الباب السادس والأربعون مَنْ قدُمَ هواهُ قوِيَ أساهُأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب السادس والأربعون مَنْ قدُمَ هواهُ قوِيَ أساهُ
من كان أوَّل ما وقع به من أسباب المحبة استحساناً ثمَّ ينمي على الترتيب الذي وصفناه حالاً فحالاً حتَّى ينتهي إلى بعض الأحوال الصِّعاب التي ذكرناها كان زوالها إن زال بطيئاً ومن عشق بأوَّل النَّظر سلا مع أوَّل الظَّفر فإن لم يظفر بمن يهواه سلا إذا تعذَّر عليه ما يتمنَّاه فإذا وقع الهوى بأوَّل نظر ثمَّ ارتقى صاحبه ارتقاءً بغير ترتيب حتَّى صار مدلَّهاً بمن يهواه قبل أن تطول معاشرته كان بقاء ذلك الهوى يسيراً وهكذا كل شيءٍ في العالم إن اعتبرته وجدت ما ارتقى إلى هذه الغاية القصوى بغير ترتيب انحطَّ انحطاطاً طويلاً ولعمري لقد أحسن الذي يقول:
وما كانَ حُبِّيها لأوَّلِ نظرةٍ
ولا غمرةً مِنْ صبوةٍ فتجلَّتِ
ولكنَّها الدُّنيا تولَّتْ فما الَّذي
يُعزِّي عنِ الدُّنيا إذا ما تولَّتِ
وقال الحسين بن وهب في هذا المعنى فأحسن:
أرَى كلَّ يومٍ لوعةً أستجدُّها
ونفساً يُعنِّيها هواها وجهدُها
وصبوةَ قلبٍ كانَ هولاً بدِيُّها
فعادتْ علَى الأيَّامِ قدْ جدَّ جدُّها
وقال آخر:
شوقي إليكَ علَى الأيَّامِ يزدادُ
والقلبُ بعدكَ للأحزانِ مُنقادُ
يا لهفَ نفسِي علَى إلفٍ فُجعتُ بهِ
كأنَّ أيَّامهُ في الحسنِ أعيادُ
وقال آخر:
وإنِّي وإيَّاها لكالخمرِ والغِنى
متَى تستطعْ منها الزِّيادةَ تزددِ
إذا ازددتُ منها زدتُ وجداً بقُربها
فكيفَ احتراسِي مِنْ هوًى متجدِّدِ
وقال كثير:
يلومكَ في ليلَى وعقلكَ عندَها
رجالٌ ولمْ تذهبْ لهمْ بعقولِ
وما زلتُ مِنْ ليلَى لدُنْ طرَّ شارِبي
إلى اليومِ كالمُلقَى بكلِّ سبيلِ
وقال بعض الأعراب:
سقَى اللهُ مِنْ حبِّي لهُ كلَّ ليلةٍ
ويومٍ علَى مرِّ السِّنينَ يزيدُ
جرَى حبُّها والدَّهرُ في طلقَيْهما
فضُعضعَ ركنَ الدَّهرِ وهو جليدُ
وقال أبو تمام:
هوًى كانَ خَلساً إنَّ مِنْ أبردِ الهوَى
هوًى جلتُ في أفنائهِ وهو خاملُ
ولنْ تنظمَ العقدَ الكعابُ لزينةٍ
كما انتظمَ الشَّملَ الشَّتيتَ الشمائلُ
وقدْ تألفُ العينُ الدُّجى وهو قيدُها
ويُرجَى شفاءُ السُّمِّ والسُّمُّ قاتلُ
وقال مجنون بني عامر:
فلوْ كانَ حبِّي آلَ ليلَى كحادثٍ
إلى وقتِ يومٍ قدْ تقضَّتْ همومُها
ولكنَّ حبِّي آلَ ليلَى فدائمٌ
وأقتلُ أدواءِ الرِّجالِ قديمُها
وقال كثير:
تعلَّقَ ناشئاً مِنْ حبِّ سلمَى
هوًى سكنَ الفؤادَ فما يزولُ
فلمْ تذهلْ مودَّتها غُلاماً
وقدْ ينسَى ويطَّرفُ الملولُ
وأدرككَ المشيبُ علَى هواهَا
فلا شيبٌ نهاكَ ولا ذهولُ
وقال جميل:
علقتُ الهوَى منها وليداً فلمْ يزلْ
إلى اليومِ ينمِي حبُّها ويزيدُ
وأفنيتُ عمرِي بانتظارِي نوالَها
وأبليتُ فيها الدَّهرَ وهو جديدُ
ألا ليتَ شِعري هلْ أبيتنَّ ليلةً
بوادِي القُرى إنِّي إذنْ لسعيدُ
لكلِّ حديثٍ عندهنَّ بشاشةٌ
وكلُّ قتيلٍ بينهنَّ شهيدُ
وقال آخر:
لي حبيبٌ ينعَى إليَّ رجائِي
كلَّما خلتُ قلبهُ لِي يلينُ
للمُنى عندَ ذكرهِ في ضميرِي
حركاتٌ كأنَّهنَّ سكونُ
انتظاري لهُ علَى حادثِ الدَّه
رِ قديمٌ إن انظرَتني المنونُ
يا هوانَ الدُّنيا عليَّ إذا ما
كنتُ فيها ممَّنْ عليكَ يهونُ
وقال آخر:
وقفتُ لليلَى بعدَ عشرينَ حجَّةً
بمنزلةٍ فانهلَّتِ العينُ تدمعُ
وأمرضَ قلبي حبُّها وطلابُها
فيا لعديٍّ دعوةً كيفَ أصنعُ
وأتبعُ ليلَى حيثُ سارتْ وخيَّمتْ
وما النَّاسُ إلاَّ آلفٌ ومودِّعُ
كأنَّ زماماً في الفؤادِ معلَّقٌ
تقودُ بهِ حيثُ استمرَّتْ وأتبعُ
وقال مجنون بني عامر:
تمرُّ اللَّيالي والشُّهورُ ولا أرَى
ولُوعي بها يزدادُ إلاَّ تماديا
قضاها لغيرِي وابتَلاني بحبِّها
فهلاَّ بشيءٍ غيرَ ليلَى ابتلانِيا
وقال مسلم بن الوليد:
أُعاودُ ما قدَّمتهُ مِنْ رجائِها
إذا عاودتْ بالنَّاسِ فيها المطامعُ
وما زيَّنتها العينُ لي عنْ لجاجةٍ
ولكنْ جرَى فيها الهوَى وهو طائعُ
وقال البحتري:
تجنَّبتْ ليلَى أنْ يلجَّ بكَ الهوَى
وهيهاتَ كانَ الحبُّ قبلَ التَّجنُّب
فلوْ تلتَقي أصداؤنا بعدَ موتِنا
ومِنْ دونِ رَمْسَينا منَ الأرضِ منكبُ
لظلَّ صدَى رَمسي وإنْ كنتُ رمَّةً
لصوتِ صدَى ليلَى يهشُّ ويطربُ
ألا إنَّما غادرتِ يا أُمَّ مالكٍ
صدًى أينما تذهبُ الرِّيحُ يذهب
لقدْ عشتُ مِنْ ليلَى زماناً أُحبُّها
أخا الموتِ إذ بعضُ المحبِّينَ يكذبُ
وقال آخر:
فلو كنتُ أدرِي أنَّما كانَ كائنٌ
وأنَّ جديدَ الوصلِ قدْ جدَّ غابرهْ
تعزَّيتُ قبلَ اليومِ حتَّى يكونَ لي
صريمةُ أمرٍ تستمرُّ مرائرهْ
وقال عروة بن حزام:
ألفنا الهوَى واستحكمَ الحبُّ بيننا
وليدَيْنِ ما مرَّتْ لنا سنتانِ
فذُقنا رخاءَ العيشِ عشرينَ حجَّةً
أليفينِ ما نرتاعُ للحدثانِ
جعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حكمهُ
وعراف حجرٍ إن هما شفياني
فما تركا من حيلةٍ يعلمانها
ولا رُقيةٍ إلاَّ بها رقَيانِي
فقالا شفاكَ اللهُ واللهِ ما لنا
بما حُمِّلتْ منكَ الضُّلوعُ يدانِ
وقال أيضاً
وآخرُ عهدٍ لي بعفراءَ أنَّها
تُريكَ بناناً كفُّهنَّ خضيبُ
عشيَّةَ لا عفراءُ منكَ بعيدةٌ
فتسلَى ولا عفراءُ منكَ قريبُ
وقال آخر:
عشيَّةَ لا خلفِي مقرٌّ ولا الهوَى
أمامِي ولا وجدِي كوجدِ غريبِ
وكلُّ محبٍّ قدْ سلا غيرَ أنَّني
غريبُ الهوَى يا ويحَ كلِّ غريبِ
وقال ابن هرمة:
أرَى الدَّهرَ يُنسيني أحاديثَ جمَّةً
أتتْ مِنْ صديقٍ أوْ عدوٍّ يشيعُها
ولمْ يُنسِنيها الدَّهرُ إلاَّ وذكرُها
بحيثُ تحنَّتْ دونَ نفسِي ضلوعُها
وإنْ لم يكنْ منها لنا غيرُ ذكرةٍ
وقولٍ لعلَّ الدَّهر يوماً يريعُها
فقدْ أحرزتْ منِّي فؤاداً متيَّماً
وعيناً عليها لا تجفُّ دموعُها
أتنسينَ أيَّامِي وأيَّامكِ الَّتي
إذا ذكرتْها النَّفسُ كادتْ تذيعُها
وقال آخر:
أُحبِّكِ أصنافاً منَ الحبِّ لم أجدْ
لها مثلاً في سائرِ النَّاسِ يعرفُ
فمنهنَّ حبٌّ للمحبِّ ورحمةٌ
لمعرفَتي منهُ بما يتكلَّفُ
ومنهنَّ أنْ لا يخطرَ الدَّهرَ ذكركمْ
علَى القلبِ إلاَّ كادتِ النَّفسُ تتلفُ
وحبٌّ بدا بالجسمِ واللَّونُ ظاهرٌ
وحبُّ الَّذي نفسي منَ الرُّوحِ ألطفُ
وحبٌّ هو الدَّاءُ العياءُ بعينهِ
لهُ ذكرٌ تعدُو عليَّ فأدنفُ
فلا أنا منهُ مستريحٌ فميّتٌ
ولا هوَ علَى ما قد حييتُ مخفَّفُ
وقال هدبة بن خشرم:
تذكَّرَ حبّاً كانَ في مَيعةِ الصِّبى
ووجداً بها بعدَ المشيبِ معقَّبا
إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتَها
فيا لكَ قد عنَّى الفؤادَ وعذَّبا
ضنًى مِنْ هواها مُستكنّاً كأنَّهُ
خليعُ قداحٍ لم يجدْ مُتنشَّبا
بعينيكَ زالَ الحيُّ منها لنيَّةٍ
قذوفٍ تشوقُ الآلفَ المتطرِّبا
وقدْ طالَما عُلِّقتْ ليلَى معمَّداً
وليداً إلى أنْ صار رأسكَ أشيبا
رأيتكَ مِنْ ليلَى كذِي الدَّاءِ لم يجدْ
طبيباً يُداوِي ما بهِ فتطبَّبا
فلمَّا اشتفَى ممَّا بهِ علَّ طبُّهُ
علَى نفسهِ مِنْ طولِ ما كانَ جرَّبا
وأنشدنا أحمد بن يحيى لذي الرمة:
أيا ميُّ إنَّ الحبَّ حُبَّانِ منهُما
قديمٌ وحبٌّ حينَ شبَّتْ شبائبهْ
إذا اجتمعا قالَ القديمُ غلبتهُ
وقالَ الَّذي مِنْ بعدهِ أنا غالبهْ
وأخبرنا أبو العباس عليّ ابن الأعرابي أنَّ ميَّة قالت اللَّهمَّ لا تقضِ بينهما.
وقال بشار:
بكيتُ منَ الدَّاءِ داءِ الهوى
إليها وأنْ ليسَ لي مُسعدُ
وقد وعدتْ صفَداً في غدٍ
وقدْ وعدتْ ثمَّ لا تصفِدُ
وإنِّي علَى طولِ إخلافِها
لأرجُو الوفاءَ ولا أحقدُ
إذا أُخلفَ اليومَ ظنِّي بها
يكونُ لنا في غدٍ موعدُ
صبرتُ علَى طولِ أيَّامِها
حفاظاً وصبرُ الفتَى أعوَدُ
وما ضرَّ يومٌ بداءِ الهوَى
محبّاً إذا ما شفاهُ الغدُ
سوَى شوق عَيني إلى وجهِها
وإنِّي إذا فارقتْ أكمَدُ
فهؤلاء البائسون قد صيروا على أحبَّتهم إمَّا طائعين وإمَّا كارهين فإن كانوا طائعين فهو أحمدُ ممَّن يتلاعب وينتقل في كل ساعة عن إلفه إلى سواه وإن كانوا كارهين فإنَّ السبب الَّذي اضطرهم إلى المقام على ما يؤلمهم ويمنعهم عن الانتقال إلى ما يختارونه لو لم يكن سبباً أملك بهم منهم ما عليهم فهم على كل الجهات أتمُّ في الحال ممَّن جعل هواه ضرباً من الإشغال ينفرد له إذا نشط ويتركه إذا كسل كالذين قدَّمنا وصفهم في صدر هذا الكتاب من أنَّهم لم يرتقوا في المحبَّة على من انتهى بل صعدوا بأول نظرة إلى ذروتها فكما كان ارتقاؤهم سريعاً كان انحطاطهم قريباً.
فمنهم الوليد بن عبيد الطائي حيث يقول:
نظرةٌ ردَّتِ الهوَى الشَّرقَ غرْبا
وأمالتْ نهجَ الدُّموعِ الجوارِي
ما ظننتُ الأهواءَ قبلكِ تُمحَى
مِنْ صدورِ العشَّاقِ محوَ الدِّيارِ
كانَ يحلُو هذا الهوَى فأراهُ
عادَ مرّاً والسُّكْرُ قبلَ الخمارِ
وإذا ما تنكَّرتْ لي بلادٌ
أوْ خليلٌ فإنَّني بالخيارِ
وله أيضاً:
أتَى دونَها نأيُ البلادِ ونصُّنا
سَواهمَ خيلٍ كالأعنَّةِ ضمَّرُ
ولمَّا خطوْنا دجلةَ انصرمَ الهوَى
فلمْ تبقَ إلاَّ لفتةُ المتذكِّرِ
وخاطرُ شوقٍ ما يزالُ يَهيجُنا
لبادينَ مِنْ أهلِ الشَّآمِ وحضَّرِ
ولأبي نواس في نحو ذلك:
ألا قلْ لأخلاَّئي
ومَنْ همتُ بهمْ وجدا
ومَنْ كانُوا مَواليَّ
ومَنْ كنتُ لهمْ عبْدا
شربْنا ماءَ بغدادَ
فأنساكمُ جِدَّا
فلا ترعَوْا لنا عهداً
فما نرعَى لكمْ عهْدا
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر لإبراهيم بن العباس في نحو ذلك: