أن نتأثر الرواة الذين تسلسل عنهم هذا الخبر حتى نصل إلى الشاهد العيان. وعندئذٍ نطبق ما مرَّ بنا من الأسئلة للتثبت من العدالة والضبط. وهو أمر وعر المسلك لبعدنا في غالب الأحيان عن زمن الوقائع المروية، فنصبح تجاه أمر واقع وهو النظر في شهادة ليس لها راوٍ معروف. وشهادة مثل هذه هي في عرفنا قليلة القيمة. ولو تقيد المؤرِّخون بهذه القاعدة لوفروا على الخَلَف كثيراً من العناء. ولكفوا أنفسهم مؤونة سرد أخبار لا طائل تحتها. ولعل كثيراً من التاريخ لو غربل بهذا الغربال لما زاده عن عشره.
ومما يذكر مع مزيد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمي واعترافاً بفضلهم على التأريخ.
قال الإمام مالك بن أنس (١٧٩هـ): «لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك — لا يؤخذ من سفيه ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به. وقال إسحق بن محمد الغروي سئل مالك أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة فقال لا فقيل أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم ما يحدث به فقال لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ ويكون قد طلب وجالس الناس وعمل ويكون معه ورع. وقال إسماعيل بن أبي أويس وعرف سمعت خالي مالكاً يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئاً وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان به أميناً لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه. وقال شعبة بن الحجاج كان مالك أحد المميزين ولقد سمعته يقول ليس كل الناس يكتب عنهم وإن كان لهم فضل في أنفسهم إنما هي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تؤخذ إلا من أهلها. وقال ابن كنانة قال مالك من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران وكان على زيادة».1
- ↑ مما اقتطفه الشيخ طاهر الجزائري عن الإمام جلال الدين السيوطي في إسعاف المبطأ برجال الموطأ. راجع كتابه توجيه النظر إلى أصول الأثر، ص ٣٦