صفحة:داعي السماء.pdf/83

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

وذهبت الأرض معها لبقيت لك آيات في أعالي السماء أعظم وأسمى؛ إذ كل شارقة فوقنا من تلك الشموس التي تشتعل إلى مطلع النهار، وتلك الكواكب التي يعود بها الليل كل مساء — هي يا رب «دراويشك» التي تدور في حلقة الذكر حول عرشك الوضَّاء.

ثم قال هيرن: إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة من مدن الشرق على مقربة من إحدى المنائر على المساجد الجامعة قلما تفوته خشعة الفؤاد لذلك الجمال الوقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة، وهو لا شك يستوعب في قلبه — إذا كان قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة — كل كلمة من كلمات تلك الدعوة المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة حيثما أرسل الفجر ضياءه المورَّد في سماء مصر أو سورية وفاض بها على النجوم. وإنه ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح: يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة ويسمعه قبيل غياب الشمس والمغرب يتألق بألوان القرمز والنضار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزمرد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومض من فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق مسجد الله الذي لا يزول، ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنَّعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه — كما فعل جيرار دي نرفال — أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام … عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة، ومنها «لا تأخذه سنة ولا نوم»، فإن كان الترجمان ممن يعون طرفًا من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول — أول من رتل الدعاء إلى الصلاة — كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة — بلال بن رباح — صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم.

أما بلال هذا فكان أسود أفريقيًّا من أبناء الحبشة قد اشتهر بقوة يقينه وهو يتخذ دين الإسلام، وبغيرته على الدعوة النبوية وجمال النغم في ترجيع صوته؛ ذلك الصوت الذي تناوله ومد فيه وكرره كل مؤذن في الإسلام منذ أكثر من ألف ومائتي عام.

وقد رجَّع بلال أذانه قبل أن ترتسم في الذهن صورة المنارة الأولى، وقبل أن يؤثر القوم اختيار المؤذنين من العميان مخافة أن يرمق المؤذن بعينه منظرًا محرمًا وهو يطل من علٍ على سقوف المدينة.

82