شرح تشريح القانون لابن سينا/القسم الأول/الجملة الخامسة/الفصل الخامس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​شرح تشريح القانون لابن سينا​ المؤلف ابن النفيس
القسم الأول
الجملة الخامسة - الفصل الخامس



الفصل الخامس

تشريح الأجوف النازل


وكلامنا في هذا الفصل يشتمل على بحثين: البحث الأول الأجوف النازل من عند انفصاله من الأجوف الصاعد إلى أن يتوكأ على أعلى الصلب قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قد ختمنا الكلام في الجزء... إلى قوله: وبعد نبات الطالعين.

الشرح قوله: فأول ما يتفرع منه كما يطلع من الكبد، وقبل أن يتوكأ على الصلب يتشعب منه بشعب شعرية تصير إلى لفائف الكلية اليمنى.

السبب في ذلك أن الكليتين تحتاجان أن يكون على ظاهرهما شحم كثير لما نذكره من منفعة ذلك عند كلامنا في تشريح الكلي. والشحم إنما يتكون من مائية الدم كما علمته من قبل.

وإذا نفذ هذا الأجوف عن الكبد قليلاً تصفى دمه عن المائية الزائدة فاحتيج أن يكون ما يصل إلى ظاهر الكليتين من الدم واصلاً إليهما أو لاً والعروق النافذة إلى ظاهر الكلية اليمنى من أو ل انفصالها عن هذا الأجوف شعرية، ولا كذلك النافذة إلى ظاهر الكلية اليسرى. فإنها تكون أو لاً عرقاً واحداً ثم ينقسم إلى عروق شعرية، وإنما احتيج أن تكون هذه العروق شعرية لتمنع نفوذ الدم المتين فيها، ولا ينفذ فيها من الدم إلا ما تغلب عليه المائية حتى ترققه جداً، وإنما كانت عروق الكلية اليمنى من أو ل انفصالها شعرية لأن هذه الكلية قريبة جداً من الكبد، فلذلك لا يخشى على عروقها الدقاق من الانقطاع لأجل طول المسافة ولا كذلك الكلية اليسرى فإنها بعيدة عن الكبد لأنها مع أنها في خلاف جهتها هي كثيرة النزول إلى أسفل فلذلك جعل ما ينفذ إليها عرقاً واحداً غليظاً ثم يتفرع ذلك العرق إلى عروق كثيرة جداً شعرية.

قوله: يتوجهان إلى الكليتين لتصفية مائية الدم إذ الكلية إنما تجتذب منها غذاها، وهو مائية الدم ها هنا سؤالان: أحدهما: ما السبب في أن العرق النازل جعل له وحده ما يصفى من المائية? وهلا جعل ذلك للعرق الصاعد أيضاً? أ جعل ما يصفي المائية قبل انقسام الأجوف إلى الصاعد والنازل لتكون التصفية عامة للدم النافذ فيهما? وثانيهما: أن الكلية كيف تجذب الدم المائي وكل عضو فإن جذبه للمواد الغذائية إنما يكون لتغتذي من ذلك المجذوب. وغذاء الكلي يجب أن يكون من الدم المتين الكثير الأرضية لأن جوهر الكلية كذلك والغذاء يجب أن يكون فيه شبيهاً بالمغتذي?

الجواب: أما السؤال الأول فإن الدم الصاعد في العرق الصاعد مستغن عن التصفية عن المائية وإنما يحتاج إلى ذلك العرق النازل فقط، وإنما كان كذلك. لأن تصعد المائية في العرق الصاعد لا يمكن أن يكون بالطبع، ولا أيضاً تجذبه الأعضاء فلذلك تصعدها في ذلك الصاعد غير ممكن إنما تصعدها بالطبع محال فلأن المائية من شأنها السيلان إلى أسفل لا إلى فوق وأما أن تصعدها يجذب الأعضاء لا محال فلأن جذب الأعضاء إنما يكون لما يغتذي به ولما يعين على تغذيتها والمائية لا تصلح للأعضاء فلذلك كان تصعد هذه المائية الزائدة في العرق الصاعد حينئذٍ محالاً وأما العرق النازل فإن هذه المائية تنفذ فيه لأن المائية شأنها السيلان إلى أسفل وهذه المائية لأنها زائدة عن المقدار الذي يستحقه الدم الغاذي يحتاج إلى تصفية الدم منها وإنما يمكن ذلك باندفاعها عنه، وذلك بأن تجتذبها الكلى فيخلص الدم منها، وجذب الكلى لها لا لأنها ملازمة للدم الذي يحتاج إليه الكلى في تغذيتها، فتجذب الكلى لذلك الدم ويلزم ذلك انجذاب هذه المائية والسبب في أن هذا الدم تنجذب معه مائية كثيرة بخلاف الدم الباقي وغيره هو أن الأعضاء تجذب الدم أيضاً ولا تجذب المائية، وجب تلك الأعضاء يمانع من أن يندفع إلى الكلى لجذبها دم كثير ولأجل فقدان جذب تلك الأعضاء المائية تكون مندفع منها مع ذلك الدم كثيراً ولأجل هذا وجدت المائية يكون المندفع منها من ذلك الدم كثيراً، فلذلك تندفع إلى الكلى دم كثير المائية وبكثرة تلك المائية يخلص الدم الباقي منها، وبعد انفصال هذين الطالعين من العرق العظيم النازل ينفصل منه أيضاً عرقان آخران ينفذان إلى الأنثيين في نفوذ هذين العرقين إلى مع أن الأنثيين ينبغي أن يكون ما يأتيهما من العروق آتياً إليها من هذا العرق العظيم النازل بعد وصوله إلى عظام العجز. لأن ذلك الموضع أقرب إلى الأنثيين. سبب ذلك أن الدم المائي النافذ في الطالعين إلى الكليتين ليس يكاد يستقصي ما في الدم من المائية الزائدة فيبقى في الدم الباقي يسير من تلك المائية الزائدة فيحتاج إلى دفعها إلى عضو يحتاج في غذائه إلى رطوبة زائدة وذلك هو الأنثيان فلذلك ينفذ إليهما العرقان.

قوله: وما يأتي من الأنثيين من الكلية وفيه المجرى الذي ينضج فيه المني بعد احمراره ولكثرة معاطف عروقه وعروق الكلى كما عرفته كثيرة المائية فلذلك يكون فيها دم كثير الرطوبة فيكون ذلك الدم كثير الاستعداد والاستحالة إلى المنوية وذلك إذا خالطه ما يحيله إلى طبيعة المني.

وقد بينا في غير هذا الكتاب أن الأصل في المني والخميرة فيه هو ما ينزل من الدماغ وهذا النازل من الدماغ يخرج من الدماغ في العروق التي عند السحا وتنفذ تلك العروق إلى عظام الصلب فيجري فيها المني مصاحباً للنخاع ليبقى في تلك المنافذ على مزاجه، وهو في الدماغ، ولا يزال ينفذ إلى أسفل حتى ينتهي إلى هذين العرقين فينفذ فيهما، وتحيل ما فيهما من الدم إلى طبيعة المني فلذلك هذان العرقان، وليسا لتغذية الأنثيين فقط بل ولأن يستحيل كثير من الدم الذي فيهما إلى طبيعة المني، وتكمل استحالته إلى ذلك إذا حصل في الأنثيين.

وقد قال الإمام الفاضل أبقراط: إذ نزل المني ووصل إلى مخ عظم الظهر تميز فيه، ثم ينزل في مجار له في الكليتين أعني التي لا تنزل إلى أسفل ولكنها تصعد إلى الكبد، وهي التي إن أصابها شيء من الأوجاع يسيل منها دم، وقوله: التي لا تنزل إلى أسفل يعني التي لا تتعدى الأنثيين إلى أسفل كمالتي تنفذ إلى جهة الرجلين. وقوله: وهي التي إن أصابها شيء من الأوجاع يسيل منها دم، يريد بذلك أن هذه العروق فيها يستحيل الدم إلى طبيعة المنى فإذا عرض له شيء من الأوجاع أي من الأمراض يسيل منها دم عند الإنزال أو يكون ما ينزل حينئذٍ دموياً، وذلك لأجل قصور استحالة الدم الذي فيها إلى المنوية لأجل ضعفها بذلك المرض ولذلك يعرض أيضاً لمن استكثر الجماع أن ينزل منيه دموياً لأنه ينزل حينئذٍ ما لا يكون قد استحكمت استحالته إلى المنوية والله ولي التوفيق.

البحث الثاني الأجوف النازل من حين ما يتوكأ على عظم الصلب إلى أن ينتهي إلى الرجلين قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وبعد نبات الطالعين وصنعتهما يتوكأ الأجوف... إلى قوله: وما يبقى من هذا باقي.

الشرح

قوله: يتوكأ الأجوف عن قرب على الصلب الشرايين والأوردة من شأنها أي أن يتوكأ كل منهما في صعودها ونزولها على عظام الصلب لتكون هذه العظام وقاية لها حيث لا يلحقها حراسة الحواس وارتبط بتلك العظام فتبقى أو ضاع أجزائها محفوظة.

قوله: فإذا انتهى إلى آخر الفقار انقسم قسمين. يريد بقوله: أجزاء الفقار الذي ينتهي عنده، وذلك هو فقار العجز، وفائدة هذا الانقسام أن ينتهي كل قسم منها إلى رجل ولذلك يتابعدان فيكونان على هيئة اللام في كتابة اليونان.

وكل واحد من هذين القسمين ينفصل منه قبل موافاته العجز عشرة عروق وهي التي سماها طبقات، وسماها غيره طوائف وبعضهم سماها أنواعاً.

قوله: يتفرع منها عروق صاعدة إلى الثدي تشارك بها الرحم. فائدة هذه المشاركة أن يكون ما يفضل من دم الطمث عن غذاء الجنين يجد طريقاً للنفوذ إلى الثديين ليستحيل لبناً، ويصير بذلك غذاء للجنين بعد انفصاله ولا يبقى في الرحم فضلاً ويندفع إلى غير الثدي من الأعضاء فيؤذيه وعبارة باقي الفصل ظاهرة. والله ولي التوفيق.

تم القسم الأول بحمد الله ومنه ومن هنا نأخذ في تشريح الأعضاء الآلية مستعيناً بالله وحده.