كتاب الاعتصام/الباب التاسع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

كتاب الاعتصام

الباب التاسع . في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين[عدل]

فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيراً من الأحاديث أشعرت بوصف لأهل البدعة ، وهو الفرقة الحاصلة ، حتى يكونوا بسببها شيعاً متفرقة ، لا ينتظم شملهم بالإسلام ، وإن كانوا من أهله ، وحكم لهم بحكمه .

ألا ترى أن قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " وقوله تعالى : "ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " الآية ، وقوله : "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق ؟

وفي الحديث :

"ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" والتفرق ناشىء عن الاختلاف في المذاهب والآراء إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان ـ وهو الحقيقة ـ وإن جعلنا معنى التفرق في المذاهب ، فهو الاختلاف كقوله : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" .

للإختلاف سببان : كسبي ، وغير كسبي[عدل]

فلا بد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه ؟ وله سببان . ( أحدهما ) : لا كسب للعبادة فيه ، وهو الراجع إلى سابق القدر ، والآخر هو الكسبي وهو المقصود بالكلام عليه في هذا الباب ، إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة ، فإن فيها معنى أصيلاً يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع . فنقول والله الموفق للصواب :

آية ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة وتفسيرها[عدل]

قال الله تعالى : "ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبداً ، مع أنه إنما خلقهم للاختلاف ، وهو قول جماعة من المفسرين في الآية ، وأن قوله : "ولذلك خلقهم" معناه : وللاختلاف خلقهم . وهو مروي عن مالك بن أنس قال : خلقهم ليكونوا فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير . ونحوه عن الحسن فالضمير في خلقهم عائد على الناس ، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم ، وليس المراد ها هنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ، ولا في الألوان كالأحمر والأسود ، ولا في أصل الخلقة كالتام الخلق والأعمى والبصير ، والأصم والسميع ، ولا في الخلق كالشجاع والجبان ، والجواد والبخيل ، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها .

وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين ،كما قال تعالى : "كان الناس أمةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه" الآية ، وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا .

هذا هو المراد من الآيات التي كرر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق ، أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه :

فصل أحدها : الاختلاف في أصل النحلة[عدل]

وهو قول جماعة من المفسرين ، منهم عطاء قال : "ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال قال : اليهود والنصارى والمجوس ، والحنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ الحنيفية ، خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي في الآية المذكورة .

وأصل هذا الاختلاف هو في التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه ، فإن الناس في عامة الأمر لم يختلفوا في أن لهم مدبراً يدبرهم وخالقاً أوجدهم ، إلا أنهم اختلفوا في تعيينه على آراء مختلفة . من قائل بالاثنين وبالخمسة ، وبالطبيعة أو الدهر ، أو بالكواكب ، إلى أن قالوا بالآدميين وبالشجر وبالحجارة وما ينحتون بأيديهم .

ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق لكن على آراء مختلفة أيضاً ، إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا فيه من باطله ، فعرفوا بالحق على ما ينبغي ، ونزهوا رب الأرباب عما لا يليق بجلاله من نسبة الشركاء والأنداد ، وإضافة الصاحبة والأولاد ، فأقر بذلك من أقر به ، وهم الداخلون تحت مقتضى قوله : "إلا من رحم ربك" وأنكر من أنكر ، فصار إلى مقتضى قوله : "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة ، وهو قوله : "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" وهو منقول عن جماعة من المفسرين .

وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله : "ولذلك خلقهم" خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا . وهو معنى ما نقل عن مالك و طاوس في جامعه ، وبقي الآخرون على وصف الاختلاف ، إذ خالفوا الحق الصريح ، ونبذوا الدين الصحيح .

وعن مالك أيضاً قال : الذين رحمهم لم يختلفوا . وقول الله تعالى : "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" إلى قوله : "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" ومعنى : "كان الناس أمة واحدة " فاختلفوا "فبعث الله النبيين " فأخبر في الآية أنهم اختلفوا ولم يتفقوا ، فبعث النبيين ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق ، وأن الذين آمنوا هداهم للحق من ذلك الاختلاف .

وفي الحديث الصحيح :

"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، فاليهود غداً والنصارى بعد غد" .

وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : "كان الناس أمة واحدة " فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمةً واحدةً غير ذلك اليوم . " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" إلى قوله : "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " .

وختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت واتخذ النصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة .

واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق ، واستقبلت اليهود بيت المقدس ، وهدى الله أمة محمد للقبلة .

واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي ولا يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، وهدى الله أمة محمد للحق من ذلك .

واختلفوا في إبراهيم عليه السلام ، فقالت اليهود كان يهودياً ، وقالت النصارى نصرانياً ، وجعله الله حنيفاً مسلماً ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك .

واختلفوا في عيسى عليه السلام فكفرت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً وجعلته النصارى إلهاً وولداً ، وجعله اللخ روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك .

ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا القصد الأول ، فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون ، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف ، لكن في الفروع دون الأصول وفب الجزئيات دون الكليات ، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف .

وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم . يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يرجع إليه ، وهو قول الله تعالى : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" الآية ، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله . وذلك رده إليه إذا كان حياً وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم .

إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى : "ولا يزالون مختلفين" أم لا ؟ والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه .

أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله : "ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك " فإنها اقتضت قسمين : أهل الاختلاف ، والمرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلا كان قسم الشيء قسيماً له ، ولم يستقم معنى الاستثناء .

والثاني : أنه قال فيها : "ولا يزالون مختلفين" فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك ، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحرياً لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازماً ولا ثابتاً ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والاتقطاع أليق في الموضع .

والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدوداً من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه : انه من أهل الرحمة . وذلك باطل بإجماع أهل السنة .

والرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضرباً من ضروب الرحمة ، وإذا كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجاً من قسم أهل الرحمة .

وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله في العمل ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة . وعن ضمرة بن رجاء قال : اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكرن الحديث ـ قال ـ فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر : لا تفعل ! فما يسرني باختلافهم حمر النعم . وروى ابن وهب عن القاسم أيضاً قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله لا يختلفون ، لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة .

ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه ، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق ، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيضير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم ، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق ، وذلك من أعظم الضيق . فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم ، فكان فتح باب الأمة ، للدخول في هذه الرحمة ، فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك ؟ ! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها ، والحمد لله .

وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية ، وهي أن يقع الاتفاق في أصل الدين ، ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية ، وهو المؤدي إلى التفرق شيعاً .

فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف ، ولذلك صح عنه  : "أن أمته تفترق على بضع و سبعين فرقة "، وأخبر :

"أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع "، وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الأمم قبلنا ، ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار ، وذلك بعيد من تمام الرحمة .

ولقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على ألفتنا وهدايتنا ، حتى ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " لما حضر النبي ـ قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ـ فقال : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، فقال عمر : إن النبي غلبه الوجع ، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلوا بعده ومنهم من يقول كما قال عمر، فلما كثر اللغط والإختلاف عند النبي قال : قوموا عني فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم".

فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحياً أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة ، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله : "ولا يزالون مختلفين" بدخولها تحت قوله : "إلا من رحم ربك" فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم . رضينا بقضاء الله وقدره ، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنة ، ويميتنا على ذلك بفضله .

وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع ، وأن من رحم ربك أهل السنة ، ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقاً ، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل ، وهذا لا بد من بسطه .

فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى ، العالمين بمواردها ومصادرها .

والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك ، وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفاً ، بل كل على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :

أحدها : أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً ، ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع ، وتارة يكون في كل أصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتارة آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها ، حتى يصير منها ما ظهر له بادىء رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ، وهذا هو المبتدع ، وعليه نبه الحديث الصحيح أنه قال :

"لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم إتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" .

قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم . فيؤتى الناس من قبله ، وقد صرف هذا المعنى تصريفاً ، فقيل : ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان . قال ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتى من ليس بعالم .

قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوماً بكاءً شديداً ، فقيل له : مصيبة نزلت بك ؟ فقال لا! ولكن استفتى من لا علم عنده .

وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : "قبل الساعة سنون خداعاً ، يصدق فيهن الكاذب ، ويكذب فيهن الصادق ، ويخون فيهن الأمين ، ويؤتمن الخائن ، وينطق فيهن الرويبضة" قالوا : هو الرجل التافة الحقير ينطق في أمور العامة ، كأنه ليس بأهل أن يتكلم في أمور العامة فيتكلم .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قد علمت متى يهلك الناس ! إذا جاء الفقه من قبل الصغير عليه الكبير ، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم ، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا .

واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار ، فقال ابن المبارك : هم أهل البدع ، وهو موافق ، لأن أن أهل البدع أصاغر في العلم ، ولأجل ذلك صاروا أهل بدع .

وقال الباجي : يحتمل أن يكون الأصاغر من لا علم عنده . قال  : وقد كان عمر يستشير الصغار ، وكان القراء أهل مشاورته كهولاً وشباناً . قال  : ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال ، ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة . فأما من التزمهما فلا بد أن سمو أمره ، ويعظم قدره .

ومما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن الحسن قال : العامل على غير علم كالسائر على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح ، فاطلبوا العلم طلباً لا يضر بترك العبادة ، واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بترك العلم ، فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا ـ يعني الخوارج ـ والله أعلم ، لأنهم قرؤوا القرآن ولم يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الحديث .

"يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم" .

وروي عن مكحول أنه قال : تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا ، وتفقه السفلة فساد الدين .

وقال الفريابي : كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم تغير وجهه ، فقلت : يا أبا عبد الله ! أراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك . قال : كان العلم في العرب وفي سادات الناس ، وإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء النبط والسفلة غير الدين .

وهذه الآثار أيضاً إذا حملت على تأويل المتقدم استدت واستقامت ، لأن ظواهرها مشكلة ، ولعلك إذا استقريت أهل البدع من المتكلمين ، أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ، ومن ليس له أصالة في اللسان العربي ، فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه ، كما أن من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها .

والثاني من أسباب الخلاف إتباع الهوى[عدل]

ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها ، والتعويل عليها ، حتى يصدروا عنها ، بل قدموا أهوءاهم ، واعتمدوا على آرائهم ، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك ، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم ، أو طلباً للرياسة ، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ، ويتأول عليهم فيما أرادوا ، حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين .

فالأولون ردوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة بعقلوهم ، وأساؤوا الظن بما صح عن النبي ، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة ، حتى ردوا كثيراً من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان ، وحشر الأجساد ، والنعيم والعذاب الجسمي ، وأنكروا رؤية الباري ، وأشباه ذلك ، بل صيروا العقل شارعاً جاء الشرع أو لا ، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل ، إلى غير ذلك من الشناعات .

والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البينات ، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة ، حرصاً على أن يغلب عدوه ، أو يفيد وليه ، أو يجر إلى نفسه نفعاً ، كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة المشهور ، فإنه عزل عن قضاء ألبيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زيادة ، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته ، وأن لا يفتي أحداً .

ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر ، فشكا إلى القاضي ابن بقي ضرورته إليه لمقابلته منزهة ، وتأذية برؤيتهم . أو أن تطلعه من علالية . فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه . فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة . فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلاً ، فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر ، وتوبيخهم ، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده .

وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضاً من أصحابه الفقهاء ويقول : إنهم حجروا عليه واسعاً . ولو كان حاضراً لأفتاه بجواز المعارضة ، وتقلد حقاً وناظر أصحابه فيها . فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة . فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم . وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعارضة .

فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء . وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلاً ، وهم علماء أعلام يقتدى بهم أكثر الأمة ، وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به ، فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأياً .

فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال لهم محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم ! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم . وأرخصتم لأنفسكم في ذلك ؟ قالوا : بلى ! قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك ، فخذوا به مأخذكم ، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة . فسكتوا . فقال للقاضي : أنه إلى أمير المؤمنين فتياي .

فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن لبابة ، وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجيبة ، وكانت عظيمة القدر جداً ، تزيد أضعافاً على المجشر . ثم جيء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعارضة ، فهنىء بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا ، فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة .

قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر ، فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة ، فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ـ أو كما قال .

فتأملوا كيف اتباع الهوى ، وأولى أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلاً من وجهين :

احدهما : أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به ، لأن أهل العراق لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ، ومن حكى عنهم ذلك ، فإما على غير تثبيت ، وإما أنه كان قولاً لهم رجعوا عنه ، بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية .

والثاني : أنه إن سلمنا فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالمحبة والإمارة أو قضاء الحاجة ، إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعاً ، وهذا متفق عليه بين العلماء ، فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق ، أو رجح بغير معنى فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع ، عافانا الله من ذلك بفضله .

فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى ، كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقاً محدث ، وسيأتي بيان ذلك بعد إن شاء الله .

وقد ثبت بهذا وجه اتباع الهوى ، وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم . قال الله تعالى : "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ " ـ أي ميل عن الحق ـ "فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" وقد تقدم معنى الآية ، فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه ، عكس ما عليه الحق في نفسه .

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ وذكرت الخوارج وما يلقون في القرآن فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه ، وقرأ ابن عباس الآية . خرجه ابن وهب .

وقد دل على ذمة القرآن في قوله : "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" الآية ، ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم . حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه ، وقال : "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" إلى غير ذلك من الآيات . وحكى أيضاً عن عبد الرحمن بن مهدي أن رجلاً سأل إبراهيم النخعي عن الأهواء : أيها خير ؟ فقال : ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول . يعني ما كان عليه السلف الصالح .

وخرج عن الثوري أن رجلاً أتى ابن عباس رضي الله عنهما ، فقال : أنا على هواك . فقال له ابن عباس : الهوى كله ضلالة : أي شيء انا على هواك ؟ .

والثالث من أسباب الخلاف التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق وهو إتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ ، وأشباه ذلك ، وهو التقليد المذموم ، فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله : "إنا وجدنا آباءنا على أمة " الآية . ثم قال : " قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون " وقوله : "هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون" فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء ، فقالوا : "بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون" وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضاً في قوله :

"اتخذ الناس رؤساء جهالاً" إلى آخره ، فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان .

وفيما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فينقلب لعلم الله فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لا بد فاعلين ، فبالأموات لا بالأحياء . فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين ، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة ، حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه ، إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة . ولذلك قيل : لا تنظر إلى عمل العالم . ولكن سله يصدقك . وقالوا : ضعف الروية أن يكون رأى فلاناً يعمل مثله . ولعله فعله ساهياً . وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة . وما أشبه ذلك . لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه .

وقول علي رضي الله عنه : فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات نكتة في الموضع .

يعني الصحابة ، ومن جرى مجراهم ممن يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه . وأما غيرهم ممن لم يحل ذلك المحل فلا . كأن يرى الإنسان رجلاً يحسن اعتقاده فيه فيفعل فعلاً محتملاً أن يكون مشروعاً أو غير مشروع فيقتدى به على الإطلاق ويعتمد عليه في التعبد . ويجعله حجة في دين الله ، فهذا هو الضلال بعينه . وما لم يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل ممن هو أهل الفتوى .

وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة ، إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء ، فيراه يعمل عملاً فيظنه عبادة فيقتدى به . كائناً ما كان ذلك العمل . موافقاً للشرع أو مخالفاً . ويحتج به على من يرشده ويقول : كان الشيخ فلان من الأولياء وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به علماء الظاهر . فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب . كالذين قلدوا آباءهم سواء . وإنما قصارى هؤلاء أن يقولوا : إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الأمور سدى .

وما هي إلا مقصودة بالدلائل والبراهين مع أنهم يرون أن لا دليل عليها . ولا برهان يقود إلى القول بها .

فصل هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد[عدل]

هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد :وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت ، أو الأخذ فيها بالنظر الأول ، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم . ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله وصفهم :

بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قولبهم لأن الفهم راجع إلى القلب ، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال ، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط ، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم ، وما تقدم أيضاً من قوله عليه الصلاة والسلام :"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً" إلى آخره .

وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه ، فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن ، و سعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التميمي قال : خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال ، فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل ، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل ، فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا ، وقال سعيد : فيكون لكل قوم رأي ، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا . قال : فزجره عمر وانتهره علي فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته . فأعاد عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه .

وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق ، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها ، فلم يتعد ذلك فيها ، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً . فذهب كل إنسان مذهباً لا يذهب إليه الآخر ، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب ، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات ، فلم يكن بد من الأخذ ببادىء الرأي ، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئاً ، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلوا وأضلوا .

ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعاً : كيف رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين . فسر سعيد بن جبير من ذلك ، فقال : مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ويقرنون معها : "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ، ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ، فهؤلاء مشركون خرجوا على الأمة يقتلون ما يرونه مخالفاً لهم لأنهم يتأولون هذه الآية . فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس ، وهو الناشىء عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن .

فإن قيل : فرضت الاختلاف المتكلم عنه في واسطة بين طرفين . فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما . فلم تفعل . بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال . ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذي لا يضير ، وهو الاختلاف في الفروع .

فالجواب عن ذلك : أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا . أما الجهة الأخرى ، فإن عدم ذكرهم في هذه الآمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول ، وإلا فلو كان ملحقاً لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة . ولا أخبر الشارع به . ولا نبه السلف الصالح عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد [ما ] كانوا مفارقين لها لم نقل : اتفقت الأمة بعد اختلافها . كذلك لا نقول : اختلفت الأمة . وافترقت الأمة بعد اتفاقها . أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام . وإنما يقال : افترقت وتفترق الأمة . إذا كان الافتراق واقعاً فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة . ولذلك " قال رسول الله في الخوارج : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ثم قال : "وتتمارى في الفوق " وفي رواية :

"فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة : هل علق بها من الدم شيء" و"التمارى في الفوق "فيه هل فيه فرث ودم أم لا ؟ شك بحسب التمثيل : هل خرجوا من الإسلام حقيقة؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلاً .

وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى . ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم . والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ، ألا ترى إلى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج ؟ وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى : "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" ، فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم علي ولا قاتلهم ، ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام :

"من بدل دينه فاقتلوه" ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم ، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين .

وأيضاً ، فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين ، وعمر بن عبد العزيز أيضاً لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه ، ولم يعاملهم معاملة المرتدين .

ومن جهة المعنى ! إنا وإن قلنا : إنهم متبعون الهوى ، ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ، ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفاراً ، إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عناداً ، وهو كفر . وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها ، وبلغ فيها مبلغاً يظن به أنه مبتع للدليل يمثله ، لا يقال : إنه صاحب هوى بإطلاق . بل هو متبع للشرع في نظره لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة .

وأيضاً ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجماعة من مطلب واحد ، وهو الانتساب إلى الشريعة . ومن أشد مسائل الخلاف ـ مثلاً ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها ، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة . وإنما وقع اختلافهم في الطريق ، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معاً ، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع ؟

وأيضاً ، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده ، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان ، وإن كان الغالب عدم الرجوع ، كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة .

حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي ، جعل يأتيه الرجل فيقول : يا أمير المؤمنين ! إن القوم خارجون عليك ، قال : دعهم حتى يخرجوا . فلما كان ذات يوم قلت : يا أمير المؤمنين ! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ فدخلت عليهم وهو قائلون ، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر ، قد أثر السجود في جباههم ، كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قمص مرخصة فقالوا : ما جاء بك با بن عباس ؟ وما هذه الحلة عليك ؟ ـ قال ـ قلت : ما تعيبون من ذلك ؟ فلقد رأيت رسول الله وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ ثم قرأت هذه الآية : "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " فقالوا :ما جاء بك ؟ قال : جئتكم من عند أصحاب رسول الله ، وليس فيكم منهم أحد ، ومن عند ابن عم رسول الله ، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله ، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغكم عنكم ، فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول : "بل هم قوم خصمون " فقال بعضهم : بلى ! فلنكلمه ـ قال ـ فكلمني منهم رجلان ، أو ثلاثة ـ قال ـ قلت ماذا نقمتم عليه ؟ قالوا : ثلاثاً . فقلت : ما هن ؟ قالوا : حكم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى : "إن الحكم إلا لله" ـ قال ـ هذه واحدة ، ماذا أيضاً ؟ قالوا : فإنه قاتل فلم سب ولم يغنم ، فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ، ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم ـ قال ـ قلت : وماذا أيضاً ؟ قالوا : ومحا نفسه من إمرة المؤمنين ، فإن لم يكن امير المؤمنين فهو أمير الكافرين ـ قال ـ قلت أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم هذا ، أترجعون ؟ قالوا :وما لنا لا نرجع ؟

قال ـ قلت ـ أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه : "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم " وقال في المرأة وزوجها : "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " فصير الله ذلك إلى حكم الرجال ، فناشدتكم الله ! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم ؟ وفي بضع امرأة ؟ قالوا : بلى ! هذا أفضل : قال : أخرجتم من هذه ؟ قالوا : نعم !

قال وأما قولكم : قاتل ولم سب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة ؟ فإن قلتم ، نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها . فقد كفرتم ، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم ، فأنتم ترددون بين ضلالتين ، اخرجتم من هذه ؟ قالوا : بلى !

قال : وأما قولكم : محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون "إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو ، قال رسول الله  : اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو : ما نعلم أنك رسول الله ، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك . قال رسول الله : اللهم إنك تعلم أني رسولك ، يا علي اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو قال : فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون" .

فصل حديث تفرق الأمة[عدل]

صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وخرجه الترمذي هكذا .

وفي رواية أبي داود قال :

"افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" .

وفي الترمذي تفسير هذا ، ولكن بإسناد غريب عن غير أبي هريرة رضي الله عنه ، فقال في حديث :

"وإن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي" .

وفي سنن أبي داود :

"وأن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، اثنتان وسبعين في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة " وهي بمعنى الرواية التي قبلها ، إلا أن هنا زيادة في بعض الروايات : "وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" .

وفي رواية عن ابن أبي غالب موقوفاً عليه :

"إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة تزيد عليهم فرقة ، كلها في النار إلا السواد الأعظم" وفي رواية مرفوعاً :

"ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال " .

وهذا الحديث بهذه الرواية الأخيرة قدح فيه ابن عبد البر لأن ابن معين قال : إنه حديث باطل لا أصل له . شبه فيه على نعيم حماد ، قال بعض المتأخرين : إن الحديث قد روي عن جماعة من الثقات ، ثم تكلم في إسناده بما يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد البر ، ثم قال : وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون ـ يعني ابن معين ـ قد اطلع منه على علة خفية .

وأغرب من هذا كله رواية رأيتها في جامع ابن وهب .

"إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة وستفترق أمتي على اثنتين وثمانين ملة ، كلها في النار إلا واحدة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : ـ الجماعة" .

فإذا تقرر هذا تصدى النظر في الحديث في مسائل :

المسالة الأولى في حقيقة هذا الافتراق[عدل]

وهو يحتمل أن يكون افتراقاً على ما يعطيه مقتضى اللفظ ، ويحتمل أم يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه ولكن يحتمله ، كما كان لفظ الرقبة بمطلقها لا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة ،لكن اللفظ يقبله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق ، بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد ، لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ ، وذلك باطل بالإجماع ، فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية ، وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين ، ثم في سائر الصحابة ، ثم التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم ، وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف . فكيف أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث ؟ وإنما يراد افتراق مقيد ، وإن لم يكن في الحديث نص عليه ، ففي الآيات مما يدل عليه قوله تعالى : "ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون" وقوله تعالى :"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " وما أشبه ذلك الآيات الدالة على التفرق الذي صاروا به شيعاً ، ومعنى صاروا شيعاً أي جماعات بعضهم قد فارق البعض ، ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر ، بل على ضد ذلك ، فإن الإسلام واحد وأمره واحد ، فاقتضى أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف .

وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء ، ولذلك قال :

"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" فبين أن التأليف إنما يحصل عند الاتئلاف على التعلق بمعنى واحد ، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلا بد من التفرق ، وهو معنى قوله تعالى : "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" .

وإذا ثبت هذا نزل عليه لفظ الحديث واستقام معناه والله أعلم .

المسألة الثانية إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العدواة والبغضاء ، فإما أن يكون راجعاً إلى أمر هو معصية غير بدعة

إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العدواة والبغضاء ، فإما أن يكون راجعاً إلى أمر هو معصية غير بدعة ، ومثاله أن يقع بين أهل الإسلام افتراق بسبب دنيوي ، كما يختلف مثلاً أهل قرية مع قرية أخرى بسبب تعد في مال أو دم ، حتى تقع بينهم العدواة فيصيروا حزبين ، أو يختلفون في تقديم وال أو غير ذلك فيفترقون ، ومثل هذا محتمل ، وقد يشعر به .

"من فارق الجماعة قيد شبر فميتته جاهلية " وفي مثل هذا جاء في الحديث :

"إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما" وجاء في القرآن الكريم : "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" إلى آخر القصة .

وأما أن يرجع إلى أمر هو بدعة ، كما افترق الخوارج من الأمة ببدعهم التي ينوا عليها في الفرقة ، وكالمهدي المغربي الخارج عن الأمة نصراً للحق في زعمه ،فابتدع أموراً سياسية وغيرها خرج بها عن السنة ـ كما تقدمت الإشارة إليه قبل ـ وهذا هو الذي تشير إليه الآيات المتقدمة والأحاديث ، لمطابقتها لمعنى الحديث . وأما أن يراد المعنيان معاً .

فأما الأول ، فلا أعلم قائلاً به ، وإن كان ممكناً في نفسه ، إذ لم أر أحداً خص هذه بما إذا افترقت الأمة بسبب أمر دنيوي لا بسبب بدعة ، وليس ثم دليل يدل على التخصيص ، لأن قوله عليه الصلاة والسلام : "من فارق الجماعة قيد شبر"الحديث ، لا يدل على الحصر . وكذلك : "إذ بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما" ، وقد اختلف الفرقة في المراد بالجماعة المذكورة في الحديث حسبما يأتي ، فلم يكن منهم قائل بأن الفرقة المضادة للجماعة هي فرقة المعاصي غير البدع على الخصوص .

وأما الثاني : وهو أن يراد المعنيان معاً ، فلذلك أيضاً ممكن ، إذ الفرقة المنبه عليها قد تحصل بسبب أمر دنيوي لا مدخل فيها للبدع وإنما هي معاص ومخالفات كسائر المعاضي ، وإلى هذا المعنى يرشد قول الطبري في تفسير الجماعة ـ حسبما يأتي بحول الله ـ ويعضده حديث الترمذي :

"ليأتين على أمتي من يصنع ذلك" ( ؟ ) فجعل الغاية في اتباعهم ما هو معصية كما ترى .

وكذلك في الحديث الآخر :

"لتتبعن سنن من كان قبلكم ـ إلى قوله ـ حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لاتبعتموهم" فجعل الغاية ما ليس ببدعة .

وفي معجم البغوي عن جابر رضي الله عنه "أن النبي قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه : أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء ـ قال : وما إمارة السفهاء ؟ ـ قال أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ، ولا يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ، ولست منهم ، ولا يردون علي الحوض ، ومن لم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم ، ويردون علي الحوض" الحديث .

وكل من لم يهتد بهيده ولا يستن بسنته فإما إلى بدعة أو معصية . فلا اختصاص بأحدهما ، غير أن الأكثر في نقل أرباب الكلام ، وغيرهم أن الفرقة المذكورة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص ، وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء ، ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست بدع ، وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله .

المسألة الثالثة : إن هذه الفرق يحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة

إن هذه الفرقة تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا .

فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق ، وليس ذلك إلا لكفر ، إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور .

ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة ، كقوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء" وهي آية نزلت ـ عند المفسرين ـ في أهل البدع ، ويوضحه من قرأ : "إن الذين فرقوا دينهم" والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه ، وقوله : "فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم" الآية وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع ، وهذا كالنص ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " وهذا نص في كفر من قبل ذلك فيه ، وفسره الحسن بما تقدم في قوله

" ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً" الحديث ، وقوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج  :

" دعه فإن له أًصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ـ وهو القدح ـ ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء من الفرث والدم" فانظر إلى قوله : "من الفرث والدم" فهو الشاهد على أنهم دخلوا في الإسلام فلا يتعلق بهم منه شيء .

وفي رواية أبي ذر رضي الله عنه :

"سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة" إلى غير ذلك من الأحاديث ـإنما هي قوم بأعيانهم ، فلا حجة فيها على غيرهم ، لأن العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء ، كما استدلوا بالآيات .

وأيضاً ، فالآيات إن دلت بصيغ عمومها فالأحاديث تدل بمعانيها لاجتماع الجميع في العلة .

فإن قيل : الحكم بالكفر والإيمان راجع إلى حكم الآخرة ، والقياس لا يجري فيها . فالجواب : إن كلاً منا في الأحكام الدنيوية ، وهل يحكم لهم بحكم المرتدين أم لا ؟ وإنما أمر الآخرة لله ، لقوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون" .

ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة ، وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله .

ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل ، فلا فائدة في الإعادة .

ويحتمل وجهاً ثالثاً ، وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام لكن مقالته كفر وتؤدي معنى الكفر الصريح ، ومنهم من لم يفارقه ، بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقالة وشنع مذهبه ، لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح .

ويدل على ذلك الدليل بحسب كل نازلة ، وبحسب كل بدعة ، إذ لا شك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة وإنكار الإجماع وإنكار القياس وما أشبه ذلك .

ولقد فصل بعض المتأخرين في التكفير تفصيلاً في هذه الفرق ، فقال : ما كان من البدع راجعاً إلى اعتقاد وجود إله مع الله ، كقوله السبئية في علي رضي الله عنه إنه إله أو خلق الإله في بعض أشخاص الناس كقول الجناحية : إن الله تعالى له روح يحل في بعض بني آدم ، ويتوارث أو إنكار رسالة محمد كقول الغرابية : إن جبريل غلط في الرسالة فأذاها إلى محمد ، وعلي كان صاحبها أو استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات ، وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر الغلا ة من الشيعة ، مما لا يختلف المسلمون في التكفير به ، وما سوى ذلك من المقالات فلا يبعد أن يكونوا معتقدها غير كافر .

واستدل على ذلك بأمور كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ولكن الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول إن الكفر بالمآل ، ليس بكفر في الحال كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار ويرمي مخالفة به تبني له وجه لزوم الكفر من مقالته لم يقل بها على حال .

وإذا تقرر نقل الخلاف فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذي نحن بصدده من هذه المقالات .

أما ما صح منه فلا دليل على شيء ، لأنه ليس فيه إلا تعديد الفرق خاصة . وأما على رواية من قال في حديثه :

"كلها في النار إلا واحدة" فإنما يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهراً ، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه ، فلا دليل فيه على شيء مما أردنا ، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة ، وإن تبايناً في التخليد وعدمه .

المسألة الرابعة إن هذه الأقوال المذكورة آنفاً مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة

إن هذه الأقوال المذكورة آنفاً مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص ، كالجبرية والقدرية والمرجئة وغيرها وهو مما ينظر فيه . فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص ، وهو رأي الطرطوشي ، إفلا ترى إلى قوله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ " و ما في قوله تعالى : "ما تشابه" لا تعطى خصوصاً في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها ، بل الصيغة تشمل ذلك كله ، فالتخصيص تحكم .

وكذلك قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " فجعل ذلك التفريق في الدين ، ولفظ الدين ، ويشمل العقائد وغيرها ، وقوله : "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم ، وشبه ما تقدم في السورة من تحريم ما ذبح لغير الله لغير الله وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره ، وإيجاب الزكاة ، كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق .

ثم قال تعالى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " فذكر أشياء من القواعد وغيرها ، فابتدأ بالنهي عن الإشتراك ، ثم الأمر ببر الوالدين ، ثم النهي عن قتل الأولاد ، ثم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ثم عن قتل النفس بإطلاق ، ثم عن أكل مال اليتيم ، ثم الأمر بتوفية الكيل والوزن ، ثم العدل في القول ، ثم الوفاء بالعهد .

ثم ختم ذلك بقوله : "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" .

فأشار إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية ، ولم يخص ذلك بالعقائد ، فدل على أن إشارة الحديث لا تختص بها دون غيرها .

وفي حديث الخوارج ما يدل عليه أيضاً فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالهم ، وقال في جملة ما ذمهم به :

"يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات ، كما قالوا : حكم الرجال في دين الله ، والله بقول : "إن الحكم إلا لله" .

وقال أيضاً :

"ويقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" فذمهم بعكس ما عليه الشرع ، لأن الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين ، وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد .

فدل على أن الأمر على العموم لا على الخصوص فيما رواه نعيم بن حماد في هذا الحديث :

" أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" وهذا نص في أن ذلك العدد لا يختص بما قالوا من العقائد .

واستدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسار العلماء من تسيتهم الأقوال والأفعال بدعاً إذا خالفت الشريعة ، ثم أتى بآثار كثيرة كالذي رواه مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا لنداء بالصلاة . يعني بالناس الصحابة ، وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره ، ورآها مخالفة لأفعال الصحابة .

وكذلك أبو الدراداء سأله رجل فقال : رحمك الله لو أن رسول الله بين أظهرنا هلة ينكر شيئاً مما نحن عليه ؟ فغضب واشتد غضبه ، ثم قال : وهل يعرف شيئاً مما أنتم عليه ؟

وفي البخاري عن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدرداء مغضباً فقلت له : ما لك ؟ فقال : والله ما اعرف منهم من أمر محمد أنهم يصلون جميعاً . وذكر جملة من أقاويلهم في هذا المعنى مما يدل على أن مخالفة السنة في الأفعال قد ظهرت .

وفي مسلم قال مجاهد : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة ، وإذا ناس في المسجد يصلون الضحى ، فقلنا : ما هذه الصلاة ؟ فقال : بدعة .

قال الطرطوشي  : فحمله عندنا على أحد وجهين : إنا أنهم يصلونها جماعة ، وإما أفذاذاً على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض . وذكر أشياء من البدع القولية مما نص العلماء على أنها بدع . فصح أن البدع لا تختص بالعقائد . وقد تقررت هذه المسألة في كتاب الموافقات بنوع آخر من التقرير .

نعم ثم معنى آخر ينبغي أن يذكر هنا . وهي :

المسألة الخامسة أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً لخلافها للفرقة الناجية

وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة ، لا في جزئي من الجزئيات ، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً ، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية ، لأن الكليات تقتضي عدداً من الجزئيات غير قليل ، وشاذها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا بباب دون باب .

واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلي ، فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافاً في فروع لا تنحصر ، ما بين فروع عقائد وفروع أعمال .

ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات ، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة ، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً ، وأما الجزئي فبخلاف ذلك ، بل بعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة ، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين ، حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون . ولكن إذا قرب موقع الزلة لم يحصل بسببها تفرق في الغالب ولا هدم للدين . بخلاف الكليات .

فأنت ترى موقع اتباع المتشابهات كيف هو في الدين إذا كان اتباعاً مخلاً بالواضحات . وهي أم الكتاب . وكذلك عدم تفهم القرآن موقع في الإخلال بكلياته وجزئياته .

وقد ثبت أيضاً للكفار بدع فرعية . ولكنها في الضروريات وما قاربها . كجعلهم لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، ولشركائهم نصيباً ثم فرعوا عليه أن ما كان لشركائهم فلا يصل إلى اله ، وما كان لله وصل إلى شركائهم . وتحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وقتلهم أولادهم سفهاً بغير علم ، وترك العدل في القصاص والميراث ، والحيف في النكاح والطلاق ، وأكل مال اليتيم على نوع من الحيل ، إلى أشباه ذلك مما نبه عليه الشرع وذكره العلماء ، حتى صار التشريع ديدناً لهم ، وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام سهلاً عليهم ، فأنشأ ذلك أصلاً مضافاً إليهم وقاعدة رضوا بها ، وهي التشريع المطلع لا الهوى ، ولذلك لما نبههم الله تعالى على إقامة الحجة عليهم بقوله تعالى : "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين" قال فيها : "نبئوني بعلم إن كنتم صادقين" فطالبهم بالعلم الذي شأنه أن لا يشرع إلا حقاً وهو علم الشريعة لا غيره ، ثم قال تعالى : "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا" تنبيهاً لهم على أن هذا ليس مما شرعه في ملة إبراهيم : ثم قال : "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم" فثبت أن هذه الفرق إنما افترقت بحسب أمور كلية اختلفوا فيها والله أعلم .

المسألة السادسة إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار

إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار ـ على قول من قال به ـ أو ينقسمون إلى كافر وغيره فكيف يعدون من الأمة ؟ وظاهر الحديث يقتضي أن ذلك الافتراق إنما هو مع كونهم من الأمة ، وإلا فلو خرجوا من الأمة إلى الكفر لم يعدوا منها البتة ـ كما تبين : ـ

وكذلك الظاهر في فرق اليهود والنصارى ، إن التفرق فيهم حاصل مع كونهم هودا ونصارى ؟

فيقال في الجواب عن هذا السؤال : إنه يحتمل أمرين :

أحدهما : أنا نأخذ الحديث على ظاهره في كون هذه الفرق من الأمة ، ومن أهل القبلة ، ومن قيل بكفره منهم ، فإما أن يسلم فيهم هذا القول فلا يجعلهم من الأمة أصلاً ولا أنهم مما يعدون في الفرق ، وإنما نعد منهم من لا تخرجه بدعته إلى كفر ، فإن قال بتكفيرهم جميعاً ، فلا يسلم أنهم المرادون بالحديث على ذلك التقدير ، وليس في حديث الخوارج نص على أنهم من الفرق الداخلة في الحديث ، بل نقول : المراد بالحديث فرق لا تخرجهم بدعهم عن الإسلام ، فليبحث عنهم .

وإما أن لا نتبع المكفر في إطلاق القول بالتكفير ، ونفصل الأمر إلى نحو مما فصله صاحب القول الثالث ، ويخرج من العدد من حكمنا بكفره ، ولا يدخل تحت عمومه إلا ما سواه مع غيره ممن لم يذكر في تلك العدة .

والإحتمال الثاني : أن نعدهم من الأمة على طريقة لعلها تتمشى في المواضع ، وذلك أن كل فرقة تدعي الشريعة ، وأنها على صوبها ، وأنها المتبعة للمتبعة لها ، وتتمسك بأدلتها ، وتعمل على ما ظهر لها من طريقها ! وهي تناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها ، وترمي بالجهل وعدم العلم من ناقضها . لأنها تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره . وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام ، لأن المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقر به ورضيه ولم يسخطه ، ولم يعادل لتلك النسبة ، كسائر اليهود والنصارى ، وأرباب النحل المخالفة للإسلام .

بخلاف هؤلاء الفرق فإنهم مدعون الموالفة للشارع والرسوخ في اتباع شريعة محمد رسول الله ، فإنما وقعت العداوة بينهم وبين أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الخروج عن السنة ، ولذلك تجدهم مبالغين في العمل والعبادة ، حتى بعض أشد الناس عبادة مفتون .

والشاهد لهذا كله ـ مع اعتبار الواقع ـ حديث الخوارج ، فإنه قال عليه الصلاة والسلام : "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم" ، وفي رواية :

"يخرج من أمتي قوم يقرؤون القرآن ، ليست قراءتكم من قراءتهم بشيء ولا صلاتكم من صلاتهم بشيء" وهذه شدة المثابرة على العمل به ، ومن ذلك قولهم كيف يحكم الرجال والله يقول : "إن الحكم إلا لله" ؟ ففي ظنهم أن الرجال لا يحكمون بهذا الدليل ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : "يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم" .

فقوله عليه الصلاة والسلام : "يحسبون أنه لهم " واضح فيما قلنا ، ثم إنهم يطلبون اتباعه بتلك الأعمال ليكونوا من أهله ، وليكون حجة لهم ، فحين ابتغوا تأويله وخرجوا عن الجادة كان عليهم لا لهم .

وفي معنى ذلك من قول "ابن مسعود قال : وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتعمق ، عليكم بالعتيق" فقوله :" يزعمون " كذا . دليل على أنهم على الشرع فيما يزعمون .

ومن الشواهد أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه : "أن رسول الله خرج إلى المقبرة فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ! وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أني قد رأيت إخواننا ـ قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ؟ ـ قال : بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطكم على الحوض قالوا : يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك ؟ قال : أرأيت لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ، ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض ، فيذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم : ألا هلم ألا هلم ! فيقال ، قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقاً فسحقاً فسحقاً" .

فوجه الدليل من الحديث أن قوله : "فيلذادن رجال عن حوضي" إلى قوله : "أناديهم ألا هلم" مشعر بأنهم من أمته . وأنه عرفهم ، وقد بين أنهم يعرفون بالغرر والتحجيل ، فدل على أن هؤلاء الذين دعاهم وقد كانوا بدلوا ذوو غرر وتحجيل ، وذلك من خاصية هذه الأمة . فبأن أنهم معدودن من الأمة ولو حكم لهم بالخروج من الأمة لم يعرفهم رسول الله بغرة أو تحجيل لعدمه عندهم .

ولا علينا أقلنا : إنهم خرجوا ببدعتهم عن الأمة أو لا ، إذ أثبتنا لهم وصف الأنحياش إليها .

وفي الحديث الآخر :

"فيؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ،فأقول : يا رب أصحابي ! قال : فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح : "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم" إلى قوله : "العزيز الحكيم" ـ قال ـ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" .

فإن كان المراد بالصحابة الأمة ، فالحديث موافق لما قبله :

"بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد" فلا بد من تأويله على أن الأصحاب يعني بهم من آمن بي في حياته وإن لم يره ، ويصدق لفظ المرتدين على أعقابهم بعد موته ، أو مانعي الزكاة تأويلاً على أن أخذها إنما كان لرسول الله وحده ، فإن عامة أصحابه رأوه وأخذوا عنه براءة من ذلك .

المسألة السابعة في تعيين هذه الفرق

وهي مسألة ـ كما قال الطرطوشي ـ طاشت فيها أحلام الخلق ، فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها لكن في الطرائف التي خالفت في مسائل العقائد فمنهم من عد أصولها ثمانية ، فقال : كبار الفرق الإسلامية ثمانية : ( 1 )المعتزلة و ( 2 ) الشيعة ، و ( 3 ) الخوارج ، و ( 4 ) المرجئة ، و ( 5 ) النجارية ، و ( 6 ) الجبرية و ( 7) المشبهة ، و( 8 ) الناجية .

فأما المعتزلة فافترقوا إلى عشرين فرقة وهم : الواصلية ، والعمرية ، والهذيلية ، والنظامية . والأسوارية . والإسكافية . والجعفرية . والبشرية . والمزدارية . والهشامية . والصالحية . والخطابية . والحدبية . والمعمرية . والثمامية . والخياطية . والجاحظية . والكعبية . والجبائية . والبهشمية .

وأما الشيعة فانقمسوا أولاً ثلاث فرق : غلاة . وزيدية . وإمامية .

فالغلاة ثمان عشرة فرقة وهم : السبئية . والكاملية . والبيانية . والمغيرية . والجناحية . والمنصورية . والخطابية . والغرابية . والذمية . والهشامية . والزرارية . واليونسية . والشيطانية . والرزامية . والمفوضة . والبدائية . والنصيرية . والإسماعيلية وهم : الباطنية . والقرمطية . والخرمية . والسبعية . والبابكية . والحمدية .

وأما الزيدية فهم ثلاث فرق : الجارودية ، والسليمانية ، والبتيرية .

وأما الإمامية ففرقة واحدة ، فالجميع اثنتان وأربعون فرقة .

وأما الخوارج فسبع فرق ، وهم : المحكمة ، والبيهسية ، والأزارقة ، والنجدات . والعبدية . والأباضية وهم أربع فرق : الحفصية ، واليزيدية ، والحارثية ، والمطيعية .

وأما العجاردة فإحدى عشرة فرقة وهم : الميمونة ، والشعيبية ، والحازمية ، والحمزية ، والمعلومية ، والمجهولية ، والصلتية ، والثعلبية أربع فرق وهم : الأخنسية ، والمعبدية ، والشيبانية ، والمكرمية ، فالجميع اثنتان وستون .

وأما المرجئة فخمس وهم : العبيدية ، واليونسية ، والغسانية ، والثوبانية ، والثومنية .

وأما النجارية فثلاث فرق وهم : البرغوثية ، والزعفرانية ، والمستدركة .

وأما الجبرية ففرقة واحدة ، وكذلك المشبهة .

فالجميع اثنتان وسبعون فرقة ، فإذا أصبغت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثاً وسبعين فرقة .

وهذا التعديد بحسب ما اعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح ، لا على القطع بأنه المراد ، إذ ليس على ذلك دليل شرعي ، ولا دل العقل أيضاً على إنحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان ، كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع وقال جماعة من العلماء : أصول البدع أربعة ، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا ، وهم : الخوارج ، والرواقض ، والقدرية ، والمرجئة .

قال يوسف بن أسباط : ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشرة فرقة : فتلك اثنتان وسبعون فرقة ، والثالثة والسبعون هي الناجية .

وهذا التقدير نحو الأول ، ويرد عليه من الإشكال ما ورد على الأول .

فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمه الله شرحاً يقرب الأمر ، فقال : لم يرد علماؤنا بهذا التقدير أن أصل كل بدعة من هذه الأربع تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حتى تحملت تلك العدة ، لأن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن . قال  : وإنما أرادوا أن كل بدعة ضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الفرق الأربع ، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعاً للأولى ولا شعبة من شعبها ، بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الأولى بسبيل .

ثم بين ذلك بالمثال بأن التقدير أصل من أصول البدع ، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر ، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر ، فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لهم من دون الله تعالى .

ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر . فقال أكثرهم : لا يكون فعل بين فعلين مخلوقين على التولد . أحال مثله بين القديم والمحدث .

ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة . كاختلافهم في الصلاح والأصلح : فقال البغداديون منهم : يجب على الله تعالى فعل الصلاح لعباده في دينهم .

ويجب عليه ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم . ويجب عليه إكمال عقولهم وإقدارهم وإزاحة عللهم .

وقال البصريون منهم : لا يجب على الله إكمال عقولهم ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف .

وقال البغداديون منهم : يجب على الله ـ تعالى عن قولهم ـ عقاب العصاة إذا لم يتوبوا . والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر .

وأما المضربون منهم ذلك .

أحد الموطنين اللذين يجوز فيهما ذكر الفرق بأسمائها

وابتدع جعفر بن مبشر من استصر ( ؟ ) امرأة ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضى ولا عقد حل له ذلك . وخالفه في ذلك سلفه .

وقال ثمامة بن أشرس : إن الله يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين تراباً يوم القيامة لا يعذبهم ولا يعرضهم .

وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعاً تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها . وبدعاً لا تعلق لها بها .

فإن كان رسول الله أراد بتفرق أمته أصول البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع . والمعاقد للفروع لعلهم ـ والعلم عند الله ـ ما بلغن هذا العدد إلى الآن . غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة . وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع ؟

وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعاً لأجناس ، أو كانت متغايرة الأصول والمباني .

فهذا هو الذي أراده عليه الصلاة والسلام ـ والعلم عند الله ـ فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين .

ووجه تصحيح الحديث على هذا ، أن تخرج من الحساب غلاة أهل البدع ، ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة ، كنفاة الأعراض من القدرية لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض ، وكالحلولية والنصيرية وأشباههم من الغلاة .

هذا ما قال الطرطوشي رحمه الله تعالى ، وهو حسن من التقرير ، غير أنه يبقى للنظر في كلامه مجلان :

أحدهما : أن ما اختار . من ليس المراد الأجناس فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية فمشكل ، لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدع كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة ، فلا تقف في مائة ولا مائتين ، فضلاً عن وقوعها في اثنتين وسبعين ، وأن البدع ـ كما قال ـ لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة .

وقد مر من النقل ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قول ابن عباس : ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن . وهذا موجود في الواقع ، فإن البدع قد نشأت إلى الآن ولا تزال تكثر ، وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين في العقائد كلها ، لكان الذي يبقى أكثر من اثنتين وسبعين فما قاله ـ والله أعلم ـ غير مخلص .

والثاني : أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد ، بخلاف القول المتقدم ،وهو أصح في النظر ، لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل ، والعقل لا يقتضيه . وأيضاً فالمنازع له أن يتكلف من مسائل الخلاف التي بين الأشعرية في قواعد العقائد فرقاً يسميها ويبرىء نفسه وفرقته عن ذلك المحظور . فالأولى ما قاله من عدم التعيين . وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فلا ينبغي التعيين .

أما أولاً : فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها ، ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتضى الحديث مرجى ، وإنما ورد التعيين في النادر كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج :

"إن من ضئضىء هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" الحديث ، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق . وهذا الفصل مبسوط في كتاب الموافقات والحمد لله .

وأما ثانياً : فلأن عدم التعيين هو الذين ينبغي أن يلتزم ليكون ستراً على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب ، وأمرنا بالستر على المؤمنين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف ، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلاً أصبح وعلى بابه معصية مكتوبة ، وكذلك في شأن قربانهم : فإنهم كانوا إذا قربوا لله قرباناً فإن كان مقبولاً عند الله نزلت نار من السماء فأكلته ، وإن لم يكن مقبولاً لم تأكله النار ، وفي ذلك افتضاح المذنب . ومثل ذلك في الغنائم أيضاً ، فكثير من هذه الأشياء خصت هذه الأمة بالستر فيها .

وأيضاً ، فللستر حكمة أخرى ، وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها ، حيث قال تعالى : "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" وقال تعالى : "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم" وقال تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" وفي الحديث :

"لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً" ، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين .

فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة ، لزم من ذلك أن يكون منهياً عنه ، إلا أن تكون البدعة فاحشة جداً كبدعة الخوارج ، وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد ، وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى .

وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة قال :

"كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة فيقولون : قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك . فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال : يا سلمان! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله ؟ فقال : إن رسول الله كان يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى : أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال ورجالاً بغض رجال . وحتى توقع اختلافاً وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله خطب فقال : أيما رجل سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني الله رحمة للعالمين إجعلها عليهم صلاة يوم القيامة . فوالله لتنتهين أو أكتبن إلى عمر" .

فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي الله عنه ! وهو جار في مسألتنا ، فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول : هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان ! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده ، اللهم إلا في موطنين :

أحدهما : حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج ، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق ، ويجري مجراهم من سلك سبيلهم ، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي المغربي ، فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبي بهما في الخوارج من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقهوا فيه ، ولا عرفوا مقاصده . ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها ، مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنة على الوجه الذي ينبغي ، وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد ، زعموا عليهم أنهم مجسمون وأنهم غير موحدين ، وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين لهم وغيرهم .

فقد اشتهر في الأخبار والآثار ما كان من خروجهم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى من بعده كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيرهم ، حتى لقد روي في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ، ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الأذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا : ما جاء بك يا عدو الله ؟ قال : ما أنتم يا إخوتي ؟ قالوا : أنت أخو الشيطان ، لنقتلنك . قال . ما ترضون مني بما رضي به رسول الله ؟ قالوا : وأي شيء رضي به منك ؟ قال : أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله فخلى عني ـ قال ـ فأخذوه فقتلوه .

وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه ، وقد جاء في القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمرو رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : "القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" .

وعن حذيفة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال :

ثاني الموطنين اللذين يجوز فيهما ذكر الفرق بأسمائها

"لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازتهم ومن مرض منهم فلا تعودوه ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال" وهذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل . قال صاحب المغني : لم يصح في ذلك شيء . نعم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر حين أخبره أ ن القول بالقدر قد ظهر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني ، ثم استدل :

بحديث جبريل ـ صحيح لا إشكال في صحته .

خرج أبو داود أيضاً من حديث عمر رضي الله عنه ، عن النبي  : " لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم" ولم يصح أيضاً .

وخرج ابن وهب عن زيد بن علي قال :

"قال رسول الله  : صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام يوم القيامة : المرجئة والقدرية" ، و" عن معاذ بن جبل وغيره يرفعه قال : لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً آخرهم محمد ". وعن مجاهد بن جبر :

"أن رسول الله قال : سيكون من أمتي قدرية وزنديقية أولئك مجوس " .

وعن نافع قال : بينما نحن عند عبد الله بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال : إن فلاناً يقرأ عليك السلام ـ لرجل من أهل الشام ـ فقال عبد الله : بلغني أنه قد أحدث حدثاً ، فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه السلام . سمعت رسول الله يقول : " سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية" .

وعن ابن الديلمي قال : اتينا أبي كعب فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله يذهبه من قلبي فقال : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لدخلت النار . قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال لي مثل ذلك . قال : ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك . وفي بعض الحديث :

" لا تكلموا في القدر فإنه سر الله " وهذا كله أيضاً غير صحيح .

وجاء في المرجئة والجهمية شيء لا يصح عن رسول الله ، فلا تعديل عليه .

نعم نقل المفسرون أن قوله تعالى : "يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر*إنا كل شيء خلقناه بقدر" نزل في أهل القدر . فروى عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :

أتى مشركوا قريش إلى النبي يخاصمونه في القدر فنزلت الآية . وروى مجاهد وغيره أنها نزلت في المكذبين بالقدر ، ولكن إن صح ففيه دليل ، وإلا فليس في الآية ما يعين أنهم من الفرق ، وكلامنا فيه .

والثاني : حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده ، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس ، وهم من شياطين الإنس ، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم . كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره . فروى عاصم الأحوال . قال : جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال منه . فقلت : أبا الخطاب : ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض ؟ فقال : يا أحول أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تحذر ؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد ، وما رأيت من نسكه وهديه ، فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله . فقلت : سبحان الله ! تحك آية من كتاب الله ؟ قال إني سأعيدها . قال : فتركته حتى حكها . فقلت له : أعدها . فقال : لا أستطيع .

فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم ، لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا ، أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعدواة . ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم ـ إذا أقيم ـ عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم ، وإذا تعارض الضرران يركتب أخفهما وأسهلهما ، وبعض الشر أهون من جميعه ، كقطع اليد المتآكلة ، إتلافها أسهل من إتلاف النفس . وهذا شأن الشرع أبداً : يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل .

فإذا فقد الأمران فلا ينبغي أن يذكروا لأن يعنيوا وإن وجدوا ، لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء ، ومتى حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ، ولم يره أنه خارج من السنة ، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي ، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا . فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة فهو الحج ، وبهذه الطريقة دعي الخلق أولاً إلى الله تعالى ، حتى إذا عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك .

قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ،حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة . ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء ، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستفزاً في قلب مجنون فضلاً عن قلب عاقل .

هذا ما قال . وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك . والله أعلم .

المسألة الثامنة أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها ، وهي على قسمين :

علامات إجمالية ، وعلامات تفصيلية .

فأما الإجمالية فثلاث .إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا

أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها ، وهي على قسمين :

علامات إجمالية ، وعلامات تفصيلية .

فأما العلامات الإجمالية فثلاث .

إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" وقوله تعالى : "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" روى ابن وهب عن إبراهيم النخعي أنه قال : هي الجدال والخصومات في الدين ، وقوله تعالى : "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : "إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وصدق الحديث" .

وهذا التفريق ـ كما تقدم ـ إنما هو الذي يصير الفرقة الواحدة فرقاً والشيعة الواحدة شيعاً .

قال بعض العلماء : صاروا فرقاً لاتباع أهوائهم . وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ، وهو قوله تعالى : "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" ثم برأه الله منهم بقوله :

"لست منهم في شيء" وهم أصحاب البدع وأصحاب الضلالات ، والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله .

قال : ووجدنا أصحاب رسول الله من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يتفرقوا ، ولا صاروا شيعاً لأنهم لم يفارقوا الدين ، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد إلى الرأي ، والإستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصاً ، واختلف في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين ، لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم ، وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد ، وخلافهم في الفريضة المشتركة ، وخلافهم في الطلاق قبل النكاح ، وفي البيوع وغير ذلك فقد اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ، وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة ، فلما حدثت الأهواء المردية ، التي حذر منها رسول الله ، وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعاً ، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه .

قال : كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة ، علمنا أنها من مسائل الإسلام . وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله بتفسير الآية .

وذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت :"قال رسول الله  : يا عائشة "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" من هم ؟ ـ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة" الحديث الذي تقدم ذكره .

قال : فيجب على كل ذي عقل ودين أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى : "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك ، كان لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .

هذا ما قاله . وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف ، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين . وهذه الخاصية قد دل عليها الحديث المتكلم عليه ، وهي موجودة في كل فرقة من الفرق المتضمنة في الحديث .

ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي في قوله : " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" : وأي فرقة توازي هذه الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر ؟ وهي موجودة في سائر من عرف من الفرق أو ادعي ذلك فيهم ، إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت ، لأنها تختلف بالقوة والضعيف .

وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق من الفروع الجزئية باب الفرقة ، فلا بد يجب النظر في هذا كله .

الخاصية الثانية هي التي نبه عليها قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ الآية

هي التي نبه عليها قوله تعالة : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" الآية . فبينت الآية أن أهل الزيغ يتبعون متشابهات القرآن ، وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم . ومعنى المتشابه : ما أشكل معناه ، ولم يبين مغزاه ، سواء كان من المتشابه الحقيقي ـ كالمجمل من الألفاظ وما يظهر من التشبيه ـ أو من المتشابه الإضافي ، وهو ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجي ، وإن كان في نفسه ظاهر المعنى لبادي الرأي ،كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله : "إن الحكم إلا لله" فإنظاهر الآية صحيح على الجملة ، وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان ، وهو ما تقدم ذكره لابن عباس رضي الله عنهما ، لأنه بين أن الحكم لله تارة بغير تحكيم لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله .

وكذلك قولهم : قاتل ولم يسب فإنهم حصروا التحكيم في القسمين وتركوا قسماً ثالثاً وهو الذي نبه قوله تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي" الآية . فهذا قتال من غير سبي ، لكن ابن عباس نبههم على وجه أظهر وهو أن السباء إذا حصل فلا بد من وقوع بعض المقاتلين على أم المؤمنين ، وعند ذلك يكون حكمها حكم السبايا في الانتفاع بها كالسبايا ، فيخالفون القرآن الذي ادعوا التمسك به .

وكذلك في محو الإسم من إمارة المؤمنين ، اقتضى عندهم أنه إثبات لإمارة الكافرين ، وذلك غير صحيح لأن نفي الإسم منها لا يقتضي نفي المسمى .

وأيضاً : فإن فرضنا أنه يقتضي نفي المسمى لم يقتض إثبات إمارة أخرى . فعارضهم ابن عباس بمحو النبي إسم الرسالة من الصحيفة ، معارضة لا قبل لهم بها . ولذلك رجع منهم ألفان ـ أو من رجع منهم ـ .

فتأملوا وجه اتباع المتشابهات ، وكيف أدى إلى الضلال والخروج عن الجماعة ، ولذلك قال رسول الله  :

"فإذا رأيتم الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم" .

الخاصية الثالثة إتباع الهوى

إتباع الهوى ، الذي نبه عليه قوله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ" والزيغ هو الميل عن الحق اتباعاً للهوى ، وكذلك قوله تعالى : "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" وقوله : "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم" .

وليس في حديث الفرق ما يدل على هذه الخاصية ولا على التي قبلها . إلا ان هذه الخاصية راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصة نفسه ، لأن اتباع الهوى أمر باطني فلا يعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه ، إلا أن يكون عليها دليل خارجي .

وقد مر أن أصل حدوث الفرق إنما هو الجهل بمواقع السنة ، وهو الذي نبه عليه الحديث بقوله :

"اتخذ الناس رؤساء جهالاً" . فكل أحد عالم بنفسه هل بلغ في العلم مبلغ المفتين أم لا ؟ وعالم إذا راجع النظر فيما سئل عنه : هل هو قائل بعلم واضح من غير إشكال أم بغير علم ؟ أم هو على شك فيه ؟ والعالم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره ويعلم هو من نفسه ما شهد له به ، وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك ، فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى . إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره ولم يفعل ، وكل من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ، ولم يفعل هذا .

قال العقلاء : رأي المستشار أنفع لأنه بريء من الهوى ، بخلاف من لم يستشر فإنه غير بريء ، ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم .

فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به . هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى ، أم هو متبع للشرع ؟

الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم

وأما الخاصية الثانية ، فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم ، لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم يعرفونها ويعرفون أهلها ، فهم المرجوع إليهم في بيان من هم متبع للمحكم فيقلد في الدين ، ومن هو المتبع للمتشابه فلا يقلد أصلاً .

ولكن له علامة ظاهرة أيضاً نبه عليها الحديث الذي فسرت الآية به ، قال فيه :

فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم ، خرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق ، وقد تقدم أول الكتاب . فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان ، وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك ، إذ المتشابه لا يعطى بياناً شافياً ، ولا يقف منه متبعه على حقيقة ، فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به ، والنظر فيه لا يتخلص له ، فهو على شك أبداً ، وبذلك يفارق الراسخ في العلم ، لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلباً لإزالته ، فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر .

وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه . فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله .

ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران ، وقصدهم أن يناظروا رسول الله في عيسى ابن مريم عليهما السلام ، وأنه الله ، أو أنه ثالث ثلاثة ، مستدلين بأمور متشابهات من قوله : فعلنا وخلقنا وهذا كلام جماعة . ومن أنه يبرىء الأكمة والأبرص ويحيي الموتى وهو كلام طائفة أخرى ، ولم ينظروا إلى أصله ونشأته بعد أن لم يكن ، وكونه كسائر بني آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض . والخبر مذكور في السير .

والحاصل : انهم إنما أتوا لمناظرة رسول الله ومجادلته لا يقصدون اتباع الحق .

والجدال على هذا الوجه لا ينقطع ، ولذلك لما بين لهم الحق ولم يرجعوا عنه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه ، وهو المباهلة . وهو قوله تعالى : "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" . الآية ، وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، كالنرد ، والشطرنج وغيرهما .

وقد نقل عن حماد بن زيد أنه قال : جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمون إلى طلوع الفجر .

قال : فلما صلوا جعل عمرو يقول : هيه أبا معمر ! هيه أبا معمر! فإذا رأيتم أحداً شأنه أبداً الجدال في المسائل مع كل أحد من أهل العلم ، ثم لا يرجع ولا يرعوي ، فاعلموا أنه زيغ القلب متبع للمتشابه فاحذروه .

وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام

وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام ، لأن التواصل والتقاطع معروف عند الناس كلهم ، وبمعرفته يعرف أهله . وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إلى الافتراق شيعاً بقوله :

"وستفترق هذه الأمة على كذا" ولكن هذا الافتراق إنما يعرف بعد الملابسة والمداخلة ، وأما قبل ذلك فلا يعرفه كل أحد ، فله علامات تتضمن الدلالة على التفرق . أولها : مفاتحة الكلام ، وذلك إلقاء المخالف لمن لقيه ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم واقتداء الخلف بهم ، ويختص بالمدح من لم يثبت له ذلك من شاذ مخالف لهم ، وما أشبه ذلك .

وأصل هذه العلامة في الاعتبار تكفير الخوارج ـ لعنهم الله ـ الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، فإنهم ذموا من مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم ، ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمه كعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه ، وصوبوا قتله إياه ، وقالوا : إن في شأنه نزل قوله تعالى : "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" وأما التي قبلها وهي قوله : "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" ، فإنها نزلت في شأن علي رضي الله عنه ، وكذبوا ـ قاتلهم الله ـ وقال عمران بن حطان في مدحه لابن ملجم .

يا ضربةً من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً

إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفي البرية عند الله ميزاناً

وكذب ـ لعنه الله ـ فإذا رأيت من يجري على هذا الطريق ،فهو من الفرق المخالفة ، وبالله التوفيق .

وروي عن إسماعيل بن علية ، قال : حدثني اليسع ، قال : تكلم واصل بن عطاء يوماً ـ يعني المعتزلي ـ فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن و ابن سيرين ـ عندما تسمعون ـ إلا خرقة حيض ملقاة .

روي أن زعيماً من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه ، فكان يقول : إن علم الشافعي و أبي حنيفة ،جملته لا يخرج من سراويل امرأة .

هذا كلام هؤلاء الزائغين ، قاتلهم الله .

والعلامة التفصيلية[عدل]

وأما العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها و أشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة ، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبهاً عليها ومشاراً إليها ، ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي ، وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمان . فغلبنا عليه ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك .

فأنت ترى أن الحديث الذي تعرضنا لشرحه لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها ، لهذا المعنى المذكور ، والله أعلم ـ وإنما نبه عليه في الجملة لتحذر مظانها ، وعين في الحديث المحتاج إليه منها وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف ، وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة ، لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها ، وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة لأنها ـ كما قال ـ أشد الفرق على الأمة . وبيان كونها أشد فتنة من غيرها سيأتي آخراً إن شاء الله .

المسألة التاسعة التوفيق بين روايات حديث الفرق

إن الرواية الصحيحة في الحديث أن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين ، وهي رواية ابي داود على الشك ! إحدى وسبعين ؟ أو ثنتين وسبعين ؟ وأثبت في الترمذي .

في الرواية الغريبة لبني إسرائيل الثنتين والسبعين لأنه لم يذكر في الحديث افتراق النصارى ، وذلك ـ والله أعلم ـ لأجل أنه إنما أجرى في الحديث ذكر بني إسرائيل فقط ، لأنه ذكر فيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : "قال رسول الله  : ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك . وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي" الحديث . وفي أبي داود ، اليهود والنصارى معاً إثبات الثنتين والسبعين من غير شك .

وخرج الطبري وغيره الحديث على أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة ، وافترقت هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة .

فإن بنينا على إثبات إحدى الروايتين فلا إشكال ، لكن في رواية الإحدى والسبعين تزيد هذه الأمة فرقتين ، وعلى رواية الاثنتين والسبعين تزيد فرقة واحدة ، وثبت في بعض كتب الكلام في نقل الحديث أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين ، وأن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة ، ووافقت سائر الروايات في افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة . ولم أر هذه الرواية هكذا فيما رأيته من كتب الحديث ، إلا ما قوع في جامع ابن وهب من حديث علي رضي الله عنه ـ وسيأتي .

وإن ينينا على إعمال الروايات . فيمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك ثم أعلم بزيادة فرقة ، أما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبي في وقت آخر ، وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به ، ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر ذلك عليه الصلاة والسلام . وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث ، والله أعلم بحقيقة الأمر .

المسألة العاشرة الفرقة الناجية في هذه الأمة وفي غيرها

هذه الأمة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الأخرى اليهود والنصارى ، فالثنتان والسبعون من الهالكين المتوعدين بالنار ، والواحدة في الجنة . فإذاً انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق قسمين : قسم في النار ، وقسم في الجنة ، ولم يبين ذلك في فرق اليهود ولا في فرق النصارى ، إذ لم يبين الحديث أن لا تقسيم لهذه الأمة ، فيبقى النظر : هل في اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا ؟ وينبني على ذلك نظران : هل زادت هذه الأمة فرقة هالكة : أم لا ؟ وهذا النظر وإن كان لا ينبني عليه ... لكنه من تمام الكلام في الحديث .

فظاهر النقل في مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى لا بد أن يوجد فيها من آمن بكتابه وعمل بسنته ، كقوله تعالى : "ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" ففيه إشارة إلى أن منهم من لم يفسق ، وقال تعالى : "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون" وقال تعالى : "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " وقال تعالى : " منهم أمة مقتصدة " وهذا كالنص .

وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله قال :

"أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران" فهذا يدل بإشارته على العمل بما جاء به نبيه . وخرج عبد الله بن عمر ، "عن ابن مسعود قال : قال رسول الله  : يا عبد الله بن مسعود : ـ قلت : لبيك رسول الله قال ـ أتدري أي عرى الإيمان أوثق ؟ ـ قال ـ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : الولاية في الله والحب في الله ، والبغض فيه ـ ثم قال : يا عبد الله بن مسعود ! ـ قلت : لبيك رسول الله ! ثلاث مرات ، قال ـ أتدري أي الناس أفضل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال ـ فإن أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم ـ ثم قال ـ يا عبد الله بن مسعود ! ـ قلت لبيك يا رسول الله ! ثلاث مرات . قال ـ هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصراً في العمل ، وإن كان يزحف على استه ، واختلف من قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرها ، فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين عيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ، فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فأخذتهم الملوك وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا في الجبال وهربوا فيها ، فهم الذين قال الله عز وجل فيهم : "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون" ". فالمؤمنون ، الذين آمنوا بي وصدقوا بي ، والفاسقون الذين كذبوا بي وجحدوا بي ، فأخبر أن فرقاً ثلاثاً نجت من تلك الفرق المعدودة والباقية هلكت.

وخرج ابن وهب من حديث علي رضي الله عنه أنه دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال : إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما، يا رأس جالوت ! أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، وأطعمكم المن والسلوى ، وضرب لكم في البحر طريقاً يبساً ، وجعل لكم الحجر الطوري يخرج لكم منه اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من بني إسرائيل عين ! إلا ما أخبرتني على كم افترقت اليهود من فرقة بعد موسى ؟ فقال له : ولا فرقة واحدة . فقال له علي : كذبت والذي لا إله إلا هو ، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة .

ثم دعا الأسقف ، فقال : انشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، وجعل على رجله البركة ، واراكم العبرة ، فأبرأ الأكمة والأبرص وأحيا الموتى ، وصنع لكم من الطين طيوراً وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . فقال : دون هذا الصدق يا أمير المؤمنين . فقال له علي رضي الله عنه . كم افترقت النصارى بعد عيسى ابن مريم من فرقة ؟ قال : لا . والله ولا فرقة . فقال ثلاث مرات : كذبت والله الذي لا إله إلا الله . لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فقال : أما أنت يا يهودي ! فإن الله يقول : "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" فهي التي تنجو ، وأما نحن فيقول الله فينا : "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" فهذه التي تنجو من هذه الأمة . ففي هذا أيضاً دليل .

وخرجه الآجري أيضاً من طريق أنس بمعنى حديث علي رضي الله عنه : إن واحدة من فرق اليهود ومن فرق النصارى في الجنة .

وخرج سعيد بن منصور في تفسيره من حديث عبد الله : أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ، وكان الحق يحول بين كثير من شهواتهم ، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، فقالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم ، وإن خالفوكم فاقتلوهم ، قالوا : لا ! بل أرسلوا إلى فلان ـ رجل من علمائهم ـ فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده ، وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف علقها في عنقه ، ثم لبس عليها الثياب ، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب ، فقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا ، وما لي لا أؤمن بهذا ؟ ( يعني الكتاب الذي في القرن ) فخلوا سبيله ، وكان له أصحاب يغشونه ، فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا الكتاب ، فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا ، وما لي لا أؤمن بهذا ؟ وإنما عنى هذا الكتاب . فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذلك القرن ـ قال عبد الله ـ : وإن من بقي منكم سيرى منكراً بحسب أمره ، يرى منكراً لا يستطيع أن يغيره ، إن يعلم الله من قلبه خيراً كاره .

فهذا الخبر يدل على أن في بني إسرائيل فرقة كانت على الحق الصريح في زمانهم ، لكن لا أضمن عهدة صحته ولا صحة ما قبله .

وإذا ثبت أن في اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون في هذه الأمة فرقة ناجية زائدة على رواية الثنتين والسبعين ، أو فرقتين بناء على رواية الإحدى والسبعين ، فيكون لها نوع من التفرق لم يكن لمن تقدم من أهل الكتاب ، لأن الحديث المتقدم أثبت أن هذه الأمة تبعث من قبلها من أهل الكتابين في أعيان مخالفتها ، فثبت أنها تبعتها في أمثال بدعتها ، وهذه هي :

المسألة الحادية عشرة اتباع الأمة سنن من قبلها

فإن الحديث الصحيح قال :

"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذارع ، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم ـ قلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ ـ قال فمن ؟" زيادة إلى حديث الترمذي الغريب ، فدل ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم .

وفي الصحيح " عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه : خرجنا مع رسول الله قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط فقلنا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال لهم النبي  : الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل "إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون" لتركبن سنن من كان قبلكم" وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقاً على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى ، وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين ، ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر ، وقد مر أن ذلك لا يعرف ، أو لا يسوغ التعريف به وإن عرف ، فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة ، والله أعلم .

وفي الحديث أيضاً عن أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، فقال رجل : يا رسول الله ! كما فعلت فارس والروم ؟ قال : وهل الناس إلا أولئك" وهو بمعنى الأول ، إلا أنه ليس فيه ضرب مثل ، فقوله : "حتى تأخذ أمتي أخذ القرون من قبلها" يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به ، إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم ، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها ، فالذي يدل على الأول قوله : "لتتبعن سنن من كان قبلكم" الحديث فإنه قال فيه : "حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لاتبعتموهم" .

والذي يدل على الثاني قوله : "فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط ، فقال عليه السلام : هذا كما قالت بنو إسرائيل : "إسرائيل البحر فأتوا"" الحديث . فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله ، لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه ، والله أعلم .

المسألة الثانية عشرة كفر الفرق وفسقها ونفوذ الوعيد أو جعله في المشيئة

أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنها كلها في النار ، وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنباً عظيماً ، إذ قدر تقرر في الأصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبرة . إذ لم يقل :" كلها في النار" . إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته ، وليس ذلك إلا لبدعة مفرقة ، إلا أنه ينظر في هذا الوعيد . هل هو أبدي أم لا ؟ وإذا قلنا : إنه غير أبدي : هل هو نافذ أم في المشيئة .

أما المطلب الأول : فينبني على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام ، أو ليست مخرجة ، والخلاف في الخوارج وغيرهم من المخالفين في العقائد موجود ـ وقد تقدم ذكره قبل هذه ـ فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة إن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه .

يحتمل عدم التكفير أمران أحدهما نفوذ الوعيد

وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل ـ على مذهب أهل السنة ـ أمرين :

أحدهما : نفوذ الوعيد من غير غفران ، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث .

وقوله هنا : "كلها في النار" أي مستقرة ثابتة فيها .

والأمر الثاني من احتمال التكفير أن يكون مقيداً بالمشيئة

فإن قيل : ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة . قيل : بلى قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى ، لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ، ولا بد من ذلك ، فإن المتبع هو الدليل ، فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى : "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فإن الله تعالى قال : "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " . فأخبر أولاً أن جزاءه جهنم ، وبالغ في ذلك بقوله تعالى : "خالدا فيها "عبارة عن طول المكث فيها ، ثم عطف بالغضب ، ثم بلعنته ، ثم ختم ذلك بقوله تعالى : "وأعد له عذابا عظيما " والإعداد قبل البلوغ إلى المعد مما يدل على حصوله للمعد له ، ولأن القتل اجتمع فيه حق لله وحق المخلوق وهو المقتول .

قال ابن رشد : ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول حياً فيعفو عنه نفسه .

وأولى من هذه العبارة أن نقول : ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجني عليه : إما ببذل القيمة له ، وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول . فكذلك لا يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة ، فراجع ما تقدم في الباب الثاني تجد فيه كثيراً من التهديد والوعيد المخوف جداً .

وانظر في قوله تعالى : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " فهذا وعيد ، ثم قال تعالى : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار ، ثم قال تعالى : "أكفرتم بعد إيمانكم" وهو تقريع وتوبيخ ، ثم قال تعالى : "فذوقوا العذاب" وهو تأكيد آخر .

وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع .

لأن المبتدع إذا اتبع في بدعته لم يمكنه التلافي ـ غالباًـ فيها ، ولم يزل أثرها في الأرض يستطيل إلى قيام الساعة ، وذلك كله بسببه ، فهي أدهى من قتل النفس .

قال مالك رحمة الله عليه : إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئاً وجبت له ارفع المنازل ، لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء ، وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء ، إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد .

والثاني : أن يكون مقيداً بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار ، وإنما حمل قوله : "كلها في النار" أي هي ممن يستحق النار ، كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى : "فجزاؤه جهنم خالدا فيها" أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه ، فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله ، لقوله تعالى  :"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة ، وإن لم يكن الاستدراك ، كذلك يصح أن يقال هنا بمثله .

المسألة الثالثة عشرة إن قوله عليه الصلاة والسلام :

إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة والسلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة والسلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه قوله أن الحق واحد لا يختلف

إن قوله عليه الصلاة والسلام : "إلا واحدة" قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف ، إذ لو كان للحق فرق أيضاً لم يقل "إلا واحدة" ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق ، لأنها الحاكمة بين المختلفين ، لقوله تعالى : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" إذ رد التنازع إلى الشريعة ، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة . وقوله : "في شيء" نكرة في سياق الشرط ، فهي صيغة من صيغ العموم . فتنتظم كل تنازع على العموم ، فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقاً . وقال تعالى : "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل" وهو نص فيما نحن فيه ، فإن السبيل الواحد لا يقتضي الافتراق ، بخلاف السبل المختلفة .

فإن قيل : فقد تقدم في المسألة العاشرة في حديث ابن مسعود :

"واختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرها" إلى آخر الحديث ، فلو لزم ما قلت لم يجعل أولئك الفرق ثلاثاً ، وكانوا فرقة واحدة ، وحين بينوا ظهر كلهم على الحق والصواب . فكذلك يجوز أن تكون الفرق في هذه الأمة ، لولا أن الحديث أخبر أن الناجية واحدة .

فالجواب أولاً : أن ذلك الحديث لم نشترط الصحة في نقله ، إذ لم نجده في الكتب التي لدينا المشترط فيها الصحة .

وثانياً : أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلاثاً فإنما عدت هناك واحدة لعدم الاختلاف بينهم في أصل الاتباع ، وإنما الاختلاف في القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدمها ، وفي كيفية الأمر والنهي خاصة .

فهذه الفرق لا تنافي صحة الجمع بينهما ، فنحن نعلم أن المخاطبين في ملتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم الملوك والحكام ومن أشبههم ، ومنهم من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ، ومنهم من لا يقدر إلا بالقلب ـ إما مع البقاء بين ظهرانيهم إذ لم يقدر على الهجرة أو مع الهجرة إن قدر عليها ـ وجميع ذلك خطة واحدة من خصال الإيمان ، ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام : "ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل" .

فإذا كان كذلك فلا يضرنا عد الناجية في بعض الأحاديث ثلاثاً باعتبار ، وعدها واحدة باعتبار آخر ، وإنما يبقى النظر في عدها اثنتين وسبعين فتصير بهذا الاعتبار سبعين ، وهو معارض لما تقدم من جهة الجمع بين فرق هذه الأمة وفرق غيرها ، مع قوله : "لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع" .

ويمكن أن يكون في الجواب أحد أمرين : إما أن يترك الكلام في هذا رأساً إذا خالف الحديث الصحيح ، لأنه ثبت فيه " إحدى وسبعين " ، وفي حديث ابن مسعود : "ثنتين وسبعين" .

وإما أن يتأول أن الثلاثة التي نجت ليست فرقاً ثلاثاً ، وإنما هي فرقة واحدة انقمست إلى المراتب الثلاث ، لأن الرواية الواقعة في تفسير عبد بن حميد هي قوله " نجا منها ثلاث " ولم يفسرها بثلاث فرق وإن كان هو ظاهر المساق . ولكن قصد الجمع بين الروايات ومعاني الحديث ألجأ إلى ذلك والله أعلم بما أراد رسوله من ذلك .

وقوله عليه الصلاة والسلام : "كلها في النار إلا واحدة" ظاهر في العموم ، لأن كلاً من صيغ العموم ، وفسره الحديث الآخر : "ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة" وهذا نص لا يحتمل التأويل .

المسألة الرابعة عشرة أن النبي لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة

أن النبي لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة ، وإنما تعرض لعدها خاصة ،وأشار إلى الفرق الناجية حين سئل عنها ، وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور :

أحدها : أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر ، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة . وأيضاً لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها ، لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي البدع . والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضداً ولا خلافاً ، فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق .

أسباب تعيين النبي الفرقة الناجية فقط وهي ثلاثة أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان والثاني أن ذلك أوجز

والثاني : أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج ، وحصل التعيين بالاجتهاد ، بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحاً كثيراً ، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد ، لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعاً لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها .

السبب الثاني أنه أحرى بالستر كما تقدم بيانه

والثالث : أن ذلك أحرى بالستر ، كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ، ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ، ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة ، فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر ، والحمد لله ، فبين النبي ذلك بقوله " ما أنا عليه وأصحابي " ، ووقع ذلك جواباً للسؤال الذي سألوه إذ " قالوا : من هي يا رسول الله ؟ "فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة والسلام وأوصاف أصحابه . وكان ذلك معلوماً عندهم غير خفي فاكتفوا به . وربما يحتاج إلى تفسير بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان .

حال الصحابة وكون الإمام المتبع القرآن[عدل]

وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهديه ، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عله وسلم ، وإنما خلقه القرآن ، فقال تعالى : "وإنك لعلى خلق عظيم" فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة ، وجاءت السنة مبينة له ، فالمتبع للسنة متبع للقرآن . والصحابة كانوا أولى الناس بذلك ، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلية للجنة بفضل الله ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام  :" ما أنا عليه وأصحابي " .

الكتاب والسنة هما الصراط المستقيم وغيرهما تابع لهما[عدل]

فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم ، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشىء عنهما ، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي وأصحابه ، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله : " وهي الجماعة " لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف ، إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله .

ادعاء كل من رضي بلقب الإسلام أنه من الفرقة الناجية[عدل]

ثم إن في هذا التعريف نظراً لا بد الكلام عليه فيه ( ؟ ) ، وذلك أن كل داخل تحت راية الإسلام من سني أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة ، إذ لا يدعي خلاف ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام ، وانحاز إلى فئة الكفر ، كاليهود والنصارى ، وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين . وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة ، فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها ـ وهو مدع أحسنها ـ وهو المعلم ( ؟ ) فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم يصاحب أهلها ، فضلاً عن أن يتخذها ديناً يدين به لله ، وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل .

تنازع الفرق وتعبير كل منها عن نفسها[عدل]

فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة . ألا ترى أن المبتدع آخذ أبداً في تحسين حاليته شرعاً وتقبيح حالة غيره ؟ فالظاهر يدعي أنه المبتع للسنة .

والغاش ( ؟ ) يدعي أنه الذي فهم الشريعة ، وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الموحد .

والقائل باستقلال العبد يدعي أنه صاحب العدل ، وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد .

والمشبه يدعي أنه المثبت لذات الباري وصفاته ، لأن نفي التشبيه عنده نفي محض ، وهو العدم .

وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها .

وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو الشنية على الخصوص ، فكل طائفة تتعلق بذلك أيضاً .

فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله" وفي رواية :

"لا يضرهم خلاف من خالفهم ، ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد" .

والقاعدة يحتج بقوله :

"عليكم بالجماعة ، فإن يد الله مع الجماعة ، ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" وقوله : " كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل" .

والمرجئي يتحج بقوله : " من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق " .

والمخالف له محتج بقوله : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " .

والقدري يحتج بقوله تعالى : " فطرة الله التي فطر الناس عليها" وبحديث: " كل مولود يولد على الفطرة" الحديث .

والمفوض يحتج بقوله تعالى : "ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها" وبحديث : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له" .

والرافضة تحتج قوله عليه الصلاة والسلام : " ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفن دوني ، فأقول : يا رب أصحابي! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" ويحتجون في تقديم علي رضي الله عنه ك بـ : "أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي " و : " من كنت مولاه فعلي مولاه" ومخالفوهم يحتجون في تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله : "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر" إلى أشباه ذلك، مما يرجع إلى معناه .

والجمع محومون ـ في زعمهم ـ على الانتظام في سلك الفرقة الناجية ، وإذا كان كذلك أشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبي وأصحابه ، ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر ، فإنها متدافعة متناقضة . وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها أصلاً . فيرد الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل .

وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الأدلة وترد ما سواها إليها ، أو تهمل اعتبارها بالترجيح ، إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح ، أو تدعي أن أصلها الذي ترجع إليه قطعي والمعارض له ظني فلا يتعارضان .

وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة ، أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال ، وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى : "ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" .

فتأملوا ـ رحمكم الله ـ كيف صار الاتفاق محالاً في العادة ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به .

والحاصل ، أن تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ، ومع ذلك فلا بد من النظر فيه ، وهو نكتة هذا الكتاب ، فليقع به فضل اعتناء ما هيأه الله ، وبالله التوفيق .

ولما كان ذلك يقتضي كلاماً كثيراً أرجأنا القول فيه إلى باب آخر ، وذكره فيه على حدته إذ ليس هذا موضع ذكره ، والله المستعان .

المسألة الخامسة عشرة أنه قال عليه الصلاة والسلام : كلها في النار إلا واحدة فهل يدخل في الهالكة المبتدع في الجزيئات كالمبتدع في الكليات ؟

أنه قال عليه الصلاة والسلام :" كلها في النار إلا واحدة" وحتم ذلك . وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة ، ولم ينتظم الحديث ـ على الخصوص ـ إلا أهل البدع المخالفين للقواعد ، وأما من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمراً كلياً ، أو يخرم أصلاً من الشرع عاماً ، فلا دخول له في النص المذكور ، فينظر في حكمه : هل يلحق بمن ذكر أو لا ؟ .

والذي يظهر في المسألة أحد أمرين : إما أن نقول : إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى ، إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة ، كقوله :

"كل بدعة ضلالة" وما أشبه ذلك . وإما أن نقول : إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة ففي معناه ما يدل على قصده في الجملة ،وبيانه تعرض لذكر الطرفين الواضحين .

أحدهما : طرف السلامة والنجدة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة ، وهو قوله :

"ما أنا عليه وأصحابي" .

والثاني : طرف الإغراق في البدعة ، وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلاً كلياً ، جرياً على عادة الله في كتابه العزيز ، لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأهلي ما يحمل من خير أو شر ، ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفاً راجياً ، إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين ، فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض ، والشر على مراتب بعضها أشد من بعض ، فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم ، أو رجوا أن يلحقوا بهم ، وإذا ذكر أهل الشر الذين في أسفل المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم ، أو رجوا أن لا يلحقوا بهم .

وهذا المعنى معلوم بالاستقراء ، وذلك الاستقراء ـ إذ تم ـ يدل على قصد الشارع إلى ذلك المعنى ، ويقويه ما روى سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الرحمن بن ساباط قال : لما بلغ الناس أن أبا بكر يريد أن يستخلف عمراً قالوا : ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظاً غليظاً ـ ةهة لا يقدر على شيء ـ فكيف لو قدر . فبلغ ذلك أبا بكر فقال : أبربي تخوفوني ؟ أقول : استخلفت خير خلقك . ثم أرسل إلى عمر فقال . إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار ، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل ، واعلم أنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن اعمالهم ! وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل : عملي خير من هذا ، ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب ، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ؟ ألم تر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل ، ألم تر إنما خفت موزاين من خفت موازينه بابتاعهم الباطل وتركهم الحق ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف ـ ثم قال ـ : أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت ، وأنت لا بد لاقيه ، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض غليك من الموت ولا تعجزه .

وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ، ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ، ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثله ، إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحماً بدرهم : أين تذهب بكم هذه الآية :"أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها" .والآية إنما نزلت في الكفار ، لقوله تعالى : "ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم" الآية إلى أن قال تعالى : "فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون" ولم يمنعه رضي الله عنه إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتباراً بما تقدم ، وهو أصل شرعي تبين في كتاب الموافقات .

فالحاصل ، أن من عد الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات ، في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ، ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضي للذم والوعيد ، كما اشترك في اللفظ صاحب اللحم ـ حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد عمر ـ مع من أذهب طيباته في حياته الدنيا من الكفار ، وإن كان ما بينهما من البون البعيد ، والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد . وقد تقدم بسط ذلك في بابه ، والحمد لله .

المسألة السادسة عشرة أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية هي الجماعة محتاجة إلى التفسير

أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بيناً من جهة تفسير الرواية الأخرى ـ وهي قوله : "ما أنا عليه وأصحابي" ـ فمعنى لفظ : الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير .

فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ، ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبي قال :

"من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شيئاً فمات مات ميتة جاهليلة" .

وصح من حديث "حذيفة ، قال : قلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ـ قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ ـ قال : نعم ، وفيه دخن ـ قلت : وما دخنه ؟ قال ـ قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ـ قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال ـ نعم : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ـ قلت : يا رسول الله ! صفهم لنا . قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ـ قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ـ قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" .

وخرج الترمذي و الطبري "عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال : إني قمت فيكم كمقام رسول الله فينا . فقال : أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ، ويشهد ولا يستشهد ، عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، لا يخلون رجل بامرأة ، فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ، الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد ، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن" .

وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله مع الجماعة ، ومن شذ شذ إلى النار" ، وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله  : "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" .

وعن عرفجة قال : سمعت رسول الله يقول : " سيكون في أمتي هنيات وهنيات ، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان" .

فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال :

إختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها : أنها السواد الأعظم

أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق ، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية ، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم ، فهو مخالف للحق .

وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود ، فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة ، فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ، واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر . وقال : إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة . وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر به . ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة .

وعن الحسين قيل له : أبو بكر خليفة رسول الله ؟ فقال : أي والذي لا إله إلا هو ، ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة .

فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ، ومن سواهم داخلون في حكمهم ، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم ، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة ، لم يدخلوا في سوادهم بحال .

الثاني أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين[عدل]

والثاني : إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين ، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميته جاهلية ، لأن جماعة الله العلماء ، جعلهم الله حجة على العالمين ، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام : "إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة" وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها ، وإليها تفزع من النوازل ، وهي تبع لها . فمعنى قوله : "لن تجتمع أمتي" لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة .

وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك ، وإسحاق بن راهوية ، وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين ، فقيل لـ عبد الله بن المبارك  : من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدي بهم ؟ قال : أبو بكر وعمر ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ـ فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ قال ابو حمزة السكري .

وعن المسيب بن رافع قال : كانوا إذ جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه صوافي الأمراء فجمعوا له أهل العلم ، فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق ، وعن إسحاق بن راهوية نحو مما قال ابن المبارك .

فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد ، لأنه داخل في أهل التقليد ، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ، ولا يدخل أيضاً أحد من المبتدعين ، لأن العالم أولاً لا يبتدع ، وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ، ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله ، وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع ، وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي غير مسألة التي ابتدع فيها ، لأنهم في نفس البدعة مخالفون للاجماع :فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأساً .

الثالث أن الجماعة هي الصحابة رضي الله عنهم على الخصوص[عدل]

والثالث : إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص ، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده ، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً ، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ، ألا ترى قوله عليه لاصلاة والسلام :"ولا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله" وقوله : "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" ، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من الأزمان أزماناً يجتمعون فيها على ضلالة وكفر . قالوا ، وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز ، فروى ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد العزيز يقول : سن رسول الله وولاه الأمر من بعده سنناً ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ، ولا النظر فيها ! من اهتدى بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خافها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً . فقال مالك : فأعجبني عزم عمر على ذلك .

فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام : " ما أنا عليه وأصحابي" فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه ، وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق ، وبشهادة رسول الله لهم بذلك خصوصاً في قوله : "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" واشباهه ، أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة ، المهتدون للشريعة ، الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهةً ، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال ، بخلاف غيرهم : فإذاً كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه ، بخلاف غيرهم ، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالاً للنظر رداً وقبولاً ، فأهل البدع إذاً غير داخلين في الجماعة قطعاً على هذا القول .

الرابع أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام[عدل]

والرابع : إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام ، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم ، وهم الذين ضمن لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة ، فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه .

قال الشافعي : الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ، ولا سنة ولا قياس ، وإنما تكون الغفلة في الفرقة .

وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضاً ما يقتضيه ، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر ، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم ، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلاً ، فهم ـ إذاً ـ الفرقة الناجية .

الخامس ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير[عدل]

والخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير ،فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم ، لأن فراقهم لا يعدو إحدى حالتين ، إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب ، بل بالتأويل في إحداث بدعة في

الدين ، كالحرورية التي أمرت الأمة بقتالها وسماها النبي مارقة من الدين ، وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة ، فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه .

وقد قال  : "من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائناً من كان" . قال الطبري : فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة .

قال : وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتاً ميتة جاهلية ، فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود الأنصاري ، وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم ، وهم السواد الأعظم .

قال : وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فروي عن عمر بن ميمون الأودي قال : قال عمر حين طعن لصهيب : صل بالناس ثلاثاً وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ، وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شيء ،فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد راسه بالسيف ، وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رأسيهما حتى يستوثقوا على رجل .

قال : فالجماعة التي أمر رسول الله بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقاً لها نظير الجماعة الي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه ، وأمر صهيباً بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف . فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم .

قال : وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه ، وذلك لا يكون في الأمة .

هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى و تحر في أكثر اللفظ .

وحاصله : أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة ، كالخوارج ومن جرى مجراهم .

فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع ، وأنهم المرادون بالأحاديث ، فلنأخذ ذلك أصلاً ويبني عليه معنى آخر ، وهي :

المسألة السابعة عشرة أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا

وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا ، فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم ، فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية ، وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة ، فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء ، فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هو الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر ، لقلة العلماء وكثرة الجهال ، فلا يقول أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب ، وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث . بل الأمر بالعكس ، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا ، والعوام هو المفارقون للجماعة إن خالفوا ، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم .

ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : ابو بكر وعمر ـ قال ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ، قيل : فهؤلاء ماتوا ! فمن الأحياء ؟ قال : أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي ، فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق ، وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ، ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية ، بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين ، فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد .

وأيضاً ، فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ، ورمي في عماية ، وهو مقتضى الحديث الصحيح :

"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً" الحديث

روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهوية وذكر في حديث رفعه إلى النبي قال :

"إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ، فإذا رأيتم الإختلاف فعليكم بالسواد الأعظم" ، فقال رجل يا ابا يعقوب ! من السواد الأعظم ؟ فقال محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ، ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم ؟ قال : أبو حمزة السكري ، ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان ( يعني أبا حمزة ) وفي زماننا محمد بن أسلم ، ومن تبعه ، ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس . ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي وطريقه ، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة ، ثم قال إسحاق : لم أسمع عالماً منذ خمسين سنة كان أشد تمسكاً بأثر النبي من محمد بن أسلم .

فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم ، وهو وهم العوام ، لا فهم العلماء . فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ، ولا توفيق إلا بالله .

المسألة الثامنة عشرة في بيان معنى قوله  : وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ما يتجارى الكلب بصاحبه

في بيان معنى رواية أبي داود وهي قوله عليه الصلاة والسلام : "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" .

وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق ، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها ، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء ، وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء ، فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه ، وأشرب حبه ، لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ، ولا يكترث بمن خالفه . واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما ، فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة ، محجوبين عن كل لسان ، مبعدين عند كل مسلم ، ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تمادياً على ضلالهم ، ومداومة على ما هم عليه "ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً" .

وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة ، فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح . ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا : يجب على الله كذا ولا يجوز أن يفعل كذا . فجعلوه محكوماً عليه كسائر المكلفين . ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار ، بل استحسن شيئاً يفعله واستقبح آخر وألحقها بالمشروعات ، ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول ، ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية على عظمتها أيسر ، ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله ، باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه ، وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل .

قال العتبي  : وقد اعترض على كتاب الله تعالى بالطعن ملحدون ، ولغوا وهجروا ، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، وعدلوا به عن سبيله ، ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن ، وفساد النظم والاختلاف ، وادلوا بذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر ، والحديث الغر ، واعترضت بالشبهة في القلوب ، وقدحت بالشكوك في الصدور ، قال : ولو كان ما لحنوا إليه ، على تقريرهم وتأويلهم لسبق إلى الطعن فيه من لم يزل رسول الله يحتج بالقرآن عليهم ، ويجعله علم نبوته ، والدليل على صدقه ، ويتحداهم في مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله ، وهم الفصحاء والبلغاء ، والخطباء والشعراء ، والمخصوصون من بين جميع الأنام ، وبالألسنة الحداد واللدد في الخصام ، مع اللب والنهى وأصالة الرأي . فقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب . وكانوا يقولون مرة : هو سحر . ومرة : هو شعر . ومرة : هو قول الكهنة . ومرة : اساطير الأولين . ولم يحك الله عنهم الاعتراض على الأحاديث ودعوى التناقض والاختلاف فيها ، وحكى عنهم ، لأجل ذلك القدح في خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضي الله عنهم ، واتبعوهم بالحدس قالوا ما شان ، أو جروا في الطعن على الحديث جري من لا يرى عليه محتسباً في الدنيا ولا محاسباً في الآخرة .

وقد بسط الكلام في الرد عليهم والجواب عما اعترضوا فيه أبو محمد بن قتيبة في كتابين صنفهما لهذا المعنى ، وهما من محاسن كتبه رحمه الله . ولم أرو قط تلك الاعتراضات تعزيزاً للمعترض فيه ، لم أعن بردها لأن غيري ـ والحمد لله ـ قد تجرد له ، ولكن أردت بالحكاية عنهم على الجملة بيان معنى قوله : "تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه" وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ، ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئاً ، ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال ( وهو شأن المعتبرين من أهل العقول ) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه ، ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ، ثم أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم ،حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه .

فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل ، صرنا منه إلى معنى آخر ، وهي :

المسألة التاسعة عشرة أن قوله : تتجارى بهم تلك الأهواء فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ، ولا محال بها

إن قوله : "تتجارى بهم تلك الأهواء" فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ، ولا محالاً بها على غير معلوم ، بل لا بد لها من متقدم ترجع إليه ، وليس إلا الأحوال التي كانت السبب في الافتراق ، فجاءت الزيادة في الحديث مبينة أنها الأهواء ، وذلك قوله : "تتجارى بهم تلك الأهواء" فدل على أن كل خارج عما هو عليه واصحابه إنما خرج باتباع الهوى عن الشرع وقد مر بيان هذا قبل فلا نعيده .

المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة والسلام : أنه سيخرج من أمتي أقوام على وصف كذا ، يحتمل أمرين أحدهما : من يجري فيه هواه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع عنه . والثاني : من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها

إن قوله عليه الصلاة والسلام : "وأنه سيخرج في أمتي أقوام على وصف كذا" ، يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبداً عن هواه ولا يتوب من بدعته .

والثاني : أن يريد أن أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها .

والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ،كقوله عليه الصلاة والسلام :

"يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه" وقوله : "إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة" ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة .

روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء ، فأعقل ما يكون قد هاج .

ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً ، لأن العقل يجوز ذلك والشرع إن يشاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عادياً ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول .

والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملاً ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما ، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها ، وإذا جعل تخصيص بفرد لم يبق الفظ عاماً وحصل الانقسام .

وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراف أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها ، ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا بين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام . وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك .

فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج ، ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع

فمن القسم الأول الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله حيث قال :

"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ، ومنه هؤلاء الذين أعرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه ، وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم .

ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة ، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم .

ومنه ما ذهب إليه الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك . وذلك أنه يقول : من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له ، لكن على قدرها ، وبذلك أيضاً تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له ، لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة ، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب ، وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق ، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء .

وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أمران : إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته فيظهر بسببها المعاداة ، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغاً عظيماً بحيث يطرح ما سواها في جنبها ، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها ، وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية المحبة . ومن أحب شيئاً من هذا النوع من المحبة وإلى بسببه وعادى ، ولم يبال بما لقي في طريقه ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ، ونكته اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف ، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال ، والقيام عليه بأنواع الإضرار ، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء ، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها .

وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم ، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم .

ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ ابو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارىء : "الرحمن على العرش استوى" قال لي أخصهم : من أنت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فاحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم .

فهذا أيضاً ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله ، وإن بلغ من ذلك الحرب .

وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما .

فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث ، وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جداً ، ولم يتعرضوا للدعاء إلبها جهاراً ، كما فعل غيرهم ، ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم سهرتهم بما انتحلوه .

فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق .

المسألة الحادية والعشرون إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟

إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟ وذلك أنه يمكن أن بعض البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جداً ، ومنها ما لا يكون كذلك ، فالبدعة الفلانية مثلاً من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلانية ليست كذلك ، فبدعة الخوارج مثلاً في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ، ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه ، كعمرو بن عبيد ، حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة "تبت يدا أبي لهب " وقوله تعالى : " ذرني ومن خلقت وحيدا" ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين ، كالفارسي النحوي وابن جني .

والثاني : بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى : "على العرش استوى" قاعد ! قاعد! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ، ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار ، كداود بن علي في الفروع وأشباهه .

والثالث : بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائماً على الهيئة الاجتماعية ، فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجباً للقتل عنده ، فحكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد : أن رجلاً من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفاً بشدة السطو وبسط اليد ـ نزل في جوار ابن مجاهد وصلى في مسجده الذي كان يؤم فيه ، وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميماً في ذلك على المذهب ( يعني مذهب مالك ) لأنه مكروه في مذهبه . وكان ابن مجاهد محافظاً عليه . فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء. وأمره أن يدعو فأبى ، وبقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات ، فلما كان في بعض الليالي صلى ذلك الرجل العتمة في المسجد ، فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى ، فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف وأشار في يده فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما علموا منه ، فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد ، فخرج إليهم وقال : ما شأنكم ؟ فقال لهم : والله لقد خفنا من هذا الرجل ، وقد اشتد الآن غضبه عليك في تركك الدعاء . فقال لهم : لا أخرج عن عادتي ، فأخبروه بالقصة . فقال لهم ـ وهو مبتسم ـ : انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ، ودخل داره ، وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل . فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية ، وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه ، فكان ذلك تحقيقاً للإجابة وإثباتاً للكرامة .

وقد روى بعض الأشبيليين الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر .

ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدي وعصمته ، اراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله ، فابى الأشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله ، فغلبوا على أمره فقتلوه خوفاً أن يقول ذلك غيره . فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها .

وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيها بما يؤدي إلى مثل ذلك .

فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النبي إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف البتة .

ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط ، كالعلم والجهل ، والشجاعة والجبن ، والعدل والجور ، والجود والبخل ، والغنى والفقر ، والعز والذل ، غير ذلك من الأحوال والأوصاف فإنها تتردد ما بين الطرفين : فعالم في أعلى درجات العلم ، وآخر في أدنى درجاته وجاهل كذلك ، وشجاع كذلك ، إلى سائرها .

فكذلك سقوط البدع بالنفوس ، إلا أن في ذكر النبي لها فائدة أخرى ، وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي :

المسألة الثانية والعشرون أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع

وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى ، فإن أصل الكلب واقع بالكلب . ثم إذا عض ذلك الكلب أحداً صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة ، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته ، بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته ، وإما أن يثبت في قلبه شكا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر .

هذا بخلاف سائر المعاصي فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالباً إلا مع طول الصحبة والأنس به ، والاعتياد لحضور معصيته . وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى . فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالتهم وكلام مكالمهم ، وأغلظوا في ذلك ، وقد تقدم منه في الباب الثاني آثار جمة .

ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب .

وعن حميد الأعرج قال : قدم غيلان مكة يجاور بها ، فأتى غيلان مجاهداً فقال : يا أبا الحجاج ، بلغني أنك تنهى الناس عني وتذكرني ، وأنه بلغك عني شيء لا أقوله ؟ إنما أقول كذا ، فجاء بشيء لا ينكر ، فلما قام قال مجاهد : لا تجالسوه فإنه قدري . قال حميد : فإني لما كنت ذات يوم في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي ، فالتفت فقال : كيف يقول مجاهد خرفاً كذا وكذا فأخبرته ، فمشى معي ، فبصر بي مجاهد معه ، فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد علي ، وأسأله فلا يجيبني ـ فقال ـ فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال ، فقلت : يا أبا الحجاج ! أبلغك عني شيء ؟ ما أحدثت حدثاً ، ما لي ! قال : ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه ؟ قال ، قلت : يا با الحجاج ما أنكرت قولك ، وما بدأته ، وهو بدأني . قال : والله يا حميد لولا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت ، ولئن عدت لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت .

وعن أيوب قال : كنت يوماً عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام ، فقلت لعمرو : انطلق بنا ـ قال ـ فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت : يا أبا بكر ؟ قد فطنت إلى ما صنعت . قال : أقد فطنت ؟ قلت : نعم ! قال : أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت .

وعن بعضهم قال : كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني . وقيل :دخل ابن عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لما رآه ، وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء ـ فمكثت هنيهة ثم قال ابن عون : بم استحل أن دخل داري بغير إذني ؟ ـ مراراً يرددها ـ أما إنه لو تكلم ...

وعن مؤمل بن إسماعيل ، أنه قال : قال بعض أصحابنا لـحماد بن زيد : ما لك لم ترو عن عبد الكريم إلا حديثاً واحداً ؟ قال : ما أتيته إلا مرة واحدة لمساقة في هذا الحديث ، وما أحب أن أيوب علم بإتياني إليه وأن لي كذا وكذا ، وإني لأظنه لو علم لكانت الفصيلة بيني وبينه .

وعن إبراهيم ، أنه قال لـ محمد بن السائب  : لا تقربنا ما دمت على رأيك هذا . وكان مرجئاً .

وعن حماد بن زيد قال : لقيني سعيد بن جبير فقال : ألم أرك مع طلق ؟ قلت : بلى ! فما له ؟ قال : لا تجالسه فإنه مرجىء .

وعن محمد بن واسع قال : رأيت صفوان بن محرز وقريب منه شيبة ، فرآهما يتجادلان ، فرأيته قائماً ينفض ثيابه ويقول : إنما أنتم جرب .

وعن أيوب قال : دخل رجل على ابن سيرين فقال : يا أبا بكر ! اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد أن أقرأها ثم أخرج ؟ فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أعزم عليك إن كنت مسلماً إلا خرجت من بيتي ـ قال ـ فقال ـ يا أبا بكر ! لا أزيد على أن أقرأ ( آية ) ثم أخرج . فقام لإزاره يشده وتهيأ للقيام فأقبلنا على الرجل ، فقلنا : قد عزم عليك إلا خرجت ، أفيحل لك أن تخرج رجلاً من بيته ؟ قال : فخرج ، فقلنا : يا أبا بكر ! ما عليك لو قرأ آية ثم خرج ؟ قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ، ولكن خفت أن يلقى في قلبي شيئاً أجهد في إخراجه من قلبي فلا أستطيع .

وعن الأوزاعي قال : لا تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته .

فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصوداً والله أعلم . تأثير كلام صاحب البدعة في القلوب معلوم . وثم معنى آخر قد يكون من فوائد تنبيه الحديث بمثال داء الكلب وهي :

المسألة الثالثة والعشرون التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة

وهو التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة ، إذ كان مثل المعاصي الواقعة بأعمال العباد قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً ، كمثل الأمراض النازلة بجسمه أو روحه ، فأدوية الأمراض البدنية معلومة ، وأدوية الأمراض العملية التوبة والأعمال الصالحة ، وكما أن من الأمراض البدنية ما يمكن فيه التداوي ، ومنه ما لا يمكن فيه التداوي أو يعسر ، كذلك الكلب الذي في أمراض الأعمال ، فمنها ما يمكن فيه التوبة عادة ، ومنها ما لا يمكن .

فالمعاصي كلها ـ غير البدع ـ يمكن فيه التوبة من أعلاها ، وهي الكبائر ـ إلى أدناها ـ وهي اللمم ـ والبدع أخبرنا فيها إخبارين كلاهما يفيد أن لا توبة منها .

الإخبار الأول : ما تقدم في ذم البدع من أن المبتدع لا توبة له ، من غير تخصيص .

والآخر : ما نحن في تفسيره ، وهو تشبيه البدع بما لا نجح فيه من الأمراض كالكلب ، فأفاد أن لا نجح من ذنب البدع في الجملة من غير اقتضاء عموم ، بل اقتضى أن عدم التوبة مخصوص بمن تجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه ، وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الهوى على ذلك الوجه وتبين الشاهد عليه ، ونشأ من ذلك معنى زائد هو من فوائد الحديث ، وهي :

المسألة الرابعة والعشرون أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب

وهو أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب ، فإذاً يمكن فيه التوبة ، وإذا أمكن في أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم ، وهم أهل البدع الجزئية .

فإما أن يرجح ما تقدم من الأخبار على هذا الحديث ، لأن هذه الرواية في إسنادها شيء ، وأعلى ما يجرى في الحسان ، وفي الأحاديث الأخر ما هو صحيح ، كقوله :

"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون كما يعود السهم على فوقه" وما أشبه .

وأما أن يجمع بينهما ، فتجعل النقل الأول عمدة في عموم قبول التوبة ، ويكون هذا الإخبار أمراً زائداً على ذلك ، إذ لا يتنافيان بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى ، وغلبة الهوى للإنسان في الشيء المفعول أو المتروك له أبداً أثر فيه ، والبدع كلها تصاحب الهوى ، ولذلك سمي أصحابها أهل الأهواء ، فوقعت التسمية بها ، وهو الغالب عليهم ، إذ يصاحبه دليل شرعي إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل ، لا عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي في الظاهر ، فكان أجرى في البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبه ، ثم إنه يتفاوت ، إذ ليس في رتبة واحدة ولكنه تشريع كله ، واستحق صاحبه أن لا توبة له ، عافانا الله من النار بفضله ومنه .

وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول ـ على فرض العمل به ـ ونقول : إن ما تقدم من الأخبار عامة ، وهذا يفيد الخصوص كما تفيده ، أو يفيد معنى يفهم منه الخصوص ، وهو الإشراب في أعلى المراتب مسوقاً مساق التبغيض ، لقوله :

"وإنه سيخرج في أمتي أقوام" إلى آخره ، فدل أن ثم أقواماً أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال ، بل هي أدنى من ذلك ، وقد لا تتجارى بهم ذلك .

وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع ، وتمام المسألة قد مر في الباب الثاني والحمد لله . لكن على وجه لا يكون في الأحاديث كلها تخصيص ، وبالله التوفيق .

المسألة الخامسة والعشرون أنه جاء في بعض روايات الحديث :أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم

أنه جاء في بعض روايات الحديث :

"أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم ، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس ، ولا كل قياس ، بل القياس على غير أصل ، فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل يصح ، وإنما يكون على أصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع معتبر ، فإذا لم يكن للقياس أصل ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الذي لا يصح أن يوضع في الدين ـ فإنه يؤدي إلى مخالفة الشرع وأن يصير الحلال بالشرع حراماً بذلك القياس ، والحرام حلالاً ، فإن الرأي من حيث هو رأي لا ينضبط إلى قانون شرعي إذا لم يكن له أصل شرعي فإن العقول تستحسن ما لا يستحسن شرعاً ، وتستقبح ما لا يستقبح شرعاً . وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصل فتنةً على الناس .

ثم أخبر في الحديث أن المعلمين لهذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق ، واشد فتنة . وبيانه أن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت ، وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة ، بخلاف الفتيا ، فإن أدلتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلا الأفراد ، ولا يميز ضعيفها من قويها إلا الخاصة ، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير .

حديث ليس عام إلا والذي بعد شر منه وما معناه[عدل]

وقد جاء مثل معناه محفوظاً من حديث ابن مسعود أنه قال : " ليس عام إلا والذي بعده شر منه " لا أقول : عام أمطر من عام ، ولاعام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير . ولكن : ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم ، فيهدم الإسلام ويثلم .

ذهاب العلماء وقيام الجهال مقامهم في الإفتاء[عدل]

وهذا الذي في حديث ابن مسعود موجود في الحديث الصحيح ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : "ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون" .

وقد تقدم في ذم الرأي آثار مشهورة عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين تبين فيها أن الأخذ بالرأي يحل الحرام ويحرم الحرام .

القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة وبيان ما عليه سلف الأمة

ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على الأصول في نازلة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ، ممن يعرف الأشباه والنظائر ، ويفهم معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتعليل ، قياساً لم يعارضه ما هو أولى منه ، فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس ، وإنما القياس الهادم ما عارض الكتاب والسنة ، أو ما عليه سلف الأمة ، أو معانيها المعتبرة .

مخالفة الأصول في الإفتاء قسمان أحدهما مخالفة أصل من غير استمساك بأصل آخر[عدل]

ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين :

أحدهما : أن يخالف أصلاً مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر ، فهذا لا يقع من مفت مشهور إلا إذا كان الأصل لم يبلغه ، كما وقع لكثير من الأئمة حيث لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ ، وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافاً ظاهراً من غير معارضة بأصل آخر ، فضلاً عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا .

الثاني أن يخالف الأصل بنوع من التأويل[عدل]

والثاني : أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطىء ، بأن يضع الإسم على غير موضعه أو على بعض مواضعه ،أو يراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصودة ، أو غير ذلك من أنواع التأويل .

والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما في معناه أن تحليل الشيء إذا كان مشهوراً فحرمه بغير تأويل ، أو التحريم مشهوراً فحلله بغير تأويل كان كفراً وعناداً ، ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأساً قط ، إلا أن تكون الأمة قد كفرت ، والأمة لا تكفر أبداً .

وإذا بعث الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حرام أو حلال . وإذا كان التحليل أو التحريم غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه دليله ، فمثل هذا لم يزل موجوداً من لدن زمان أصحاب رسول الله صلى ا لله عليه وسلم ، هذا إنما يكون في آحاد المسائل ، فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لهذا : إنه محدث عند قبض العلماء .

فظهر أن المراد إنما هو استحلال المحرمات الظاهرة أو المعلومة عنده بنوع تأويل ، وهذا بين في المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته ، وتواطأت على معناه شواهده ، وأخذوا في اتباع بعض المتشابهات وترك أم الكتاب .

فإذاً هذا ـ كما قا ل الله تعالى ـ زيغ وميل عن الصراط المستقيم ، فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدهماء ظناً أنهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدين ، وهم يضلون بغير علم ، ولا شيء أعظم على الإنسان من داهية تقع به من حيث لا يحتسب ، فإنه لو علم طريقها لتوقاها ما استطاع ، فإذا جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به ، وهو ظاهر ، فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا ، لأنه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم ، فيضل من حيث يطلب الهداية : اللهم "اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ".

المسألة السادسة والعشرون أن ههنا نظراً لفظياً في الحديث هو من تمام الكلام فيه الإخبار بالمعنى عن الجثة وبالصفة عن الموصوف

إن ها هنا نظراً لفظياً في الحديث هو من تمام الكلام فيه ، وذلك أنه لما أخبر عليه الصلاة والسلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة ، وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر ، فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيين ـ فقالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأصل الجواب أن يقال : أنا وأصحابي ، ومن عمل مثل عملنا . أو ما اشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة ، إما بالإشارة أو بوصف من أوصافها . إلا أن ذلك لم يقع ، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف ، فلذلك أتى بما أتى ، فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها ، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها وأصحابه رضي الله عنهم ، فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ . والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى ، لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية ، فقال : "ما أنا عليه واصحابي" .

ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطابق قول الله تعالى : "قل أؤنبئكم بخير من ذلكم" ؟ فإن هذا الكلام معناه : هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل : نعم ! أخبرنا ، فقال الله تعالى : "للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية . أي للذين اتقوا استقر لهم "عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار" .الآية . فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه . وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين .

وقال تعالى : "مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار " الآية . فقوله : مثل الجنة يقتضي المثل لا الممثل ، كما قال تعالى : "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" ولأنه كلما كان المقصود الممثل جاء به بعينه .

ويمكن أن يقال : أن النبي لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية ، كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية ، لا عن نفس الفرقة . لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها . فالمتقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل ، فلو سألوا : ما وصفها ؟ أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى ، فلما فهم عليه الصلاة والسلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك .

ونقول : لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم ، أتى به جواباً عن سؤالهم ، حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه .

ويمكن أن يقال : إن ما سألوا عنه لا يتعين ، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر ، إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير .

ومن شأن هذا السؤال التعيين وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين ، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع ، وهو ما كان عليه هو وأصحابه .

وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم ، وهو بالنسبة إلى السائل معين ، لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين ، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك ، لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر ، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ،ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود . والله أعلم . انتهى .