انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب السادس والعشرون ما خلق الفراق إلا لتعذيب العشاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب السادس والعشرون ما خُلق الفراق إلاَّ لتعذيب العشَّاق

أما الفراق فمستغنٍ ببشاعة اسمه عن الإغراق في وصفه.

ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي في قوله:

أخٌ لي لَوُ اعطيتُ المُنى باسمِ فقدهِ
بلا فقدهِ كانتْ بهِ ثمناً بخسَا
فلو أنَّ نفسِي ألفُ نفسٍ لما انثنتْ
يدُ البينِ أو تُودِي بآخرها نفسَا

وقد اختلف العشاق في التفصيل والفراق فمن أهل الهوى من يُعظم شأن الهجر على شأن النَّوى وينشد محتجّاً لذلك:

وأنقذَها مِنْ غمرةِ الموتِ أنَّه
صدودُ فراقٍ لا صدودُ تعمُّدِ
فأجرَى لها الإشفاقُ دمعاً مورَّداً
من الدَّمِ يجرِي فوقَ خدٍّ مورَّدِ

وأكثر أهل هذا الشأن يُغلبون شأن النَّوى على شأن الهجر بل يغلِّبونه على كل مكروه من الأمر غير الخيانة والغدر.

ولقد أحسن أبو تمام حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:

وكانَ عزيزاً أنَّ بيني وبينكمْ
حجاباً فقدْ أصبحتُ منكمْ علَى شهرِ
وأبكاهُما للعينِ واللهِ إنَّني
أُحاذرُ أنْ لا نلتقي آخرَ الدَّهرِ
وكمْ دونَنا مِنْ مهمهٍ مُتنازحٍ
ومن جبلٍ وعرٍ ومن بلدٍ قفرِ
وما زلتُ أرضى مِنْ خليلِي بهجرهِ
فأحسبُ أنْ لا داءَ أدوَى منَ الهجرِ
إلى أنْ رمانا دهرُنا بتفرُّقٍ
فأيقنتُ أنَّ البينَ قاصمةُ الظَّهرِ

ونحن نقول الآن الفرقان بين الفراق والهجران الَّذي يعظم عندي أمر الهجر إنَّما هو منسبة ما بينه وبين الغدر لأنَّ الهجر إذا خرج عن أن يكون عقاباً على ذنبٍ أو تذلُّلاً بإظهار تجنٍّ أو عتب أو مراقبة لواشٍ أو مللاً من العذل فلا معذر له غير الغدر والخيانة وترك المقام للهوى بحق الرعاية فهذا أصعب أسباب الهجر ومما ينقص من صعوبته ويكفُّ من عاديته أنَّه إذا جرى هذا المجرى لحق المقصود به ضربٌ من الغيظ لقبح ما صنع به عن غير سبب موجب له وليس شخص المحبوب بناءٍ عن نظره فيتمالك عنه من إزعاج الشوق بفكره ما يذهب بغيظه ويُلين من قلبه ومع الفراق زوال ذلك كله لأن غيبة الشخص عن الناظر مزيلة لكل غيظ وغافرة لكل ذنب وذاهبة بكل عجب يتداخل المحبوب والمحب فالنفوس تذل للفراق وتنقاد معه لدواعي الإشفاق والاشتياق فهذا مقدار ما يتسهّل لنا من وصفهما ويجوز أن نقطع به من الحكم بينهما.

قال ابن ميادة:

سلِ اللهَ صبراً واعترفْ بفراقِ
عسى بعدَ بينٍ أن يكونَ تلاقي
ألا ليتني قبلَ الفراقِ وبعدهُ
سقاني بكأسٍ للمنيَّةِ ساقي

وقال آخر:

فوا حسرتا لمْ أقضِ منكمْ لُبانة
ولم أتمتَّعْ بالجوارِ وبالقُربِ
وفُرِّقَ بيني في المسيرِ وبينكمْ
فها أنذا قاضٍ علَى إثركمْ نحْبي

وقال آخر:

ألا مَنْ لقلبٍ مُعرضٍ للنَّوائبِ
رمتْهُ خُطوبُ الدَّهرِ من كلِّ جانبِ
تبيَّنَ يومَ البينِ أنَّ اعتزامه ع
لى الصَّبرِ من إحدى الظُّنونِ الكواذبِ

وقال آخر:

مَنْ كانَ لمْ يذُقِ الهوَى أوْ ذاقهُ
فلقدْ أخذتُ منَ الهوَى بنصيبِ
فرأيتُ أنَّ أشدَّ كلِّ بليَّةٍ
قُضيتْ علَى أحدٍ فراقُ حبيبِ

وقال أبو تمام:

لو كانَ في البينِ إذْ بانوا لهمْ دعَةٌ
لكانَ بينهمُ منْ أعظمِ الخطرِ
فكيفَ والبينُ موصولٌ بهِ تعبٌ
يكلِّفُ البيدَ في الإدلاجِ والبُكرِ
لو أنَّ ما تبتليني الحادثاتُ بهِ
يكونُ بالماءِ لم يُشربْ من الكدرِ
لو كانَ بالعيسِ ما بي يومَ رحلتهمْ
أعيَتْ علَى السَّائقِ الحادي فلم تسرِ
كأنَّ أيدي مطاياهُمْ إذا وخدَتْ
يقعْنَ في حُرِّ وجهي أوْ علَى بصري

وقال ابن الدمينة:

إلى اللهِ أشكو مُضمراتٍ من الهوَى
طواهُنَّ طولُ النَّأيِ طيَّ الصَّحائفِ
أقامَ بنحْوِ الماءِ قلبي وباعدَتْ
بسائرِ جِثماني قلاصُ الغلائفِ

وقال معاذ ليلَى العقبلي:

أقامَ فريقٌ من أُناسٍ تودُّهمْ
بذاتِ الشَّرى عندي وبانَ فريقُ
بحاجةِ محزونٍ ثباتُ فؤادهِ
رهينٌ ببيضاتِ الحجالِ صديقُ
تحمَّلْنَ أنْ هبَّتْ لهنَّ عشيَّةً
جَنوبٌ وأنْ لاحتْ لهنَّ بروقُ
فواكبدي أُكْوى عليها وإنَّها
مخافةَ هيضاتِ النَّوى لخَفوقُ

وقال المعلوط:

دعوْتُ ربِّي دُعائي فاستجابَ لهُ
كما دعا ربَّهُ نوحٌ وأيَّوبُ
أن ينزعَ الدَّاءَ من قلبي ويجعلهُ
في قلبِ سُلمى وحملُ الدَّاءِ تعطيبُ
لِيُبرئَ اللهُ قلباً من صبابتهِ
فلا أحنُّ إذا حنَّ المطاريبُ
قلبي بنجدٍ وأجلادي تهاميةٌ
ما بعد هذا منَ التَّعذيبِ تعذيبُ

وقال جران العود ومن النَّاس من يرويه لذي الرمة:

أيا كبدي كادتْ عشيَّةَ غُرَّبٍ
منَ الوجدِ إثرَ الظَّاعنينَ تصدَّعُ
عشيَّةَ ما فيمنْ أقامَ بغُرَّبٍ
مُقامٌ ولا فيمنْ مضى مُتسرَّعُ
عشيَّةَ ما لي حيلةٌ غيرَ أنَّني
بلفظِ الحصى والخطِّ في الدَّارِ مولعُ
أخطُّ وأمحو كلَّ خطٍّ خططْتُهُ
بكفِّيَ والغِربانُ في الدَّارِ وقَّعُ
كأنَّ سناناً فارسيّاً أصابني
علَى كبدي بلْ لوعةُ الحبِّ أوجعُ
وما يُرجعُ الشَّوقُ الزَّمانَ الَّذي مضى
ولا للفتى في دمنةِ الدَّارِ مَجزعُ
فما كانَ مشؤوماً لنا طائرُ الهوَى
ولا ذلَّ للبينِ الفؤادُ المروَّعُ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر لطفيل الغنوي:

وما أنا بالمُستنكرِ البينِ إنَّني
بذي لطَفِ الجيرانِ قِدْماً مُفجَّعُ
جديرٌ بهِ من كلِّ حيٍّ لقيتهُمْ
إذا أنسٌ عزُّوا عليَّ تصدَّعوا

وقال آخر:

أمَّا الرَّحيلُ فحينَ جدَّ ترحَّلتْ
مهجُ النُّفوسِ لهُ عنِ الأجسادِ
من لم يمُتْ والبينُ يصدعُ شملَهُ
لم يدْرِ كيفَ تفتُّتُ الأكبادِ

وقال إسحاق الموصلي:

إقْرَ السَّلامَ علَى الذَّلفاءِ إذْ شحطَتْ
وقُلْ لها قد أذقْتِ القلبَ ما خافا
فما وجدْتُ إلى إلفٍ فُجعتُ بهِ
وجدي عليكِ وقد فارقتُ أُلاَّفا

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:

خليليَّ إنِّي لم أجدْ بردَ مشربٍ
ولا طعمَ نومٍ مُذْ نأتْ أمُّ حاجبِ
وما زالَ مذْ لم يلقها القلبُ صادياً
وإن كانَ يُسقى من لذيذِ المشاربِ

وقال آخر:

أحجَّاجَ بيتِ اللهِ في أيِّ هودجٍ
وفي أيِّ خِدرٍ من خدوركمُ قلبي
أأبقى أسيرَ الحبِّ في أرضِ غُربةٍ
وحاديكمُ يحدو بقلبي معَ الرَّكبِ

وقال الحسين الخليع:

بنفسي حبيبٌ أَمَّ مكَّةَ مُكرهاً
يُعالجُ مستوراً منَ الحزنِ والألمْ
كلانا وحيدٌ لا يُسرُّ بمؤْنسٍ
منَ النَّاسِ حتَّى تنقضي الأشهرُ الحرمْ
أحنُّ إلى شهرِ المحرَّمِ ليتهُ
غَداةَ غدٍ قد كانَ أوْ بانَ فانصرمْ
أُلامُ علَى شُغلي بمن أنا شغلهُ
إذا طافَ أوْ أصغى إلى الرُّكنِ فاستلمْ
سترْنا بظهرِ الغيبِ ما كانَ بيننا
ونحفظُ عهدينا علَى رغمِ منْ رغمْ

وقال ذو الرمة:

أراحَ فريقُ جيرتِكَ الجِمالا
كأنَّهمُ يريدونَ انتقالا
فكدْتُ أموتُ من حزنٍ عليهمْ
ولمْ أرَ صاحبَ الأظعانِ آلا
وميَّةُ في الظَّعائنِ وهيَ شكَّتْ
سوادَ القلبِ فاقتُتِلَ اقتتالا
ولمْ أرَ مثلَها نظراً وعيناً
ولا أُمَّ الغزالِ ولا الغزالا
هيَ السُّقمُ الَّذي لا بُرءَ منهُ
وبُرءُ السُّقمُ لو بذلتْ نوالا

وقال معقل بن عيسى أخو أبي الدلف:

لَعمري لئنْ قرَّتْ بقُربكَ أعينٌ
لقد سخنَتْ بالقربِ منكَ عيونُ
فسرْ أوْ أقمْ وقْفٌ عليكَ مودَّتي
مكانُكَ منْ قلبي عليكَ مصونُ

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

راحوا ورحنا علَى آثارهمِ أُصُلاً
مُحمِّلينَ منَ الأثقالِ أوقارا
كأنَّ أنفُسنا لم ترتحلْ معنا
أوْ سرنَ في أوَّلِ الحيِّ الَّذي سارا

وقال آخر:

عجِلَ الفِراقُ بما كرهْتُ وطالما
كانَ الفِراقُ بما كرهْتُ عجولا
وأرى الَّتي هامَ الفؤادُ بذكرِها
أصبحْتُ منها فارغاً مشغولا

وقال آخر:

بنفسيَ مَنْ أُمسي وأُضحي لنأيهِ
وشوقي إليهِ في عناءٍ وفي كرْبِ
فإنْ يرتحلْ جسمي معَ الرَّكْبِ مُكرهاً
يُقمْ عندها قلبي وأمضي بلا قلبِ

ولبعض أهل هذا العصر:

وكنتُ أرى أن قدْ تناهى بيَ الهوَى
إلى غايةٍ ما بعدها ليَ مذهَبُ
فلمَّا تفرَّقنا تذكَّرْتُ ما مضى
فأيقنتُ أنِّي إنَّما كنتُ ألعبُ
فقدْ والَّذي لو شاءَ لم يخلُقِ النَّوى
عُرضْتُ فما أدري إلى أينَ أذهبُ

وقال آخر:

وأخلَتْ فشطَّتْ عن مُقامي وخانني... وما
مِنْ ضنى الموتِ لا تُخلي
لقدْ غادرتْني لا صحيحاً لصحَّتي
ولا راجياً بِراً ولا مُدركاً تبْلي

وقال آخر:

أغارَ علينا الدهرُ حتَّى كأنَّما
يُطالبنا الدَّهرُ المغيرُ بأوتارِ
بتشتيتِ أُلاَّفٍ وتغريبِ منزلٍ
وتفريقِ إخوانٍ وتقليبِ أوطارِ
وقدْ علمَ الدَّهرُ الخؤونُ بأنَّني
أصولُ عليهِ صوْلةَ الأسدِ الضَّاري

وقال علي بن محمد العلوي الكوفي:

ولقدْ نظرْتُ إلى الفراقِ ولم أجد
للموتِ لو فُقدَ الفراقُ سبيلا
يا ساعةَ البينِ انبري فكأنَّما
واصلتِ ساعاتِ القيامةِ طولا

وقال الطائي:

يومَ الفراقِ لقدْ خُلقتَ طويلا
لم تُبقِ لي صبراً ولا معقولا
لو حارَ من قادَ المنيَّةَ لمْ يُردْ
إلاَّ الفراقَ علَى النُّفوسِ دليلا
قالوا الرَّحيلُ فما شككْتُ بأنَّها
نفسي عنِ الدُّنيا تريدُ رحيلا
الصَّبرُ أجملُ غيرَ أنَّ تلذُّذاً
في الحبِّ أحرى أن يكونَ جميلا
أتظنُّني أجدُ السَّبيلَ إلى العزا
وجدَ الحِمامُ إذاً إليَّ سبيلا
ردُّ الجموحِ الصَّعبِ أسهلُ مطلباً
من ردِّ دمعٍ قدْ أرادَ مسيلا

وقال أبو تمام:

نوًى كانقضاضِ النَّجمِ كانتْ نتيجةً
منَ الهزلِ يوماً إنَّ هزْلَ الهوَى جِدُّ
فلا تحسِبا هنداً لها الغدرُ وحدها
سجيَّةُ نفسٍ كلُّ غانيةٍ هنْدُ
وكمْ تحتَ أوراقِ الصَّبابةِ من فتًى
منَ القومِ حُرٍّ دمعهُ للهوى عبدُ
محمَّدُ يا ابن الهيثمِ انقلبَتْ بنا
نوًى خطأٌ في عقبها لوعةٌ عمْدُ
وحقدٌ منَ الأيَّامِ وهيَ قديرةٌ
وشرُّ السَّجايا قُدرةٌ حازها حقدُ

وقال علي بن محمد العلوي:

أتْبعتهُمْ نفساً تَدْمى مسالكهُ
كأنَّهُ من حِمى الأحشاءِ مقدودُ
ما زلتُ أعرفُ أيَّامي وأُنكرُها
حتَّى انبرتْ وهيَ لا بيضٌ ولا سودُ
خاضتْ بيَ الشَّكَّ حتَّى قالَ قائلُها
لا القربُ قرْبٌ ولا التَّبعيدُ تبعيدُ

وقال آخر:

لَعمري لئنْ شطَّتْ بعُتمةَ دارُها
لقد كنتُ من وشكِ الفراقِ أُليحُ
أروحُ بهمٍّ ثمَّ أغدو بمثلهِ
وتحسبُ أنِّي في الثِّيابِ صحيحُ

وقال آخر:

سنحَ الهوَى فكتمْتُ نفسي حاجةً
بلغَ التَّجلُّدَ ذو العزاءِ الصَّابرِ
نهوى الخليطَ وإنْ أقمْنا بعدهُ
إنَّ المقيمَ مكلَّفٌ بالسَّائرِ

وقال آخر:

وفي الجيرةِ الغادينَ من بطنِ وجْرةٍ
غزالٌ أحمُّ المُقْلتينِ ربيبُ
فلا تحسبي أنَّ الغريبَ الَّذي نأى
ولكنَّ مَنْ تنأيْنَ عنهُ غريبُ

وقال آخر:

تركْتِ بقلبي من فراقكِ لوعةً
ستُتْلفُ ما أبقى وداعُكِ من نفسي
أروحُ وأغدو مُستكيناً كأنَّني
أُراقبُ حتفي حينَ أُصبحُ أوْ أُمسي