الباب التاسع عشر ما عتبَ منِ اغتفرَ ولا أذنبَ منِ اعتذر أبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب التاسع عشر ما عتبَ منِ اغتفرَ ولا أذنبَ منِ اعتذر
المعتذر لا ينفكُّ من إحدى حالين إمَّا أن يكون صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً فعذره مقبول وإن كان كاذباً فإنه لم يتجشَّم مضاضة الكذب في نفسه إلاَّ لنفاسة صاحبه في صدره ومن كان بهذه الحال قُبل عذره بل وجب شكره.
وقد قال البحتري:
إقبلْ معاذيرَ مَنْ يأتيكَ معتذراً
إنْ برَّ عندكَ فيما قالَ أو فجَرَا
فقدْ أطاعكَ مَنْ يُرضيكَ ظاهرهُ
وقدْ أجلَّكَ مَنْ يعصيكَ مُستترا
ولبعض أهل هذا العصر:
أنتَ ابتدأتَ بميعادِي فأوفِ بهِ
ولا تربَّصْ بهِ صرفَ المقاديرِ
ولا تكِلْني إلى عذرٍ تُزخرفهُ
فالذَّنبُ أحسنُ مِنْ بعضِ المعاذيرِ
وله أيضاً:
إلى اللهِ أشكُو مَنْ بدانِي بوصلهِ
فلمَّا حوَى قلبِي براهُ ببخلهِ
سآجرُ نفسِي عنْ تقاضيهِ راضياً
إلى أنْ أراهُ ساخطاً بعدَ فعلهِ
وآخذُ منهُ العفوَ ما دامَ باخلاً
وأنَّهَى لسانِي أنْ يعودَ لعذلهِ
فربَّ اعتذارٍ قدْ تمنَّيتُ أنَّني
خرستُ وأنِّي لمْ أُخاطبْ بمثلهِ
وقال آخر:
مْ أجنِ ذنباً فإنْ زعمتَ بأنْ
أتيتُ ذنباً فغيرُ مُعتمدِ
قدْ تطرفُ الكفُّ عينَ صاحبِها
فلا يرَى قطعَها منَ الرَّشَدِ
وقال آخر:
ما أحسنَ العفوَ منَ القادرِ
لا سيَّما عنْ غيرِ ذي ناصرِ
إنْ كانَ لي ذنبٌ ولا ذنبَ لي
فما لهُ غيركَ مِنْ غافرِ
أعوذُ بالودِّ الَّذي بينَنا
أنْ تُفسدَ الأوَّلَ بالآخرِ
وقال آخر:
هبْنِي أسأتُ وقدْ أتيْ
تُ بمثلِ ذنبِ أبي لهبْ
فأنا أتوبُ ومَا أسأ
تُ وكمْ أسأتَ فلمْ تتبْ
وقال آخر:
هَبينِي يا معذِّبتِي أسأتُ
وبالهجرانِ قبلكمُ بدأتُ
فأينَ الفضلُ منكِ فدتكِ نفسي
عليَّ إذا أسأتِ كمَا أسأتُ
ولبعض أهل هذا العصر:
لجُرمِي عقابٌ والتَّجاوزُ ممكنٌ
وأولاهُما إسعافُ مَنْ صحَّ صدقهُ
فإنْ لمْ تجاوزْ حسبَ ما تستحقُّهُ
فلا تتجاوزْ حسبَ ما أستحقُّهُ
وله أيضاً:
العذرُ يلحقهُ التَّحريفُ والكذبُ
وليسَ في غيرِ ما يُرضيكَ لي أربُ
وقدْ أسأتُ فبالنُّعمى الَّتي سلفتْ
لما مننتَ بعفوٍ ما لهُ سببُ
وقال آخر:
لا والَّذي إنْ كذبتُ اليومَ عذَّبني
وإنْ صدقتكمُ فاللهُ نجَّانِي
ما قرَّتِ العينُ بالأبدالِ بعدكمُ
ولا مجدتُ لذيذَ العيشِ يغشانِي
إنِّي وجدتُ بكمْ ما لمْ يجدْ أحدٌ
جنٌّ بجنٍّ ولا إنسٌ بإنسانِ
وقال البحتري:
أأنسَى مَنْ يُذكِّرُ فيهِ ألاَّ
شبيهَ لهُ يعدُّ ولا ضريبُ
وقدْ أكدَى الصَّوابُ عليَّ حتَّى
وددتُ بأنَّ شانيَّ المُصيبُ
فإنْ لا تحسبِ الحسناتِ منها
لصاحبها فلا تُحصَى الذُّنوبُ
أتوبُ منَ الإساءةِ إنْ ألمَّتْ
وأعرفُ مَنْ يُسيءُ ولا يتوبُ
وقال أيضاً:
اللهُ يعلمُ والدُّنيا مُنغَّصةٌ
والعيشُ مُنتقلٌ والدُّهر ذُو دولِ
لأنتَ عندِي وإنْ ساءتْ ظنونكَ بِي
أحظَى منَ الأمنِ عندَ الخائفِ الوجلِ
ولعبيد بن طاهر:
إغتفرْ زلَّتي لتُحرزَ فضلَ الشُّك
رِ منِّي ولا يفوتكَ أجرِي
لا تكِلْني إلى التَّوسُّلِ بالعذْ
رِ لعلِّي ألاَّ أقومَ بعذرِي
وقال آخر:
فإنْ لا أكنْ للفضلِ أهلاً فإنَّكمْ
بفضلكمُ للعفوِ عنْ مذنبٍ أهلُ
ففضلكَ أرجُو لا البراءةَ إنَّه
أبى اللهُ إلاَّ أن يكونَ لكَ الفضلُ
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
رفعَ اللهُ عنكَ نائبةَ الدَّه
رِ وحاشاكَ أن تكونَ عليلا
أُشهدُ اللهَ ما علمتُ وما ذا
كَ من العذرِ جائزاً مقبُولا
فاجعلَنْ لي إلى التَّوسُّلِ بالعذْ
رِ سبيلاً إذْ لم أجدْ لِي سبيلا
فقديماً ما جادَ ذو الفضلِ بالصَّفحِ
وما سامحَ الخليلُ الخليلا
وقال الحسين الخليع:
بنفسِي حبيبٌ لا يملُّ التَّعتُّبا
إذا زدتهُ في العذرِ زادَ تعصُّبا
يُطيلُ ضِرارِي بامتحانِ صبابتِي
وقدْ علمَ المكنونَ منها المغيَّبا
فلستُ أُناجِي غيرهُ مذْ عرفتهُ
فأنظُرَ إلاَّ خائفاً مُترقِّبا
أيا مَنْ تجنَّى الذَّنبَ أعلمُ أنَّه
علَى ثقةٍ أنْ لستُ بالغيبِ مُذنبا
أمَا لخضُوعِي مِنْ ضميركَ شافعٌ
منَ السُّقمِ قدْ يشفي المُلحَّ المعذَّبا
أمَّا اعتذاره بأنَّه لا يُناجي غير صاحبه إلاَّ خائفاً مترقِّباً فقبيحٌ جدّاً ولعمري إنَّ الإصرار على الغدر أصلح من التَّنصُّل بهذا العذر إذ من لم يكن عليه رقيب من نفسه يصونها عن مكاره إلفه فلا درك في مودَّته.