غابة الحق (1881)/مملكة الروح
الفصل الثالث
مملكة الروح
وإذ كان التمدن والحكمة يناقشان الفلسفة، رأيت جمهورًا آتيًا من شاسع وما زال يحجل متقرِّبًا تحت كراديس الأغصان، حتى بزغ من أفق الغاب وانتصب أمام المشهد المهاب. وبينما كان يظهر لي أن الشمس مالت إلى الطفل، وعاد الغروب يطوي ذلك الشراع الذهبي الذي نشرته أيدي الأصيل على هام الشجر لم أعد أرى حينئذٍ سوى أشباح ضئيلة تتنحنح في الفسحة، ولا عاد يمكن تمييزها لاندفاع تيار الظلام عليها؛ بحيث أوشكت جميع الغابة أن تنمحي تحت أقدام الظلال، أو تغور في غمر الظلمات المتراكمة.
وما كان إلا فترة قصيرة حتى رأيت نارًا لمعت عن بعدٍ فجأة، وصارت تتقرب تاركةً خلفها مصابيح مضيئة. ولم تزل تتكاثر هذه النبارس ممتدةً إلينا وراء العرشين حتى ملأت ميدان النظر. ولما خزقت الأضواء جلباب الظلام رأيت رجالًا كثيرة عليهم أبهة العسكرية، بارزين كمن كمينٍ وهم يوقدون ما لا يحصى من تلك القناديل التي كانت معلقة على الأغصان، وما برحوا يتمون مسعاهم حتى ملأَوا الغابة جميعها أنوارًا؛ فأخذت تتموج بالأضواء الساطعة وصارت شعلة واحدة حتى أظهرت مشهدًا عجيبًا لم أشاهد أبهج وأسنى منه. فصار يظهر لي كأن الأرض أخذت تقذف السماء ليلًا بما طرحت عليها من شُهُب الرمضاء نهارًا، أو كأن جميع عرائس الغاب جعلت ترشق علينا بروق نظراتها، وعدت حينئذٍ أخال نفسي كأنني قائم في وسط فلك يتشعشع بالنجوم والكواكب التي لا عدد لها. وما زلت أتبع بأنظاري هؤلاء الرجال الذين زرعتهم الهمم في جميع أقطار الغابة لكي يذيعوا آثارهم ويبثوا أنوارهم اللامعة، حتى رأيتهم يرجعون منضمين أجواقًا أجواقًا، ويعسكرون وراء المحفل الملوكي مثنى وثلاث ورباع حيثما كان يحثهم الصوت العالي قائلًا: أتموا الصفوف؛ فإني أراكم خلف ظهري.
وإذا أمعنت النظر في هذه الصفوف الملوكيَّة رأيت على صدر كلٍّ منهم لوحًا مكتوبًا به: هذا جندي التمدن دام كاسرًا. وما لبثت أن أخذت بمجامع حواسي جلالة هذا المشهد اللامع بالأنوار والساطع بالبهجة والازدهار، حيثما كان الملك نازلًا في عرشه نزول الشمس في الحمل مغمورًا في أشعة الهيبة والوقار، والملكة بازغة من سماء مجدها بزوغ الزهرة من أفق الصباح مكتسية بحلل الكمال وحلى الجمال، والفيلسوف جالسًا قبالتهما جلوس الدعامة على أساسها موثق الأعين بسلاسل الأفكار والهواجس، وقائد جيش التمدن متخطرًا في محله تخطُّر الأسد في عرينه، وأجواق الجنود مصطفة حول المرسح كالزرازير على الآجار، بينما كان الليل ناشرًا شراع الهدوِّ على جميع حركات الطبيعة، وضاغطًا بكل ثقله على الهواء كي لا يخترقه صوت آخر سوى تكتة المصابيح أو تغريد البلابل.
ولما أخذ السكوت قراره طفق الملك يناجي الفيلسوف هكذا: إنه يوجد مملكة كبيرة جدًا وقوية إلى الغاية يقال لها «مملكة الروح»، وهي ليست بعيدة عن تخومنا، فهل تعرفها؟
– نعم، إنه توجد هذه المملكة وأنا أعرفها حق المعرفة، فما سبب سؤال العظمة عنها؟
– لأنني أريد شن الغارة عليها أيضًا.
– وما الداعي إلى ذلك؟
– هو سماعي عنها أنها تتصرف كثيرًا بما يضاد سياستنا، وأن ملكها الجالس على العرش القديم كثيرًا ما يجتهد بخراب شرائعنا واضمحلال كل مملكة لا تخضع لنواميسه.
فهز الفيلسوف رأسه وأجاب هكذا: لا تعطِ صغيًا لكل محدِّث أيها الملك المعظم؛ لأن أكثر خراب العالم ينشأ عن أحاديث ذوي الغرض، وكثيرًا ما يتكلم الناس بلغة من لا ينتظر، وحقيقة الأمر هي بخلاف ما بلغ أذنيك؛ لأن العالم لم يدخل في دائرة التهذيب، ولم تقم مملكتكم هذه إلا منذ قيام تلك المملكة القديمة، وإذا كان البعض من رعاياكم ينسبون إليها بعض أراجيف، فهذا ناجمٌ عن الصالح الخصوصي الذي من شأنه أن يهدم بناء الصالح العام.
فأرشق الملك نظره وقال: إن كثيرين من ذوي الصدق والثقة قد أخبروني عن جملة أمور خشنة تواظبها مملكة الروح؛ فهي على ما يقولون: إنها لا تفتر عن بث التصورات الباطلة في عقول الناس لكي تنهض بذلك تصديقات سخيفة تؤسس عليها أقيسة دعواها بالسياسة المطلقة؛ وعلى هذا الأساس قد شيَّدت قوس نصرها في ساحة العالم ونشرت عليه راية سلطانها. ثانيًا: لم يكفِها التسلُّط المطلق على الأنفس والأجساد حتى جعلت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب أيضًا لكي تجتذب السرائر والضمائر إلى ميدان أحكامها وعبوديتها. ثالثًا: لا تكل أعوانها وأنصارها من الجوَلان في كافة المسكونة لأجل زرع الشقاق والفتن حتى إن أكثر الحروب التي جرت في الدنيا كانت مسببة من أطوارهم على ما قيل. فهل يسوغ لنا الصمت عن هذه المملكة إذا كان هذا شأنها؟!
وبعد برهة من السكوت وثب الفيلسوف على قدميه، وأحنى رأسه أمام الملك، وقال: اسمح لي أيها الملك أن أجاوب عظمتك بالتفصيل عمَّا شرفت به آذاني.
– قل ما تشاء.
– أولًا: إن هذه المملكة ما علَّمت قط — ولن تعلِّم — إلا بما يقود الناس إلى نوال السعادة الحقيقة كما يظهر لنا ذلك تدقيق الاستقصاء والفحص بدون التفات إلى ما يهذر به أهل الغرض الأعمى. وجميع تعليماتها مأخوذة من الكتاب المعصوم الذي لا ينكره إلا أهل الضلال المبين، ولو لم يرتفع قوس نصرها في ساحة العالم وتخفق رايتها على كافة الأقطار لكان النوع البشري يقع في هاوية الفساد، ويعم الخراب على جميعه، سيما في هذه الأجيال الأخيرة حيثما انتبهت الطباع الخبيثة من غفلات السذاجة لدى ارتفاع نهار التمدُّن الذي لا يوجد عنده لجمٌ لرد جماح تلك الطباع سوى ما تعلمه مملكة الروح. فإذا رغبت عظمتكم في خرابها تكون هذه الرغبة واقعة على نفس مملكتكم أيضًا؛ فلا تنقموا على ذواتكم.
ثانيًا: إذا كانت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب فلا يكون ذلك إلا لإيقاع التهديد والخوف على السرائر والضمائر الشريرة لا للاستيلاء عليها، فلو لم تكشف هذه المملكة حجاب غفلات البشر عن المستقبل وتظهر لهم ما يكمن فيه من المخاوف المستعدة لابتلاعهم، مَن كان يمكنه ردع الفقير عن الغني؟ من كان يستطيع رد جماح المغتال؟ من كان يحسن تقييد رجل السارق؟ من كان يقدر على قمع ثَوَران الزاني؟ من كان يمكنه قطع لسان شاهد الزور؟ وبالإجمال من كان يمسك العالم البشري عن تمزيق بعضه البعض ويحفظ نظامه من الانتثار؟
ثالثًا: إن الإنسان لانطباعه على السوء ينسب جميع المعاصي والقبائح لمن ينهى عنها ويوبخ مرتكبيها؛ وبِناءً على ذلك قد توهم البعض من الأشرار كون جَوَلان خدام مملكة الروح في الأقطار المسكونة هو لأجل غرس الخصومات والقلاقل بين الناس، مع أن الأمر بالعكس؛ أي إنهم يتهمون دائمًا بنشر الاتِّفاق والسكينة في العالم، ولو اضطرتهم الحال أحيانًا إلى ترك السلم وإشعال نيران الحروب يجب أن لا تقتصروا على أن تتركوا هذه المملكة وشأنها، بل ينبغي أن تكون مملكتكم موجهة كل قوتها إلى مساعدة مسراها وانتشارها.
على أنه إذا كانت دولتكم قائمة بالأبدان فتلك ثابتة بالأرواح. ومن المستحيل قيام البدن بدون الروح؛ فمن الجهالة تغافُل ذاك عن هذه. وإذا خامر أفكاركم الميل إلى محاربتها، فلا يخطر لكم إمكان الانتصار عليها، بل يجب أن تعلموا أنكم سترجعون القهقرى ناكصين على أعقاب الندم؛ لأن يد القدرة ممتدة دائمًا إلى مساعدتها وإغاثتها، حتى لا يمكن لنفس أبواب سقر أن تقوى عليها. وطالما اجتهدت ملوكٌ قبلكم بدثارها وإسقاطها ولم ينجح لهم اجتهاد، وبمقدار ما كانت الاضطهادات ثائرة عليها كانت هي تزداد قوة وامتدادًا إلى أن استغرقت في حضنها العالم وأخضعت كل ملوك الأرض تحت موطئ قدميها. وما ذاك إلا لكون العناية العُلوية قد سلمتها زمام السياسة ورافقتها في كل المسالك، ولن تزال هكذا تنمو وتكثر وتشحن الأرض إلى أن تتم المشيئة.
فبعد أن استوفى الملِك كلام الفيلسوف ووجده في غاية الصواب، أيقن ببطلان فكره وخطأ اعتماده، وعلم أن ما كان يبلغه البعض من أهالي مملكته ضد مملكة الروح هو ناشئ عن روح التغرُّض والتعرض. وهكذا عزم على تقديم الإعانة والإغاثة بدل المضاربة والمحاربة، وبعد فترة من الصمت التفت إلى ملكة الحكمة، وقال: إن جميع كلام هذا الرجل صواب، وليس فيه أدنى ارتياب. وكل ما كنا نسمعه كان باطلًا ولا حقيقة له، وإذا افترضنا عدم صحته وأشهرنا الحرب، فلا نرجع إلا خائبين، وربما نقع في خطر اضمحلال كل مملكتنا وسياستنا؛ لأن ما يساعده الروح لا يغلبه الجسد.
فأجابت الملكة بتواضع: لا شك فيما تكلم الفيلسوف، ولا ريب أن الاعتماد كان باطلًا؛ لأن السياسة العُلوية منتصرة دائمًا على السفلية، وما يكون هابطًا من الأعالي يسطو مطلقًا على ما ينهض من الأسفل، وما تفعله الصدف لا يغلب مفاعيل القصد.
– لعل سياستنا ودولتنا وجدتا على سبيل الصدفة والاتفاق.
– إذا تتبعنا شجرة امتداد السياسة والتملُّك في العالم من حيث الأصل، إنما نراها باسقة من جرثومة المصادفات والتقادير.
فالتفت الملك إلى الفيلسوف، وقال له: ماذا تقول أنت؟
فأطرق الفيلسوف قليلًا ثم أجاب: لا شك فيما قالته حضرة ملكة الحكمة.
– هات فصِّل لنا ذلك.
– إن تفصيل هذا الأمر يعسر جدًّا، ولا يوجد نور واضح نستهدي به إلى الحقيقة، وإنما يمكنني أن أورد على ذلك ما أتناوله من الاستقراء والاستنتاج التاريخي.
– لا بأس، خذ راحة الجلوس، وقل ما يخطر لك.
فامتثل الفيلسوف الأمر وجلس، وبعد إطراق قليل رفع رأسه، وجعل يقول …