صفحة:ما هي النهضة-سلامة موسى-1935.djvu/16

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

ماهي النهضة

من منشآت هندسية، فزكت الثقافة وبعدت عن الرجم الفلسفي الذي كان يحبه الإغريق، واتجهت نحو المحسومات والعمليات.

ثم جاء الانحطاط مدة القرون الوسطى، وعمت الفاقة الناس، فأقفلت المدارس ولم يعد هناك جمهور قارئ يعيش معه النساخون، فندرت الكتب وزالت الطبقة المتوسطة، وجاءت المسيحية فزادت في تفاقم الكارثة، فإنها كافحت المدارس القديمة وحاربت العلماء، وانحصرت الثقافة عندئذ في صوامع الرهبان، وهؤلاء لم يقصدوا منها سوى غاية واحدة هي خدمة الدين، وهذا هو الانحطاط.

فإذا أنت أردت إن تلخص لنفسك معنى الانحطاط في القرون المظلمة، وكيف هجر الذهن البشري الفلسفة اليونانية والهندسة الإقليدية والنزعة العلمية الصناعية في رومية إلى الدين، والغيبيات في صوامع الرهبان، فاعلم أن هذا المعنى ينحصر في أن الثقافة قد أصبحت تخدم شئون العالم الثاني بدلا من أن تخدم الإنسان على هذه الأرض.

ففلسفة أرسطوطاليس أو أفلاطون لم يعد يقرؤها الناس كي يصلحوا هذا العالم، وينشدوا فيه سعادة دنيوية تزيد أجسامهم صحة وعقولهم نورا، ومدنهم نظافة وحكوماتهم عدلًا، وإنما صاروا يدرسونها كي يعرفوا منها كيف يعيشون بعد الموت، وما هي الطبيعة الألوهية، وبعبارة أخرى نقول إن الانحطاط في القرون المظلمة إنما يعني انتقال الثقافة من البشرية والمادية، أي: خدمة البشر ومعالجة المادة، إلى الدينية أي: خدمة الدين والغيبيات.

ولهذا كانت النهضة قائمة على حركات بشرية، أي: النظر إلى هذه الدنيا كأنها الغاية التي ليس وراءها غاية تخدم، وإننا نحن البشر يجب أن تكون لنا آداب وفلسفات وعلوم لا تمت بأي صلة إلى الغيبيات، وإن علينا أن نعتمد على أنفسنا في تحقيق السعادة على هذه الأرض نفسها، وألا نزهد عنها إيثارا عليها للعالم الثاني،كما هي النظرة الغيبية، ومما يضر الشاب المصري ضررا كبيرا جدا أن نخدعه ونوهمه أن النهضة الأوروبية التي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى تعني شيئا آخر. هذه النهضة تتضح لنا في ثلاث حركات بشرية:

(۱) الحركة البشرية الأولى: وهي التي ظهرت على أشدها في القرن الخامس عشر في إيطاليا ثم انفجرت في أوروبا، وقد اغتذت بدرس الإغريق والرومان، وأخرجت الفنون الجميلة من قيودها الدينية السابقة، فجعلتها تخدم البشر. ولم يتجه الأدباء إلى الإغريق والرومان كي يحاكوهم، فإن المحاكاة في نفسها انحطاط، وإنما هم اتجهوا إليهم؛ لأنهم رأوا منهم أشخاصا يشبهونهم من حيث الرغبة في مزاولة