عن تطبيقه على الروايات التاريخية. فإنه نظر في أمر العدالة والضبط وذكر شيئاً من هذا القبيل في مقدمته الشهيرة ثم ذهب مذهباً خاصاً في تمحيص الأخبار لا ينفصل عن آرائه الفلسفية في الاجتماع والتاريخ. وإليك الآن بعض ما قاله في هذا الموضوع:
«اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.
ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها (١) التشيعات للآراء والمذاهب فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتحميص، فتقع في قبول الكذب ونقله. (٢) ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين. وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. (٣) ومنها الذهول عن المقاصد. فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. (٤) ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. (٥) ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. (٦) ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فيستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها.
ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران. فإن كل حادث من الحوادث، ذاتاً كان أو فعلاً، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب. وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدَّته دواب البحر عن بناء الإسكندرية وكيف اتخذ صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنية ونصبها حذاء البنيان، ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها وتم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور ومن اعتمده منهم فقد عرَّض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع الناس إلى غيره، وفي ذلك إتلافه ولا ينظرون به رجوعه من