صفحة:ما هي النهضة-سلامة موسى-1935.djvu/13

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

القرون الوسطى

السكان، وكان هذا التناقص مغريا لقبائل الجرمان بالتسرب والانسلال رويدا ثم الغارة الأخيرة.

وقد ذكرنا المسيحية من حيث إنها محت الوحدة الرومانية التي كانت تتجسم في عبادة الإمبراطور، ولكن دخول هذه الديانة الجديدة على ما نرى فيها من سمو المبادئ ونبالة الحياة التي تنشدها، كان سببا كبيرا في هدم الدولة، فقد حدث شقاق بين أبناء الأمة قطع اتحادها، وحسب القارئ أن يعرف أن «قسطنطين» أول الأباطرة الذين آمنوا بالمسيحية ترك رومية، وأسس هذه العاصمة الجديدة في شرق الدولة لكي لا يرى المعابد الوثنية، وهو في ذلك مثل «إخناتون» حين هجر طيبة ورحل إلى تل العمارنة يؤسس عاصمة جديدة لا يرى فيها صنم آمون، وإنما يرى رع.

وظهرت الكنيسة منذ أول ظهورها بمظهرها الذي عرفت به أيام القرون الوسطى، فأحرقت الكتب وهدمت الأصنام والمعابد؛ ولذلك يجب أن نرد «محكمة التفتيش» التي استطار شرها مدة القرون الوسطى إلى هذه البذرة الأولى التي ألقتها الكنيسة أيام تضعضع الدولة الرومانية.

والقارئ لتاريخ الدولة الرومانية لا يسعه إلا أن يقابل بين تضعضعها ثم سقوطها وبين ما جرى للدولة العباسية في بغداد.

فالجرمان وانسلالهم إلى جسم الدولة، ثم غارتهم الأخيرة، يشبهون الأتراك وانسلالهم إلى جسم الدولة العربية في بغداد ثم طغيانهم ثم محو الدولة على أيدى المغول، وجباية الضرائب وانحطاط الزراعة في العراق لا يختلفان كثيرا عما كانت عليه الحال في إيطاليا، حتى المقابلة في الآداب لتجوز هنا أيضا.

فإن الأدب العربي في القرنين الأول والثاني لا يعرف التزاويق والألاعيب البلاغية، وهو في ذلك مثل الأدب الروماني في القرنين السابق والتالي للميلاد المسيحي، ثم يشترك في التزاويق السخيفة ويذهب اللباب، وينحط التفكير وتبقى القشور والبهارج، وينسى الرومانيون لغتهم اللاتينية، وينسى العرب لغتهم العربية.. ويأخذ أمراء الجرمان في تأسيس الإمارات المستقلة عن رومية، ويأخذ أمراء الأتراك والمماليك في تأسيس إماراتهم المستقلة عن الخلافة.

وكما أعقب الدولة الرومانية قرون من الظلام ساد فيه التنطع الديني، كذلك أعقب الدولة العباسية قرون من الظلام ساد فيه هذا التنطع نفسه.