الباب الرابع والعشرون مَنْ تجلَّد علَى النَّوى فقد تعرَّض للبلاأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الرابع والعشرون مَنْ تجلَّد علَى النَّوى فقد تعرَّض للبلا
اجتراء العشَّاق على المبادرة إلى الفراق يكون إما لنفي أقوال الوشاة عنهم وعن أنفسهم وإما لضجرة تلحقهم من مكروه يقع بهم وإما لنشاط في النَّفس وزهد ليحقها لقوَّة الظَّفر بما قد حصل لها فترى نفسها أجلَّ من محبوبها لأنَّها مالكة ولا شيء في العالم يعدله وهو وإن كان مالكاً لها فإنَّها لا ترى نفسها في حدِّ ما يُفتخر بملكه فهي لهذه العلَّة تتكبَّر عليه.
ولبعض أهل هذا العصر:
أصولُ بهِ تيهاً عليهِ فمنْ رأَى
منَ النَّاسِ قبلي عاشقاً يتصلَّفُ
إذا خفتُ منهُ الغدرَ أبَى توافياً
يزولُ بهِ خوفي ويبقَى التَّخوُّفُ
وربَّما أعرض العاشق عن المعشوق إما من جهة الامتحان للصبر وإما لتجديد حاله عند محبوبه وكثيراً ما يجري الأمر في ذلك على ضدِّ تقديره.
وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
ألا يا قومِي للهوَى المُتزايدِ
وطولِ اشتياقِ الرَّاحلِ المُتباعدِ
رحلتُ لكيْ أحظَى إذا أُبتُ قادماً
فأوردَنِي التّرحالُ سوءَ المواردِ
كأنِّي لديغٌ حارَ عنْ كنهِ دائهِ
طبيبِ فداواهُ بسمِّ الأساودِ
فمالَ معَ الدَّاءِ القديمِ دواؤهُ
فيا لكَ مِنْ داءٍ طريفٍ وتالدِ
وقال أبو تمام:
هيَ البدرُ يُغنيها تودُّدُ وجهها
إلى كلِّ مَنْ لاقتْ وإنْ لم تودَّدِ
علَى أنَّني لمْ أحوِ وفراً مجمَّعاً
ففزتُ بهِ إلاَّ بشملٍ مبدَّدِ
ولمْ تعطِني الأيَّامُ نوماً مسكِّناً
ألذُّ بهِ إلاَّ بنومٍ مشرَّدِ
وطولُ مقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ
لديباجتيهِ فاغتربْ تتجدَّدِ
فإنِّي رأيتُ الشَّمسَ زيدتْ محبَّةً
إلى النَّاسِ أنْ ليستْ عليهمْ بسرمدِ
وله أيضاً:
أقلْبي قد أضاقَ بُكاكَ ذرعِي
وما ضاقتْ بنازلةٍ ذِراعِي
أآلفةَ النَّحيبِ كمِ افتراقٍ
ألمَّ فكانَ داعيةَ اجتماعِ
وليستْ فرحةُ الأوباتِ إلاَّ
لموقوفٍ علَى ترحِ الوداعِ
وقال زهير بن أبي سلمى:
لعمركَ والخطوبُ معبِّراتٌ
وفي طولِ المعاشرةِ التَّقالي
لقدْ باليتُ مظعنَ أُمِّ أوفَى
ولكنْ أُمُّ أوفَى لا تُبالي
وقال آخر:
وأُعرضُ حتَّى يحسبَ النَّاسُ إنَّما
بيَ الهجرُ لا واللهِ ما بي لكِ الهجرُ
ولكنْ أرُوضُ النَّفسَ أنظرُ هلْ لها
إذا فارقتْ يوماً أحبَّتها صبرُ
وقال آخر:
سأرفضُ ما يخافُ عليَّ منهُ
وأتركُ ما هويتُ لِما خشيتُ
لسانُ المرءِ يُنبي عنْ نجاهُ
وعيُّ المرءِ يسترهُ السُّكوتُ
وقال آخر:
وكنتُ كذِي داءٍ وأنتَ دواؤهُ
فهبْني لدائِي إذْ منعتَ شفائيَا
شفائيَ أنْ تختصَّني بكراهةٍ
وتدرأَ عنِّي الكاشحينَ الأعاديَا
فإلاَّ تنلْني مِنْ يديكَ كرامةٌ
أُولِّ وأُصبحُ مِنْ قرى الشَّآمِ خاليَا
وأرضَى بأُخرى قد تبدَّلتُ إنَّني
إذا ساءني وادٍ تبدَّلتُ واديَا
وإلفٍ صبرتُ النَّفسَ عنهُ وقدْ أرَى
غداةَ فراقِ الحيِّ ألاَّ تلاقيَا
وقدْ قادَني الجيرانُ حبّاً وقدتهمْ
وفارقتُ حتَّى ما تحنُّ جِماليَا
وقال آخر:
وفارقتُ حتَّى ما أُبالي منَ النَّوى
وإنْ بانَ جيرانٌ عليَّ كرامُ
فقدْ جعلتْ نفسِي علَى النَّأيِ تنطوِي
وعَيني علَى فقدِ الحبيبِ تنامُ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
وكم مِن خلَّةٍ أعرضتُ عنها
لغيرِ قلًى وكنتُ بها ضنينا
أردتُ فراقَها فصددتُ عنها
ولو جُنَّ الفؤادُ بها جنونا
وقال عمر بن نجا:
تقطَّعَ منها الودُّ إلاَّ بقيَّةً
وحالَ الهوَى عمَّا تريدُ فأبعدَا
فأصبحَ هذا النَّأيُ شيئاً كرهتهُ
عسَى أنْ ترَى ما تكرهُ النَّفسُ أرشدَا
ولم أرَ منها غيرَ مقعدِ ساعةٍ
بهِ اختبلتْ عقلِي فيا لكَ مقعدا
وقال أبو تمام:
تصدَّتْ وحبلُ البينِ مستحصدٌ شزرُ
وقد سهَّلَ التَّوديعُ ما وعَّر الهجْرُ
بكتهُ بما أبكتهُ أيَّامَ صدرُها
خليٌّ وما يخلو لهُ مِنْ هوًى صدْرُ
وقالتْ أتنسى البدرَ قلتُ تجلُّداً
إذا الشَّمسُ لن تغربْ فلا طلعَ البدْرُ
فأبدتْ حناناً مِنْ دموعٍ نظامُها
علَى الخدِّ إلاَّ أنَّ صائغَها الشَّفْرُ
وما الدَّمعُ ثانٍ عزمتي ولَوَ انَّها
سقى خدَّها مِنْ كلِّ عينٍ لها شفْرُ
وقال آخر:
إذا ما أرادَ الغزوَ لمْ يثنِ همَّهُ
حصانٌ عليها نظمُ درٍّ يزينُها
نهتهُ فلم ترَ النَّهيَ عاقهُ
بكتْ فبكَى ممَّا عناها قطينُها
وأنشدني أحمد بن يحيى النحوي:
لمْ أنسَ يومَ الرَّحيلِ عبرَتَها
وطرفُها في دموعِها غرقُ
وقولَها والرِّكابُ واقفةٌ
تترُكُني هكذا وتنطلقُ
وقلَّ من اجترأ هذا الضَّرب من الاجتراء وحمل نفسه على هذه الفظاظة والجفاء إلاَّ كان سريع النَّدم على صنيعه شديد الأسف على تصنيعه فكان كالذي يقول معنِّفاً لنفسه وموبِّخاً لها عند ما نزل به: