انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الخامس والثلاثون في حنين البعير المفارق أنس لكل صب وامق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الخامس والثلاثون في حنين البعير المفارق أُنسٌ لكلِّ صبٍّ وامقٍ

قال مرة بن عقيل:

لَعمري لقدْ هاجتْ عليَّ حمامةٌ
قُلوصَ العباديينَ ليلةَ حلَّتِ
تعدَّتْ لها واللَّيلُ مُلقٍ رِواقهُ
فجاوبْنَها حتَّى مللنَ وملَّتِ

وقال تميم بن كميل الأسدي:

يحنُّ قعودي بعدما كمُلَ السُّرى
بنخلةَ والضُّمرُ الحراجيجُ ضُمَّرُ
يحنُّ إلى وردِ الحشاشةِ بعدما
ترامى بهِ خرقٌ من البيدِ أغبرُ
وباتَ يجوبُ البيدَ واللَّيلُ مائلٌ
يثنَّى لتعريسٍ يحنُّ وأزفرُ
وبي مثلُ ما يلقى منَ الشَّوقِ والهوَى
علَى أنَّني أُخفي الَّذي بي وأُظهرُ
فقلتُ لهُ لمَّا رأيتُ الَّذي بهِ
كلانا إلى وردِ الحشاشةِ أصورُ
فليتَ الَّذي ينسى تذكُّرَ إلفهِ
وسرباً بأحواضِ الحشاشةِ يُنحرُ

وقال أيضاً:

يحنُّ قعودي ذو الحياطِ صبابةً
بمكَّةَ وهناً من تذكُّرهِ نجدا
تذكَّرَ نجداً موهناً بعدما انطوتْ
ثميلتهُ وازدادَ عن إلفهِ بُعدا
تذكَّرَ نجداً حادياً بعدَ قادمٍ
ولا يلبثُ الشَّوقانِ أن يصدعا الكِبدا
فقلتُ لهُ قد هجتَ بي شاعفَ الهوَى
أصابَ حمامُ الموتِ أضعفنا وجدا

وقال آخر:

أيضربُ جوْنٌ أنْ تحنَّ غريبةٌ
وما ذنبُ جونٍ أن تحنَّ الأباعرُ
يقولونَ لا تنظرْ وتلكَ بليَّةٌ
بلى كلُّ ذي عينينِ لا بدَّ ناظرُ

وقال آخر:

باتتْ تشوِّقُني برجعِ حنينها
وأزيدها شوقاً برجعِ حنيني
نِضْويْنِ مُقترنيْنِ بينَ تِهامةٍ
طويا الضُّلوعَ علَى جوًى مكنونِ
لو خبَّرتْ عنِّي القَلوصُ لخبَّرتْ
عن مُستقرِّ صبابةِ المحزونِ

وقال عروة بن حزام:

هوى ناقتي خلفي وقدَّاميَ الهوَى
وإنِّي وإيَّاها لمختلفانِ
فلو تركتْني ناقتي من حنينها
وما بيَ من وجدٍ إذنْ لكفاني
فإن تحملي شوقي وشوقكِ تُثْقلي
وما لكِ بالحِملِ الثَّقيلِ يدانِ

وقال آخر:

تحنُّ قلوصي نحوَ نجدٍ وقد أرى
بعينيَّ أنِّي لستُ موردَها نجدا
ولا وارداً أمواهَ أجْبِلةِ الحمى
وإنْ زهقَتْ نفسي علَى وردِها جُهدا

وقال النجاشي:

رأتْ ناقتي ماءَ الفراتِ وذوقهُ
أمرُّ منَ السُّمِّ الذُّعافِ وأمقرا
وريعَتْ منَ العاقولِ لمَّا رأتْ بهِ
صياحَ النَّبيطِ والسَّفينِ المقيَّرا
وحنَّتْ حنيناً موجعاً هيَّجتْ به
فؤاداً إلى أنْ يدركَ الرَّبْوَ أصورا
فقلتُ لها بعضَ الحنينِ فإنَّ بي
كوجدكِ إلاَّ إنَّني كنتُ أصبرا

وقال آخر:

حنَّتْ وما عقلتْ فكيفَ إذا بكى
شوقاً يُلامُ علَى البُكا منْ يعقِلُ
ذكرتْ قُرى نجدٍ فأقلقها الهوَى
وقُرى العراقِ وليْلهُنَّ الأطولُ
وكأنَّما يُجنى لها ولركبها
بنطافِ دجلةَ والفراتِ الحنظلُ
وتمرُّ من لُججِ السَّرابِ موارقاً
والخرقُ أغبرُ والقتامُ مجلِّلُ
فغدتْ وأيدي الصُّبحِ تلمعُ في الدُّجى
كالبيضِ تُغمدُ تارةً وتُسلَّلُ

وقال جرير:

أرى ناقتي تشكو طروقاً وشاقها
وميضٌ إلى ذاتِ السَّلاسلِ لامعُ
فقلتُ لها حنِّي رُويداً فإنَّني
إلى أهلِ نجدٍ من تهامةَ نازعُ
فلمَّا رأتْ أنْ لا قُفولَ وإنَّما
لها من هواها ما تجنُّ الأضالعُ
تمطَّتْ لمجدولٍ طويلٍ فطالعتْ
وماذا منَ البرقِ اليماني تُطالعُ

وقال آخر:

وحنَّتْ قَلوصي آخرَ اللَّيلِ حنَّةً
فيا روعةً ما راعَ قلبي حنينُها
سعتْ في عقالَيْها ولاحَ لعيْنها
سنا بارقٍ وهناً فجنُّ جنونُها
فما برحتْ حتَّى ارعوينا لصوْتِها
وحتَّى انبرى منَّا المعينُ يعينُها
تحنُّ إلى أهلِ الحجازِ صبابةً
وقدْ بُتَّ من أهلِ الحجازِ قرينُها
فيا ربِّ أطلقْ قيدها وجريرها
فقدْ راعني بالمسجدَيْنِ حنينها

وقال آخر:

أزادَ اللهُ نقيكِ في السُّلامى
علَى منْ بالحنينِ تُعوِّلينا
فلستِ وإن حننْتِ أشدَّ وجداً
ولكنِّي أُسرُّ وتُعلنينا
وبي مثلُ الَّذي بكِ غيرَ أنِّي
أُجلُّ عنِ العقالِ وتُعقلينا

وقالت امرأة من دارم:

ألا أيُّها البِكرُ الأنانيُّ إنَّني
وإيَّاكَ في كلبٍ لمُغتريانِ
تحنُّ وأبكي إنَّ ذا لبليَّةٌ
وإنَّا علَى البلوى لمصطلحانِ
فمن يكُ لمْ يغرضْ فإنِّي وناقتي
جميعاً إلى أهلِ الحِمى غرضانِ
تحنُّ فتُبدي ما بها من صبابةٍ
وأُخفي الَّذي لولا المُنى لعصاني

وقال آخر:

كتموا غداةَ البينِ رحلتهُمْ
فعرفتُها بخواطرِ القلبِ
فتبعتهُمْ وظننْتُ أنْ بعُدوا
وإذا همُ منَّا علَى قُربِ
ما زالَ هادي الشَّوقِ يُرشدني
حتَّى لحقْتُ بأوَّلِ الرَّكبِ
ظلَّتْ مطاياهُمْ تُلاحظنا
ودموعُها سكْباً علَى سكبِ
أتخالُها عشقَتْ فهنَّ إذاً
شركاؤُنا وأبيكَ في الحبِّ

وقال الأحوص:

تذكَّرَ سُلمى بعدما حالَ دونها
منَ النَّأيِ ما يُسلي فهلْ أنتَ صابرُ
فأنتَ إلى سُلمى تحنُّ صبابةً
كما حنَّ أُلاَّفُ المطيِّ السَّواجرُ
وما كنتُ أدري قبلها أنَّ ذا الهوَى
يزيدُ اشتياقاً أنْ تحنَّ الأباعرُ
ألا حبَّذا سُلمى الفؤادُ وحبَّذا
زيارتُها لو يُستطاعُ التَّزاورُ
لقدْ بخلَتْ بالودِّ حتَّى كأنَّها
خليلُ صفاءٍ غيَّبتْهُ المقابرُ
فإنْ أكُ قد ودَّعتُها وهجرتُها
فما عن تقالٍ كانَ ذاكَ التَّهاجرُ
ألا ليتَ أنَّا لم نكنْ قبلُ جيرةً
جميعاً ألا ليتَ دامَ التَّجاورُ
سيُلقى لها في الصَّدرِ من مُضمرِ الحشا
سريرةُ ودٍّ يومَ تُبلى السَّرائرُ

وقد قالت الشُّعراء أيضاً في تفضيل ما بين حنينهِم وحنين الإبل في تشاؤمهم بها وتطيُّرهم منها أشعاراً كثيرةً فممَّا ذكروه في وصف حنينهم وحنينها.

قول ثعلبة بن أوس الكلابي:

وما عودٌ يحنُّ ببطنِ نجدٍ
مُغالى الشَّوقِ مُضطمرٌ قليلا
إلى وادٍ تذكَّرَ عُدوتَيْهِ
أسنَّ بهِ وكانَ بهِ فصيلا
فبدِّلَ مشرباً من ذاكَ ملحاً
وظِمأً بعدَ قصرتهِ طويلا
يحنُّ إلى الجنائبِ هيَّجتْهُ
ضُحيّاً أوْ هببْنَ له أصيلا
بأكثرَ غُلَّةً منِّي وجهداً
علَى إضماريَ الهجرَ الطَّويلا

وقال أيضاً:

وما ذو شُقَّةٍ يقضي حنيناً
بنجدٍ كان مُغترباً مَريعا
يمارسُ راعياً لا لينَ فيهِ
وقيداً قدْ أضرَّ بهِ وجيعا
إذا ما البرقُ لاحَ لهُ سناهُ
حجازيّاً سمعتَ لهُ سجيعا

وأنشدني أعرابي بالبادية:

خليليَّ جَمْجمتُ الهوَى وكتمتهُ
زماناً فقدْ أضحى بجسميَ باديا
كما جمجمَتْ وجناءُ قد طالَ حبسُها
وأكثرَ فيها النَّاظرونَ التَّماديا
فلمَّا استبانوا ما بها جعلوا لها
سوى مربعِ الأُلاَّفِ قيداً وراعيا

وقال آخر:

لَعمركَ ما خوصُ العيونِ شوارقٌ
روائمُ أظْآرٌ عطفنَ علَى سقْبِ
يُغذِّينهُ لو يستطعْنَ ارتشَفْنهُ
إذا استفْنَهُ يزددْنَ نكباً علَى نكبِ
بأوجدَ منِّي يومَ ولَّتْ حمولهُمْ
وقد طلعَتْ أولى الرِّكابِ منَ النَّقْبِ

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

متى تظعني يا ميُّ من دارِ جِبرتي
أمُتْ والهوَى برحٌ علَى منْ يطالبُهْ
أكنْ مثلَ ذي الأُلاَّفِ شُدَّ وظيفهُ
إلى يدهِ الأخرى وولَّى صواحبُهْ
تباريْنَ أظلافاً وقاربَ خطْوهُ
عنِ الذَّودِ تفنيداً وهنَّ حبائبُهْ
إذا حنَّ لم يُسمعْ رجيعُ حنينهِ
فلا القيدُ مُنحلٌّ ولا هو قاضبُهْ

وقال عروة بن أذينة:

وتفرَّقوا بعدَ الجميعِ لِنيَّةٍ
لا بدَّ أن يتفرَّقَ الجيرانُ
لا تصبرُ الإبلُ الجِلادُ تفرَّقتْ
حتَّى تحنَّ ويصبرُ الإنسانُ

ومما ذكروا في التطيّر منها والكراهية لها قول عوف الراهب:

غلطَ الذينَ رأيتهمْ بجهالةٍ
يلحوْنَ كلُّهمُ غُراباً ينعقُ
ما الذَّنبُ إلاَّ للأباعرِ أنَّها
مما يُشتُّ جميعهمْ ويفرِّقُ
إنَّ الغرابَ بيُمنهِ تُدني النَّوى
وتشتُّ بالشَّملِ الشَّتيتِ الأينقُ

وقال أبو الشيص في مثل ذلك:

ما فرَّقَ الأحبابَ بعْ
دَ اللهِ إلاَّ الإبلُ
والنَّاسُ يلحوْنَ غُرا
بَ البينِ لمَّا جهلوا
وما علَى ظهرِ غُرا
بِ البينِ تُمطى الرُّحلُ
ولا إذا صاحَ في ال
دِّيارِ احتملوا
وما غُرابُ البينِ إلاَّ
ناقةٌ أوْ جملُ

وقال آخر:

ما المنايا إلاَّ المطايا وما فرَّ
قَ شيءٌ تفريقَها الأحبابا
ظلَّ حاديهمُ يسوقُ بقلبي
ويرى أنَّهُ يسوقُ الرِّكابا

ولبعض أهل هذا العصر:

ولمَّا أتوْنا بالمطايا وقرَّبوا
محاملَ لمْ تُشددْ عليها قيودُها
تيمَّمْتكُمْ عمداً لأحظى بلحظةٍ
لعلِّي إن فارقتكُمْ لا أُعيدُها
فلمْ أنسَ إذْ قيَّدتُ رحلَ مطيَّتي
وقلتُ لحادي الذَّودِ لم لا تقودُها
كأنَّكَ لمْ تعلمْ بأن ربَّ لحظةٍ
تفوتُكَ لا تدري متى تستفيدها
فلو لمْ تكنْ تهوى الفراقَ نحرْتَها
ولم تلتمسْ عمداً لها من يقودُها
فيا عجبا منِّي ومن صبرِ مُهجتي
عليَّ وقدْ أعيَتْ علَى من يكيدُها
أضنُّ بها عمَّنْ يرى المُلكَ دونها
وأبذلُها طوعاً لمن لا يريدُها