فرق الشيعة للقمي
الحمد لله المتوحد بالقدم والأزلية، الذي ليس له غاية في دوامه ولا له أولية في أزليته. أنشأ صنوف البرية لا من أصول كانت معه بدية. جلّ عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، وتعالى عن مشاركة الأنداد. هو الباقي بغير مدة والمنشئ لا بأعوان. لم يحتج فيما ذرا إلى محاولة التفكير ولا مزاولة مثال ولا تقدير. أحدث الخلق على صنوف من التخطيط والتصوير، لا برؤية ولا ضمير. سبق علمه في جميع الأمور ونفذت مشيئته في كل ما يكون من الأزمنة والدهور. تفرد بصنعة الأشياء فأتقنها بلطائف التدبير، فسبحانه من لطيف خبير. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. لا تدركه الأبصار ولا يلحقه غاية ولا مقدار. لا يعزب عنه خافية من السرائر مما تنطوي عليه القلوب وتكنّه الضمائر. ليس له في خليقته مماثل.
أما بعد فإن فرق الأمة كلها المتشيعة وغيرها اختلفت في الإمامة في كل عصر ووقت كل إمام بعد وفاته وفي عصر حياته منذ قبض الله محمدا . وقد ذكرنا في كتابنا هذا ما يتناهى إلينا من فرقها وآرائها واختلافها وما حفظنا مما روي لنا من العلل التي من أجلها تفرقوا واختلفوا وما عرفنا في ذلك من تاريخ الأوقات وبالله التوفيق ومنه العون.
قبض رسول الله في شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت نبوته ثلاثا وعشرين سنة. وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.
فافترقت الأمة ثلاث فرق:
فرقة منها سميت الشيعة، وهم شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، ومنهم افترقت صنوف الشيعة كلها.
وفرقة منهم ادّعت الإمرة والسلطان، وهم الأنصار، ودعوا إلى عقد الأمر لسعد بن عبادة الخزرجي.
وفرقة مالت إلى أبي بكر بن أبي قحافة، وتأولت فيه أن النبي لم ينص على خليفته بعده، وأنه جعل الأمر إلى الأمة تختار لنفسها من رضيته، واعتل قوم منهم برواية ذكروها أن رسول الله أمره في ليلته التي توفي فيها بالصلاة، فجعلوا ذلك الدليل على استحقاقه إياه، وقالوا: رضيه النبي لأمر ديننا ورضيناه لأمر دنيانا. وأوجبوا له الخلافة بذلك. فاختصمت هذه الفرقة وفرقة الأنصار وصاروا إلى سقيفة بني ساعدة ومعهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة الثقفي. وقد دعت الأنصار إلى العقد لسعد بن عبادة الخزرجي والاستحقاق للأمر والسلطان، فتنازعوا هم والأنصار في ذلك حتى قالوا: منا أمير ومنكم أمير. فاحتجت هذه الفرقة عليهم بأن النبي عليه السلام قال: «الأئمة من قريش» وقال بعضهم إنه قال: الإمامة لا تصلح إلا في قريش. فرجعت فرقة الأنصار ومن تابعهم إلى أمر أبي بكر غير نفر يسير مع سعد بن عبادة ومن اتبعه من أهل بيته، فإنه (أي سعد بن عبادة) لم يدخل في بيعته حتى خرج إلى الشام مراغما لأبي بكر وعمر، فقتل هناك بحوران وقتله الروم وقال آخرون قتلته الجن واحتجوا بالشعر المعروف وفي روايتهم أن الجن قالت:
قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ** ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده
وهذا قول فيه بعد النظر إلخ لأنه لم يعرف أن الجن ترمي بني آدم بالسهام فتقتلهم.
فصار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر. فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما.
وقد كانت فرقة اعتزلت عن أبي بكر فقالت: لا نؤدي الزكاة إليه حتى يصح عندنا لمن الأمر ومن استخلفه رسول الله بعد، ونقسم الزكاة بين فقرائنا وأهل الحاجة منا.
وارتد قوم فرجعوا عن الإسلام. ودعت بنو حنيفة إلى نبوة مسيلمة، وقد كان ادعى النبوة في حياة رسول الله ، فبعث أبو بكر إليهم الخيول عليها خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقاتلهم وقتل مسيلمة، وقتل من قتل، ورجع من رجع منهم إلى أبي بكر فسموا أهل الردة.
ولم يزل هؤلاء جميعا على أمر واحد حتى نقموا على عثمان بن عفان أمورا أحدثها وصاروا بين خاذل وقاتل إلا خاصة أهل بيته وقليلا من غيرهم حتى قتل. فلما قتل بايع الناس عليا عليه السلام فسموا الجماعة.
ثم افترقوا بعد ذلك فصاروا أربع فرق:
فرقة أقامت على ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام.
وفرقة منهم اعتزلت مع سعد بن مالك، (وهو سعد بن أبي وقاص)، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله ، فإن هؤلاء اعتزلوا عن علي عليه السلام وامتنعوا من محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به فسموا المعتزلة وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الابد وقالوا: لا يحل قتال علي ولا القتال معه. وذكر بعض أهل العلم أن الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصة قومه من بني تميم لا على التدين بالاعتزال لكن على طلب السلامة من القتل وصونا للمال لا للدين، وقال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم.
وفرقة خالفت عليا عليه السلام، وهم طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وعائشة بنت أبي بكر، فصاروا إلى البصرة فغلبوا عليها وقتلوا عمال علي عليه السلام بها وأخذوا المال، فسار إليهم علي عليه السلام فقتل طلحة والزبير وهزموا، وهم أصحاب الجمل. وهرب قوم منهم فصاروا إلى معاوية بن أبي سفيان ومال معهم أهل الشام وخالفوا عليا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان وألزموا عليا وأصحابه دمه ثم دعوا إلى معاوية وحاربوا عليا، وهم أهل صفين.
ثم خرجت فرقة ممن كانوا مع علي عليه السلام وخالفته بعد تحكيم الحكمين بينه وبين معاوية وأهل الشام وقالوا: لا حكم إلا لله، وكفروا عليا عليه السلام وتبرؤا منه، وأمروا عليهم ذا الثدية، وهم المارقون. فخرج علي عليه السلام فحاربهم بالنهروان فقتلهم وقتل ذا الثدية، فسموا الحرورية لوقعة حروراء وسموا جميعا الخوارج، ومنهم افترقت فرق الخوارج كلها.
فلما قتل علي عليه السلام بسيف ابن ملجم المرادي من منهزمي الخوارج، التقت الفرقة التي كانت معه والفرقة التي كانت مع طلحة والزبير وعائشة فصاروا فرقة واحدة مع معاوية بن أبي سفيان إلا القليل منهم من شيعته ومن قال بإمامته بعد النبي ، وهم السواد الأعظم وأهل الحشو وأتباع الملوك وأعوان كل من غلب، أعني الذين التقوا مع معاوية، فسموا جميعا المرجئة لأنهم توالوا المختلفين جميعا وزعموا أن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان ورجوا لهم المغفرة.
وافترقت المرجئة بعد ذلك فصارت إلى أربع فرق:
فرقة منهم غلوا في القول، وهم الجهمية أصحاب جهم بن صفوان وهم مرجئة أهل خراسان.
وفرقة منهم يسمون الغيلانية: أصحاب غيلان بن مروان، وهم مرجئة أهل الشام.
وفرقة منهم يسمون الماصرية: أصحاب عمرو بن قيس الماصر، وهم مرجئة أهل العراق، منهم أبو حنيفة ونظراؤه.
وفرقة منهم يسمون الشكاك والبترية وأصحاب الحديث، منهم سفيان بن سعيد الثوري وشريك بن عبد الله وابن أبي ليلي ومحمد بن إدريس الشافعي ومالك بن أنس ونظراؤهم من أهل الحشو والجمهور العظيم، وقد سموا الحشوية.
فقالت أوائلهم في الإمامة: خرج رسول الله من الدنيا ولم يستخلف علي دينه من يقوم مقامه في لم الشعث وجمع الكلمة والسعي في أمور الملك والرعية وإقامة الهدنة وتأمير الأمراء وتجييش الجيوش والدفع عن بيضة الإسلام وردع المعاند وتعليم الجاهل وإنصاف المظلوم، وجوزوا فعل هذا الفعل لكل إمام أقيم بعد الرسول .
ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: على الناس أن يجتهدوا آراءهم في نصب الإمام وجميع حوادث الدين والدنيا إلى اجتهاد الرأي. وقال بعضهم: الرأي باطل ولكن الله عز وجل أمر الخلق أن يختاروا الإمام بعقولهم.
وشذت طائفة من المعتزلة عن قول أسلافها فزعمت أن النبي نص على صفة الإمام ونعته ولم ينص على اسمه ونسبه. وهذا قول أحدثوه قريبا.
وكذلك قالت جماعة من أهل الحديث هربت حين أفحمها حجاج الإمامية ولجأت إلى أن النبي نص على أبي بكر بأمره إياه بالصلاة، وتركت مذهب أسلافها في أن المسلمين قالوا بعد وفاة الرسول عليه السلام رضينا لدنيانا بإمام رضيه رسول الله لديننا.
واختلف أهل الإهمال في إمامة الفاضل والمفضول، فقال أكثرهم هي جائزة في الفاضل والمفضول إذا كانت في الفاضل علة تمنع من إمامته. ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلا للفاضل المتقدم.
واختلف الكل في الوصية، فقال أكثر أهل الإهمال توفي رسول الله ولم يوص إلى أحد من الخلق، فقال بعضهم قد أوصى على معنى أنه أوصى الخلق بتقوى الله عز وجل.
ثم اختلفوا جميعا في القول بالإمامة وأهلها، فقالت البترية وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام هو أفضل الناس بعد رسول الله وأولاهم بالإمامة وإن بيعة أبي بكر ليست بخطأ، ووقفوا في عثمان وثبتوا حزب علي عليه السلام وشهدوا على مخالفيه بالنار واعتلوا بأن عليا عليه السلام سلم لهما ذلك فهو بمنزلة رجل كان له على رجل حق فتركه له.
وقال سليمان بن جرير الرقي ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام كان الإمام وإن بيعة أبي بكر وعمر كانت خطأ ولا يستحقان اسم الفسق عليها من قبل التأويل لأنهما تأولا فأخطآ، وتبرؤوا من عثمان فشهدوا عليه بالكفر، ومحارب علي عليه السلام عندهم كافر.
وقال ابن التمار ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام كان مستحقا للإمامة وإنه أفضل الناس بعد رسول الله وإن الأمة ليست بمخطئة خطأ إثم في توليتها أبا بكر وعمر ولكنها مخطئة بترك الأفضل، وتبرؤا من عثمان ومن محارب علي عليه السلام وشهدوا عليه بالكفر.
وقال الفضل الرقاشي وأبو شمر وغيلان بن مروان وجهم بن صفوان ومن قال بقولهم من المرجئة إن الإمامة يستحقها كل من قام بها إذا كان عالما بالكتاب والسنة وأنه لا تثبت الإمامة إلا بإجماع الأمة كلها.
وقال أبو حنيفة وسائر المرجئة: لا تصلح الإمامة إلا في قريش، وكل من دعا منها (أي قريش) إلى الكتاب والسنة والعمل بالعدل وجبت إمامته ووجب الخروج معه، وذلك للخبر الذي جاء عن النبي أنه قال: «الأئمة من قريش».
وقالت الخوارج كلها إلا النجدية: الإمامة تصلح في الأمناء من الناس من كان منهم قائما بالكتاب والسنة عالما بهما وأن الإمامة تثبت بعقد رجلين.
وقالت النجدية من الخوارج: الأمة غير محتاجة إلى إمام ولا إلى غيره وإنما علينا وعلى الناس أن نقيم كتاب الله عز وجل فيما بيننا.
وقالت المعتزلة: إن الإمامة يستحقها كل من كان قائما بالكتاب والسنة، فإذا اجتمع قرشي ونبطي وهما قائمان بالكتاب والسنة ولينا القرشي، والإمامة لا تكون إلا بإجماع الأمة واختيار ونظر.
وقال ضرار بن عمرو إذا اجتمع قرشي ونبطي ولينا النبطي وتركنا القرشي لأنه أقل عشيرة وأقل عددا فإذا عصى الله وأردنا خلعه كانت شوكته أهون وإنما قلت ذلك نظرا للإسلام.
وقال إبراهيم النظام ومن قال بقوله: الإمامة تصلح لكل من كان قائما بالكتاب والسنة لقول الله عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وزعموا (أي فرقة النظامية) أن الناس لا يحب عليهم فرض الإمامة إذا هم أطاعوا الله وأصلحوا سرائرهم وعلانيتهم، فإنهم لن يكونوا كذا إلا والعلم بالإمام يقوم بهم باضطرار فيعرفونه فعليهم اتباعه، ولن يجوز أن يكلفهم الله عز وجل معرفته ولم يضع عندهم علمه فيكلفهم المحال.
وقالوا في عقد المسلمين بأن الإمامة لأبي بكر إنهم قد أصابوا في ذلك وإنه كان أصلحهم في ذلك الوقت بالقياس وبخبر تأولوه. أما القياس فإنههم قالوا إنا وجدنا الإنسان لا يتعمد أن يذل نفسه لرجل ويوجب طاعته وقبول أمره ويلزم نفسه اتباعه في كل ما قال إلا من ثلاث طرق: إما أن يكون رجلا له عشيرة تعينه على استعباد الناس أو رجلا عنده مال فيبذل الناس لماله أو له دين برز فيه على الناس، فلما وجدنا أبا بكر أقلهم عشيرة وأفقرهم علمنا أنه إنما قُدم للدين، وأما الخبر فإنا وجدنا إجماع الناس عليه ورضاهم بإمامته، وقد قال النبي : "لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال" ولو كان اجتماع الناس عليه خطأ لكان في ذلك فساد الصلاة وإبطال جميع الفرائض والقرآن وهو الحجة علينا بعد النبي ، وهذه علة يعتل بها جميع المعتزلة والمرجئة.
وزعم عمرو بن عبيد وضرار بن عمرو وواصل بن عطاء وهم أصول المعتزلة، فقال عمرو بن عبيد ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام كان أولى بالحق من غيره، وقال ضرار بن عمرو لست أدري أيهما أهدى أعلي أم طلحة والزبير، وقال واصل بن عطاء: مثل علي ومن خالفه مثل المتلاعنين لا يدرى من الصادق منهما ومن الكاذب. وأجمعوا جميعا على أن يتولوا القوم في الجملة وأن إحدى الفرقتين ضالة لا شك من أهل النار وأن عليا وطلحة والزبير إن شهدوا بعد اقتتالهم على درهم لم يجيزوا شهادتهم، وإن انفرد علي مع رجل من عرض الناس أجازوا شهادته وكذلك طلحة والزبير، وزعموا أنهم يسمونهم باسم الإيمان على الأمر الأول ما اجتمعوا، فإذا انفردوا لم يسموا واحدا منهم على الانفراد مؤمنا ولم يجيزوا شهادته.
وأما البترية من أصحاب الحديث أصحاب الحسن بن صالح بن حي وكثير (النواء) وسالم بن أبي حفصة والحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وأبي المقدام ثابت الحداد ومن قال بقولهم، فإنهم دعوا إلى ولاية علي عليه السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر، وأجمعوا جميعا أن عليا خير القوم جميعا وأفضلهم، وهم مع ذلك يأخذون بأحكام أبي بكر وعمر ويرون المسح على الخفين وشرب النبيذ المسكر.
واختلفوا في حرب علي عليه السلام ومحاربة من حاربه. فقالت الشيعة والزيدية ومن المعتزلة إبراهيم النظام وبشر بن المعتمر ومن قال بقولهما من المرجئة أبو حنيفة وأبو يوسف وبشر المريسي ومن قال بقولهم: إن عليا عليه السلام كان مصيبا في حربه طلحة والزبير وغيرهما وإن جميع من قاتل عليا عليه السلام وحاربه كان على خطأ، ووجب على الناس محاربتهم مع علي. والدليل عندهم على ذلك قول الله في كتابه: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فقد وجب قتالهم لبغيهم عليه لأنهم ادعوا ما ليس لهم وما لم يكونوا أولياءه من الطلب بدم عثمان، وبغوا عليه بنكثهم بيعته بعدما بايعوا طائعين وقتلهم من قتل من أوليائه من المسلمين بالبصرة ظلما وعدوانا، فوجبت محاربتهم على المسلمين حتى يفيئوا إلى أمر الله ويرجعوا إلى بيعته، وقد قال الله: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} واعتلوا أيضا بقول الله: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم} واعتلوا بالخبر عن علي عليه السلام في قوله: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وأن النبي قال للزبير وهو يكلم عليا: «لتقاتلنه وأنت له ظالم». فقد قاتلهم ووجب قتالهم.
وقال بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد ومن قال بقوله: إن عليا وطلحة والزبير مشركون منافقون، وهم مع ذلك جميعا في الجنة لقول رسول الله : «اطلع الله عز وجل على أهل بدر فقال اصنعوا ما شئتم قد غفرت لكم»
وقالت بقية المعتزلة ضرار بن عمرو ومعمر (بن عباد السلمي) وأبو الهذيل العلاف وبقية المرجئة: إنا نعلم أن أحدهما مصيب والآخر مخطئ فنحن نتولى كل واحد منهم على الانفراد ولا نتولاهم على الاجتماع. وعلتهم في ذلك أن كل واحد منهم قد ثبتت ولايته وعدالته بالإجماع فلا تزول عنه العدالة إلا بالإجماع.
وقالت الحشوية وأبو بكر الأصم ومن قال بقوله: إن عليا وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حربهم وإن المصيبين هم الذين قعدوا عنهم وأنهم يتولونهم جميعا ويتبرؤن من حربهم ويردون أمرهم إلى الله عز وجل.
واختلفوا في تحكيم الحكمين؛ فقالت الخوارج: الحكمان كافران، وكفر علي عليه السلام حين حكّمهما. واعتلوا بقول الله عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (أي) الظالمون والفاسقون، وبقوله تبارك وتعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فتركه القتال وقد أُمر به كفر.
وقالت الشيعة إن عليا عليه السلام كان مصيبا في تحكيمه لما أبى أصحابه عليه إلا التحكيم وامتنعوا من القتال لأنه أبى عليهم وأعلمهم أنه خطأ، (لأن) التحكيم يجوز بين المسلمين والمشركين ولكنه لا يجوز بين إمام المسلمين وأهل البغي عليه والنكث والقاسطين من الأمم، وأعلمهم أن رفع المصاحف ودعاءهم إلى كتاب الله مكر منهم وحيلة لرفع الحرب في تلك الحال (إذ) كانوا قد شارفوا القتال والغلبة، فكان ذلك منهم مكيدة (واحتيالا)، فلما أبوا عليه وامتنعوا من المحاربة وأرى أنهم سيخذلونه إن امتنع من ذلك أجابهم على كره منه ودعاهم إلى أن يحكم بينه وبينهم عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فأبوا أن يفعلوا، فقالوا لا نحكم ولا نرضى إلى بأبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، فحكّمه عند ذلك نظرا للمسلمين ليتألفهم رأفة بهم، وأمر (الحكمين) واشترط عليهما أن يحكما بكتاب الله ويحييا ما أحيا الكتاب ويميتا ما أمات ويتبعا الحق، فخالفا ذلك ومالا إلى الطليق بن الطليق ومن لعنه رسول الله ولعن أباه ومن لم يزل هو وأبوه حربا لله ولرسوله، وتركا خير الأمة وأعلمها وأفضل المجاهدين وأول الأمة إيمانا بالله وأنصرهم لله ولرسوله وللإسلام، فهما اللذان أخطآ وكفرا، وأصاب علي عليه السلام في فعله لما اضطر إلى ذلك.
وقالت المرجئة وإبراهيم النظام وبشر بن المعتمد ومن قال بقولهم: إن عليا كان مصيبا في تحكيمه لما أبى أصحابه إلا التحكيم وامتنعوا من القتال، وإنه كان في ذلك ناظرا للمسلمين متألفا لهم وأمر (الحكمين) أن يحكما بكتاب الله عز وجل وينظرا للمسلمين والإسلام، فخالفا وحكما بخلاف الحق، فهما اللذان ارتكبا الخطأ وهو الذي أصاب. واعتلوا في ذلك بأن رسول الله وادع أهل مكة وردّ أبا جندل سهيل بن عمرو إلى المشركين يحجل في قيوده، وبتحكيمه سعد بن معاذ فيما بينه وبين بني قريظة والنضير من اليهود.
وقال أبو بكر الأصم: نفس خروجه خطأ وتحكيمه خطأ، وإن أبا موسى الأشعري أصاب حين خلعه حتى يجتمع الناس على إمام.
وقال سائر المعتزلة: كل مجتهد مصيب وقد اجتهد علي عليه السلام فأصاب، ولسنا نتهمه في فعله ولا في دينه ونظره للإسلام وأهله فهو محق مصيب.
وقالت الحشوية نحن لا نتكلم في هذا بشيء ونرد أمرهم إلى الله عز وجل، فإن يكن حقا فالله أولى به حقا كان أو باطلا وأعلم، ونتولاهم جميعا على الأمر الأول.
وشذت فرقة من بينهم يقال لها الكاملية، فأكفرت عليا عليه السلام وجميع أصحاب رسول الله ()؛ أكفروا عليا بتركه الوصية وتخليته الولاية وتركه القتال على ما عهد إليه رسول الله ()، وزعموا أنه أسلم بعد كفره لما حارب معاوية وقاتله، وأسلم (من) قاتل معه وكفر الباقون. وأكفروا الصحابة بقعودهم عن الحق وإخراجهم عليا عن حقه وولايته ووقوفهم عليه وتركهم نصرته. فالجميع عندهم كفار، وعلي (عليه السلام) راجع إلى الإسلام، وكذلك من قاتل معه معاوية ومن تبعه.
وكل هذه الصنوف والفرق التي ذكرناها من أهل الإرجاء والاعتزال والخوارج وغيرهم مختلفون فيما بينهم فرقا كثيرة يطول ذكرها وعددها، يؤثمون بعضهم على بعض في الإمامة والأحكام والفتيا والتوحيد وجميع فنون الدين، وينكر بعضهم من بعض ويكفر بعضهم بعضا، (و) أكثر ما عندهم أن سموا أنفسهم على اختلاف مذاهبهم الجماعة، (و) يعنون بذلك أنهم مجتمعون على ولاية من وليهم من الولاة (بارا) كان أو فاجرا، فتسموا بالجماعة على غير معنى الاجتماع، بل صحيح معناهم معنى الافتراق.
فجميع أصول الفرق كلها الجامعة لها أربع فرق: الشيعة والمعتزلة والمرجئة والخوارج.
فأول الفرق الشيعة، وهم فرقة علي بن أبي طالب عليه السلام المسمون شيعة علي عليه السلام في زمان النبي وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته. منهم المقداد بن الأسود الكندي وسلمان الفارسي وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وعمار بن ياسر المذحجي وغيرهم ممن (وافقت) مودته مودة علي عليه السلام، وهم أول من (تشيع) من هذه الأمة، لأن التشيع قديم، فكانت هناك (شيعة) نوح (وشيعة) إبراهيم (وشيعة) موسى (وشيعة) عيسى، والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين (لكل شيعته).
فلما قبض الله عز وجل نبيه افترقت الشيعة فصاروا في الإمامة ثلاث فرق:
فرقة منهم قالت إن عليا عليه السلام إمام مفترض الطاعة بعد رسول الله واجب على الناس القبول منه والأخذ (عليه)، ولا يجوز لهم غيره (وهو) الذي وضع عنده النبي من العلم ما يحتاج إليه الناس من الدين والحلال والحرام وجميع منافع دينهم ودنياهم ومضارها وجميع العلوم كلها جليلها ودقيقها واستودعه ذلك كله واستحفظه إياه ولذا استحق الإمامة ومقام النبي لعصمته وطهارة مولده وسابقته وعلمه وشجاعته وجهاده وسخائه وزهده وعدالته في رعيته، (ولأن) النبي نص عليه وأشار إليه باسمه ونسبه وعينه وقلد الأمة إمامته ونصبه لهم علما وعقد له عليهم إمرة المؤمنين وجعله وصيه وخليفته ووزيره في مواطن كثيرة مثل غدير خم وغيره، وأعلمهم أن منزلته منه منزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده، فهذا دليل إمامته وليس بعد النبوة إلا الإمامة إذ جعله نظير نفسه في حياته وأنه أولى (بالمؤمنين) منهم بأنفسهم، وجعله في المباهلة كنفسه بقول الله: {وأنفسنا وأنفسكم} ولقوله لبني وليعة: "لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي" فمقام النبي لا يصلح من بعده إلا لمن هو كنفسه، والإمامة من أجل الأمور بعد النبوة، إذ هي فرض من أجلّ فرائض الله، ولا يقوم بالفرائض ولا يقبل إلا بإمام عدل. وقالوا إنه لا بد مع ذلك من أن تكون تلك الإمامة جارية في عقبه إلى يوم القيامة، تكون في ولده من ولد فاطمة بنت رسول الله () ثم في ولد ولده منها، يقوم مقامه أبدا رجل منهم معصوم من الذنوب طاهر من العيوب تقي نقي مأمون رضي مبرأ من الآفات والعاهات في كل من الدين والنسب والمولد يؤمن منه العمد والخطأ والزلل، منصوص عليه من الإمام الذي قبله مشار إليه بعينه واسمه، الموالي له ناج والمعادي له كافر هالك، والمتخذ دونه وليجة ضال مشرك، وأن الإمامة جارية في عقبه ما اتصلت أمور الله وأمره ونهيه ولزم العباد التكليف. فلم تزل هذه الفرقة ثابتة قائمة لازمة لإمامته وولايته على ما ذكرنا ووصفنا إلى أن قتل علي عليه السلام في شهر رمضان ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله ليلة تسع عشرة، وتوفي ليلة الأحد إحدى وعشرين سنة أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة، فكانت إمامته ثلاثين سنة وخلافته أربع سنين وتسعة أشهر. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضي الله عنهما، وهو أول هاشمي ولد بين هاشميين. وروى بعض الرواة عن جعفر بن محمد وغيره أنه قتل وهو ابن خمس وستين وسنة، وهو أصح القولين وأبينهما.
وفرقة قالت إن عليا كان أولى الناس بعد رسول الله بالناس لفضله وسابقته وقرابته وعلمه، وهو أفضل الناس كلهم بعده وأشجعهم وأسخاهم وأورعهم وأزهدهم وأعلمهم، وأجازوا مع ذلك إمامة أبي بكر وعمر ورأوهما أهلا لذلك المكان والمقام، واحتجوا في ذلك بأن زعموا أن عليا عليه السلام سلم لهما الأمر ورضي بذلك وبايعهما طائعا غير مكره وترك حقه لهما، فنحن راضون كما رضي المسلمون له، لا يحل لنا غير ذلك ولا يسع منا أحدا إلا ذلك، وأن ولاية أبي بكر صارت رشدا وهدى لتسليم علي ورضاه، ولولا رضاه وتسليمه لكان أبو بكر مخطئا ضالا هالكا، وهم أوائل البترية.
وخرجت من هذه الفرقة فرقة قالت إن عليا عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله لقرابته من رسول الله ولسابقته وعلمه، ولكن كان جائزا للناس أن يولوا عليهم غيره إذا كان الوالي الذي يولونه مجزئا، أحب علي ذلك أو كرهه، فولاية الوالي الذي ولوا على أنفسهم برضى منهم رشد وهدى وطاعة لله عز وجل وطاعته واجبة من الله عز وجل، فإذا اجتمعت الأمة على ذلك (وتولته) ورضيته به فقد ثبتت إمامته واستوجب الخلافة. فمن خالفه من قريش وبني هاشم، عليا كان أو غيره من الناس، فهو كافر ضال هالك.
وفرقة منهم يسمون الجارودية أصحاب الجارود زياد بن المنذر زياد الأعجمي، قالوا بتفضيل علي عليه السلام ولم يروا مقامه يجوز لأحد سواه، وزعموا أن من دفع عليا عن هذا المكان فهو كافر وأن الأمة كفرت وضلت في تركها بيعته، ثم جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي عليهما السلام ثم في الحسين عليه السلام ثم هي شورى بين أولادهما، فمن خرج منهم وشهر سيفه ودعا إلى نفسه مستحقا للإمامة وهو إمام. وهاتان الفرقتان هما المنتحلتان أمر زيد بن علي بن الحسين وأمر زيد بن الحسن بن الحسن بن علي، ومنها تشعبت فرق الزيدية.
وزعمت هذه الفرق أن الأمر كان بعد رسول الله لعلي عليه السلام ثم للحسن ثم للحسين، نص من رسول الله ووصيه منه إليهم واحدا بعد واحد، فلما مضى الحسين بن علي صارت في رجلين من أولادهما - علي بن الحسين والحسن بن الحسن - لا يخلو من أحدهما، إلا أنهم يعلمون أيا من أي، وأن الإمامة بعدهما في أولادهما، فمن ادعاها من ولد الحسين بن علي ومن ولد علي بن الحسين وزعم أنها لولد الحسين بن علي دون ولد الحسن بن الحسن فإن إمامته (تبطل ويكون ضالا ومضلا هالكا). ومن اقر من ولد الحسين والحسن أن الإمامة تصلح في ولد الحسن والحسين ومن رضوا به واتفقوا معه وبايعوه جاز أن يكون إماما. ومن أنكر ذلك منهم وجعلها في ولد أحد منهما لا يصلح للإمامة، وهو عندهم خارج عن الدين، (فالإمامة) لا تثبت إلا باختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم على رجل منهم ورضاهم به وخروجه بالسيف. وقد يجوز أن يكون منهم (عدد) من الأئمة في وقت واحد، ولكنهم أئمة دعاة إلى الإمام (الذي يرتضونه منهم، وهو) الإمام الذي إليه الأحكام والعلوم، (و) يقوم مقام رسول الله ()، وهو صاحب الحكم في الدار كلها، وهو الذي يختاره جميعهم ويرضون به ويجمعون على ولايته. وجميع فرق الزيدية مذهبهم في الأحكام والفرائض والمواريث مذاهب العامة.
فلما قتل علي عليه السلام افترقت الأمة التي أثبتت له الإمامة من الله عز وجل ورسوله فرضا واجبا فصاروا فرقا ثلاثة:
فرقة منهم قالت إن عليا لم يقتل ولم يمت ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، فهي أول فرقة قالت في الإسلام بالوقف بعد النبي من هذه الأمة وأول من قال منها بالغلو. وهذه الفرقة تسمى السبأية أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم وقال إن عليا عليه السلام أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به، فأمر بقتله فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فسيره إلى المدائن. وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في (يوشع) بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة النبي في علي عليه السلام بمثل ذلك، وهو أول من شهد القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية. ولما بلغ عبد الله بن سبأ وأصحابه وهو بالمدائن نعي علي قال للذي نعاه: كذبت يا عدو الله، ولو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلا ما صدقناك ولعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض. ثم مضى وأصحابه من يومهم حتى أناخوا ببا علي فاستأذنوا عليه استئذان الواثق بحياته الطامع في الوصول إليه، فقال لهم من حضره من أهلم وأصحابه وولده: سبحان الله، (أما) علمتم أن أمير المؤمنين قد استشهد؟ قالوا: إنا لنعلم أنه لم يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بسيفه وسوطه كما قادهم بحجته وبرهانه، وإنه ليسمع النجوى ويلمع في الظلام كما يلمع السيف الصقيل الحسام. فهذا مذهب السبأية ومذهب الحربية، وهم أصحاب عبد الله الله بن عمرو بن حرب الكندي في علي عليه السلام. وقالوا بعد ذلك إنه إله العالمين وإنه توارى عن خلقه سخطا منه عليهم وسيظهر.
وفرقة قالت بإمامة محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية بعد علي لأنه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه الحسن والحسين، فسموا الكيسانية، وهم المختارية (أيضا). وإنما سموا بذلك لأن رئيسهم الذي دعاهم لذلك كان المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان لقبه كيسان، وهو الذي (طالب) بدم الحسين بن علي وثأره حتى قتل من قتلته وغيرهم من قتل ومن قدر عليه ممن حاربه، وقتل عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد، وادعى أن محمد بن الحنفية أمره بذلك وأنه الإمام بعد أبيه. وإنما لقب المختار كيسان لأن صاحب شرطته المكنى بأبي (عمرة) كان اسمه كيسان وكان أشد إفراطا في القول والفعل والقتل من المختار، وكان يقول إن محمد بن الحنفية وصي علي بن أبي طالب ونه الأمام وأن المختار وصي محمد بن الحنفية وعامله ويكفر من تقدّم عليا ويكفر أهل صفين والجمل، وكان المختار لا يكفر من تقدّم عليا ويكفر أهل صفين وأهل الجمل، وكان كيسان يزعم أن جبرئيل عليه السلام يأتي المختار بالوحي من عند الله عز وجل فيخبره بذلك ولا يراه. وقال بعض العلماء والرواة إنه سمي كيسان بكيسان مولى علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو الذي حمله على الطلب بدم الحسين بن علي عليه السلام ودله على قتلته، وكان صاحب سره ومؤامراته والغالب على أمره.
فأصحاب أبي عمرة (كيسان) من المختارية يزعمون أنهم اليوم في التيه لا إمام له ولا قيم ولا مرشد لأن عليا كان أوصى إلى الحسن وأوصى الحسن إلى الحسين وأوصى الحسين إلى محمد بن الحنفية، فكان العلم والمقنع في دار التقية، فلما أذنب الذنب الذي عاقبه الله من أجله وأخرجه من داره ومن بين أصحابه حتى أوغله في جبل وعر وغار مظلم كما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض عقوبة له على معصيته، وكما عاقب ذا النون حتى قذف به في بطن الحوت في الحبر فكانت تلك عقوبته إذ كان إماما على سبيل عقوبة الأنبياء والرسل المقربين، فلما أراد الله إخراجه إلى ذلك الشعب وإيلاجه في ذلك الكهف وحضره الأمر وحجّه الرسول نبذ الأمر إلى ابنه عبد الله أبي هاشم وقد كان قد علم أنه لا يعقب فيتم الحجه بنسله، ولكن لم يكن بحضرته علي بن الحسين ولا الحسن بن الحسن، وعلم أن ذلك عقوبة من الله من نفسه وفي ولده، بركونه إلى عبد الملك بن مروان الجبار وبيعته له. وكانت الإمامة وديعة عند الإمام الصامت أبي هاشم إذ غيب الله الإمام الناطق، فلما مات أبو هاشم ولم يعقب ولم يوص بها إلى أحد من رهطه لأن الله تبارك وتعالى أراد أن يعيدها إلى محمد بن الحنفية بعد تمام العقوبة والمدة وقدر الاستحقاق كما أخرج ذا النون في حبسه وأعاده إلى عز نبوته، والناس اليوم يدخلون فيما يخرجون منه ويخرجون مما يدخلون فيه، لا يعرفون حجة من غيره ولا حقا من شبهة ولا يقينا من خبرة، حتى يبعث الله الإمام العالم محمد المكنى بأبي القاسم على رغم الراغم والدهر المتفاقم فيملك الأرض جميعا. وهكذا لفظهم. وقالوا مٍن علي قولا عظيما جاوزوا فيه قول عبد الله بن سبأ. وسنأتي على مقالتهم في موضع حاجتنا إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفرقة لزمت القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه إلا شرذمة منهم، فإنه لما وادع الحسن معاوية وأخذ منه المال الذي بعث به إليه على الصلح طعنوا فيه وخالفوه ورجعوا عن إمامته فدخلوا في مقالة جمهور الناس، وبقي سائر أصحابه على القول بإمامته إلى أن قتل، (فإنه) لما تنحى عن محاربة معاوية وانتهى إلى مظلم ساباط وثب عليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام دابته ثم قال: الله أكبر أشركت كما أشرك أبوك من قبل، وطعنه بمغول في أصل فخده فقطع الفخذ إلى العظم فاعتنقه الحسن وخرا جميعا. فاجتمع الناس على الجراح فوطؤه حتى قتلوه، ثم حمل الحسن على سرير فأتي به المدائن فلم يزل يعالج بها في منزل سعد بن مسعود الثقفي حتى صحت جراحته. ثم انصرف إلى المدينة فلم يزل جريحا من طعنته سقيما في جسمه كاظما لغيظه متجرعا لريقه على الشجا والأذى من أهل دعوته حتى توفي عليه السلام في آخر صفر (من) سنة سبع وأربعين وهو ابن خمس وأربعين سنة وستة أشهر، وقال بعض الرواة إنه توفي وهو ابن ثمان وأربعين في خلافة معاوية بالمدينة. وقال بعضهم إنه ولد سنة ثلاث من الهجرة (في) شهر رمضان. (وكانت) إمامته ست سنين وخمسة أشهر. وأمه فاطمة بنت رسول الله ، وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.
فنزلت هذه الفرقة القائلة بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه إلى القول بإمامة أخيه الحسين بن علي عليهما السلام. فلم تزل على ذلك حتى قتل في أيام يزيد بن معاوية لعنة الله عليه، (و) قتله عمر بن سعد بن أبي وقاص في ولاية ابن مرجانة عبيد الله بن زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان، وكان عامل يزيد بن معاوية على العراقين الكوفة والبصرة، وذلك حين أقبل الحسين من مكة يريد الكوفة عندما كتب إليه مسلم بن عقيل ببيعة الناس له، فلما علم عبيد الله بن زياد بإقباله وجه إليه إلى البادية الجيوش، فاستقبله بعضها بالبادية فلم يزالوا ماضين حتى وردوا كربلاء، فبعث إليه عبيد الله لعنه الله حينئذ عمر بن سعد بن أبي وقاص في خيل عظيمه وأمره بمحاربته، فقتله عمر بن سعد لعنة الله عليه وقتل معه جميع أصحابه. وقُتل عليه السلام بكربلاء يوم الاثنين يوم عاشوراء بعشر خلون من المحرم سنة إحدى وستين وهو ابن ست وخمسين وخمسة أشهر، وأمه فاطمة بنت رسول الله . وكانت إمامته ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وخمسة عشر يوما.
فلما قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه وقالوا قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين لأنه إن كان الذي فعله الحسن حقا واجبا صوابا من موادعته معاوية وتسليمه عند عجره عن القيام بمحاربتة مع كثرة أنصار الحسن وقوتهم فما فعله الحسين من محاربتة يزيد بن معاوية مع قلة أنصار الحسين وضعفهم وكثرة أصحاب يزيد لعنة الله عليه حتى قتل وقتل أصحابه جميعا باطل غير واجب، وإن كان ما فعله الحسين حقا واجبا صوابا من مجاهدته يزيد بن معاوية حتى قتل وقتل ولده وأصحابه فقعود الحسن وتركه مجاهدة معاوية وقتاله ومعه العدد الكثير باطل؛ فشكّوا لذلك في إمامتهما ورجعوا فدخلوا في مقالة العوام، وبقي سائر أصحاب الحسين على القول الأول بإمامته حتى مضى.
فلما مضى افترقوا بعده ثلاث فرق:
فرقة قالت بإمامة محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية وزعمت أنه لم يبق بعد الحسن والحسين أحد أقرب إلى أمير المؤمنين (علي) عليه السلام من محمد بن الحنفية، فهو أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بها بعد الحسن من ولد الحسن فمحمد هو الإمام بعد الحسين.
وفرقة قالت إن محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى هو الإمام المهدي وهو وصي علي بن أبي طالب عليه السلام، ليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه ولا يخرج عن إمامته ولا يشهر سيفه إلا بإذنه، وإنما خرج الحسن بن علي إلى معاوية محاربا له بإذن محمد ووادعه وصالحه بإذنه، وأن الحسين إنما خرج لقتال يزيد بإذنه ولو خرجا بغير إذنه هلكا وضلا، وأن من خالف محمد بن الحنفية من أهل بيته وغيرهم فهو كافر مشرك، وأن محمدا استعمل المختار بن أبي عبيد على العراقين (الكوفة والبصرة) بعد قتل الحسين وأمره بالطلب بدم الحسين وثأره وقتل قاتليه وطلبهم حيث كانوا، وسماه كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم. فهم المختارية الخلص، ويدعون الكيسانية.
فلما توفي محمد بن الحنفية بالمدينة في المحرم سنة إحدى وثمانين وهو ابن خمس وستين سنة -عاش في زمان أبيه أربعا وعشرين سنة وبقي بعد أبيه إحدى وأربعين سنة، وأمه خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن يربع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن (لجيم) بن علي بن بكر بن وائل، وإليها كان محمد ينسب- تفرق أصحابه (أي الكيسانية) فصاروا فرقا:
فرقة قالت إن محمد بن الحنفية هو المهدي، سماه أبوه علي عليه السلام مهديا، ولا يجوز أن يكون مهديان: مهدي في أيام ابن الحنفية ومهدي بعد ذلك، وإنما المهدي هو واحد وهو ابن الحنفية، ولكنه غاب ولا يدري (أحد) أين هو، ولم يمت ولا يموت وسيرجع ويملك الأرض، ولا إمام بعد غيبته إلى رجوعه، وهم الكربية أصحاب أبي كرب. وكان حمزة بن عمارة البربري منهم وكان من أهل المدينة ففارقهم وادعى أنه نبي وأن محمد بن الحنفية هو الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأن حمزة هو الإمام والنبي وأنه ينزل عليه سبعة أسباب من السماء فيفتح بهن الأرض ويملكها، فتبعه على ذلك ناس من أهل المدينة وأهل الكوفة، فلعنه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام وبرئ منه وكذبه وبرئت منه الشيعة. وتبعه على رأيه رجلان يقال لأحدهما صائد وللآخر بيان. وكان بيان تبانا يتبن التبن بالكوفة، ثم ادعى أن محمد بن علي بن الحسين أوصى إليه، وأخذه خالد بن عبد الله القسري هو وخمسة عشر رجلا من أصحابه فشدهم بأطنان القصب وصب عليهم النفط في مسجد الكوفة وألهب فيهم النار، فأفلت منهم رجل فخرج بنفسه ثم التفت فرأى أصحابه تأخذهم النار فكر راجعا إلى أن ألقى نفسه في النار فاحترق معهم. وكان بيان يقول هو وأصحابه إن الله تبارك وتعالى يشبه الإنسان وهو يفنى وتهلك جميع جوارحه إلا وجهه. وتأولوا في ذلك قوله الله: {كل شيء هالك إلا وجهه}. وكان حمزة بن عمارة نكح ابنته وأحل جميع المحارم وقال من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه. وأصحاب أبي كرب وأصحاب صائد وأصحاب بيان ينتظرون رجوعهم ويزعمون أن محمد بن الحنفية يظهر بنفسه بعد الاستتار عن خلقه، ينزل إلى الدنيا ويكون أمير المؤمنين، فهذا معنى الآخرة عندهم.
وفرقة قالت إن محمد بن الحنفية حي لم يمت وانه مقيم بجبال رضوى بين مكة والمدينة تغذوه الآرام، تغدو عليه وتروح فيشرب من ألبانها ويأكل من لحومها، وعن يمينه أسد وعن يساره أسد يحفظانه إلى أوان خروجه ومجيئه وقيامه وقال بعضهم عن يمينه أسد وعن يساره نمر. وهو عندهم الإمام المنتظر الذي بشر به النبي أنه «يملأ الأرض عدلا وقسطا» فثبتوا على ذلك حتى فنوا وانقرضوا إلا قليلا من أبنائهم، وهم إحدى فرق الكيسانية.
ومن الكيسانية فرقة الحربية، أصحاب عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي، وهم يقولون بالتناسخ ويزعمون أن الإمامة جرت في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في ابن الحنفية. ومعنى ذلك أن روح الله صارت في النبي وروح النبي صارت في علي وروح علي صارت في الحسن وروح الحسن صارت في الحسين وروح الحسين صارت في محمد بن الحنفية وروح محمد بن الحنفية صارت في ابنه أبي هاشم وروح أبي هاشم انتسخت في عبد الله بن عمرو بن حرب، فهو الإمام إلى خروج محمد بن الحنفية. وكلهم (يقولون) بالتناسخ ويزعمون أن الصلاة في اليوم والليلة خمس عشرة صلاة، كل صلاة سبع عشرة ركعة، وكلهم لا يصلون.
وقال أصحاب ابن حرب أيضا: الأسباط أربعة هم الأئمة، يؤمن عليهم الخلاف (بالعمد) والخطأ والزلل، فسبط سبط إيمان وأمن وهو علي، وسبط سبط نور وتسنيم وهو الحسن، وسبط سبط حجة ومصيبة وهو الحسين، وسبط هو الذي يبلغ الأسباب ويركب السحاب ويزجي الرياح وينفخ المد ويسد باب الروم ويقيم أود الحكم ويبلغ الأرض السابعة ويقرب منه الحق (وينأى) عن الجور، وهو المهدي المنتظر محمد بن علي ابن الحنفية، إمام الحق. (فلما لم) يروا من ذلك شيئا من حياته ومات عيانا قالوا لم يمت ولكنه وضع ذلك مثلا لئلا يدركه الطالب كما وضع النبي عليا عليه السلام في موضعه وأباته في فراشه ومضى مهاجرا، فغيبه الله في جبل رضوى بين أسدين ونمرين، تؤنسه الملائكة ويحرسه النمران. ولذلك قال كثير بن عبد الرحمن في (إمامته) لما طال عليه أمره (وقبل) اختلافهم فيه، وهو شعر مشهور له (يخبر) عن الأسباط وعنه:
ألا إن الأئمة من قريش ** ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه ** هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر ** وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ** يقود الخيل يقدمها اللواء
يغيب لا يُرى فيهم زمانا ** برضوى عنده عسل وماء
وله أيضا فيه:
ما متّ يا مهدي يا ابن المهتدي ** أنت الذي يرضى به ويرتجي
أنت ابن خير الناس من بعد النبي ** أنت إمام الحق لسنا نمتري
يا ابن علي سر ومن مثل علي ** سر بنا مصاحبا لا ننثني
حتى نجاوز ذات كرب وبلى ** ثم أقبل جارك الله العلي
بيّن لنا وانصح لنا يا ابن الوصي ** بي!ن لنا من ديننا ما نبتغي
وكان الطفيل بن عامر بن واثلة الكناني منهم، وفيه يقول:
إخواننا شيعتنا لا تبعدوا ** إني زعيم لكم أن ترشدوا
وأن تنالوا شرفا وتسعدوا ** وازّاوروا المهدي كيما تهتدوا
محمد الخيرات يا محمد ** أنت الإمام السيد المسوّد
لا ابن الزبير السامري الملحد ** لا والذي نحن إليه نقصد
واعتلوا في أن الأسباط أربعة بأن قالوا: إن القدر والنباهة والعز والنبوة من ولد يعقوب بن إسحاق عليهما السلام في أربعة، وصار الباقون أسباطا بنباهة إخوتهم، كالرجل يصير شريفا بشرف أخيه وابنه ومولاه وابن عمه.
قالوا فبنو هاشم أسباط والإمامة والخلافة والملك في أربعة، وذلك قول الله تبارك وتعالى: {والتين والزيتون وطور سيني وهذا البد اليمين} فالكلام يكون رمزا ومثلا وكناية ووحيا، فالتين علي والزيتون الحسن وطور سينين الحسين، وهذا البلد الأمين محمد بن الحنفية، وإنما أقسم الله تعالى بهم لأنهم الأئمة والجلة وعمد الإسلام وقوامه، وقد علم أنهم سيظلمون أماكنهم وحقوقهم فأقسم بهم ليدل على تفضيله إياهم، وليزيد في ذكرهم إذ كانوا في دار التقية ولم يفعل ذلك بالنبي وإن كان أحق بالتعظيم لأن كلمته كانت العالية وكان في دار العلانية، وكانوا هم إلى التقوية والمادة أحوج، ولم يكن الله ليضع التين المأكول والزيتون المعصور بهذا الموضع من الشرف والقدر لأنهما لا يفهما الإحساس فيسدى ذلك إليهما، وليسا بعظيمين في العقول كالسماء والعرش فيجوز ذلك عليهما، فإنما ذلك علي وولده، وإنما جعل البلد الأمين محمد بن الحنفية، لأنه كان آخرهم في الوصية ورابع أربعة وأنه يخرج من البلد الأمين ويملكها في عدد أهل بدر، فيقتل الجبابرة ويهدم دمشق، معه رايات سود ورجال كالأسود، فإذا خرج من الغار تقدمه الأسد وتأخره النمران، فيجعل الذين كانوا (في) الغار من الملائكة على ميمنته، ويجعل شيعته الذين معه وملائكة أهل بدر على ميسرته ثم يصعد إلى السماء ويرقى في الهواء فيسل سيفا دون عين الشمس فيطمسها ويكورها، وهو قول الله (تعالى): {إذا الشمس كورت} وهو سيف من شق صاعقة، ولم يكن على ظهر الأرض سيف من صاعقة غيره، وبه ضرب الناس المثل، وقد سخر له فيه ما سخر لموسى عليه السلام في عصاه، فيهزه دون قرن الشمس يراه جميع أهل الأرض وأهل السماء إلا إبليس، وينزل إلى الأرض فيملكها كما ملك سليمان بن داود وذو القرنين.
ومن الكيسانية السيد إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر، وهو الذي يقول:
يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى ** حتى متى تخفى وأنت قريب
يا ابن الوصي ويا سمي محمد ** وكنيه نفسي عليك تذوب
لو غاب عنا عمر نوح أيقنت ** منا النفوس بأنه سيؤب
ويقول فيه أيضا:
ألا حي المقيم بشعب رضوى ** وأهد له بمنزله السلاما
أضر بمعشر والوك منا ** وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طرا ** مقامك عنهم سبعين عاما
لقد أمسى بجانب شعب رضوى ** تراجعه الملائكة الكلاما
وما ذاق ابن خولة طعم موت ** ولا وارت له أرض عظاما
وإن له به لمقيل صدق ** وأندية تحدثه كراما
وقد روي أن السيد ابن محمد رجع عن قوله هذا وقال بإمامة جعفر بن محمد عليه السلام، وقال في توبته ورجوعه قصيدة أولها: تجعفرت باسم الله والله أكبر. وكان السيد يكنى أبا هاشم.
وفرقة منهم قالت إن محمد بن الحنفية مات، والإمام بعده عبد الله بن محمد ابنه، وكان يكنى أبا هاشم، وهو أكبر ولده وإليه أوصى أبوه. فسميت هذه الفرقة الهاشمية وهم الهاشمية الخلص.
وقالت فرقة مثل قول الكيسانية في أبيه بأنه المهدي وأنه حي لم يمت وأنه يحيي الموتى وغلوا فيه.
فلما توفي أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية تفرق أصحابه فرقا:
ففرقة منهم قالت: مات عبد الله بن محمد وأوصى إلى أخيه علي بن محمد بن الحنفية، وكانت أمه قضاعية تسمى أم عثمان بنت أبي جدير وأن الذين ذكروا أنه أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب غلطوا في الاسم، فأوصى علي بن محمد إلى ابنه الحسن بن علي، وأمه أم ولد، وأوصى الحسن إلى ابنه علي بن الحسن، وأمه لبانة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأوصى علي بن الحسن إلى ابنه الحسن بن علي، وأمه علية بنت عون بن علي بن محمد بن الحنفية، والوصية عندهم في ولد محمد بن الحنفية لا تخرج إلى غيرهم ومنهم يكون القائم المهدي، وهم الكيسانية الخلص الذين غلبوا على هذا الاسم. وهذه الفرقة خاصة تسمى المختارية.
إلا أنه شذت منهم فرقة فقطعوا الإمامة بعد ذلك من عقبه وزعموا أن الحسن مات ولم يوص إلى أحد ولا وصي بعده ولا إمام حتى يرجع محمد بن الحنفية فيكون هو القائم المهدي.
وفرقة قالت: أوصى أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الخارج بالكوفة، وأمه أم عون بنت عون بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وهو يومئذ غلام صغير، فدفع الوصية إلى صالح بن مدرك وأمره أن يحفظها حتى يبلغ عبد الله بن معاوية فيبلغها إليه، فهو الإمام وهو العالم بكل شيء، حتى غلوا فيه. وهؤلاء أصحاب عبد الله بن الحارث، فهم يسمعون الحارثية. وكان ابن الحارث هذا من أهل المدائن. فهم كلهم غلاة يقولون من عرف الإمام فليصنع ما شاء. وعبد الله بن معاوية هو صاحب أصفهان الذي قتله أبو مسلم في جيشه.
وفرقة قالت: أوصى عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب لأنه مات عنده بأرض الشراة بالشام وأنه دفع إليه الوصية إلى أبيه علي بن عبد الله بن العباس، وذلك أن محمد بن علي كان صغيرا عند وفاة أبي هاشم وأمره أن يدفعها إليه إذا بلغ، فلما أدرك دفعها إليه، فهو الإمام وهو الله عز وجل وهو العالم بكل شيء فمن عرفه فليصنع ما شاء، وهؤلاء غلاة الروندية. واختصم أصحاب عبد الله بن معاوية وأصحاب محمد بن علي في وصية أبي هاشم فرضوا برجل منهم يكنى بأبي رياح، وكان من رؤسهم وعلمائهم فشهد أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى محمد بن علي (بن عبد الله)، فرجع جل أصحاب عبد الله بن معاوية إلى القول بإمامة محمد بن علي وقويت الروندية بهم، فهؤلاء يدعون الرياحية من الراوندية.
وفرقة من البيانية زعمت أن الإمام القائم المهدي هو (أبو هاشم) وقد مات (وولي الخلق) ويرجع فيقوم (بأمور) الناس ويملك الأرض، ولا وصي بعده، وغلوا فيه وقالوا إن أبا هاشم نبأ بيانا عن الله (عز وجل)، فبيان (النهدي) نبي، وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: {هذا بيان للناس وهدى} وادعى بيان بعد وفاة أبي هاشم النبوة، (وكتب) إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين يدعوه إلى نفسه والإقرار بنبوته ويقول له: "أسلم تسلم وترتق في سلم وتنج وتغنم فإنك لا تدري أين يضع الله النبوة والرسالة وما على الرسول إلا البلاغ وقد أعذر من أنذر". فأمر أبو جعفر محمد بن علي رسول بيان فأكل قرطاسه الذي جاء به، وقتل بيان على ذلك وصلب. وكان اسم رسوله عمرو بن أبي عفيف الأزدي.
وكان سبب ادعاء عبد الله بن معاوية الوصية والإمامة أن الحربية أصحاب عبد الله بن عمرو بن حرب افترقوا فيه لما ادعى وصية أبي هاشم وأن روحه تحولت فيه وأن الإمامة تدور مع الوصية وتثبت بها كما ثبتت إمامة علي بن أبي طالب بوصية رسول الله () إليه، فكان وصيا لذلك دون العباس بن عبد المطلب وسائر الناس من بني هاشم.
فلما قتل أبو مسلم عبد الله بن معاوية في حبسه، افترقت فرقته بعده (فرقا). وقد كان مال إلى عبد الله بن معاوية شُذاذ صنوف الشيعة، فكان أن رجلا من أصحابه يقال له عبد الله بن الحارث وكان أبوه زنديقا من أهل المدائن أخرج من شيعة عبد الله جمعا إلى الغلو والقول بالتناسخ والأظلة (والأدوار) وأسند ذلك إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ثم إلى جابر بن يزيد الجعفي، فخدعهم بذلك حتى ردهم عن جميع الفرائض والشرائع والسنن، وادعى أن هذا مذهب جابر بن عبد الله وجابر بن يزيد، رحمهما الله فإنهما قد كانا من ذلك بريئين.
وأصحاب عبد الله بن معاوية يتسمون المعاويّة ويزعمون أن الأرواح تتناسخ، فإن روح الله عز وجل عن ذلك كانت في آدم على مقالة فرقة من النصارى، وزعمت أن الأنبياء (كلهم) آلهة تنتقل الروح من واحد إلى واحد، حتى صارت في محمد ثم في علي ثم في محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم فيه، (عبد الله بن معاوية). وزعموا أن الدنيا لا تفنى أبدا، واستحلوا الزنى وإتيان الرجال في أدبارهم.
وكانت فرقة من المعاوية تقول إن عبد الله بن معاوية حي لم يمت وإنه يقيم في جبال أصفهان ولا يموت أبدا حتى يقود نواصي الخيل إلى رجل من بني هاشم من ولد علي وفاطمة. فإذا سلمها إليه فيموت حينئذ.
وفرقة قالت إن عبد الله بن معاوية هو القائم المهدي الذي بشر به النبي أنه يملك الأرض ويملأها قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، ثم يسلم عند وفاته إلى رجل من بني هاشم من ولد علي بن أبي طالب عليه السلام فيموت حينئذ.
وفرقة قالت إن عبد الله بن معاوية قد مات ولم يوص وليس بعده إمام، فتاهوا وصاروا مذبذبين بين صنوف الشيعة وفرقها لا يرجعون إلى أحد، فالكيسانية كلها لا إمام لها وإنما ينتظرون الموتى، إلا العباسية فإنها تثبت الإمامة في ولد العباس وقادوها فيهم إلى اليوم. فهذه فرق الكيسانية والعباسية والحارثية. ومنهم تفرقت فرق الخرمدينية وكلها يزعم أن علي بن أبي طالب وبنيه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية هم علماء بما كان وما هو كائن وأن طاعة كل رجل منهم فرض،
ومنهم (منذ) السبئية كان بدء الغلو في القول حتى قالوا إن الأئمة آلهة وأنبياء ورسل وملائكة، وهم الذين تكلموا بالأظلة والتناسخ في الأرواح، وهم أهل القول بالدور والكور في هذه الدار وإبطال القيامة والبعث والحساب والجنة والنار، وزعموا أن لا دار إلا الدنيا وأن القيامة إنما هي خروج الروح من بدن ودخوله في بدن آخر غيره إن خيرا (فخير) وإن شرا (فشر) وأنهم مسرورون في هذه الأبدان أو معذبون فيها والأبدان هي الجنات وهي النار وأنهم (منعمون) في الأجسام الحسنة الإنسية المنعمة في حياتهم ومعذبون في الأجسام الردية المشوهة من كلاب وقردة وخنازير وحيات وعقارب وخنافس وجعلان، محولون من بدن الى بدن معذبون فيها هكذا أبد الأبد، فهي جنتهم ونارهم، لا قيامة ولا بعث ولا جنة ولا نار غير هذا على قدر أعمالهم وذنوبهم وإنكارهم لأئمتهم ومعصيتهم لهم، فإنما تسقط الأبدان وتخرب إذ هي مساكنهم (وتتلاشى) الأبدان وتفنى وترجع الروح في قالب آخر منعم أو معذب وهذا معنى الرجعة عندهم، وإنما الأبدان قوالب ومساكن بمنزلة الثياب التي يلبسها الناس فتبلى وتتمزق وتطرح ويلبس غيرها وبمنزلة البيوت يعمرها الناس، فإذا تركوها وعمروا غيرها خربت، والثواب والعقاب على الأرواح دون الأبدان. وتأولوا في ذلك قول الله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك} وقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} وقوله عز وجل: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} فجميع الطير والدواب والسباع كانوا أمما أناسا خلت فيهم نذر من الله عز وجل عليهم بهم الحجة، فمن كان منهم صالحا مقرا بما يدعى إليه من مذاهبهم جعل الله روحه بعد وفاته وإخراب قالبه وهدم مسكنه إلى بدن صالح فأكرمه ونعمه، ومن كان منهم كافرا عاصيا نقل روحه إلى بدن خبيث يعذبه فيه بالدنيا وجعل قالبه في أقبح صورة ورزقه أنتن رزق وأقذره، وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} فكذب الله تعالى هؤلاء ورد عليهم قولهم لمعصيتهم إياه فقال: {كلا بل لا تكرمون اليتيم} وهو النبي ، {ولا تحاضون على طعام المسكين} وهو الإمام الوصي، {وتأكلون التراث أكلا لما} (أي) لا تخرجون حق الإمام مما رزقكم وأجراه لكم.
ومنهم فرقة تسمى المنصورية أصحاب أبي منصور (العجلي) وهو الذي ادعى أن الله عز وجل عرج به إليه وأدناه منه وكلمه ومسح (بيده) على رأسه، ثم قال له: "أي بني" وذكر أنه نبي ورسول وأن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. وكان أبو منصور هذا من أهل الكوفة من عبد القيس وله فيها دار وكان منشؤه بالبادية وكان أميا لا يقرأ وادعى بعد وفاة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أنه فوض إليه أمره وجعله وصيه، ثم ترقى به الأمر إلى أن قال كان علي بن أبي طالب نبيا ورسولا وكذا الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وأنا بعدهم نبي ورسول والنبوة والرسالة في ستة من ولدي يكونون بعدي أنبياء آخرهم المهدي القائم. وكان (المنصور هذا) خناقا يأمر أصحابه بخنق من خالفهم وقتلهم بالاغتيال، وجعل لهم خمس ما يأخذون من الغنيمة، ويقول من خالفكم فهو كافر مشرك فاقتلوه فإن الله يقول: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه} وهذا جهاد خفي، وزعم أن جبرئيل عليه السلام يأتيه بالوحي من عند الله عز وجل وأن الله (تعالى) بعث محمدا بالتنزيل وبعثه -يعني نفسه- بالتأويل، وأن منزلته من رسول الله منزلة يوشع بن نون من موسى بن عمران وأنه الذي يقيم الأمر بعده، فطلبه خالد بن عبد الله القسري فأعياه، ثم ظفر به يوسف بن عمر الثقفي وصلبه، ثم ظفر عمر الخناق بابنه الحسين بن أبي منصور وقد تنبأ وادعى مرتبة أبيه وجبيت إليه الأموال وتابعه على رأيه ومذهبه بشر كثير وقالوا بنبوته، فبعث به (إلى) المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور وقتله المهدي في خلافته وصلبه بعد أن اقر بذلك، وأخذ منه مالا عظيما وطلب أصحابه طلبا شديدا وظفر بجماعة منهم فقتلهم وصلبهم.
وزعمت المنصورية أن آل محمد هم السماء والشيعة هم الأرض، وزعموا أن قول الله: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم} أنه يريد الذين لا يؤمنون بالعيان من المغيرية، وزعموا أن الكسف الساقط هو أبو منصور، وزعمت المنصورية أن أول خلق خلقه الله عيسى ثم علي بن أبي طالب، فهما أفضل من خلق من خلقه، وأن الناس ممزوجون من نور وظلمة، (واستحلوا) جميع ما حرم الله وقالوا لم يحرم الله علينا شيئا تطيب به أنفسنا وتقوى به أجسادنا على قول المجوس في نكاح الأمهات والبنات، وإنما نحن بستان الله أمرنا أن لا ننسى بستانه، وأبطلوا المورايث والطلاق والصلاة والصيام والحج وزعموا أن هذه أسماء رجال.
فلما قتل (أبو منصور) افترق أصحابه فرقتين. فقالت طائفة: الإمام بعده الحسين بن أبي منصور، وقالت الأخرى إنما كان منصور مستودعا صاحب الأسباط، ولكن الإمامة في محمد بن عبد الله بن حسن، وليس له أن يتكلم لأنه الإمام الصامت حتى يقول الإمام الناطق.
فهؤلاء (جميعا) من صنوف الغالية من أصحاب عبد الله بن معاوية والعباسية الروندية وغيرهم، غير أنهم مختلفون في مذاهبهم من التناسخ، فإن أصحاب عبد الله بن معاوية يزعمون أنهم يتعارفون في انتقالهم في كل جسد صاروا فيه على ما كانوا عليه مع نوح عليه السلام في السفينة ومع الأنبياء في أزمانهم ومع النبي في عصره وزمانه، ويسمون أنفسهم بأسماء أصحاب النبي ويزعمون أن أرواحهم فيهم. ويتأولون في ذلك قول علي بن أبي طالب عليه السلام وقد روي أيضا عن النبي أن: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» فنحن نتعارف كما قال علي عليه السلام وكما روي عن النبي .
وقال بعضهم بالتناسخ وتنقل الأرواح مدة ووقتا، وهو أن كل دور في الأبدان الإنسية فهو عشرة ألاف سنةن ثم تحول في غير هذه الأبدان الإنسية، وذلك للمؤمنين خاصة، فتحول إلى الدواب للنزهة مثل الأفراس العتاق والشهاري والنجائب وغيرها مما يكون لمواكب الملوك والخلفاء على قدر أديانهم وطاعتهم لأنبيائهم وأئمتهم، فيحسن إليها في علفها وإمساكها وتجليلها بالديباج والوشى وغيره من الجلال والبراقع النظيفة المرتفعة والسروج المحلاة بالذهب والفضة، وكذلك ما كان منها لأوساط الناس والعوام فإنما ذلك على قدر إيمانهم ومعرفتهم بما افترضت عليهم طاعته وولايته، فتمكث في ذلك الانتقال ألف سنة، وإنما يفعل الله ذلك بهم امتحانا لكيلا يدخلهم العجب فتزول بذلك عنهم طاعتهم ومعرفاتهم. وأما الكفار والمشركون والمنافقون والعصاة فينتقلون في الأبدان المشوهة الممسوخة القبيحة عشرة آلاف سنة ما بين الفيل والجمل وما هو أكثر منهما إلى البقة الصغيرة، ينتقلون في هذه المدة من حال إلى حال - من حال الفيل والجمل إلى حال البقة. وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} فقالوا نحن نعلم أن الجمل وما هو في (حجمه) من الخلق لا يقدر أن يلج في سم الخياط، وقول الله لا يكذب ولا بد من أن يكون ذلك ولا يتهيأ إلا بنقصان (حجم الجمل أو الفيل) وتصغيره في كل دور حتى يرجع إلى (حجم) البقة الصغيرة فحينئذ يمكن أن يدخل في سم الخياط، فإذا خرج من سم الخياط دخل الجنة، أي رد في الأبدان الإنسية لألف سنة، فصار في الخلق الفقير المحتاج وكلف الأعمال والتعب وطلب المعاش والمكسب بالمشقة والنصب، (بين) دباغ وحجام وكناس وغير ذلك من الصناعات والأعمال المذمومة القذرة وذلك على قدر تكذيبهم ومعاصيهم لأئمتهم، فينسخون في هذه الأجسام الإنسية بهذه الحال ويمتحنون بالإيمان بالأئمة والأنبياء والرسل وبمعرفتهم وطاعتهم، فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، فهم في هذه الحال ألف سنة، ثم يردون إلى الأمر الأول عشرة آلاف سنة، فهذه حالهم أبد الآبدين ودهر الداهرين، (و) هذه قيامتهم وبعثهم وهذه جنتهم ونارهم وهذا معنى الرجعة والكرات عندهم، لا رجوع بعد الموت، والقوالب تفنى وتتلاشى ولا تعود ولا ترد أبدا.
وقالت (فرقة الراوندية) والمغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد: لا ننكر لله قدرة ولا نؤمن بالرجعة ولا نكذب بها، وإن شاء الله تعالى أن يفعل فعل.
وقالت الكيسانية: يرجع الناس في أجسامهم التي كانوا عليها ويرجع محمد (ويرجع) جميع النبيين، فيؤمنون بمحمد ويرجع علي بن أبي طالب فيقتل معاوية بن أبي سفيان وآل أبي سفيان ويهدم دمشق ويغرق البصرة.
وأما أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي الأجدع الأسدي ومن قال بقولهم فإنهمزعموا أنه لا بد من رسولين في كل عصر ولا تخلو الأرض منهما: واحد ناطق وآخر صامت، فكان محمد ناطقا وعلي صامتا. وتأولوا في ذلك قول الله: {ثم أرسلنا رسلنا تترى}، ثم ارتفعوا عن هذه المقالة إلى أن قال بعضهم هي آلهة، وتشاهدوا بالزور، ثم إنهم افترقوا لما بلغهم أن أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام لعنهم ولعن أبا الخطاب وبرئ منه ومن أصحابه، فصاروا أربع فرق، وكان أبو الخطاب يدعي أن أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قد جعله قيمه ووصيه من بعده وأنه علمه اسم الله الأعظم، ثم ترقى إلى أن ادعى النبوة ثم ادعى الرسالة ثم ادعى أنه من الملائكة وأنه رسول الله إلى أهل الأرض والحجة عليهم. وذلك بعد دعواه أنه جعفر بن محمد وأنه يتصور في أي صورة شاء. وذكر بعض الخطابية أن رجلا سأل جعفر بن محمد عن مسألة وهو بالمدينة فأجباه فيها ثم انصرف إلى الكوفة فسأل أبا الخطاب عنها فقال له: أولم تسألني عن هذه المسألة بالمدينة فأجبتك فيها؟
ففرقة منهم قالت: إن أبا عبد الله جعفر بن محمد هو الله عز وجل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وأن أبا الخطاب نبي مرسل أرسله جعفر وأمر بطاعته. وأحلوا المحارم من الزنا والسرقة وشرب الخمر واللواط، وتركوا الزكاة والصلاة والصيام والحج، وأباحوا الشهوات بعضهم لبعض، وقالوا من سأله أخوه ليشهد له على مخالفيه فليصدقه وليشهد له بكل ما سأله فإن ذلك فرض عليه (و) واجب، فإن لم يفعل فقد ترك أعظم فريضة من فرائض الله بعد المعرفة. ومن ترك فريضة فقد كفر وأشرك، وجعلوا الفرائض التي فرض الله رجالا سموهم وأمروا بمعرفتهم وولايتهم، والفواحش والمعاصي رجالا أمروا بالبراءة منهم ولعنهم واجتنابهم، وتأولوا على ما استحلوا قول الله عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم} وقالوا: خفف عنا بأبي الخطاب ووضع عنا به الأغلال والآصار، يعنون الصلوة والزكاة والحج والصيام وجميع الأعمال، فمن عرف الرسول النبي الإمام فذلك عنه موضوع، فليصنع ما أحب.
وفرقة منهم قالت: إن بزيعا، وكان حائكا من حاكة الكوفة، نبي رسول مثل أبي الخطاب، أرسله جعفر بن محمد وجعله شريك أبي الخطاب في النبوة والرسالة كما أشرك الله بين موسى وهارون عليهما السلام، وشهد بزيع لأبي الخطاب بالرسالة، فلما بلغ أبا الخطاب ذلك برئ من بزيع وأصحابه.
وفرقة منهم قالت: السري الأقصم نبي رسول مثل أبي الخطاب، أرسله جعفر فهو رسوله وقال إنه قوي أمين وهو موسى الرسول {القوي الأمين} فيه تلك الروح التي كانت في موسى ومعه عصاه وبراهينه، وزعموا أن جعفرا هو الإسلام والإسلام هو السلام وهو الله عز وجل ونحن بنو الإسلام كما قالت اليهود: {نحن أبناء الله وأحباؤه} وقد قال رسول الله لسلمان: "سلمان ابن الإسلام|، فدعوا الناس إلى نبوة السري ورسالته وصلوا (وصاموا) وحجوا لجعفر بن محمد ولبوا له فقالوا: لبيك يا جعفر لبيك.
وفرقة منهم قالت جعفر بن محمد هو الله عز وجل وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما هو نور يدخل في أبدان الأوصياء فيحل فيها، فكان ذلك النور في جعفر ثم خرج منه فدخل في أبي الخطاب فصار جعفر من الملائكة، ثم خرج من أبي الخطاب فدخل في معمر بن الأحمر بياع الطعام وصار أبو الخطاب من الملائكة، فمعمر هو الله عز وجل، فخرج ابن اللبان يدعو إلى معمر وقال إنه الله عز وجل وصلى له وصام وأحل الشهوات كلها ما حُل منها وما حرم، وليس عنده شيء محرم، وقال لم يخلق الله هذا إلا لخلقه فكيف يكون محرما، وأحل الزنا والسرقة وشرب الخمر والربا والميتة والدم ولحم الخنزير ونكاح الأمهات والبنات والأخوات ونكاح الرجال، ووضع عن أصحابه غسل الجنابة وقال كيف أغتسل من نطفة خلقت منها. وزعم أن كل شيء أحله الله في القرآن وحرمه فإنما هو أسماء رجال فخاصمه قوم من الشيعة فقال لهم إن اللذين زعمتم أنهما صارا من الملائكة يبرءان من معمر وبزيع ويشهدان عليهما أنهما كافران شيطانان وقد لعناهما، فقالوا إن الذين زعمتم أنهم عندكم جعفر وأبو الخطاب شيطانان تمثلا في صورة جعفر وأبي الخطاب يصدان الناس عن الحق، وجعفر وأبو الخطاب ملكان عظيمان عند الإله الأعظم إله السماء، ومعمر هو إله الأرض وهو مطيع لإله السماء يعرف فضله وقدره، فقالوا لهم كيف يكون هذا ومحمد لم يزل مقرا بأنه عبد الله، وأن الهه وإله الخلق أجمعين إله واحد وهو الله وهو رب السماء والأرض وإلهما لا إله غيره، فقالوا إن محمد كان يوم قال هذا عبدا رسولا وكان الذي أرسله أبو طالب، وكان النور الذي هو الله في عبد المطلب ثم صار في أبي طالب ثم صار في محمد ثم صار في علي بن أبي طالب عليه السلام، فهم آلهة كلهم. قالوا وكيف هذا وقد دعا محمد أبا طالب إلى الإسلام والإيمان به فامتنع أبو طالب من ذلك، وقد قال النبي : "إني مستوهبه من ربي وإنه واهبه لي" (و) قالوا إن محمدا وأبا طالب كانا يسخران بالناس، (فقال) الله عز وجل: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} وقال تعالى: {فيسخرون منهم سخر الله منهم} وأبو طالب هو الله عز وجل وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فلما مضى أبو طالب خرجت الروح وسكنت في محمد فكان هو الله عز وجل في الحق وعلي بن أبي طالب هو الرسول، فلما مضى محمد خرجت منه الروح وصارت في علي فلم تزل تتناسخ في واحد بعد واحد حتى صارت في معمر. وكان معمر قد أخذهم بالسجود له من دون الله.
والمعمرية يزعمون أن قوالب هذه الروح وبيوتها لا تموت ولا تفنى ولا تخرب ولا تتلاشى ولكنها تتحول ملائكة، (وقالوا إنهم) يرفعون إلى السماء ولا يموتون، يرفعون بأبدانهم وأرواحهم، وإنما يوقعون الأسماء على الأبدان والقوالب، ولا يسمون الروح إلا باسمين: الله والخالق، وما سواها من أسماء الأبدان والبيوت التي تسكنها هذه الروح.
والبزيعية يزعمون أن كل ما يقذف في قلوبهم فهو وحي وأنه يوحى إليهم. وتأولوا في ذلك قول الله: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله}، فإذن الله وحيه.
وتأول الخطابية (أتباع أبي الخطاب) قول الله: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في الحبر فأردت أن أعيبها} لكي لا تعطب أهلها، أن السفينة أبو الخطاب وأن المساكين أصحابه وأن الملك الذي وراءهم عيسى بن موسى العباسي، وهو الذي قتل أبا الخطاب، وأن أبا عبد الله أراد أن يعيبنا بلعنه إيانا في الظاهر، وفي الباطن (يلعن) أضدادنا ومن خالفنا، وتأولوا في ذكره أبا الخطاب أنه عنى قتادة بن (دعامة) البصري، فقيه أهل البصرة. وكان قتادة يأتي أبا جعفر وأبا عبد الله، وكان يكنى بأبي الخطاب، فتأول أبو الخطاب وأصحابه أنه الذي لعنه أبو عبد الله وأن عبد الله يلبس على أصحابه ليزيدهم ضلالا وتيها. فأخبر أبو عبد الله بذلك، فقال والله ما عنيت إلا محمد بن مقلاص بن أبي زينب الأجدع البراد عبد بني أسد (يقصد أبا الخطاب) فلعته الله ولعن أصحابه ولعن الشاكين فيه ولعن من قال إني أضمر وأبطن غيرهم، ولعن الله من وقف على ذلك وبرئ منه.
وكان المغيرة بن سعيد وبيان بن سمعان وبزيع وصائد قد نصبوا أنفسهم أنبياء، وآل محمد صلى الله عليه خالقين، وزعموا أنهم أبواب وأنهم يرون جعفر بن محمد ربا وخالقا في ملكوته وعظمته، بخلاف ما تراه الشيعة (المقصرة)ن فإنهم يرونه (بواده)، لا يدركه بالنورانية إلا هم، إذ كانوا أنبياء وصفوة، وأن من لم يكن من صفوته يدركه بالبشرية اللحمانية الدموية، يلتبس على أهل الجحود لربوبيته من مقصرة الشيعة. وحكوا عن أبي الخطاب أنه قال رأيت أبا عبد الله في الحجر جالسا فقلت له: يا سيدي أرني نفسك في عظمتك وملكوتك، فقال له: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال: فبسط يده على الأرض فإذا السماوات والأرضون والخلائق في قبضته، ثم قال: فإني ركن الحجر الأسود، فإذا البيت قد رفعه على إصبعه في الهواء وإذا من حوله قردة وخنازير وإذا موضع البيت بحيرة قطران أسود، ثم رده كما كان، وقال هذا مركز الشيطان ومأوى إبليس.
فأصناف الغلاة المتقدمة: السبائية وهم أصحاب عبد الله بن سبأ الراسبي، ثم الكيسانية، ثم الحربية أصحاب عبد الله بن عمرو بن حرب، ثم الحمزية أصحاب حمزة بن عمارة البربري وكان من أهل المدينة، ثم المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد، ثم البيانية والصائدية وهم أصحاب بيان بن سمعان وصائد النهديين، ثم الخطابية أصحاب ابي الخطاب محمد بن مقلاص الأسدي، ثم العلبائية وهم (أصحاب العلباء بن ذراع الدوسي)، ثم البشرية وهم أصحاب محمد بن بشير.
وصنف منهم قالوا بالحلول، وزعموا أن كل من انتسب إلى أنه من (آل محمد) (بارا) كان أو فاجرا فالله حالّ فيه، وهم جميعا مساكنه لأنهم الحجب، وأبطلوا ولاداتهم وزعموا أن ذلك تلبيس وأن محمدا وعليا لم يلدا ولم يولدا.
وقالت الخطابية بتحليل المحارم، وتأولوا في ذلك (قوله تعالى): {يريد الله أن يخفف عنكم} فقالوا: خَفّف عنا (يا أبا الخطاب) وأباحوا الأمهات والبنات والأخوات والأولاد والذكران والأناث لأنفسهم ولإخوانهم وأبطلوا الولادات والأنساب وقالوا هم الذين كانوا من قبل يردون كرة بعد كرة، وتأولوا في ذلك قول الله: {بل هم في لبس من خلق جديد} وقوله: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} وزعموا أن الأسباب من التوالد والنكاح كلها تلبيس.
فهذه فرق أهل الغلو ممن انتحل التشيع، ومرجعهم جميعا لعنهم الله إلى الخرمدينية والمزدكية والزنديقية والدهرية. وكلهم متفقون على نفي الربوبية عن الله الجليل الخالق تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإثباتها في بدن مخلوق، (دليل) على أن البدن مسكن لله وأن الله تعالى نور وروح ينتقل في هذه الأبدان - تعالى الله عن ذلك - إلا أنهم مختلفون في رؤسائهم الذين يتولونهم، وكلهم يبرأ البعض من بعض ويلعن بعضهم بعضا.
ثم إن الشيعة العباسية افترقت (فرقا منها الروندية، قيل نسبة إلى عبد الله الراوندي، وهم ثلاث فرق:
ففرقة منهم يسمون الأبا مسلمية أو المسلمية، أصحاب أبي مسلم، عبد الرحمن أبو مسلم (الخراساني)، قالوا بإمامته بعد قتله وادعوا أنه حي لم يمت ولم يقتل، وقالوا بالإباحات وترك جميع الفرائض وجعلوا الإيمان (هو) المعرفة (بإمامهم) فقط، فسموا الخرمدينية وإلى أصلهم رجعت فرقة الخرمية، وجل مذاهبهم مذاهب المجوس.
وفرقة أقامت على ولاية أسلافها وولاية أبي مسلم سرا، وهم الرزامية أصحاب رزام، وأصلهم مذهب الكيسانية.
وفرقة منهم يقال لها الهريرية أصحاب أبي هريرة الراوندي، وهم العباسية الخلص الذين أثبتوا الإمامة بعد رسول الله () للعباس بن عبد المطلب، وتثبت على ولاية أسلافها الأول سرا، وكرهوا أن يشهدوا على أسلافهم بالكفر، وهم مع ذلك يتولون أبا مسلم ويعظمونه. وهم الذين غلوا في القول في العباس وولده.
وفرقة منهم قالت إن محمد بن الحنفية كان الإمام بعد أبيه علي بن أبي طالب، فلما مات أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد، فأوصى أبو هاشم إلى محمد بن علي بن العباس بن عبد المطلب لأنه مات عنده بالشام بأرض الشراة، فأوصى محمد بن علي بن عبد الله إلى ابنه إبراهيم بن محمد المسمى بالإمام، وهو أول من عقدت له الإمامة من ولد العباس وإليه دعا أبو مسلم، ومات ولم يملك ولم يظهر أمره. وأوصى إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد، وهو أول من عقدة له الإمامة والخلافة من ولد العباس بن عبد المطلب، فلما توفي أبو العباس أوصى إلى أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد فسمي المنصور وهو المعروف بأبي الدوانيق. فلما مضى المنصور أوصى إلى ابنه المهدي محمد بن عبد الله واستخلفه بعده، فردهم المهدي عن إثبات الإمامة لمحمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم، وأثبت الإمامة بعد النبي للعباس بن عبد المطلب ودعاهم إليها وقال كان العباس عمه ووارثه وأولى الناس به، وإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا عليه السلام وكل من دخل في الخلافة وادعى الإمامة بعد النبي غاصبون متوثبون مغلبون بغير حق، وكفرهم سرا وكره كشف ذلك وإعلانه، وذكر أن الاختيار من الأمة للإمام باطل وخطأ وأنها لا تجوز إلا بعقد وعهد من الماضي إلى من يرتضيه ويستخلفه بعده، فكان المهدي أول من عقد الإمامة والخلافة على أصحابه وأوليائه والأمة للعباس بن عبد المطلب بعد رسول الله . وأم العباس نتيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد بن مناة بن الضحيان وهو عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط. ثم عقدها بعد العباس لعبد الله بن العباس، وأمه أم الفضل واسمها لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة. ثم عقدها بعد عبد الله لعلي بن عبد الله المعروف بالسجاد وكان متعبدا ناسكا زاهدا وأمه زرعة بنت مشرح بن معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن عمرو بن حجر بن الولادة الحارث بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن كندة. ثم عقدها بعد لإبراهيم بن محمد المسمى بالإمام، وأمه أم ولد يقال لها فاطمة، فعقدها بعد إبراهيم لأخيه عبد الله بن محمد أبي العباس، وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحرث بن كعب. ثم عقدها من أبي العباس لأخيه عبد الله أبي جعفر المنصور، وأمه ولد وكانت بربرية يقال لها سلامة. وكان أبو العباس جعل ولاية عهده لأخيه أبي جعفر ثم لابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن العباس، فخالفه عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس فادعى الإمامة ووصية أبي العباس، فقاتله أبو مسلم فهزمه، فهرب وتوارى بالبصرة. فأخذه بعد ذلك بأمان، وهو صاحب عبد الله بن المقفع الزنديق، وكان المنصور (قد أعطى) لعبد الله بن علي عمه فيما روي سبعين أمانا، كلها يردها عبد الله بن المقفع ويقول له هذا ينتقض عليك ويبطل من مكان كذا وكذا. فلما ضجر المنصور وطال عليه أمره كتب إلى يزيد بن معاوية المهلبي وهو عامله في البصرة بعد ما وقف على أمر ابن المقفع وأنه صاحبه، وكان متواريا مخافة المنصور وما بلغه عنه، يقسم بالله والأيمان المغلظة لئن لم يطلب عبد الله بن المقفع ولم يقتله ليقتلنه ومن بقي من أهل بيته ومن آل المهلب، فطلبه يزيد بن معاوية فظفر به وأراد حمله إلى المنصور فقتل نفسه. وقال بعضهم إنه شرب سما وقال بعضهم إنه خنق نفسه. فلما قتل ابن المقفع (لم يجد عبد الله بن علي الأمان) وظهر، فحُمل إلى المنصور، فحبسه في بيت ثم هدمه عليه فقتله، وقال بعضهم بل بعث إليه وهو نائم ثم وضع على وجهه شيئا أخذ بنفسه حتى مات (أي مخنوقا)، وقال بعضهم إنه سمه في طعامه فقتله. فلما اطمأنت الخلافة للمنصور واستوى أمره وقوي وقتل أبا مسلم وكبر ابنه محمد بن عبد الله، سماه المهدي وبايع له وقدمه على عيسى بن موسى، وجعل عيسى بعده ولي عهده، وأعطى عيسى على ذلك عشرين ألف درهم. فافترقت حينئذ شيعته واضطربت وأنكرت ما كان منه، وأبوا قبول بيعة المهدي وتقديمه على عيسى بن موسى، وقالوا لأصحابهم من أين جاز لكم متابعة المهدي وتأخير عيسى بن موسى وقد عقد له أبو العباس العهد بعد المنصور، فقالوا من قِبل أمر أمير المؤمنين المنصور لنا بذلك وهو الإمام الذي قد افترض علينا الله طاعته. قالوا فإن أبا العباس كان مفترض الطاعة من الله قبله، وهو أمر ببيعة أبي جعفر وبيعة عيسى بن موسى بعده، وإنما ثبتت إمامة أبي جعفر وبيعته علينا وعليكم بأمر أبي العباس وطاعته، فكيف جاز لكم تأخير من قدمه وتقديم المهدي بين يديه؟ قالوا: إنما الطاعة للإمام ما دام حيا فإذا مات وقام غيره كان الأمر أمر القائم ما دام حيا. قالوا: أفرأيتم إن مات أمير المؤمنين المنصور والمهدي حي وعيسى بن موسى حي فأنكر الناس أمر أمير المؤمنين في بيعة المهدي كما أنكرتم أنتم أمر أبي العباس في بيعة عيسى بن موسى هل يجوز ذلك؟ قالوا لا يجوز ذلك وقد بويع له قالوا فكيف جاز لكم أن تؤخروا عيسى وتقدموا المهدي ولم تكونوا بايعتم له؟ قالوا: فإن عيسى بن موسى باع ذلك بيعا ورضي به فرضينا له ما رضي لنفسه، فرجع منهم لهذا القول قوم وقالوا: هذه حجة تلزمنا، وثبت الباقون على إمامة عيسى بن موسى وبيعته، وأنكروا إمامة المهدي وأجروها في ولد عيسى بن موسى إلى اليوم. وأم عيسى بن موسى أم ولد. فلما حضرت المهدي الوفاة عقد الخلافة لابنه موسى وسماه الهادي وجعل ابنه هارون بعده وسماه الرشيد وأسقط عيسى بن موسى. وأم المهدي أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن شمر بن يزيد بن وارد بن معد يكرب بن الوازع بن ذي عيش بن وتج بن وصاة بن عبد الله بن سميع بن الحارث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدر بن زرعة بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأم موسى الهادي والرشيد أم ولد يقال لها الخيزران.
ومن العباسية فرقتان قالتا بالغلو في ولد العباس رحمة الله عليه. فرقة منها تسمى الهاشمية أصحاب أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، قالت إن الإمام عالم يعلم كل شيء وهو بمنزلة النبي في جميع أموره، ومن لم يعرفه لم يعرف الله وليس بمؤمن بل هو كافر مشرك. وقادوا الإمامة عن أبي هاشم إلى ولد العباس.
وفرقة قالت الإمام عالم بكل شيء وهو الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، يحيي ويميت، وأبو مسلم نبي مرسل يعلم الغيب أرسله أبو جعفر المنصور. وهم من الراوندية أصحاب عبد الله الراوندي. وشهدوا أن المنصور هو الله جل الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وهو يعلم سرهم ونجواهم، وأعلنوا القول بذلك ودعوا اليه. فبلغ قولهم المنصور فأمر بطلبهم فأخذ منهم جماعة فأقروا بذلك فاستتابهم وأمرهم بالرجوع عن هذا القول والتوبة منه، فأبوا أن يرجعوا عن ذلك، وقالوا المنصور ربنا وهو يقتلنا شهداء كما قتل أنبيائه ورسله على يدي من شاء من خلقه، وأمات بعضهم بالهدم والغرق وأنواع الآفات والبلايا وسلط على بعضهم السباع وقبض أرواح بعضهم فجأة وبالعلل كيف شاء وذلك له يفعل ما يشاء بخلقه لا يسئل عما يفعل، فثبتوا على ذلك إلى اليوم وادعوا أن أسلافهم مضوا على هذا القول ولكنهم كتموه عن الناس، وكان ذلك ذنبا منهم يتوب الله منه عليهم وليس ذلك يخرجهم من الإيمان ولا من طاعة إمامهم، لأنهم تأولوا في فعلهم أمرا من التقية أخطأوا فيه وهو يرحمهم.
وأما الشيعة العلوية الذين قالوا بفرض الإمامة لعلي بن أبي طالب عليه السلام من الله ومن رسوله ، فإنهم ثبتوا على إمامته ثم إمامة الحسن ابنه من بعده ثم إمامة الحسين بعد الحسن، ثم افترقوا بعد قتل الحسين عليه السلام فرقا.
فنزلت فرقة إلى القول بإمامة ابنه علي بن الحسين المسمى بسيد العابدين، وكان يكنى بأبي محمد ويكنى بأبي بكر وهي كنيته الغالبة عليه، فلم تزل مقيمة على إمامته حتى توفي رحمة الله عليه بالمدينة في المحرم في أول سنة أربع وتسعين وهو ابن خمس وخمسين سنة وأربعة عشر يوما. وكانت إمامته ثلاثا وثلاثين سنة. ومولده في سنة ثمان وثلاثين. وأمه أم ولد يقال لها سلافة وكانت تسمى قبل أن تسبى جهانشاه وهي ابنة يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز، وكان يزدجرد آخر ملوك فارس.
وفرقة قالت انقطعت الإمامة بعد الحسين، إنما كانوا ثلاثة أئمة مسمين بأسمائهم استخلفهم رسول الله وأوصى إليهم وجعلهم حججا على الناس وقواما بعده واحدا بعد واحد فلم يثبتوا إمامة لأحد بعدهم. فقاموا بواجب الدين وبينوا للناس حتى استغنوا عن الإمام بما أوصلوا إليهم من علوم رسول الله ()، فلم يثبتوا إمامة لأحد بعدهم، (وأثبتوا) رجعتهم لا لتعليم الناس أمور دينهم ولكن لطلب الثأر وقتل أعدائهم والمتوثبين عليهم الآخذين حقوقهم، وهذا معنى خروج المهدي عندهم وقيامة القائم.
وفرقة قالت إن الإمامة صارت بعد مضي الحسين في ولد الحسن والحسين، فهي فيهم خاصة دون سائر ولد علي بن أبي طالب، وهم كلهم فيها شرع سواء، لا يعلمون أيا من أي، فمن قام منهم ودعا لنفسه فهو الإمام المفروض الطاعة بمنزلة علي بي أبي طالب وإمامته واجبة من الله عز وجل على أهل بيته وسائر الناس كلهم، فمن تخلف عنه عند قيامه ودعائه إلى نفسه من جميع الخلق فهو هالك كافر، ومن ادعى منهم الإمامة وهو قاعد في بيته مرخي عليه ستره فهو كافر مشرك ضال، هو وكل من تبعه على ذلك وكل من قال بإمامته ودان بها. وهؤلاء فرقة من فرق الزيدية يسمون السرحوبية ويسمون الجارودية وأصحاب أبي خالد الواسطي واسمه يزيد وأصحاب فضيل بن الزبير الرسان وزياد بن المنذر وهو الذي يسمى أبا الجارود، ولقبه سرحوب. وذكر أن سرحوبا شيطان أعمى يسكن البحر، وكان أبو الجارود أعمى القلب؛ وكان الذي سماه (كذلك) محمد بن علي بن الحسين. وهؤلاء التقوا هؤلاء مع الفرقتين اللتين قالتا إن عليا أفضل الناس بعد النبي ، فصاروا مع زيد بن علي بن الحسين عند خروجه بالكوفة فقالوا بإمامته فسموا كلهم في الجملة الزيدية إلا أنهم مختلفون فيما بينهم في القرآن والسنن والشرائع والفرائض والأحكام. وذلك أن السرحوبية قالت الحلال حلال آل محمد والحرام حرامهم والأحكام أحكامهم وعندهم جميع ما جاء به النبي كاملا عند صغيرهم وكبيرهم، والصغير منهم والكبير في العلم سواء، لا يفضل الكبير منهم الصغير، من كان منهم في الخرق والمهد إلى أكبرهم سنا.
ومن ادعى أن من كان منهم في المهد والخرق ليس علمه مثل علم رسول الله [فهو كافر مشرك بالله] وليس يحتاج أحد منهم أن يتعلم من أحد منهم ولا من غيرهم، (فالعلم) ينبت في صدورهم كما ينبت الزرع المطر، فالله عز وجل قد علمهم بلطفه كيف شاء. وإنما قالوا بهذه المقالة كراهة أن يلزموا الإمامة بعضهم دون بعض فينتقض قولهم إن الإمامة صارت فيهم جميعا فهم فيها شرع سواء، إلا أنه لا يستحق أحد منهم فرضا على الإمامة والسمع والطاعة حتى يظهر نفسه ويدعو الناس إليه بالسيف، فإذا لم يفعلوا فهم كلهم (بالجملة) ليسوا علماء. وهم مع ذلك لا يروون عن أحد منهم علما ينتفعون به إلا ما يروون عن أبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد وأحاديث قليلة عن زيد بن علي بن الحسين وأشياء يسيرة عن عبد الله بن الحسن المحض؛ ليس مما قالوا وادعوه في أيديهم شيء أكثر من دعوى كاذبة لأنهم وصفوهم بأنهم يعلمون كل شيء تحتاج إليه الأمة من أمر دينهم ودنياهم ومنافعها ومضارها بغير تعليم.
ومن الزيدية فرقة تسمى الصباحية، وهم أصحاب الصباح المزني، أمرهم أن يعلنوا البراءة من أبي بكر وعمر وأن يقروا بالرجعة.
وفرقة منهم تسمى اليعقوبية، وهم أصحاب يعقوب بن عدي، أنكروا الرجعة ولم يؤمنوا بها ولم يبرؤوا ممن أقر بها ولم يتبرؤوا من أبي بكر وعمر.
وأما سائر فرقهم فإنهم وسعوا الأمر فقالوا العلم مبثوث مشترك فيهم وفي عوام الناس، فهم والعوام من الناس فيه سواء، فمن أخذ منهم علما لدين أو دنيا مما يحتاج إليه أو أخذه من غيرهم من العوام فموسع [له] ذلك، فإن لم يوجد عندهم ولا عند غيرهم مما يحتاجون إليه من علم دينهم فجائز للناس الاجتهاد والاختيار والقول بآرائهم، وهذا قول الزيدية الأقوياء منهم والضعفاء.
فأما الضعفاء منهم فسموا العجلية وهم أصحاب هارون بن سعيد العِجلي.
وفرقة منهم يسمون البترية وهم أصحاب كثير النواء والحسن بن صالح بن حي وسالم بن أبي حفصة والحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وأبي المقدام ثابت الحداد. وهم الذين دعوا الناس إلى ولاية علي عليه السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر، (وهم) عند العامة أفضل هذه (الفرق)، وذلك أنهم يفضلون عليا ويثبتون إمامة أبي بكر وينتقصون عثمان وطلحة والزبير ويرون الخروج مع كل من ولد علي عليه السلام يذهبون في ذلك إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويثبتون لمن خرج من ولد علي الامامة عند خروجه، ولا يقصدون في الإمامة قصد رجل بعينه حتى يخرج، وكل ولد علي عندهم على السواء من أي بطن كان.
وأما الأقوياء منهم، فمنهم أصحاب أبي الجارود وأصحاب أبي خالد الواسطي وأصحاب فضيل الرسان ومنصور بن أبي الأسود.
وأما الزيدية الذين يدعون الحسينية فإنهم يقولون من دعا إلى طاعة الله عز وجل من آل محمد فهو إمام مفترض الطاعة، وكان علي بن أبي طالب إماما في وقت ما دعا الناس وأظهر أمره، ثم كان بعده الحسين إماما عند خروجه، وقبل ذلك إذ كان مجانبا لمعاوية ويزيد بن معاوية حتى قتل، ثم زيد بن علي بن الحسين المقتول بالكوفة، أمة أم ولد، ثم يحيى بن زيد بن علي المقتول بخراسان، وأمه ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، ثم ابنه الآخر عيسى بن زيد، وأمه أم ولد، ثم محمد بن عبد الله بن الحسن، وأمه هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي. ثم من دعا إلى طاعة الله من آل محمد فهو إمام.
وأما المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد فإنهم نزلوا معهم إلى القول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن وتولوه وثبتوا إمامته، فلما قتل صاروا لا إمام لهم ولا وصي، ولا يثبتون لأحد إمامة بعده.
وأما الذين أثبتوا الإمامة لعلي بن أبي طالب ثم للحسن ثم للحسين ثم لعلي بن الحسين ثم نزلوا بعد وفاة علي بن الحسين إلى القول بإمامة ابنه أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين باقر العلم وأقاموا على إمامته إلى أن توفي، غير نفر يسير منهم فإنهم سمعوا رجلا منهم يقال له عمر بن رياح زعم أنه سأل أبا جعفر عن مسألة فأجابه فيها بجواب ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول، فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية، فشك في أمره وإمامته، فلقي رجلا من أصحاب أبي جعفر يقال له محمد بن قيس فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول فقلت له لم فعلت ذلك فقال فعلته للتقية وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي، فقال له محمد بن قيس: فلعله حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري، ولكن جوابيه جميعا خرجا على وجه التبخيت ولم يحفظ ما أجاب به في العام الماضي فيجيب بمثله. فرجع عن إمامته وقال: لا يكون إماما من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال، ولا يكون إماما من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله ولا من يرخي ستره ويغلق بابه، ولا يسع الإمام إلا الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمال بسببه إلى قول البترية ومال معه نفر يسير.
وبقي سائر أصحاب أبي جعفر عليه السلام على القول بإمامته حتى توفي، وذلك في ذي الحجة سنة أربع عشرة ومائة وهو ابن خمس وخمسين سنة وأشهر، ودفن بالمدينة في القبر الذي دفن فيه أبوه علي بن الحسين عليه السلام. وكان مولده سنة تسع وخمسين وقال بعضهم إنه توفي في سنة تسع عشرة ومائة وهو ابن ثلاث وستين سنة، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب وأمها أم ولد يقال لها صافية. وكانت إمامته إحدى وعشرين سنة وقال بعضهم بل كانت أربعا وعشرين سنة.
فلما توفي أبو جعفر عليه السلام افترقت أصحابه فرقتين:
فرقة منهما قالت بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الخارج بالمدينة المقتول بها، وزعموا أنه القائم المهدي وأنه الإمام وأنكروا قتله وموته وقالوا إنه حي لم يمت مقيم بجبل يقال له الطمية (أو) العلمية، وهو الجبل الذي في طريق مكة نجد، الحاجز عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة وهو الجبل الكبير، فهو عندهم مقيم فيه حتى يخرج، لأن رسول الله قال: "القائم المهدي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي" وقد كان أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن خرج بالبصرة ودعا إلى إمامة أخيه محمد بن عبد الله واشتدت شوكته فبعث إليه المنصور بالخيل فقتل بعد حروب كانت بينهم.
وكان المغيرة بن سعيد قال بهذا القول لما توفي أبو جعفر محمد بن علي وأظهر المقالة بذلك، فبرئت منه الشيعة أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد ورفضوه ولعنوه، فزعم أنهم رافضة وأنه هو الذي سماهم بهذا الاسم. ونصب بعض أصحاب المغيرة المغيرة إماما وزعم أن الحسين بن علي أوصى إليه ثم أوصى إليه علي بن الحسين ثم زعم أن أبا جعفر محمد بن علي -عليه السلام وعلى آبائه السلام- أوصى إليه فهو الإمام إلى أن يخرج المهدي، وقال (هؤلاء): لا إمامة في بني علي بن أبي طالب بعد [أبي] جعفر [محمد] بن علي، وأن الإمامة في المغيرة بن سعيد إلى خروج المهدي، وهو عندهم محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، وهو حي لم يمت ولم يقتل، فسموا المغيرية باسم المغيرة بن سعيد مولى خالد بن عبد الله القسري. ثم تراقى الأمر بالمغيرة إلى أن زعم أنه رسول نبي وأن جبرئيل يأتيه بالوحي من عند الله، فأخذه خالد بن عبد الله القسري فسأله عن ذلك فأقر به ودعا خالدا إليه، فاستتابه خالد فأبى أن يرجع عن قوله فقتله وصلبه. وكان يدعي أنه يحيي الموتى، وقال بالتناسخ وكذلك قول أصحابه إلى اليوم.
وفرقة من المغيرية يقال لها المهدية ينتسبون إلى ابن الحنفية (يقولون) إنه المهدي، زعمت أن الله تبارك وتعالى (بزعمهم) في صفة رجل على رأسه تاج وأن له عز وجل أعضاء على عدد (الأبجدية)، فالألف القدم - تعالى الله عن ذلك. وقالوا إنما نسميه خالقا حين خلق ورازقا حين رزق وعالما حين علم، فلما خلق الخلق طار الإسلام فوقع على الرأس فوق التاج، وذلك قوله: {سبح اسم ربك الأعلى}.
وأما الفرقة الأخرى من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، فنزلت إلى القول بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد، فلم تزل ثابتة على إمامته أيام حياته غير نفر منهم يسير، فإنهم لما أشار جعفر بن محمد إلى إمامة ابنه إسماعيل ثم مات إسماعيل في حياة أبيه رجعوا عن إمامته وقالوا كذبنا ولم يكن إماما لأن الإمام لا يكذب ولا يقول ما لا يكون، وحكوا عن جعفر أنه قال إن الله عز وجل بدا له في إمامة اسماعيل، فأنكروا البداء والمشيئة من الله وقالوا: هذا باطل لا يجوز، ومالوا إلى مقالة البترية ومقالة سليمان بن جرير.
وسليمان بن جرير هو الذي قال لأصحابه لهذا السبب إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدا وهما القول بالبداء وإجازة التقية، فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعنهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون والإخبار بما يكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك فلم يكونه. وأما التقية فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعنهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوهم فيها وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد ولا في شهر واحد بل في سنين متباعدة وشهور وأيام متفاوتة وأوقات متفرقة، فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه وأنكروه عليهم فقالوا: من أين جاء هذا الاختلاف وكيف جاز ذلك؟ قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا لأن ذلك إلينا ونحن نعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤنا وبقاؤكم وكف عدونا وعدوكم عنا وعنكم؛ فمتى يظهر من هؤلاء على كذب ومتى يعرف لهم حق من باطل؟ فمال إلى سليمان بن جرير هذا لهذا القول جماعة من أصحاب أبي جعفر وتركوا القول بإمامة جعفر عليه السلام.
فلما توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد افترقت شيعته بعده ست فرق. وكان وفاته بالمدينة في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة وهو ابن خمس وستين، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين. ودفن في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده في البقيع. وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة إلا شهرين، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
ففرقة منها قالت: إن جعفر بن محمد حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر ويلي أمر الناس وهو القائم المهدي، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوا فإني أنا صاحبكم، وأنه قال لهم إن جاءكم من يخبركم عني أنه مرضني وغسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه فإني صاحبكم صاحب السيف. وهذه الفرقة تسمى الناووسية وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس.
وفرقة زعمت أن الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه وقالوا كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس لأنه خاف فغيبه عنهم. وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض ويقوم بأمور الناس وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده وقلدهم ذلك له وأخبرهم أنه صاحبهم والإمام لا يقول إلا الحق، فلما ظهر موته علمنا أنه قد صدق وأنه القائم وأنه لم يمت. وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة. وأم إسماعيل وعبد الله ابني جعفر بن محمد فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأمها أسماء بنت عقيل بن أبي طالب.
وفرقة ثالثة زعمت أن الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر وأمه أم ولد، وقالوا إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه فلما توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل وكان الحق له ولا يجور غير ذلك لأن الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين ولا تكون إلا في الأعقاب، ولم يكن لأخوي إسماعيل عبد الله وموسى في الإمامة حق كما لم يكن لمحمد بن الحنفية فيها حق مع علي بن الحسين. وأصحاب هذه المقالة يسمون المباركية برئيس لهم كان يسمى المبارك، مولى إسماعيل بن جعفر.
فأما الإسماعيلية الخالصة فهم الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع، وقد دخلت منهم فرقة في فرقة محمد بن إسماعيل وأقروا بموت إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه، وهم الذين خرجوا في حياة أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس وكان عاملا على الكوفة، فبلغه عنهم أنهم أظهروا الإباحات ودعوا إلى نبوة أبي الخطاب وأنهم مجتمعون في مسجد الكوفة قد لزموا الأساطين يرون الناس أنهم لزموها للعبادة، فبعث إليهم رجلا من أصحابه في خيل ورجال ليأخذهم ويأتيه بهم فامتنعوا عليه وحاربوه وكانوا سبعين رجلا فقتلهم جميعا فلم يفلت منهم إلا رجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى فعد فيهم، فلما جن الليل خرج من بينهم فتخلص، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبي خديجة، وذكر بعد ذلك أنه قد [مات] ورجع، وكان ممن يروي الحديث. فحارب عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين التي كانت مع (أتباعه)، وجعلوا القصب مكان الرماح، وقد كان أبو الخطاب قال لهم: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف، ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا يضركم ولا يعمل فيكم ولا يحتك في أبدانكم، فجعل يقدمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلا قالوا له: يا سيدنا، ما ترى ما يحل بنا من القوم وما ترى قصبنا (لا) يعمل فيهم ولا يؤثر، وقد يكسر كله، وقد عمل سلاحهم فينا وقتل من ترى منا؟ فذكر رواة العامة أنه قال لهم: إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي؟ وقال رواة الشيعة إنه قال لهم: يا قوم قد بليتم وامتحنتم وأذن في قتلكم وشهادتكم، فقاتلوا على دينكم وأحسابكم ولا تعطوا بلدتكم فتذلوا مع أنكم لا تتخلصون من القتل فموتوا كراما أعزاء واصبروا فقد وعد الله الصابرين أجرا عظيما وأنتم الصابرون. فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وأسر أبو الخطاب، فأتي به عيسى بن موسى فأمر بقتله فضربت عنقه في دار الرزق على شاطئ الفرات، وأمر بصلبه وصلب أصحابه فصلبوا، ثم أمر بإحراقهم فأحرقوا، وبعث برؤوسهم إلى المنصور فأمر بها فصلبت على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام ثم أحرقت.
فلما فعل ذلك قال بعض أصحابه إن أبا الخطاب لم يُقتل ولا قتل أحد من أصحابه، وإنما لبس على القوم وشبه عليهم، وإنما حاربوا بأمر أبي عبد الله جعفر بن محمد وخرجوا متفرقين من المسجد ولم يرهم واحد ولم يجرح منهم أحد، وأقبل القوم يقتل بعضهم بعضا على أنهم يقتلوا أصحاب أبي الخطاب وإنما يقتلون أنفسهم حتى جن عليهم الليل، فلما أصبحوا نظروا في القتلى فوجدوا القتلى كلهم منهم ولم يجدوا من أصحاب أبي الخطاب قتيلا ولا جريحا ولا وجدوا منهم أحدا، وهذه الفرقة هي التي قالت إن أبا الخطاب كان نبيا مرسلا أرسله جعفر بن محمد ثم إنه صيره بعد ذلك حين حدث هذا الأمر من الملائكة، لعن الله من يقول هذا. ثم خرج بعد ذلك من قال بمقالته من أهل الكوفة وغيرهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد قتل أبي الخطاب فقالوا بإمامته وأقاموا عليها.
وصنوف الغالية افترقوا بعده على مقالات كثيرة واختلفوا ما في يد سلف أصحابهم ومذاهبهم. حتى تراقى بعضهم إلى القول بربوبيته وأن الروح التي صارت في آدم ومن بعده من أولي العزم من الرسل صارت فيه.
وقالت فرقة منهم إن روح جعفر بن محمد تحولت عن جعفر في أبي الخطاب ثم تحولت بعد غيبة أبي الخطاب في محمد بن إسماعيل بن جعفر ثم ساقوا الإمامة على هذه الصفة في ولد محمد بن إسماعيل.
وتشعبت منهم فرقة من المباركية ممن قال بهذه المقالة تسمى القرامطة، وإنما سميت بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يلقب بقرمطوية كانوا في الأصل على مقالة المباركية ثم خالفوهم وقالوا لا يكون بعد محمد النبي إلا سبعة أئمة علي بن أبي طالب وهو إمام رسول والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ومحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الإمام القائم المهدي وهو رسول. وزعموا أن النبي انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي أمر فيه بنصب علي بن أبي طالب عليه السلام للناس بغدير خم، فصارت الرسالة في ذلك اليوم إلى أمير المؤمنين وفيه، واعتلوا في ذلك بخبر تأولوه وهو قول رسول الله : « من كنت مولاه فعلي مولاه» وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة وتسليم منه ذلك لعلي بن أبي طالب بأمر الله عز وجل، وأن النبي بعد ذلك كان مأموما لعلي بن أبي طالب محجوجا به، فلما مضى علي عليه السلام صارت الإمامة في الحسن ثم صارت من الحسن في الحسين ثم صارت في علي بن الحسين ثم في محمد بن علي ثم كانت في جعفر بن محمد، ثم انقطت عن جعفر في حياته فصارت في إسماعيل بن جعفر كما انقطعت الرسالة عن محمد في حياته. ثم إن الله عز وجل بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل فصيرها في محمد بن إسماعيل. واعتلوا في ذلك بخبر رووه عن جعفر بن محمد أنه قال: ما رأيت مثل بداء بدا لله في إسماعيل، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي لم يمت وأنه غائب مستتر في بلاد الروم وأنه القائم المهدي، ومعنى القائم عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد وأن محمد بن إسماعيل من أولي العزم، وأولو العزم عندهم سبعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وعليهم وعلي عليه السلام ومحمد بن إسماعيل على معنى أن السماوات سبع وأن الأرضين سبع وأن الإنسان بدنه سبع يداه ورجلاه وظهره وبطنه وقلبه وأن رأسه سبع عيناه وأذناه ومنخراه وفمه بمنزلة صدره الذي فيه قلبه، والأئمة سبع كذلك وقلبهم محمد بن إسماعيل. واعتلوا في نسخ شريعة محمد وتبديلها بأخبار رووها عن أبي عبد الله جعفر بن محمد أنه قال: لو قام قائمنا علمتم القرآن جديدا، وأنه قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» ونحو ذلك من أخبار القائم وأن الله تبارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم صلى الله عليه ومعناها عندهم الإباحة للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا وهو قول الله عز وجل: {وكلا منها رغدا حيث شئتما} يعني محمد بن إسماعيل وأباه إسماعيل {ولا تقربا هذه الشجرة} أي موسى بن جعفر بن محمد وولده من بعده ومن ادعى منهم الإمامة. وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذي حكاه الله عز وجل في كتابه وأن الدنيا اثنتا عشرة جزيرة في كل جزيرة حُجة وأن الحجج اثنا عشر ولكل حجة داعية ولكل داعية يد، يعنون بذلك أن اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها كدلائل الرسل، ويسمون الحجة الأب والداعية الأم واليد الابن يضاهئون قول النصارى في ثالث ثلاثة إن الله الأب والمسيح الابن وأمه مريم، فالحجة الأكبر هو الرب وهو الأب، والداعية هي الأم، واليد هو الابن - كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا وخسروا خسرانا مبينا. وزعموا أن جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده وسنها نبيه وأمر بها لها ظاهر وباطن وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة أمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها وعليها العمل وفيها النجاة وأن ما ظهر منها هي التي نهى عنها، وفي استعمالها الهلاك والشقاء وهي جزء من العقاب الأدنى عذب الله به قوما وأخذهم به ليشقوا بذلك إذ لم يعرفوا الحق ولم يقولوا به ولم يؤمنوا. وهذا أيضا مذهب عامة أصحاب أبي الخطاب. ومع ذلك استحلوا استعراض الناس بالسيف وسفك دمائهم وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك على مذهب البيهسية والأزارقة من الخوارج في قتل أهل القبلة وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالكفر. واعتلوا في ذلك بقول الله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}. قالوا إن قتلهم يجب أن يكون بمنزلة نحر الهدي وتعظيم شعائر الله وتأولوا في ذلك قول الله: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. ورأوا سبي النساء وقتل الأطفال، واعتلوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} وزعموا أنه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالإمامة ممن ليس على قولهم، وخاصة من قال بإمامة موسى بن جعفر وولده من بعده، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} فالواجب أن يبدؤوا بهؤلاء ثم بسائر الناس. وعددهم كثير إلا أنه لا شوكة لهم ولا قوة، وكانوا كلهم بسواد الكوفة واليمن أكثر، ونواحي البحر واليمامة وما والاها، ودخل فيهم كثير من العرب (فقووا بهم) وأظهروا أمرهم، ولعلهم أن يكونوا زهاء مائة ألف.
وقالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد: إن الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه محمد بن جعفر. وأمه أم ولد يقال لها حميدة. وهو وموسى وإسحاق بنو جعفر بن محمد لأم واحدة. وتأولوا في إمامته خبرا وزعموا أن بعضهم روى لهم أن محمد بن جعفر دخل ذات يوم على أبيه وهو صبي صغير فدعاه أبوه فعدا إليه فكبا في قميصه ووقع لحر وجهه، فقام إليه جعفر وقبله ومسح التراب عن وجهه ووضعه على صدره وقال: سمعت أبي يقول: إذا ولد لك ولد يشبهني فسمه باسمي فهو شبيهي وشبيه رسول الله وعلى سنته. فجعل هؤلاء الإمامة في محمد بن جعفر وفي ولده من بعده. وهذه الفرقة تسمى السمطية تنسب إلى رئيسهم يقال له يحيى بن أبي السميط. وقال بعضهم هم الشمطية لأن رئيسهم كان يقال له يحيى بن أبي شيمط.
والفرقة الخامسة منهم قالت الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر الأفطح، وذلك أنه كان عند مضي جعفر أكبر ولده سنا وجلس مجلس أبيه (بعده وادعى الإمامة بوصية أبيه). واعتلّوا بحديث يروونه عن (أبيه وعن جده) أنهما قالا: الإمامة في الأكبر من ولد الإمام، فمال إلى عبد الله والقول بإمامته جل من قال بإمامة أبيه جعفر بن محمد غير نفر يسير عرفوا الحق وامتحنوا عبد الله بالمسائل في الحلال والحرام والصلاة والزكاة والحج وغير ذلك فلم يجدوا عنده علما، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر هي الفطحية وسموا بذلك لأن عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضهم كان أفطح الرجلين. وقال بعض الرواة نسبوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبد الله بن فطيح. ومال إلى هذه الفرقة (عامة مشايخ الشيعة وفقهائها، ولم يشكوا في أن الإمامة في عبد الله بن جعفر وفي ولده من بعده).
فلما مات عبد الله ولم يخلف ذكرا، ارتاب القوم واضطربوا وأنكروا الروايات الكثيرة عن علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد من أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسنين ولا تكون إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى انقضاء الدنيا. فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته سوى قليل منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر، وقد كانت جماعته قد رجعوا في (حياته عن إمامته) لروايات وقفوا عليه رووها عن جعفر أنه قال: إن الإمامة بعدي في ابني موسى، وأنه دل عليه وأشار إليه وأعلمهم في عبد الله أمورا لا يجوز أن تكون في الإمام ولا يصلح من كانت فيه للإمامة. (وروى) بعضهم أن أن (جعفرا) قال لموسى: يا بني إن أخاك سيجلس مجلسي ويدعي الإمامة بعدي فلا تنازعه ولا تتكلمن فإنه أول أهلي (الذين) لحقوا بي. فلما توفي عبد الله رجعت شيعته عن القول به، وثبتت طائفة على القول بإمامته ثم بإمامة موسى بن جعفر من بعده. وعاش عبد الله بن جعفر بعد أبيه سبعين يوما أو نحوها.
وقالت الفرقة السادسة منهم إن الإمام موسى بن جعفر بعد أبيه، وأنكروا إمامة عبد الله، وخطّأوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الإمامة. وكان فيهم (عدد من وجوه أصحاب جعفر بن محمد أمثال) هشام بن سالم الجواليقي وعبد الله بن أبي يعفور (وعمرو) بن يزيد بياع السابري ومحمد بن النعمان أبي جعفر الأحول مؤمن الطاق وعبيد بن زرارة بن أعين وجميل بن دراج وأبان بن تغلب وهشام بن الحكم وغيرهم من وجوه الشيعة وأهل العلم منهم والنظر والفقه، وهم الذين قالوا بإمامة موسى بن جعفر عن وفاة أبيه وثبتوا على (إمامته) حتى رجع إلى مقالتهم عامة من كان قال بإمامة عبد الله بن جعفر، فاجتمعوا جميعا على إمامة موسى بعده، سوى نفر منهم ثبتوا على إمامة عبد الله ثم إمامة موسى بعده فأجازوها في أخوين (بعد أن كان ذلك غير جائز عندهم) منهم عبد الله بن بكير بن أعين وعمار بن موسى الساباطي وجماعة معهما. ثم إن جماعة المؤتمين بموسى بن جعفر لم يختلفوا في أمره، فثبتوا على إمامته إلى حبسه في المرة الثانية. ثم اختلفوا في أمره فشكوا في إمامته عند حبسه في المرة الثانية التي مات فيها في حبس الرشيد فصاروا خمس فرق:
فرقة منها زعمت أن (موسى بن جعفر) مات في حبس (هارون الرشيد) عند السندي بن شاهك، وأن يحيى بن خالد البرمكي سمه في رطب وعنب بعثهما إليه فقتله، وأن (الإمامة) بعد موسى (آلت إلى علي بن موسى الرضا). فسميت هذه الفرقة القطعية لأنها قطعت على وفاة موسى بن جعفر وعلى إمامة ابنه بعده ولم تشك في (أمره ولم ترتب) وأقرت بموت موسى وأنه أوصى إلى ابنه علي وأشار إلى إمامته قبل حبسه، ومضت على المنهاج الأول.
وقالت الفرقة الثانية إن موسى بن جعفر لم يمت وإنه حي ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها ويملأها عدلا كما ملئت جورا وإنه القائم المهدي. وزعموا أنه لما خاف على نفسه من القتل خرج من الحبس نهارا ولم يره أحد ولم يعلم به وأن السلطان وأصحابه ادعوا موته وموهوا على الناس ولبسوا عليهم برجل مات في السجن فأخرجوه ودفنوه في مقابر قريش في القبر الذي يدّعي الناس أنه قبر موسى بن جعفر، وكذبوا في ذلك؛ وإنما غاب عن الناس واختفى. ورووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر أنه قال: هو القائم المهدي فإن يدهده رأسه عليكم من جبل فلا تصدقوا فإنه صاحبكم القائم.
وقال بعضهم إنه القائم وقد مات ولا تكون الإمامة لغيره حتى يرجع فيقوم ويظهر. وزعموا أنه قد رجع بعد موته إلا أنه مختف في موضع من المواضع حي يأمر وينهى وأن أصحابه يلقونه ويرونه. واعتلوا في ذلك بروايات عن أبيه أنه قال: سمي القائم لأنه يقوم بعدما يموت.
وقالت فرقة إنه قد مات وإنه القائم وإن فيه شبها من عيسى بن مريم (عليه السلام) وكذباو من قالوا إنه قد رجع ولكنه يرجع في وقت قيامه فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وأن أباه قال إن فيه شبها من عيسى بن مريم وإنه يقتل في يدي ولد العباس (وقد) قتل.
وأنكر بعضهم قتله وقالوا مات ورفعه الله إليه وإنه يرده عند قيامه. فسموا هؤلاء جميعا الواقفة لوقوفهم على موسى بن جعفر أنه الإمام القائم. ولم يأتموا بعده بإمام ولم يتجاوزوه إلى غيره.
وقد قال بعضهم ممن ذكر أنه حي أن (علي الرضا) ومن قام بعده (من ولد الرضا) ليسوا بأئمة ولكنهم خلفاؤه واحدا بعد واحد إلى أوان خروجه، وأن على الناس القبول منهم [والسمع والطاعة لهم] والانتهاء إلى أمرهم.
وقد لقب الواقفة بعض مخالفيهم ممن قال بإمامة علي بن موسى بالممطورة وغلب عليهم هذا الاسم وشاع لها. وكان سبب ذلك أن علي بن إسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمن ناظرا بعضهما فقال له علي بن إسماعيل وقد اشتد الكلام بينهما: ما أنتم إلا كلاب ممطورة، أراد أنكم أنتن من الجيف لأن الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيف، فلزمهم هذا اللقب فهم يعرفون به اليوم، لأنه إذا قيل للرجل إنه ممطور فقد عرف أنه من الواقفة على موسى بن جعفر خاصة، لأن كل من مضى منهم [إلا القليل] فله واقفة قد وقفت عليه، وهذا اللقب لأصحاب موسى خاصة.
وقالت فرقة منهم لا ندري أهو حي أم ميت لأنا قد روينا فيه أخبارا كثيرة تدل على أنه القائم المهدي فلا يجوز تكذيبها، وقد ورد علينا من خبر وفاة أبيه وجده والماضين من آبائه عليهم السلام في معنى صحة الخبر فهذا أيضا مما لا يجوز رده وإنكاره لوضوحه وشهرته وتواتره من حيث لا يكذب مثله ولا يجوز التواطؤ عليه والموت حق والله عز وجل يفعل ما يشاء فوقفنا عند ذلك على إطلاق موته وعلى الإقرار بحياته. ونحن مقيمون على إمامته لا نتجاوزها حتى يصح لنا أمره وأمر هذا الذي نصب نفسه مكانه وادعى الإمامة بعده، يعنون علي بن موسى الرضا، فإن صحت لنا إمامته كإمامة أبيه من قبله بالدلالات والعلامات الموجبة للإمامة وبالإقرار منه على نفسه بإمامته وأن أباه أوصى إليه وبموت أبيه، (يقول ذلك هو نفسه لا بإخبار أصحابه عن موته) سلمنا له ذلك وصدقناه. وهذه الفرقة أيضا من الممطورة.
وقد شاهد بعضهم من أبي الحسن الرضا عليه السلام أمورا فقطع عليه بالإمامة. وصدقت فرقة منهم بعد ذلك روايات أصحابه وقولهم فيه، فرجعت إلى القول بإمامته.
وفرقة منهم يقال لها البشرية أصحاب محمد بن بشير مولى بني أسد من أهل الكوفة. قالت إن موسى بن جعفر لم يمت ولم يحبس وإنه حي غائب وإنه القائم المهدي وإنه في وقت غيبته استخلف على الأمر محمد بن بشير وجعله وصيه وأعطاه خاتمه وعلمه جميع ما تحتاج إليه رعيته من أمر دينهم ودنياهم وفوض إليه جميع أموره وأقامه مقام نفسه، فمحمد بن بشير الإمام بعده، وحدثني محمد بن عثمان بن عبيد عن عثمان بن عيسى الكلابي أنه سمع محمد بن بشير يقول: الظاهر من الإنسان أرضي والباطن أزلي، وقال إن كان يقول بالاثنين (الأرضي والأزلي) وأن هشام بن سالم ناظره عليه فأقره به ولم ينكره، وإن محمد بن بشير لما توفي أوصى إلى ابنه سميع بن محمد بن بشير فهو الإمام، ومن أوصى إليه سميع فهو إمام مفترضة طاعته على الأمة إلى وقت خروج موسى وظهوره، فما يلزم الناس من حقوقه في أموالهم وغير ذلك مما يتقربون به إلى الله عز وجل فالفرض عليهم أداؤه إلى أوصياء محمد بن بشير إلى قيام القائم. وزعموا أن علي بن موسى وكل من ادعى الإمامة من ولده وولد موسى بن جعفر مبطلون كاذبون غير طيبي الولادة ونفوهم عن أنسابهم وكفروهم في دعواهم الإمامة وكفروا القائلين بإمامتهم واستحلوا دماءهم وأموالهم وزعموا أن الفرض من الله عليهم إقامة الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وأنكروا الزكاة والحج وسائر الفرائض، وقالوا بإباحة المحارم من الفروج والغلمان واعتلوا في ذلك بقول الله عز وجل: {أو يزوجهم ذكرانا وإناثا} وقالوا بالتناسخ وأن الأئمة عندهم واحد، إنما هم منتقلون من بدن إلى بدن، والمواساة بينهم واجبة في كل ما ملكوه من مال وفروج وغير ذلك، وكل شيء أوصى به رجل منهم في سبيل الله فهو لسميع بن محمد وأوصيائه من بعده. ومذاهبهم مذاهب الغالية المفوضة في التفويض.
وولد موسى بن جعفر عليه السلام في سنة ثمان وعشرين ومائة وقال بعضهم سنة تسع. وحمله الرشيد من المدينة لعشر ليال بقين من شوال سنة تسع وسبعين ومائة. وقد قدم هارون الرشيد المدينة منصرفا من عمرة شهر رمضان ثم شخص هارون إلى الحج وحمله معه، ثم انصرف على طريق البصرة فحبسه عند عيسى بن جعفر بن أبي منصور، ثم أشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك فتوفي في حبسه ببغداد لخمس ليال بقين من رجب وقيل لست خلون من رجب، سنة ثلاث وثمانين ومائة وهو ابن خمس أو أربع وخمسين سنة. ودفن في مقابر قريش، وكانت إمامته خمسا وثلاثين سنة وأشهرا، وأمه أم ولد يقال لها حميدة، وهي أم أخويه إسحاق ومحمد ابني جعفر بن محمد عليه السلام.
ثم إن أصحاب علي بن موسى الرضا عليه السلام اختلفوا بعد وفاته فصاروا فرقا:
فرقة منهم قالت الإمام بعد علي بن موسى ابنه محمد بن علي ولم يكن له غيره، وكان ختن المأمون على ابنته. واتبعوا الوصية حيث ما دارت على المنهاج الأول من لدن النبي .
وفرقة قالت بإمامة أحمد بن موسى بن جعفر وقطعوا عليه وادعوا أن أباه أوصى إليه وإلى الرضا وأجازوها في أخوين وقالوا إن أباه جعله الوصي بعد علي الرضا ومالوا إلى شبيه بمقالة الفطحية أصحاب عبد الله بن جعفر.
وفرقة منهم تسمى المؤلفة من الشيعة كانوا نصروا الحق وقطعوا على إمامة علي بن موسى بعد وقوفهم على موسى وإنكار موته، فصدقوا بموته وقالوا بإمامة الرضا، فلما توفي الرضا عليه السلام رجعوا إلى الوقف بعد موسى بن جعفر.
وفرقة منهم تسمى المحدثة كانوا من أهل الإرجاء وأصحاب الحديث من النابتة، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر وبعده بإمامة علي بن موسى عندما أظهر المأمون فضله وعقد على الناس بيعته، وصاروا شيعة رغبة في الدنيا وتصنعا، فلما توفي علي بن موسى عليه السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.
وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء منهم والبصراء فدخلوا في إمامة علي بن موسى عليه السلام عندما أظهر المأمون فضله وعقد بيعته تصنعا للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهرا. فلما توفي علي بن موسى عليه السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.
وتوفي علي بن موسى عليه السلام بطوس من كور خراسان وهو شاخص مع المأمون عند شخوصه إلى العراق في آخر صفر سنة ثلاث ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة. وكان مولده في سنة إحدى وخمسين ومائة، وقال بعضهم في سنة ثلاث وخمسين ومائة. وكانت إمامته عشرين سنة وسبعة أشهر. ودفن بطوس في دار حميد بن قحطبة الطائي. وأمه أم ولد يقال لها شهد وقال بعضهم اسمها نجمة. وكان أكبر ولد موسى بن جعفر، وهم ثمانية عشر ذكرا وخمس عشرة بنتا، وكلهم لأمهات الأولاد. وكان المأمون أشخص إليه علي بن موسى وهو بخراسان مع رجاء بن أبي الضحاك في آخر سنة مأتين على طريق البصرة وفارس.وكان الرضا أيضا ختن المأمون على ابنته.
وكان سبب الفرقتين اللتين ائتمت إحداهما بأحمد بن موسى ورجعت الأخرى إلى القول بالوقف أن أبا الحسن الرضا عليه السلام توفي وابنه محمد ابن سبع سنين، فاستصبوه واستصغروه وقالوا لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا ولو جاز أن يأمر الله عز وجل بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ، فإنه كما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس ودقيقه وجليله وغامض الأحكام وشرائع الدين وجميع ما أتى به النبي وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها طفل غير بالغ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولية حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق، وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف.
ثم إن الذين قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اختلفوا في كيفية علمه لحداثة سنه وكانوا على ضروب من الاختلاف. فقال بعضهم لبعض الإمام لا يكون إلا عالما وأبو جعفر لم يكن قد بلغ وأبوه قد توفي، فكيف علم ومن أين علم؟ فأجابوه:
فقال بعضهم لا يجوز أن يكون علمه من قبل أبيه لأن أباه حمل إلى خراسان وأبو جعفر ابن أربع سنين وأشهر، ومن كان في هذه السن فليس في حد من يستفرغ تعليم معرفة دقيق الدين وجليله وإنما علمه الله عز وجل ذلك عند البلوغ بضروب مما يدل على جهات علم الإمام، مثل الإلهام والنكت في القلب والنقر في الأذن والرؤيا الصادقة في النوم والملك المحدث له ووجوه رفع المنار والعمود والمصباح وعرض الأعمال عليه، لأن ذلك كله قد صحت الأخبار الصحيحة القوية الأسانيد فيه التي لا يجوز دفعها ولا رد مثلها.
وقال بعضهم قبل البلوغ هو إمام على معنى أن الأمر له دون غيره إلى وقت البلوغ، فإذا بلغ علم لا من جهة الإلهام والنكت ولا الملك ولا لشيء من الوجوه التي ذكرتها الفرقة المتقدمة لأن الوحي منقطع بعد النبي بإجماع الأمة، ولأن الإلهام إنما هو أن يلحقك عند الخاطر والفكر معرفة بشيء قد كنت قد تقدمت معرفتك به من الأمور النافعة فذكرته، وذلك لا يعلم به الأحكام وشرائع الدين على كثرة اختلافها وعللها قبل أن يوقف بالسمع منها على شيء، لأن أصح الناس فكرا وأوضحهم خاطرا وعقلا وأحضرهم توفيقا لو فكر وهو لا يسمع بأن الظهر أربع والمغرب ثلاث والغداة ركعتان ما استخرج ذلك بفكره ولا عرفه بنظره ولا استدل عليه بكمال عقله ولا أدرك ذلك بحضور توفيقه ولا لحقه علم ذلك من جهة التوفيق أبدا، ولا يعقل أن يعلم ذلك إلا بالتوقيف والتعليم، فقد بطل أن يعلم شيئا من ذلك بالإلهام والتوفيق. لكن نقول إنه علم ذلك عند البلوغ من كتب أبيه وما ورثه من العلم فيها وما [رسم] له فيها من الأصول والفروع.
وبعض هذه الفرقة تجيز القياس في الأحكام للإمام خاصة على الأصول التي في يديه لأنه معصوم من الخطأ والزلل فلا يخطئ في القياس. وإنما صاروا إلى هذه المقالة لضيق الأمر عليهم في علم الإمام وكيفية تعليمه إذ هو ليس ببالغ عندهم.
وقال بعضهم الإمام يكون غير بالغ ولو قلّت سنه لأنه حجة الله، فقد يجوز أن يعلم وإن كان صبيا ويجوز عليه الأسباب التي ذكرت من الإلهام والنكت والرؤيا والملك المحدث ورفع المنار والعمود وعرض الأعمال، كل ذلك جائز عليه وفيه، كما جاز ذلك عن سلفه من حجج الله الماضين. واعتلوا في ذلك بيحيى بن زكريا وأن الله آتاه الحكم صبيا وبأسباب عيسى بن مريم وبحكم الصبي وشهادته بين يوسف بن يعقوب وامرأة الملك وبعلم سليمان بن داود حكما من غير تعليم أبيه له، وغيرهم من حجج الله ممن كان غير بالغ عند الناس (فكانت لهم الحجة وهم غير بالغين).
وولد محمد بن علي بن موسى عليه السلام للنصف من شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة. وأشخصه المعتصم في خلافته إلى بغداد فقدمها لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومئتين. وتوفي بها في هذه السنة في آخر ذي القعدة ودفن في مقبرة قريش عند جده موسى بن جعفر عليه السلام وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما. وأمه أم ولد يقال لها الخيزران وكان اسمها قبل ذلك درة. وكانت إمامته سبع عشرة سنة.
فنزل أصحاب محمد بن علي عليه السلام الذين ثبتوا على إمامته إلى القول بإمامة ابنه ووصية علي بن محمد عليه السلام. فلم يزالوا على ذلك سوى نفر منهم يسير عدلوا عنه إلى القول بإمامة أخيه موسى بن محمد، ثم لم يثبتوا على ذلك إلا قليلا حتى رجعوا إلى إمامة علي بن محمد عليه السلام ورفضوا إمامة موسى بن محمد، لأن موسى كذبهم وتبرأ منهم وممن ادعى الإمامة لنفسه، فلم يزالوا كذلك حتى توفي علي بن محمد، وكانت وفاته بسر من رأى، وكان المتوكل أشخصه من المدينة مع يحيى بن هرثمة بن أعين يوم الاثنين لثلاث خلون من رجب سنة أربع وخمسين ومئتين، وكان قدومه إلى سر من رأى يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومئتين، وكان مولده يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة من رجب سنة أربع عشرة ومئتين، وقال بعضهم لثماني ليال بقين من رجب يوم الخميس، وهو أصح الأخبار، سنة أربع وعشرين ومئتين. ودفن في داره، وكان مقامه بسر من رأى إلى أن توفي عشرين سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكانت إمامته ثلاثا وثلاثين سنة وسبعة أشهر. وأمه أم ولد يقال لها سوسن وقال بعضهم اسمها سمانة.
وحدثني محمد بن موسى بن عبيد بن يقطين أنه ولد يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحدة سنة (اثنتين) وعشرين ومئتين، ومضى أبوه وهو ابن ثماني سنين وأحد عشر يوما. وأنه أخذ هو المولد من محمد بن إبراهيم بن محمد بن أيوب المكي، وكان خيرا فاضلا مستقيما، وكان صاحب بريد الحجاز، وأنه قرأ كتابا إلى المأمون فخبره بذلك وبهذا التاريخ، وأنه كان حاضرا بالمدينة يوم ولد علي بن محمد، وأمه أم ولد يقال لها سمانة.
وقد شذت فرقة من القائلين بإمامة علي بن محمد في حياته، فقالت بنبوة رجل يقال له محمد بن نصير النميري، وكان يدعي أنه نبي بعثه أبو الحسن العسكري عليه السلام، وكان يقول بالتناسخ ويغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالإباحة للمحارم ويحلل نكاح الرجال بعضهم بعضا في أدبارهم ويزعم أن ذلك من التواضع والتذلل في المفعول به، وأنه من الفاعل والمفعول به إحدى الشهوات والطيبات وأن الله عز وجل لم يحرم شيئا من ذلك. وكان يقوي أسباب هذا النميري محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، أخبرني بذلك عن محمد بن نصير أبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن أنه رآه عيانا وغلام له على ظهره، قال: فلقيته فعاتبته، فقال: "إن هذا من اللذات وهو من التواضع لله وترك التجبر". فلما توفي محمد بن نصير قيل له في علته وقد كان اعتقل لسانه: لمن يكون هذا الأمر من بعدك؟ فقال بلسان ضعيف ملجلج: لأحمد، فلم يدروا من هو، فافترقوا بعده ثلاث فرق، ففرقة قالت إنه أحمد ابنه، وفرقة قالت هو أحمد بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، وفرقة قالت إنه أحمد بن أبي الحسين محمد بن محمد بن بشر بن زيد. فتفرقوا فلم يرجعوا إلى شيء، وادعى هؤلاء النبوة عن أبي محمد الحسن بن علي. فسميت هذه الفرقة النميرية.
فلما توفي علي بن محمد بن علي بن موسى قالت فرقة من أصحابه بإمامة ابنه محمد - وقد كان توفي في حياة أبيه بسر من رأى - وزعموا أنه حي لم يمت. واعتلوا في ذلك بأن أباه أشار إليه وأعلمهم أنه الإمام من بعده، والإمام لا يجوز عليه الكذب ولا يجوز البداء فيه، فهو وإن كانت ظهرت وفاته في حياة أبيه فإنه لم يمت في الحقيقة ولكن أباه خاف عليه فغيبه، وهو القائم المهدي. وقالوا فيه بمثل مقالة أصحاب إسماعيل بن جعفر.
وقال سائر أصحاب علي بن محمد بإمامة ابنه الحسن بن علي عليه السلام وثبتوا له الإمامة بوصية أبيه إليه، وكان يكنى بأبي محمد، سوى نفر يسير قليل فإنهم مالوا إلى أخيه جعفر بن علي وقالوا أوصى إليه أبوه بعد مضي محمد وأوجب إمامته وأظهر أمره. وأنكروا إمامة أخيه محمد وقالوا إنما فعل ذلك أبوه اتقاء عليه ودفاعا عنه، وكان الإمام في الحقيقة جعفر بن علي. وهؤلاء هم الجعفرية الخلص.
وولد الحسن بن علي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومئتين، وتوفي بسر من رأى يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومئتين، ودفن في داره في البيت الذي دفن فيه أبوه وهو ابن ثمان وعشرين سنة. وصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل. وكانت إمامته خمس سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وتوفي ولم ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه، وهي أم ولد يقال لها عسفان، ثم سماها أبوه حديثا.
فافترق أصحابه بعده فرقا:
- ففرقة منها قالت إن الحسن بن علي حي لم يمت وإنما غاب وهو القائم ولا يجوز أن يموت الإمام ولا ولد له ولا خلف معروف ظاهر، لأن الأرض لا تخلو من إمام، وقد ثبتت إمامة الحسن بن علي، والرواية قائمة أن للقائم غيبتين، فهذه الغيبة إحداهما وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى. وذهبوا إلى بعض مذاهب الواقفة على موسى بن جعفر. وإذا قيل لهذه الفرقة ما الفرق بينكم وبين الواقفة قالوا إن الواقفة أخطأت في الوقوف على موسى لما ظهرت وفاته لأنه توفي عن خلف قائم أوصى إليه وهو الرضا عليه السلام ولأنه رحمة الله عليه توفي عن بضع عشر ذكرا، وكل إمام ظهرت وفاته كما ظهرت وفاة آبائه وله خلف ظاهر معروف فهو ميت لا محالة، وإنما القائم المهدي الذي يجوز الوقوف على حياته من ظهرت له وفاة عن غير خلف فيضطر شيعته إلى الوقوف عليه إلى أن يظهر، لأنه لا يجوز موت إمام بلا خلف، فقد صح أنه غاب.
- وقالت الفرقة الثانية إن الحسن بن علي مات وعاش بعد موته وهو القائم المهدي. واعتلوا في ذلك برواية اعتلت بها فرقة من واقفة موسى بن جعفر رووها عن جعفر بن محمد أنه قال: إنما سمي القائم قائما لأنه يقوم بعدما يموت، فالحسن بن علي قد مات ولا شك في موته ولا ولد له ولا خلف ولا وصي موجود، فلا شك أنه القائم وأنه حي بعد الموت، لأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر، فهو عليه السلام غائب مستتر وسيظهر ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وإنما قالوا إنه حي بعد الموت وإنه مستتر خائف لأنه لا يجوز عندهم أن تخلو الأرض من حجة قائم على ظهرها، عدل حي ظاهر أو خائف مغمور، للخبر الذي روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال في بعض خطبه: اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك ظاهر أو مغمور لئلا تبطل حججك وبيناتك. فهذا دليل على أنه عاش بعد موته. وليس بين هذه الفرقة والفرقة التي قبلها فرق أكثر من أن هذه صححت موت الحسن بن علي عليه السلام وأن الأولى قالت إنه غاب وهو حي وأنكرت موته. وهذه أيضا شبيهة بفرقة من الواقفة على موسى بن جعفر عليه السلام. وإذا قيل لهم: من أين قلتم هذا وما دليلكم عليه، رجعوا إلى تأول الروايات.
- وقالت الفرقة الثالثة إن الحسن بن علي توفي ولا عقب له والإمام بعده أخوه جعفر وإليه أوصى الحسن ومنه قبل جعفر الوصية وعنه صارت إليه الإمامة. فلما قيل لهم إن الحسن وجعفرا ما زالا متهاجرين متصارمين متعاديين طول زمانهما، وقد وقفتم على صنائع جعفر ومخالفي الحسن وسوء معاشرته له في حياته ولهم من بعد وفاته في اقتسام مواريثه، قالوا إنما ذلك بينهما في الظاهر، فأما في الباطن فكانا متراضيين متصافيين لا خلاف بينهما ولم يزل جعفر مطيعا له سامعا منه، فإذا ظهر منه شيء من خلافه فعن أمر الحسن، فجعفر وصي الحسن وعنه أفضت إليه الإمامة. ورجعوا إلى بعض قول الفطحية في عبد الله وموسى وزعموا أن موسى بن جعفر إنما كان إماما بوصية أخيه عبد الله إليه، لا عن أبيه، وأقروا بإمامة عبد الله بن جعفر وثبتوها بعد إنكارهم لها وجحودهم إياها، وأوجبوا فرضها على أنفسهم ليصححوا بذلك مذهبهم. وكان رئيسهم والداعي لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة من المتكلمين يقال له علي الطاحي الخزاز، وكان مشهورا في الفطحية وهو ممن قوى إمامة جعفر وأمال الناس إليه، وكان متكلما محجاجا، وأعانته على ذلك أخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، غير أن هذه أنكرت إمامة الحسن بن علي عليه السلام وقالت إن جعفرا أوصى أبوه إليه لا (إلى) الحسن.
- وقالت الفرقة الرابعة إن الإمام بعد الحسن جعفر وإن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن، ولم يكن محمد إماما ولا الحسن أيضا، لأن محمدا توفي في حياة أبيه وتوفي الحسن ولا عقب له، وكان مدعيا مبطلا. والدليل على ذلك أن الإمام لا يموت حتى يوصي ويكون له خلف، والحسن قد توفي ولا وصي له ولا ولد، فادعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهر معروف مشار إليه، ولا يجوز أيضا أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر لقول أبي عبد الله جعفر بن محمد وغيره من آبائه صلوات الله عليهم إن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه.
- وأما الفرقة الخامسة فإنها رجعت إلى القول بإمامة محمد بن علي المتوفى في حياة أبيه وزعمت أن الحسن وجعفرا ادعيا ما لم يكن لهما وأن أباهما لم يشر إليهما بشيء من الوصية والإمامة ولا روي عنه في ذلك شيء أصلا ولا نص عليهما بشيء يوجب إمامتهما ولا هما في موضع ذلك، وخاصة جعفر فإن فيه خصالا مذموما وهو بها مشهور ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل. وأما الحسن فقد توفي ولا عقب له، فعلمنا أن محمدا كان الإمام، قد صحت الإشارة من أبيه إليه، والحسن قد توفي ولا عقب له، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف. ثم رأينا جعفرا في حياة الحسن وبعد مضيه ظاهر الفسق غير صائن لنفسه معلنا بالمعاصي، وليس هذا صفة من يصلح للشهادة على درهم فكيف يصلح لمقام النبي ، لأن الله عز وجل لم يحكم بقول شهادة من يظهر الفسق والفجور فكيف يحكم له بإثبات الإمامة مع عظم فضلها وخطرها وحاجة الخلق إليها، وإذ هي السبب الذي يعرف به دينه ويدرك رضوانه، فكيف تجوز في مظهر الفسق، وإظهار الفسق لا يجوز تقية، هذا ما لا يليق بالحكيم عز وجل ولا يجوز أن ينسب إليه تبارك وتعالى. فلما بطل عندنا أن تكون الإمامة تصلح لمثل جعفر وبطلت عمن لا خلف له لم يبق إلا التعلل بإمامة أبي جعفر محمد بن علي أخيهما إذ لم يظهر منه إلا الصلاح والعفاف وأن له عقبا قائما معروفا مع ما كان من أبيه من الإشارة بالقول مما لا يجوز بطلان مثله، فلا بد من القول بإمامته وأنه القائم المهدي أو الرجوع إلى القول ببطلان الإمامة أصلا، وهذا مما لا يجوز.
- وقالت الفرقة السادسة إن للحسن بن علي ابنا سماه محمدا ودل عليه، وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفي ولا خلف له، وكيف يكون إمام قد ثبت إمامته ووصيته وجرت أموره على ذلك وهو مشهور عند الخاص والعام ثم توفي ولا خلف له، ولكن خلفه قائم ووُلد. قبل وفاته بسنين وقطعوا على إمامته وموت الحسن وأن اسمه محمد، وزعموا أن أباه أمره بالاستتار في حياته مخافة عليه، فهو مستتر خائف في تقية من عمه جعفر وغيره من أعدائه، وأنها إحدى غيباته، وأنه هو الإمام القائم، وقد عرف في حياة أبيه ونص عليه، ولا عقب لأبيه غيره. فهو الإمام لا شك فيه.
- وقالت الفرقة السابعة: بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، والذين ادعوا له ولدا في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم، لأن ذلك لو كان لم يخف كما لم يخف غيره، ولكنه مضى ولم يعرف له ولد ولا يجوز أن يكابر في مثل ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف. وقد كان الحبل فيما مضى قائما ظاهرا ثابتا عند السلطان وعند سائر الناس، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك، فقد ولد له ابن بعد وفاته بثمانية أشهر وقد كان أمر أن يسمى محمدا وأوصى بذلك وهو مستور لا يرى. واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبر يروى عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال: ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع. (فهذا هو).
- وقالت الفرقة الثامنة إنه لا ولد للحسن أصلا، لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه وفتشنا عنه سرا وعلانية وبحثنا في خبره في حياة الحسن بكل سبب فلم نجده، ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن بن علي وقد توفي ولا ولد له ظاهر معروف إن له ولدا مستورا لجازت مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف، ولجاز مثل ذلك في النبي أن يقال خلف ابنا نبيا رسولا، ولجاز أن تدعي الفطحية أن عبد الله بن جعفر بن محمد خلف ولدا ذكرا إماما وأن أبا الحسن الرضا عليه السلام خلف ثلاثة بنين غير أبي جعفر أحدهم الإمام، لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأن النبي لم يخلف ذكرا من صلبه ولا خلف عبد الله بن جعفر ابنا ولا كان للرضا أربعة بنين، فالولد قد بطل لا محالة، ولكن هناك حبل قائم..، فإنه لا يجوز أن يمضي الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجة. واحتج أصحاب الولد على هؤلاء بالخبر الذي روي عن جعفر أن القائم يخفى على الناس حمله وولادته، وقالوا أنكرتم علينا أمرا قلتم بمثله، قلتم إن هناك حبلا قائما. فإن كنتم اجتهدتم في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك، فقد طلبنا معرفة الحبل وتصحيحه أشد من طلبكم واجتهدنا فيه أشد من اجتهادكم فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده، فنحن في الولد أصدق منكم، لأنه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد مستور لا يعرف في الظاهر ثم يعرف بعد ذلك ويصح نسبه. (وقال المنكرون): الأمر الذي ادعيتموه منكر شنيع ينكره عقل كل عاقل ويدفعه التعارف والعادة، مع ما فيه من كثرة الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين أن الحبل لا يكون أكثر من تسعة أشهر، وقد مضى للحبل الذي ادعيتموه سنون وإنكم على قولكم بلا صحة ولا بينة.
- وقالت الفرقة التاسعة إن الحسن بن علي قد صحت وفاته كما صحت وفاة أبائه بتوطئ الأخبار التي لا يجوز تكذيب مثلها وكثرة المشاهدين لموته وتواتر ذلك عن الولي له والعدو، وهذا ما لا يجب الارتياب فيه. وصح بمثل هذه الأسباب أنه لا خلف له. فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن بن علي وأن الإمامة انقطعت، وذلك جائز في العقول والقياس والتعارف، كما جاز أن تنقطع النبوة فلا يكون بعد محمد نبي فكذلك جاز أن تنقطع الإمامة، لأن الرسالة والنبوة أعظم خطرا وأجل والخلق إليها أحوج والحجة بها ألزم والعذر بها أقطع، لأن معها البراهين الظاهرة والأعلام الباهرة، (ومع ذلك) انقطعت. فكذلك يجوز أن تنقطع الإمامة. واعتلوا في ذلك بخبر يروى عن (الصادق) أن الأرض لا تخلو من حجة إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بماصيهم فيرفع عنهم الحجة إلى وقت. فهذا عندنا ذلك الوقت، والله يفعل ما يشاء. وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة. وهذا أيضا جائز من وجه آخر كما جاز أن لا يكون قبل النبي فيما بينه وبين عيسى عليه السلام نبي ولا وصي، ولما روينا من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات -ورووا ثلثمائة سنة، وروي مئتا سنة- ليس فيها نبي ولا وصي. وقد قال الصادق عليه السلام إن الفترة هي الزمان الذي لا يكون فيه رسول ولا إمام. والأرض اليوم بلا حجة إلا أن يشاء الله فيبعث القائم من آل محمد له فيحيي الأرض بعد موتها كما بعث محمدا على حين فترة من الرسل فجدد ما درس من دين عيسى ودين الأنبياء قبله صلى الله عليهم، فكذلك يبعث القائم إذا شاء عز وجل. والحجة علينا إلى أن يبعث القائم وظهوره الأمر والنهي المتقدمان والعلم الذي في أيدينا مما خرج عنهم إلينا والتمسك بالماضي مع الإقرار بموته، كما (كان) أمر عيسى عليه السلام ونهيه وما خرج وعلم أوصيائه، والتمسك بالإقرار بنبوته وبموته والإقرار بمن ظهر من أوصيائه حجة على الناس قبل ظهور نبينا . وهذه الفرقة لا توجب قيام القائم ولا خروج مهدي، وتذهب في ذلك إلى بعض معاني البداء.
- وقالت الفرقة العاشرة إن أبا جعفر محمد بن علي الميت في حياة أبيه كان الإمام بوصية من أبيه إليه وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وعينه، ولا يجوز أن يشير إمام قد ثبتت إمامته وصحت على غير إمام، فلما حضرت وفاة محمد لم يجز أن لا يوصي ولا يقيم إماما، ولا يجوز له أن يوصي إلى أبيه إذ إمامة أبيه ثابتة عن جده، ولا يجوز أيضا أن يأمر مع أبيه وينهى ويقيم من يأمر معه ويشاركه، وإنما ثبتت له الإمامة بعد مضي أبيه، فلما لم يجز إلا أن يوصي أوصى إلى غلام لأبيه صغير كان في خدمته يقال له نفيس وكان عنده ثقة أمينا، ودفع إليه الكتب والوصية والعلوم والسلاح وما تحتاج إليه الأمة، ومره إذا حدث به حدث الموت أن يؤدي ذلك كله إلى أخيه جعفر كما فعل الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام لما خرج إلى الكوفة، (فقد) دفع كتبه والوصية وما كان عنده من السلاح وغيره إلى أم سلمة زوج النبي واستودعها ذلك كله وأمرها أن تدفعه إلى علي بن الحسين الأصغر إذا رجع إلى المدينة، فلما انصرف علي بن الحسين من الشام إليها دفعت إليه جميع ذلك وسلمته له، فهذا بتلك المنزلة في الامامة لجعفر بوصية نفيس إليه عن محمد أخيه، فإن نفيسا لما خاف على نفسه لما علم أهل الدار قصته وأحسوا بأمره وحسدوه ونصبوا له وبغوه الغوائل وخشي أن تبطل الإمامة وتذهب الوصية، دعا جعفرا وأوصى إليه ودفع إليه جميع ما استودعه أخوه الميت في حياة أبيه، ودفع إليه الوصية على نحو ما أمره. وهكذا ادعى جعفر (أن الإمامة) صارت إليه من قبل محمد أخيه لا من قبل أبيه. وهذه الفرقة تسمى النفيسية. وقالت فرقة من النفيسية أنكروا إمامة الحسن عليه السلام لم يوص أبوه إليه ولا غير وصيته إلى محمد ابنه، وهذا عندهم جائز صحيح، فقالوا بإمامة جعفر من هذا الوجه وناظروا عليها. وهذه الفرقة تتقول على أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام تقولا شديدا وتكفره وتكفر من قال بإمامته وتغلوا في القول في جعفر وتدعي أنه القائم وتفضله على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وتقدمه على الحسن والحسين وجميع الأئمة وتعتل في ذلك أن القائم أفضل الخلق بعد رسول الله . وأخذ نفيس ليلا وألقي في حوض كان في الدار كبير فيه ماء كثير فغرق فيه فمات، وهذه الفرقة هي النفيسية الخالصة.
- وقالت الفرقة الحادية عشرة منهم لما سئلوا عن ذلك وقيل لهم ما تقولون في الإمام أهو جعفر أم غيره؟ قالوا: لا ندري ما نقول في ذلك، أهو من ولد الحسن أم من أخوته فقد اشتبه علينا الأمر، (ولسنا) نعلم أن للحسن بن علي ولدا أم لا، أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد، وقد كثر الاختلاف، إلا أنا نقول إن الحسن بن علي كان إماما مفترض الطاعة ثابت الإمامة، وقد توفي عليه السلام وصحت وفاته، وإن الأرض لا تخلو من حجة، ونحن نتوقف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده إذ لم يصح عندنا أن له خلفا وخفي علينا أمره حتى يصح لنا الأمر ويتبين، ونتمسك بالأولى كما أمرنا أنه إذا هلك الإمام ولم يعرف الذي بعده بتمسكوا بالأول حتى يتبين لكم الآخر، فنحن نأخذ بهذا ونلزمه ولا ننكر إمامة أبي محمد (ولا ننكر) موته، ولا نقول إنه رجع بعد موته ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره ولا ننتميه حتى يظهر الله الأمر إذا شاء (ويكشفه) ويبينه لنا. وهذه الفرقة لا تثبت إمامة إمام إلا بوصية أبيه إليه ووصية ظاهرة، ولم تثبت لجعفر وصية ظاهرة ولا باطنة، وكل إمام اختلف المؤتمون به في مخرج إمامته ممن هي وممن أوصى ومن أقامه فهي (باطلة) لا تثبت، وأصحاب جعفر يختلفون في إمامة جعفر ومخرجها، فبعضهم يقول إنها له بوصية أبيه إليه وإقامته مقامه، وبعضهم يدعيها له من قبل أخيه محمد الميت في حياة أبيه، وبعضهم يدعيها له عن أخيه.
- وقالت الفرقة الثانية عشرة منهم وهم الإمامية ليس القول كما قال هؤلاء كلهم، بل لله عز وجل في الأرض حجة من ولد الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا، وأمر الله بالغ، وهو وصي لأبيه قائم بالأمر بعده هاد للأمة مهدي على المنهاج الأول والسنن الماضية، ولا تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجوز ذلك، ولا تكون إلا في غيبة الحسن بن علي بن محمد إلى فناء الخلق وانقطاع أمر الله ونهييه ورفعه التكليف عن عباده متصلا ذلك ما اتصلت أمور الله، ولو كان في الأرض رجلان لكان أحدهما الحجة، ولو مات أحدهما لكان الآخر الحجة ما اتصل أمر الله ودام نهيه في عباده وتكليفه قائما في خلقه، ولا يجوز أن تكون الإمامة في عقب من لم تثبت له إمامة ولم تلزم العباد به حجة ممن مات في حياة أبيه ولا في ولده ولا في وصي له من أخ ولا غيره. ولو جاز ذلك لصح مذهب أصحاب إسماعيل بن جعفر بن محمد ولثبتت إمامة ابنه محمد بن إسماعيل بعض مضي جعفر بن محمد وكان من قال بها من المباركية والقرامطة محقا مصيبا في مذهبه. وهذا الذي ذكرناه هو المأثور عن الأئمة الصادقين مما لا دفع له بين هذه العصابة من الشيعة الإمامية ولا شك فيه عندهم ولا ارتياب لصحة مخرج الأخبار المروية فيه وقوة أسبابها وجودة أسانيدها وثقة ناقليها. ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة، ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها. ولا يجوز شيء من مقالات هذه الفرق كلها، فنحن متمسكون بإمامة الحسن بن علي مقرون بوفاته معترفون بأن له خلفا قائما من صلبه وأن خلفه هو الإمام من بعده حتى يأذن الله عز وجل له فيظهر ويعلن أمره كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه إذ الأمر لله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ويأمر بما يريد من ظهور وخفاء ونطق وصموت، كما أمر رسوله في حال نبوته بترك إظهار أمره والسكوت والإخفاء من أعدائه والاستتار وترك إظهار النبوة التي هي أجل وأعظم وأشهر من الإمامة، فلم يزل كذلك سنين إلى أن أمره بإعلان ذلك وعند الوقت الذي قدره الله تبارك وتعالى، فصدع بأمره وأظهر الدعوة لقومه. ثم بعد الإعلان بالرسالة وإقامة الدلائل المعجزة والبراهين الواضحة اللازمة بها الحجة وبعد (أن كذبته) قريش وسائر الخلق من عرب وعجم وما لقي من الشدة ولقيه أصحابه من المؤمنين، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة وأقام هو مع قومه حتى توفي أبو طالب فخاف على نفسه وبقية أصحابه، فأمره الله عند ذلك بالهجرة إلى المدينة وأمره بالاختفاء في الغار والاستتار من العدو، فاستتر أياما خائفا مطلوبا حتى أذن الله له وأمره بالخروج. وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك على خلقك ظاهرا معروفا أو خائفا مغمودا كيلا تبطل حجتك وبيناتك. وبذلك أمرنا وبه جاءت الأخبار الصحيحة المشهورة عن الأئمة الماضين، وليس للعباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقفوا ما لا علم لهم به ويطلبوا إظهاره، فستره الله عليهم وغيبه عنهم، ولا يجوز ذكر اسمه ولا السؤال عن مكانه حتى يؤمر بذلك، إذ هو عليه السلام مغمود خائف مستور بستر الله تعالى، وليس علينا البحث عن أمره، بل البحث عن ذلك وطلبه محرم لا يحل، لأن في طلب ذلك وإظهار ما ستره الله عنا وكشفه وإعلان أمره والتنويه باسمه معصية لله والعون على سفك دمه عليه السلام ودماء شيعته وانتهاك حرمته، أعاذ الله من ذلك كل مؤمن ومؤمنة برحمته. وفي ستر ذلك والسكون عنه حقنها وصيانتها وسلامة ديننا والانتهاء إلى أمر الله وأمر أئمتنا وطاعتهم، وفقنا الله وجميع المؤمنين بطاعته ومرضاته بمنه ورأفته. ولا يجوز لنا ولا لأحد من المؤمنين أن يختار إماما برأيه ومعقوله واستدلاله، وكيف يجوز هذا وقد حظره الله جل وتعالى على رسله وأنبيائه وجميع خلقه، فقال في كتابه إذ لم يجعل الاختيار إليهم في شيء من ذلك: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وقال: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} وإنما اختيار الحجج والأئمة إلى الله عز وجل وإقامتهم إليه، فهو يقيمهم ويختارهم ويخفيهم إذا شاء ويعلن أمرهم إذا أراد ويسترهم إذا شاء فلا يبديهم، لأنه تبارك وتعالى أعلم بتدبيره في خلقه وأعرف بمصلحتهم. والإمام أعلم بأمور نفسه وزمانه وحوادث أمور الله منا. وقد قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام وهو ظاهر الأمر معروف المكان لا ينكر نسبه ولا تخفى ولادته وذكره شائع مشهور في الخاص والعام: من سماني باسم فعليه لعنة الله. ولقد كان الرجل من شيعته يلقاه في الطريق فيحيد عنه ولا يسلم عليه تقية، فإذا لقيه أبو عبد الله شكره على فعله وصوّب له ما كان منه وحمده عليه، وذم من تعرف إليه وسلم عليه وأقدم عليه بالمكروه من الكلام. وكذلك وردت الأخبار عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليه السلام من منع تسميته مثل ذلك. (وكان) أبو الحسن الرضا يقول: لو علمت ما يريد القوم مني لأهلكت نفسي عندي بما لا يوثق ديني بلعب الحمام والديكة وأشباه ذلك. هذا كله لشدة التستر من الأعداء ولوجوب فرض استعمال التقية. فكيف يجوز في زماننا هذا ترك استعمال هذا مع شدة الطلب وجور السلطان وقلة رعايته لحقوق أمثالهم، ومع ما لقي عليه السلام من صالح بن وصيف لعنه الله وحبسه إياه وأهل بيته والأمر بقتله وطلب الشيعة وما نالهم من الأذى والتعنت، وتسميته من لم يظهر خبره ولا اسمه وخفيت ولادته. وقد رويت أخبار كثيرة أن القائم تخفى على الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يعرف اسمه ولا يعلم مكانه ولا يعرف، إلا أنه لا يقوم حتى يظهر ويعرف أنه إمام ابن إمام ووصي ابن وصي، يؤتم به قبل أن يقوم، ومع ذلك فإنه لا بد من أن يعلم أمره ثقاته وثقات أبيه وإن قلوا لأن الإشارة بالوصية من إمام إلى إمام بعده لا تصح ولا تثبت إلا بشهود عدول من خاصة الأولياء، أقل ذلك شاهدان فما فوقهما، إلا أن لا يكون للإمام الماضي إلى ولد واحد فيستغنى بذلك عن الإشارة إليه على ما روي عن أبي جعفر محمد بن الرضا. ومع هذا فإن الرضا لم يدع الإشارة إليه والوصية والإشهاد على ذلك، لأنه لا بد منه إذ السنة جارية من رسول الله بذلك ومن الأئمة من بعده، وإذ قد فعله أمير المؤمنين (بالحسن) وفعله الحسن بالحسين مع وصية رسول الله وإشارته إليه (أن الإمامة) في عقب الحسن بن محمد ما اتصلت أمور الله ولا ترجع إلى أخ ولا عم ولا ابن عم ولا ولد ولد (مات) أبوه في حياة جده ولا يزول عن ولد الصلب ولا يكون أن يموت إمام إلا ولد له لصلبه وله ولد. فهذه سبيل الإمامة وهذا المنهاج الواضح والفرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية الصحيحة التشيع. وعلى ذلك إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن علي رضوان الله عليه.
- وقالت الفرقة الثالثة عشرة مثل مقالة الفطحية والفقهاء منهم أهل الورع والعبادة، مثل عبد الله بن بكير بن أعين ونظرائه. فزعموا أن الحسن بن علي توفي وأنه كان الإمام بعد أبيه بوصية أبيه إليه وأن جعفر بن علي الإمام بعده كما كان موسى بن جعفر إماما بعد عبد الله بن جعفر للخبر الذي روي أن الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى، وأن الخبر الذي روي عن الصادق عليه السلام أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام صحيح لا يجوز غيره، وإنما ذلك إذا كان للماضي خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه بل تثبت في خلقه، وإذا توفي ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة، لأن هذا معنى الحديث عندهم. وكذلك قالوا في الحديث الذي روي أن الإمام لا يغسله إلا إمام وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره. وأقروا أن جعفر بن محمد عليه السلام غسله موسى وادعوا أن عبد الله أمره بذلك لأنه كان الإمام من بعد عبد الله، لذلك جاز أن يغسله موسى، فهذه الأخبار بأن الإمام لا يغسله إلا إمام صحيحة جائزة على هذا الوجه. فهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلف ولدا، والإمام عندهم جعفر بن علي على هذا التأويل ضرورة وعلى هذه الأخبار والمعاني التي وصفناها.