كتاب الاعتبار/الباب الثاني/الشفاء بطرق غريبة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​كتاب الاعتبار
 المؤلف أسامة بن المنقذ
الشفاء بطرق غريبة



الشفاء بطرق غريبة


وحدثني الأمير سيف الدولة زنكي بن قراجا رحمه الله قال دعانا شاهنشاه بحلب وهو زوج أخته. فلما اجتمعنا عنده نفذنا إلى صاحب لنا كنا نعاشره وننادمه خفيف الروح طيب العشرة فاستدعيناه فحضر، فعرضنا عليه الشراب فقال أنا محتم امرني الطبيب بالحميه أياماً حتى تشق هذه السعلة وكان في مؤخر رقبته سلعة كبيره، فقلنا وافقنا اليوم وتكون الحميه من غد. ففعل وشرب معنا إلى أخر النهار، فطلبنا شاهنشاه شيئا نأكله. فقال ما عندي شيء. فلاججناه حتى أجابنا إلى ان يحضر لنا بيضا نقليه على المنقل فاحضر البيض أحضرنا صحنا وكسرنا البيض وافرغنا ما فيه في الصحن ووضعنا المقلى على المنقل ليحمى، فأشرت إلى ذلك الرجل الذي في رقبته السلعة ان يشرب البيض، فرفع الصحن على فمه ليشرب بعضه فانساب جميع ما في الصحن في حلقه فشربه، وقلنا لصاحب الدار عوضنا عن البيض. فقال والله ما افعل فشربنا ثم افترقنا. فأنا في السحر في فراشي والباب يقرع، فخرجت جاريه تنظر من بالباب فإذا هو صديقنا ذلك. فقلت أحضريه. فجاءني وأنا في فراشي فقال يا مولاي تلك السلعة التي كانت في رقبتي ذهبت وما بقي لها اثر. فنظرت موضعها فإذا هو كغيره من جوانب رقبته. فقلت أي شيء اذهبها قال الله سبحانه ما عرفت انني استعملت سيئا ما كنت استعمله غير شربي لذالك البيض النيء. فسبحان القادر المبلي المعافي. وكان عندنا في شيزر اخوان اسم الأكبر مظفر والآخر مالك بن عياض من أهل كفر طاب وهما تاجران يسافران إلى بغداد، وغيرها من البلاد، ومظفر أدركه قيلة عظيمة فهو منها في تعب، فسار في قافلة على المساوه إلى بغداد، فنزلت القافلة في حي من أحياء العرب فضيفوهم بطيور طبخوها لهم فتعشوا وناموا، فانتبه ابنه رفيقه الذي في جانبه وقال له أنا نائم أو مستيقظ قال مستيقظ لو كنت نائم ما تحدثت. قال تلك القيلة قد ذهبت وما بقي لها اثر. فنظر فإذا هو قد عاد كغيره إلى الصحه. فلما أصبحوا سألوا العرب الذين أضافوهم أي شيء أطعموهم. قال وانزلتم بنا ودوابنا عازبة، فخرجنا أخذنا فراخ غربان طبخناها لكم. فلما وصلوا بغداد دخلوا المارستان وحكوا للمتولي المارستان حكايته، فنفذ حصل فراخ غربان أطعمها لمن به هذا المرض، فلم تنفعه ولا أثرت فيه. فقال تلك الفراخ التي أكلها كان زقها أبوها أفاعي لذلك كان نفعها. ومما يشاكل ذلك ان رجلا أتى يوحنا بن بطلان الطبيب المشهور بالمعرفة والعلم والتقدم بالصنعة الطب وهو دكانه بحلب، فشكى إليه مرضه فرآه قد استحكم به الاستسقاء وكبر بطنه ودقت وتغيرت سحنته. فقال لهيا ولدي ما لي والله فيك حيلة، ولا بقي الطب ينجح فيك فانصرف. ثم بعد مدة اجتاز به وهو في دكانه وقد زال ما به من مرض وضمر جوفه وحسنت حاله، فدعاه ابن بطلان فقال ما أنت الذي حضرت عندي من مدة وبك الاستسقاء وقد كبر بطنك ودقت رقبتك وقلت لك مالي فيك حيلة؟ قال بلى قال بماذا داويت حتى زال ما بك؟ قال والله ما تداويت بشيء، أنا رجل صعلوك ما لي شيء ولا لي من يدور بي سوى والدتي، عجوز ضعيفة كان لها في دنين خل، فكانت كل يوم تطعمني منه بخبز. فقال له بطلانبقي من الخل شيء؟ قال نعم قال امشي معي ارني الدن الذي فيه الخل. فمشى بين يديه إلى البيت أوقفه على دان الخل. فأفزع ابن بطلان ما كان فيه من الخل فوجد في أسفله افعيين قد تهرأتا. فقال لهيا بني ما كان يقدر يداويك بخل فيه افعيان حتى تبرأ إلا الله عز وجل. وكان ابن بطلان إصابات عجيبة في الطب. فمن ذلك ان رجلاً أتاه وهو في دكانه بحلب، والرجل قد انقطع كلامه فلا يكاد بفهم منه إذا تكلم. فقال لهما صنعتك؟ قال أنا مغربل. فقال احضر لي نصف رطل خل حاذق. فأحضره. فقال اشربه. فشربه لحظة فذرعه القيء، فتقيأ طيناً كثيراً في ذلك الخل، فانفتح حلقه واستوى كلامه. فقال ابن بطلان لابنه وتلامذتهلا تداووا بهذا الدواء أحد فتقتلوه. هذا كان قد علق بالمريء من غبار الغربلة تراب ما كان يخرجه إلى الخل. وكان ابن بطلان ملازماً لخدمة جدي الأكبر ابي المتوج مقلد بن نصر بن منقذ. فظهر في جدي الأكبر ابي المتوج مقلد بن نصر بن منقذ. فظهر في جدي ابي الحسن علي بن المقلد بن نصر بن منقذ رحمه الله وضح وهو صبي صغير، فاقلق ذلك اباه وأشفق عليه من البرص، فاحضر ابن بطلان وقال لهابصر ما قد ظهر في جسم علي. فنظره وقال أريد خمس مائة دينار حتى أداويه وأذهب هذا عنه. فقال له جديلو كنت داويت علياً ما كنت رضيت لك بخمس مائة دينار. فلما رأى الغضب من جدي قال يا مولاي أنا خادمك وعبدك وفي فضلك، ما قلت ما قلته إلا على سبيل المزاح، وهذا الذي بعلي بهق الشباب، وإذا أدرك ذهب عنه، فلا تحمل منه هماً ولا يقول لك سوايأنا أداويه ويتسوق عليك، فهذا يزول عند بلوغه. فكان كما قال . وكان في حلب امرأة من وجوه نساء حلب لها برة لحقها برد في رأسها فكانت تعمل عليه القطن العتيق والقلنسوة والمخملة والمناديل حتى تصير على رأسها عمامة كبيرة وهي تستغيث من البرد، فأحضرت ابن بطلان وشكت إليه مرضها فقال حصلي في غد خمسين مثقال اً من كافور رياحي عارية أو مكرى من بعض الطيبين، فهو يعود إليه بأسره. فحصلت له الكافور، ثم اصبح القى كل ما على رأسها وحشا شعرها بذلك الكافور ورد على رأسها ما كان عليه من الدثار وهب تستغيث من البرد، فنامت لحظة وانتبهت تشكو الحر والكرب في رأسها حتى بقي على رأسها قناع واحد، ثم نفض شعرها من ذلك الكافور وذهب عنها البرد وصارت تتقنع بقناع واحد.

وقد جرى لي بشيزر ما يقارب ذلك، لحقني برد شديد وقشعريرة من غير حمى وعلي الثياب الكثيرة والفرو، ومتى تحركت في جلوسي ارتعدت وقام شعر بدني وتجمعت. فأحضر الشيخ ابي الوفاء تميماً الطبيب فشكوت إليه ما أجد. فقال أحضر لي بطيخة هندي. فأحضرت فكسرها فقال يكل منها استطعت. قلت يا حكيم أنا في الموت من البرد والرمان بارد، كيف آكل هذه مع بردها؟ قال كل كما أقول لك. فأكلت، فما انتهى أكلي منها حتى عرقت وزال ما كنت أجده من البرد. فقال ليالذي كان بك من غلبة الصفراء ما كان من برد حقيقي.

وقد تقدم ذكر شيء من غريب الأحلام، وقد أردت في كتاب المترجم بكتاب النوم والأحلام من ذكر النوم والأحلام وما قيل فيها وفي أوقات الرؤيا وفي أقوال العلماء فيها، واستشهدت على أقوالهم بما ورد فيها من أشعار العرب ووسعت الشرح واشبعت فيه المعنى، فما حاجة إلى ذكر شيء منه ها هنا لكنني ذكرت هذا الخبر واستظرفته فأوردته، كان لجدي سديد الملك ابي الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ رحمه الله جارية يقال لها لؤلؤة ربت والدي مجد الدين أبا سلامة مرشد بن علي رحمه الله. فلما كبر وانتقل عن الدار والده انتقلت معه فرزقني، فربتني تلك العجوز إى ان كبرت وتزوجت وانتقلت من دار والدي رحمه الله فانتقلت معي، ورزقت الأولاد فربتهم وكانت رحمها الله من النساء الصالحات صوامة قوامة، وكان يلحقها القولنج وقتاً بعد وقت، فلحقها يوماً من الأيام واشتد بها حتى غاب ذهنها وآيسوها، فبقيت ذلك يومين وليلتين، ثم أفاقت وقالت لاإله إلا الله! ما أعجب ما كنت فيه! لقيت أمواتنا جميعهم وحدثوني بالعجب وقال وا لي في جملة ما قال واإن إن هذا القولنج ما يعود يلحقك. فعاشت بعد ذلك بمدة الطويلة ولم يلحقها قولنج. وعاشت حتى قاربت المائة سنة، وكانت محافظة لصلواتها رحمها الله فدخلت إليها في بيت أفردته لها من داري وبين يديها طست وهي تغسل منديلاً لصلوات. فقلتما هذا يا أمي؟ قالت يا بني قد مسكوا هذا المنديل وأيديهم زفرة من الجبن وكلما غسلته فاحت مته رائحة الجبن. قلتأريني الصابون التي تغسلين بها. فأخرجتها من المنديل فإذا هي قطعة جبن، وهي تظن أنها صابون، وكلما عركت ذلك المنديل بالجبن فاحت روائحه. قلتيا أمي هذه جبنة! ما هي صابونة. فنظرتها وقالت صدقت يا بني ما ظننتها إلا صابوناً، فتبارك الله أصدق القائلينومن نعمره ننكسه في الخلق. الإطالة تجلب الملالة والحوادث والطوارئ اكثر من ان تحصر والرغبة إلى الله عز وجل في الستر والعافية فيما بقي من الحياة، والرحمة والرضوان عند موافاة الوفاة، فانه سبحانه اكرم مسؤول واقرب مأمول. الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله وسلامه.