الباب الثالث من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائهأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الثالث من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه
قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب أنَّ أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع ثمَّ ينمي حالاً بعد حالٍ فإذا كان النظر الصَّاحي إلى الصُّورة الَّتي يستحسنها طرفه مؤكّداً للمنظور إليه المحبَّة في قلبه كان نظر المحبّ بعد تمكُّن المحبَّة له أحرى أن يغلبه على لبّه ويزيده كرباً على كربه ألا ترى أنَّ من حمَّ يومين متواليين كان ألمه في الثاني من اليومين إذا تساوى مقدار الحمَّيين أصعب إليه من أوّل اليومين.
وفي مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائي:
بَعثْنَ الهوَى في قلبِ من ليسَ هائماً
فقلْ في فؤادٍ رُعنهُ وهو هائمُ
وقال غيلان بن عقبة في نحو ذلك:
خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستفزَّني
أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها
تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها
فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقي كلامُها
وقال أيضاً:
وكنتُ أرى من وجهِ ميَّةَ لمحةً
فأبرقُ مغشياً عليَّ مكانيا
وأسمعُ منها لفظةً فكأنَّما
يُصيبُ بها سهمٌ طريقَ فُؤاديا
تُطيلينَ ليَّاني وأنتِ مليَّةٌ
وأُحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التَّقاضيا
هيَ السِّحرُ إلاَّ أنَّ للسِّحرِ رُقيةً
وأنِّيَ لا ألقى منَ الحبِّ راقيا
وقال أيضاً:
تحنُّ إلى ميٍّ وقدْ شطَّتِ النَّوى
وما كلُّ هذا الحبِّ غيرُ غرامِ
لياليَ ميٌّ موتةٌ ثمَّ نشرةٌ
لما ألمحتْ من نظرةٍ وكلامِ
وقال آخر:
يقولون ليلى بالعراقِ مريضةٌ
فأقبلتُ من مصرٍ إليها أعودُها
فوالله ما أدري إذا أنا جئتُها
أَأُبرئُها من دائها أمْ أزيدها
ولقد أحسن الطائي حيث يقول:
أمْتعتُ طرفي يومَ ذاكَ بنظرةٍ
لا تُمتعُ الأرواحَ بالأجسادِ
وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:
دوائيَ مكروهي ودائي محبَّتي
فقدْ عيلَ صبري كيفَ بي أتقلَّبُ
فلا كمدٌ يبلى ولا لكِ رحمةٌ
ولا عنكِ إقصارٌ ولا عنكِ مذهبُ
وقال علي بن محمد العلوي:
كمْ نظرةٍ منها شجيتُ لها
قامتْ مقامَ الفقدِ للنَّظرِ
ولَّى بأوطاري ولستُ أرى
عيشاً يُهشُّ لهُ بلا وطرِ
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:
نازعني من طرفهِ الوَحْيا
وهَمَّ أن ينطقَ فاستحْيا
جرَّدَ لي سيفيْنِ من لحظهِ
أماتَ عن ذا وبِذا أحيى
وقال الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع:
وأتاني مُفحمٌ بغرَّتهِ
قلتُ لهُ إذ خلوْتُ مُحتشما
تحبُّ بالله من يخصُّكَ بالحبِّ
فما قالَ لا ولا نعما
ثمَّ تولَّى بمُقلتيْ خجلٍ
أراد ردَّ الجوابِ فاحتشما
فكنتُ كالمُبتغي بحيلتهِ بُرءاً
من السُّقمِ فابتدا سقما
وقال آخر:
تأمَّلتُها مُغترَّةً فكأنَّما
رأيتُ بها من سُنَّةِ البدرِ مَطلعا
إذا ما ملأتُ العينَ منها ملأتُها
من الدَّمعِ حتَّى أنزفَ الدَّمعَ أجمعا
وقال آخر:
تمنَّيتُ من أهوى فلمَّا لقيتُهُ
بَهتُّ فلمْ أُعملْ لِساناً ولا طرفا
فأغضيتُ إجلالاً لهُ ومهابةً
وحاولتُ أن يخفى الَّذي بي فلمْ يخفى
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لعلي بن الجهم لنفسه:
ولمَّا بدتْ بينَ الوُشاةِ كأنَّها
عناقُ وداعٍ يُشتهى وهو يقتلُ
أيِسْتُ من الدُّنيا فقلتُ لصاحبي
لئنْ عجلتْ للموتِ أوحى وأعجلُ
وقال آخر:
أيُّها النَّائمون حولي هنيئاً
هكذا كنتُ حينَ كنتُ خليّاً
منْ رآني فلا يُديمنَّ لحظاً
وليكنْ من جليسه سامريّاً
وقال مسلم بن الوليد:
أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي
ولا تطلُبا من عندِ قاتلي ذحْلي
فما حزَني أنِّي أموتُ صبابةً
ولكن علَى من لا يحلُّ لها قتلي
أُحبُّ الَّتي صدَّتْ وقالتْ لِترْبها
دعيهِ الثُّريَّا منهُ أقربُ من وصلي
أماتتْ وأحيتْ مُهجتي فهيَ عندها
مُعلَّقةٌ بينَ المواعيدِ والمطْلِ
وما نلتُ منها طائلاً غيرَ أنَّني
بشجوِ المُعنَّيْنَ الأولى سلفوا قبلي
بلى ربَّما وكَّلتُ عيني بنظرةٍ
إليها تزيدُ القلبَ خبلاً علَى خبْلِ
وقال أيضاً:
عرفتُ بها الأشجانَ وهيَ خليَّةٌ
من الحبِّ لا وصلٌ لديها ولا هجرُ
أراها فأطوي للنَّصيحِ عداوةً
وأحمدُ عُقبى ما جنى النَّظرُ الشَّزْرُ
فلا سيَّما العُذَّالَ فيها ملامهُمْ
ألستُ إذا لاموا أبيتُ ولي عذرُ
شكوتُ فقالوا ضقتَ ذَرعاً بحبِّها
متى تُملكُ الشَّكوى إذا غُلبَ الصَّبرُ
ألمَّتْ بنا في العائداتِ من أهلها
فأذْكتْ غليلاً ما لديها بهِ خُبرُ
ولبعض أهل هذا العصر:
إذا كان اللِّقاءُ يزيدُ شوقاً
وكان فراقُ من أهوى يشوقُ
فليسَ إلى السُّلوِّ وإنْ تمادى
عتابُكَ في الهوَى أبداً طريقُ
ومنْ يكُ ذا سقامٍ إنْ تداوى
تزايدَ سُقمهُ فمتى يُفيقُ
وله أيضاً:
إذا زارَ الحبيبُ أثارَ شوقاً
تفتَّتُ من حرارتهِ العِظامُ
وروَّاني بعينيهِ مُداماً
تدينُ بسُكرِ شاربها المُدامُ
فوصلٌ يُكسبُ المُشتاقَ سُقماً
ونأيٌ لا يقومُ لهُ قِوامُ
فهلْ يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ
إذا كانَ الدَّواءُ هوَ السَّقامُ
وله أيضاً:
أغريْتَني بحياتي إذ غريتَ بها
فصارَ طولُ بقائي بعضَ أعدائي
فكيفَ يُنعشُ من أرداهُ ناعشهُ
ومن يرى جسمهُ رأيَ الأطبَّاءِ
أمْ كيفَ يبرأُ قلبي من صبابتهِ
بطبِّكمْ ودوائي عندكمْ دائي
وله أيضاً:
متى يا شفاءَ السُّقمِ سُقميَ مُنقضي
إذا ما دواءٌ كانَ للدَّاءِ مُمرضي
فهيهاتَ ما هذا علَى ذا يقلع
أجلْ لا ولكن مدَّةُ العمرِ تنقضي
وقال آخر:
ومُختلسٍ باللَّحظِ ما لا ينالهُ
قريبٍ بحالِ النَّازحِ المُتباعدِ
وفي نظرِ الصَّادي إلى الماء حسرةٌ
إذا كانَ ممنوعاً سبيلَ المواردِ
وقال آخر:
خليليَّ أضحتْ حاجةٌ لأخيكُما
بتوضحَ والحاجاتُ يُرجى بعيدُها
فكيفَ طِلابي حاجةً لا ينالُها
بريدي ولا يجري إليَّ بريدُها
فهل ينفعُ الحرَّانةَ الكبدِ أن ترى
حياضَ القِرى من دونها من يذودها
وهلْ ينفعُ العينَ الشَّقيَّةَ بالبُكا
ذُرى طامسِ الأعلامِ لا بلْ يزيدها
وقال مجنون بني عامر:
تداويتُ من ليلى بليلى من الهوَى
كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ
ألا زعمَتْ ليلى بأنْ لا أُحبُّها
بلى واللَّيالي العشرِ والشَّفعِ والوترِ
إذا ذُكرتْ يرتاحُ قلبي لِذكرها
كما انتفضَ العُصفورُ من بللِ القطرِ
وقال البحتري:
سقى الله أخلاقاً من الدَّهر رطبةً
سقتْنا الجوى إذ أبرقُ الحزنِ أبرقُ
ليالٍ سرقناها من اللَّهوِ بعدما
أضاءَ بإصباحٍ من الشَّيبِ مفرقُ
تداويتُ من ليلى بليلى فما اشتفى
بماءِ الرُّبى من باتَ بالماءِ يشرَقُ
وقال جميل:
فيا حُسنها إذ يغسلُ الدَّمعُ كُحلها
وإذ هيَ تُذري الدَّمعَ منها الأناملُ
عشيَّةَ قالتْ في العتابِ قتلْتني
وقتلي بما قالت هناكَ تُحاولُ
فقلتُ لها جودي فقالتْ مُجيبةً
ألِلْجدِّ هذا منكَ أمْ أنتَ هازلُ
لقدْ جعلُ اللَّيلُ القصيرُ لنا بكمْ
عليَّ لِروعاتِ الهوَى يتطاولُ
والأصل في هذا كله هو لامرئ القيس:
وما ذرفتْ عيناكِ إلاَّ لتضْربي
بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّل
وقال بشار بن برد:
مريضةُ ما بينَ الجوانحِ بالضَّنى
وفيها دواءٌ للعُيونِ وداءُ
عتابُ الفتَى في كلِّ يومٍ وليلةٍ
وتقويمُ أضغانِ النِّساءِ عناءُ
وقال عبيد بني حسحاس:
تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثاً وأربعا
وواحدةً حتَّى كمُلنَ ثمانيا
يعُدنَ مريضاً هنَّ هيَّجنَ داءهُ
ألا إنَّما بعضُ العوائدِ دائيا
وقال آخر:
كما تيقَّنتَ أنَّ الحيَّ قدْ رقدوا
خطاكَ فوقَ رُقابِ النَّاسِ ما تجدُ
فلا بلغتَ الَّذي تشفي الغليلَ بهِ
ولا ظفرتَ ولا نالتْ يديكَ يدُ
وقال آخر:
إنَّ الذينَ بخيرٍ كنتَ تذكُرهمْ
همْ أهلَكوكَ وعنهمْ كنتُ أنهاكا
لا تطلُبنَّ حياةً عند غيرهم
فليسَ يُحييكَ إلاَّ من توفَّاكا
فهذا البائس مع من قدَّمنا ذِكره مع نُظرائه قد صبر على مضاضة دائه مع علمه بأنه زائد في دائه ولم ير أن ينعطف إلى سواه ولا طلب الراحة إلاَّ من عند من ابتلاه وهذا ضدُّ الَّذي يقول:
ولمَّا أبى إلاَّ جِماحاً فُؤادهُ
ولم يسلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهل
تسلَّى بأخرى غيرها فإذا الَّتي
تسلَّى بها تُغري بليلى ولا تُسلي
وضد الَّذي يقول:
تسلَّيتُ عن ذكرِ الحبيبِ بغيرهِ
ومِلتُ إليهِ بالمودَّةِ والذِّكرِ
فما زادني إلاَّ اشتياقاً وحُرقةً
إليهِ ولم أملكْ سُلوِّي ولا صبري
وما الحبُّ إلاَّ فرحةٌ إن نكلْتها
بأخرى قرنتَ الضُّرَّ منكَ إلى الضُّرِّ
فلا تُطفِ نارَ الحبِّ بالحبِّ طالباً
سُلوّاً فإنَّ الجمرَ يُسعرُ بالجمرِ
وهذا وإن كان مخالفاً لذلك في أنَّه جرب الأدوية على نفسه والتمس الراحة في إلفٍ غير إلفه فإنه موافق للذي يقدمه في التماسه من نحو الجهة الَّتي حدث عنها الدَّاء في رجوع نفسه إلى وطنها وإقبالها بعد الانحراف على سكنها.
وقال عبيد الراعي:
بني ولو نسى قدْ سئمنا جواركمْ
وما جمعتنا نيَّةٌ قبلها معا
خليلانِ منْ شعبينِ شتَّى تجاورا
قليلاً وكُنَّا بالتَّفرُّقِ أمتعا
أرى آلَ هندٍ لا يُبالي أميرهمْ
علَى كبدِ المحزونِ أنْ تقطَّعا
وقال علي بن الجهم:
عيونُ المها بينَ الرّصافةِ والجسرِ
جلبنَ الهوَى من حيثُ أدري ولا أدري
أعدْنَ لي الشَّوقَ القديمَ ولم أكنْ
سلوتُ ولكن زِدْنَ جمراً علَى جمرِ
وقُلنَ لنا نحنُ الأهلَّةُ إنَّما
تُضيءُ لمنْ يسري بليلٍ ولا تقري
فلا نيلَ إلاَّ ما تزوَّدَ ناظرٌ
ولا وصلَ إلاَّ بالخيالِ الَّذي يسري
وقال آخر:
وقالُوا لها هذا حبيبكِ مُعرضاً
فقالتْ ألا إعراضهُ أيسرُ الخطبِ
فما هوَ إلاَّ نظرةٌ بتبسمٍ
فتصطكُّ رِجلاهُ ويسقطَ للجنبِ
وقال أبو صخر الهذلي:
وإنِّي لآتيها وفي النَّفسِ هجرُها
بَياتاً لأُخرَى الدَّهرَ ما طلعَ الفجرُ
فما هو إلاَّ أنْ أراها فُجاءةً
فأبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُكرُ
وأنسَى الَّذي قدْ جئتُ كيْما أقولهُ
كما قدْ تُنسِّي لبَّ شاربِها الخمرُ
وقال آخر:
وكيفَ يحبُّ القلبُ منْ لا يحبُّهُ
بلَى قدْ تُريدُ النَّفسُ مَنْ لا يُريدُها
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلَى بأرضِها
أرى الأرضَ تُطوَى لي ويدنُو بعيدُها
تحلَّلُ أحقادِي إذا ما لقيتُها
وتنْمِي بلا جرمٍ عليَّ حقودُها
أما قول تحلَّل أحقادي إذا ما لقيتها فهو كلام صحيح ولو أبدل اسم الحقد بغيرها كان أحسن لأنَّ الحقد لا يتولَّد إلاَّ عن موجدة فتخفى في النفس ويظهر غيرها ويرصد صاحبها بالمكافأة عنها وهذا كلُّه محال بين المتحابين بين باب الجد والهزل جميعاً وقد ذكر الله تعالى جلَّ ثناؤه في باب محبَّته للمؤمنين دليلاً على ما قلناه وذلك قوله عزَّ وجل: )وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ قلْ فلمَ يعذِّبكمْ بذنوبكمْ بلْ أنتمْ بشرٌ ممَّن خلقَ يغفرُ لمنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يشاء( فجعل جلَّ ثناؤه مكافأتهم بالمعاقبة على ذنوبهم دليلاً على تكذيب دعواهم ونحو ذلك قوله تعالى: )قلْ إنْ كنتمْ تحبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُجيبُكمُ اللهُ ويغفرْ لكمْ ذنوبكمْ( فضمَّ جلَّ وعزَّ الذُّنوب إلى المحبَّة غير أن من أحسن في بيتين وقصَّر في بيت كان محسناً معفيّاً على إساءته وأما قوله وتنمي بلا جرمٍ عليَّ حقودها فتعتورُه معانٍ أحدها أن يكون ضنُّه بودِّها دعاه إلى سوء الظنّ بها فنسبها أنَّها تضمر له حقداً ويمكن أن يكون عرف من خلائقها ما هو مغيَّب عنَّا.