كتاب الزهرة/الباب الثاني والعشرون قل من سلا إلا غلبه الهوى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الثاني والعشرون قلَّ من سلا إلاَّ غلبه الهوَى

   من كان سلوُّه تابعاً لظفَره بما من أجله كان ابتداء محبَّته فإنَّ الهجر والفراق لا يعيدان له هوًى ولا يتبعان على ضميره أسًى ومن كانت طبيعته بمشاكلة طبيعته فسلا لضجرة لحقته من مخالفة محبوبه أو من تعذُّر بعض مطلوبه أو لتأذٍّ بحاجبٍ أو رقيب أو لملالٍ من سعاية واشٍ أو عذول فإن أدنى عارض يطيف به من فراق أو هجر أو من مخافة خيانة أو غدر يعيد عليه قلق الإشفاق ويردُّه بعد السُّلوِّ إلى مواقف العشاق وربما ألمَّ بمن هذه صفته في المنام طائفٌ من خيال فردَّه إلى أتمِّ ما كان عليه من الحال.

وقال البحتري:

لي خليلٌ قد لجَّ في الصَّرمِ جِدَّا
وأعادَ الصُّدودَ منهُ وأبدى
ذو فنونٍ يُريكَ في كلِّ يومٍ
خُلقاً منْ جفائهِ مُستجدَّا
يتأبَّى منعاً ويُنعِمُ إسْعا
فاً ويدنو وصلاً ويُبعدُ صدَّا
أغْتدي راضياً وقد بتُّ غضبا
نَ وأُمسي مولًى وأُصبحُ عبدا
أتراني مُستبدلاً بكَ ما عشْ
تُ بديلاً أوْ واجداً منكَ نِدَّا
حاشَ لله أنتَ أفتنُ ألحا
ظاً وأحلى شكلاً وأملحُ قدَّا

أما هذا الشعر فمن أضعف شيءٍ أعرف وذلك أنَّ صاحبه إنَّما استحسن صورةً وقدّاً فمتى تغيَّر حسنها أوْ رأى ما هو أحسن في عينه منها اتَّبعه وتركها على أنَّه مع افتقاره إلى خليله وعدمه لشكله ونظيره منتقلاً في هواه فمرَّةً يتسخَّط ومرَّةً يترضَّاه حتَّى يمسيَ مولًى ويصبح عبداً وهذه حالٌ خسيسة فإن كان لا بدَّ للمحبِّ من التَّباعد عن المحبوب فليكن ذلك ظاهراً في الأفعال غير معتقدٍ في القلوب.

كما قال عبد الله بن أبي الشيص:

إنْ لم أُرى بفناءِ بيتكِ واقفاً
فالقلبُ مُحتبسٌ عليهِ وواقفُ
هذي الجفونُ فضمِّنيهنَّ الهوَى
وثقي بهنَّ فإنَّهنَّ عفائفُ
لا يكتحلْنَ منَ الخدودِ بزهرةٍ
حتَّى تعطَّفَ بي إليكِ عواطفُ
أنتِ الَّتي غمرَ الضَّمائرَ حُبُّها
فلها التَّليدُ من الهوَى والطَّارفُ
وكأنَّ ليَ قلبينِ عندكِ واحدٌ
دانٍ وآخرُ عنْ دياركِ عازفُ

وكما قال البحتري:

الدَّارُ تعلمُ أنَّ دمعي لم يغِضْ
فأروحَ حاملَ منَّةٍ منْ مُسعدِ
ما كان لي جلَدٌ فيودي إنَّما
أودى غَداةَ الظَّاعنينَ تجلُّدي

وكما قال بعض أهل هذا العصر:

لقد باعدْتَ عنكَ أخاً شقيقاً
عليكَ فلا يغرُّكَ حسنُ صبري
فلوْ جُمعَ الأنامُ لكنتَ فرْداً
أحبَّهمُ إليَّ بكلِّ سعْرِ
فلا تحسبْ رعاكَ الله أنِّي
غدرْتُ ولا هممْتُ لكمْ بغدرِ
فوالله العظيمِ لوَ انَّ قلبي
أحبَّ سواكَ لم أُسكنْهُ صدري
وأعظمُ ما أُلاقي منكَ أنِّي
أدومُ علَى الوفاءِ ولستَ تدري

وهذا أتم من قول بشار:

أهِمُّ بأنْ أقولَ وددْتُ أنِّي
سلوتُ فما يُطاوعني لِساني

لأنَّ بشاراً خبَّر أنَّه قد همَّ ثمَّ امتنع ومن لم يرد أن يقدر أتمُّ ممن أراد ذلك فلم يقدر وأنقص من بشار في هذه الحال.

أبو المنيع الحضرمي حيث يقول:

ألمْ ترني أزمعْتُ صرماً وهجرةً
لِليلى فلمْ أسطعْ صدوداً ولا هجرا
وما مرَّ يومٌ دونها إنْ هجرتُها
ولا ساعةٌ إلاَّ أجدَّ لها ذكرا
فيا عجبا من وصليَ الحبلَ كيْ يُرى
جديداً وقدْ أمستْ علائقهُ بُترا
فإنْ تُصبحي بعدَ التَّجاوزِ والهوَى
صددْتِ فقدْ غادرتِ في كبدي عقرا

والأحوص بن محمد حيث يقول:

أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعُني
حتَّى لقدْ قلتُ هذا صادقٌ نزَعا
قدْ زادهُ كلَفاً بالحبِّ أنْ مُنعتْ
أحبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنعا
وكمْ دنيٍّ لها قدْ صرْتُ أتبعهُ
ولو صحا القلبُ عنها كانَ لي تبعا

ومحمد بن بشير حيث يقول:

ولقدْ أردتُ الصَّبرَ عنكِ فعاقني
علقٌ بقلبي منْ هواكِ قديمُ
يبقى علَى حدثِ الزَّمانِ وريْبِهِ
وعلَى جفائكِ إنَّهُ لَكريمُ

وذو الرمة حيث يقول:

إذا قلتُ أسلو عنكِ ما ميُّ لم يزلْ
محلٌّ لِداري من دياركِ ناكسُ
فكيف بميٍّ لا توآتيكَ دارُها
ولا أنتَ طاوي الكشحِ عنها فيائسُ

وللبحتري:

وإذا هممْتُ بوصلٍ غيركِ ردَّني
ولهٌ عليكِ وشافعٌ لكِ أوَّلُ
وأعِزُّ ثمَّ أزِلُّ ذلَّةَ عاشقٍ
والحبُّ فيهِ تعزُّزٌ وتذلُّلُ

ولبعض أهل هذا العصر في هذا النحو وإن لم يكن على ذلك التمام في باب النقصان:

أيا حالفاً أنِّي علَى العهدِ ناكثٌ
تأكَّدْ رعاكَ اللهُ أنَّكَ حانثُ
تجنَّيتَ مُذْ عامينِ ذنباً لَمَ اجنهِ
عليكَ وهذا العامَ قدْ تمَّ ثالثُ
إذا عرضَتْ نفسي فقمْتُ بسلوةٍ
أما ذاكَ إشفاقٌ قديمٌ وحادثُ
تسحب علَى صرفِ اللَّيالي ولا تُرعْ
فجُرمكَ منْسيٌّ وحبُّكَ لابثُ
وكلُّ أذًى تأتيهِ كيْما تُملَّني
فذاكَ علَى ألاَّ أملَّكَ باعثُ

وقال الحسين بن الضحاك:

كأنِّي إذا فارقْتُ شخصَكِ ساعةً
لفقدكِ بينَ العالمينَ غريبُ
وقد رمتُ أسبابَ السُّلوِّ فخانَني
ضميرٌ عليهِ من هواكِ رقيبُ
فما لي إلى ما تشتهينَ مُسارعٌ
وفعلُكِ ممَّا لا أحبُّ قريبُ
أغرَّكِ صفحي عنْ ذنوبٍ كثيرةٍ
وغضِّي علَى أشياءَ منكِ تُريبُ
كأنْ لم يكنْ في النَّاسِ قبلي مُتيَّمٌ
ولم يكُ في الدُّنيا سواكِ حبيبُ
إلى الله أشكو إذْ ذُكرتِ فلمْ يكنْ
بشكوايَ من عطفِ الحبيبِ نصيبُ

وقال محرز العكلي:

يظلُّ فؤادي شاخصاً من مكانهِ
وراء الغواني مُستهاماً مُتيَّما
إذا قلتُ ماتَ الشَّوقُ منهُ تنسَّمَتْ
لهُ أرْيحيَّاتُ الصِّبى فتنسَّما

وقال آخر:

لعمرُكَ ما يدري غُنيُّ بنُ مالكٍ
لَعلَّ الهوَى بعدَ التَّجلُّدِ قاتلُهْ
وما تُحدِثُ الأيَّامُ والدَّهرُ لمْ تزلْ
لِلَيلى كثيراتُ الهوَى وقلائلُهْ

وقال قيس بن ذريح:

وإنِّي وإنْ أزمعْتُ عنها تجلُّداً
علَى العهدِ فيما بيننا لَمقيمُ
إلى الله أشكو فقدَ لُبنى كما شكا
إلى اللهِ فقدَ الوالديْنِ يتيمُ

ولبعض أهل هذا العصر:

أبى لي الوفاءُ دوامَ الجفا
وحلَّ الحنينُ عديمَ العزا
قعدْتُ إلى الوصلِ مُستعطفاً
وقدْ كنتُ قبلُ شديدَ الإبا
وإنِّي لَفي طولِ كتْمِ الهوَى
وستْريهِ عنكَ بفرطِ الجفا
كمنْ ينفخُ البوقَ مُستخفياً
ويضربُ بالطَّبل تحتَ الكِسا
فيا قلبُ ويحكَ كُنْ حازماً
إذا تاهَ رامَ سبيلَ النَّجا
ولا تكُ ذا عزمةٍ جاهلاً
إذا ما اعتدى لجَّ في الاعتدا
فسلِّ الحُقودَ برعْيِ العُهودِ
وداوِ الجفاءَ برعْيِ الوفا
فأوجعُ منْ حملِ عتبِ الصَّفا
زوالُ الصَّفاءِ وقطعُ الإخا
فسامحْ هواكَ وكنْ مُدنفاً
أحبَّ الدَّواء لحبِّ الشِّفا

وأنشدني أحمد بن يحيى لمجنون بني عامر:

وداعٍ دعا إذْ نحنُ بالخيْفِ منْ مِنًى
فهيَّجَ أطرابَ الفؤادِ وما يدري
دعا باسمِ ليلَى غيرِها فكأنَّما
أطارَ بليلى طائراً كانَ في صدري

وزادني غيره:

عرضْتُ علَى قلبي العزاءَ فقال لي
منَ الآنِ فاجزعْ لا أغرُّكَ بالصَّبرِ

فهذا على كلِّ حال أقرب إلى درجة الكمال لأنه إنَّما يخبر أنَّ اشتياقه ظهر بعد أن كان كامناً وأنَّه عرض على قلبه العزاء فأبى عليه إلاَّ الوفاء وظهور الشَّوق بعد كمونه أحسن من رجوع العشق بعد سكونه وفي هذا المعنى الَّذي اخترناه.

يقول امرؤ القيس:

سمَا لكَ شوقٌ بعدَ ما كانَ أقصرَا
وحلَّتْ سُليمى بطنَ خبتٍ فعرْعرَا
كنانيَّةٌ باتتْ وفي الصَّدرِ ودُّها
مجاورةَ النُّعمانِ والحيَّ يَعمرا

وفي ضده هذا المعنى الَّذي ذممناه بقول الملتمس:

صبَا مِنْ بعدِ سلوتهِ فؤادِي
وأسمحَ للقرينةِ بالقيادِ
كأنِّي شاربٌ يومَ استقلُّوا
وحثَّ بهم إلى الموماةِ حادِي
عُقاراً عتِّقتْ في الدَّنِّ حتَّى
كأنَّ حُبابها حدقُ الجرادِ

وقال البحتري:

عنانِي مِنْ صدودكِ ما عنانِي
وعاودَني هواكِ كما بدانِي
وذكَّرني التَّباعدُ ظلَّ عيشٍ
لهوْنا فيهِ أيَّامَ التَّداني
أُلامُ علَى هوَى الحسناءَ ظلماً
وقلبي في يدِ الحسناءِ عانِي

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لزياد بن منقذ:

لا حبَّذا أنتِ يا صنعاءُ مِنْ بلدٍ
ولا شعوبُ هوًى منَّا ولا نقمُ
وحبَّذا حيثُ تُمسي الرِّيحُ باردةً
وادِي أُشيَّ وفتيانٌ بهِ هُضمُ
ألموسعونَ إذا ما جرَّ غيرهمُ
علَى العشيرةِ والكافُونَ ما جرَموا
لمْ ألقَ بعدهمُ قوماً فأخبرهمْ
إلاَّ يزيدهمُ حبّاً إليَّ همُ
مُخدَّمونَ ثقالٌ في مجالسهمْ
وفي الرِّجالِ إذا صاحبتهمْ خدمُ

وقال امرؤ القيس:

تأوَّبني دائِي القديمُ فغلَّسَا
أُحاذرُ أنْ يزدادَني فأُنكَّسا
ولمْ يرمِ الدَّارَ الكئيبُ فشعشعاً
كأنِّي أُنادِي أوْ أُكلِّمُ أخرسا
فلوْ أنَّ الدَّارَ فيها كعهدهمْ
وجدتُ مَقيلاً فيهمِ ومعرَّسا
فلا تُنكريني إنَّني أنا جاركمْ
لياليَ حلَّ الحيُّ غوْلا فألعَسا

وقال آخر:

وقد كنتُ قبلَ اليومِ أحسبُ أنَّني
ذلولٌ لأيَّامِ الفراقِ أريبُ
فأشرفتُ يوماً للوداعِ فشاقَنِي
وذو الشَّوقِ في أعلَى اليفاعِ طروبُ
فما برحتْ نفسي تساقطُ أنفساً
وتجمدُ روحي مرَّةً وتذوبُ

وقال بشار:

إرجعْ إلى سكنٍ تُعزُّ بهِ
أفِدَ الزَّمانُ وأنتَ منفردُ
نرجو غداً وغدٌ كحاملةٍ
في الحيِّ لا يدرونَ ما تلدُ

وقال أبو تمام:

ألبينُ جرَّعني نقيعَ الحنظلِ
والبينُ أثكلني وإنْ لم أُثكلِ
ما حسرَتي أنْ كدتُ أتلفُ إنَّما
حسراتُ نفسِي أنَّني لم أفعلِ
كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتَى
وحنينهُ أبداً لأوَّلِ منزلِ
نقِّلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ منَ الهوَى
ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأوَّلِ

وقال زرعة الجعدي:

إذا ما التَقَيْنا بعدَ شحطٍ منَ النَّوى
تعرَّضَ بخلٌ بينَنا مُتتابعُ
أهابُ وأستحيي فلستُ بقائلٍ
صِليني ولا معروفُها ليَ نافعُ
رمتْ عينَ مَنْ تهوَى بعينِ خليَّةٍ
وأُخرى إلينا بالمودَّةِ طائعُ
إذا الموتُ نسَّى حبَّ ليلَى فإنَّه
إذا راجعتْ نفسي الحياةُ لراجعُ

وقال الوليد بن عبيد الطائي:

أحببْ إليَّ بطيفِ سُعدى الآتِي
وطروقهِ في أعجبِ الأوقاتِ
أنَّى اهتديتَ لمُحْرمينَ تصوَّبوا
لسفوحِ مكَّةَ مِنْ رُبى عرفاتِ
ذكَّرتنا عهدَ الشَّآمِ وعيشَنا
بينَ القنانِ السُّودِ فالهضباتِ
إذْ أنتَ شكلُ موافقٍ ومخالفٍ
والدَّهرُ فيكَ ممانعٌ ومؤاتِ
أبني عبيدٍ شدَّ ما احترقتْ لكمْ
كبدِي وفاضتْ فيكمُ عبَراتِي
ألقَى مكارمكمْ شجًى لي بعدكمْ
وأرَى سوابقَ دمعكمْ حسَراتِي
لمْ تحدثِ الأيَّامُ لي بدلاً بكمْ
أيْهاتِ مِنْ بدلٍ بكمْ أيْهاتِ

وقال آخر:

إذا قيلَ أنَّ النَّأيَ يُسليكَ ذكرَها
ألمَّ خيالٌ مِنْ أُميمةَ يُسعفُ
فمنْ لامَني في أنْ أهيمَ بذكرِها
تكلَّفَ مِنْ وجدٍ بها ما أُكلَّفُ

فإذا كان طيف الخيال يردُّ الهوَى على من قد سلاه ويذكر عهد الصبا من قد تناساه فما ظنُّك بحضور الفراق والهجران ومقاساة الاستبدال بالإخوان هذه أحوالٌ لا يقاومها الجفاء ولا يعارضها العزاء غير أنَّ من كان سلوُّه سلوُّ استغناءٍ لم يكترث لورود شيءٍ من هذه الأشياء.