في منزل ريتشارد فاجنر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

في منزل ريتشارد فاجنر

​في منزل ريتشارد فاجنر​ المؤلف علي محمود طه


يا للطريق الضّيق الـ
ـصّاعد بين ربوتين
كأنّما خطّ على قد
ر خطى لعاشقين
ألشّجرات حوله
كأنّها أهداب عين
كعهده بصاحب الدّ
ار ظليل الجانبين
نبّأه الصّدى المرنّ
عن قدوم زائرين
في فجر يوم ماطر
شقّ حجاب ديمتين
كأنّما ينزل منـ
ـه الوحي حبّات لجين
فانتبهت خميلة
تهزّ عشّ طائرين
و شاع في االغابة همـ
ـس من شفاه زهرتين
من الغريبان هنا؟
و ما سراهما، و أين!؟
ماذا قدومهما و الغيث مدرار
لا صاحب الدّار طلاّع و لا الدّار
هذي البحيرة و سنى، حلم ليلتها
لمّا تفق منه شطئان و أغوار
و الأرض تحت سحاب الماء أخيلة
مما يصوّره عشب و نوّار
و الصّبح في مهده الشّرقيّ ما رفعت
عن ورده من نسيج الغيم أستار
حتّى الجبال فما لاحت لها قمم
و لا شدا لرعاة الضأن مزمار
فمن هما القادمان؟ الرّيح صاغية
لوقع خطوهما و الأرض أبصار!
أعاد من زمن الأشباح سامره
فاللّيل و الغاب أشباح و أسمار؟
أم البحيرة جنّياتها طلعت
فهبّ موج يناديها و تيّار!
أم راصدا كوكب ضلاّ سبيلهما
لمّا خبت من نجوم اللّيل أنوار
أم صاحبا سفر مال الضّنى بهما
حوتهما جنّة للفنّ معطار
أم عاشقان ترى؟ أم زائران هما؟
و هل مع الفجر عشّاق و زوّار!
و أمسك الغيث كما
لو كان يصغي مثلنا
و اعتنقت حتّى وريـ
ـقات الغصون حولنا
كأنّما تخشى النّسيـ
ـم أو تخاف الغصنا
و انبعث اللّحن الشّجيّ
من هنا و من هنا
يثور في إيقاعه
قيثارة و أرغنا
كأنّ جنّا في السّما
ء يشعلون الفتنا
كأنّ أربابا بها
يحكمون الزّمنا
يا صاحب الإيقاع ما
تعرف ما هجت بنا
ألفجر؟ أم ثارت على الشّـ
ـمس بوارق السّنى؟
مالك قد غنيته
هذا النّشيد المحزنا
عنّيته آلهة
أم أنت غنّيت لنا؟
ما ذلك الصّوت شاجي اللّحن سحّار
يجريه نبع من الإلهام زخّار
فيه تنفّس فوق السّحب آلهة
و آدميون فوق الأرض ثوّار
و فيه تهمس أرواح و أفئدة
منهن عان، و رحمن، و جبّار
له مذاق، له لون، له أرج
خمر أباريقها شتّى و أثمار
أشتفّه و أنادي كلّ ناحية
من المغنّي وراء الغاب يا دار؟
ألسمفونية هذي! أم صدى حلم
كما تجاوب خلف اللّيل أطيار!
أعاد للمعزف المهجور صاحبه
فعربدت في يديه منه أوتار!
أظلّ أصغي و ما في شرفة فتحت
و لا زاح رتاج الباب ديّار
حتى الحديقة لفّت كوخ حارسها
بصمتها، فهنا نبت و أحجار
تواضعت بجلال الفنّ ما راتفعت
مثل البروج لها في الجوّ أسوار
تصغي إلى همسات الرّيح شيّقة
كأنّما همسات الرّيح أخبار!
هنيهة ثم سمعـ
ـنا هاتفا مردّدا
يقول: قم يا سجفريـ
ـد فالصّباح قد بدا
عرائس الوادي ألم
تضرب لهنّ موعدا؟
ماذا! قم انفض الكرى،
و نم كما شئت غدا
و أخطر على الغابة منـ
ـضور الصّبا مخلّدا
خذ سيفك السّحري صيـ
ـغ جوهرا و عسجدا
قد لقي التنّين منـ
ـه في العشيّة الرّدى
صوت مع الّيح سرى..
.، و للسكون أخلدا
فأمسكت صاحبتي
يدي و حاطت بي يدا
تقول: لم أسنع كهـ
ـذا اللّحن أو هذا الصّدى
قلت: و لا بمثله
شاد على الدّهر شدا
قد باح بالنّغم الموعود قيثار
فالفجر أحلام عشّاق و أسرار
صحا يفصّل رؤياه و يعبرها
موج على الشاطئ الصخري ثرثار
و زحزحت ورق الصّفصاف حانية
على البحيرة أعشاب و أزهار
تسائل الماء: هل غنّته أو عبرت
شهب به مستحمات و أقمار؟
يا صاحب اللّحن إنّ الغاب مصغية
فأين من سجفريد السّيف و الغار
ما زال فوق نديّ العشب مضجعه
و من يديه على الأغصان آثار
هذا النّشيد، نشيد الحبّ، تعزفه
له عرائس، مثل الورد، أبكار
بعثتهنّ من الأنغام أجنحة
هزيزهنّ مع الأفلاك دوّار
في صدر قيثارة أودعته نغما
مزاجه الماء و الإعصار و النّار
تفضي بما شئت من أسرار عالمها
فيه ليال و أيّام و أقدار
حتّى الطّبيعة من ناس و آلهة
تمازجت فهي ألحان و أشعار!