلمون إلى ثابت بن أرقم وعكاشة بن محصن وهما قتيلان عظم ذلك على المسلمين وراءهم، ثم مضى خالد حتى نزل على طيء في خللهم سلمى، فضرب معسكره وانضم إليه من كان من المسلمين في تلك القبائل، ثم تهيأ للقتال وسار إلى طليحة وهو على مائة، والتقى معه طليحة في سبعمائة رجل من بني فزارة، فاقتتلوا قتالا شديدا وطليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر، يتنبأو يسجع، فهز عيينة بن حصن الحرب وشد القتال ثم كر على طليحة فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا، فرجع عيينة وقاتل حتى إذا هزته الحرب كر عليه ثانية وقال: لا أبا لك! هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم! قال: فماذا قال لك، قال: قال لي: إن لك رحى كرحاه، وحديثا لا تنساه، قال عيينة: أظن الله أنه قد علم أنه سيكون لك حديث لا تنساه يا بني فزارة هكذا، فانصرفوا فهذا والله كذاب، فانصرف وانصرفت معه فزارة وانهزم الناس، وكان طليحة قد أعد فرسا له عنده وهيأ بعيرا لامرأته النوار، ثم اجتمعت إليه فزارة وهم مبارزون فقالوا: ما تأمرنا فلما سمع منهم ذلك استوى على فرسه وحمل امرأته على البعير ثم نجا بها، وقال لهم: من استطاع منكم أن يفعل كما فعلت وينجو بأهله فليفعل. ثم سلك الحوشية حتى لحق بالشام وانصرفت فزارة، وقتل منهم من قتل، ثم دخلت القبائل في الإسلام على ما كانوا عليه من قبل.

فلما فرغ خالد من بيعتهم أوثق عيينة بن حصن وقرة بن هبيرة بن سلمة وبعث بهما إلى أبي بكر، فلما قدما عليه قال قرة: يا خليفة رسول الله! إني كنت مسلما، وإن عند عمرو بن العاص من إسلامي شهادة، قد مر بي فأكرمته وقربته، وكان عمرو بن العاص هو الذي جاء بخبر الأعراب، وذلك أن عمرا كان على عمان، فلما أقبل راجعا إلى المدينة مر بهوازن وقد انتقضوا وفيهم سيدهم قرة بن هبيرة، فنزل عليه عمرو بن العاص فنحر له وأقراه وأكرمه، فلما أراد عمرو الرحيل خلى به قرة بن هبيرة وقال: يا عمرو! إنكم معشر قريش إن أنتم كففتم عن أموال الناس وتركتموها لهم ـ يريد الصدقات ـ فقمن أن يسمع لكم الناس ويطيعوا، فإن أنتم أبيتم إلا أخذ أموالهم فإني والله ما أرى العرب مقرة بذلك لكم ولا صابرة عليه حتى تنازعكم أمركم ويطلبوا ما في أيديكم، فقال عمرو بن العاص: أبالعرب تخوفنا موعدك، أقسم بالله! لأوطئنه عليك الخيل. ثم مضى عمرو حتى قدم المدينة على أبي بكر وأخبره الخبر قبل خروج خالد إليهم، فتجاوز أبو بكر عن قرة ابن هبيرة وعيينة بن حصن وحقن لهما دماءهما.

ولما فرغ خالد بن الوليد من بيعة بني عامر وبني أسد قال: إن الخليفة قد عهد إلي أن أسير إلى أرض بني غانم، فسار حتى نزل بأرضهم وبث فيها السرايا فلم يلق بها جمعا، وأتى بمالك بن نويرة في رهط من بني تميم وبني حنظلة فأمر بهم فضربت أعناقهم وتزوج مكانه أم تميم وامرأة مالك بن نويرة، فشهد أبو قتادة لمالك بن نويرة بالإسلام عند أبي بكر، ثم رجع خالد يؤم المدينة فلما قدمها دخل المسجد وعليه درع معتجرا بعمامة وعليه قباء عليه صدأ الحديد، قد غرز في عمامته أسهما، فقام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال: أقتلت امرأ مسلما مالك بن نويرة ثم تزوجت امرأته؟ والله! لنرجمك بأحجارك، وخالد بن الوليد لا يكلمه ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأى عمر حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه أنه لم يعلم، فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان منه في حربه تلك، فخرج خالد من عنده وعمر جالس في المسجد فقال: هلم إلي ابن أم شملة! فعرف أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه فقام فدخل بيته.

ثم ماتت فاطمة بنت رسول الله بعد أبيها بستة أشهر فدفنها علي ليلا ولم يؤذن به أبا بكر ولا عمر، وكان لعلي جهة من الناس حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، فلما رأى انصراف الناس ضرع علي إلى مصالحة أبي بكر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا تأتنا معك بأحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدته، فقال عمر: لا تأتهم وحدك، فقال أبو بكر: والله! لآتينهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بي؟ فانطلق أبو بكر وحده حتى دخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده، فقام علي وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد! فإنه لم يمنعنا أن نبايعك إنكارا لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا حقا فاستبددت به علينا، ثم ذكر قرابته من رسول الله وحقهم، ولم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر، فلما صمت علي تشهد أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد! والله لقرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي، وإني والله ما أعلم في هذه الأمور التي كانت بيني وبين علي إلا الخير ولكني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذه المال قوتا. وإني والله لا أدع أمرا صنع فيه رسول الله إلا صنعته إن شاء الله، ثم قال: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر به،ثم قام علي فعظم من حق أبو بكر وذكر فضيلته وسابقته ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه، وأقبل الناس على علي فقالوا: أصبت وأحسنت.

ثم توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق وكان أصابه سهم بالطائف مع النبي رماه ابن محجن ثم دمل الجرح، فمات في شوال بعد الظهر ونزل حفرته عبد الرحمن بن أبي بكر وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، ودخل عمر على أبي بكر وهو آخذ بلسانه ينصنصه فقال له عمر: يا خليفة رسول الله ! الله الله! فقال أبو بكر: هذا أوردني الموارد.

فلما دخل شهر ذي الحجة حج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة، واشترى مولاه أسلم في حجته تلك ثم رجع إلى المدينة.

ثم وجه أبو بكر خالد بن الوليد إلى اليمامة وكان مسيلمة قد تنبأ بها في حياة رسول الله . وكان أمره ضعيفا، ثم وفد إلى النبي ورجع إلى قومه فشهد رجال بن عنفوة لأهل اليمامة أن رسول الله قد أشركه في الأمر فعظم فتنته عليهم.

وخرج خالد بن الوليد بالمهاجرين والأنصار حتى إذا دنا من اليمامة نزل واديا من أوديتهم فأصاب في ذلك الوادي مجاعة بن مرارة في عشرين رجلا منهم كانوا خرجوا يطلبون رجلا من بني تميم وكان أصاب لهم دما في الجاهلية فلم يقدروا بذلك الوادي فلم ينبههم إلا خيل المسلمين قد وقفت عليهم فقالوا: من القوم؟ فقالوا: بنو حنيفة، قال: فلا أنعم لكم علينا، ثم نزلوا فاستوثقوا منهم، فلما أصبح دعاهم خالد بن الوليد فقال: يا بني حنيفة! ما تقولون؟ فقالوا: منا نبئ ومنكم نبئ، فعرضهم خالد على السيف حتى بقي سارية ابن عامر ومجاعة بن مرارة. فقال له سارية: يا أيها الرجل! إن كنت تريد هذه القرية فاستبق هذا الرجل، وأوثق مجاعة في الحديد ودفعه أم تميم امرأته وقال: استوصي به خيرا، وضرب عنق سارية بن عامر، ثم سار بالمسلمين حتى نزل على كثيب مشرف على اليمامة وضرب معسكره هناك، وخرج أهل اليمامة مسيلمة وتصاف الناس، وكان خالد جالسا على سريره ومجاعة مكبل عنده والناس على مصافهم إذ رأى بارقة في بني حنيفة فقال خالد: أبشروا يا معشر المسلمين! قد كفاكم الله عدوكم واختلف القوم، فكر مجاع إليه وهو مكبل فقال: كلا والله إنها الهندوانية خشوا من تحطمها فأبرزوها للشمس لتلين لهم، فكان كما قال، فلما التقى الناس كان أول من خرج رجال بن عنفوة فقتل، واقتتل المسلمون قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون، وخلص أصحاب مسيلمة إلى الرحال ودخلوا فسطاط خالد بن الوليد وفيه مجاعة مكبلا عند أم تميم امرأة خالد، فحمل عليها رجل بالسيف فقال مجاعة: أنا لها جار فنعمت الحرة، عليكم بالرجال، فرحبلوا الفسطاط بالسيف، ثم إن المسلمين تداعوا فقال ثابت بن قيس بن شماس: بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء المسلمون، ثم أخذ سيفه حتى جالد به حتى قتل، ورأى زيد بن الخطاب انكشاف المسلمين عن رحالهم فتقدم فقاتل حتى قتل، وقام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك وكان البراء ـ فيما يقال ـ إذا حضر البأس أخذه انتفاض حتى يقعد عليه الرجال ثم يبول في سراويله، فإذا بال صار مثل السبع، فلما رأى ما صنع المسلمون من الانكشاف وما رأى من أهل اليمامة أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال، فلما بال وثب فقال: أين يا معشر المسلمين؟ أنا البراء بن مالك، هلموا إلي فاجتمع عنده جماعة من المسلمين فقاتل القوم قتالا شديدا حتى خلصوا إلى محكم اليمامة، وهو محكم بن الطفيل، فلما بلغه القتال قال: يا معشر حنيفة! الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات وينكحن غير حظيات، فما كان عندكم من حسب فأخرجوه، ثم تقدم فقاتل قتالا شديدا فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر بسهم فوضعه في نحره فقتله، وزحف المسلمون حتى ألجأوهم إلى الحديقة وفيها مسيلمة، فقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين! ارموني عليهم في الحديقة، فقال الناس: لا تفعل يا براء! فقال: والله أفعل فاحتمل حتى أشرف على الجدار فاقتحم فقاتلهم حتى فتحها الله للمسلمين، ودخل عليهم المسلمون، وقتل مسيلمة، اشترك وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار في قتله، فرماه وحشي بحربته وضربه الأنصاري بسيف، فكان وحشي يقول: ربك أعلم أينا قتله! قتلت: خير الناس وشر الناس.

فلما فرغ المسلمون من مسيلمة، وأتى خالدا الخبر فخرج بمجاعة في الحديد يرسف معه ليدله على مسيلمة، وكان يكشف القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل، وكان رجلا وسيما فقال خالد: هذا صاحبكم، فقال مجاعة: لا! هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكم اليمامة، ثم دخلوا الحديقة وقلبا القتلى فإذا رويجل أصيفر أخينس فقال مجاعة: إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس وإن جماهير الناس في الحصون، فقال: ويلك ما تقول؟ قال: والله إن ذلك لحق، فهلم أصالحك على قومي، فصالحه خالد بن الوليد على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي، ثم قال لمجاعة: امض إلى القوم فاعرض ما صنعت، فانطلق إليهم ثم قال للنساء: البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون، ثم انتهى إلى خالد قال: إنهم لم يرضوا على مصالحتك عليه، ولكن إن شئت شيئا صنعت وعرضت على القوم! قال: ما هو؟ قال: تأخذ ربع السبي ربعا، قال خالد: قد فعلت! قال: قد صالحتك، فلما فرغا دخلوا الحصن فإذا ليس رجل واحد رماهم إلا النساء والصبيان، فقال خالد لمجاعة: خدعتني، قال: قومي.

ثم بعث أبو بكر إلى خالد بن الوليد بسلمة بن سلامة بن وقش يأمره أن لا يستبقي من بني حنيفة رجلا قد أنبت، فأتاه سلمة وقد فرغ خالد من الصلح.

ثم إن خالدا قد بعث وفدا من بني حنيفة إلى أبي بكر فقدموا عليه فقال أبو بكر: ويحكم! ماهذا الرجل الذي استزل منكم ما استزل، قالوا: يا خليفة رسول الله! قد كان الذي بلغك، وكان امرءا لم يبارك الله له ولا لعشيرته فيه قال أبو بكر: على ذلك ما دعاكم إليه؟ قالوا: كان يقول: يا ضفدع نقي نقي! لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم يعتدون، فقال أبو بكر: سبحان الله سبحان الله. فلما فرغ خالد من الصلح نزل واديا من أودية اليمامة، فبينما هو قاعد إذ دخل عليه رجل من بني حنيفة يقال له سلمة بن عمير فقال لمجاعة: استأذن لي على الأمير، فإن لي إليه حاجة، فأتى عليه مجاعة، ثم قال مجاعة: إني والله لأعرف الشر في وجهه، ثم نظر فإذا هو مشتمل على السيف فقال: ما لك لعنك الله! أردت أن تستأصل بني حنيفة، والله لئن قتلته ما ترك في بني حنيفة صغير ولا كبير إلا قتل، فانقلب الرجل ومعه سيفه، فوقع في حائط من حوائط اليمامة وحبس به المسلمون فدخلوا خلف الحائط فقتل.

وكان من استشهد من المسلمين يوم اليمامة من قريش ممن يحضرنا ذكرهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة، وشجاع بن وهب بن ربيعة ومالك بن عمرو، ويزيد بن قيس، وصفوان بن أمية بن عمرو، وأخوه مالك بن أمية، والطفيل بن عمرو الدوسي وجبير بن مالك وأمه بحينة، ويزيد بن أوس، وحيي بن حارثة، والوليد بن عبد شمس بن المغيرة، وحكيم بن حزام بن أبي وهب، وزيد بن الخطاب بن نفيل، وعبد الله بن عمرو بن بحرة، وعبد الله بن الحارث بن قيس، وأبو قيس بن الحارث، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسليط بن سليط بن عمرو، وعمرو بن أوس بن سعد بن أبي سرح، وربيعة بن أبي خرشة، ومنقذ بن عمرو بن عطية وعبد الله بن الحارث بن رخصة.

واستشهد من الأنصار يوم اليمامة ثابت بن قيس بن شماس، وعباد بن بشر ابن وقش، ورافع بن سهل، وعبد الله بن عتيك، وحاجب بن زيد، وسهل بن عدي، ومالك بن أوس ومعن موليان لهم، وفروة بن العباس، وكليب بن تميم، وعامر بن ثابت، وبشر بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وعبد الله بن عتبان، وثابت بن هزال، وأسيد بن يربوع، وأوس بن ورقة، وسعد بن حارثة بن لوذان، وسماك بن خرشة أبو دجانة وسعد بن حمار، وعقبة بن عامر بن نابي، وضمرة بن عياض، وعبد الله بن أنيس، ومسعود بن سنان، وحبيب بن زيد وأبو حبة بن غزية بن عمرو، وعمارة بن حزم بن زيد ويزيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد رمي بسهم فمات في الطريق، وثابت بن خالد بن عمرو بن خنساء، وفروة بن النعمان بن الحارث، وعائذ بن ماعص الزرقي، وحبيب بن عمرو بن محصن.

ثم انصرف خالد بن الوليد بالمسلمين حتى قدم المدينة على أبي بكر، وارتدت ربيعة بالبحرين فيمن ارتد من العرب إلا الجارود بن عمرو بن خنش بن معلى فإنه ثبت على الإسلام فيمن تبعه من قومه، وقالت ربيعة بعضها لبعض: نرد الملك إلى المنذر بن ساوى، وكان المنذر ملكهم في حياة رسول الله فبعث رسول الله العلاء بن الحضرمي فأسلم المنذر، وأقام العلاء بها إلى أن قبض رسول الله ، فملك ربيعة المنذر بن النعمان بن المنذر بن ساوى وجمع جمعهم على الارتداد، فلما بلغ أبا بكر خبرهم، بعث إليهم العلاء بن الحضرمي وأمره بثمامة بن أثال الحنفي وكان قد أسلم ثمامة وأسلم بنو سحيم معه، فلما مر العلاء بثمامة بن أثال معه من اتبعه من قومه من بني سحيم وسارت ربيعة إليهم فحاصروهم بجواثا ـ حصن بالبحرين، وأصاب المسلمون جهدا شديدا من الجوع حتى كادوا أن يهلكوا فخرج عبد الله بن حذف ليلة من الليالي يتجسس أخبارهم ويجيء المسلمين بالخبر، فأتى الحصن واحتال في دخوله فوجدهم سكارى فرجع، فأخبر المسلمين أن القوم سكارى لا غناء بهم، فبيتهم العلاء بن الحضرمي فيمن معه من المسلمين وقاتلوهم قتالا شديدا حتى فتح الله على المسلمين حصنهم، وقسم العلاء بن الحضرمي الغنيمة بالبحرين وجمع بها صلاة الجمعة.

وخرج الأسود بن كعب العنسي في كندة فباع الناس والمهاجر بن أبي أمية أميرها، وسمعت كندة بذلك واتفقت أيضا مع من اتبع الأسود على نصره، وكان على حضرموت زياد بن لبيد البياضي، فلما رأى ذلك منهم بيتهم بالليل وقتل منهم أربعة من الملوك في محاجرهم: جمدا ومحوصا ومشرحا وأبضعة، ثم كتب المهاجر بن أبي أمية إلى أبي بكر يخبره بانتفاض الناس ويستمد منه فبعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل في جيش معه إلى المدينة، وكانت قطعة من كندة ثبتت على الإسلام مع زياد بن لبيد وقطعة مع المهاجر بن أبي أمية وزياد بن أبي لبيد بالحرب، فلما اشتد عليهم الحصار نزل إليهم الأشعث بن قيس وسألهم الأمان على دمه وأهله وماله حتى يقدموه على أبي بكر فيرى فيه رأيه وأن يفتح النجير، ففعلوا ذلك وفتح النجير واستزلوا من فيه من الملوك وضربت أعناقهم، واستوثقوا من الأشعث بن قيس وبعثوا به إلى أبي بكر مع السبي، وقتل الأسود بن كعب العنسي في بيته، فلما قدم الأشعث على أبي بكر قال أبو بكر: فما تأمرني أن أصنع فيك فإنك فعلت ما علمت؟ قال الأشعث: تمن علي وتفكني من الحديد وتزوجني أختك، فإني قد راجعت وأسلمت، قال أبو بكر: قد فعلت، فزوجه أخته فروة بنت أبي قحافة.

ثم قدم أهل البحرين على أبي بكر يفتدون سباياهم أربعمائة، فخطب أبو بكر الناس فقال: أيها الناس! ردوا على الناس سباياهم، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيب عنه منهم أحد، ثم جاء جابر بن عبد الله أبا بكر فقال: إن رسول الله قال: إن جاءنا مال من البحرين أعطيناك هكذا وهكذا، فحرز له أبو بكر [ هكذا ] خمسمائة درهم، فأعطاه من مال البحرين ألفا وخمسمائة درهم. ثم اعتمر أبو بكر في رجب وخرج هو وعبد الرحمن بن صبيحة على راحلتين واستخلف على المدينة عمر بن الخطاب، وقدما مكة ضحوة، وخرج منها قبل الليل. ومات أبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب. وتزوج عمر ابن الخطاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل. ثم خرج أبو بكر سنة اثنتي عشرة، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان وخرج لليلتين بقيتا من ذي القعدة، وأحرم من ذي الحليفة، وقدم مكة لسبع خلون من ذي الحجة، وكان قد ساق معه عشر بدنات، فخطبهم قبل التروية بيوم في المسجد الحرام، وأمرهم بتقوى الله ونهاهم عن معصيته المسلمين وعظم عليهم حرمة الإسلام وأمرهم بالقصد في مسيرهم والترفق، وتلا عليه آيات من القرآن، ثم قال: من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى غدا فليفعل، ثم حج لهم ونحر البدن ورمى الجمار ماشيا ذاهبا وجائيا.

ومات أبو العاص بن الربيع في ذي الحجة وكان يسمى جرو البطحاء وأوصى إلى الزبير بن العوام، فزوج الزبير ابنته علي بن أبي طالب.

ثم قفل أبو بكر من الحج إلى المدينة، فلما قدمها كتب إلى خالد بن الوليد يريد العراق، وقد قيل: إنه قد قدم المدينة ثم خرج إلى العراق، فلما بلغ خالد بن الوليد إلى قريات من السواد يقال لهن بانقياء باروسما وأليبس صالح أهلها وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا، فقبل منهم الجزية وكتب له كتابا ـ بسم اله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من خالد بن الوليد لابن صلوبا السوادي ومنزله بشاطئ الفرات أنك آمن بأمان الله ممن حقن دمه بإعطاء الجزية، وقد أعطيت عن نفسك ومن كان في قريتك ألف درهم فقبلناها، ورضي من معي من المسلمين بها عنك، فلك ذمة الله وذمة محمد وذمم المسلمين على ذلك، وشهد هشام بن الوليد، ثم أقبل خالد حتى نزل الحيرة وكان عليها قبيصة بن إياس بن حية الطائي أميرا لكسرى فخرج إليه بأشرافهم، فقال لهم خالد: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، وإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيتك بأقوام أحرص على الموت منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم، فقال له قبيصة بن إياس: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا ونعطيك الجزية، فصالحهم على تسعين ألف درهم كل سنة، فكانت أول جزية وقعت بالعراق هذه والتي صالح عليها ابن صلوبا.

وبعث أبو بكر بعد قفوله من الحج الجنود إلى الشام فبعث عمرو بن العاص إلى فلسطين فأخذ طريق المعرقة على أيلة، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة ابن الجراح وشرحبيل بن حسنة إلى الشام وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشام، وبعث خالد بن سعيد بن العاص على ربع من الأرباع، فلم يزل عمر بن الخطاب بأبي بكر حتى عزله وأمر مكانه ابن أبي سفيان وخرج أبو بكر مع يزيد بن أبي سفيان يوصيه ويزيد راكب، قال: أيها الأمير! إما أن تركب وإما أن أنزل! فقال: ما أنت بنازل ولا أنا براكب، أليست خطاي هذه في سبيل الله! ثم قال: يا يزيد! إنكم ستقدمون بلادا فإذا أكلتم الطعام فسموا الله على أولها واحمدوه على آخرها، وستجدون قوما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم، وستجدون أقواما قد اتخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعد. يعني الشمامة ـ فاضربوا تلك الأعناق، ولا تقتلن كبيرا هرما ولا امرأة ولا وليدا ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع، ولا تخربن عمرانا، ولا تقطعن بحرا إلا لنفع، ولا تغل ولا تغدر ولا تخن ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز أقرئك السلام وأستودعك الله! ثم انصرف أبو بكر ومضى يزيد بن أبي سفيان وتبعه شرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة بن الجراح فردا فردا، ونزل عمرو بن العاص في قصره بغمر العربات، ونزل الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفا عليهم تذراق أخو هرقل لأبيه وأمه فكتب عمرو بن العاص إلى أبي بكر يذكر له أمر الروم ويستمده، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو يأمره أن يمد أهل الشام فيمن معه من أهل القوة ويستخلف على ضعفة الناس رجلا منهم، فلما أتاه كتاب أبي بكر قال خالد هذا عمل الأعيسر ابن أم شملة ـ يعني عمر بن الخطاب ـ حسدني أن يكون فتح العراق على يدي، فسار خالد بأهل القوة من الناس، ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة، وأمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري، واستخلف على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني، فلما بلغ خالد بمن معه عين النمر أغار على أهلها فأصاب منهم، ورابط حصنا بها فيه مقاتلة لكسرى حتى استنزلهم وضرب أعناقهم وسبى منهم سبايا كثيرة، وكان من تلك السبايا أبو عمرة والد عبد الأعلى بن أبي عمرة، ويسار جد محمد بن إسحاق وحمران بن أبان مولى عثمان، وأبو عبيد مولى المعلى، وخير مولى أبي داود الأنصاري، وأبو عبد الله مولى زهرة.

فأراد خالد المسير والتمس دليلا فدل على رافع بن عميرة الطائي فقال له خالد: انطلق بالناس، فقال له رافع: إنك لا تطيق ذلك بالجنود والأثقال، والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه وما يسلكها إلا مغررا! إنها لخمس ليال جياد ولا يصاب فيها ماء مع مضلتها، قال له خالد: ويحك! ألا بد لي منها؟ إنه قد أتاني من الأمير عزمة بذلك، فمر بأمرك، فقال رافع: استكثروا من الماء، من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل، فإنها المهالك إلا ما دفع الله، فتأهب المسلمون وسار خالد بمن معه، فلما بلغوا آخر يوم من المفازة قال خالد لرافع بن عميرة: ويحك يا رافع! ما عندك؟ قال: أدركت الري ـ إن شاء الله! فلما دنا من العلمين قال رافع للناس: انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل فلم يروا شيئا، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! هلكتم والله إذا وهلكت! انظروا فاطلبوها، فطلبوا فوجدوها قد قطعت وبقي منها بقية، فلما رآها المسلمون كبروا وكبر رافع بن عميرة، ثم قال: احفروا في أصلها، فحفروا فاستخرجوا عينا فشربوا حتى روي الناس، ثم اتصل بعد ذلك لخالد المنازل فقال رافع: فو الله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة! وردتها مع أبي وأنا غلام، فلما بلغ الخالد والمسلمون إلى سوي أغار على أهله وهم بهراء قبيل الصبح وإذا جماعة منهم يشربون الخمر في جفنة لهم قد اجتعوا عليها ومغنيهم يقول:

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر لعل منايانا قريب ولا ندري

فقتلهم خالد بن الوليد وقتل مغنيهم وسال دمه في تلك الجفنة، ثم سار خالد حتى أغار على غسان بمرج راهط حتى نزل على قناة بصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، وخرج خالد بن سعيد ابن العاص بمرج الصفر في يوم مطير يستمطر فيه فتعاوى عليه أعلاج الروم فقتلوه، واجتمع خالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان معهم حتى صالحته بصرى على الجزية وفتحها الله للمسلمين، فكانت تلك أول مدينة فتحت بالشام، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص وعمرو مقيم بالعربات من غور فلسطين وسمع الروم باجتماع المسلمين لعمرو ابن العاص فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين، وأجنادين بلد بين الرملة وبيت جبرين من أرض فلسطين وسار المسلمون إلى أجنادين وكان الأمراء أربعة والناس أرباعا إلا عمرو بن العاص كان يزعم أنه جميعهم....

فلما اجتمعت العساكر وتدانت، بعث صاحب الروم رجلا عربيا ليأتي بخبر المسلمين، فخرج الرجل ودخل مع المسلمين وأقام فيهم يوما وليلة لا ينكر، ثم أتى الروم فقالوا له: ما وراءك؟ فقال: أما بالليل فرهبان، وأما بالنهار ففرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه، لإقامة الحق فيهم.

ثم تزاحف الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فقال صاحبهم لهم: لفوا رأسي في ثوب، قالوا له: ولم؟ قال: يوم موقف البئيس لا أحب أن أراه، ما رأيت في الدنيا أشد منه، وكانت الهزيمة على الروم، فلقد قتل صاحبهم وإنه لملفف في ثوبه، وكان لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، فقتل بأجنادين من المسلمين: نعيم بن عبد الله النحام، وهشام بن العاص بن وائل وعمرو بن عكرمة والطفيل بن عمرو الدوسي وعبد الله بن عمرو حليف لهم، وجندب بن عمرو بن حممة الدوسي وضرار بن الأزور وطليب بن عمرو بن وهب، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وهبار بن سفيان بن الأسود، والحارث بن الحارث، والحجاج بن الحارث وقيس بن صخر، ونعيم بن عامر.

استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه

وهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن فرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو حفص العدوي، وأم عمر حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل بن هشام. حدثنا محمد بن القاسم الدقاق بالمصيصة: ثنا يوسف بن سعيد بن مسلم ثنا هارون بن زياد الحنائي ثنا الحارث بن عمير عن حميد عن أنس قال: قال النبي : اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.

قال أبو حاتم: فلما حانت منية أبي بكر رحمة الله عليه اغتسل قبلها يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الأخرة وكان يوما باردا فحم خمسة عشر يوما حتى قطعته العلة عن حضور الصلاة وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، وكان الناس يعودونه وهو في منزله الذي أقطع له النبي وجاه دار عثمان بن عفان اليوم، فبينا هو في ليلة من الليالي عند نسائه أسماء بنت عميس وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير وبناته أسماء وعائشة وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر إذ قالت عائشة: أتريد أن تعهد إلى الناس عهدا؟ قال: نعم، قالت: فبين للناس حتى يعرفوا الوالي بعدك، قال: نعم، قالت عائشة: إن أولى الناس بهذا الأمر بعدك عمر، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: إن قريشا تحب ولاية عثمان بن عفان، وتبغض ولاية عمر لغلظه، فقال أبو بكر: نعم الوالي عمر، وما هو بخير له أن يلي أمة محمد، أما إنه لا يقوى عليهم غيره، إن عمر رآني لينا فاشتد، ولو كان واليا للان لأهل اللين واشتد على أهل الريب، فلما أصبح دعا نفرا من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر، منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوفو سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فقال لعبد الرحمن بن عوف: يا أبا محمد أخبرني عن عمر! فقال: يا خليفة رسول الله! هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة، فقال لعبد الرحمن بن عوف ذلك لأنه رآني لينا فاشتد، ولو آل إليه الأمر لترك كثيرا مما هو عليه اليوم، إني إذ غضبت على الرجل أراني الرضاعنه وإذا لنت له أراني الشدة عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما ذكرت لك شيئا، قال: نعم، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: يا أبا عبد الله! أخبرني عن عمر، فقال أنت أخبر به، فقال أبو بكر: فعلي ذلك، قال: إن علمي أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله، قال: يرحمك الله يا أبا عبد الله! لا تذكر مما ذكرت لك شيئا، قال: أفعل، فقال له أبو بكر: لو تركته ما عدوتك، وما أدري لعلي تاركه، والخيرة له أن لا يلي أمركم، ولوددت أني خلو من أمركم، وأني كنت فيمن مضى من سلفكم، ثم قال لعثمان: اكتب: هذا ماعهد عليه أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد، ثم أغمي عليه فذهب عنه فكتب عثمان: أما بعد، فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا، ثم فاق أبو بكر فقال: اقرأ علي، فقرأ عليه ذكر عمر، فكبر أبو بكر فقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا! ثم رفع أبو بكر يديه فقال: اللهم! وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به، وقد حضر من أمري ما قد حضر، فاجتهدت لهم الرأي فوليت عليهم خيرهم لهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على رشدهم، ولم أرد محاباة عمر، فاجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدى نبي الرحمة وهدى الصالحين بعده وأصلح له رعيته، وكتب بهذا العهد إلى الشام إلى المسلمين إلى أمراء الأجناد أن قد وليت عليكم خيركم ولم آل لنفسي ولا للمسلمين خيرا.

وأوصى أن تغسله أن أسماء بنت عميس، ثم نادى عمر بن الخطاب فقال له: إني مستخلفك على أصحاب رسول الله ، يا عمر، إن الله حقا في الليل لا يقبله في النهار، وحقا في النهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، يا عمر، إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غير الحق أن يكون ثقيلا، يا عمر، إنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه غير الباطل أن يكون خفيفا، ياعمر! إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا، فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله فيها ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقى فيها يديك، يا عمر، إنما ذكر الله أهل النار بأسوإ أعمالهم ردا عليهم ما كان من خير، فإذا ذكرتهم قلت: لأرجو أن لا أكون منهم، وإنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ، فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل! فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الحاضر من الموت ولست بمعجزه.

وتوفي أبو بكر رضي الله عنه ليلة الاثنين لسبع خلت من جمادى الآخرة، وله يوم مات اثنتان وستون سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر واثنان وعشرون يوما، وكان مرضه خمس عشرة ليلة، وغسلته أسماء بنت عميس، وكفن في ثلاث أثواب، ونزل في قبره عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر، ودفن ليلا بجنب رسول الله ، وأراد ابن عمر أن ينزل قبر أبي بكر مع أبيه فقال له عمر: قد كفيت، وكان أبو قحافة بمكة فسمع الهائعة فقال: ماهذا؟ فقيل: مات ابنك، فقال: رزء جليل، فإلى من عهد؟ قالوا: لعمر: صاحبه، وورثه أبو قحافة السدس، وكان من عمال أبي بكر يوم توفي عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، والعلاء بن الحضرمي على البحرين، ويعلى بن أمية على خولان ومهاجر بن أبي أمية على صنعاء وزياد بن لبيد على حضرموت، وعمرو بن العاص على فلسطين، وعلى الشام أربعة نفر من الأجياد: خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، ومات أبو كبشة مولى رسول الله في اليوم الذي دفن فيه أبو بكر.

ثم قام عمر بن الخطاب في الناس خطيبا وهي أول خطبة خطبها بعدما استخلف، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس! إني لا أعلمكم من نفسي شيئا تجهلونه، أنا عمر بن الخطاب وقد علمتم من هيئتي وشأني، وإن بلاء الله عندي في الأمور كلها حسن، وقد فارقني رسول الله وهو عني راض بحمد الله ولم يجد علي في شيء من خلقي وأنا أسعد الناس بذلك إن شاء الله، وقمت لخليفته من بعده بحق الطاعة وأحسنت له المؤازرة، ولم أحرص على القيام عليكم كالذي حرص علي ولكن خليفتكم المتوفى أوصى إلي بالخلافة عليكم برضى منكم، وآلوه الهمة، ذلكم وإياكم، ولولا الذي أرجو أن يأجرني الله في قيامي عليكم لم أقم عليكم ولنحيته عن نفسي ووليته غيري، وقد كنت أرى فيكم أمورا على عهد نبيكم كدت أكرها، ويسوءني منكم، فقد رأيتم تشددي فيها، والأمر الذي أمربه من فوقي، أريد طاعة الله وإقامة الدين فأطعتكم، قد علمتم ـ أو من علم ذلك منكم ـ أني قد كنت أفعل ذلك وليس لي عليكم من سلطان واكن أهن في شيءمنه، وقد ولاني الله اليوم أمركم ولقد علمت أني أفع بحضرتكم لكم، فإني أسأل الله ربي أن يعينني عليه وأن يحرسني عندما بقي كما حرسني عند غيره، وأن يلقنني العقل في قسمكم كالذي أمر به، ثم إني مسلم وعبد من عبيده ضعيف إلا ماأعان الله، ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله، وإنما العظمة لله، ليس للعباد منها شيء فلا يقولن أحد منكم: إن عمر بن الخطاب تغير لما ولي أمر المسلمين، فمن ظلمته مظلمة فإني أعطيه الحق من نفسي وأتقدم عليكم وأبين لكم أمري، أيما رجل كانت له حاجة إلى أمير المؤمنين أو ظلم بمظلمة أو عتب علينا في حق فليؤذني، فإنما أنا امرؤ منكم، ولم يحملني سلطاني الذي أنا عليه أن أتعظم عليكم، وأغلق بابي دونكم، وأترك مظالمكم بينكم، وإذا منع الله أهل الفاقة منكم اليوم شيئا بعد اليوم فإنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم، لست وإن كنت أمير المؤمنين ولن أخفي إبقاء، إن كان بيني وبين أحد منكم خصومة أقاضيه إلى أحدكم ثم أقنع بالذي يقضي بيننا فاعلموا ذاك، وإنكم قوم مسلمون على شريعة الإسلام، ثم عليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم وحرماتكم التي حرم الله عليكم من دمائكم وأموالكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحملن بعضكم بعضا إلى أن يوقع إلى السلطان شأنه، فليستعد بي فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة من منع نفسه حقا واجبا عليه أو استحيل من دماء المسلمين وأعراضهم وأبشارهم فأنا أقتص منه وإن كان يدلي إلي بقرابة قريبة، ثم إنكم ـ معشر العرب ـ في كثير منكم جفاء في الدين وخرق في الأمور إلا من عصمة الله برحمة، وإني قد جعلت بسبيل أمانة عظيمة أنا مسؤول عنها، وإنكم أيها الناس لن تغنوا عني من الله شيئا وإني حثيث على صلاحكم، عزيز علي ماعنتم، حريص علي معافاتكم وإقامة أموركم، وإنكم إناء من حصل في سبيل الله، عامتكم أهل بلد لا زرع فيها ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه وإن الله قد وعدكم كرامة كبيرة ودنيا بسيطة لكم، وإني مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ولا أستطيع ما بعد منها إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للشاهد والغائب، ولست أجعل أمانتي إلى أحد ليس لها بأهل، ولن أوليه ذلك ولا أجعله إلا من تكون رغبته في أداء الأمانة والتوقير للمسلمين، أولئك أحق بها ممن سواهم، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ولما ورد كتاب أبي بكر الشام على أمراء الأجناد باستخلاف عمر بايعوه وأطاعوه، ثم ساروا إلى فحل من أرض الأردن وقد اجتمع بها الروم والمسلمون عليهم الأمراء الأربعة وخالد بن الوليد على مقدمة الناس، فلما نزلت الروم بيسان بثقوا أنهارها وهي أرض سبخة فكانت وحلة فغشيها المسلمون ولم يعلموا بما فعلت الروم، فزلقت فيها خيولهم، ثم سلمهم الله، والتقوا هم والروم بفحل فاقتتلوا فهربت الروم ودخل المسلمون فحلا، وانكشفت الروم إلى دمشق، وغنم المسلمون غنائم كثيرة.

وكتب خالد بن الوليد إلى عمر أن الناس قد اجترأوا على الشراب، فاستشار عمر أصحابه عليا وعثمان والزبير وسعدا فقال علي: إذا شرب سكر، وإذا سكر افترى، وإذا افترى فعليه ثمانون، فأثبت عمر الحد ثمانين.

ثم كانت وقعة الجسر، وذلك أن المثنى بن حارثة الشيباني قدم على عمر ابن الخطاب من العراق وقال يا أمير المؤمنين! إنا بأرض فارس قد نلنا منهم واجترأنا عليهم ومعي من قومي جماعة، فابعث معي ناسا من المجاهدين والأنصار يجاهدون في سبيل الله، فقام عمر بن الخطاب فحمد الله وأثنى عليه ثم دعا الناس إلى الجهاد ورغبهم فيه وقال: إنكم أيها الناس قد أصبحتم في دار غير مقام بالحجاز، وقد وعدكم الله على لسان نبيه كنوز كسرى وقيصر، فسيروا إلى أرض فارس، فسكت الناس لما ذكرت فارس، فقام أبو عبيد بن مسعود الثقفي فقال: ياأمير المؤمنين! أنا أول من انتدب من الناس، حتى اجتمعوا وأجمعوا على المسير ثم قال: يأمير المؤمنين! اجتمع الناس، أمر عليهم رجلا من المهاجرين أو من الأنصار، فقال: لا أومر عليهم إلا أول من انتدب منهم، فأمر أبا عبيدة فقال: إنه لم يمنعني أن أستعمل عليهم سليط بن قيس إلا أنه رجل فيه عجلة إلى القتال، فأخاف أن يوقع الناس موقعا يهلككم، فاستشره، ثم سار أبو عبيد مع المثنى بن حارثة الشيباني والمسلمون معهما حتى إذا انتهى إلى بلاد قومه قام معه ربيعة فسار بهم وسارأبوعبيده بالناس حتى نزلوا باليمن وفيها مسلحة الأعاجم، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، فانهزمت العجم، ثم بعث أبو عبيد بمن معه من المسلمين فالتقيا، فاقتتلوا فهزم الجالنوس وأصحابه، ودخل أبو عبيد باروسما حصنا لهم، ونزل هو وأصحابه فيه.

ثم بعث الأعاجم ذا الحاجب وكان رئيس الأعاجم رستم، فلما بلغ أبا عبيد مسيرهم إليه انحاز بالناس حتى عبر الفرات فنزل في المروحة، وأقبلت الأعاجم حتى نزلت خلف الفرات، ثم إن أبا عبيد حلف: ليقطعن إليهم الفرات، فناشده سليط بن قيس وقال: أنشدك الله في المسلمين أن تدخلهم هذا المدخل! فإن العرب تفر وتكر، فاجعل للناس مجالا، فأبي أبو عبيد وقال: جبنت والله يا سليط! قال: والله ما جبنت! ولكن قد أشرت عليك بالرأي، فاصنع بما بدا لك، فعمد أبو عبيد إلى الجسر الذي عقد له ابن صلوبا، فعبر عليه المسلمون فلما التقوا شد عليهم الفيل، فلما رأى أبوعبيد ما يصنع الفيل قال: هل لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا: نعم، إذا قطع مشفرها ماتت، فشد على الفيل فضرب مشفره فبرك عليه الفيل فقتله، وهرب المسلمون منهزمين فسبقهم عبد الله ابن مرثد الخثعمي إلى الجسر فقطعه، فقال له الناس: لم فعلت هذا؟ قال: لتقاتلوا عن أميركم.

ولما قتل أبو عبيد أخذ الراية المثنى بن حارثة فانحازوا ورجعت الفرس، ونزل المثنى بن حارثة أليس وتفرق الناس فلحقوا بالمدينة، فأول من قدم المدينة بخبر الناس عبد الله بن حصين الخطمي، فجزع المسلمون من المهاجرين والأنصار بالفرار، وكان عمر يقول: لا تجزعوا! أنا فئتكم إنما انحزتم إلي.

وكان ممن قتل بالجسر: أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وابنه جبر بن أبي عبيد وأسعد بن سلامة، وسلمة بن أسلم بن حريش، والحارث بن عدي بن مالك، والحارث بن مسعود بن عبدة، ومسلم بن أسلم، وخزيمة بن أوس، وأنيس بن أوس بن عتيك بن عامر وعمر بن أبي اليسر، وسلمة بن قيس، وزيد بن سراقة بن كعب، والمنذر بن قيس، وضمرة بن غزية بن عمرو، وسهل بن عتيك، وثعلبة بن عمرو بن محصن، وحج بالناس عمر بن الخطاب السنة الرابعة عشرة.

فلما دخلت السنة الرابعة عشرة سار المسلمون إلى دمشق وخالد بن الوليد على مقدمة الناس، وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان بدمشق، فعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد وأمر أبو عبيدة بن الجراح على جميع الناس، فاستحى أبو عبيدة أن يقرى خالدا الكتاب وقال: أصبر حتى يفتح بن دمشق، فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم الروم وتحصنوا، فرابطها المسلمون حتى فتحت صلحا، وأعطوا الجزية، وكان قد أخذ الأبواب عنوة، وجرى الصلح على يدي خالد، وكتب الكتاب باسمه، ولحق باهان بهرقل، وكان ذلك في رجب، ومدة حصاره دمشق ستة أشهر، فلما فرغ المسلمون من دمشق أقرأ أبو عبيدة خالدا الكتاب، فانصرف خالد إلى المدينة، وقد قيل: إن الصلح جرى على يد أبي عبيدة.

ثم خرج عمر على الناس فقال: إني وجدت من عبيد الله ابن ريح شراب وإني سائل عنه، فإن كان مسكرا جلدته، قال السائب بن يزيد: فشهدته بعد ذلك يحده، وكان الذي حده عبد الرحمن بن عبد ثم ضرب أبا محجن الثقفي وربيعة بن أمية بن خلف المخزومي، وحدهم في الخمر.

ثم أمر عمر من كان بالبلدان التي افتتحت أن يصلوا فيها التراويح في شهر رمضان، وصلى بالناس بالمدينة كذلك.

ثم قدم جرير بن عبد الله البجلي من اليمن على عمر في ركب من بجيلة فقال لهم عمر: إنكم قد علمتم ما كان من المصيبة في إخوانكم بالعراق، فسيروا إليهم وأنا أخرج لكم من كان منكم في قبائل العرب، قالوا نفعل يا أمير المؤمنين، فأخرج إليهم قيسا وكندة وعرينة، وأمر عليهم جرير بن عبد الله البجلي، فسار بهم إلى الكوفة، فلما بلغ قريبا من المثنى بن حارثة كتب له المثنى: أقبل إلي إنما أنت لي مدد، فكتب إليه جرير: إني لست فاعلا إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين: أنت أمير وأنا أمير! ثم سار جرير نحو الجسر فلقيه مهران بن باذان عند النخيلة فاقتتلوا قتالا شديدا، وشد المنذر بن حسان على مهران فطعنه فوقع عن دابته، واقتحم عليه جرير بن عبد الله فاحتز رأسه، فاشتركا جميعا في سلبه.

ثم إن عمر بن الخطاب أمر سعد بن أبي وقاص على العراق ومعه ستة آلاف رجل، وكتب إلى المثنى بن حارثة وجرير بن عبد الله أن اجتمعا إلى سعد، فسار سعد بالمسلمين، وسار المنذر وجرير إليه، حتى نزل سعد بشراف وشتا بها واجتمع إليه الناس، وتزوج سعد امرأة المثنى سلمى بنت حفصة، ثم حج بالناس عمر بن الخطاب.

فلما دخلت السنة الخامسة عشرة كان فيها وقعة اليرموك، وذلك أن الروم سار بهم هرقل حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلى وعاملة وغسان، ومن معه من أهل أرمينية بشر كثير، فأقام بأنطاكية، وسار أبو عبيدة بن الجراح في المسلمين إليهم في أربعة وعشرين ألفا، وكان الروم مائة ألف، فالتقوا باليرموك فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كانت نساء قريش يضربن بالسيوف، وكان أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد، فجعل ينادي في المعركة: يا نصر الله! اقترب، حتى أنزل الله نصره وهزم الروم، فقتل من الروم ومن معه من أهل أرمينية والمستعربة سبعون ألفا، وقتل الله الصقلار وباهان رئيسين لهم.

ثم بعث أبو عبيدة بن الجراح عياض بن غنم في طلبهم، فسلك الأعماق حتى بلغ ملطية، فصالح أهلها على الجزية، فسمع هرقل بذلك فبعث إلى ملطية فساق من فيها من المقاتلة وأمر بها فأحرقت.

وكان ممن قتل باليرموك من المسلمين: عمرو بن سعيد بن العاص، وأبان ابن سعيد بن العاص، وعبد الله بن سفيان بن عبد الأسد، وسعيد بن الحارث بن قيس.

ولما حسر عن سعد بن أبي وقاص الشتاء سار بالمسلمين يريد القادسية وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستمده، فبعث إليه عمر المغيرة بن شعبة في أربعمائة رجل مددا لسعد من المدينة، وكتب إلى أبو عبيدة بن الجراح أن أمد سعدا بألف رجل من عندك، ففعل أبو عبيدة ذلك وأمر عليهم عياض بن غنم الفهري، وسمع بذلك رستم فخرج بنفسه مع من عنده من الأعاجم يريد سعدا، وحج عمر بالناس.

فلما كانت السنة السادسة عشرة أراد عمر بن الخطاب أن يكتب التأريخ، فاستشار أصحاب النبي ، منهم من قال: من النبوة، ومنهم من قال: من الهجرة، ومنهم من قال: من الوفاة، فأجمعوا على الهجرة، وكتب التأريخ لسنة ست عشرة من الهجرة.

فلما وصل إلى سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة سار بالمسلمين إلى رستم حتى نزل قادس قرية إلى جنب العذيب، وأقبل رستم في ستين ألفا من الجموع ممن أحصى في ديوانه سوى التبغ والرقيق حتى نزل القادسية وبينهم وبين المسلمين جسر القادسية، وسعد في منزله وجع قد خرج به قرح شديد، فبعث رستم إلى سعدا أن ابعث إلي رجلا جلدا أكلمه، فبعث إليه المغيرة ابن شعبة، ففرق المغيرة رأسه أربع فرق ثم عقص شعره ولبس برديه، وأقبل حتى انتهى إلى رستم من وراء الجسر مما يلي العراق والمسلمون من الناحية الأخرى مما يلي الحجاز، فلما دخل عليه المغيرة قال له رستم: إنكم معشر العرب! كنتم أهل شقاء وجهد وكنتم تأتوننا من بين تاجر وأجير ووافد، فأكلتم من طعامنا وشربتم من شرابنا واستظلتم بظلالنا فذهبتم فدعوتم أصحابكم وجئتم تؤذوننا، وإنما مثلكم مثل رجل له حائط من عنب فرأى فيه أثر ثعلب فقال: وما بثعلب واحد! فانطلق ذلك الثعلب حتى دعا الثعالب كلها إلى ذلك الحائط، فلما اجتمعن فيه جاء صاحب الحائط فرآهن، فسد الحجر الذي دخلن منه ثم قتلهن جميعا، وأنا أعلم إنما حملكم على هذا ـ معشر العرب! الجهد الذي أصابكم، فارجعوا عنا عامكم هذا، فإنكم شغلتمونا عن عمارة بلادنا ونحن نوقر لكم ركائبكم قمحا وتمرا ونأمر لكم بكسوة فارجعوا عنا، فقال المغيرة بن شعبة: لا يذكر منا جهد إلا وقد كنا في مثله أو أشد، أفضلنا في أنفسنا عيشا الذي يقتل ابن عمه ويأخذ ماله فيأكله، نأكل الميتة والدم والعظام، فلم نزل على ذلك حتى بعث الله فينا نبينا وأنزل عليه الكتاب، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به، فصدقه به منا مصدق وكذبه منا مكذب، فقاتل من صدقه من كذبه حتى دخلنا في دينه من بين موقن ومقهور حتى استبان لنا أنه صادق وأنه رسول الله ، فأمرنا أن نقاتل من خالفنا، وأخبرنا أن من قتل منا على ذلك فله الجنة، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه، ونحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله وتدخل في ديننا، فإن فعلت كانت لك بلادك، ولا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وإن أبيت ذلك فالجزية، وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.

قال له رستم: ما كنت أظن أن أعيش حتى أسمع هذا منكم معشر العرب! لا أمسي غدا حتى أفرغ منكم وأقتلكم كلكم، ثم أمر بالمعبر أن يسكر فبات ليلته يسكر بالزرع والقصب والتراب حتى أصبح وقد تركه جسرا، وعبأ سعد ابن أبي وقاص الجيش، فجعل خالد بن عرفطة على جماعة الناس، وجعل الميمنة جرير بن عبد الله البجلي، وعلى الميسرة قيس بن مكشوح المرادي، وزحف إليهم رستم وزحف إليه المسلمون، وكان سعد في الحصن، معه أبو محجن الثقفي محبوس، حبسه سعد في شرب الخمر، فاقتتل المسلمون قتالا شديدا والخيول تجول، وكان مع سعد أم ولده فقال لها أبو محجن وسعد في رأس الحصن ينظر إلى الجيش كيف يقاتلون: أطلقيني ولك عهد الله وميثاقه لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلي الحديد في رجلي! فاطلقته وحملته على فرس لسعد بلقاء وخلت سبيله، فجعل أبو محجن يشد على العدو ويكر وسعد ينظر فوق الحصن يعرف فرسه وينكره.

وكان عمرو بن معد يكرب مع المسلمين فجعل يحرض الناس على القتال ويقول: يا معشر المسلمين! كونوا أسودا، إن الفارسي تيس، وكان في الأعلاج رجل لا يكاد يسقط له نشابه، فقصد نحوه وجاءه الفارسي ورماه بنشابة، فأصابت ترسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه وذبحه، فاستلبه سوارين من ذهب ومنطقة من ذهب ويلمقا من ديباج، وحمل رستم على المسلمين فقصده هلال بن علقمة التميمي، فرماه رستم بنشابة فأصاب قدمه فشكها إلى ركاب سرجه، وحمل عليه هلال بن علقمة فضربه فقتله واحتز رأسه، وولت الفرس واتبعتهم المسلمون يقتلونهم، فلما رأى محجن الهزيمة رجع إلى القصر وأدخل رجليه في قيده، فلما نزل سعد من رأس الحصن رأى فرسه قد عرقت فعرف أنها قد ركبت، فسأل أم ولده عن ذلك، فأخبرته خبر أبي محجن فخلى سبيله، ونهض سعد بالمسلمين خلفهم وانتهى الفرس إلى دير قرة فنزل عليهم سعد بالمسلمين ووافى عياض بن غنم في مدده من أهل الشام وهم ألف رجل فأسهم له سعد ولأصحابه من المسلمين مما أصابوا بالقادسية، وكان الناس قد أجبنوا سعدا وقالوا: أجبنت عن محاربة الأعداء، فاعتذر إلى الناس وأراهم ما به من القروح في فخذيه حتى سكت الناس.

ثم انهزم الفرس من دير قرة إلى المدائن، وحملوا ما معهم من الذهب والفضة والحرير والديباج والسلاح وخلوا ما سوى ذلك، فبعث سعد خالد بن عرفطة في طلبهم معه أصحابه، وأردفه بعياض بن غنم في أصحابه، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي، وعلى ميسرتهم زهرة بن حوية التميمي، وتخلف عنهم بنفسه لما به من الوجع، ثم أفاق سعد من وجعه وبرئ واتبع الناس بمن معه من المسلمين فأدركهم دون دجلة على بهرسير، فطلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها، فقال علج من أهل المدائن لسعد: أنا أدلكم على مخاضة تدركونهم قبل أن يمنعوا السير، فخرج بهم على المخاضة، فكان أول من خاض المخاضة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في رجله، فلما جاز تبعه خيله، ثم أجاز عياض بن غنم بخيله، ثم تتابع الناس فخاضوا حتى جازوا، ويقال: إن تلك المخاضة لم تعرف إلى الساعة، فبلغ المسلمون إلى ساباط طويل مظلم، وخشوا أن يكون فيه كمين للعدو فأخذوا يتجابنون، فكان أول من دخله بجيشه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فلما جاز لاح للناس بسيفه فعرفوا أنه ليس فيه شيء يخافونه، ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيله، ثم لحق سعد بالناس حتى انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من الفرس، وكانت بها وقعة جلولاء الله وهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها من الغنائم أكثر مما أصابوا بالقادسية.

وكتب سعد إلى عمر بن الخطاب يخبر بفتح الله على المسلمين، فكتب إليه عمر أن قف مكانك ولا تطلب غير ذلك، فكتب إليه سعد إنما هي سربة أدركناها والأرض بين أيدينا، فكتب إليه عمر: أقم مكانك ولا تتبعهم، وأعد للمسلمين دار هجرة ومنزل جهاد، ولا تجعل بيني وبين المسلمين بحرا، فنزل سعد بالأنبار فاجتووها وأصابهم بها حمى، فكتب إلى عمر يخبره بذلك، فكتب إلى سعد أنه لا يصلح العرب إلا حيث يصلح البعير والشاء في منابت العشب، فانظر فلاة إلى جنب بحر فأنزل المسلمين بها واجعلها دار هجرة، فسار سعد حتى نزلة بكويفة فلم يوافق الناس الكون بها من كثرة الذباب والحمى، فبعث سعد عثمان ابن حنيف فارتاد لهم موضع الكوفة اليوم، فنزلها سعد بالناس وخط مسجدها، واختط فيها للناس الخطط وكوف الكوفة، واستعمل سعد على المدائن رجلا من كندة يقال له شرحبيل بن السمط.

ثم كتب عمر إلى سعد أن ابعث إلى أرض الهند ـ يريد البصرة ـ جندا لينزلوها، فبعث إليها سعد عتبة بن غزوان في ثمانمائة رجل حتى نزلها، وهو الذي بصر البصرة واختط المنازل، وبنى مسجد الجامع بالقصب، وكان فتح البصرة صلحا. وافتتح عتبة بن غزوان الأبلة والفرات وميسان، ومن سبي ميسان والد الحسن وأرطبان جد ابن عون.

ثم خرج عتبة حاجا، وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلي بالناس إلى أن يرجع، فحج ورجع فمات في الطريق قبل أن يصل إلى البصرة، فأقر عمر المغيرة ابن شعبة على الصلاة، وولد عبد الرحمن بن أبي بكرة بالبصرة، وهو أول مولود ولد بها.

وخرج عمر بن الخطاب وخلف عثمان بن عفان على المدينة، فلما قدم الشام نزل بالجابية فقام فيها خطيبا لهم، ثم أراد عمر الرجوع إلى الحجاز فقال له رجل من اليهود: يا أمير المؤمنين! لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء، فبينا عمر كذلك إذ نظر إلى كردوس خيل مقبل، فلما دنوا من المسلمين سلوا السيوف فقال عمر: هم قوم يستأمنون فآمنوهم، فأقبلوا وإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية وفتحوها له، وكتب إلى عمر كتاب عهد بذلك،و رجم بالجابية امرأة أقرت على نفسها بالزنا.

ثم رجع إلى المدينة ودون لهم الديوان، وغرب أبا محجن الثقفي إلى باضع، وتزوج صفية بنت أبي عبيد على مهر أربعمائة درهم، وحج بالناس عمر استخلف على المدينة زيد بن ثابت.

فلما دخلت السنة السابعة عشرة كتب عمر إلى البلدان بمواقيت الصلاة، ووضعت ما بين مكة والمدينة مياها للسابلة، واتخذ دارا بالمدينة وجعل فيها الدقيق والسويق للمنقطع والضيف إذا نزل.

وولى عمر المغيرة على البصرة فسار المغيرة إلى الأهواز فصالحوه على ألفي ألف درهم وثمانمائة ألف درهم، ثم ارتدوا، فغزاهم بعد ذلك أبو موسى الأشعري إلى أن افتتحها، يقال: عنوة، وقد قيل: صلحا.

وبعث أبو عبيدة بن الجراح عمرو بن العاص إلى قنسرين فصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية، وافتتح سائر أرض قيصر عنوة، ويقال: إن في هذه السنة افتتح أبو موسى الأشعري الرهاء وسمسياط صلحا.

ثم أراد عمر الخروج إلى الشام فخرج حتى إذا بلغ سرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأخبروه أن الأرض وبية، فقال عمر لابن عباس: اجمع إلي المهاجرين الأولين، فجمعهم له واستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه تريد فيه الله والدار الآخرة، ولا نرى أن نصدك عنه، ومنهم من يقول: لا نرى أن تقدم عليه وتقدم الناس، فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني. ثم جمع الأنصار واستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني، ثم جمع مهاجرة الفتح فاستشارهم فلم يختلف عليهم منهم اثنان، قالوا جميعا: ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء، فقال عمر لابن عباس: أخبر الناس أن أمير المؤمنين يقول: إني مصبح على ظهر فاصبحوا عليه، فأصبح عمر على ظهر وأصبح الناس عليه فقال: أيها الناس! إني راجع فارجعوا، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: يا أمير المؤمنين! أفرارا من قدر الله؟ قال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان: إحداهما خصبة، والأخرى جدبة. أليس يرعى من يرعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من يرعى الخصبة بقدر الله؟ ثم خلا به بناحية دون الناس، فبينا الناس على ذلك إذ لحقهم عبد الرحمن بن عوف وكان متخلفا ولم يشهد معهم يومهم الأمس فقال: ما شأن الناس؟ فأخبره الخبر فقال: عندي من هذا علم، فقال عمر: ما عندك؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه لا يخرجنكم إلا ذلك، فقال عمر، فلله الحمد فانصرفوا أيها الناس! فانصرف بهم. ورجع أمراء الأجناد إلى أعمالهم.

ثم اعتمر في رجب، وأمر بتوسيع المسجد وتجديد أنصاب الحرم، وتزوج بمكة بنت حفص بن المغيرة فأخبر أنها عاقر فطلقها قبل أن يدخل بها، وأقام بمكة عشرين ليلة ورجع إلى المدينة.

وبعث أبو عبيدة خالد بن الوليد فغلب على أرض البقاع فصالحه أهل بعلبك، ثم خرج أبو عبيدة يريد حمص، وقدم خالدا أمامه فقاتلوا قتالا شديدا، ثم هزمت الروم حتى دخلوا مدينتهم فحاصرهم المسلمون، فسألوه الصلح عن أموالهم وأنفسهم وكنائسهم، فصالح المسلمون حمص على مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار، وأخذ سائر مدائن حمص عنوة.

وبعد موت عتبة بن غزوان والي البصرة أمر عمر على البصرة أبا موسى الأشعري، وكان المغيرة على الصلاة بها، فشهد أبو بكرة وشبل بن معبد البجلي ونافع بن كلدة وزياد على المغيرة بما شهدوا. فبعث عمر إلى أبي موسى الأشعري أن أشخص إلى المغيرة، ففعل ذلك أبو موسى.

ثم تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي من فاطمة، ودخل بها في شهر ذي القعدة، ثم حج واستخلف على المدينة زيد بن ثابت.

أعمال عمر بن الخطاب منذ السنة الثامنة عشر للهجرة حتى وفاته

فلما دخلت السنة الثامنة عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة، فاستسقى لهم عمر وأخذ بيد العباس وقال: اللهم إنا نستسقي بعم رسول الله ، فما زال العباس قائما إلى جنبه وعيناه تهملان وعمر يلح في الدعاء حتى سقوا، فسمى هذه السنة سنة الرمادة، وأجرى عمر الأقوات على المسلمين، وكان يرزق الضعفاء القوت، ونهى عن الحكرة حاطبا وغيره.

وكان طاعون عمواس فتفانى الناس فيه، فكتب عمر إلى أبي عبيدة: إنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة، فسار أبو عبيدة بالناس حتى نزل بالجابية، ثم قام أبو عبيدة خطيبا فقال: أيها الناس! إن هدا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه، فمات من يومه، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام معاذ خطيبا بعده فقال: أيها الناس! إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، إن معاذا يسأل الله أن يقسم له حظه ثم لأهل بيته، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ فمات، ثم طعن معاذ في راحته فكان يقبل ظهر كفه وكان يقول: ماأحب أن لي بما فيك من الدنيا شيئا، ثم مات، واستخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيبا فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع يشتعل اشتعال النار فارتفعوا عنه في الجبال.

فمات في طاعون عمواس: يزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام بن المغيرة، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل.

فلما بلغ عمر بن الخطاب موت أبي عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان أمر معاوية بن أبي سفيان على جند دمشق وخراجها، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها، وغرب عمر بن ربيعة بن أمية إلى خيبر، ولحق بأرض الروم وتنصر، فلم يغرب عمر بعد ذلك رجلا في شيء من عمله.

ولا عن عمر بين رجل وامرأته ورجم ساحرا بالبقيع، ثم حج عمر بالناس، فلما تقدم بمكة أخر المقام مقام إبراهيم ـ وكان ملصقا بالبيت ـ في موضعه الذي هو فيه اليوم ورجع إلى المدينة.

فلما دخلت السنة التاسعة عشرة كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص أن ابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمر عليهم أحد الثلاثة: خالد بن عرفطة، أو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، أو عياض بن غنم، فلما قرأ سعد الكتاب قال: لم يؤخر أمير المؤمنين عياض بن غنم آخر الثلاثة إلا أن له فيه هوى، فولاه جيشا وبعث معه عمر بن سعد وعثمان بن أبي العاص، فخرج عياض بن غنم إلى الجزيرة ونزل بجنده على الرهاء وصالح أهلها على الجزيرة، وصالحت حران حين صالحه الرهاء، ووجه عياض عمر بن سعد إلى رأس العين وسار بنفسه في بقية الناس إلى دارا ونصيبين فنزل عليهما حتى افتتحهما، ثم افتتح الموصل، صالحه عليها اهلها.

وزاد عمر في مسجد رسول الله ، زاد فيه من ناحية دار مروان وأدخل فيه دار العباس، وسوى أعمدته وسقفه.

وبعث سعد جرير بن عبد الله البجلي إلى حلوان فافتتحها عنوة، وافتتح هاشم بن عتبة ماسبذان عنوة. وفي هذه السنة فتح أبو موسى جنديسابور والسوس صلحا، ثم أمر عمر أبا موسى بجرير بن عبد الله فافتتحوا رامهرمز صلحا، ثم سار أبو موسى إلى التستر حتى فتحها، وافتتح قم وقاشان. ثم افتتح معاوية بن أبي سفيان قيسارية والرملة وما بينهما، فأقر ه عمر عليهما. وحج بالناس عمر. وفي هذه السنة افتتحت تكريت.

فلما دخلت سنة عشرين رجفت المدينة بالزلزلة. وشكى أهل الكوفة سعدا وزعموا أنه لا يحسن يصلي، فاستقدمه عمر وسأله فقال: إني أركن في الأوليين وأحذف في الآخرتين، فقال: كذاك الظن فيك يا أبا إسجاق. ثم عزل عمر قدامة بن مظعون عن البحرين، ودخل أبو بحرية الكندي عبد الله بن قيس بلاد الروم وأغار، وهو أول من دخلها. وافتتح مصر والإسكندرية عمرو بن العاص عنوة ـ وقد فتحت سنة إحدى وعشرين ـ وغنم بها غنائم كثيرة ثم رجع، فلما بلغ بلهيب قرية من قرى الريف أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص أني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم: فارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي من السبي فعلت، فبعث إليه عمرو بن العاص أن من ورائي أميرا لا أستطيع أن أنفذ أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي فعلت، فإن قبل ذلك قبلته، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره، فقال: نعم فكتب عمرو إلى عمر، فكتب إليه عمر: أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أن صاحب الإسكندرية عرض عليك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبي أرضه، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومهم، فمن اختار الإسلام فهم من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، وأما من تفرق من سبيهم فبلغ المدينة ومكة واليمن فأنا لا نقدر على ردهم، فلا نحب أن نصالحهم على ما لا نفي به، فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه بالذي كتب أمير المؤمنين، فقال: قد قبلت، فجمعوا ما بأيديهم من السبي، واجتمعت النصارى، فكانوا يخيرون الرجل بين الإسلام والنصرانية، فإن اختار الإسلام كبر المسلمون وانحاز إليهم،و إن اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم، ووضعوا عليه الجزية.

ثم كتب عمرو بن العاص إلى عمر: أما بعد يا أمير المؤمنين! فإنا قدرنا على البحر وإن شئت أن تركبه ركبت، فكتب إليه عمر أن صف لي كيف حاله وحال من ركبه، فكتب إليه عمرو بن العاص أنه خلق شديد، يحل فيه خلق ضعيف، دود على عود، إن استمسك به فزع وإن خر غرق، فكتب إلى عمرو بن العاص: ما كان الله ليسألني عن أمري من المسلمين الذين حملتهم فيه، لا حاجة لنا به.

وتوفي بلال بن رباح مؤذن رسول الله بدمشق ودفن في المقبرة عند باب الصغير، ثم أخرج عمر يهود الحجاز من نجران إلى الكوفة وقال: كان النبي يقول: لئن عشت لأخرجن اليهود من جزيرة العرب، ثم قال لهم: من كان له منكم عهد من رسول الله فليأت بعهده حتى ننفذه، ومن لم يكن له عهده فإني أجليه، لأن النبي قال: أقركم ما أقركم الله، وقد أذن الله بإجلائكم إلا أن يأتي رجل منكم بعهد أو بينة من النبي أنه أقره فأقره، وقد فعلتم بمظهر ابن رافع الحارثي ما فعلتم، وذلك أن مظهر بن رافع خرج بأعلاج له من الشام حتى إذا كان بخيبر دخل قوم من اليهود وأعطوا غلمانه السلاح وحرضوهم على قتله فقتلوه، فأجلى عمر اليهود من الحجاز، وقسم خيبر على ثمانية عشر سهما. ثم بعث إلى فدك أبا حبيبة الحارثي ومضى إلى وادي القرى، وأنفذ ظعن خيبر ووادي القرى على ما كان رسول الله سماها إلا أنه فرقها، وصارت في أيدي أهلها تباع وتورث، بدا بأزواج النبي ففرض لكل امرأة منهن اثني عشر ألفا وفرض لأهل بدر صبيهم وحليفهم ومولاهم خمسة آلاف خمسة آلاف، وفرض للأنصار صبيهم وحليفهم ومولاهم أربعة آلاف أربعة آلاف.

ثم مات أسيد بن حضير في شعبان ودفن بالبقيع.

ومات هرقل ملك الروم وأقعد مكانه قسطنطين، ثم أغارت الحبشة على أهل بلجة فأصابوهم، وقدم الصريخ على عمر فبعث علقمة بن مجزز المدلجي في عشرين مركبا إلى الحبشة فأغاروا عليهم، ولم يحمل بعدها مسلما في البحر.

ثم عزل عمر أبا موسى عن البصرة وولها عثمان بن أبي العاص وأمرهما أن يطاوعا، فنزل عثمان توج ومصرها، وبعث سوار بن همام العبدي إلى سابور فقتل بعقبة الطين.

ثم ماتت زينب بنت جحش زوجة رسول الله فسأل عمر: من يغسلها؟ فقالت أزواج النبي : نحن نغسلها، فغسلنها، وصلى عليها عمر وكبر أربعا، فلما أتى بسريرها أمر عمر بثوب فمد على قبرها، وأمر أسامة بن زيد وابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش ومحمد بن طلحة بن عبيد الله فدخل قبرها ولحدوا لها، وقام عمر على قبرها حتى سوى عليها، ورش على قبرها الماء ثم انصرف. وحج عمر بالناس.

فلما دخلت السنة الحادية والعشرين مات خالد بن الوليد بحمص وأوصى إلى عمر بن الخطاب.

ثم كان فتح نهاوند وأميرها النعمان بن مقرن، وذلك أن أهل الري وأصبهان وهمذان ونهاوند تعاقدوا وتعاهدوا وقالوا: إن رسول الله نبي العرب الذي أقام لها دينها مات، وإن ملكهم من بعده ملك يسيرا ـ يعني أبا بكر ـ ثم هلك، وإن عمر قد طال ملكه ومكثه وتأخر أمره حتى جيش إليكم الجيوش في بلادكم، وليس بمنقطع عنكم حتى تسيروا إليهم في بلادهم فتقتلوهم. فلما بلغ الخبر أهل الكوفة من المسلمين كتبوا إلى عمر،فلما أخذ عمر الصحيفة مشى بها إلى منبر رسول الله وهو باك وجعل ينادي: أين المسلمون! أين المهاجرون والأنصار من ههنا من المسلمين! فلم يزل ينادي حتى امتلأ عليه المسجد رجالا، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس! فإن الشيطان قد جمع لكم جموعا كثيرة وأقبل بها عليكم، ألا! وإن أهل الري وأصبان وأهل همذان وأهل نهاوند أمم مختلفة ألوانها وأديانها، ألا! وإنهم تعاقدوا وتعاهدوا على أن يسيروا إليكم فيقتلوكم، ألا! وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا! فاشيروا علي برأيكم، فقام طلحة بن عبيد الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين! فقد حنكتك البلايا وعجمتك التجارب، وقد ابتليت يا أمير المؤمنين واختبرت، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار، وأنت يا أمير المؤمنين ميمون النقيبة مبارك الأمر، فمرنا نطع وادعنا نجب واحملنا نركب، فأثنى عمر على طلحة خيرا ثم جلس، فقام عثمان ابن عفان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين! إني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون إليك من شامهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم، وتسير أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين، فإنك لو فعلت ذلك كنت أنت الأعز الأكبر، وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام، واثنى عليه عمر فجلس، فقام علي بن أبي طالب فحمد الله واثنى عليه ثم قال: اما بعد يا أمير المؤمنين! فإنك إن تكتب إلى أهل الشام أن يسيروا إليك من شامهم إذا تسير الروم إلى ذراريهم فتسبيهم، وإن تكتب إلى أهل اليمن أن يسيروا إليك من يمنهم إذا تسير الحبشة إلى ذراريهم فتسبيهم، وإن سرت أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين إذا والله انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأكنافها، وكان والله يا أمير المؤمنين من تخلف وراءك من العورات والعيالات أهم إليك مما بين يديك من العجم، والله يا أمير المؤمنين! لو أن العجم نظروا إليك عيانا إذا لقالوا: هذا عمر، هذا إريس العرب وكان والله أشد لحربهم وجرأتهم عليك، وأما ما كرهت من مسير هؤلاء القوم فإن الله أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما كره، وأما ما ذكرت من كثرتهم فإنا كنا ما نقاتل مع نبينا بالكثرة ولكنا نقاتل معه بالنصرة من السماء، وأنا أرى يا أمير المؤمنين رايا من تلقاء نفسي، رأيي أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقوا على ثلاث فرق: فرقة نقيم في أهل عهودهم بأن لا ينتقضوا عليهم، وفرقة تقيم من ورائهم في ذراريهم، وفرقة تسير إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم، فطبق عمر ثم أهل مكبرا يقول: الله أكبر الله أكبر! هذا رأي هذا رأي! كنت أحب أن أتابع صدق ابن أبي طالب، لو خرجت بنفسي لنقضت علي الأرض من اقطارها، ولو أن العجم نظروا إلي عيانا ما زالوا عن العرص حتى يقتلوني أو أقتلهم، أشر علي يا علي بن أبي طالب برجل أوليه هذا الأمر! قال: مالي ولهم! هم أهل العراق وفدوا عليك ورأوك ورأيتهم وتوسمتهم وأنت أعلمنا بهم، قال عمر: إن شاء الله لأولين الراية غدا رجلا يكون لأول أستة يلقاها، وهو النعمان بن مقرن المزني، ثم دعا عمر السائب بن الأقرع الكندي فقال: يا سائب! أنت حفيظ على الغنائم بأن تقاسمها، فإن الله أغنم هذا الجيش شيئا فلا تمنعوا أحدا حقا هو له، ثكلتك أمك يا سائب! وإن هذا الجيش هلك فاذهب عني في عرض الأرض فلا أنظر إليك بواحدة، فإنك تجيئني بذكر هذا الجيش كلما رأيتك. ثم كتب إلى أهل الكوفة: سلام عليكم، أما بعد فقد استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني، فإن قتل النعمان فعليكم حذيفة بن اليمان العبسي، فإن قتل حذيفة فعليكم عبد الله بن قيس الأشعري أبو موسى، فإن قتل أبو موسى فعليكم جرير بن عبد الله البجلي، فإن قتل جرير فعليكم المغيرة بن شعبة الثقفي، فإن قتل المغيرة فعليكم الأشعث بن قيس الكندي.

ثم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن: فإن في جندك رجلين: عمرو بن معد يكرب المدحجي، وطليحة بن خويلد الأسدي، فأحضرهما وشاورهما في الحرب، وإياك أن توليها عملا فإن كل صانع أعلم بصناعته.

فلما ورد عليه الكتاب سار بالناس، فالتقى المسلمون والمشركون بنهاوند، فأقبل المشركون يحمون أنفسهم وخيولهم ثلاثا، ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى والصرعى في الفريقين جميعا، ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكر يهما، وبات المسلمون ولهم أنين من الجراحات، يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم. ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون وقاتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى في الفريقين جميعا، ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما، وبات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم.

ثم غدا النعمان بن مقرن يوم الجمعة ـ وكان رجلا قصيرا أبيض ـ على برذون أبيض قد أعلم بالبياض، فجعل يأتي راية يحرضهم على القتال ويقول: الله الله في الإسلام أن تخذلوه، فإنكم باب بين المسلمين وبين المشركين، فإن كسر هذا الباب دخلوا على المسلمين، يا أيها الناس! إني هاز لكم الراية مرة فليتعاهد الرجل الخيل في حزمها وأعنتها، ألا! وإني هاز لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم إلى موقف فرسه ومضرب رمحه ووجه مقاتله، ألا! وإني هاز لكم الثالثة ومكبر، فكبروا الله واذكروه، ومستنصر فاستنصروه، ألا! فحامل فاحملوا، فقال رجل: قد سمعنا مقالتك وحفظنا وصيتك فأخبرنا بأي النهار يكون ذلك يكون ذلك حتى يكونوا على آلة وعدة، قال النعمان: ليس يمنعني أن يكون ذلك من أول النهار إلا شيء شهدته من رسول الله أن رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل بالقتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح ويطيب القتال وتحضر الصلاة، وينزل النصر من السماء مع مواقيت الصلاة في الأرض، فمكث المسلمون ينظرون إلى الراية ويراعونها حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء هز النعمان الراية هزة، فانتزعوا المخالي عن الخيول وقرطوها الأعنة، وأخذوا أسيافهم بأيمانهم والأترسة بشمائلهم، وصلى كل رجل منهم ركعتين يبادر بهما، ثم هز النعمان الراية ثانيا، فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه، ولزمت الرجال منهم نحور الخيل، وجعل كل رجل يقول لصاحبه: أي فلان! تنح عني، لأوطئك بفرسي، إني أرى وجه مقاتلي، إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله علي، ثم هز الثالثة فكبر، فجعل الناس يكبرون الأول فالأول الأدنى فالأدنى، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب، فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه، ثم ولوا مدبرين، وحمل النعمان وحمل الناس فكان النعمان أول قتيل قتل من المسلمين، جاءه سهم فقتله، فجاء أخوه معقل بن مقرن فغطى عليه بردا له، ثم أخذ الراية وإنها لتنضح دما من دماء من قتله بها النعمان قبل أن يقتل، فهزم الله المشركين وفتح على المسلمين، وبايع الناس لحذيفة بن اليمان، فجمع السائب بن الأقرع الغنائم كأنها الأكام فجاءه دهقان من دهاقينهم فقال: هل لك أن تؤمنني على دمي ودم أهل بيتي ودم كل ذي رحم لي وأدلك على كنز عظيم؟ قال: نعم، قال: خذوا المكاتل والمعاول فامشوا، فمشوا معه حتى انتهى إلى مكان، قال: احفروا، فحفروا فإذا هم بصخرة، قال: اقلعوها، فقلعوا فإذا هم بسفطين من فصوص يضيء ضوءها كأنها شهب تتلألأ، فأعطى السائب كل ذي حق حقه من الغنائم، وحمل السفطين حتى قدم بهما على عمر، فلما نظر عمر إلى السائب ولى باكيا، ثم أقبل يقول: يا سائب! ويحك! ما وراءك؟ ما فعلت؟ ما فعل المسلمون؟ قال السائب: خير يا أمير المؤمنين! هزم الله المشركين وفتح للمسلمين،، قال: ويحك يا سائب! والله ما أتت ليلة بعد ليلة بات فيها رسول الله فينا ميتا مثل البارحة! لا والله مابت البارحة إلا تقديرا! فما فعل النعمان ابن مقرن؟ قال: استشهد يا أمير المؤمنين، فبكى عمر ثم قال: يرحم الله النعمان ـ ثلاثا، ثم قال: مه! قال: لا والذي أكرمك بالخلافة وساقها إليك! ما قتل بعد النعمان أحد نعرفه، فبكى عمر بكاء شديدا ثم قال: الضعفاء لكن الله أكرمهم بالشهادة وساقها إليهم، أدفنتم إخوانكم؟ لعلكم غلبتم على أجسادهم وخليتم بين لحمومهم والكلاب والسباع! أخشى أن يكونوا أصيبوا بأرض مضيعة.

قال السائب: هون عليك يا أمير المؤمنين، فقد أكرمهم الله بالشهادة وساقها إليهم، ثم قال عمر: أعطيت كل ذي حق حقه؟ فقال: نعم، فنفض عمر رداءه ثم ولى باكيا فأخذ السائب بطرف ردائه ثم قال: اجلس يا أمير المؤمنين! فإن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ ألم تخبرني أنك أعطيت كل ذي حق حقه؟ قال: بلى، قال: فما حاجتك إلي؟ فأبدى له عن السفطين فصوصهما كأنها شهب تتلألأ، فقال عمر: ما هذا؟ فأخبره السائب خبر الدهان، فصعد فيها بصره وخفضه ثم قال: ادع لي عليا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعبد الله بن الأرقم، فلما اجتمعوا عنده قال السائب: لم يكن لي هم إلا أن أنفلت من عمر، فركبت راحلة لي وأتيت الكوفة، فوالله ما جفت بردعة راحلتي حتى أتاني كتاب عمر: عزمت عليك إن كنت قاعدا لا قمت وإن كنت قائما لا قعدت إلا على راحلتك، ثم العجل العجل! فقلت للرسول: هل كان في الإسلام حدث؟ قال: لا، قلت: فما حاجته إلي؟ قال: لا أدري، فركبت راحلتي حتى أتيت عمر، فلما نظر إلي، أقبل علي بدرته يضربني بها حتى سبقته إلى غيره وهو يقول: ما لي ولك يا ابن أم مليكة! أعن ديني تفارقني أم النار توردني؟ قلت: دعني عنك يا أمير المؤمنين! لا تقتلني غما، قال عمر: فإنك لما خرجت من عندي فأويت إلى فراشي جاءني ملائكة من عند ربي في جوف الليل، فرموني بسفطين هذين، فإذا حملتهما فإذا نار توقد على جنبي، فجعلت أتأخر وجعلوا يدفعونني إليهما، حتى تعاهدت ربي في هذا: إن هو تركني حتى أصبح لأقسمن على من أفاء الله عليه، أخرج بهما من عندي، لا حاجة لي بهما... بعهما بعطية المقاتلة والذرية، فإن لم تصب إلا عطية أحد الفريقين فبع ثم اقسمهما على من أفاء الله عليه، والله لئن شكا المسلمون قبل أن تقسم بينهم لأجعلنك نكالا لمن بعدك، قال السائب: فخرجت بهما من عنده حتى قدمت الكوفة فأخرجتهما إلى الزحمة، فأبديت عنهما فلاح ضوءهما كأنهما شهب تلألأ، فجعل لا يأتي عليهما قوم إلا صفقوا تعجبا منهما، حتى أتاني عمر بن حريث، فلما نظر إليهما استامني بهما فقلت: بعطية المقاتل والذرية، فما كلمني حتى صفق على يدي وأوجبت له البيع، فخرج بهما إلى الحيرة، فباع أحدهما بعطية المقاتل والذرية، واستفضل الآخر ربحا، فكان أول شيء اعتقله بالكوفة مالا.

ثم سار المغيرة بالمسلمين إلى مدينة آذربيجان فصالحه أهلها على ثمانمائة ألف درهم في كل سنة. ثم غزا حذيفة بن اليمان الدينور فافتتحها عنوة، وكانت قبل ذلك فتحت لسعد فانتقضت، ثم غزا حذيفة ماه سندان فافتتحها عنوة، وكانت قبل ذلك فتحت لسعد فانتقضت، ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة.

ثم ولى عمر عمار بن ياسر الكوفة على الصلاة والحرب، وعبد الله بن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، فشكا أهل الكوفة عمارا وقالوا رجل لا يعلم، فاستعفى عمار، ودعا عمر جبير بن مطعم خاليا ليوليه الكوفة وقال له: لا تذكره لأحد، فبلغ المغيرة بن شعبة أن عمر قد خلا بجبير بن مطعم، فرجع إلى امرأته وقال لها: اذهبي إلى امرأة جبير بن مطعم فأعرضي عليها متاع السفر، فأتتها فعرضت عليها فاستعجمت عليها ثم قالت: ائتيني به، فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر وقال: بارك الله لك فيمن وليت، وأخبره أنه ولى جبير بن مطعم، فقال عمر: لا أدري ما أصنع؟ فولى المغيرة بن شعبة الكوفة فلم يزل عليها إلى أن مات عمر.

ثم مضى عمرو بن العاص إلى برقة طرابلس ففتحها، وصالح أهل برقة على اثني عشر ألف دينار، وبعث عقبة بن نافع الفهري فافتتح لعمر زويلة بالصلح، وكان بين برقة وزويلة صلح للمسلمين.

وحج عمر بالناس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت.

فلما دخلت السنة الثانية والعشرين فتح المغيرة بن شعبة آذربيجان صلحا على ثمانمائة ألف درهم المسلمون ودخل معاوية أرض الروم الصائفة في عشرة آلاف، ثم اعتمر عمر وساق معه عشر بدنات ونحرها في منحر رسول الله ومعه من الصحابة عبادة بن الصامت وأبو ذر وأبو أيوب وشداد بن أوس، وكان نافع بن عبد الحارث عامله على مكة فتلقاه نافع فقال عمر: من خلفت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى رجل من الموالي، قال عمر: أمولى أيضا؟ قال: يا أمير المؤمنين! إنه قارئ للقرآن علم بالفرائض، فقال عمر: سمعت رسول الله : إن الله عز وجل يرفع بهذا القرآن اقواما ويضع به آخرين.

فلما دخلت السنة الثالثة والعشرون فتح معاوية عسقلان صلحا وقد قيل: إن الذي فتح في هذه السنة فتحها قرظة بن كعب الأنصاري لعمر، ولا يصح عندي.

ثم كان غزوة أصطخر الأولى، وذلك أن عثمان بن أبي العاص أقام بتوج، وتوفي قتادة بن النعمان الظفري فصلى عليه عمر، ونزل حفرته أخوه لأمه أبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة والحارث بن خزمة.

ثم حج بالناس عمر، وأذن لأزواج النبي أن يحججن معه، فبينا هو بالأبطح إذ أقبل راكب يسأل عن عمر فدل عليه، فلما رآه بكى وجعل يقول:

جزى الله خيرا من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق

قضيت أمورا ثم غادرت بعدهــا بوائج في أكمامها لم تفتـق

أبعد قتيل بالمدينة أظـلمـــت له الأرض تهتز العضاة بأسوق

فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق

فما كنت أخشى أن تكون وفاته بكفي سبنتي أزرق العين مطرق

وكان جبير بن مطعم يقول: بينا أنا واقف مع عمر بعرفات إذ قال رجل: يا خليفة الله! فقال رجل خلفي: قطع الله لحيتك! والله لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبدا! قال جبير: فالتفت فإذا هو رجل من لهب، ولهب بطن من الأزد، وبينا نحن نرمي الجمار وإذا رمى إنسان فأصاب رأس عمر فشجه، فقال رجل خلفي قطع الله لحيتك! ما أرى أمير المؤمنين إلا سيقتل، قال جبير: فالتفت فإذا هو ذلك اللهبي. ثم رجع عمر من مكة إلى المدينة وقام في الناس فقال: إني رأيت كأن ديكا أحمر نقرني نقرتين، ولا أراه إلا لحضور أجلي. ثم خرج يوما إلى السوق وهو متكئ على يد عبد الله بن الزبير إذ لقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقال لعمر: ألا تكلم مولاي أن يضع عني من خراجي؟ قال: وكم خراجك؟ قال: دينار، قال: ما أفعل! إنك لعامل وإن هذا لشيء يسير، ثم قال له عمر: ألا تعمل لي رحى؟ قال: بلى، فلما ولى عمر قال أبو لؤلؤة: أعمل لك رحى يتحدث بها من بين المشرق والمغرب، قال ابن الزبير: فوقع في قلبي قوله ذلك. فلما كان وقت النداء بالفجر خرج عمر إلى الصلاة، وذلك يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة، واضطجع له أبو لؤلؤة، فقام عمر فجعل يقول بين الصفوف: فاستووا استووا! فلما كبر طعنه أبو لؤلؤة ثلاث طعنات في وتينه، فقال عمر قتلني الخبيث! ثم أخذ بيد عبد الرحمن فقدمه، فصلى عبد الرحمن بالناس الصبح وقرأ إنا أعطيناك الكوثر وإذا جاء نصر الله ثم دخل عبد الرحمن على عمر وعنده علي وعثمان وسعد وابن عباس المسلمون فقال: يا ابن عباس: من قتلني؟ قال: أبو لؤلؤة، قال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل موتي برجل يدعي الإسلام، ثم سكت عمر كالمطرق فقالوا: ألاننبه للصلاة! فقيل! الصلاة يا أمير المؤنين! فقال: نعم، ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم صلى وجرحه يثعب دما، ثم أقبل على علي فقال: اتق الله يا علي! إن وليت من أمور الناس شيئا فلا تحملن بني هاشم على رقاب الناس، وأنت يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، وأنت يا زبير ، يا سعد! إن وليتما من أمر الناس فلا تحملان أقاربكما على رقاب الناس، ثم قال: إني نظرت في أمر الناس فلم أر عندهم شقاقا إلا أن يكون فيكم، وإن الأمر إلى الستة نفر: عثمان وعلي وعبد الرحمن وسعد وطلحة والزبير، فتشاوروا ثلاثا، وكان طلحة غائبا في مال له، فقال عمر: إني مصرت لكم الأمصار ودونت لكم الدواوين، وإني تركتكم على الواضحة، إنما أتخوف أحد رجلين، إما رجل يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتله، أو رجل يتأول القرآن على غير تأويله، وإني قرأت في كتاب الله [ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ] ألا! فلا تهلكوا عن آية الرجم، فقد رجم رسول الله ورجمنا معه، ولولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في يدي، فقد قرأناها بكتاب الله.

ثم دعا بكتاب [ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى الخليفة من بعدي: سلام عليك فإني أحمد الله الذي لاإله إلا هو، أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله وبالمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ـ الآية، فتعرف فضيلتهم وتقسم عليهم فيئهم، وأوصيك والذين تبوؤوا الدار والإيمان ـ الآية فهؤلاء الأنصار تعرف فضلهم وتقسم عليهم فيئهم، وأولئك الذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ـ الآية.

وخرج أبو لؤلؤة على وجه يريد البقيع وطعن في طريقه اثني عشر رجلا، فخرج خلفه عبيد الله بن عمر فرأى أبا لؤلؤة والهرمزان وجفينة وكان نصرانيا وهم يتناجون بالبقيع، فسقط منهم خنجر له رأسان ونصابه في وسطه، فقتل عبيد الله أبا لؤلؤة والهرمزان وجنيفة ثلاثتهم. فجرى بين سعد بن أبي وقاص وبين عبيد الله في شأن جفينة ملاحاة، وكذلك بين علي بن أبي طالب وبينه في شأن الهرمزان حتى قال علي بن أبي طالب: إن وليت من هذا الأمر شيئا قتلت عبيد الله بالهرمزان.

ثم أرسل عمر إلى عائشة يستأذنها في أن يدفن مع رسول الله وأبي بكر، فأذنت له فقال عمر: أنا أخشى أن يكون ذلك لمكان السلطان مني، فإذا مت فاغسلوني فكفنوني ثم قفوا بي على بيت عائشة وقولوا: أيلج عمر؟ فإن قالت نعم، فأدخلوني، وإن أبت فادفنوني بالبقيع. ثم أرسل عمر فجيء بلبن، فشربه فخرج من جرحه، فعلم أنه الموت، فقال لعبد الله بن عمر: انظر ما علي من الدين فاحسبه: فقال: ست وثمانون ألفا، فقال: إن وفى لها مال آل عمر فأدها عني من أموالهم، وإلا فسل بني عدي بن كعب، فإن لم تف من أموالهم فسل قريشا ولا تعدهم إلى غيرهم وأدها عني.

فتوفي عمر رضي الله عنه وله خمسة وستون سنة، وفعل به ما أمر فأذنت له عائشة، وصلى عليه صهيب، ودخل حفرته عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر، وكانت الخلافة عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال.

وكان له من العمال وقت ما توفي: على الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى، وعلى حمص وأعمالها عمير بن سعد الضمري، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثقفي، وعلى مكة نافع بن عبد الحارث، وعلى مصر عمرو بن العاص ـ رحمهم الله تعالى أجمعين آمين!

استخلاف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه

وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وكنيته أبو عمرو، وقد قيل: أبو عبد الله، ويقال: أبو ليلى، وأم عثمان أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة ثنا علي بن هاشم عن جعفر بن نجيح المديني ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن أحدا ارتج وعليه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان فقال النبي : اثبت أحد! فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان

قال أبو حاتم: لما دفن عمر رضي الله عنه تعمد عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن وسعد يتشاورون، فأشار عثمان على عبد الرحمن بالدخول في الأمر، فأبى عبد الرحمن وقال: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، وإن شئتم اخترت لكم منكم واحدا، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، فلما ولي ذلك مال الناس كلهم إليه وتركوا أولئك الآخرين، فأخذ عبد الرحمن يتشاور في تلك الليالي الثلاث حتى إذا كان من الليلة التي بايع عثمان بن عفان من غدها جاء إلى باب المسور بن مخرمة بعد هوي من الليل فضرب الباب وقال: ألا أراك نائما؟ والله ماكحلت منذ الليلة بكثير نوم، ادع لي الزبير وسعدا، فدعاهما فشاورهما، ثم أرسله إلى عثمان بن عفان فدعاه فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن، فلما صلوا الصبح اجتمعوا، وأرسل عبد الرحمن إلى من حضر من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد، ثم خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني نظرت في أحوال الناس وشاورتهم فلم أجدهم يعدلون بعثمان، ثم قال: يا عثمان! نبايعك على سنة رسول الله والخليفتين من بعده! قال: نعم، فبايعه عبد الرحمن وبايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون، وذلك لغرة المحرم.

وبعد دفن عمر بثلاثة أيام في هذه السنة كان فتح همذان ثانيا. وكانت قد انتقضت على أميرها المغيرة بن شعبة على رأس ستة أشهر من مقتل عمر، وفي هذه السنة سار إليها أبو موسى الأشعري بأهل البصرة حتى فتحها صلحا، معه البراء ابن عازب وقرظة بن كعب، وكان عمر بن الخطاب قد قتل وحذيفة قد افتتحها وجيشه كان عليها المسلمون ثم انتقضوا حتى غزاهم أبو موسى، وخرج عثمان بن عفان يوم الفطر إلى المصلى يكبر ويجهر بالتكبير حتى صلى العيد وانصرف، وبعث على الحج عبد الرحمن بن عوف فخطبهم عبد الرحمن قبل التروية بيوم بمكة بعد الظهر، فلما زاغت الشمس خرج إلى منى وحج ونفر النفر الأول، وكان قد ساق معه بدنات فنحرها في منحر رسول الله .

فلما دخلت السنة الخامسة والعشرين غزا معاوية أرض الروم وفتح الحصون، وولد له ابن يزيد بن معاوية، ثم نقضت الإسكندرية الصلح الذي صالحهم عمرو بن العاص عليه فغزاهم عمرو، وظفر بهم وسباهم وبعث السبي إلى المدينة، فردهم عثمان إلى ذمتهم وقال: إنهم كانوا صلحا، والذرية لا تنقض الصلح، وإنما تنقض الصلح المقاتلة، ونقض المقاتلة الصلح ليس يوقع السبي على ذراريهم.

ثم عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن الإسكندرية ومصر وولاهما عبد الله سعد بن أبي سرح، فوجد عمرو من ذلك، وكان بدء الشر بينه وبين عثمان عزله عن مصر والإسكندرية، وكان عمرو قد بعث جيشه إلى المغرب فأصابوا غنائم كثيرة، فلما دخل عبد الله بن سعد مصر واليا بعث جرائد الخيل إلى المغرب واستشار عثمان في إفريقية، وعزل عثمان سعدا عن الكوفة وولى عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فبعث الوليد سلمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفا إلى برذعة فافتتحها عنوة وقتل وسبى، وغزا البيلقان فصالحوه قبل أن يجيء إلى برذعة وبعث خيله إلى جرزان فصالحوه، وفي هذه السنة كانت غزوة سابور الأولى، ثم حج عثمان بالناس.

السنة السادسة والعشرون

قدم معاوية المدينة وافدا على عثمان، وبعث عثمان بن عفان عثمان بن أبي العاص إلى فارس ففتح سائر الجنود، وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الإفريقية ومعه العبادلة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، فلقي جرجير في مائتي ألف بموضع يقال له سبيطلة على سبعين ميلا من القيروان فقتلوا جرجير، وسبوا وغنموا، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف مثقال ذهب وسهم الراجل ألف مثقال، وصالحه أهل تلك المدن إلى قيروان على مائة ألف رطل من ذهب.

واعتمر عثمان ودخل مكة وكان بين الصفا والمروة، وحل قبل أن يصبح، ثم رجع إلى المدينة، وأمر بتوسعة المسجد الحرام وتجديد أنصاب الحرم، وتزوج عثمان بنت خالد بن أسيد، ثم اعتمر عثمان في رجب، وخرج معه عبد الله بن جعفر والحسين بن علي فمرض الحسين بن علي، فأقام عبد الله بن جعفر عليه بالسقيا، وبعث إلى علي يخبره بذلك، فخرج علي في نفر من بني هاشم إلى السقيا، فلما دخلها دعا ببدنة فنحرها وحلق رأسه، وأقام على الحسين يمرضه، فلما فرغ عثمان من عمرته كلموه بأن يحول الساحل إلى جدة، وكانوا قبل ذلك في الجاهلية يرسون بالشعيبة وقالوا: جدة أقرب إلى مكة وأوسع وأقرب من كل ناحية، فخرج عثمان إلى جدة فرآها ورأى موضعها وأمرهم أن يجعلوها بمكان الشعيبة، فحول الساحل إلى جدة ودخل البحر وقال: إنه مبارك، وقال لمن معه: ادخلوا، ولا يدخلها إلا بمئزر، ثم خرج عثمان من جدة على طريق يخرجه إلى عسفان ثم مضى إلى الجار، فأقام بها يوما وليلة، ثم انصرف فمر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في منصرفه وهو يمرض الحسين مع جماعة من بني هاشم، فقال عثمان: قد أردت المقام عليه حتى تقدم، ولكن الحسين عزم علي وجعل يقول: امض لرهطك، فقال علي: ما كان ذلك بشيء يفوتك، هل كانت إلا عمرة، إنما يخاف الإنسان فوت الحج، فأما العمرة فلا، فقال عثمان: إني أحببت أن أدرك عمرة في رجب، فقال علي بن أبي طالب: ما رأيت رسول الله اعتمر في رجب قط، وما اعتمر عمراته الثلاث إلا في ذي القعدة، ثم رجع عثمان إلى المدينة، ثم مضى علي مع الحسين إلى مكة...

وافتتح عثمان بن أبي العاص سابور الثانية على ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف صلحا، ودخل في صلحهم كازرون،و بعث عثمان بن أبي العاص هرم بن حيان العبدي إلى قلعة بجرة على ذلك، وهي يقال لها قلعة الشيوخ فافتتحها عنوة وسبى أهلها، وحج بالناس عثمان بن عفان.

السنة السابعة والعشرون

استشار عثمان بن عفان أصحاب رسول الله في إفريقية فأشاروا عليه بذلك، وكان عثمان يكره ذلك لأن عمر كان يكرهه ويقول: إنها لا تحمل واليا مقتصدا. فخرج عبد الله بن أبي سرح، وجلب عثمان إبلا كثيرة من الربذة وسرف، وحمل عليها سلاحا كثيرا، وسار المسلمون معها يلحقون بعبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلما التقى المسلمون والمشركون ألقى الله في قلوبهم الرعب وفض ذلك الجمع حتى طلبوا الصلح، فصالحهم عبد الله بن أبي سرح على ألفي ألف وخمسمائة ألف وعشرين ألفا.

فلما كان العيد خطبهم عثمان، وكان صادف العيد يوم الجمعة فقال: من كان من أهل العالية وأحب أن يجتمع معنا فعل، وإلا فليجلس في موضعه. فافتتح عثمان بن أبي العاص أرجان ودارابجرد، وصالح أهلها على ألفي ألف ومائة.

السنة الثامنة والعشرون

تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة وكانت على دين النصرانية، فلما دخلت عليه قال لها عثمان: إني شيخ كبير كما ترين، قالت: أنا من نساء أحب الأزواج إليهن الكهول، قال: تقومين إلي أو آتيك؟ قالت: ما جئت من سماوة كلب إليك إلا وأنا أريد القيام إليك.

وغزا معاوية البحر ومعه عبادة بن الصامت معه امرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية، فأتى قبرس، فتوفيت أم حرام بها وقبرها هناك. ثم كانت فتح فارس الأول على يدي هشام بن عامر. وغزا معاوية قبرس فلحقه عبد الله بن أبي سرح وأهل مصر وغنموا غنائم كثيرة، وغزا جبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم، ثم كانت قبرس الآخرة أميرها هشام بن عامر. واعتمر عثمان في رجب ومعه عمرو بن العاص، فأتى عثمان بلحم صيد فأمرهم بأكله، فقال له عمرو بن العاص: لا تأكل ولا تأمرنا به، فقال عثمان: لست آكل منه شيئا لأنه صيد من أجلي، فكان بين عثمان وعمرو كلام كان ذلك أول ملاحاة كانت بينهما. وفي هذه السنة بنى عثمان دار بالزوراء، ثم حج عثمان بالناس.

السنة التاسعة والعشرون

عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وكان عاملا عليها سبع سنين، وعزل عثمان بن أبي العاص عن فارس، وولى ذلك كله عبد الله بن عامر بن كريز وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة فقدم البصرة، ثم خرج عبد الله بن عامر إلى فارس على مقدمته عبيد الله بن معمر التيمي، فقتل عبيد الله، وفتح إصطخر الثانية عنوة فقتل وسبى، فكان ذلك إصطخر الآخرة، وقد قيل: في هذه السنة فتح سارية بن زنيم الدئلي أصبهان صلحا وعنوة بأهل البصرة، بعثه ابن عامر.

وضاق مسجد رسول الله على الناس فكلموا عثمان في توسعته، فأمر بتوسعته، فكان عثمان يركب على راحلته ويقوم على العمال وهم يعملون حتى يجيء وقت الصلاة فيترك ويصلي بهم، وربما قال في المسجد ونام فيه، حتى جعل أعمدته من حجارة وفرش فيها الرضراض وبناه بالحجارة المنقوشة والساج، وجعل له ستة أبواب. ثم نقضت حلوان الصلح فافتتحها ابن عامر عنوة. ورجم عثمان امرأة من جهينة أدخلت على زوجها فولدت في ستة أشهر من يوم أدخلت عليه، فأمر بها عثمان فرجمت، فدخل علي على عثمان فقال له: إن الله يقول: حمله وفصاله ثلاثون شهرا فأرسل عثمان في طلبها فوجدها قد رجمت، فاعترف الرجل بالغلام، وكان من أشبه الناس به.

السنة الثلاثون

زاد عثمان النداء الثاني على الزوراء حيث كثر الناس. وانتقصت آذربيجان فغزاها سعيد بن العاص ففتحها، ثم غزا جرجان ففتحها. ومات الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف. وسقط خاتم رسول الله في بئر أريس على ميلين من المدينة وكانت من أقل تلك الآبار ماء، فطلب فلم يوجد إلى الساعة. وغزا ابن عامر في هذه السنة جور فافتتحها، وأصاب بها غنائم كثيرة، وافتتح الكاريان والفنسجان من دارابجرد ولم يكونا أدخلا في علم عثمان بن أبي العاص، ثم افتتح ابن عامر أردشير خرة عنوة فقتل وسبى وهرب يزدجرد فاتبعه ابن عامر مجاشع بن مسعود السلمي حتى نزل على السيرجان. وبعث راشد بن عمرو الجديدي ففتح هرمز. ووجه ابن عامر زياد بن الربيع الحارتي إلى سجستان فافتتح زالق وناشروذ. ثم بعث زياد بن الربيع إبراهيم بن بسام مولى بني ليث حتى حاصر مدينة زرنج فصالحوه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب. ومات مسعود بن الربيع وكان من أهل بدر، ومات الحصين بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف أخو الطفيل بن الحارث ثم حج عثمان بالناس وصلى بمنى أربعا.

السنة الحادية والثلاثون

فتحت أرمينية الآخرة وأميرها حبيب بن مسلمة الفهري، وذلك أن عثمان كتب إلى حبيب بن مسلمة أن سر من الشام في جيش إلى أرمينية، فمضى حبيب بن مسلمة من ناحية درب الحدث فافتتح خلاط وسراج ووادي المطامير. ومات أبو سفيان بن حرب وهو ابن ثمان وثمانين سنة. ثم خرج ابن عامر إلى خراسان وعلى مقدمته الأحنف بن قيس، فلقي أهل هراة فهزمهم، وافتتح أبرشهر صلحا، وقد قيل: عنوة ثم افتتح طوس وما حولها، ثم صالح أهل سرخس على مائة ألف وخمسين ألفا.

وبعث أبو عامر الأسود بن كلثوم العدوي إلى بيهق فافتتحها، وقتل بها وبعث أهل مرو يطلبون الصلح فصالحهم ابن عامر على ألفي ألف ومائتي ألف، وكان الذي صالحه ماهويه بن أوزمهر مرزبان مرو. ثم بعث ابن عامر الأحنف ابن قيس إلى مرو الروذ والفارياب والطالقان وافتتح طخارستان، وقتل منهم ثلاثة عشر نفسا، ثم خرج الأحنف إلى بلخ فصالحوه على أربعمائة ألف درهم، ثم أتى خوارزم فلم يطقها فرجع. وبعث ابن عامر خليد بن عبد الله بن زهير الحنفي إلى باذغيس وهراة فافتتحها ثم ارتدوا بعد. وغزا عبد الله ابن سعد بن أبي سرح أرض الروم في ناحية المصيصية وغنم ثم رجع، وحج بالناس عثمان.

السنة الثانية والثلاثون

مات عبد الله بن مسعود بالمدينة، ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان بن عفان. ومات عبد الرحمن بن عوف وهو ابن خمس وسبعين سنة. ومات العباس بن عبد المطلب وهو ابن خمس وثمانين سنة، لأن العباس ولد قبل الفيل بثلاثة سنين. ومات عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى النداء. ومات أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل. وغزا معاوية غزوة مضيق القسطنطينية ومعه امرأته عاتكة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وقد قيل: إن اسمها فاختة. وفيها غزا سعيد بن العاص طبرستان.

السنة الثالثة والثلاثين

مات المقداد بن عمرو بن ثعلبة على ثلاثة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال إلى المدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع، وغزا معاوية ملطية وقرطبة من أرض الروم. وجمع قارن جمعا كثيرا ببادغس وهراة وأقبل في أربعين ألفا، وقام بأمر الناس عبد الله بن خازم السلمي فلقي قارن وهزم أصحابه، وأصابوا سبيا كثيرا، ثم بعث ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب إلى سجستان فصالحه صاحب زرنج فأقام عبد الرحمن بها. وتحرك أهل إفريقية فزحف إليهم عبد الله بن أبي سرح فكانت إفريقية الثانية. وغزا معاوية حصن المرأة من بلاد الروم من ناحية ملطية. وحج بالناس عثمان.

السنة الرابعة والثلاثين

مات مسطح بن أثاثة من أهل بدر. وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الصواري من أرض مصر، وقاتل منهم مقتلة عظيمة، وذلك أن المسلمين وعدوهم جميعا كانوا في البحر، فالتقوا فاقتلوا قتالا شديدا من غير رمي بالسهم ولا طعن بالرمح، إنما كان ضرب السيف أو الطعن بالخنجر حتى قتل من أرض الروم خلق كثير، وهزم الله الروم منكوبين، وانصرف المسلمون غانمين. ومات عبادة بن صامت بالرملة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. ومات عاقل بن البكير من بني سعد بن الليث من أهل بدر. ومات أبو عبس بن جبر بالمدينة وهو من أهل بدر. وحج عثمان بالناس.

السنة الخامسة والثلاثين

خرج جماعة من أهل مصر إلى عثمان يشكون ابن أبي سرح ويتكلمون منه، فكتب إليه عثمان كتابا وهدده فيه، فأبى ابن أبي السرح أن يقبل من عثمان وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان متظلما وقتل رجلا من المتظلمة، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل فيهم أربعة من الرؤساء: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي، وسودان بن حمران المرادي، فساروا حتى قدموا المدينة ونزلوا مسجد رسول الله وشكوا إلى أصحاب محمد في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح، فقام طلحة بن عبيد الله إلى عثمان بن عفان وكلمه الكلام الشديد، وأرسلت إليه عائشة: قدم عليك أصحاب محمد وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت ذلك بواحدة، وهذا قد قتل منهم رجلا، فأنصفهم منة عاملك، وكان عثمان يحب قومه. ثم دخل عليه علي بن أبي طالب فقال: سألوك رجلا مكان رجل وقد ادعوا قبله دما، فاعزله عنهم واقض بينهم، فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه، فقال لهم عثمان: اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقالوا لعثمان: استعمل علينا محمد بن أبي بكر، فكتب عهده وولاه مصر، فخرج محمد بن أبي بكر واليا على مصر بعهده ومعه عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فلما بلغوا مسيرة ثلاثة ليال من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير له، يخبط البعير خبطا، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقالوا له: ما قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب؟ قال: أنا غلام أمير المؤمنين، وجهني إلى عامل مصر، قالوا: هذا عامله معنا، قال: ليس هذا أريد ـ ومضى، فأخبر محمد بن أبي بكر بأمره، فبعث في طلبه أقواما فردوه، فلما جاءوا به قال له محمد: غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين ومرة يقول: أنا غلام مروان، فعرفه رجل منهم أنه لعثمان، فقال له محمد بن أبي بكر لمن أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة، قال: أمعك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتابا، وكان معه إدواة قد يبست وفيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقوا الإدواة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بحضرتهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك، واحبس من يجيء إلي يتظلم منك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله، فلما قرأوا الكتاب فزعوا وأزمعوا ورجعوا إلى المدينة، وختم محمد بن أبي بكر الكتاب بخواتم جماعة من المهاجرين معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم وانصرفوا إلى المدينة، فلما قدموها جمع محمد بن أبي بكر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بها من أصحاب رسول الله ، ثم فك الكتاب بحضرتهم عليه خواتم من معه من المهاجرين، وأخبرهم بقصة الغلام، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان، وقام أصحاب رسول الله فلحقوا بمنازلهم، وما منهم أحد إلا هو مغتم، وكانت هذيل وبنو زهرة في قلوبها ما فيها على عثمان لحال ابن مسعود، وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار ابن ياسر، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر من بني تيم، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله وعائشة، فلما رأى ذلك علي وصح عنده الكتاب بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله كلهم بدريون، ثم جاء معهم حتى دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، فقال له: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله أنه ما كتب هذا الكتاب ولا أمر به، فقال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم، قال علي: فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف عثمان بالله: ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به، ولا وجهت هذا الغلام قط إلى مصر، وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، فلما شكوا في أمر عثمان سألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى، وكان مروان عنده في الدار وكان خشي عليه القتل، فخرج من عنده علي وأصحاب رسول الله وعلموا أن عثمان لا يحلف باطلا، ثم قالوا: لا نسكت إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث ونتعرف منه ذلك الكتاب، وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب رسول الله بغير حق! فإن يك عثمان كتب ذلك عزلناه، وإن يك مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون في أمر مروان، ولزموا بيوتهم،و فشا الخبر في المسلمين من أمر الكتاب، وفقد أصحاب رسول الله عن عثمان، وخرج من الكوفة عدي بن حاتم الطائي والأشتر مالك بن الحارث النخعي في مائتي رجل، وخرج من البصرة حكيم بن جبلة العبدي في مائة رجل، حتى قدموا المدينة يريدون خلع عثمان، وحوصر عثمان قبل هلال ذي القعدة بليلة، وضيق عليه المصريون والبصريون وأهل الكوفة بكل حيلة ولم يدعوه يخرج، ولا يدخل إليه أحد إلا أن تأتيه المؤذن فيقول: الصلاة! وقد منعوا المؤذن أن يقول: يا أمير المؤمنين، فكان إذا جاء وقت الصلاة بعث أبا هريرة يصلي بالناس، وربما أمر ابن عباس بذلك، فصعد يوما عثمان على السطح فسمع بعض الناس يقول: ابتغوا إلى قتله سبيلا، فقال: والله ما أحل الله ولا رسوله قتلي، سمعت رسول الله يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس، وما فعلت من ذلك شيئا، ثم قال: لا أخلف رسول الله في أمته بإراقة محجمة دم حتى ألقاه، يا معشر أصحاب رسول الله ! أحبكم إلي من كف عنا لسانه وسلاحه، ثم أشرف عليهم فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا، قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا، فقال: أذكركم بالله هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بشيء، فابتعتها من مالي وجعلتها للغني والفقير وابن السبيل، فقالوا: نعم، قال: فاسقوني منها، ثم قال: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة، فما كادت تصل إليه حتى خرج في سببها عدة من بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه، ثم قال عثمان: والله! لو كنت في أقصى داري ما طلبوا غيري، ولو كنت أدناهم ما جاوزني إلى غيري، سنجتمع نحن وهم عند الله، وسترون بعدي أمورا تتمنون أني عشت فيهم، ضعف أمري، والله، وما أرغب في أمارتهم، ولولا قول رسول الله لي إذا ألبسك الله قميصا وأرادوك على خلعه فلا تخلعه لحبست في بيتي وتركتكم وإمارتكم، وو الله! لو فعلت ما تركوني وإنهم قد خدعوا وغروا، والله! لو أقتل لمت، لقد كبر سني، ورق عظمي وجاوزت أسنان أهل بيتي، وهم على هذا لا يريدون تركي، اللهم! فشتت أمرهم وخالف بين كلمتهم وانتقم لي منهم واطلبهم لي طلبا حثيثا. وقد استجيب دعاءه في كل ذلك.

ثم أمر عثمان بن عفان عبد الله بن عباس على الحج فحج بالناس فأمره. وبعث إلى الأشتر فدعاه فقال: يا أشتر! ما يريد الناس؟ قال: ثلاث ليس من إحداهن بد، إما أن تخلع أمرهم وتقول: هذا أمركم فاختاروا له من شئتم، وإما أن تقص من نفسك، فإن أبيتهما فالقوم قاتلوك، قال عثمان: إما أن أخلع لهم أمرهم، فما كنت لأخلع سربالا سربلينه الله، والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أخلع أمة محمد بعضها على بعض، وأما أن أقص من نفسي، فو الله لقد علمتم أني لم آت شيئا يجب علي القصاص فيه، وأما أن تقتلوني، فو الله إن تقتلوني لا تتحابون بعدي! ولا تقاتلون بعدي عدوا جميعا، ولتختلفن حتى تصيروا هكذا، يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح ـ الآية، ثم أرسل إلى عبد الله بن سلام فجاءه فقال: الكف الكف! ثم جاءه زيد بن ثابت فقال: يا أمير المؤمنين! هذه الأنصار بالباب، فقال عثمان: إن شاءوا أن يكونوا أنصار الله منكم وإلا فلا، ثم جاءه عبد الله بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين! اخرج فقاتلهم، فإن معك من قد نصر الله بأقل منهم، فلم يعرج على قول ابن الزبير، ثم قال: ائتوني برجل منهم أقرأ عليه كتاب الله، فأتوه بصعصعة بن صوحان وكان شابا فقال: ما وجدتم أحدا تأتوني به غير هذا الشاب! فتكلم صعصعة بكلام، فقال عثمان: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، فلما اشتد بعثمان الأمر أصبح صائما يوم الجمعة وقال: إني رأيت النبي في المنام فقال لي: يا عثمان! إنك تفطر عندنا الليلة، ثم قال علي للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقفا على باب عثمان ولا تدعا أحدا يصل إليه، وبعث الزبير ابنه، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ورماه الناس بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء، وتخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي، ثم أخذ محمد بن أبي بكر بيد جماعة وتسور الحائط من غير أن يعلم به أحد من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان وهو قاعد والمصحف في حجره ومعه امرأته والناس فوق السطح لا يعلم أحد بدخولهم، فقال عثمان لمحمد بن أبي بكر: والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني! فرجع محمد، وتقدم إليه سودان بن رومان المرادي ومعه مشقص فوجأه حتى قتله وهو صائم، ثم خرجوا هاربين من حيث دخلوا، وذلك يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجة، وكان تمام حصاره خمسة وأربعين يوما، وكانت امرأته تقول: إن شئتم قتلتموه، وإن شئتم تركتموه! فإنه كان يختم القرآن كل ليلة في ركعة. ثم صعدت إلى الناس تخبرهم وهمر الناس عليه فدخلوا، وأول من دخل عليه الحسن والحسين فزعين وهما لا يعلمان بالكائنة وكانا مشغولين على الباب ينصرانه ويمنعان الناس عنه، فلما دخلوا وجدوا عثمان مذبوحا، فانكبوا عليه يبكون، ودخل الناس فوجا فوجا، وبلغ الخبر علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعدا فخرجوا مذهلين، كادت عقولهم تذهب لعظم الخبر الذي أتاهم، حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا واسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ قالا: لم نعلم، قال: فرفع يده ولطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير، ثم خرج وهو غضبان يسترجع، فلقيه طلحة بن عبيد الله فقال: ما لك يا أبا الحسن؟ فقال علي: يقتل أمير المؤمنين رجل من أصحاب محمد من غير أن تقوم عليه بينة ولا حجة! فقال له طلحة: لو دفع مروان إليهم لم يقتلوه، فقال علي: لو خرج مروان إليكم لقتلتموه قبل أن يثبت عليه حكومة! ثم أتى علي منزله يسترجع، فاشتغل الناس بعضهم ببعض وفزعوا ولم يتوهموا بأن هذه الكائنة تكون، ثم حمل على سريره بين المغرب والعشاء، وصلى عليه جبير بن مطعم، ودلته في قبره نائلة بنت الفرافصة وأم البنين بنت عيينة بن حصن بن بدر الفزاري، ودفن ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما.

وقتل يوم قتل عثمان من قريش عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي، وعبد الله ابن عبد الرحمن بن العوام، والمغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي، وقتل معهم غلام لعثمان أسود ـ أربعة أنفس.

وكان عمال عثمان حين قتل: على البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى مصر محمد بن أبي حذيفة، وعلى مكة عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منبه، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة.

استخلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه

ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو الحسن الهاشمي، وأمه فاطمة بنت أسد بن هشام بن عبد مناف، وهاشم أخو هشام، ومن زعم أنه أسد بن هاشم بن عبد مناف فقد وهم.

أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي قد تخلف عن رسول الله في خيبر وكان به رمد فقال: أنا أتخلف عن رسول الله ! فخرج فلحق بالنبي ، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله : لأعطين الراية ـ أو ليأخذن الراية ـ غدا رجل يحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله ، ففتح الله عليه.

قال أبو حاتم: لما كان من أمر عثمان ما كان قعد علي في بيته وأتاه الناس يهرعون إليه. كلهم يقولون: أمير المؤمنين علي، حتى دخلوا عليه داره وقالوا: نبايعك، فإنه لا بد من أمير وأنت أحق، فقال علي: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليا يطلبون البيعة وهو يأبى عليهم، فجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى علي فقال له: ما يمنعك أن تجيب هؤلاء إلى البيعة؟ فقال: لا أفعل إلا عن ملأ وشورى، وجاء أهل مصر فقالوا: ابسط يدك نبايعك، فو الله! لقد قتل عثمان، وكان قتله لله رضى، فقال علي: كذبتم، والله ما كان قتله لله رضى! لقد قتلتموه بلا قود ولا حد ولا غيره، وهرب مروان فطلب فلم يقدر عليه، فلما رأى ذلك علي منهم خرج إلى المسجد وصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا أيها الناس! رضيتم مني أن أكون عليكم أميرا؟ فكان أول من صعد إليه المنبر طلحة فبايعه بيده، وكان إصبع طلحة شلاء فرآه أعرابي يبايع فقال: يد شلاء وأمر لا يتم، فتطير علي منها وقال: ما أخلقه أن يكون كذلك، ثم بايعه الزبير وسعد وأصحاب رسول الله ، ثم بلغ عليا أن سعدا وابن عمر ومحمد بن مسلمة يذكرون هنات، فقام علي خطيبا فحمد الله وأثنى عليه فقال: أيها الناس! إنكم بايعتموني على ما بايعتم عليه أصحابي، فإذا بايعتموني فلا خيار لكم علي، وعلى الإمام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة، فمن ردها رغب عن دين المسلمين واتبع غير سبيلهم، ولم تكن بيعته إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا، أريد الله وتريدونني لأنفسكم، وأيم الله! لأنصحن الخصم ولأنصفن المظلوم.

وقد أكثر الناس في قتل عثمان، فمنهم من قد زعم أنه قتل ظالما، ومنهم من قد زعم أنه قتل مظلوما، وكان الإكثار في ذلك على طلحة والزبير قالت قريش: أيها الرجلان! إنكما قد وقعتما في ألسن الناس في أمر عثمان فيما وقعتما فيه، فقام طلحة في الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أيها الناس! ما قلنا في عثمان أمس إلا نقول لكم فيه اليوم مثله أنه خلف الدنيا بالتوبة، ومال عليه قوم فقتلوه، وأمره إلى الله، ثم قام الزبير فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي ثم قال: يا أيها الناس! إن الله اختار من كل شيء شيئا، واختار من الناس محمدا ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، واختار من الشهور رمضان وأنزل فيه القرآن وفرض فيه الصيام، واختار من الأيام يوم الجمعة فجعله عيدا لأهل الإسلام، واختار من البلدان هذين الحرمين: مكة والمدينة، فجعل بمكة البيت الحرام، وجعل بالمدينة حرم رسول الله ، وجعل ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة، واختار من الشورى التسليم كما اختار هذه الأشياء، فأذهبت الشورى بالهوى والتسليم بالشك، قد تشاورنا فرضينا عليا، وأما إن قتل عثمان فأمره إلى الله.

فلما رأى علي اختلاف الناس في قتل عثمان صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! أقبلوا علي بأسماعكم وأبصاركم، إن الناس بين حق وباطل، فلئن علا أمر الباطل لقديما ما فعل، وإن يكن الحق قد غاب فلعل، وإني أخاف أن أكون أنا وأنتم قد أصبحنا في فتنة، وما علينا فيها إلا الاجتهاد، الناس اثنان وثلاثة لا سادس لهم: ملك طار بجناحيه، أو نبي أخذ الله بيده، أو عامل مجتهد، أو مؤمل يرجو، أو مقصر في النار، وإن الله أدب هذه الأمة بأدبين: بالسيف والسوط، لا هوادة عند السلطان فيهما، فاستتروا واستغفروا الله فأصلحوا ذات بينكم.

ثم نزل وعمد إلى بيت المال وأخرج ما فيه وفرقه على المسلمين، ثم بعث إلى سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة فقال: لقد بلغني عنكم هنات، فقال سعد: صدقوا! لا أبايعك، ولا أخرج معك حيث تخرج حتى تعطيني سيفا يعرف المؤمن من الكافر، وقال له ابن عمر: أنشدك الله والرحم أن تحملني على ما لا أعرف، والله! لا أبايع حتى يجتمع المسلمون على من جمعهم الله عليه، وقال محمد بن مسلمة: إن رسول الله أمرني إذا اختلف أصحابه ألا أدخل فيما بينهم، وأن أضرب بسيفي صخر أحد، فإذا انقطع أقعد في بيتي حتى تأتيني يد خاطئة أو منية قاضية، وقد فعلت ذلك، ثم دعا علي أسامة بن زيد وأراده على البيعة فقال أسامة: أما البيعة فإنني أبايعك، أنت أحب إلي وآثرهم عندي، وأما القتال فإني عاهدت رسول الله أن لا أقاتل رجلا يشهد أن لا إله إلا الله، فلما رآهم علي مختلفين قال: أخرجوني من هذه البيعة واختاروا لأنفسكم من أحببتم، فسكتوا وقاموا وخرجوا، فدخل عليه المغيرة بن شعبة فقال: يا أمير المؤمنين! إني مشير عليك بخلال ثلاث فافعل أيها شئت، فقال: ما هي يا أعور؟ فقال: إني أرى من الناس بعض التثاقل فيك، فأرى أن تأتي بحمل ظهر فتركبه وتركض في الأرض هاربا من الناس، فإنهم إذا رأوا ذلك منك ابتاعوا جمالا أظهر من جمالك وخيولا، ثم ركضوا في أثرك حتى يدركوك حيث ما كنت ويقلدوك هذا الأمر على اجتماع منهم شئت أو أبيت، فإن لم تفعل هذا فأقر معاوية على الشام كله واكتب إليه كتاب بذلك تذكر فيه من شرفه وشرف آبائه وأعلمه أنك ستكون له خيرا من عمر وعثمان، واردد عمرو بن العاص على مصر، واذكر في كتابك شرفه وقدمه، فإنه رجل يقع الذكر منه موقعا، فإذا ثبت الأمر أذنت لهما حينئذ في القدوم عليك تستخبرهما عن البلاد والناس، ثم تبعث بعامين وتقرهما عندك، فإن أبيت فاخرج من هذه البلاد فإنها ليست ببلاد كراع وسلاح.

فقال علي: أما ما ذكرت من فراري من الناس فكيف أفر منهم وقد بايعوني، وأما أمر معاوية وعمرو بن العاص فلا يسألني الله عن إقرارهما ساعة واحدة في سلطاني وما كنت متخذ المضلين عضدا، وأما خروجي من هذه البلاد إلى غيرها فإني ناظر في ذلك. فخرج من عنده المغيرة ثم عاد وهو عازم على الخروج إلى الشام واللحوق بمعاوية، فقال له: يا أمير المؤمنين! أشرت عليك بالأمس في رأيي بمعاوية وعمرو، إن الرأي أن تعاجلهم بالنزع، فقد عرف السامع من غيره، وتستقبل أمرك، ثم خرج من عنده فلقيه ابن عباس خارجا وهو داخل، فلم انتهى إليه قال: رأيت المغيرة خارجا من عندك، فيم جاءك؟ قال: جاءني أمس برأي واليوم برأي، وأخبره بالرأيين، فقال ابن عباس: أما أمس فقد نصحك، وأما اليوم فقد غشك، قال: فما الرأي؟ قال ابن عباس: كان الرأي قبل اليوم، قال علي: علي ذلك! قال: كان الرأي أن تخرج إلى مكة حتى تدخلها وتدخل دارا من دورها وتغلق عليك بابك، فإن الناس لم يكونوا ليدعوك، وإن قريشا كانت تضرب الصعب والذلول في طلبك، لأنها لا تجد غيرك، فأما اليوم فإن بني أمية يستحسون الطلب بدم صاحبهم، ويشبهون على الناس إن يلزموك شعبة من أمره ويلطخونك من ذلك ببعض اللطخ. فهم علي بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها وينظر ما رأى معاوية وما هو صانع، فجاءه أبو أيوب الأنصاري فقال له: يا أمير المؤمنين! لو أقمت بهذه البلاد! لأنها الدرع الحصينة ومهاجرة للنبي ، وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامت لك العرب كنت فيها كمن كان، وأن تشعب عليك قوم رميتهم بأعدائهم، وإن ألجئت حينئذ إلى المسير سرت وقد أعذرت، فقال علي: إن الرجال والأموال بالعراق، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ثم أخذ بما أشار عليه أبو أيوب الأنصاري وعزم على المقام بالمدينة، وبعث العمال على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة أميرا، وعمارة بن حسان ابن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام، فأما سهل بن حنيف فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيه خيل من أهل الشام فقالوا له: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام، قالوا: إن كان عثمان بعثك فحي هلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع، قال: ما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى، ولكن ارجع إلى بلدك، فرجع إلى علي وإذا القوم أصحاب.

وأما قيس بن سعد فإنه انتهى إلى إيلة فلقيه طلائع فقالوا له: من أنت؟ فقال أنا من الأصحاب الذين قتلوا وشردوا من البلاد، فأنا أطلب مدينة آوي إليها فقالوا: ومن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة، فقالوا: امض بنا، فمضى قيس حتى دخل مصر وأظهر لهم حاله. وأخبرهم أنه ولي على مصر، فافترق عليه أهل مصر فرقا: فرقة دخلت في الجماعة وبايعت، وفرقة أمسكت واعتزلت وفرقة قالت: إن قيد من قتلة عثمان فنحن معه وإلا فلا، فكتب قيس بن سعد بجميع ما رأى من أهل مصر إلى علي.

وأما عبيد الله بن عباس فإنه خرج منطلقا إلى اليمن، لم يعانده أحد ولم يصده عنها صاد حتى دخلها فضبطها لعلي، وأما عمارة بن حسان بن شهاب فإنه أقبل عامدا إلى الكوفة حتى إذا كان بزبالة لقيه طليحة بن خويلد الأسدي وهو خارج إلى المدينة يطلب دم عثمان، فقال طليحة: من أنت؟ قال: أنا عمارة بن حسان بن شهاب، قال: ما جاء بك؟ قال: بعثت إلى الكوفة أميرا، قال: ومن بعثك؟ قال: أمير المؤمنين علي، قال: الحق بطيتك، فإن القوم لا يريدون بأميرهم أبي موسى الأشعري بدلا، فرجع عمارة إلى علي وأخبره الخبر، وأقام طليحة بزبالة.

وأما عثمان بن حنيف فإنه مضى يريد البصرة وعليها عبد الله بن عامر بن كريز، وبلغ أهل البصرة قتل عثمان، فقام ابن عامر فصعد المنبر وخطب وقال: إن خليفتكم قتل مظلوما، وبيعته في أعناقكم، ونصرته ميتا كنصرته حيا، واليوم ما كان أمس، وقد بايع الناس عليا ونحن طالبون بدم عثمان، فأعدوا للحرب عدتها، فقال له حارثة بن قدامة: يا ابن عامر! إنك لم تملكنا عنوة وقد قتل عثمان بحضرة المهاجرين والأنصار وبايع الناس عليا، فإن أقرك أطعناك، وإن عزلك عصيناك، فقال ابن عامر: موعدك الصبح، فلما أمسى تهيأ للخروج وهيأ مراكبه وما يحتاج إليه المسلمون واتخذ الليل جملا يريد المدينة، واستخلف عبد الله بن عامر الحضرمي على البصرة، فأصبح الناس يتشاورون في ابن عامر وأخبروا بخروجه، فلما قدم ابن عامر المدينة أتى طلحة والزبير فقالا له: لا مرحبا بك ولا أهلا! تركت العراق والأموال، وأتيت المدينة خوفا من علي، ووليتها غيرك، واتخذت الليل جملا، فهلا أقمت حتى يكون لك بالعراق فئة، قال ابن عامر: فأما إذا قلتما هذا فلكما علي مائة سيف وما أردتما من المال.

ثم أتت أم كلثوم بنت علي أباها وكانت تحت عمر بن الخطاب، فقالت له: إن عبد الله بن عمر رجل صالح، وأنا أتكفل ما يجيء منه لك، فلما كان من قدوم ابن عامر المدينة جاء ابن عمر إليها فقال: يا أماه! إنك قد كفلت في وأنا أريد الخروج إلى العمرة الساعة، ولست بداخل في شيء يكرهه أبوك غير أني ممسك حتى يجتمع الناس، فإن شئت فأذني، وإن شئت فابعثيني إلى أبيك، قالت: لا، بل اذهب في حفظ الله وتحت كنفه، فانطلق ابن عمر معتمرا.

فلما أصبح الناس أتوا عليا فقالوا: قد حدث البارحة حدث هو أشد من طلحة والزبير ومعاوية، قال علي: ما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام، فأتى علي السوق وجعل يعد طلابا ليرد ابن عمر، فسمعت أم كلثوم بذلك فركبت بغلتها حتى أتت أباها فقالت: إن الأمر على غير ما بلغك، وحدثته بما ذكر لها ابن عمر، فطابت نفس علي بذلك، فما انصرفوا من السوق حتى جاءهم بعض القدام من العمرة وأخبروه أنهم رأوا ابن عمر وآخر معه على حمارين محرمين بكساءين.

ثم كتب علي إلى معاوية: [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد! فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان وما اجتمع الناس عليه من بيعتي فادخل في السلام كما دخل الناس وإلا فأذن بحرب كما يؤذن أهل الفرقة ـ والسلام ] وبعث كتابه مع سبرة الجهني والربيع بن سبرة، فلما تقدم سبرة بكتاب علي ودفعه إلى معاوية جعل يتردد في الجواب مدة، فلما طال ذلك عليه دعا معاوية رجلا من عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طومارا مختوما عنوانه [ من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ] وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار وأبرزه ـ وأوصاه بما يقول، وبعثه مع سبرة رسول علي فقدما المدينة، فرفع العبسي الطومار كما أمر معاوية، فخرج الناس ينظرون إليه وعلموا حينئذ أن معاوية معترض معاند، فلما دخلا على علي دفع إليه العبسي الطومار ففض عن خاتمه فلم يجد في جوفه شيئا، فقال لسبرة: ما وراءك؟ قال: تركت قوما لا يرضون إلا بالقود، وقد تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، فقال علي: أمني يطلبون دم عثمان.

ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري، سلام عليك! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد! فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان وما اجتمع الناس عليه من بيعتي، فادخل فيما دخل فيه الناس ورغب أهل ملكك في السمع والطاعة، واكتب إلي بما كان منك ومنهم إن شاء الله ـ والسلام عليك ورحمته الله وبركاته ]. وبعث الكتاب مع معبد الأسلمي، فلما قدم معبد الكوفة دعا أبو موسى الأشعري الناس إلى طاعة علي فأجابوه طائعين، وكتب إلى علي بن أبي طالب [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ لعبد الله علي أمير المؤمنين من عبد الله بن قيس، سلام عليك! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد! فقد قرأت كتابك ودعوت من قبلي المسلمين فسمعوا وأطاعوا ـ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ] ودفع كتابه إلى معبد.

وكانت عائشة خرجت معتمرة، فلما قضت عمرتها نزلت على باب المسجد واجتمع إليها الناس فقالت: أيها الناس! إن الغوغاء من أهل الأمصار وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس ظلما، واستحلوا البلد الحرام وسفكوا الدم الحرام. فقال عبد الله ابن عامر: ها أنا ذا أول طالب بدمه، فكان أول من انتدب لذلك.

ولما كثر الاختلاف بالمدينة استأذن طلحة والزبير عليا في العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان، وقد قلت لكما قبل بيعتكما لي: أيكما شاء بايعته، فأبيتما إلا بيعتي، وقد أذنت لكما، فاذهبا راشدين، فخرجا إلى مكة وتبعهما عبد الله بن عامر بن كريز فلما لحقهما قال لهما: ارتحلا فقد بلغتكما حاجتكما، فاجتمعوا مع عائشة بمكة وبها جماعة من بني أمية.

ثم جمع معاوية أهل الشام على محاربة علي والطلب بالقود من دم عثمان، واحتال في قيس بن سعد بن عبادة وكان واليا على مصر، وكتب إلى علي كتابا يمرغ فيه معاوية، فلما قرأ علي الكتاب عزل قيسا وولى عليها محمد بن أبي بكر.

وخرج قسطنطين بن هرقل بالمراكب يريد المسلمين، فسلط الله عليهم ريحا قاصفا فغرقهم، ونجا قسطنطين بن هرقل حتى انتهى إلى سقلية، فصنعت الروم حماما، فلما دخله قتلوه فيه وقالوا له: قتلت رجالنا.

ثم حج بالناس عبد الله بن عباس، أمره علي على الحج، فلما انصرف أجمع طلحة والزبير على المسير بعائشة، فقال طلحة: ما لنا أمر أبلغ في استمالة الناس إلينا من شخوص ابن عمر معنا، وكان من أمره في عثمان وخلافه له على ما يعلمه من يعلمه، فأتاه طلحة فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن عائشة قصدت الإصلاح بين الناس فاشخص معنا فإن لك بنا أسوة، فقال ابن عمر: أتخدعونني لتخرجوني كما تخرج الأرنب من جحرها! إن الناس إنما يخدعون بالوصيف والوصيفة والدنانير والدراهم، ولست من أولئك، قد تركت هذا الأمر عيانا وأنا أدعى إليه في عافية، فاطلبوا لأمركم غيري، فقال طلحة: يغني الله عنك.

وقدم يعلى بن أمية من اليمن وقد كان عاملا عليها بأربعمائة من الإبل، فدعاهم إلى الحملان، فقال له الزبير: دعنا من إبلك هذه، ولكن أقرضنا من هذا المال، فأعطاه ستين ألف دينار، وأعطى طلحة أربعين ألف دينار، فتجهزوا وأعطوا من خف معهم.

السنة السادسة والثلاثون

تشاوروا في مسيرهم فقال الزبير: عليكم بالشام بها الأموال والرجال، وقال ابن عامر: البصرة فإن غلبتهم عليها فلكم الشام، إن معاوية قد سبقكم إلى الشام وهو ابن عم عثمان، وإن البصرة لي بها صنائع ولأهلها في طلحة هوى، وكانت عائشة تقول: نقصد المدينة، فقالوا لها: يا أم المؤمنين! دعي المدينة فإن من معك لا يقربون لتلك الغوغاء، واشخصي معنا إلى البصرة، فإن أصلح الله هذا الأمر كان الذي نريد، وإلا فقد بلغنا ويقضي الله فيه ما أحب، وكلموا حفصة ابنة عمر أن تخرج معهم فقالت: رأيي تبع لرأي عائشة، فأتاها عبد الله بن عمر فناشدها الله أن تخرج، فقعدت وبعثت إلى عائشة أن أخي حال بيني وبين الخروج، فقالت: يغفر الله لابن عمر. ثم نادى منادي طلحة والزبير: من كان عنده مركب وجهاز، وإلا فهذا مركب وجهاز، فحملوا على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب، وكانوا نحو ألف نفس، وتجهزوا بالمال، وشيعهم نساء النبي ، وكان كلهن بمكة حاجات إلا أم سلمة فإنها سارت إلى المدينة، فلما بلغوا ذات عرق ودعت أزواج النبي وبكين وبكى الناس، فلما رأوا بكاء أكثر من ذلك اليوم، وسمي يوم النحيب. وجعلن يدعون على قتلة عثمان الذين سفكوا في حرم رسول الله الدم الحرام، ثم انصرفن، ومضت عائشة وهي تقول: اللهم! إنك تعلم أني لا أريد إلا الإصلاح فأصلح بينهم.

وبعثت أم الفضل حين خرجت عائشة ومن معها من مكة إلى علي رجلا من جهينة قالت له: اقتل في كل مرحلة بعيرا وعلي ثمنه، وهذه مائة دينار وكسوة، وكتبت معه [ أما بعد! فإن طلحة والزبير وعائشة خرجوا من مكة يريدون البصرة ] فقدم المدينة وأعطى عليا الكتاب، فدعا علي محمد بن أبي بكر فقال له: ألا ترى إلى أختك خرجت مع طلحة والزبير! فقال محمد بن أبي بكر: إن الله معك ولن يخذلك، والناس ناصروك.

ثم قام علي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، تهيئوا للخروج إلى قتال أهل الفرقة فإني سائر إن شاء الله، إن الله بعث رسولا صادقا بكتاب ناطق وأمر واضح، لا يهلك عنه إلا هالك، وإن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم، وقد قال رسول الله إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها. انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم، لعل الله يصلح بكم ذات البين.

وبعث علي الحسن بن علي وعمار بن ياسر إلى الكوفة لاستنفارهم، فلما قدموا الكوفة قام أبو موسى الأشعري في الناس وكان وليا عليها وأخبرهم بقدوم الحسن واستنفاره إياهم إلى أمير المؤمنين على إصلاح البين.

وقدم زيد بن صوحان من عند عائشة معه كتابان من عائشة إلى أبي موسى والي الكوفة وإذا في كل كتاب منهما [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عائشة أم المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري ـ سلام عليك! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد! فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين، فإن قتلة عثمان فارقوا الجماعة وأحلوا بأنفسهم البوار ] فلما قرأ الكتابين وثب عمار بن ياسر فقال: أمرت عائشة بأمر، وأمرنا بغيره، أمرت أن تقر في بيتها، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فهوذا تأمرنا بما أمرت، وركبت ما أمرنا به، ثم قال: هذا ابن عم رسول الله فاخرجوا إليه، ثم انظروا في الحق ومن الحق معه. ثم قام الحسن بن علي فقال: يا أيها النا س! أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى أخوانكم، لعل الله يصلح بينكم. ثم قام هند بن عمرو البجلي فقال: إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا فاتبعوا قوله وانتهوا إلى أمره، فقام حجر بن عدي الكندي فقال: أيها الناس! أجيبوا أمير المؤمنين، وانفروا خفافا وثقالا بأموالكم وأنفسكم. ثم قال الحسن أيها الناس! إني غاد، فمن شاء منكم فليخرج معي على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء، فأجابوه، وخرج معه تسعة آلاف نفس بعضهم على البر وبعضهم على الماء، وساروا حتى بلغوا ذا قار، وخرج علي من المدينة معه ستمائة رجل، وخلف على المدينة سهل بن حنيف، فالتقى هو وابنه الحسن مع من خرج معه من الكوفة بذي قار، فخرجوا جميعا إلى البصرة ولم يدخل علي الكوفة، وكتب إلى المدينة إلى سهل بن حنيف أن يقدم عليه ويولي على المدينة أبا حسن المازني، والتقى مع طلحة والزبير وعائشة بالجلحاء على فرسخين من البصرة، وذلك لخمس خلون من جمادى الآخرة، وكان علي كثيرا ما يقول: يا عجب كل العجب، من جمادى ورجب! فكان من أمرهم ما كان.

وقتل ابن جرموز الزبير ثم أتى عليا يخبره فقال علي: سمعت رسول الله الله يقول قاتل ابن صفية بالنار فقال ابن جرموز: إن قتلنا معكم فنحن معكم في النار وإن قاتلناكم فنحن في النار! ثم يعج بطنه بسيفه فقتل نفسه. وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم من ورائه، فأثبته فيه وقتله، وحمله إلى البصرة فمات بها، فقبر طلحة بالبصرة، وقتل الزبير بوادي السباع، وكان كعب بن سور قد علق المصحف في عنقه ثم يأتي هؤلاء فيذكرهم، ويأتي هؤلاء فيذكرهم حتى قتل.

وكان علي ينادي مناديه: لا تقتل مدبرا ولا تذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ولم يقتل بعد آن واحدا. فلما اطمأن الناس بعث علي بعائشة مع نساء من أهل العراق إلى المدينة، وأقام بالبصرة خمسة عشر يوما ثم خرج إلى الكوفة، وولى على البصرة عبد الله بن عباس، وولى الولاة في البلدان، وكتب إلى المدن بالقرار والطاعة.

ثم إن أبا مسلم الخولاني قال لمعاوية: على ما تقاتل عليا وهو ابن عم رسول الله وله من القدم والسابقة ما ليس لك وإنما أنت رجل من الطلقاء؟ فقال له معاوية: أجل! والله ما نقاتل عليا، وأنا لست أدعي في الإسلام مثل الذي له، ولكن أقاتله على دم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأنا أطلبه بدمه فقال أبو مسلم: إني أستخبر لك عن ذلك، فركب راحلته وانتهى إلى الكوفة، ثم نزل عن راحلته وأتى عليا ماشيا والناس عنده ولا يعرفه أحد، فقال: من قتل عثمان؟ فقال علي: الله قتل عثمان وأنا معه، فخرج أبو مسلم ولم يتكلم، ومضى حتى انتهى إلى راحلته فركبها، ولحق بالشام فانتهى إلى معاوية وهو يثقل، فقيل له: هذا أبو مسلم قد جاء، فعانقه معاوية وسأله عن سفره وخاف أن يكون قد جاء بشيء مما يكره، فقال أبو مسلم: والله لتقاتلن عليا أو لنقاتلنه، فإنه قد أقر بقتل أمير المؤمنين عثمان، فقام معاوية فرحا وصعد المنبر واجتمع إليه الناس وحمد الله وأثنى عليه، وقام أبو مسلم خطيبا وحرض الناس على قتال علي، فصح خروج أهل الشام قاطبة على علي وطلبهم إياه بدم عثمان.

ثم إن حجر بن الأدبر قدم على علي فقال: يا أمير المؤمنين! الجماعة والعدد والمال مع الأشعث بن قيس بآذربيجان فابعث إليه فليقدم، فكتب إليه علي [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم واحمل ما غللت من المال ]. فكتب إليه الأشعث بن قيس [ أما بعد! فقد جاءني كتابك بأن أقدم عليك وأحمل ما غللت من مال الله، فما أنت وذاك! والسلام ]، ثم قال الأشعث: والله! لأدعنه بحال مضيعة، ولأفسدن عيه الكوفة، ثم ارتحل من آذربيجان وهو يريد معاوية، وبلغ ذلك عليا وشق عليه خروجه إلى معاوية، فقال حجر بن الأدبر: يا أمير المؤمنين! ابعثني إلى الأشعث بن قيس فأنا أعرف به وأرفق، وإن هو خوشن لم يجب أحدا، قال له علي: سر إليه، فسار حجر إليه فأدركه بشهر زور فقال له حجر: يا أبا محمد! أنشدك الله أن تأتي معاوية وتدع ابن عم رسول الله فقال الأشعث: أوما سمعت كتابه إلي؟ فقال حجر: إنك إن أتيت معاوية أقبلنا جميعا إلى الشام، وأنشدك الله ألا نظرت إلى أيتام قومك وأياماهم! فإني لا آمن أن يفتضحوا غدا، قال: فما تريد يا حجر؟ قال: تنحدر معي إلى الكوفة، فإنك شيخ العرب وسيدها والمطاع في قومك، وسيصير إليك الأمر، فلم يزل به حجر حتى قال: ليصرفوا صدور الركائب إلى الكوفة، فتقدم على علي فسر علي بمجيئه فقال: مرحبا وأهلا بأبي محمد على عجلته فقال: أمير المؤمنين! إن هذا ليس بيوم عتاب، ثم أقام مع علي بالكوفة. وحج بالناس عبد الله بن عباس بأمر علي ولاه.

السنة السابعة والثلاثون

كتب معاوية إلى علي بن أبي طالب [ أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه، وجعله الأمين على وحيه، والرسول إلى خلقه، واختار له من المسلمين أعوانا فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام كان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة بعده وخليفة خليفته والخليفة المظلوم المقتول رحمة الله عليهم! وقد ذكر لي أنك تنتفي من دمه، فإن كنت صادقا فأمكنا ممن قتله حتى نقتله به، ونحن أسرع إليك إجابة وأطوعهم طاعة، وإلا فإنه ليس لك ولا لأحد من أصحابك عندنا إلا السيف، والذي لا إله غيره! لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال حتى يقتلهم الله أو تلحق أرواحنا بعثمان والسلام ]. فكتب إليه علي [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ـ أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك يذكر فيه محمدا وما أنعم الله عليه من الهدى، والحمد لله على ذلك، وأما ما ذكرت من ذكر الخلفاء فلعمري إن مقامهم في الإسلام كان عظيما، وإن المصاب بهم لجرح عظيم في الإسلام، وأما ما ذكرت من قتلة عثمان فإني قد نظرت في هذا الأمر فلم يسعني دفعهم إليك، وقد كان أبوك أتاني حين ولي الناس أبا بكر فقال لي: يا علي! أنت أحق الناس بهذا الأمر بعد رسول الله ، وهات يدك حتى أبايعك، فلم أفعل مخافة الفرقة في الإسلام، فأبوك أعرف بحقي منك، فإن كنت تعرف من حقي ما كان يعرفه أبوك فقد قصدت رشدك، وإن لم تفعل فسيغني الله عنك والسلام ]. فلما قرأ معاوية الكتاب تهيأ هو ومن معه على المسير إلى علي ثم سار يريد العراق، وسار علي من العراق، وصلى الظهر بين القنطرة والجسر ركعتين، وبعث على مقدمته شريح بن هانئ وزياد بن النضر بن مالك، أمر أحدهما أن يأخذ على شط دجلة والآخر على شط الفرات، معهما أكثر من عشرة آلاف نفس، واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري، ثم أخذ على طريق الفرات وجعل يقول: إذا سمعتموني أقول قال رسول الله فهو كما أقول، وإذا لم أقل قال رسول الله فإنما الحرب خدعة، فالتقى علي وأهل الشام بصفين لسبع بقين من المحرم، فقام علي خطيبا في الناس فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، وإن أبرم أمرا لم ينقضه الناقضون، مع أن لله ـ وله الحمد ـ لو شاء لم يختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقد ساقتنا وهؤلاء المقادير حتى جمعت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمنظر ومستمع، ولو شاء الله لجعل الانتقام، وكان منه التغيير حتى يتبين أهل الباطل ويعلم أهل الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة هي دار القرار ليجزي الذين أساؤوا الآية، ألا! إنكم تلقون عدوكم غدا فأطيلوا الليلة القيام وأكثروا فيها من تلاوة القرآن، وسلوه النصر، وعليكم بالجد والحزم وكونوا صادقين. ثم قعد فوثب الناس إلى سيوفهم يهيؤونها، وإلى رماحهم يثقفونها، وإلى نبالهم يريشونها، ثم جعل على مقدمته شريح بن هانئ الحارثي والأشتر، وعلى الميمنة الأشعث بن قيس، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء، وعلى الساقة زياد بن النضر، وعلى ميمنة الرجالة سليمان بن صرد الخزاعي. ثم قام معاوية خطيبا في أهل الشام واجتمع الناس فقال: الحمد لله الذي دنا في علوه وعلا في دنوه، وظهر وبطن فارتفع فوق كل منظر أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، يقضي فيفصل، ويقدر فيغفر، ويفعل ما يشاء، وإذا أراد أمرا أمضاه، وإذا عزم على أمر قضاه، لا يؤامر أحدا فيما يملك ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا، ثم كانت من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه الرقعة من الأرض، ولقت بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر ومستمع، وقد قال الله ولو شاء الله ما اقتتلوا ـ الآية، فانظروا يا أهل الشام، فإنما تلقون غدا العدو، فكونوا على إحدى ثلاث خلال: إما قوما تطلبون ما عند الله بقتالكم قوما بغوا عليكم، وإما قوما تطلبون بدم الخليفة عثمان فإنه خليفتكم وصهر نبيكم ] وإما قوما تدفعون عن نسائكم وذراريكم، وعليكم بتقوى الله والصبر الجميل! نسأل الله لنا ولكم النصر، وأن يفرغ علينا وعليكم الصبر، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين، فأجابه أهل الشام: طب نفسا! نموت معك ونحيى معك، ثم جعل معاوية أبا الأعور عمرو ابن سفيان السلمي على مقدمته، وحبيب بن مسلمة الفهري على ميمنته، وبسر ابن أرطأة على ميسرته، ومسلم بن عقبة على رجالة العسكر، فلما كان الغد اقتتلوا قتالا شديدا، فحجز بينهم الليل حتى قاتلوا ثلاثة أيام، فقتل من أصحاب علي بالمبارزة: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن بديل ابن ورقاء، وعمار بن حنظلة الكندي، وبشر بن زهير، ومالك بن كعب العامري، وطالب بن كلثوم الهمداني، والمرتفع بن وضاح الزبيدي، وشريح بن طارق البكري، وأسلم بن يزيد الحارثي، والحارث بن اللجاج الحكمي، وعائذ بن كريب الهلالي، وواصل بن ربيعة الشيباني، وعائذ بن مسروق الهمداني، ومسلم ابن سعيد الباهلي، ومحارب بن ضرار المرادي، وسليمان بن الحارث الجعفي وسرحبيل بن يزيد الحضرمي.

وقتل من أصحاب معاوية في المبارزة: سرحبيل بن منصور، وعبد الرزاق ابن خالد العبسي، وشريح بن الحارث الكلابي، وصالح بن المغيرة الجمحي، وحريث بن الصباح الحميري، والحارث بن وداعة الحميري، وروق بن الحارث العكي، والمطاع بن المطلب القيني، وجلهمة بن هلال الكلبي، والوضاح بن أزهر السكسكي، ووزاع بن سلامان الغساني، والمهاجر بن حنظلة الجعفي، وعبد الله بن جرير العكي، ومالك بن وديعة القرشي، سوى من قتل من الفريقين من غير براز.

ولما قتل عمار أتى عبد الله بن عمرو معاوية فقال: قتل عمار، فقال عمرو ابن العاص: قتل عمار! فما سمعت رسول الله يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية! فقال معاوية: أنحن قتلناه! إنما قتله أهل العراق، جاءوا به فطرحوه في سيوفنا ورماحنا، وقد قيل: إنه قتل بصفين سبعون ألفا: من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألفا. فلما اشتدت البلاء بالفريقين، وكثر بينهم القتلى قال عمرو بن العاص لمعاوية: إن هذا الأمر لا يزداد إلا شدة، فهل لك إلى أمر لا يزداد القوم به إلا فرقة، إن أعطونا اختلفوا وإن منعونا اختلفوا؟ فقال معاوية: ما هو؟ فقال: المصاحف نرفعها وندعوهم بما فيها، فإنهم لا يقاتلون إلا على ما قد علمت، فقال معاوية: افعل ما رأيت، فأمر بالمصاحف فرفعت في الرماح ثم جعلوا ينادون: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه، فسر الناس به وكرهوا القتال، وأجابوا إلى الصلح، وأنابوا إلى الحكومة، وقالوا لعلي: إن القوم يدعونك إلى الحق وإلى كتاب الله، فإن كرهنا ذلك فنحن إذا مثلهم، فقال علي: ويحكم! ما ذلك يريدون ولا يفعلون، ثم مشى الناس بعضهم إلى بعض وأجابوا الصلح والحكومة، وتفرقوا إلى دفن قتلاهم، ولم يجد علي بدا من أن يقبل الحكومة لما رأى من أصحابه، فحكم أهل الشام عمرو بن العاص، وأراد على أن يحكم ابن عباس فقال الأشعث بن قيس وهو يومئذ سيد الناس: لا يحكم في هذا الأمر رجلان من قريش، ولا افترق الفريقان على هذا الجمع على حكومة بعد أن كان من القتال بينهما ما كان إلا وأحد الحكمين منا، وتبعه أهل اليمن على ذلك، ثم قال الأشعث: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري، وكتبوا بينهم كتابي الصلح [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المسلمين أنا ننزل على حكم الله وكتابه، فما وجد الحكمان في كتاب الله فبهما يتبعانه، وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة تجمعهما، وهما آمنان على أموالهما وأنفسهما وأهاليهما، والأمة أنصار لهما على الذي يقضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين ـ والطائفتان كلتاهما عليهما عهد الله وميثاقه أن يفيا بما في هذه الصحيفة على أن بين المسلمين الأمن وو ضع السلاح، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكما بين الناس بما في هذه الصحيفة، على أن الفريقين جميعا يرجعان سنة، فإذا انقضت السنة إن أحبا أن يردا ذلك ردا وإن أحبا زادا فيهما ما شاء الله، اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة ].

وشهد على الصحيفة فريق عشرة أنفس، فشهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن قيس المداني، وحجر بن الأدبر الكندي، وعبد الله بن الطفيل العامري، وعبد الله بن محل العجلي، ووقاء بن سمي البجلي، وعقبة بن زيد الأنصاري، ويزيد بن حجية التيمي، ومالك بن أوس الرحبي.

وشهد من أهل الشام أبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة الفهري، والمخارق ابن الحارث الزبيدي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وسبيع بن يزيد الحضرمي وزمل بن عمرو العذري، ويزيد بن الحر العبسي، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعتبة بن أبي سفيان.

وكتب يوم الأربعاء سنة سبع وثلاثين.

فانصرف علي بمن معه من أهل العراق، وانصرف معاوية بمن معه إلى الشام، فقال عبد الله بن وهب الحرمي ـ وكان من أصحاب علي: لا حكم إلا لله، فقال علي: هذه كلمة حق أريد بها باطل. فلما دخل علي الكوفة خرج من كان يقول: لا حكم إلا لله، ونزلوا بحروراء وهم قريب من اثني عشر ألفا، فسموا الحرورية، ومناديهم ينادي: أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، والأمر بعد الفتح شورى، والبيعة لله. ومات خباب بن الأرت بالكوفة.

فخرج علي من صفين، وولى علي سهل بن حنيف فارس، فأخرجه أهل فارس، فوجه زيادا فرفضوا وصالحوه وأدوا إليه الخراج. ثم إن الخوارج اجتمعت على زيد بن حصين وقالوا له: أنت سيدنا وشيخنا وعامل عمر بن الخطاب على الكوفة، تول أمرنا، وجهروا به فقال: ما كنت لأفعلها، فلما أبى عليهم ذلك ذهبوا إلى يزيد بن عاصم المحاربي فعرضوا عليه أمرهم فأبى عليهم ذلك، ثم ذهبوا إلى سعد بن وائل التميمي فأبى عليهم، فأتوا عبد الله بن وهب الراسبي واجتمعوا عنده بقرب النهروان، وخرج إليهم علي في جمعية، فلما أتاهم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم أيها القوم قد علمتم وعلم الله أني كنت للحكومة كارها حتى أشرتم علي بها وغلبتموني عليها والله بيني وبينكم شهيد! ثم كتبنا بيننا وبينهم كتابا وأنتم على ذلك من الشاهدين، فقالت طائفة من القوم: صدقت ـ ورجعوا إلى الجماعة، وبقيت طائفة منهم على قولهم، فقال علي: هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا منهم أهل النهروان ورب الكعبة! ثم إنهم عبروا الجسر إلى علي ليحاربوه، فلما عبروا الجسر نادى علي في العسكر: استقبلوهم، فاستقبلوهم والتقطوهم بالرماح، فكان مع علي جميعة يسيرة، إنما جاء علي أن يردهم بالكلام، وقد كانت الخوارج قريبا من خمسة آلاف، فلما فرغوا من قتلهم قال علي: اطلبوا لي المخدع، فطلبوه فلم يجدوه فقال: اطلبوا المخدع، فو الله ما كذبت ولا كذبت، ثم دعا ببغلته البيضاء فركبها وجعل يقلب القتلى حتى أتى على فضاء من الأرض فقال: قلبوا هؤلاء فإذا هم برجل ليس له ساعد، بين جنبيه ثدي فيه شعرات، إذا مدت امتدت، وإذا تركت قلصت، فقال علي: الله أكبر! سمعت رسول الله يقول: يخرج قوم فيهم رجل مخدع اليد ولولا أن تنكلوا عن العمل لأنبأتكم بما وعدا الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد ، ثم حج بالناس عبد الله بن عباس.

السنة الثامنة والثلاثون

اجتمعوا لميعادهم مع الحكمين بأذرح، وحضر فيهم من أهل المدينة سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن الزبير، وابن عمر، ولم يخرج علي بنفسه، ووافى معاوية في أهل الشام وكان بينه وبين أبي موسى الأشعري ما كان وافترق الناس ورجعوا إلى أوطانهم، وندم عبد الله بن عمر على حضوره أذرح، فأحرم من بيت المقدس تلك السنة ورجع إلى مكة.

واستشار معاوية أصحابه في محمد بن أبي بكر وكان واليا على مصر، فأجمعوا على المسير إليه، فخرج عمرو بن العاص في أربعة آلاف فيهم أبو الأعور السلمي ومعاوية بن حديج، فالتقوا بالمسناة وقاتلوا قتالا شديدا، وقتل كنانة بن أبي بشر بن عتاب التجيبي، وانهزم محمد بن أبي بكر وقاتل حتى قتل، وقد قيل: إنه أدخل في جوف حمار ميت، ثم أحرق بالنار، فلما بلغ عليا سرور معاوية بقتله قال: لقد حزنا عليه بقدر سرورهم بقتله، ثم ولى علي الأشتر على مصر. ومات صهيب بن سنان.

فلما بلغ معاوية خبر مسير الأشتر إلى مصر قال: إنه ليأتي وعامة أهل مصر أهل اليمن وهو يماني، وكتب إلى دهقان بالعريش: إن احتلت في الأشتر فلك علي أن أخرج خراجك عشرين سنة، فقدم الأشتر على امرأة من حمير يقال لها ليلى بنت النعمان، فتلطف له الدهقان وسأله: أي الشراب أحب إليك؟ قال: العسل، قال: عندي عسل من عسل برقة لم ير مثله، ثم قدمته إليه فسقته منه، فمات من ساعته، فبلغ ذلك معاوية فقال: إن لله جنودا من العسل. ومات صفوان ابن بيضاء في رمضان وكان قد شهد بدر، ومات سهل بن حنيف بالكوفة وصلي عليه. وحج بالناس قثم بن العباس.

السنة التاسعة والثلاثون

استعمل علي يزيد بن حجية التميمي على الري، ثم كتب إليه بعد مدة أن أقدم، فقدم على علي فقال له: أين ما غللت من مال الله؟ قال: ما غللت، فخفقه بالدرة خفقات وحبسه في داره، فلما كان في بعض الليالي قرب يزيد البواب وما حله، ولحق بالرقة وأقام بها حتى أتاه إذن بمعاوية، فلما بلغ عليا لحوقه معاوية قال: اللهم! إن يزيد أذهب بمال المسلمين ولحق بالقوم الظالمين، اللهم! فاكفنا مكره وكيده.

ثم وجه معاوية خيلا فيهم الضحاك بن قيس الفهري، وسفيان بن عوف الدابري: فأغار سفيان على الأنبار وفيها مسلحة لعلي، فلما بلغ علي خروجهم خرج من بيته والناس في المسجد، فلما رأوه صاحوا، قال: اسكتوا اسكتوا! فلما سكتوا قال: شاهت الوجوه! شاهت الوجوه! إن قلت نعم، قلتم: لا، وإن قلت: لا، قلتم: نعم، إن استنفرتكم في الحر قلتم: الحر شديد فإذا جاء الشتاء نفرنا، وإذا جاء الشتاء واستنفرتكم قلتم: البرد شديد وإذا جاء الصيف نفرنا، إن عدوكم يجد من الهناء ما تجدون، ولكن لا رأي لمن لا يطاع، وددت أن لي بجماعتكم ألف فارس.

ثم بعث معاوية بسر بن أرطاة ـ أحد بني عامر بن لؤي ـ في جيش من أهل الشام إلى المدينة وعليها أبو أيوب الأنصاري، فهرب منه أبو أيوب ولحق عليا بالكوفة، ولم يقاتله أحد بالمدينة حتى دخلها، فصعد منبر رسول الله وجعل ينادي: يا أهل المدينة! والله لولا ما عهد إلي أمير المؤمنين معاوية ما تركت فيها محتلما إلا قتلته! فبايع أهل المدينة معاوية، وأرسل إلى بني سلمة: ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فدخل جابر بن عبد الله على أم سلمة وقال: يا أماه! إني خشيت على دمي، وهذه بيعة ضلالة، فقالت: أرى أن تبايع، فخرج جابر بن عبد الله فبايع بسر بن أرطاة لمعاوية كارها، ثم خرج بسر حتى أتى مكة، فخافه أبو موسى الأشعري وكان والي مكة لعلي، وتنحى عن مكة حتى دخلها، ثم مضى إلى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب عامل علي، فلما سمع به عبيد الله هرب، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد المدان، وكانت ابنته تحت عبيد الله بن عباس. فلما قدم بسر اليمن قتل عبد الله بن عبد المدان، وأخذ ابنين لعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب ـ من أحسن الصبيان ـ صغيرين كأنهما درتان، ففغل بهما ما فعل.

فلما حضر الموسم بعث علي على الحج عبد الله بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي، فاجتمعا بمكة وتنازعا وأبى كل واحد منها أن يسلم لصاحبه إقامة الحج، فاجتمع الناس على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فحج بالناس شيبة بن عثمان.

السنة الأربعون

وبلغ الخبر عليا بما فعل بسر بن أرطاة باليمن وما كان من أمر بني عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب خطبهم وقال: لقد خفت أن يظهر مولى القوم عليكم، وما يظهرون عليكم بأن يكونوا بالحق أولى منكم، ولكن بصلحهم في بلادهم وفسادكم في بلادكم، واجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم وأدائهم الأمانة وخيانتكم، والله والله لو استعملت فلانا لخان وغدر ـ ثلاثا! ولو بعثه معاوية لم يخنه ولا غدره، اللهم! قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، وكرهتهم وكرهوني، فأرحني منهم وأرحهم مني، وأبدلني بمن هو خير لي منهم وأبدلهم بمن هو شر لهم مني.

ثم كان قتل علي بن أبي طالب.

وكان السبب في ذلك أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي أبصر امرأة من بني تميم الرباب يقال لها قطام، وكانت من أجمل أهل زمانها، وكانت ترى رأي الخوارج، فولع بها فقالت: لا أتزوج بك إلا على ثلاثة آلاف وقتل علي بن أبي طالب فقال لها: لك ذلك، فتزوجها وبنى بها فقالت له: يا هذا! قد عرفت الشرط، فخرج عبد الرحمن بن ملجم ومعه سيف مسلول حتى أتى مسجد الكوفة وخرج علي من داره وأتى المسجد وهو يقول: أيها الناس! الصلاة الصلاة! أيها الناس! الصلاة الصلاة! وكانت تلك ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، فصادفه عبد الرحمن بن ملجم من خلفه ثم ضربه بالسيف ضربة من قرنه إلى جبهته، وأصاب السيف الحائط فثلم فيه، ثم ألقى السيف من يده، وأقبل الناس عليه فجعل ابن ملجم يقول للناس: إياكم والسيف فإنه مسموم، وقد سمه شهرا، فأخذوه ورجع علي بن أبي طالب إلى داره، ثم أدخل عليه عبد الرحمن بن ملجم فقالت له أم كلثوم بنت علي: يا عدو الله! قتلت أمير المؤمنين! فقال: لم أقتل إلا أباك، فقالت: إني لأرجو أن لا يكون على أمير المؤمنين من بأس، فقال عبد الرحمن بن ملجم: فلم تبكين إذا؟ فو الله سممته شهرا! فإن أخلفني أبعده الله وأسحقه، فقال علي: احبسوه وأطيبوا طعامه وألينوا فراشه، فإن أعش فعفو أو قصاص، وإن مت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين.

فمات علي بن أبي طالب غداة يوم الجمعة، فأخذ عبد الله بن جعفر والحسن ابن علي ومحمد بن الحنفية عبد الرحمن بن ملجم، فقطعوا يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم، ثم كحلوا عينيه بملمول محمي، ثم قطعوا لسانه وأحرقوه بالنار، وكان لعلي يوم مات اثنتان وستون سنة، وكانت خلافته خمس سنين وثلاثة أشهر.

واختلفوا في موضع قبره ولم يصح عندي شيء من ذلك فأذكره، وقد قيل: إنه دفن في الكوفة في قصر الإمارة عند مسجد الجماعة، وهو ابن ثلاث وستين.

ثم قام الحسن بعد دفن أبيه خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد مات فيكم رجلا ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون! لقد كان رسول الله ليبعثه بالبعث ويعطيه الراية فما يرجع حتى يفتح الله عليه، يقاتل جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، ولا ترك بيضاء ولا صفراء إلا سبعمائة درهم فضلت عن عطائه، أراد أن يبتاع بها خادما.

وكان لعلي بن أبي طالب خمسة وعشرون ولدا، من الولد: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم الكبرى وزينب الكبرى ــ وهؤلاء الخمسة من فاطمة بنت رسول الله ، وكان له من غيرها: محمد بن علي وعبيد الله وعمر وأبو بكر ويحي وجعفر والعباس وعبد الله ورقية ورملة وأم الحسن وأم كلثوم الصغرى وزينب الصغرى وجمانة وميمونة وخديجة وفاطمة وأم الكرام وأم سلمة ـ رضي الله عنهم أجمعين.

ذكر البيان بأن من ذكرناهم كانوا خلفاء ومن بعدهم كانوا ملوكا

أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى بالموصل ثنا علي بن الجعد الجوهري ثنا حماد بن سلمة عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: سمعت رسول الله يقول: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يكون ملكا، قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وعمر عشرا وعثمان اثنتي عشرة وعلي ستا. قال علي بن الجعد: فقلت لحماد بن سلمة: سفينة القائل: أمسك؟ قال: نعم.

قال أبو حاتم: ولى أهل الكوفة بعد علي بن أبي طالب الحسن بن علي، ولما اتصل الخبر بمعاوية ولى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأم معاوية هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فكان معاوية نافذ الأمور بالشام والأردن وفلسطين ومصر، وكان الحسن بن علي يمشي الأمور بالعراق إلى أن دخلت سنة إحدى وأربعين، فاحتال معاوية في الحسن بن علي وتلطف له، وخوفه هراقة دماء المسلمين وهتك حرمهم وذهاب أموالهم إن لم يسلم الأمر لمعاوية، فاختار الحسن ما عند الله على ما في الدنيا وسلم الأمر إلى معاوية يوم الأثنين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، واستوى الأمر لمعاوية حينئذ، وسميت هذه السنة سنة الجماعة، وبقي معاوية في إمارته تلك إلى أن مات يوم الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين، وقد قيل: إن معاوية مات للنصف من رجب هذه السنة، وكان له يوم توفي ثمان وسبعون سنة، وصلى عليه ابن قيس الفهري، وقد قيل: إن يزيد بن معاوية هو الذي صلى عليه وكانت مدة معاوية تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وعشرين ليلة، وكان معاوية يخضب بالحناء والكتم، وكان نقش خاتمه [ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ]، وقبره بدمشق خارج باب الصغير في المقبرة، محوط عليه، قد زرته مرارا عند قصري رمادة أبي الدرداء.

يزيد بن معاوية أبو خالد

ثم تولى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان يوم الخميس من شهر رجب في اليوم الذي مات فيه أبوه، وكنية يزيد أبو خالد، وكان ليزيد بن معاوية يوم ولي أربع وثلاثون شهر، كانت أمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة الكلبي، وكان نقش خاتمه [ آمنت بالله مخلصا ].

ولما بايع أهل الشام يزيد بن معاوية واتصل الخبر بالحسين بن علي جمع شيعته واستشارهم، وقالوا: إن الحسن لما سلم الأمر لمعاوية سكت وسكت معاوية، فالآن قد مضى معاوية ونحب أن نبايعك، فبايعته الشيعة، ووردت على الحسين كتب أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إياها، فأنفذ الحسين بن علي مسلم ابن عقيل إلى الكوفة لأجل البيعة على أهلها، فخرج مسلم بن عقيل من المدينة معه قيس بن مسهر الصيداوي يريدان الكوفة، ونالهما في الطريق تعب شديد وجهد جهيد، لأنهما أخذا دليلا تنكب بهما الجادة، فكاد مسلم بن عقيل أن يموت عطشا إلى أن سلمه الله ودخل الكوفة، فلما نزلها دخل دار المختار بن أبي عبيد، واختلفت إليه الشيعة يبايعونه أرسالا، ووالي الكوفة يومئذ النعمان بن بشير، ولاه يزيد بن معاوية الكوفة، ثم تحول مسلم بن عقيل من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة، وجعل الناس يبايعونه في دار هانئ حتى بايع ثمانية عشر ألف رجل من الشيعة. فلما اتصل الخبر بيزيد بن معاوية أن مسلما يأخذ البيعة بالكوفة للحسين بن علي، كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد وهو إذ ذاك بالبصرة وأمره بقتل مسلم بن عقيل أو بعثه إليه، فدخل عبيد الله بن زياد الكوفة حتى نزل القصر واجتمع إليه أصحابه، وأخبر عبيد الله بن زياد أن مسلم بن عقيل في دار هانئ بن عروة، فدعا هانئا وسأله فأقر به، فهشم عبيد الله وجه هانئ بقضيب كان في يده حتى تركه وبه رمق.

ثم ركب مسلم بن عقيل في ثلاثة آلاف فارس يريد عبيد الله بن زياد، فلما قرب من قصر عبيد الله نظر فإذا معه مقدار ثلاثمائة فارس فوقف يلتفت يمنة ويسرة، فإذا أصحابه يتخلفون عنه حتى بقي معه عشرة أنفس، فقال: يا سبحان الله! غرنا هؤلاء بكتبهم ثم أسلمونا إلى أعدائنا هكذا، فولى راجعا فلما بلغ طرف الزقاق التفت فلم ير خلفه أحدا، وعبيد الله بن زياد في القصر متحصن يدبر في أمر مسلم ابن عقيل، فمضى مسلم بن عقيل على وجهه وحده فرأى امرأة على باب دارها، فاستسقاها ماء وسألها مبيتا، فأجابته إلى ما سأل وبات عندها، وكانت للمرأة ابن، فذهب الابن وأعلم عبيد الله بن زياد أن مسلما في دار والدته، فأنفذ عبيد الله بن زياد إلى دار المرأة محمد بن الأشعث بن قيس في ستين رجلا من قيس، فجاءوا حتى أحاطوا بالدار، فجعل مسلم يحاربهم عن نفسه حتى كل ومل، فآمنوه فأخذوه وأدخلوه على عبيد الله، فأصعد القصر وهو يقرأ ويسبح ويكبر ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا ثم خذلونا حتى دفعنا إلى ما دفعنا إليه، ثم أمر عبيد الله بضرب رقبة مسلم بن عقيل، فضرب رقبة مسلم بن عقيل بكير بن حمران الأحمري على طرف الجدار فسقطت جثته، ثم أتبع رأسه جسده، ثم أمر عبيد الله بإخراج هانئ بن عروة إلى السوق وأمر بضرب رقبته في السوق. ثم بعث عبيد الله بن زياد برأسي مسلم بن عقيل بن أبي طالب وهانئ بن عروة مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأورح التميمي إلى يزيد بن معاوية.

فلما بلغ الحسين بن علي الخبر بمصاب الناس بمسلم بن عقيل خرج بنفسه يريد الكوفة، وأخرج عبيد الله بن زياد عمر بن سعد إليه فقاتله بكر بلاء قتالا شديدا حتى قتل عطشانا، وذلك يوما عاشوراء يوم الأربعاء سنة إحدى وستين، وقد قيل: إن ذلك اليوم يوم السبت، والذي قتل الحسين بن علي هو سنان بن أنس النخعي. وقتل معه من أهل بيته في ذلك اليوم: العباس بن علي بن أبي طالب، وجعفر بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن علي بن أبي طالب الأكبر، وعبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وعون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب، واستصغر علي بن الحسين بن علي فلم يقتل، انفلت في ذلك اليوم من القتل لصغره، وهو والد محمد بن علي الباقر، واستصغر في ذلك اليوم أيضا عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب فلم يقتل لصغره، وجرح في ذلك اليوم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب جراحة شديدة حتى حسبوه قتيلا ثم عاش بعد ذلك وقتل في ذلك اليوم سليمان مولى الحسن ابن علي بن أبي طالب، ومنجح مولى الحسين بن علي بن أبي طالب، وقتل في ذلك اليوم الخلق من أولاد المهاجرين والأنصار، وقبض على عبد الله بن بقطر رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب في ذلك اليوم، وقيل: حمل إلى الكوفة ثم رمي به من فوق القصر، أو قيد فانكسرت رجله، فقام إليه رجل من أهل الكوفة وضرب عنقه.

وكانت أم الحسين بن علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء بنت رسول الله ، وأم العباس بن علي بن أبي طالب أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة، والعباس يقال له: السقاء، لأن الحسين طلب الماء في عطشه وهو يقاتل، فخرج العباس وأخوه، واحتال حمل إدواة ماء ودفعها إلى الحسين، فلما أراد الحسين أن يشرب من تلك الإدواة جاء سهم فدخل حلقه، فحال بينه وبين ما أراد من الشرب فاحترشته السيوف حتى قتل، فسمي العباس بن علي [ السقاء ] لهذا السبب، وكانت والدة جعفر بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن علي بن أبي طالب الأكبر ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب، وكانت أم عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب الرباب بنت القاسم بن أوس بن عدي بن أوسر ابن جابر بن كعب، وكانت أم القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب أم ولد، وكانت أم عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جمانة بنت المسيب بن نجبة بن ربيعة، وكانت أم محمد بن عبد الله بن جعفر بن عقيل بن أبي طالب أم ولد، وكانت أم عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب رقية بنت علي بن أبي طالب، وكانت أم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب خولة بنت منظور بن زيان الفزاري، وكانت أم عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب أم ولد، وقد قيل: إن أبا بكر بن علي بن أبي طالب قتل في ذلك اليوم، وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي. والذي تولى في ذلك اليوم حز رأس الحسين ابن علي بن أبي طالب شمر بن ذي الجوشن.

ثم أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله على أقتاب مكشفات الوجوه والشعور، فكانوا إذا نزلوا منزلا أخرجوا الرأس من الصندوق وجعلوه في رمح وحرسوه إلى وقت الرحيل، ثم أعيد الرأس إلى الصندوق ورحلوا، فبيناهم كذلك إذ نزلوا بعض المنازل وإذا فيه دير راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم وجعلوه في الرمح وأسندوا الرمح إلى الدير، فرأوا الديراني بالليل نورا ساطعا من ديره إلى السماء، فأشرف على القوم وقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن أهل الشام، قال: هذا رأس من هو؟ قالوا: رأس الحسين بن علي، قال: بئس القوم أنتم! والله لو كان لعيسى ولد لأدخلناه أحداقنا! ثم قال: يا قوم! عندي عشرة آلاف دينار ورثتها من أبي وأبي من أبيه، فهل لكم أن تعطوني هذا الرأس ليكون عندي الليلة وأعطيكم هذه العشرة آلاف دينار؟ قالوا: بلى، فأحدر إليهم الدنانير، فجاءوا بالنقاد، ووزنت الدنانير ونقدت، ثم جعلت في جراب وختم عليه، ثم أدخل الصندوق، وشالوا إليه الرأس، فغسله الديراني ووضعه على فخذه وجعل يبكي الليل كله عليه، فلما أسفر عليه الصبح قال: يا رأس! لا أملك إلا نفسي، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك رسول الله، فأسلم النصراني وصار مولى للحسين، ثم أحدر الرأس إليهم فأعادوه إلى الصندوق ورحلوا، فلما قربوا من دمشق قالوا: نحب أن نقسم تلك الدنانير، لأن يزيد إن رآها أخذها منا، ففتحوا الصندوق وأخرجوا الجراب بختمه وفتحوه، فإذا الدنانير كلها قد تحولت خزفا، وإذا على جانب من الجانبين من السكة مكتوب ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون وعلى الجانب الآخر سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، قالوا: قد افتضحنا والله! ثم رموها في بردى نهر لهم، فمنهم من تاب من ذلك الفعل لما رأى، ومنهم من بقي على إصراره، وكان رئيس من بقي على ذلك الإصرار سنان بن أنس النخعي.

ثم أركب الأسارى من أهل بيت رسول الله من النساء والصبيان أقتاب يابسة مكشفات الشعور، وأدخلوا دمشق كذلك، فلما وضع الرأس بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينقر ثنيته بقضيب كان في يده ويقول: ما أحسن ثناياه! قد ذكرت كيفية هذه القصة وباليتها في أيام بني أمية وبني العباس في كتاب الخلفاء، فأغنى عن إعادة مثلها في هذا الكتاب لاقتصارنا على ذكر الخلفاء الراشدين منهم في أول هذا الكتاب.

وقد بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزني إلى المدينة لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، فقتل مسلم بن عقبة بالمدينة خلقا من أولاد المهاجرين والأنصار، واستباح المدينة ثلاثة أيام نهبا وقتلا، فسميت هذه الوقعة وقعة الحرة.

وتوفي يزيد بن معاوية بحوارين قرية من قرى دمشق لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وهو يومئذ ابن ثمان وثلاثين، وقد قيل: إن يزيد بن معاوية سكر ليلة وقام يرقص فسقط على رأسه وتناثر دماغه فمات، وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد، وكان نقش خاتم يزيد [ آمنت بالله مخلصا ] وقبره بدمشق.

معاوية بن يزيد أبو ليلى

وولي معاوية بن يزيد بن معاوية يوم النصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وأمه أم خالد بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان له يوم ولي إحدى وعشرون سنة، وقد قيل: لا، بل سبع عشرة سنة، وكان من خير أهل بيته، فلما حضرته الوفاة قالوا له: بايع لرجل بعدك واعهد إليه، قال: ما أصبت من دنياكم شيئا فأتقلد مأثمها.

ومات معاوية بن يزيد اليوم الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وكانت إمارته أربعين ليلة، وصلى عليه عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان، وكان نقش خاتمه [ يا الله نستعين ـ معاوية ] وقبره بدمشق.

مروان بن الحكم

وولي مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، بايعه أهل الشام بالجابية، وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن مخدش الكعبي.

ولما وصل الخبر بموت معاوية الحجاز بايعوا عبد الله بن الزبير بن العوام، وكنية ابن الزبير أبو خبيب، وبايع له أهل العراق وأهل الحجاز، وأم عبد الله بن الزبير أسماء بنت أبي بكر، فكان يخطب لابن الزبير بالحجاز والعراق، ويخطب بالشام إلى المغرب لمروان بن الحكم إلى أن مات مروان بن الحكم في شهر رمضان سنة خمسة وستين بدمشق، وقد قيل: إن مروان مات بين دمشق وفلسطين، وكان له يوم مات ثلاث وستون سنة، وكانت ولايته عشرة أشهر إلا ثلاث ليال، وصلى عليه ابن عبد الملك بن مروان، قد عهد إليه في حياته، وكان نقش خاتم مروان [ آمنت بالعزيز الحكيم ]، وقد قيل: إن نقش خاتم مروان كان [ العزة لله ].

عبد الملك بن مروان أبو الوليد

ثم بايع أهل الشام عبد الملك بن مروان بن الحكم، وكان يكنى أبا الذبان لبخر كان في فمه، وذلك في اليوم الذي مات فيه أبوه، وأم عبد الملك بن مروان عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.

وأنفذ عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان محاربا له، وسار عبد الملك إلى العراق يريد مصعبا، فالتقوا بدير الجاثليق، وكان بينهما وقعات إلى أن كانت الهزيمة على أصحاب مصعب، وقتل مصعب بن الزبير، ثم رجع عبد الملك إلى دمشق وجمع الناس واستشارهم في أمر عبد الله ابن الزبير وقال: من له؟ فقام الحجاج بن يوسف فقال: أنا ـ وكان أصغر القوم وأقلهم نباهة، فقال له عبد الملك: وما يدريك؟ فقال له إني رأيت في المنام أني خلعت ثوبه، فقال: أنت له، فأخرجه في جماعة من أهل الأردن والشام لمحاربة ابن الزبير، فوافى الحجاج مكة وحاصر الحرم، ونصب المنجنيق على الكعبة أياما إلى أن ظفر بعبد الله بن الزبير فقتله، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وصلبه على جذع منكسبا، واستقر الأمر حينئذ لعبد الملك بن مروان، ومات عبد الملك بن مروان بدمشق لأربع ليال خلون من شوال سنة ست وثمانين، وكانت أم عبد الملك بن مروان عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وصلى عليه ابنة الوليد، وكان له يوم توفي اثنتان وستون سنة، وكان نقش خاتمه [ آمنت بالله ].

وليد بن عبد الملك أبو العباس

وبايع الناس الوليد بن عبد الملك في اليوم الذي توفي أبوه بدمشق، وأم الوليد بن عبد الملك: ليلى بنت العباس بن الحسين بن الحارث بن زهير، وتوفي الوليد بن عبد الملك بدمشق للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بموضع يقال له دير مران، وكان له يوم مات تسع وأربعون سنة وكان نقش خاتمه [ يا وليد ] مات وصلى عليه سليمان بن عبد الملك، وحمل من دير مران على أعناق الرجال إلى دمشق، ودفن في باب الصغير.

وفي ولاية الوليد بن عبد الملك مات الحجاج بن يوسف في شهر رمضان سنة خمس وتسعين وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وهو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو ابن سعد بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.

سليمان بن عبد الملك أبو أيوب

وولي سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه وليد بن عبد الملك، وأمه ليلى بنت العباس بن الحسن، وكنية سليمان بن عبد الملك أبو أيوب، مات سليمان بموضع يقال له دابق يوم الجمعة لعشر ليال خلون من صفر، وقد قيل: لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، وكان له يوم توفي خمسة وأربعون سنة، وكان نقش خاتمه [ أومن بالله ].

عمر بن عبد العزيز أبو حفص

واستخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم أبو حفص بدير سمعان في اليوم الذي توفي فيه سليمان بن عبد الملك، وأم عمر بن عبد العزيز أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب واسمها ليلى، فلما ولي عمر جمع وكلاءه ونساءه وجواريه فطلقهن وأعتقهن، وأمر بثيابه فبيعت كلها وتصدق بأثمانه، ولزم طريقه الخلفاء الراشدين المهديين الذين هو من جملتهم، لا تأخذه في الله لومة لائم، وتوفي عمر بن عبد العزيز بدير سمعان يوم الجمعة لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان له يوم مات إحدى وأربعون سنة، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمس ليال، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك، وقيل: صلى عليه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز [ بالله مخلصا ].

يزيد بن عبد الملك أبو خالد

وولى أهل الشام يزيد بن عبد الملك بن مروان بعد دفن عمر بن عبد العزيز، وكنية يزيد بن عبد الملك أبو خالد، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، توفي يزيد بن عبد الملك بحوران من أرض دمشق يوم الجمعة أو الخميس لخمس ليال بقين من شعبان سنة خمسة ومائة، وكان له يوم توفي تسع وعشرون سنة، وكانت ولايته أربع سنين وشهرا... لأنه مات بسواد الأردن، وصلى عليه ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان نقش خاتم ابن عبد الملك [ رب قني الحساب ].

هشام بن عبد الملك أبو الوليد

وولى هشام بن عبد الملك بن مروان في اليوم الذي توفي فيه أخوه، وأمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، ومات هشام بن عبد الملك بالرصافة من أرض قنسرين يوم الأربعاء لست ليال خلون شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وكان له يوم توفي ست وخمسون سنة، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وستة أشهر وإدحى عشرة يوما، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان نقش خاتم هشام بن عبد الملك [ للحكم للحكيم ] وكان هشام أحول.

الوليد بن يزيد بن عبد الملك أبو العباس

وولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك بعد دفن هشام بن عبد الملك، وأمه أم محمد واسمها عائشة بنت محمد بن يوسف الثقفي أخو الحجاج بن يوسف، وكنية الوليد بن يزيد أبو العباس، وقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، قتله يزيد الناقص بالبخراء من أرض دمشق، وكانت ولايته سنة وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما.

يزيد بن الوليد بن عبد الملك أبو خالد

وولي يزيد بن الوليد بعد قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأمه هند بنت عبد العزيز بن مروان، ومات يزيد بن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وكانت ولايته خمسة أشهر، وقد قيل: خمسة أشهر وليلتين، وصلى عليه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، وكان يقال له: يزيد الناقص، وإنما سمي بذلك لأنه نقص عطاء الجند عما زاده الوليد فسمي بذلك الناقص.

إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك أبو إسحاق

وولي إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان في اليوم الذي مات فيه أخوه، وكانت أمه أم ولد، وكان يلقب بصلبان باسم مجنون، وكان عندهم بدمشق، وبقي في العمل ثلاثة أشهر، ثم قدم مروان بن محمد دمشق، وراوده على أن يخلع نفسه بعد أن قاتله مروان فسمي المخلوع، وبقي بعد ذلك مدة إلى أن مات بدمشق، وقد قيل: إن مروان بن محمد هو الذي قتله وصلبه، وكان اليوم الذي خلع فيه إبراهيم بن الوليد يوم الاثنين لأربع ليلة خلت من شهر صفر سنة سبع وعشرين ومائة.

مروان بن محمد بن مروان بن الحكم أبو عبد الملك

وولي مروان بن محمد في اليوم الذي خلع فيه إبراهيم بن الوليد نفسه وذلك يوم الاثنين، وكان يقال له مروان الحمار، وإنما عرف بالحمار لقلة عقله، وأمه أم ولد جارية كردية كان يقال لها لبابة.

وظهر أبو مسلم واسمه عبد الرحمن بن مسلم أحد بني جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناف بخراسان يوم الخميس لعشر بقين من رمضان سنة تسع وعشرين ومائة. فأظهر الدعوة للرضا من آل رسول الله ، ثم دخل مرو وفض الجموع التي كانت بها مع نصر بن سيار، وهرب نصر بن سيار من أبي مسلم يريد العراق، فمات بساوة، وخرج أبو مسلم من مرو إلى نيسابور ثم قصد الري ثم خرج منها إلى الكوفة فدخلها، وأنفذ عبد الله بن علي بن العباس وأهل بيته وهم بالمدينة فاستقدمهم الكوفة، وأنفذ عبد الله بن علي مع جيش جرار إلى دمشق يريد مروان بن محمد، فأنفذ عبد الله بن علي على مقدمته صالح بن علي فجعل صالح بن علي على مقدمته أبا عون عبد الملك بن يزيد، فواقع ابن عون مروان بن محمد بموضع يقال له أبو صير من رستاق يدعى من صعيد مصر، لأنه هرب إلى الصعيد، فقتل مروان الحمار عامر بن إسماعيل المروزي، وذلك يوم الخميس لست ليال بقين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقد قيل: إن مروان بن محمد قتل في بعض نواحي دمشق وانقضت مدة ملك بني أمية على رأسه.

السفاح أبو العباس

وولي أبو مسلم أبا العباس، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس، وذلك يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وأمه رائطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، وهو أول عباسي تولى الخلافة، وتحول أبو العباس من الحيرة إلى الأنبار، وبنى مدينتها للنصف من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين ومائة، توفي أبو العباس يوم الأحد بالأنبار ليلة عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وصلى عليه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وكانت ولايته أربع سنين وثمانية أشهر، وكان مولده بالشام بالحميمة، وكان نقش خاتم أبي العباس [ الله ثقة عبد الله وبه يؤمن ].

المنصور أبو جعفر أخوه

وولي أبو جعفر المنصور واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في اليوم الذي مات فيه أخوه، وأمه أم ولد اسمها سلامة، وتوفي أبو جعفر بالأبطح بمكة لتسع خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، ودفن ببئر ميمون، وصلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وقد قيل: لا، بل صلى عليه عيسى بن محمد بن علي، والمنصور هو قاتل أبي مسلم، وكان أبو مسلم مولده بكرخ أصبهان، واسمه عبد الرحمن بن مسلم، قتله المنصور في آخر شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة، وطواه في بساط لأنه ترك الرأي بالرأي، وكان للمنصور يوم ولي ثلاث وستون سنة، وكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة غير يوم، وكان نقش خاتم المنصور [ الله ثقة عبد الله ].

المهدي بن المنصور أبو عبد الله

وولي محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في اليوم الذي توفي فيه أبوه، وأمه أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن سهم بن يزيد الحميري، ومات المهدي بماسبذان بقرية يقال لها السواد، وذلك في المحرم ليلة الخمسين لثمان بقين منه سنة تسع وستين ومائة، وكان له يوم توفي ثلاث وأربعون سنة، وكانت ولايته عشر سنين وشهرا وأربع عشرة ليلة، وصلى عليه ابنه هارون، وقد كان نقش خاتمه [ استقدر الله تعالى ].

الهادي بن مهدي أبو محمد

وولي موسى بن محمد بن أبي جعفر المنصور في اليوم الذي مات فيه أبوه، وكان موسى يومئذ بجرجان، وأمه الخيزران أم ولد، بويع ببغداد وأنفذت البيعة إليه وهو بجرجان، ثم قدم الهادي ببغداد، وتوفي موسى الهادي يوم الجمعة بموضع يقال له عيساباذ من سواد العراق، وذلك يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكان له يوم توفي خمس وعشرون سنة، وكانت ولايته أربعة عشر شهرا إلا ست ليال، وصلى عليه أخوه هارون الرشيد بن الهادي، وكان نقش خاتم الهادي [ الله ربي ].

الرشيد بن المهدي أبو جعفر

وولي هارون بن محمد بن أبي جعفر المنصور في اليوم الذي توفي فيه أخوه موسى، وكنية هارون أبو جعفر، وأمه أم ولد، وتوفي هارون الرشيد بطوس بموضع يقال له سناباذ بخارج النوقان، وكان قد خرج من جرحان إليها، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكان مولده بمدينة السلام، وكان نقش خاتم هارون [ بالله ثقتي ].

ورأيت قبر هارون الرشيد تحت قبر علي بن موسى الرضا بينهما مقدار ذراعين في رأي العين، علي في القبلة وهارون في المشرق مما يليه، وكان لهارون يوم توفي تسع وأربعون سنة، وكانت ولايته ثلاث وعشرين سنة وشهرين وسبعة عشر يوما.

الأمين بن الرشيد أبو عبد الله

وولي محمد بن هارون، وأمه زبيدة، وهي أم جعفر بنت جعفر أبي جعفر المنصور، ومحمد يومئذ ببغداد، فوقعت البيعة عليه بطوس وهو غائب ببغداد، ثم أخذ بيعة الناس لابنه محمد بعده، ثم أخذ بيعة الناس لابنه عبد الله بعد محمد، فلما مات هارون وولي محمد جعل عبد الله بن هارون المأمون ينفذ الأعمال بطوس وخراسان بعد موت أبيه، وأنفذ طاهر بن الحسين الأعور لمحاربة أخيه ببغداد، فوافى طاهر ببغداد، وحاصر الأمين بها، وقاتله إلى أن أقتله، وأنفذ رأسه إلى المأمون، وكان ذلك يوم الأحد لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان نقش خاتم الأمين [ قاصده لا يخيب ].

المأمون بن الرشيد أبو العباس

وولي عبد الله بن هارون المأمون أخو محمد ببغداد في اليوم الذي قتل فيه أخوه، وبايعه الناس بيعة العامة، وكانت، أمه أم ولد اسمها مراجل، توفي المأمون بالبذندون خارج طرسوس على طريق الروم في شهر رجب لإحدى عشرة ليلة خلت منه سنة ثمان عشرة ومائتين، وحمل إلى طرسوس وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ودفن بطرسوس، وكان له يوم مات ثمان وأربعون سنة وثلاثة أشهر، وكانت ولايته عشرين سنة وستة أشهر وستة عشر يوما، وكان مولده بمدينة السلام. وكان نقش خاتمه [ الله ثقة عبد الله وبه يؤمن ].

المعتصم بن الرشيد أبو إسحاق

وولي محمد بن هارون أبو إسحاق المعتصم أخو المأمون بعد دفن أخيه بطرسوس، وأمه أم ولد اسمها ماردة، فأخذ المعتصم في إجبار ما لا يحتاج إليه، وضرب أحمد بن حنبل بالسياط وقتل أحمد بن نصر الخزاعي، حتى بقي الناس في تلك الفتنة إلى أن مات المعتصم بسر من رأى من أرض القاطول ليلة الخميس لثمان عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وقد قيل: لثمان بقين من شهر ربيع الأول، وصلى عليه ابنه الواثق، وكان له يوم توفي سبع وأربعون سنة وثلاثة عشر يوما، وكانت ولايته ثمان سنين وثمانية أشهر، وكان نقش خاتمه [ الحمد لله الذي ليس كمثله شيء ].

الواثق بن المعتصم أبو جعفر

وولي هارون ـ وأبوه أبو إسحاق المعتصم بن الرشيد ـ بعد دفن أبيه، وأمه أم ولد تدعى قراطيس، وكان للواثق يوم ولي ستة وعشرون سنة وشهران وثمانية أيام، وتوفي الواثق يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكانت ولايته خمس سنين وستة أشهر وثلاثة عشر يوما، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل، وكان مولد الواثق بمدينة السلام، ونقش خاتمه [ الله ثقة الواثق ].

المتوكل بن المعتصم أبو الفضل

وولي جعفر بن محمد بن هارون بعد دفن أخيه الواثق بن المعتصم، وأم المتوكل أم ولد اسمها شجاع، وكان له يوم ولي ثمان وعشرون سنة، فأظهر المتوكل محبة السنة والميل إليها وأنكر ما كان يفعله أبوه وأخوه في هذا الشأن، ورفع من شأن أهل العلم، ومرهم على أحمد بن نصر، فمالت قلوب العوام إليه، وقتل المتوكل يوم الأربعاء لخمس خلون أو لسبع خلون من شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، قتله ابنه المنتصر وهو الذي صلى عليه، وكان نقش خاتم المتوكل [ لا إله إلا الله، المتوكل على الله ]، وكانت ولايته خمس عشرة سنة وشهرين.

المنتصر بن المتوكل أبو جعفر

وولي محمد بن جعفر بن محمد بن هارون المنتصر بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد في اليوم الذي قتل فيه أبوه، وبايعه أخواه المعتز والمؤيد، وكانت أم المنتصر أم ولد يقال لها حبشية، ومات المنتصر بن المتوكل يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين، وصلى عليه المستعين بن المعتصم عمه، وكان نقش خاتم المنتصر [ محمد بالله ينتصر ].

المستعين بن المعتصم أبو عبد الله

وولي أحمد بن محمد بن هارون، وهو أخو جعفر المتوكل وعم المستنصر ابن المتوكل، وأم المستعين اسمها مخارق أم ولد، وبويع في اليوم الذي توفي فيه المنتصر، فلما دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين وقع بين المعتز والمستعين الفتن الكثيرة والمناوشات الشديدة إلى أن خلع المستعين نفسه في آخر سنة إحدى وخمسين ومائتين، وذلك يوم الأربعاء للنصف من المحرم، وكان نقش خاتم المستعين [ أحمد بن محمد ].

المعتز بن المتوكل أبو عبد الله

وبايع الناس بعد خلع المستعين نفسه الزبير بن جعفر بن محمد بن محمد ابن هارون، وهو المعتز بن المتوكل، أمه أم ولد اسمها قبيحة، وقتل المعتز في شهر رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان نقش خاتمه [ المعتز بالله ].

المهتدي بن الواثق أبو عبد الله

وولي محمد بن هارون بن محمد بن هارون وهو المهتدي بن الواثق بن المعتصم بن الرشيد بسر من رأى ليومين بقيا من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وغلب عليه الأتراك إلى أن قتلوه لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وكانت أمه أم ولد، ونقش خاتم المهتدي [ محمد أمير المؤمنين ].

المعتمد بن المتوكل أبو العباس

وولي أحمد بن جعفر وهو المعتمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ـ في اليوم الذي قتل فيه المهتدي، وأمه أم ولد اسمها فتيان، فجعل المعتمد أخاه أبا أحمد الموفق ولي عهده يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة إحدى وستين ومائتين، فجعل الموفق يبعد ويحجب الناس عن المعتمد واعتل أنه مزحور، وكان للمتوكل ثلاثة بنين: أكبرهم محمد بن جعفر وهو المنتصر، والأوسط منهم أحمد بن جعفر وهو المعتمد، والأصغر طلحة بن جعفر وهو الموفق أبو أحمد، وتوفي أبو أحمد الموفق من علة صعبة كانت به يوم الخميس لثمان خلون من صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين، وتوفي المعتمد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وتسعين ومائتين، وكان له يوم توفي ستون سنة.

المعتضد بن الموفق بن الممتوكل أبو العباس

وولي أحمد بن طلحة بن جعفر ـ وهو ابن أبي أحمد الموفق ـ في اليوم الذي توفي فيه المعتمد، وكانت أمه أم ولد، وتوفي المعتضد ببغداد ليلة الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وقد قيل: إن المعتضد توفي يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائتين، وقد قيل: غسله أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وصلى عليه أبو يوسف، وكان له يوم توفي ست وأربعون سنة، وكان نقش خاتمه [ المعتز بالله ].

المكتفي بن المعتضد أبو محمد

وولي علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بعد دفن أبيه، وأمه أم ولد جارية تركية، وتوفي المكتفي ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، وغسله أبو عمر، وهو الذي صلى عليه، وكان للمكتفي يوم توفي إحدى وثلاثون سنة.

المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل أبو الفضل

وولي جعفر أخو المكتفي في اليوم الذي توفي فيه أخوه المكتفي، وأم المقتدر أم ولد يقال لها: شغب، وكان مولد المقتدر سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وبايع الخاص لعبد الله بن المعتز في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، وبقي مع المقتدر الحجرية وجماعة من الحشم وعوام الناس، فركب الحسين بن حمدان في جماعة معه من الأعراب وجاء إلى باب المقتدر ثم ذهب قاصدا دار ابن المعتز فحارب أصحاب ابن المعتز وقتل ظاهرا مكشوفا والعباس بن الحسن بن أيوب وكان كاتب ابن معتز، وظفر بأصحاب ابن المعتز فهزمهم وقبض على عبد الله بن المعتز وقتله، استوى أمر المقتدر، وهدأت أمور الناس وصار الناس كأنهم نيام لا يحسبون بفتنة، وعمرت والدته الحرمين وأنفقت عليهما في كل سنة أموالا خطيرة، وكذلك عمرت بيت المقدس، وكانت تنفق عليها وعلى الثغور في كل سنة أموالا خطيرة، وارتفع أهل العلم في كل بلد من الدنيا، ورأيت بغداد في تلك الأيام أطيب ما كانت وأجلها وأعمرها، ثم أناءت أمور المقتدر عليه سنة ست عشرة وثلاثمائة، واتفق الناس على خلعه فخلعوه، وأقعدوا أخاه القاهر مكانه بعد أن خلع المقتدر نفسه، فبقي القاهر ثلاثة أيام كذلك، ثم خلع القاهر نفسه وبايع الناس المقتدر ثانيا، وعمل المقتدر إلى آخر سنة عشرين وثلاثمائة، ثم اضطرب الجيش وهيجهم مؤنس على المقتدر، فركب المقتدر بنفسه ليسكن القوم، وعليه بردة رسول الله ، فبينا هو واقف ومعه الخلق من الجند إذ جاءه رجل بربري لا يعرف من هو، فتوهموا أنه يريد أن يسلم عليه، فلما دنا منه رماه بحربته فقتله، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة.

=القاهر بن المعتضد أبو العباس

وولي محمد بن أحمد بن طلحة بن جعفر وهو أخ المقتدر والمكتفي في اليوم الذي قتل فيه أخوه المقتدر، وبقي في الولاية سنة وستة أشهر، ثم كحل وخلع، وتوفي القاهر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

الراضي بن المقتدر أبو العباس

وولي محمد بن جعفر بن أحمد بن طلحة بن جعفر، وهو الراضي بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ومات الراضي في أول سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.

المتقي بن المقتدر

وولي إبراهيم بن جعفر بن أحمد بن طلحة بن جعفر في أول سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

المطيع بن المقتدر

وولي الفضل بن جعفر بن محمد بن أحمد بن طلحة بن جعفر ـ وهو ابن المقتدر بعد دفن المستكفي هو باق لا أدري ما الله صانع به إلا أنه خليفة يموت أو يقتل لا محالة لأن له أسوة بمن فقدهم ـ والله أعلم.

ذكر الخلفاء الراشدين والملوك الراغبين

أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله قال: يكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون ويفعلون ما يؤمرون، ثم يكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن أنكر عليهم فقد برئ، ولكن من رغب وتابع.

قال أبو حاتم: قد ذكرنا جمل ما يحتاج إليه من الحوادث التي كانت في أيام الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، وأومأنا إلى ذكر من كان بعدهم من بني أمية وبني العباس، وأغضينا عن ذكر ما لو لم يذكر من أخبارهم لم يلتفت الناظر في كتابنا هذا عليه لإمعاننا في ذكرها في كتاب الخلفاء من بني أمية وبني العباس من كتبنا. وإنا سنذكر بعد هذا أصحاب رسول الله في كتاب واحدا واحدا بأنسابهم وقبائلهم وما يعرف من أنسابهم وأوقاتهم، كيلا يتعذر على سالك سبيل العلم الوقف على أنبائهم إن أراد الله ذلك وشاء ـ نسأل الله العون على ما يقربنا إليه ويزلفنا لديه، إنه جواد كريم رؤوف رحيم.

أول كتاب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

بسم الله الرحمن الرحيم [ الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه أجمعين.

قال أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي رضي الله عنه ]:

أخبرنا أبو يعلي أحمد بن علي بن المثنى ثنا خلف بن هشام البزار وعبد الواحد بن غياث قالا: ثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حضين قال: قال رسول الله : خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم.

قال أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي: خير هذه الأمة أصحاب رسول الله الذين صحبوه ونصروه وبذلوا له أنفسهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله من المهاجرين والأنصار ومن آمن به وصدقه من غيرهم. فمنهم العشرة الذين شهد لهم النبي بالجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وقد ذكرناهم بأيامهم وما يجب من الوقوف على أخبارهم فيما قبل في أجزاء أفردتها في أخبارهم وما كان في مددهم من الفتوح.

وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وهو قرشي، وكنيته أبو محمد، وكان يقال له: الفياض، لكثرة بذله الأموال، لحق النبي ببدر بعد فراغه من بدر، بعثه النبي إلى حوراء ليتجسس أخبار العير، فضرب له النبي بسهمه وأجره، قتله مروان بن الحكم بسهم رماه، ومات سنة ست وثلاثين يوم الجمل لعشر ليال خلون من جمادى الأولى وهو ابن أربع وستين سنة، وقد قيل: في شهر رجب، وقبره بالصبرة مشهور يزار، وأم طلحة الصعبة بنت عبد الله بن عماد بن مالك بن حضرموت.

والزبير بن العوام بن خلويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ابن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وهو قرشي، وكنيته أبو عبد الله، كان من حواري رسول الله .

وأم الزبير صفية بنت عبد المطلب بن هاشم، وأمها هالة بنت وهيب بن عبد المناف بن زهرة، شهد بدرا وهو ابن تسع وعشرين سنة، وقتل في شهر رجب سنة ست وثلاثين، قتله عمرو بن جرموز، وكان له يوم مات أربع وستون سنة، وأوصى إلى ابنه عبد الله صبيحة يوم الجمل فقال: يا بني! ما من عضو مني إلا وقد جرح مع رسول الله حتى انتهى ذلك إلى فرجي فقتل من آخر يومه، وقبره بوادي السباع من أرض بني تميم مشهور يعرف، وللزبير عشرة من البنين وابنتان: عبد الله وعاصم وعروة والمنذر ومصعب وحمزة وخالد وعمرو وعبيدة وجعفر، والابنتان: رملة وخديجة.

وسعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك بن وهيب ـ ويقال: أهيب ـ بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وكنيته أبو إسحاق، وأمه: حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف، مات في قصره بالعقيق، وحمل على أعناق الرجال إلى المدينة عشرة أميال سنة خمس وخميسن، وقد قيل: سنة ثمان وخمسين، وصلى عليه مروان بن الحكم، وكان واليها في أمارة معاوية، وله يوم مات أربع وسبعون سنة، كان قد أسلم وهو ابن تسع عشرة سنة، وحمل من أولاد سعد العلم عمر ومحمد وعامر وموسى ومصعب وعائشة.

وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وكنيته أبو الأعور، قدم من الحوراء مع طلحة بعدما انصرف النبي من بدر، فضرب له النبي بسهمه وأجره، مات سنة إحدى وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة ودفن بالمدينة، ودخل قبره سعد بن أبي وقاص وابن عمر، أمه فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن خزاعة.

وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وكنيته أبو محمد، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسماه النبي عبد الرحمن، وأمه الشفاء بنت عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب من المهاجرات، مات لست بقين من خلافة عثمان وهو ابن خمس وسبعين سنة ودفن بالبقيع، ولعبد الرحمن بن عوف عشرة بنين: محمد وإبراهيم وحميد وزيد وأبو سلمة ومصعب وسهيل وعثمان وعمر والمسور سوى البنات اللائي كن له.

وعامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر، كنيته أبو عبيدة، وتوفي في طاعون عمواس بالشام سنة ثمان عشرة في خلافة عمر وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وكان قد شهد بدرا وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وهو من جلة الصحابة وأمه بنت عبد العزى ابن شقيق بن سلامان من بني فهر.

انتهى الكتاب ولله الحمد والمنة