انتقل إلى المحتوى

فتح المجيد/القسم الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​فتح المجيد​ المؤلف عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
/القسم الأول
ملاحظات: كتاب فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد. الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ المتوفى عام 1285 هـ.


مقدمة الشارح

[عدل]

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين وعليه التكلان .

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة والمشركين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه أجمعين .

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا .

أما بعد : فإن كتاب التوحيد الذى ألفه الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب، وغفر له ولمن أجاب دعوته إلى يوم يقوم الحساب - قد جاء بديعًا في معناه من بيان التوحيد ببراهينه، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه وتبيينه . فصار علمًا للموحدين، وحجة على الملحدين . فانتفع به الخلق الكثير، والجم الغفير . فإن هذا الإمام رحمه الله في مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق المبين، الذى بعث الله به المرسلين : من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين، فأعلى الله همته، وقوى عزيمته، وتصدى لدعوة أهل نجد إلى التوحيد، الذى هو أساس الإسلام والإيمان، ونهاهم عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور، والطواغيت والأوثان، وعن الإيمان بالسحرة والمنجمين والكهان .

فأبطل الله بدعوته كل بدعة وضلالة يدعو إليها كل شيطان، وأقام الله به علم الجهاد، وأدحض به شبه المعارضين من أهل الشرك والعناد، ودان بالإسلام أكثر أهل تلك البلاد، الحاضر منهم والباد وانتشرت دعوته ومؤلفاته في الآفاق، حتى أقر الله له بالفضل من كان من أهل الشقاق . إلا من استحوذ عليه الشيطان . وكره إليه الإيمان، فأصر على العناد والطغيان . وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوته، كما قال قتادة رحمه الله عن حال أول هذه الأمة إن المسلمين لما قالوا ( لا إله إلا الله) أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، وضاق بها إبليس، وجنوده . فأبى الله إلا أن يمضيها ويظهرها، ويفلجها وينصرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة التى يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير من الدهر، في فئام من الناس، لا يعرفونها ولا يقرون بها .

وقد شرح الله صدور كثير من العلماء لدعوته، وسروا واستبشروا بطلعته، وأثنوا عليه نثرًا ونظمًا .

فمن ذلك ما قاله عالم صنعاء : محمد بن إسماعيل الأمير في هذا الشيخ رحمه الله تعالى :

وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
يعد لنا الشرع الشـريف بما يبدى
وينشر جهرًا ما طوى كل جاهـل
ومبتدع منه، فوافق ما عندى
ويعمر أركان الشريعة هادمًا
مشاهد، ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سـواع ومثله
يغوث وود، بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
كما يهتـف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة
أهلت لغير الله جهرًا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل
ومستلم الأركان منهن بالأيدى

وقال شيخنا عالم الإحساء أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى فيه :

لقد رفع المولى به رتبة الهدى
بوقت به يعلى الضلال ويرفع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
وعام بتيار المعارف يقطـع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه
وأوهى به من مطلع الشرك مهيع
سما ذروة المجد التى ما ارتقى لها
سواه ولا حاذى فناها سميذع
وشمرفى منهاج سنة أحمد
يشيد ويحيى ما تعفى، ويرفع
يناظر بالآيات والسنة التى
أمرنا إليها في التنازع نرجع
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها
وأمسى محياها يضىء ويلمع
وعاد به نهج الغواية طامسًا
وقد كان مسلوكًا به الناس ترتع
وجرت به نجد ذبول افتخارها
وحق لها بالألمعى ترفع
فأثاره فيها سوام سوافر
وأنواره فيها تضىء وتلمع

وأما كتابه المذكور فموضوعه في بيان ما بعث به الله رسله : من توحيد العبادة، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر أو ينافى كماله الواجب، من الشرك الأصغر ونحوه، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه .

وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى فوضع عليه شرحًا أجاد فيه وأفاد، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد، وسماه تيسير العزيز الحميد، في شرح كتاب التوحيد .

وحيث أطلق شيخ الإسلام فالمراد به أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، والحافظ فالمراد به أحمد بن حجر العسقلانى .

ولما قرأت شرحه رأيته أطنب في مواضع، وفى بعضها تكرار يستغنى بالبعض منه عن الكل، ولم يكمله . فأخذت في تهذيبه وتقريبه وتكميله، وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميمًا للفائدة وسميته فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد .

وأسأل الله أن ينفع به كل طالب للعلم ومستفيد، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم وموصلًا من سعى فيه إلى جنات النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .



قال المصنف رحمه الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم .

ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملًا بحديث " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" أخرجه ابن حبان من طريقين . قال ابن صلاح : والحديث حسن . ولأبى دواد وابن ماجه " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد

فهو أقطع " ولأحمد " كل أمر ذى بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع " وللدارقطني عن أبى هريرة مرفوعًا " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع " .

والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة، لأنها من أبلغ الثناء والذكر للحديث المتقدم . وكان النبي يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لهرقل عظيم الروم ووقع لى نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي وآله . وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقى، وبالحمدلة نسبى إضافى، أى بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءًا به .

والباء في بسم الله متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلًا خاصًا متأخرًا .

أما كونه فعلا، فلأن الأصل في العمل للأفعال .

وأما كونه خاصًا، فلأن كل مبتدىء بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له .

وأما كونه متأخرًا، فلدلالته على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود، ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى .

وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى لحذف العامل فوائد، منها أنه موطن لا ينبغى أن يتقدم فيه غير ذكر الله . ومنها : أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول حركة . فكان الحذف أعم . إنتهى ملخصًا .

وباء بسم الله للمصاحبة . وقيل : للاستعانة . فيكون التقدير : بسم الله أؤلف حال كونى مستعينًا بذكره، متبركًا به . وأما ظهوره في " اقرأ باسم ربك " وفي " بسم الله مجريها " فلأن المقام يقتضى ذلك كما لا يخفى .

والاسم مشتق من السمو وهو العلو . وقيل : من الوسم وهو العلامة، لأن كل ما سمى فقد نوه باسمه ووسم .

قوله ( الله ) قال الكسائي والفراء : أصله الإله، حذفوا الهمزة، وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لامًا واحدة مشددة مفخمة . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : الصحيح : أنه مشتق، وأن أصله الإله، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ . وهو الجامع لمعانى الأسماء الحسنى والصفات العلى . والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى . وهى الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير، والسميع، والبصير، ونحو ذلك . فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهى قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله . وتسمية النحاة للمصدر والمشتقق منه : أصلًا وفرعًا . ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر . وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الأخر وزيادة .

قال أبو جعفر بن جرير الله أصله الإله أسقطت الهمزة التى هى فاء الاسم . فالتقت اللام التى هى عين الاسم واللام الزائدة وهى ساكنة فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة . وأما تأويلالله فإنه على معنى ما روى لنا عن عبد الله بن عباس قال : هو الذى يألهه كل شئ ويعبده كل خلق وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال : الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين فإن قال لنا قائل : وما دل على أن الألوهية هى العبادة وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلًا في فعل ويفعل، وذكر بيت رؤية بن العجاج .

لله در الغانيات المدة سبحن واسترجعن من تألهى

يعنى من تعبدى وطلبى الله بعملى . ولا شك أن التأله التفعل، من أله يأله وأن معنى أله إذا نطق به : عبد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة . وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع - وساق السند إلى ابن عباس أنه قرأ " ويذرك وآلهتك " قال : عبادتك . ويقول : إنه كان يعبد ولا يعبد وساق بسند آخر عن ابن عباس ويذرك وإلاهتك . قال : إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد وذكر مثله عن مجاهد، ثم قال : فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا : أن أله عبد وأن الإلهة مصدره وساق حديثًا عن أبى سعيد مرفوعًا أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه . فقال له المعلم : اكتب بسم الله . فقال عيسى : أتدرى ما الله ؟ الله إله الآلهة .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لهذا الاسم الثسريف عشر خصائص لفظية وساقها . ثم قال : وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق  : " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وكيف نحصى خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان، وجود وفضل وبر فله ومنه، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيًا، ولا مستوحشًا إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه . فهو الاسم الذى تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات . وهو الاسم الذى قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع . وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت الحاقة . ووقعت الواقعة . وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار . وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد من عرفه وقام بحقه، وبه شقى من جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر . وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق به وإليه ولأجله . فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئًا منه ومنتهيًا إليه، وذلك موجبه ومقتضاه '3 : 191' " ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار " إلى آخر كلامه رحمه الله .

قوله (الرحمن الرحيم) قال ابن جرير : حدثنى السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر سمعت العزرمى يقول : الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين . وساق بسنده عن أبى سعيد - يعنى الخدرى - "قال : قال رسول الله  : إن عيسى ابن مريم قال : الرحمن : رحمن الآخرة والدنيا . والرحيم : رحيم الآخرة" .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فاسمه الله دل على كونه مألوهًا معبودًا . يألهه الخلائق : محبة وتعظيمًا وخضوعًا، ومفزعًا إليه في الحوائج والنوائب . وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه، مستلزم لجميع صفات كماله . إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحى، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولافعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله . فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع (العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبر أمر الخليقة : أخص باسم الرب)، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة والعطف أخص باسم الرحمن .

وقال رحمه الله أيضًا : الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم . واذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى : '33 : 44' "وكان بالمؤمنين رحيمًا " '9 : 117' "إنه بهم رؤوف رحيم" ولم يجيء قط رحمان بهم .

وقال : إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله . فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعًا لاسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورد الاسم العلم، كقوله تعالى "الرحمن على العرش استوى " انتهى ملخصًا .


قال المصنف رحمه الله تعالى : الحمد لله .

ش : ومعناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم، فمورده : اللسان والقلب، والشكر يكون باللسان والجنان والأركان، فهو أعم من الحمد متعلقًا، وأخص منه سببًا، لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سببًا وأخص متعلقًا، لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها . فبينهما عموم وخصوص وجهى، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة .

قال المصنف رحمه الله : وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم .

ش : أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده : ما ذكره البخارى رحمه الله تعالى عن أبى العالية قال : "صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة" وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره في كتابيه جلاء الأفهام وبدائع الفوائد .

قلت : وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن على مرفوعًا " الملائكة تصلى على أحدكم ما دام في مصلاه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه " .

قوله (وعلى آله) أى أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد هنا . وعليه أكثر الأصحاب . وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين .

قال المصنف رحمه الله تعالى : كتاب التوحيد

ش : كتاب : مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكتبًا، ومدار المادة على الجمع . ومنه : تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا . والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف . وسمى الكتاب كتابًا : لجمعه ما وضع له .

والتوحيد نوعان : توحيد في المعرفة والإثبات . وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات . وتوحيد في الطلب والقصد . وهو توحيد الإلهية والعبادة .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وأما التوحيد الذى دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان : توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد .

فالأول هو : إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك .

النوع الثانى : ما تضمنته سورة " قل يا أيها الكافرون " وقوله تعالى : '3 : 64' " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها . وأول سورة المؤمن : ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها . وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن . بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعى التوحيد، شاهدة به داعية إليه .

فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمى الخبرى وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي . وإما أمر ونهى، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل به في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب . فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد . فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفى شأن الشرك وأهله وجزائهم . انتهى .

قال شيخ الإسلام : التوحيد الذى جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله : لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالى إلا له، ولا يعادى إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله . وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات . قال تعالى : '2 : 163' "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" قال تعالى : '16 : 51' " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون " وقال تعالى : '23 : 117' "ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون" وقال تعالى : '43: 45' "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" وأخبر عن كل نبى من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وقال : '60 : 4' " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " وقال عن المشركين : '37 :35 ،36' " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " وهذا في القرآن كثير .

وليس المراد بالتوحيد : مجرد توحيد الربوبية . وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف . ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد . وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه . وأقر بأنه وحده خالق كل شئ، لم يكن موحدًا حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده . فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة . ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له . والإله هو المألوه المعبود الذى يستحق العبادة . وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع . فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله . وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية . وهو الذى يقولونه عن أبى الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذى بعث الله به رسوله . فإن مشركى العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شئ . وكانوا مع هذا مشركين . قال تعالى : '12 : 106' "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قالت طائفة من السلف تسألهم : من خلق السموات والأرض ؟ فيقولون : الله وهم مع هذا يعبدون غيره قال تعالى : '23 : 84 - 89' " قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون " فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شئ وخالقه يكون عابدًا له، دون ما سواه . داعيا له دون ما سواه راجيًا له خائفًا منه دون ما سواه . يوالى فيه ويعادى فيه . ويطيع رسله ويأمر بما أمر به . وينهى عما نهى عنه . وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شئ . وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادًا . قال تعالى : '39 : 43، 44 '" أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض " وقال تعالى : '10 : 18' " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون " وقال تعالى : '6 : 14' "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون" وقال تعالى : '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" ولهذا كان أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها . ويصوم وينسك لها ويتقرأ إليها . ثم يقول : إن هذا ليس بشرك . إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لى . فإذا جعلتها سببًا وواسطة لم أكن مشركًا. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقول الله تعالى : ' 51: 56 ' "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"

ش : بالجر عطف على التوحيد . ويجوز الرفع على الابتداء .

قال شيخ الإسلام : العبادة هى طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل .

وقال أيضًا : العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .

قال ابن القيم : ومدارها على خمس عشرة قاعدة . من كملها كمل مراتب العبودية .

وبيان ذلك : أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح . والأحكام التى للعبودية خمسة : واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح . وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح .

وقال القرطبى : أصل العبادة التذلل والخضوع . وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات . لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى .

ومعنى الآية : أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته . فهذا هو الحكمة في خلقهم .

قلت : وهي الحكمة الشرعية الدينية .

قال العماد ابن كثير : وعبادته هى طاعته بفعل المأمور وترك المحظور . وذلك هو حقيقة دين الاسلام . لأن معنى الإسلام : الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع . انتهى .

وقال أيضا في تفسير هذه الاية : ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له . فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء . ومن عصاه عذبه أشد العذاب . وأخبر أنه غير محتاج إليهم . بل هم الفقراء في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم . وقال علي بن

أبى طالب رضى الله عنه في الآية إلا لآمرهم أن يعبدونى وأدعوهم إلى عبادتى وقال مجاهد : إلا لآمرهم وأنهاهم اختاره الزجاج وشيخ الإسلام . قال : ويدل على هذا قوله ' 75 : 36 ' "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" قال الشافعى : لا يؤمر ولا ينهى وقال في القرآن في غير موضع "اعبدوا ربكم" "اتقوا ربكم" فقد أمرهم بما خلقوا له . وأرسل الرسل بذلك . وهذا المعنى هو الذى قصد بالآية قطعًا، وهو الذى يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه .

قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى : ' 4 : 64 ' "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله" ثم قد يطاع وقد يعصى . وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته . ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون . وهو سبحانه لم يقل : إنه فعل الأول . وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم . الثانى : وهو عبادته ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثانى . فيكونوا هم الفاعلين له . فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم . انتهى .

ويشهد لهذا المعنى : ما تواترت به الأحاديث .

فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال : "يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا : لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتديًا بها ؟ فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم . أن لا تشرك - أحسبه قال : ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك" فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه : من توحيده وأن لا يشرك به شيئًا . فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره . وهذه هى الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم .

فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق .

يجتمعان في حق المخلص المطيع . وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصى . فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله ' 16 : 36 ' " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " .

ش : الطاغوت : مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد . قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : الطاغوت الشيطان . وقال جابر رضى الله عنه الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين رواهما ابن أبى حاتم . وقال مالك : الطاغوت كل ما عبد من دون الله .

قلت : وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حدًا جامعًا فقال الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده : من معبود أو متبوع أو مطاع . فطاغوت كل قوم : من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله . فهذه طواغيت العالم . إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها . رأيت أكثرههم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته .

وأما معنى الآية : فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولًا بهذه الكلمة "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، كما قال تعالى : '2 : 256' "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" وهذا معنى لا إله إلا الله فإنها هي العروة الوثقى .

قال العماد ابن كثير في هذه الآية : كلهم - أى الرسل - يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بنى آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد ، الذى طبق دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى : '21 : 25' "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء "، فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية، لأنه نهاههم عن ذلك على ألسن رسله، وأما مشيئته الكونية - وهى تمكينهم من ذلك قدرًا - فلا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعبادة الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال : '16 : 36' "فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة" انتهى .

قلت : وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها . وذلك قوله : "فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة" فتدبر .

ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل، دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين، وإن اختلفت شريعتهم كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح .

قال المصنف رحمه الله تعالى : قوله تعالى : '17 : 23' " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " .

ش : قال مجاهد قضى يعني وصى، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم ولابن جرير عن ابن عباس وقضى ربك يعني أمر .

وقوله تعالى : " أن لا تعبدوا إلا إياه " المعنى، أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى لا إله إلا الله .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى، والنفي المحض ليس توحيدًا، وكذلك الاثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات، وهذا هو حقيقة التوحيد .

وقوله :" وبالوالدين إحسانا "أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانًا، كما قضى بعبادته وحده لا شريك له . كما قال تعالى في الآية الأخرى '13 : 14'"أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير"

وقوله : "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" أى ألا تسمعهما قولًا سيئًا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء "ولا تنهرهما" أي : لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح لا تنفض يديك عليهما .

ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال : "وقل لهما قولًا كريمًا" أي لينًا طيبًا بأدب وتوقير وقوله "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" أى تواضع لهما "وقل رب ارحمهما" أي في كبرهما وعند وفاتهما " كما ربياني صغيرا " وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها : الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره "أن رسول الله لما صعد المنبر قال : آمين، آمين، آمين، فقالوا يا رسول الله، على ما أمنت ؟ قال أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف امرىء ذكرت عنده فلم يصل عليك قل : آمين، فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف امرىء دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل آمين : فقلت آمين، ثم قال : رغم أنف امرىء أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل : آمين، فقلت آمين" وروى الامام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما لم يدخل الجنة " قال العماد ابن كثير : صحيح من هذا الوجه عن أبى بكرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله  : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا : بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين . وكان متكئًا فجلس، فقال ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت" رواه البخارى ومسلم . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  : "رضى الرب في رضى الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين "، عن أسيد الساعدى رضى الله عنه قال : "بينا نحن جلوس عند النبي إذ جاءه رجل من بنى سلمة فقال : يا رسول الله، هل بقى من بر أبوي شئ أبرهما به بعد موتهما ؟ فقال : نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما " رواه أبو داود وابن ماجة . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله : '4 : 36' "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا" .

ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله في هذه الآية : يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقاته . انتهى .

وهذه الاية هى التى تسمى آية الحقوق العشرة، وفى بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله تعالى :'6 : 151-153' " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " الآيات .

ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله (تعالوا) أي هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ماحرم ربكم عليكم) حقًا، لا تخرصًا ولا ظنًا، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده (ألا تشركوا به شيئًا) وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق تقديره : وصاكم ألا تشركوا به شيئًا، ولهذا قال في آخر الآية (ذلكم وصاكم به) ا هـ .

قلت : فيكون المعنى : حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به، وفي المغني لابن هشام في قوله تعالى " أن لا تشركوا به شيئا " سبعة أقوال، أحسنها : هذا الذى ذكره ابن كثير، ويليه : بين لكم ذلك لئلا تشركوا، فحذفت الجملة من أحدهما، وهى (وصاكم) وحرف الجر وما قبله من الأخرى . ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله قالوا : يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قال أبو سفيان، لهرقل وهذا هو الذى فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله لهم قولوا لا اله إلا الله تفلحوا .

وقوله تعالى : "وبالوالدين إحسانًا" قال القرطبى : الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما، و(إحسانًا) نصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانًا .

وقوله "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم" إلاملاق : الفقر، أى لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإنى رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر، ذكره القرطبى . وفى الصحيحين "عن ابن مسعود رضى الله عنه (قلت : يا رسول الله، أى الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله ندًا وهو خلقك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك . ثم تلا رسول الله '25 : 68 - 70' " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " " .

وقوله : "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال ابن عطية : نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهى المعاصى .

و(ظهر) و(بطن) حالتان تستوفيان أقسام ما جلتا له من الأشياء . انتهى .

وقوله : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " في الصحيحين : "عن ابن عباس رضى الله عنه مرفوعًا : لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" .

وقوله : "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" قال ابن عطية : (ذلكم) إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر . وقوله (لعلكم تعقلون) (لعل) للتعليل أى إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها، وفى تفسير الطبرى الحنفى : ذكر أو لا (تعقلون) في (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تذكروا وخافوا واتقوا .

وقوله : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " قال ابن عطية : هذا نهى عام عن القرب الذى يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو السعى في نمائه، قال مجاهد : التي هي أحسن، إشارة فيه، وفي قوله : (حتى يبلغ أشده) قال مالك وغيره : هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ، روى نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبى وربيعة وغيرهم .

وقوله : "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " قال ابن كثير : يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء " لا نكلف نفسًا إلا وسعها " أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه .

وقوله : "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد . قال الحنفي : العدل في القول في حق الولى والعدو لا يتغير في الرضى والغضب بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب '5: 8' " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " .

وقوله "وبعهد الله أوفوا" قال ابن جرير : وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا . وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه . وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله ذلك هو الوفاء بعهد الله . وكذا قال غيره، وقوله "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه .

وقوله : "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" قال القرطبي : هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم . فإنه نهي وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف . و(أن) في موضع نصب . أي أتلو أن هذا صراطي، عن الفراء والكسائي . ويجوز أن يكون خفضًا . أي وصاكم به وبأن هذا صراطي . قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام . (مستقيمًا) نصب على الحال ومعناه مستويًا قيمًا لا اعوجاج فيه . فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار . قال الله تعالى : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" أي يميل . انتهى .

وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله خطًا بيده، ثم قال هذا سبيل الله مستقيمًا، ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " الآية " . وعن مجاهد : ولا تتبعوا السبل، قال : البدع والشهوات .

قال ابن القيم رحمه الله : ولنذكر في الصراط المستقيم قولًا وجيزًا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شئ واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلًا لهم إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلًا لعبادة الله وهو إفراده بالعبادات، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحدًا في عبادته ولا يشرك برسوله أحدًا في طاعته . فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول ، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله فأي شئ فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين . ونكتة ذلك، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمورًا بحبه، ولا يكون لك إرادة متعلقة بمرضاته . فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله . وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التى هذا آخيتها وقطب رحاها . قال : وقال سهل بن عبد الله : عليكم بالأثر والسنة، فإنى أخاف، إنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه، وأذلوه وأهانوه . ا هـ .

قال المصنف رحمه الله تعالى : قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التى عليها خاتمه فليقرأ : "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم "- إلى قوله - " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " الآية .

ش : قوله : ابن مسعود هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلى أبو عبد الرحمن، صحابى جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان من كبار علماء الصحابة، أمر عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضى الله عنه .

وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى بنحوه . وقال بعضهم : معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التى كأنها كتب وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ : (قل تعالوا -إلى آخر الآيات) شبهها بالكتاب الذى كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص . فإن النبي لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم : "وإنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله" وقد روى عبادة بن الصامت قال : "قال رسول الله  : أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا قوله تعالى : "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" حتى فرغ من الثلاث الآيات . ثم قال من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه ومحمد بن نصر في الاعتصام .

قلت : ولأن النبي لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه . وفى كتابه الذى أنزله '16 : 89' " تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وعن معاذ بن جبل قال : كنت رديف النبي على حمار فقال لى : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله ؟ . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا ، قلت : يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال : لا تبشرهم فيتكلوا " . أخرجاه في الصحيحين .

ش : هذا الحديث في الصحيحين من طرق . وفى بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف .

و معاذ بن جبل رضى الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصارى الخزرجى أبو عبد الرحمن صحابى مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها . وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه . وقال النبي معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة أي بخطوة، قال في القاموس والرتوة الخطوة وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر . والراتي العالم الربانى . انتهى

وقال في النهاية أنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم . وقيل : بميل، وقيل : مد البصر . وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثمانى عشرة بالشام في طاعون عمواس . وقد استخلفه على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم.

قوله : (كنت رديف النبي ) فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ رضى الله عنه .

قوله : (على حمار) في رواية اسمه عفير، قلت : أهداه إليه المقوقس صاحب مصر .

وفيه : تواضعه لركوب الحمار والإرادف عليه، خلافًا لما عليه أهل الكبر .

قوله : (أتدرى ما حق الله على العباد) أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم وحق الله على العباد وهو ما يستحقه عليهم وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة، لأنه وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده '30 : 6' "وعد الله لا يخلف الله وعده" .

قال شيخ الإسلام : كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول : لا معنى للاستحقاق، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقًا زائدًا على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى '30 : 47' "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين" لكن أهل السنة يقولون : هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق، ولم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية .

قوله (قلت الله ورسوله أعلم) فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين .

قوله : (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا) أي يوحدوه بالعبادة . ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال :

وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان

ومداره بالأمر - أمر رسوله- لا بالهوى والنفس والشيطان

قوله : (ولا يشركوا به شيئًا) أى يوحدوه بالعبادة، فلابد من التجرد من الشرك في العبادة، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيًا بعبادة الله وحده، بل هو مشرك قد جعل لله ندًا . وهذا معنى قول المصنف رحمه الله :

(وفيه أن العبادة هى التوحيد، لأن الخصومة فيه، وفى بعض الآثار الإلهية : إنى والجن والانس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيرى، وأرزق ويشكر سواى، خيري إنى العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلى بالمعاصى) .

قوله : (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا) قال الحافظ : اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعى إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك وهو مثل قول القائل : ومن توضأ صحت صلاته، أى مع سائر الشروط . ا هـ .

قوله : (أفلا أبشر الناس) فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا . قال المصنف رحمه الله .

قوله (لا تبشرهم فيتكلوا) أى يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال . وفى رواية : فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا أى تحرجًا من الإثم . قال الوزير أبو المظفر : لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعى زيادة الطاعة، فلا وجه لكتمانها عنهم.

وفى الباب من الفوائد غير ما تقدم، الحث على إخلاص العبادة لله وأنها لا تنفع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة . والتنبيه على عظمة حق الوالدين . وتحريم عقوقهما . والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام . وجواز كتمان العلم للمصلحة .

قوله : (أخرجاه) أى البخارى ومسلم. والبخارى رحمه الله هو الإمام محمد ابن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته . روى عن الإمام أحمد بن حنبل والحميدى وابن المدينى وطبقتهم . وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربرى رواى الصحيح . ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين .

و مسلم رحمه الله هو ابن حجاج بن مسلم أبو الحسين القشيرى النيسابورى صاحب الصحيح والعلل والوجدان وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبى خيثمة وابن أبى شيبة وطبقتهم . وروى عن البخاري . وروى عنهالترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوى الصحيح وغيرهما . ولد سنة أربع ومائتين . ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمهما الله .