المعهود من صرامته ولدده
وكان النبي — عليه السلام — يعلم أنَّ احتمالَ التبعةِ أو «المسئولية» خَلِيقٌ أن يبدل أطوار النفوس في بعض المواقف والأزمات، فيجنح اللَّيِّنُ إلى الشِّدَّةِ، ويجنح الشَّديدُ إلى اللِّينِ؛ لأننا إذا قلنا إنَّ رئيسًا أصبح يشعر بالمسئولية، فمعنى ذلك أنه أصبح يراجع رأيه فلا يستسلم لأول عارض يمليه عليه طبعه، ولا يقنع باللين أول وهلة إذا كان من دأبه اللين، ولا بالشدة أول وهلة إذا كان من دأبه الشدة. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين موقف الرجل وهو مسئول، وموقفه وهو غير مسئول.
وهذا الذي ظهر أعجب ظهورٍ في موقفي الصاحبين من حرب الرِّدَّةِ؛ فإن عمرَ الشديدَ قد آثرَ الهوادة، وأبا بكر الرقيقَ قد آثرَ القتال وأصرَّ عليه. وكان عمرُ يقول: «إنَّ رسولَ اللهِ كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة، يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم»، ثم يقول للخليفة: «الزم بيتَكَ ومسجدَكَ، فإنه لا طاقةَ لك بقتالِ العرب.»
وكان أبو بكر يقول متسائلًا: «أإن كثر أعداؤكم وقَلَّ عددُكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرنَ الله هذا الدِّين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، والله — أيها الناس — لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم بالله، وهو خير معين!»
هنالك بلغت التبصرة بوجوه الرأي المختلفات غاية مداها، وجاء عمر بقصارى ما عنده من حجج الرأي الآخر حتى وضحت المناهج، واستقر العزم، والتقى الصاحبان عليه، فكانت شدتهما في الحقِّ شدتين.
وهَبِ الأمر مع هذا قد اختلف في موقف الصاحبين، فمَالَ أبو بكر إلى السِّلْمِ والمسامحة، فأين كانت شدة عمر ذاهبة عنه في هذه الحال؟! أغلب الظن أنه هو الذي كان يتولى يومئذ أن يبسط وجه الشدة في معاملة 1) يرجع (۲) اي شدته ۰ (۳) الآية 18 من سورة الأنبياء (4) الآية : ۲۹۹ من سورة البقرة ، (5) زكاة عام من الإبل والغنم . (6) بغاية • 6