١٦٦
٤١ - ومن الانصاف أن نقول أن عهد المماليك عبد طافح بالمتناقضات فيه عز ، وفيه ذل ؛ فيه ارتفاع ، وفيه سقوط ، فيه عظمة ومجد كالعظمة والمجد اللذين وصفناهما لك في الاسطر المتقدمة ، وفيه فتن يندى لها جبين الدهر . إذ لا يكاد يعتلي منصة الحكم ملك منهم حتى يقوم أمير من أمرائه فيحيك المؤامرات لخلعه . ويظل يحفر له حتى يوقعه في الهاوية ، ويخلفه في الحكم . ولطالما رأينا رجالا كانوا بالأمس خداماً ومماليك ، فاصبحوا ما بين طرفة عين وانتباهتها وزراء وامراء ونواباً وملوكاً. وأكثر الذين تسلطنوا عن هذه الطريق كانوا ويا للأسف اميين . لا يفقهون من معاني الملك والعدل والحزم والتدبير شيئاً. وكان هؤلاء تارة يلجئون إلى الشدة والقسوة في معاملاتهم ، فيفتكون في اعدائهم ومناوئيهم ليخلو لهم الجو ؛ وطوراً يلجئون إلى الهوادة واللين فيتقربون إلى الرعية بالمناصب الكبيرة والهدايا الفاخرة أو يقربونهم إليهم بشتى الوسائل ليغطوا عن أعين الناس عيوبهم . وفي بعض الأحايين كانوا يتوسلون لاسترضاء الشعب بإنشاء المساجد والزوايا ، ولكن ليس من أموالهم الخاصة بل من الاموال التي كانوا يبتزونها من الناس ظلماً وعدواناً . إن من يقرأ تاريخ غزة في عهد المماليك قراءة سطحية يعتقد انها كانت مدينة عظيمة . إذ أنه كان يقيم فيها نائب السلطان ، ومن حوله الامراء على اختلاف رواتبهم . وكثيراً ما كان يزورها السلطان بنفسه ، فيخلع على نائبها وأمرائها ورجالها الرتب الرفيعة والهدايا الثمينة والملابس الفاخرة ، ويؤدب المآدب . وقد جاء على غزة زمن كانت فيه القدس وأكثر المدن الفلسطينية تابعة لها كما قدمنا . أقول أن من يقرأ ذلك قراءة سطحية يعتقد أن غزة كانت طيلة عهد المماليك تنعم في بحبوحة من هناء البال ورغد العيش. والحقيقة غير ذلك . نعم أتى على غزة زمن كانت تنعم فيه في بحبوحة من العز والمجد. وقد بني فيها عدة مساجد ومباني لا تزال حتى يومنا هذا قائمة . ولكن غزة خسرت مقابل ذلك الشيء الكثير . وكانت الخسارة تأتيها عن طريق الضرائب التي تجي لأجل الحروب ، والاعانات التي تجمع لبنايات المساجد والمباني الضخمة ؛ ثم عن طريق الامراء الذين كانوا يتولون الحكم فيها ويعيشون عيشة البذخ والترف . وهذا النوع من انواع المعيشة يحتاج إلى اتفاق ، والمبالغ اللازمة لهذا الاتفاق لا تأتي إلا من عرق الفلاح والطبقة العاملة . وما عمل القائمون على رأس الحكم شيئاً لأجل تعليم الامة و انهاض الفلاح والطبقة العاملة ->
