انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الثالث والأربعون طريق الصبر بعيد وكتمان الحب شديد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الثالث والأربعون طريق الصَّبر بعيدٌ وكتمان الحبِّ شديدٌ

كان يقال سرُّك أسيرك فإذا تكلَّمت به صرت أسيره وأمَّا إفشاء من يحبُّ سرَّه إلى محبوبه فقد تقدَّم القول فيه بما في بعضه بلاغٌ وأمَّا اطِّلاع سائر النَّاس على وجد المحبّ بالمحبوب فهو خطأ من وجوهٍ أوَّلها تعرُّض المحبوب لما لا يحبّ من القالات والتَّشنيعات ثمَّ تعرُّض المحبّ نفسه للسِّعاية والارتقاب له وإنَّما يوصى بهذه الوصيّة من أمر سرّه إليه فأمّا من قد أخرجت الحال زمام السّرّ من يديه فلا ذنب له ولا لوم عليه وأمّا أسرار المحبوب عند المحبّ مثل مواعيده له وزيارته إيَّاه ومساعدته له على ما يهواه وما يجري بينهما من المعاتبات بل من سرائر المخاصمات فإنَّ غالبات الوجد لا توجب إفشائه بل توجب صونه وإخفائه ولن يشيع مثل ما وصفنا إلاَّ ضعيفٌ في الحال جدّاً فكتمان هذا أبين وجوباً من أن نزيد القول فيه توكيداً وإفشاء المحبَّة وحدها إلى غير المحبوب فواجبٌ على من أطاق كتمها ألاَّ يظهرها ومن عجز فخارجٌ عن باب المنع والوجوب ومن ضاق صدره عن سرِّه فلم يلم غيره على نشره وإن كان في الحقيقة ملوماً لأنَّ للمرء أن يتطوَّع بإظهار سرِّه وعلى المستودع أن لا يظهر سرَّ مستودعه.

ولبعض الأدباء في ذلك:

إذا ضاقَ صدرُ المرءِ عن سرِّ نفسهِ
فصدرُ الَّذي يُستودعُ السِّرَّ أضيقُ
ورُبَّ فتًى يجفو كرائمَ مالهِ
ويرعى سوامَ الأبعدينَ فيُشفقُ

وقال يزيد بن الطثرية:

ومُستخبرٍ عنها ليعلمَ ما الَّذي
لها في فؤادي غيرَ أنِّي أُحاذرُهْ
وردْتُ به عمياءَ منها ولمْ أكُنْ
إذا ما وشى واشٍ بليلى أُناظرُهْ

وقال آخر:

كريمٌ يُميتُ السِّرَّ حتَّى كأنَّهُ
إذا استخبروهُ عنْ حديثكِ جاهلُهْ
رعى سرَّكُمْ في مُضمرِ القلبِ والحشا
حفيظٌ عليكمْ لا تخافُ غوائلُهْ
وأكتمُ نفسي بعضَ سرِّي تكرُّماً
إذا ما أضاعَ السِّرَّ في السِّرِّ جاهلُهْ
ومُستسقطي بالجدِّ والهزلِ قد نبتْ
علَى كلِّ حالٍ عن صفاتي معاولُهْ
تسقَّطني عنكُمْ فأخلفْتُ ظنَّهُ
وذو اللُّبِّ قد يُعيي الرِّجالَ تُحاولُهْ
فما رامَ حتَّى عادَ شكّاً يقينهُ
وأخلفهُ منِّي الَّذي كانَ ياملُهْ

وقال آخر:

قد جرَّرَ النَّاسُ أذيالَ الظُّنونِ بنا
وفرَّقَ النَّاسُ فينا ظنَّهمْ فرَقا
فجاهلٌ ينتحي بالظَّنِّ غيركمُ
وصادقٌ ليسَ يدري أنَّهُ صدقا

وقال بعض الأعراب:

وإنِّي لأستحييكِ أن أُطلقَ الهوَى
وأن لا تُعدَّى خلسةَ اللَّحظاتِ
سأطوي الهوَى تحتَ الحشا طيَّ نازحٍ
قضى وطراً إن لم تبُحْ عبراتي
وأصبرُ للهجرانِ حتَّى يملَّني
وأدفعَ عنكِ السَّوءَ بالشُّبهاتِ

وقال آخر:

وما وجدُ مِلْواحٍ منَ الهيمِ خُلِّيتْ
عن الماءِ حتَّى جوْفُها مُتصلصلُ
تحومُ وتغشاها العصيُّ وحولها
أقاطيعُ أنعامٍ تعلُّ وتنهلُ
بأكثرَ منِّي غلَّةً وتعطُّفاً
إلى الوردِ إلاَّ أنَّني أتجمَّلُ

وقال ابن الدمينة:

وكنَّا كريمَيْ معشرِ حُمَّ بيننا
تصافٍ فصُنَّاهُ بحسنِ صوانِ
سيبقى فلا يفنى ويخفى فلا يُرى
وما علموا من أمرنا ببيانِ

وقال ذو الرمة:

فما زلتُ أطوي النَّفسَ حتَّى كأنَّها
بذي الرِّمثِ لم تخطرْ علَى قلبِ ذاكرِ
حياءً وإشفاقاً منَ الرَّكبِ أن يروا
دليلاً علَى مستودعاتِ السَّرائرِ

ولعَمري إنَّ هذه الحال لجميلةٌ بين أهل الصَّفاء غير أنَّها من الأعداء أحسن منها من الأولياء إذْ ليس عجيباً أن يكتم الوليُّ سرَّ وليِّه كما يعجب من كتمان العدوِّ سرَّ عدوِّه.

وقد قال بعض أهل هذا العصر في هذا النحو:

وإنِّي وإن شاعتْ لديكَ سرائري
فإنَّ الَّذي استودعتني غيرُ شائعِ
أبى اللهُ لي إلاَّ الوفاءَ لكلِّ منْ
رعى ليَ عهدي أوْ أضاعَ ودائعي
فكُنْ آمناً من أنْ أُذيعَ بسرِّكمْ
فما سرُّ أعدائي لديَّ بذائعِ
وما أنا ممدوحاً بحفظِ وديعةٍ
أقلُّ حقوقِ النَّاسِ حفظُ الودائعِ

وقال آخر:

لعَمركَ ما استودَعْتُ سرِّي وسرَّها
سوانا حِذاراً أن تضيعَ السَّرائرُ
ولا خاطبتْها مُقلتايَ بلحظةٍ
فتعرفَ نجوانا العيونُ النَّواظرُ
ولكنْ جعلتُ الوهمَ بيني وبينها
رسولاً فأدْني ما تجنُّ الضَّمائرُ
أصونُ الهوَى بُقيا عليهِ منَ العد
ى مخافةَ أن يُغرى بذكراهُ ذاكرُ

وقال آخر:

تواقفَ معشوقانِ من غيرِ موعدٍ
وغُيِّبَ عن نجواهُما كلُّ كاشحِ
وكلَّتْ جفونُ العينِ عن حملِ مائها
فما ملكتْ فيضَ الدُّموعِ السَّوافحِ
وإنِّي لأطوي السِّرَّ عن كلِّ صاحبٍ
وإن كانَ للأسرارِ عدْلَ الجوانحِ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لعمر بن أبي ربيعة:

جرى ناصحٌ بالوُدِّ بيني وبينها
فقرَّبني يومَ الحِصابِ إلى قتلي
فلمَّا تواقفنا عرفْتُ الَّذي بها
كمثلِ الَّذي بي حذوكَ النَّعلَ بالنَّعلِ
فسلَّمتُ فاستأنستُ خيفةَ أن يرى
عدوٌّ مكاني أو يرى كاشحٌ فعلي
فقالتْ وألقتْ جانبَ السِّترِ إنَّما
معي فتكلَّمْ غيرَ ذي رقبةٍ أهلي
فقلتُ لها ما بي لكمْ من ضراعةٍ
ولكنَّ سرِّي ليسَ يحملهُ مثلي

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:

ألا حبَّذا حبِّي وأرضٌ يحلُّها
وثوبٌ عليها في الثِّيابِ رقيقُ
وفي القلبِ من حبِّي الَّذي ما درى بهِ
عدوٌّ ولم يظهرْ عليهِ صديقُ

وقال آخر:

خشيتُ لساني أن يكونَ خؤونا
فأودعْتُهُ قلبي فكانَ أمينا
وقلتُ ليخفى دونَ عيني وناظري
أيا حركاتي كنَّ فيهِ سكونا
فما إنْ رأتْ عيني لعينيَ قطرةً
ولا سمعتْ أُذني لفِيَّ أنينا
لقد أحسنتْ أحشايَ تربيةَ الهوَى
فها هو ذا كهلاً وكان جنينا
ولم أرَ قلباً خالياً أُودعَ الهوَى
فدانَ لهُ حتَّى اصطفاهُ قرينا

وقال ابن ميادة:

وإنِّي لِما استودعْتُ يا أمَّ مالكٍ
علَى قدمٍ من عهدهِ لكَتومُ
وإنِّي علَى الشَّوقِ الَّذي أنا داخلٌ
إذا باحَ أصحابُ الهوَى لضمومُ

وقال آخر:

وحبٍّ كأطباقِ البحارِ كتمتهُ
معَ القلبِ لم يعلمْ بهِ منْ أُلاطفُ
وإنِّي أكُمُّ السِّرَّ حتَّى أردَّهُ
سليمَ الصَّفا لم تمتهنْهُ الزَّعانفُ
وأُخفي منَ الوجدِ الَّذي ما لوَ انَّهُ
يشيعُ لحرَّ الموطناتِ الألايفُ

وإنَّ البيت الثالث من هذه الأبيات ليس من الكلام الَّذي لا يقع مثله في النَّدرات ولئن كان صادقاً فيما قال إنَّه من صون إلفه لعلى حالٍ توجب له غلبة الوفاء بعهده والرِّعاية لودِّه إنَّ امرءاً يثق من وجده بأنَّ الإشاعة لذكره تدعو المستوطن الآلف إلى مفارقة الوطنين وطن روحه ووطن جسمه ثمَّ يترك ذلك ويتجشَّم مضاضة الكتمان في قلبه على الإشارة بذكر إلفه بما عساه غير مؤدٍّ إلى ضرره لشديد الإبقاء على إلفه ولمتمكِّن القدر على نفسه لأنَّ من ملكه الشّوق ملكاً صحيحاً عجز لأن لا يكون سرّه تصريحاً على أنَّ صاحبنا قد عرّض تعريضاً مليحاً بذكره لموضع إقامة قلبه إذْ هو بلا شكٍّ موضع إلفه وإنِّي لأستطرف قول نبهان العبشمي:

أما واللهِ ثمَّ اللهِ حقّاً
يميناً ثمَّ أُتبعُها يمينا
لقدْ نزلتْ أُمامة من فؤادي
تِلاعاً ما أُبحنَ ولا رُعينا
أظلُّ وما أبثُّ النَّاسَ أمري
ولا يخفى الَّذي بيَ فاعلمينا
أذودُ النَّفسَ عن ليلَى وإنِّي
ليعصيني شواجرُ قد صدينا
يرينُ مشارباً ويُذدنَ عنها
ويُكثرنَ الصُّدودَ وما روينا

فهو أعزَّه الله لم يرض بتسميةٍ واحدةٍ حتَّى سمَّى اثنتين سمَّى الَّتي هو مقبلٌ عليها والَّتي هو يجب الانصراف عنها ثمَّ لا يسكت مع ما جناه حتَّى يمتنَّ بأنه يكاتم هواه ليت شعري ما الَّذي بقي عليه أن يخبر به بعد وصفه لمحلِّ من يهواه من قلبه وإخباره في الشِّعر باسمه ولولا أنَّ هذا بابٌ لا يحتمل لمن ذكرت حاله فيه ما يحتمل لمن ذكر في الباب الَّذي يليه لصفحنا عن هذا وأضعافه.

ولعمري لقد أحسن الَّذي يقول:

رماني بها قلبي فلمْ يُخطِ مقتلي
ولم يكُ من يرمي تصاب مقاتلُهْ
فإنْ متُّ فابكوني قتيلاً بطرفها
قتيلَ عدوٍّ حاضرٍ ما يزايلُهْ
شكى وكنى عمَّنْ أحبَّ ولم يبُحْ
بأكثرَ من هذا الَّذي هو قائلُهْ
وإنَّ أحقَّ النَّاسِ أنْ يكثُرَ البكا
عليهِ قتيلٌ ليسَ يُعرفُ قاتلُهْ

وأحسن مسلم بن الوليد في قوله:

عندي وعندكَ علمُ ما عندي
من ضُرِّ ما أُخفي وما أُبدي
لا أشتكي ما بي إليكَ ولوْ
نطقتْ بهِ العبراتُ في خدِّي
وجدي عليكَ أراهُ يُقنعُني
من وصفِ ما ألقى منَ الوجدِ
فإذا اصطبرتُ علَى السكوتِ فلمْ
أنطقْ فممَّا بي منَ الوجدِ

وأحسن الَّذي يقول:

وإنِّي لأُغضي الطَّرفَ عنكِ تجمُّلاً
وقلبي إلى أشياءَ عطشانُ جائعُ
فلا يسمعنْ سرِّي وسرَّكِ ثالثٌ
ألا كلُّ سرٍّ جاوزَ اثنينِ شائعُ

وأحسن سوار بن المضرّب حيث يقول:

إنِّي سأسترُ ما ذو العقلِ ساترهُ
من حاجةٍ وأُميتُ السرَّ كِتمانا
وحاجةٍ دونَ أخرى قد بدأتُ بها
جعلتُها للَّتي أخفيْتُ عُنوانا
إنِّي كأنِّي أرى مَنْ لا حياءَ لهُ
ولا أمانةَ وسطَ النَّاسِ عُريانا

وقال كثير:

وقد زعمَتْ أنِّي تغيَّرتُ بعدها
ومن ذا الَّذي يا عزُّ لا يتغيَّرُ
تغيَّرَ جسمي والخليقةُ كالذي
عهدْتِ ولم يخبرْ بسرِّكِ مُخبرُ

وقال ذو الرحل لقمان بن توبة القشيري:

خليليَّ سيرا فاسألا أمَّ عاصمٍ
لنا عن بقيَّاتِ العهودِ القدائم
ألمْ تعلمي يا عمرَكِ اللهُ أنَّني
بذكركِ هدَّاءٌ علَى النَّأيِ هائم
وإنِّي علَى الهجرانِ يا أمَّ عاصمٍ
أدومُ علَى عهدِ الخليلِ المكارم
إذا السِّرُّ عندي من خليلٍ تضمَّنتْ
به النَّفسُ لم يعلمْ به الدَّهرَ عالم
ترى بينَ أحناء الفؤادِ وضمِّهِ
إلى القلبِ أحناءَ الضُّلوعِ الكواتم

وقال الحسين بن الضحاك:

أيا منْ سروري به شقوةٌ
ومن صفوُ عيشي بهِ أكدرُ
تجنَّيْتَ تطلبُ لمَّا مللْتَ
عليَّ الذُّنوبَ ولا تقدرُ
وماذا يضرُّكَ من شهرتي
إذا كانَ سرُّكَ لا يُشهرُ
أمنِّي تخافُ انتشارَ الحديثِ
وحظِّيَ في سترهِ أوفرُ
ولو لم يكنْ فيَّ بُقيا عليكَ
نظرتُ لروحي كما تنظرُ

وقال بشار بن برد:

كتمْتُ عواذلي ما في فؤادي
وقلتُ لهمْ لِيُتَّهمَ البعيدُ
ففاضَتْ عبرةٌ أشفقْتُ منها
تسيلُ كأنَّ وابلها الفريدُ
فقالتْ قدْ بكيتَ فقلتُ كلاَّ
وهلْ يبكي منَ الشَّوقِ الجليدُ
ولكنِّي أصابَ سوادَ عيني
عُويدُ قذًى له طرَفٌ حديدُ
فقالوا ما لدمعتها سواءٌ
أكلْتَيْ مُقلتيكَ أصابَ عودُ
فقبلَ دموعِ عينكَ خبَّرتْنا
بما جمجمتَ زفرتُكَ الصَّعودُ

وقال آخر:

شيَّعتهمْ فاسترابوني فقلتُ لهمْ
إنِّي بُعثتُ معَ الأجمالِ أحدوها
قالوا فما نفسٌ يعلو كذا صعَداً
أمْ ما لعينكَ ما ترقا مآقيها
قلتُ التَّنفُّسُ للآدابِ نحوكمُ
وماءُ عينيَ جارٍ من قذًى فيها

وأنشدتني ستيرة العصيبية:

ونادى بالتَّرحُّلِ بعضُ صحبي
فرحتُ ومُقلتي غرقى بماها
فراحوا والشَّقيُّ له ديونٌ
وأشيا من حوائجَ ما قضاها
فأرخيْتُ العمامةَ دونَ صحبي
علَى عيني وقلتُ جرى قذاها
وما لي حاجةٌ إلاَّ ببكرٍ
وما ذنبي علَى أحدٍ سواها
فقالوا من ضِراري كيفَ بكرُ
وكيفَ تراكَ ترجو أن تراها
فقلتُ اللهُ حمَّ فراقَ بكرٍ
فأرجو أنْ يحمَّ لنا لِقاها

ولبعض أهل هذا العصر:

وكمْ ليلةٍ قد بتُّ أرقبُ صبحها
وأنجمها في الجوِّ ما تتزحزحُ
ويُمنايَ فوقَ القلبِ تُبردُ حرَّةٌ
ويُسرايَ تحتَ الخدِّ والعينُ تسفحُ
فأصبحتُ مجهوداً عميداً منَ الهوَى
وقد كادَ قلبي بالصَّبابةِ يطفحُ
وما علمَ الواشونَ فضلاً عنِ العِدى
بسرٍّ وما مثلي بسرِّكَ بُفصحُ
فإنْ كانَ هذا القولُ عذراً قبلتهُ
وإن كانَ تعذيراً فمثلكَ يصفحُ