عجبا أتوحشني وأنت إزائي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​عجبا أتوحشني وأنت إزائي​ المؤلف جبران خليل جبران


عجبا أتوحشني وأنت إزائي
وضياء وجهك ماليء سودائي
لكنه حق وإن أبت المنى
أنا تفرقنا لغير لقاء
جرحوا صميم القلب حين تحملوا
الله في جرح بغير شفاء
ألطيب المحمود من عمري مضى
والمفتدى بالروح من خلصائي
لا بل هما مني جناحا طائر
رميا ولم يك نافعي إخطائي
ألصاحبان الأكرمان توليا
فعلام بعد الصاحبين ثوائي
لم يتركا برداهما غير الشجى
لأخيهما ما دام في الأحياء
وحيالي الخلطاء إلا أنني
متغرب بالعهد في خلطائي
أيراد لي من فضل ما مجدا به
إرث إذن جهل الزمان وفائي
إن نحي بالذكرى فلا تبديل في
صفة ولا تغيير في الأسماء
يا صاحبي غدوت منذ نأيتما
أجد الحياة ثقيلة الأعباء
لا ليل عافية هجعت به ولا
يوم نشطت به من الإعياء
أنا واحد في الجازعين عليكما
وكأنما ذاك البلاء بلائي
فإذا بدا لكما قصوري فاعذرا
أو شفعا لي مسلفات ولائي
مهلا أمير الشعر غير مدافع
ومعز دولته بغير مراء
كم أمة كانت على قدر الهوى
ترجوك ما شاءت لطول بقاء
متمكنا من نفسها إيمانها
إن لم تكن ممن حيوا لفناء
فإذا المنايا لم تزل حرب المنى
وإذا الرزيئة فوق كل عزاء
في مصر بل في الشرق منها لوعة
سدت على السلوان كل فضاء
أترى مويجات الأثير كأنها
حسرى بما تزجي من الأنباء
بعث الشرار بها ثقالا لو بدا
ما حملت لبدت نطاف دماء
جزع الكنانة كاد لا يعدو وأسى
أم القرى ومناحة الفيحاء
وبحضرموت على تنائي دارها
شكوى كشكوى تونس الخضراء
بالأمس كان هواك يجمع شملها
في فرقة النزعات والأهواء
واليوم فت رداك في أعضادها
ما أجلب البأساء للبأساء
أفدح بما يلقاه آلك إن يكن
جزع الأباعد جل عن تأساء
حرموا أبا برا نموا وترعرعوا
من جاهه في أسمح الأفياء
وكفقدهم فقد الغرانيق العلى
علم الهدى للفتية النجباء
وكرزئهم
رزئ الرجال مرجبا عف اللسان مهذب الإيماء
يتناولون من الصحائف وحيه
فتكون كل صحيفة كلواء
ما عشت فيهم ظلت بلبل أيكهم
في الأمن والرئبان في اللاواء
لك جوك الرحب الذي تخلو به
متفردا والناس في أجواء
عذلوك في ذاك التعزل ضلة
إن التعزل شيمة النزهاء
ما كان شغلك لو دروا إلا بهم
لكن كرهت مشاغل السفهاء
ولعل أعطفهم عليهم من دنا
بالنفع منهم وهو عنهم ناء
أحللت نفسك عند نفسك ذروة
تأبى عليها الخسف كل إباء
فرعيت نعمتك التي أثلتها
ورعيت فيها جانب الفقراء
تقني حيائك عالما عن خبرة
إن الخصاصة آفة الأدباء
وترى الزكان لذي الثراء مبرة
منه به ووسيلة لزكاء
كم من يد أسديتها وكسوتها
متأنقا لطف اليد البيضاء
عصر تقضى كنت ملء عيونه
في أربعين بما أفدت ملاء
يجلو نبوغك كل يوم آية
عذراء من آياته الغراء
كالشمس ما آبت أتت بمجدد
متنوع من زينة وضياء
هبة بها ضن الزمان فلم تتح
إلا لأفذاذ من النبغاء
يأتون في الفترات بوعد بينها
لتهيؤ الأسباب في الأثناء
كالأنبياء ومن تأثر إثرهم
من علية العلماء والحكماء
رفعتك بالذكرى إلى أعلى الذرى
في الخلد بين أولئك العظماء
من مسعدي في وصفها أو مصعدي
درجات تلك العزة القعساء
ومطوع لي من بياني ما عصى
فأقول فيك كما تحب رثائي
لي فيك من غرر المديح شوارد
أدت حقوق علاك كل أداء
ووفت قوافيها بما أملى على
قلمي خلوص تجلتي وإخائي
ماذا دهاني اليوم حتى لا أرى
إلا مكان تفجعي وبكائي
شوقي لا تبعد وإن تك نية
ستطول وحشتها على الرقباء
تالله شمس لن تغيب وإنها
لتنير في الإصباح والإمساء
هي في الخواطر والسرائر تنجلي
أبدا وتغمرهن بالألاء
والذخر أبقى الذخر ما خلفته
من فاخر الآثار للأبناء
هو حاجة الأوطان ما دالت بها
دول من السراء والضراء
سيعاد ثم يعاد ما طال المدى
ويظل خير مآثر الآباء
يكفي بيانك أن بلغت موفقا
فيه أعز مبالغ القدماء
بوأت مصر به مكانا نافست
فيه مكان دمشق والزوراء
ورددت موقفها الاخير مقدما
في المجد بين مواقف النظراء
لك في قريضك خطة آثرتها
عزت على الفصحاء والبلغاء
من أي بحر دره متصيد
وسناه من تنزيل أي سماء
ظهرت شمائل مصر فيه بما بها
من رقة ونعومة ونقاء
ترخيمها في لحنه متسامع
ونعيمها في وشيه متراء
شعر سرى مسرى النسيم بلطفه
وصفا بروعته صفاء الماء
ترد العيون عيونه مشتفة
ويصيب فيه السمع ري ظماء
ويكاد يلمس فيه مشهود الرؤى
ويحس همس الظن في الحوباء
في الجو يؤنس من يحلق طائرا
والدو يؤنس راكب الوجناء
عجبا لما صرفت فيه فنونه
من فطنة خلابة وذكاء
فلكل لفظ رونق متجدد
ولكل قافية جديد رواء
يجلى الجمال به كأبدع ما انجلت
صور حسان في حسان مرائي
ولربما راع الحقيقة رسمها
فيه فما اعتصمت من الخيلاء
حياك ربك في الذين سموا إلى
أمل فأبلوا فيه خير بلاء
من ملهم أدى أمانة وحيه
بعزيمة غلابة ومضاء
متجشم بالصبر دون أدائها
ما سيم من عنت وفرط عناء
للعبقرية قوة علوية
في نجوة من نفسه عصماء
كم أخرجت لأولى البصائر حكمة
مما ألم به من الأرزاء
حتى إذا اشتعل المشيب برأسه
ما زاد جذوتها سوى إذكاء
فالداء ينحل جسمه ونشاطها
بسطوعه يخفي نشاط الداء
جسم يقوضه السقام وهمسها
متعلق بالخلق والإنشاء
عجبا لعاميه اللذين قضاهما
في الكد قبل الضجعة النكراء
عاما نزاع لم تهادن فيهما
نذر الردى وشواغل البرحاء
حفلا بما لم يتسع عمر له
من باهر الإبداع والإبداء
فتح يلي فتحا وصرح باذخ
في إثره صرح وطيد بناء
هذا إلى فطن يقصر دونها
مجهود طائفة من الفطناء
من تحفة منظومة لفكاهة
أو طرفة منظومة لغناء
أو سيرة سيقت مساق رواية
لمواقف التمثيل والإلقاء
تجري وقائعها فتجلو للنهى
منها مغازي كن طي خفاء
فإذا الحياة عهيدها وعتيدها
مزج كمزج الماء والصهباء
تطفو حقائقها على أوهامها
وتسوغ خالصة من الأقذاء
يا من صحبت العمر أشهد مانحا
في الشعر من متباين الأنحاء
إني ليحضرني بجملة حاله
ماضيك فيه كانه تلقائي
من بدئه وحجاك يفتح فتحه
للحقبة الادبية الزهراء
حتى الختام ومن مفاخر مجدد
ما لم يتح لسواك في الشعراء
فأرى مثالا رائعا في صورة
للنيل تملأ منه عين الرائي
ألنيل يجري في عقيق دافق
من حيث ينبع في الربى الشماء
يسقي سهول الريف بعد حزونه
ويديل عمرانا من الإقواء
ما يعترضه من الحواجز يعده
ويعد إلى الإرواء والإحياء
حتى إذا رد الفيافي جنة
فيما علا ودنا من الأرجاء
أوفى على السد الأخير ودونه
قرب المصير إلى محيط عفاء
فطغى وشارف من خلاف زاخرا
كالبحر ذي الإزباد والإرغاء
ثم ارتمى بفيوضه من حالق
في المهبط الصادي من الجرعاء
فتحدرت وكأن منهمراتها
خصل من الأنوار والأنداء
مسموعة الإيقاع في أقصى مدى
جذلى بما تهدي من الآلاء
إن أخطأت قطرا مواقع غيثها
أحظته باللمحات والأصداء
لله در قريحة كانت لها
هذي النهاية من سنى وسناء
رفعتك من علياء فانية إلى
ما ليس بالفاني من العلياء