الباب الثامن والعشرون من لم يلحق بالحمول بكى علَى الطُّلولأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الثامن والعشرون من لم يلحق بالحمول بكى علَى الطُّلول
إذا كان صحوُ المفارق لأحبابه من التحنُّن الَّذي ذكرناه بقلبه داعياً له قبل هواه ندم على مقامه بعد مضيّ أحبابه أوْ على اجترائه على السَّفر وأحبَّته مقيمون في الحضر فاستقبح صنيعه وتلافى تصنيعه فإن كان المحبُّ هو المسافر عن حبيبه.
كان كالذي يقول:
بينما هنَّ منْ بلاكثَ فالقا
عِ سِراعاً والعيسُ تهوي هويَّا
خطرَتْ خطرةٌ علَى القلبِ وهناً
من هواها فما استطعتُ مُضيَّاً
قلتُ لبَّيكِ إذْ دعاني لكِ الشَّوْ
قُ وللحاديينِ كُدَّا المطيَّا
وكما قال عبيد الراعي:
دعاني الهوَى من أمِّ وبرٍ ودونها
ثلاثةُ أخماسٍ فديتُكَ داعيا
فعُجنا لذكراها وتشبيهِ صوتِها
قلاصاً بمجهولِ الفلاةِ صواديا
بغبراءَ مِحرافٍ يبيتُ دليلُها
مُشيحاً عليها للفراقدِ راعيا
وإن كانَ المحبوب المسافر والمحبُّ هو المتخلِّف عن إلفه تعسَّف ركوب المهالك في اللَّحاق.
كما قال العرجي:
كم قدْ عصيتُ إليكِ من مُتنصَّحٍ
داني القرابةِ أوْ وعيدِ أعادي
وتنوفةٍ غبراءَ أرمي عرضها
شوقاً إليكِ بلا هدايةِ هادي
وقال:
قُلْ لهادي المطيِّ يرفقْ قليلا
يجعلِ العيسَ سيرهُنَّ ذميلا
لا تقِفْها علَى السَّبيلِ ودعْها
يهْدِها شوقُ من عليها السَّبيلا
وقال:
أمَّا الدِّيارُ فقلَّما لبثوا بها
بعدَ اشتياقِ العيسِ والرُّكبانِ
وضعوا سياطَ الشَّوقِ في أعناقها
حتَّى وردْنَ بهمْ علَى الأوْطانِ
وقال:
ويومٍ كتنُّورِ الطَّواهي سحرْنهُ
وألقينَ فيه الجزلَ حتَّى تضرَّما
قذفْتُ بنفسي في أجيجِ سمومهِ
وبالعيسِ حتَّى بُلَّ مشفرُها دما
أُؤمِّلُ أنْ ألقى منَ النَّاسِ عالماً
بأخباركُمْ أوْ أنْ أُلمَّ مُسلِّما
وأنشدني بعض أعراب البادية:
بانتْ أنيسُ فما بالقلبِ معقولُ
ولا علَى الجيرةِ الغادينَ تعويلُ
حتَّى شددْتُ برحلي قبلَ برذعتي
والقلبُ مُختبلٌ واللُّبُّ متبولُ
ثمَّ اعتورْتُ علَى نِضوي ليُلْحقني
أخرى الحمولِ الغوادي وهوَ معقولُ
وقال الراعي:
بانَ الأحبَّةُ بالعهدِ الَّذي عهدوا
فلا تمالكَ عن أرضٍ لها عمدوا
حتَّى إذا حالتِ الأرجاءُ دونهمُ
أرجاءُ ترمُدَ كلَّ الطَّرفُ أوْ بعدوا
لولا المخاوفُ والأوصابُ قدْ قطعتْ
عرضَ الفلاةِ بنا المهريَّةُ الأُجُدُ
ولئن كان أفرط في الإحسان في البيت الأول لقد أفرط في الإساءة في البيت الآخر ولولا أنَّ قوله فلا تمالك عن أرض لها عمدوا من أحسن الكلام لفظاً وأصحِّه معنًى وأليقه بما قصدناه لأضربنا عن ذكره لقباحة ما عقب به وما المخاوف والأوصاب حتَّى يعتذر بها في التخلُّف عن الأحباب لقد بلغني أنَّ بشر بن مروان كان في معسكرٍ له بظهر البصرة فنادى بكثرة انصراف الجند من العسكر إلى المدينة فنادى مناديه من وجد بالبصرة من الجند سمِّرت كفُّه بمسمارٍ وكان في العسكر فتًى يألف خلَّةً له بالبصرة فكتب إليها.
لولا مخافة بشرٍ أوْ عقوبته وأن يسمِّر في كفِّي بمسمار إذن لعطلت ثغري ثمَّ زرتكم إنَّ المحبَّ إذا ما اشتاق زوَّار.
فكتبت إليه:
ليسَ المحبُّ الَّذي يخشى العقابَ ولوْ
كانت عقوبتهُ في كيَّةِ النَّارِ
إنَّ المحبَّ الَّذي لا عيشَ ينفعهُ
أوْ يستقرَّ ومنْ يهواهُ في الدَّارِ
فلمَّا قرأ الأبيات دخل البصرة فأخذه صاحب الحرس فجاء به إلى بشر بن مروان فقال له بشرٌ ألم تسمع النِّداء قال بلى قال فما حملك على مخالفته قال هذه الأبيات ودفعها إلى بشر فلمَّا قرأها أمر مناديه فنادى من أحبَّ المقام في العسكر فليقم ومن أحبَّ دخول البصرة فليدخل.
وقال آخر:
فلوْ حشدوا بالإنسِ والجنِّ دونها
لأنْ يمنعوني أنْ أجيءَ لجيتُ
ولوْ خُلطَ السُّمُّ الذُّعافُ بريقهِ
لسُقِّيتُ منهُ نهلةً فرويتُ
ولبعض أهل هذا العصر:
سقى اللهُ رملَ القاعِ وبلاً وديمةً
لتحْيَ بهِ تلكَ الرُّسومُ الدَّوارسُ
أشوْقاً إلى نجدٍ ودونَ لقائها
أهاويلُ يُخشى قطعها وبسابسُ
علَى أنَّ عبدَ الشَّوقِ ليستْ تهولهُ
حُزونُ الفيافي واللَّيالي الدَّوامسُ
بما حبلَتْ فلتأتني منْ بلائِها
فليسَ لما يقضي بهِ الله حابسُ
وله أيضاً:
دعانيَ الشَّوقُ والرُّكبانُ قدْ هجدوا
والشَّمسُ في آخرِ الجوزاءِ تتَّقدُ
والقيظُ مُحتدمٌ والرُّوحُ منصرمٌ
والرَّأيُ مختلفٌ والحتفُ مُطَّردُ
والبيدُ مُغبرَّةُ الأرجاءِ مُقفرةٌ
كأنَّ أعلامها في الآلِ ترتعدُ
فظلْتُ طوعاً لداعي الشَّوقِ أُوقظهمْ
وعلَّ أكثرهمْ ساهونَ ما رقدوا
حتَّى إذا قلتُ شدُّوا قالَ بعضهمُ
قد جُنَّ هذا فخلُّوا عنهُ وابتعدوا
يذرونَ ما وجدوا من حرِّ يومهمِ
وقتَ النُّزولِ ولا يدرونَ ما أجدُ
حرُّ الفِراقُ إذا ما الهجرُ ساعدَهُ
حرٌّ تُخصُّ بهِ الأحشاءُ والكبدُ
وقال أبو دهبل:
أأتركُ ليلَى ليسَ بيني وبينها
سوى ليلةٍ إنِّي إذاً لَصبورُ
هَبوني امرءاً منكمْ أضلَّ بعيرَهُ
لهُ ذمَّةٌ إنَّ الذِّمامَ كبيرُ
وللصَّاحبُ المتروكُ أعظمُ ذِمَّةً
علَى صاحبٍ من أن يضلَّ بعيرُ
عفا الله عن ليلَى الغداةَ فإنَّها
إذا وليَتْ حكماً عليَّ تجورُ
وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:
فلوْ أنَّ شرقَ الشَّمسِ بيني وبينها
وأهلي وراءَ الغربِ حيثُ تغيبُ
لَداورْتُ قطعَ الأرضِ بيني وبينها
وقال الهوَى لي إنَّهُ لقريبُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يا منْ تجاوزَ حدَّ السَّمعِ والبصرِ
ومنْ يفوقُ ضياءَ الشَّمسِ والقمرِ
لو كنتَ تعلمُ ما ألقى من السَّهرِ
وما أُقاسي منَ الأشجانِ والفكرِ
وما تضمَّنَ قلبي من هواكَ إذاً
لما رثيْتَ لجسمي منْ أذى المطرِ
أنَّى يضرُّ ندى الأمطارِ ذا كبدٍ
حرَّى وقلبٍ بنارِ الشَّوقِ مُستعرِ
لو كانَ دونكَ بحرُ الصِّينِ مُعترضاً
لخلْتُ ذاكَ سراباً دارسَ الأثرِ
ولو أذنتَ وفيما بيننا سقرٌ
لهوَّنَ الشَّوقُ خوضَ النَّارِ في سقرِ
لا تكذبنَّ فما حالٌ تضمَّنها
قلبُ المشوقِ توازي حالَ مُنتظرِ
وقال بعض الأسديين:
فإنْ تدعي نجداً ندعْهُ ومنْ بهِ
وإنْ تسكُني نجداً فيا حبَّذا نجدُ
وإنْ كانَ يومُ الوعدِ يومَ لقائنا
فلا تعذلاني أن أقولَ متى الوعدُ
وقال نوال:
وإن ترتبعْ ريَّا بغورِ تهامةٍ
نُقِمْ عندها أوْ تترُكِ البرَّ نُنجدِ
وإنْ حاربَتْ ريَّا نُحاربْ وإنْ تدِنْ
ندنْ دينها لا عيْبَ للمتودِّدِ
وقال امرؤ القيس بن حجر:
وأصبحتُ ودَّعْتُ الصِّبى غيرَ أنَّني
أُراقبُ خلاتٍ من العيشِ أربعا
فمنهنَّ نصُّ العيسِ واللَّيلُ دامسٌ
يُيمِّمنَ مجهولاً من الأرضِ بَلْقعا
خوارجَ من برِّيَّةٍ نحوَ قريةٍ
يُجدِّدْنَ وصلاً أوْ يُقرِّبنَ مطْمَعا
وقال ذو الرمة:
تذكَّرتُ ميّاً بعدَ ما حالَ دونها
سهوبٌ ترامى بالمراسيلِ بيدُها
إذا لامعاتُ البيدِ أعرضنَ دونها
تقاربَ لي من حبِّ ميٍّ بعيدُها
وقال ضابي بن الحارث بن أرطاة البرجمي:
وكمْ دونَ سُلمى من فلاةٍ كأنَّما
تجلَّلَ أعلاها مُلاءً مُفصَّلا
مُحقَّفةٍ لا يهتدي لسبيلها
منَ القومِ إلاَّ منْ مضى وتوكَّلا
يُهالُ بها ركبُ الفلاةِ منَ الرَّدى
ومن خوفِ حاديهمْ وما قدْ تحمَّلا
قطعتُ إلى معروفها مُنكراتها
إذا الآلُ بالبيدِ البسابسِ هرْولا
وقال جميل بن معمر:
ألا أيُّها العشَّاقُ ويحَكمُ هُبُّوا
أُسائلكمُ هلْ يقتلُ الرَّجلَ الحبُّ
ألا ربَّ ركبٍ قد رفعتُ وجيفهُمْ
إليكِ ولولا أنتِ لم يوجفِ الرَّكبُ
لها النَّظرةُ الأولى عليهمْ وبسطةٌ
وإنْ كرَّتِ الأبصارُ كانَ لها العقْبُ
وقال جرير:
لشتَّانَ يومٌ بينَ سَجفٍ وكلَّةٍ
ومرُّ المطايا تغتدي وتروَّحُ
نقيسُ بقيَّاتِ النِّطَّافِ علَى الحصى
وهنَّ علَى طيِّ الحيازيمِ جُنَّحُ
ويومٍ من الجوزاءِ مُستوْقدِ الحصى
تكادُ صياصي العينِ فيهِ تصيَّحُ
شديدِ اللَّظى حامي الوديقةِ ريحهُ
أشدُّ لظًى من شمسهِ حينَ يصْمحُ
نصبْتُ له وجهي وحرفاً كأنَّها
منَ الجهدِ والإسآدِ قرمٌ مُلوَّحُ
وقال علي بن محمد العلوي:
هذا وحرفٍ إذا ماتتْ مفاصلهُ
عن راكبٍ وصلَتْ أكفالَهُ بيدُ
يهماءُ لا يتخطَّاها الدَّليلُ سُرًى
إلاَّ وناظرهُ بالنَّجمِ معقودُ
جاوزتُها والرَّدى رحبٌ معالمهُ
فيها ومسلكُها بالخوفِ مسدودُ
ولبعض أهل هذا العصر:
كمْ دونَ أرضكَ من وادٍ ومن علَمٍ
كأنَّ أعلاهُ بالأفلاكِ مُنتسجُ
ومنْ مروجٍ كظهرِ التُّرسِ مُظلمةٍ
كأنَّ حصبائَها تحتَ الدُّجى سُبُجُ
حتَّى إذا الشَّمسُ لاحتْ في سَباسبها
حسبْتَ أعلامها في الآلِ تختلجُ
وكمْ فلاةٍ يفوتُ الطَّرفَ آخرها
للجنِّ باللَّيلِ في أقطارها وهجُ
يهماءُ غبراءُ لا يدري الدَّليلُ بها
في أيِّ أرجائها يُرجى لهُ الفرجُ
قطعتُها بابنِ حرفٍ ضامرٍ قطمٍ
صلبِ المناسمِ في إرْقالهِ هوَجُ
شوقاً إليكَ ولولا ما أُكابدهُ
لكانَ لي في بلادِ اللهِ مُنفرَجُ
فإن تجدْ لي فَمحقوقٌ بذاكَ وإنْ
تبخلْ عليَّ فلا لومٌ ولا حرجُ
قوله فمحقوقٌ بذاك يعني أنت محقوقٌ بالفضل ليس تجشُّمي ما وصفته لك أوجب ذلك لي عليك بذلك على أنَّه أراد بذلك قوله وإن تبخل عليَّ فلا لومٌ ولا حرج لأنه لو كان حقّاً له كان ظالمه حرجاً فعلى هذا التَّفسير يصير معنى الكلام صحيحاً ولو قصد ذلك المعنى الآخر كان خطأً قبيحاً.
وقال آخر:
أقولُ لصاحبيَّ بأرضِ نجدٍ
وجدَّ مسيرُنا ودَنا الطُّروقُ
أرى قلبي سينقطعُ اشتياقاً
وأحزاناً وما انقطعَ الطَّريقُ
وقال آخر:
لمَّا وردْتُ التَّغلبِ
يَّةَ عندَ مُنصرفِ الرِّفاقِ
وشممْتُ من أرضِ الحجا
زِ نسيمَ أرواحِ العراقِ
أيقنتُ لي ولمنْ أُح
بُّ بجمعِ شملٍ واتِّفاقِ
وقال القعقاع الذهلي:
خليليَّ ما منْ ليلةٍ تسريانها
منَ الدَّهرِ إلاَّ نفَّستْ عنكُما كربا
أليسَ يزيدُ السَّيرُ عن كلِّ ليلةٍ
ويزدادُ يومٌ من أحبَّتنا قُرْبا
إذا الجبلُ النَّائي حواكِ مقيلهُ
جعلنا علينا أنْ نُجاورَهُ نحبا
فما ذكرَتْ عندي لها من سميَّةٍ
فتملكَ عيني من مدامعها غربا
من شأن من قصد لقاء أحبابه أن تتطاول عليه الطَّريق عند اقترابه ويلحقه حينئذٍ من الضَّجر مع قربه منه أضعاف ما ناله إذْ كان متباعداً عنه.
وفي ذلك يقول الموصلي:
طربْتَ إلى الأُصَيْبِيةِ الصِّغارِ
وهاجكَ منهمُ قربُ المزارِ
وأبرحُ ما يكونُ الشَّوقُ يوماً
إذا دنتِ الدِّيارُ من الدِّيارِ
فهذا لعمري قولٌ حقٌّ غير أنَّه لم يُخبر بعلَّته.
ولقد أحسن الَّذي يقول في نحوه:
هلِ الحبُّ إلاَّ زفرةٌ بعدَ عبرةٍ
وحرٌّ علَى الأحشاءِ ليسَ لهُ برْدُ
وفيضُ دموعِ العينِ يا ميُّ كلَّما
بدا علمٌ منْ أرضكُمْ لم يكنْ يبدو
وقد ذكر عمر بن أبي ربيعة هذا المعنى فجوّده أنشدني له أبو العباس أحمد بن يحيى:
خليليَّ ما بالُ المطايا كأنَّما
نراها علَى الأدبارِ بالقومِ تنكِصُ
وقدْ أتعبَ الحادي سُراهنَّ وانثنى
بهنَّ فما بالرَّاجعاتِ مُقلِّصُ
وقدْ قُطعتْ أعناقهُنَّ صبابةً
فأنفسُها ممَّا يُلاقينَ شُخَّصُ
يزدْنَ بنا قُرباً فيزدادُ شوقُنا
إذا ازدادَ طولُ العهدِ والبعدُ ينقصُ
أفلا ترى إلى إيضاحه أنَّ العلّة في تزايد شوقه إنَّما هي تطاول مدَّةٍ وأنَّه كلَّما قطع جزءٌ من الطريق فقرب المقصود زاد في مدَّة المفارقة وقتٌ فزاد الاشتياق على حسب تزايد مدَّة الفراق على أنَّ عمر قد أوضح أشياء وأغفل شيئاً من أنَّ تطاول المدَّة يزيد في الشَّوق مع تقارب الشُّقَّة ولم يذكر أنَّ قوَّة الرَّجاء لسرعة اللِّقاء من أقوى الأسباب في تقوية الشَّوق عند الاقتراب.