انتقل إلى المحتوى

سيدنا محمد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
سيدنا محمد
  ► الكتاب في صفحة واحدة؛ انظر النسخة الأخرى {{{6}}}◄  



مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة عن بلاد العرب

بلاد العرب هي شبه جزيرة في الطرف الجنوبي الغربي لقارة آسيا، يحدها شمالا، الشام وفلسطين والجزيرة، وجنوبا، خليج عدن والمحيط الهندي، وشرقا، خليج عُمان والخليج الفارسي، وغربا، خليج ومضيق باب المندب والبحر الأحمر وترعة السويس.

ويبلغ مجموع مساحة شبه جزيرة العرب مليون ميل مربع، وأعظم طول لها 1400 ميل من العقبة إلى عدن.

وبلاد العرب عبارة عن هضبة تنحدر نحو الشرق، وجوّها حار ويبلغ عدد سكانها نحو سبعة ملايين وهي موطن الساميين، وينقسم إلى عدة أقسام، أشهرها، اليمن والحجاز وتهامة ونجد واليمامة وبلاد البحرين.

وتنقسم بلاد اليمن إلى خمسة أقسام: حضرموت وشِحْر ومهرة وعُمان ونجران.

ويُقال: إن سبب تسمية «حضرموت» بهذا الاسم، هو أن حضرموت بن قحطان كان أول من نزلها، وكان اسمه عامرا وإذا حضر حربا أكثر فيها القتل. فصاروا يقولون عنه، حضرموت، فأطلق هذا الاسم على الأرض التي كانت تسكنها قبيلته، ثم أطلق بعد ذلك على جهة متسعة شرقي عدن بالقرب من البحر وهي كثيرة الرمال، ويقال: إن بها قبر هود عليه السلام، ويقال: إن اليمن سمي بذلك لوقوعه عن يمين الكعبة إذا استقبلت المشرق، ومن أشهر مدن اليمن (صنعاء) وهي قاعدته، وكانت عاصمة ملوك اليمن، وبقربها معادن للفحم الحجري لم تستغل للآن. وهي حسنة الأسواق واسعة التجارة وبقربها مدينة (مأرب) المسمَّاة (سبأ) نسبة لعبد شمس الملقب بسبأ، يقال: إنه بنى هناك سدا عظيما وساق إليه السيول من مكان بعيد، وشيد جزءا كبيرا من المدينة على السد المذكور، وفي بعض السنين تراكمت الأمطار فدفعت السد وهلك خلق كثير، فسمي السيل (سيل العَرِم) والعرم هو الذي لا يطاق دفعه، وفي تلك الجهات كتابات بالحرف المسند المعروف بالخط الحميري، ومن مدن اليمن (صعدة) إلى الشمال الغربي من صنعاء.

و(زبيد) إلى الغرب من صنعاء و(بيت الفقيه).

وبلاد الحجاز واقعة في شمالي اليمن، شرقي البحر الأحمر، وتمتد إلى خليج العقبة، وعلى ساحلها جزائر صغيرة تلتجىء إليها صغار السفن عند الحاجة، وسُمِّيَ «حجازا» لوقوعه بين نجد وتهامة.

وأشهر بلاد الحجاز، مكة المسمَّاة قديما عند علماء الإغريق (ماكورابا)، والمدينة المنورة - مدينة الرسول - وكانت تسمى مدينة (يثرب) وبها قبر الرسول وفي شماليها، جبل (أُحد) ويقال للمدينة طيبة ولها أسماء كثيرة، (والطائف) بلدة خصبة، طيبة المناخ، كثيرة البساتين والعيون والجداول واقعة شرقي مكة.

ومن أشهر بلاده خيبر، وهي واقعة بالشمال الشرقي من المدينة على طريق قوافل الشام، وبها سبعة حصون مشهورة عند العرب وهي: ناعم والقموص، حصن أبي الحقيق، وحصن الشق وحصن النطاة، وحصن السلالم وحصن الوطيح وحصن الكتيبة، وتوصف خيبر بكثرة الحمّيات.

وقسم تهامة، وهو على ساحل البحر الأحمر بين اليمن جنوبا والحجاز شمالا، وسُمِّيت تهامة لشدة حرها وركود ريحها.

ونجد، وهو جنوبي الشام وغربي العراق وشرقي الحجاز وشمالي اليمامة، وأراضيها خصبة وقاعدتها مدينة (الرياض) وكانت مركزا للوهابيين، وهدمها المرحوم إبراهيم باشا. وإلى الشمال منها، جبل شمر أي جبل (طي) قصبته مدينة الحائل، وأشهر مدنها (أبانا) وهي التي ولد فيها محمد بن عبد الوهاب، شيخ مذهب الوهابية.

وقسم اليمامة، وهو بين نجد واليمن، ويتصل بالبحرين شرقا، والحجاز غربا، ومن مدنه (اليمامة) وكانت مدينة عظيمة، ذات مياه ونخل، وهي مدينة مسيلمة الكذاب.

ومن أشهر ثغور بلاد العرب، (عَدَن) وهي على الساحل الجنوبي من بلاد العرب، واسعة التجارة، ومَخَا، وهي من الثغور الشهيرة على البحر الأحمر والمركز الأصلي لتجارة اليمن.

والحديدة، وهي من أشهر مدن اليمن، واقعة على البحر الأحمر، وترسو عليها سفن حجاج الهند.

وجُدة، على ساحل الحجاز على بعد 65 ميلا غربي مكة، وهي أحسن ثغور البحر الأحمر.

والعرب أقدم الأمم بعد الطوفان وتُنسب إلى يقظان أو قحطان. وامتاز العرب بالقوة والشجاعة.

وقد قسم المؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام: بائدة وعاربة ومستعربة.

أما البائدة، فهم العرب الأُول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لقدم عهدهم وانقطاع أسباب العلم بآثارهم وهم عاد وثمود وطسَمْ وجَديس وجُرْهم الأولى. وكانت مواطن عاد بأحقاف الرمل بين اليمن وعُمان إلى حضرموت والشحر. ولما انتحلوا عبادة الأصنام أبادهم الله، وأما ثمود فكانت ديارهم بالحجر ووادي القرى بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال وكانوا أهل كفر وبغي، وأما جديس فكانت ديارهم باليمامة وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها ثمارا وحدائق وقصورا، وأما جُرهم الأولى، فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية فكانوا على عهد عاد واندثروا.

وأما جُرهم الثانية، فهم من ولد قحطان، وبهم اتصل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكانت مساكن بني قحطان بالحجاز، ولما أسكن إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل في مكة نشأ بينهم وتزوج منهم وصار يطلق على أولاده العرب المستعربة، لأن أصل إسماعيل ولسانه كان عبرانيا ولذلك قيل له ولولده (العرب).

وأما العرب العاربة، فهم بنو سبأ، واسم سبأ عبد شمس، وقالوا إنه لما أكثر الغزو والسبي، سمي (سبأ) وهو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان لسبأ عدة أولاد، منهم حِمْيَر وكهلان وعمر وأشعر وعاملة، بنو سبأ، وجميع قبائل اليمن وملوكها التبابعة من ولد سبأ، وجميع تبابعة اليمن من ولد حِمْيَر بن سبأ خلا عمران وأخيه موزيقياء فإنهما ابنا عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلب بن مازن بن الأزد. والأزد من ولد كهلان بن سبأ، وقيل لهم (عاربة) لنزولهم بالبادية مع العرب البائدة وتخلقهم بأخلاقهم.

أما من حيث المعتقد في الجاهلية، فكانت العرب أصنافا: فصنف أنكروا الخالق والبعث وقالوا بالطبع والحين والدهر المفني كما أخبر الله عنهم في كتابه العزيز: {وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 24). وصنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (قلله: 15).

وصنف عبدوا الأصنام، وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل، فكان وُدّ لكلب وهو بدومة الجندل، وسُواع لهذيل، ويغوث ويعوق لمذحج ولقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهُبل أعظم أصنامهم وكان على ظهر الكعبة، وكان إساف ونائلة بين الصفا والمروة. وكان منهم من يميل إلى اليهودية. ومنهم من يميل إلى النصرانية. ومنهم من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل. وكان منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الجن. وكانت علومهم: علم الأنساب والأنواء والتواريخ وتعبير الرؤيا. وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت الشريعة الإسلامية بها، فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوج بامرأة أخيه ويسمونه (الضَّيْزَنْ) وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويُحْرِمون ويطوفون ويسعون ويقفون المواقف كلها، ويرمون بالحجارة، وكانوا يكبسون في كل ثلاثة أعوام شهرا ويغتسلون من الجنابة الخ.

وملوك التبابعة هم بنو حمير، وقيل لهم تبابعة لأنه يتبع بعضهم بعضا، كلما هلك واحد منهم، قام آخر. ولم يكونوا يسمون الملك منهم بتبع حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت.

ولم تزل تتوالى الملوك على حمير حتى صار الملك إلى ذي نواس سنة 480م واسمه زُرعة. ولما تغلب على ملك آبائه التبابعة تسمى (يوسف) وتعصَّب لدين اليهودية وحمل عليه قبائل اليمن فاستجمعت معه حمير على ذلك، وأراد أهل نجران عليها وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية، وكان هذا الدين وقع إليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين. ولما كان ذو نواس يدين باليهودية ويتعصَّب لها، اتخذ أخدودا وأضرمه نارا، وكان كل من لم يتهوَّد ألقاه في الأخدود، فقيل له (صاحب الأخدود) ويقال: إن رجلا من أهل نجران أفلت من القتل وسار حتى قدم على قيصر، صاحب الروم يستنصره على ذي نواس، فبعث إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فحاربه النجاشي وهزمه وانقرض أمر التبابعة سنة 529م ودخل أرياط اليمن بالحبشة وأذل حمير وهدم حصون الملك، وعلى ذلك انتهى ملك حمير من اليمن مدة ذي نواس. وبعد ذلك خرج على أرياط أحد رؤساء الحبشة وحاربه وقتله، ثم أقاموا أبرهة ملكا وهو الملقب (بالأشرم) وسيأتي ذكره في قصة الفيل، ولما مات أبرهة، تولى بعده ابنه يكسوم سنة 571م وأذل حمير وقبائل اليمن.

هذا ملخص عن بلاد العرب وتاريخها نقدمه للقراء، وبعدئذ نبدأ بذكر السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصيّ بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بنِ فِهْر بن مالك بن النضر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعدّ بن عدنان.

إن نسب سيدنا محمد لا يختلف النسابون فيه إلى معد بن عدنان كما هو مذكور ها هنا، وإنما اختلف النسابون من عدنان إلى إسماعيل، لكنهم أجمعوا على أنه ينتهي إلى إسماعيل، وكره الإمام مالك رفع النسب إلى آدم لعدم ثبوته، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال: «من ها هنا كذب النسابون».

ومُضر وربيعة هم صريح ولد إسماعيل باتفاق جميع أهل النسب.

وهذا النسب أشرف الأنساب، عن العباس رضي الله عنه أن النبي قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا». وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

مناقب أجداده صلى الله عليه وسلم

النبي من سلالة آباء كرام، وكلهم سادة وقادة، ولهم مكان مكين ومقام بين العرب عظيم، وقد اشتهروا بالحكمة والشجاعة والإقدام والكرم كما يتبين ذلك مما نذكره بالاختصار من مناقبهم وأخبارهم.

فقد كان (معد) صاحب حروب وغارات على بني إسماعيل، ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر، وهو أبو العرب.

وكان (نزار) أجمل أهل زمانه وأرجحهم عقلا.

وكان (مضر) جميلا كذلك، ولم يره أحد إلا أحبه، ومن حكمه المأثورة:

«خير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق».

والفواق ما بين الحلبتين، ومضر أول من حدا للإبل وكان من أحسن الناس صوتا.

وكان (إلياس) في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه، ومن حكمه: «من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة».

وأما (فهر) فإليه جماع قريش، وما كان فوق فهر فلا يقال له قرشي بل يقال له كناني، واسمه قريش، وكان فهر كريما يفتش على حاجة المحتاج فيسدها بماله، وهو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح.

(كعب): وهو الجد الثامن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يجمع قومه يوم العَروبة أي يوم الرحمة وهو يوم الجمعة، فيعظهم ويذكرهم بمبعث النبي وينبئهم بأنه من ولده ويأمرهم باتباعه.

(مُرَّة): وهو الجد السادس لرسول الله والجد السادس أيضا لأبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وفي مُرة أيضا يجتمع نسب الإمام مالك بنسب الرسول

(كلاب): اسمه حكيم، وقيل: عروة، ولقّب بكلاب لأنه كان يكثر الصيد بالكلاب، وهو الجد الثالث لآمنة أمه فهو ملتقى نسب أبيه بنسب أمه، وقيل: إنه أول من سمى الأشهر العربية المستعملة إلى الآن.

(قُصيّ): ولد حوالي سنة 400م اسمه زيد، ويقال له: مُجمِّع، وبه جمع الله القبائل من قريش في مكة بعد تفرّقها فأنزلهم أبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس الجبال بمكة، فقسم منازلهم فسمي مجمعا، وهذا عمل جليل وفضل عظيم لا يتم إلا على يد ذوي النفوس الأبية والهمم العالية، وقُصيّ أول من أوقد نار المزدلفة وكانت توقد حتى يراها من دفع من عرفة، وهو أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم، وقيل: إنما لقِّب قصيا لأنه أُبعد عن أهله ووطنه مع أمه بعد وفاة أبيه، فإنها تزوجت ربيعة بن حرام فرحل بها إلى الشام.

وفيه يقول حذافة بن غانم:

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر

وكان إلى قصيّ في الجاهلية حجابة البيت، وسقاية الحاج، وإطعامه المسمى بالرفادة، والندوة وهي الشورى لا يتم أمر إلا في بيته، ولا يعقد عقد نكاح إلا في داره، ولا يعقد لواء حرب إلا فيها، فكان بيته عبارة عن ناد للعرب، بل هو ملجؤهم في جميع المشكلات سواء كانت هذه المشكلات قومية أم شخصية.

ولما حضرته الوفاة نهى بنيه عن الخمر، ولا بد أنه أدرك مضرتها فنهى أحب الناس إليه عن احتسائها، وتوفي قُصيّ عام 480 فعاش 80 عاما.

ومن كلامه الدال على تجاربه ورجاحة عقله:

«من أكرم لئيما شاركه في لؤمه، ومن استحسن قبيحا تُرك إلى قبحه، ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان، ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان، والحسود هو العدو الخفي»، وإذا كنا نحكم على الإنسان بكلامه فهذا يدل على أن قُصيا كان يبغض اللؤم والقبح بغضا شديدا، وكان شجاعا كارها للغرور والحسد.

(عبد مناف): اسمه المغيرة، وكان يقال له: «قمر البطحاء» لحسنه وجماله، وكانت قريش تسميه الفيّاض لكرمه، وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان والجد التاسع للإمام الشافعي.

(هاشم): واسمه عمرو بن عبد مناف، ويقال له: عمرو العلا لعلو رتبته، وهو أخو عبد شمس، وقد ساد قومه بعد أبيه عبد مناف، وقد وقعت مجاعة شديدة في قريش بسبب جدب شديد حصل لهم، فخرج هاشم إلى الشام فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر جُزُرا وجعل ذلك ثريدا وأطعم الناس حتى أشبعهم فسمي بذلك «هاشما». وكان يقال له: «سيد البطحاء»، والبطحاء مسيل الوادي - ولم تزل مائدته منصوبة في السراء والضراء، وكان موسرا يؤدي الحق ويؤمّن الخائف، وهو أول من سنّ الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة، وفي الصيف إلى الشام، قال الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف

سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهما ** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وقد جاء ذكر الرحلتين في القرآن الكريم بسورة «قريش» قال تعالى: {لإِيلَفِ قُرَيْشٍ إِيلَفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَآء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ} (قريش: 1 - 4).

ومات هاشم بغزة من أرض الشام تاجرا سنة 510م.

(عبد المطلب): وأمه سلمى بنت زيد النجارية. واسم عبد المطلب شيبة الحمد لأنه ولد وله شيبة، مع رجاء حمد الناس له، وإنما قيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب أردفه خلفه وكان بهيئة رثة لفقره فقيل له: من هذا؟ فقال: عبدي، حياءً ممن سأله. وكان عبد المطلب مجاب الدعوة، وكان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال، وهذا إحساس لطيف ورفق بالحيوان الأعجم، ولذا يقال له: «مطعم الطير»، ويقال له: «الفيَّاض». وكان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور وشريفهم وسيدهم كمالا وفعالا، وهو أول من تحنَّث (تعبَّد) بحراء. كان إذا دخل شهر رمضان، صعد حراء وأطعم المساكين. وعاش مائة وعشرين سنة أو أكثر وقد انتهت إليه الرياسة بعد عمه المطلب. وكان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيَّات الأمور. ورفض عبد المطلب في نهاية عمره عبادة الأصنام ووحَّد الله. وقال دغفل النسَّابة: إن عبد المطلب كان أبيض، مديد القامة حسن الوجه في جبينه نور النبوّة وعز الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أُسْد غاب.

وهو الذي كشف عن زمزم بئر إسماعيل، وأقام سقايتها للحجاج، فكانت له فخرا وعزا على قريش وعلى سائر العرب.

وكان يكرم النبي ويعظمه وهو صغير ويقول: «إن لابني هذا لشأنا عظيما»، وذلك مما كان يسمعه من الكهان والرهبان قبل مولده وبعده. وكانت كنية عبد المطلب «أبا الحارث» كني بذلك لأن الأكثر من ولده الذكور كان اسمه الحارث.

أولاد عبد المطلب أعمام رسول الله وعماته

أولاد عبد المطلب عشرة ذكور: عبد الله وأبو طالب «واسمه عبد مناف» والزبير (أمهم فاطمة بنت عمرو المخزومية). العباس - جد الخلفاء العباسيين - وضرار (أمهما نتيلة العمرية). حمزة والمقوم (أمهما هالة بنت وهب). أبو لهب وهو عبد العزى (أمه لُبنى الخزاعية). الحارث (أمه صفية من بني عامر بن صعصعة). الغيداق (أمه ممنعة) واسمه حجل.

وست نسوة وهن: صفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة.

أما (عبد الله) فهو أبو رسول الله ويكنى أبا قثم، وقيل: أبا محمد، وقيل: أبا أحمد، وهو أصغر أولاد عبد المطلب.

وقيل إن عبد المطلب أول من خضب بالوسمة أي السواد، لأنَّ الشّيب أسرع إليه وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر، وكان صعوده للتخلي عن الناس يتفكر في جلال الله وعظمته.

ويؤثر عن عبد المطلب سنن جاء القرآن وجاءت السنّة بها، منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا والحد عليه، وألا يطوف بالبيت عُريان، وتعظيم الأشهر الحرم. وهو أول من سنَّ دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش، ثم نشأت في العرب وأقرَّها رسول الله.

وكان نديمه في الجاهلية حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان، وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب مَن قتله، فلما علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب، ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي حفظا لجواره، ثم نادم عبد الله بن جُدعان التيمي.

نذر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم

كان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العَنَتَ في حفر بئر زمزم لئن ولد له عشر نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرنَّ أحدهم عند الكعبة لله تعالى، ولم يكن له ولد إلا الحارث.

وقد ارتاب بعضهم في حكاية هذا النذر، لكنا لا نرى مندوحة عن ذكرها لأنها وردت في أمّهات كتب التاريخ التي استقينا منها، فقد رواها ابن إسحاق ونقلها الطبري وابن الأثير وابن سعد في «طبقاته».

ولما بلغ أولاد عبد المطلب عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قِدْحا ثم يكتب فيه اسمه. ففعلوا وأتوه بالقداح، فدخلوا على هُبل في جوف الكعبة وكان أعظم أصنامهم، وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة، فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بنيّ هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر، وكان عبد الله أصغر إخوته وأحبهم إلى أبيه، فلما أخذ صاحب القداح يضرب، قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم ضرب صاحب القداح فخرج قدح عبد الله، فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى (إساف ونائلة) وهما الصّنمان اللذان ينحر الناس عندهما، فقامت قريش من أنديتها فقالوا: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أذبحه. فقالت قريش وبنوه: والله لا ندعك تذبحه أبدا حتى تُعذر فيه، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بابنه حتى يذبحه، فقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه.

وقالت قريش وبنوه: لا تفعل، وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بمالك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى أتوها فقصَّ عليها عبد المطلب خبره، فقالت لهم: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها، ثم غدوا عليها فقالت: نعم قد جاءني الخبر فكم دية الرجل عندكم؟ قالوا: عشرة من الإبل وكانت كذلك، قالت: ارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشرا من الإبل واضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرج على صاحبكم فزيدوا في الإبل عشرا ثم اضربوا أيضا حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.

فخرجوا حتى أتوا مكة ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل فخرجت القداح على عبد الله، فزادوا عشرا فخرجت القداح على عبد الله، فما برحوا يزيدون عشرا وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مئة ثم ضربت فخرجت القداح على الإبل فقال من حضر: قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب ثلاث مرات، فضربوا ثلاثا فخرجت القداح على الإبل فنُحرت، ثم تركت لا يُصدُّ عنها إنسان ولا سبع.

إن خروج القداح على عبد الله في كل مرة حتى بلغت الإبل مئة من غرائب الصدف، ولولا معارضة قريش وبنيه ومشورة الكاهنة لذهب عبد الله قربانا لنذر عبد المطلب، ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظ أبا محمد حتى يظهر محمد رسول الله

قد التجأ عبد المطلب إلى هذا النذر لما عارضه عديّ بن نوفل بن عبد مناف في حفر زمزم وآذاه وقال له: «يا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذّ لا ولد لك؟»، فقال: «أبالقلة تعيّرني فوالله لئن آتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة»، وقيل: سفه عليه وعلى ابنه ناس من قريش ونازعوهما وقاتلوهما فاشتدت بذلك بلواه وكان معه ولده الحارث ولم يكن له سواه، فنذر ذلك النذر الذي ذكرناه.

انصرف عبد المطلب بعد أن نحر الإبل آخذا بيد ابنه عبد الله فمر به على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصيّ وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع عليَّ الآن، فأبى وقال: إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه. وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش، وكان ذا عفة وسماحة، وكانت ولادة عبد الله نحو سنة 545م.

زواج عبد الله

خرج عبد المطلب بعبد الله يريد تزويجه حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زُهرة وهو يومئذ سيد بني زهرة سنّا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، فحملت برسول الله فانتقل النور منه إليها، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه نفسها فقال لها: «ما لك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت عليّ بالأمس؟»، فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة؛ وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن لهذه الأمة نبيّ. وكان تزويج عبد الله من آمنة بعد حفر زمزم بعشر سنين، وكان اسم عبد الله عبد الدار، فلما كان في السنة التي فُدِيَ فيها قال عبد المطلب: «هذا عبد الله» فسماه يومئذ كذلك.

وبعد زواج عبد الله بقليل خرج من مكة قاصدا الشام في تجارة وبعد أوبته منها، نزل بالمدينة وهو مريض وبها أخواله من بني النجار، فأقام عندهم شهرا وهو مريض، وتوفي لشهرين من الحمل بابنه محمد ودفن في دار النابغة في الدار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت وله خمس وعشرون سنة، وهذا هو المشهور، وقيل: ثمان وعشرون سنة، وترك عبد الله جاريته أم أيمن بركة الحبشية، وخمسة جمال وقطعة من غنم، وقد رثته آمنة بهذه الأبيات:

عفا جانبُ البطحاء من آل هاشم ** وجاور لحدا خارجا في الغماغم

دعته المنايا دعوةً فأجابها ** وما تركت في الناس مثلَ ابن هاشم

عشيّةَ راحوا يحملون سريره ** تعاوره أصحابُه في التزاحم

فإن تك غالته المنون وريبُها ** فقد كان مِعطاء كثير التراحم

إن آمنة وعبدالله لم يلدا غير رسول الله ولم يتزوج عبدالله غير آمنة، ولم تتزوج آمنة غيره.

أصحاب الفيل

من الحوادث المهمة التي وقعت عام مولده حوالي سنة 570 من الميلاد قدوم أبرهة الأشرم ملك اليمن إلى مكة لهدم الكعبة وهذه خلاصتها:

إن الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير فلما صار المُلك إلى أبرهة بن الصباح الأشرم، بنى كنيسة عظيمة بصنعاء إلى جنب غُمدان يقال لها القُليس لم ير مثلها في زمانها بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة، فلما تحدث العرب بذلك غضب رجل من النّساءة من بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

والنساءة الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من الأشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من الأشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37)، قال ابن هشام: ليواطئوا ليوافقوا؛ وكان أول من نسأ الشهور على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد الله بن فقيم، وأول الأشهر الحرم «المحرم»، فخرج الكناني حتى أتى القليس «الكنيسة» وتغوّط فيها ليلا ثم خرج فلحق بأرضه، فلما أُخبر بذلك أبرهة غضب وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه (وسُمي هذا العام بعام الفيل) فلما وصل إلى الطائف بعد أن هزم من تعرض له من العرب، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وأحضرها إلى أبرهة، وأرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، فسأل فقيل له عبد المطلب فقال له: إن الملك يقول إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه ولا لنا بذلك طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش فأذن له فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال له: حاجتك؟ فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له، فقال أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حتى كلمتك، أتكلمني عن مائة بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه، فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل فانصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز بالجبال والشعاب تخوفا عليهم معرة الجيش وقد كانوا أكثر من قريش عددا، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هُمَّ إن العبد يمـ ** نع رحله فامنع حِلالك

لا يغلبن صليبهم ** ومحالهمِ غدوا محالك

إن كنت تاركهم وقبـ ** لتنا فأَمرٌ ما بدا لك

فلما تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ فيله الأعظم (محمودا) وهو مجمع على هدم البيت فكانوا كلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى سائر الجهات قام يهرول. ويقال: كان عدد الفيلة في هذه الموقعة ثلاثة عشر فيلا، وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار، واحد في منقاره واثنان في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت، ثم أرسل الله تعالى سيلا فألقاهم في البحر والذي سلم منهم ولى هاربا مع أبرهة إلى اليمن يبتدر الطريق وأصيب أبرهة بتساقط أعضائه وخرجوا به معهم تتساقط أعضاؤه حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قبله، وقيل: أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، ولما مات أبرهة، ملك مكانه ابنه يكسوم سنة 571م.

ونظرا لأهمية هذا الحادث صار العرب يؤرخون به؛ إذ لو تغلب أبرهة على قريش وتم له هدم الكعبة لأدخلت الديانة المسيحية مكة وأُرغم العرب على اعتناقها لأن اليمن كانت تابعة لأمراء الحبشة المسيحيين وأُرغم كثير من أهلها سواء من عباد الأصنام أو اليهود على اعتناق المسيحية وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصيّ بن كلاب لجلالة قصيّ، فلما كان عام الفيل أرخت به.

وقد ذكرت حادثة الفيل في القرآن قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} (الفيل: 1 - 5).

يخبر الله تعالى رسوله بما حدث لأصحاب الفيل أي الجيش الذي سار لهدم الكعبة، ومعهم الفيل وما كان من انهزامهم بما سلطه الله عليهم من جماعات الكير ترمي العدو بحجارة من سجيل، وتفسير السجِّيل، طين يابس أو متحجر. وورد ذكر السجيل أيضا في القرآن في سورة الحجر، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} (الحجر: 74)، أي على قوم لوط، وقال في سورة هود: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ} (هود: 82).

وقد أخطأ من فسّره بالميكروب، لأن اللفظ لا يفيد ذلك في اللغة، وقد فتكت هذه الأحجار الصغيرة بالجيش الهاجم فعاد مهزوما من غير أن يبلغ مأربه، وجعلهم كعصف مأكول أي كورق زرع تأكله الدواب، فلما أصيبوا بهذه الحجارة تساقطت لحومهم، فإن قيل: كيف يتصور أن هذه الحجارة الصغيرة تفتك بالجيش؟ فهذه قدرة الله سبحانه وتعالى، وقد كان قادرا على أن يهزمهم ويردهم من غير أن يسلط عليهم الطير ولكنه جعل ذلك سببا.

وبانهزام الحبشة كما تقدم حفظ الله بيته الحرام من أن يهدم، وقد صار فيما بعد قبلة المسلمين في جميع أقطار الأرض.

مولده صلى الله عليه وسلم 20 أغسطس سنة 570م

ولد النبي في فجر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول 20 أغسطس سنة 570 م (وأهل مكة يزورون موضع مولده في هذا الوقت) في عام الفيل، ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو بن قباذ بن فيروز بمكة في المكان المعروف بسوق الليل في الدار التي صارت تدعى بدار محمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج بن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران أم الهادي والرشيد فجعلته مسجدا يُصلى فيه وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب. ونزل على يد الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف فهي قابلته، رافعا بصره إلى السماء واضعا يده بالأرض. وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل ولا وحم ولا غير ذلك. ولما ولدته أمه عليه الصلاة والسلام أرسلت إلى جده وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له: يا أبا الحارث ولد لك مولود عجيب، فذعر عبد المطلب وقال: أليس بشرا سويا؟ فقالت: نعم، ولكن سقط ساجدا ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء فأخرجته ونظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة وعوَّذه ودعا له ثم خرج ودفعه إليها، وهو الذي سماه محمدا، فقيل: كيف سميت بهذا الاسم وليس لأحد من آبائك؟ فقال: إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم، وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله سنة الفتح والابتهاج فإن قريشا كانت قبل ذلك في جدب وضيق عظيم فاخضرّت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم الرغد في تلك السنة، ومن عجيب ما وقع عند ولادته ما رُوي من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته وذلك إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستبدين بالملك إلا أربعة عشر ملكا، فهلك عشرة في أربع سنين وهلك أربعة إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وغيض بحيرة طبرية بفلسطين إشارة إلى أنه يحصل لأصحابها بأس شديد، وخمود نار فارس وكان على ما يقال لها ألف عام لم تخمد كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في «الهواتف» وابن عساكر. ومن ذلك أيضا ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين ومنعهم من استراق السمع، ولقد أحسن الشقراطيسي حيث قال:

ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ** بشرى الهواتف في الإشراق والطفل

وصَرْح كسرى تداعى من قواعده ** وانقضّ منكسر الأرجاء ذا ميل

ونار فارس لم توقد وما خمدت ** مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل

خرَّت لمبعثه الأوثان وانبعثت ** ثواقب الشهب ترمي الجن بالشهب

وينسب بعضهم ذلك إلى أنه حدث في ذلك الوقت زلزال عظيم، قال اليعقوبي في «تاريخه»: «وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا» الخ، ويُروى أن الرشيد أراد هدم إيوان كسرى فقال له وزيره يحيى بن خالد البرمكي: يا أمير المؤمنين، لا تهدم بناء هو آية الإسلام، وقال البوصيري في الهمزية:

وتداعى إيوان كسرى ولولا ** آية منك ما تداعى البناء

وغدا كل بيت نار وفيه ** كربة من خمودها وبلاء

وعيون للفرس غارت فهل كا ** ن لنيرانهم بها إطفاء

وفي سابع يوم من ولادته عَقَّ عنه جده بكبش.

الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم

قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء، مشعر بمحبة النبي وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى على ما منَّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين.

قال السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. وقال ابن الجوزي: من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، وأول من أحدثه من الملوك، الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل، وألف له الحافظ بن دحية تأليفا أسماه: «التنوير في مولد البشير النذير» فأَجازه الملك المظفر بألف دينار، وصنع الملك المظفر المولد وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عادلا، وقيل: إنه كان يصرف على المولد ثلاثمائة ألف دينار.

وكان السلطان أبو حمو موسى صاحب تلمسان يحتفل ليلة المولد غاية الاحتفال كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله. ومن احتفاله له ما حكاه الحافظ سيدي أبو عبد الله التنسي، ثم التلمساني في كتابه «راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر، وقيل فيه من الأمداح» وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه. إنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة فما شئت من نمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، وبسط موشاة ووسائد بالذهب مغشاة، وشمع كالأسطوانات وموائد كالهالات، ومباخر منصوبة كالقباب يخالها المبصر تبرا مذابا، ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة كأنها أزهار الربيع المنمنمة، فتشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال، وبعقب ذلك يحتفل المستمعون بأمداح المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومفكرات ترغب في الإقلاع عن الآثام يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب، وبالقرب من السلطان رضوان الله تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حُلة يمانية لها أبواب موجفة على عدد ساعات الليل الزمانية فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها وفتح عند ذلك باب من أبوابها وبرزت منه جارية صورت في أحسن صورة، في يدها اليمنى رقعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة فتضعها بين يدي السلطان بلطافة ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة. هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح ونداء المنادي حيّ على الفلاح، انتهى.

وفي زماننا هذا يحتفل المسلمون بيوم مولده في جميع الأمم الإِسلامية، وفي القطر المصري تتلى الأذكار وتوزع الصدقات على الفقراء والمحتاجين، وفي القاهرة يتحرك موكب أرباب الطرق بعد الظهر أمام المحافظة ويسير قاصدا ميدان الاحتفال بالعباسية مجتازا شوارع تحت الربع فالسكرية فالغورية فميدان الإشراقية فالفحامين فالحسينية فالعباسية ويشتد الزحام في هذه الشوارع وتتقدم الموكب كوكبة من فرسان رجال الشرطة وتحف به من الجانبين قوة من رجال الجيش، وقد جرت عادة الحكومة أن تحتفل بهذا اليوم المبارك احتفالا رسميا في العباسية حيث تقام سرادقات للوزارات ويتوجه جلالة الملك أو نائبه إلى مكان الاحتفال وهناك يستعرض الحامية المصرية على أثر وصوله، ثم ينتقل إلى السرادق ويستقبل رجال الطرق الصوفية بأعلامهم وبعدئذ يقصد سرادق شيخ مشايخ الطرق الصوفية فيستمع لتلاوة القصة النبوية وبعد سماعها يخلع على تاليها الخلعة الملكية وتدار المرطبات والحلوى على الحاضرين ثم ينصرف بعد ذلك بموكبه الحافل أثناء قصف المدافع، وفي المساء تنار الزينات المقامة على السرادقات وتطلق الألعاب النارية البديعة، وفي الصباح تعطل الحكومة وزاراتها ومصالحها وتتلى القصة النبوية الشريفة في المشهد الحسيني بحضور محافظ مصر، وقد أبطلت بدع كثيرة بفضل عناية رجال الدين ويقظة رجال الإدارة.

هذا ولا نزال نطالب ولاة الأمور بمنع كل ما يخالف الدين من آثار وما يجري في الموالد عادة لأن ذلك يشوِّه محاسن الإسلام ويفسد المقاصد الشريفة من إقامة مولد رسول الله

أسماؤه صلى الله عليه وسلم

قال رسول الله «إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميّ، وأنا العاقب (والعاقب الذي ليس بعده نبي) وقال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة ونبي التوبة، وأنا المقفى وأنا الحاشر وأنا نبي الملاحم»، وفي «التهذيب»: سمَّاه الله عز وجل في القرآن رسولا، نبيّا شاهدا، مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ورؤوفا رحيما، وجعله رحمة ونعمة وهاديا ومن أسمائه: الفاتح، وطه، ويس، وعبد الله وخاتم الأنبياء والمختار، وكنيته أبو القاسم وكناه جبريل «أبا إبراهيم».

مرضعاته صلى الله عليه وسلم

أرضعته من النساء ثمان وقيل أكثر، أولاهن أمه آمنة ثم ثويبة الأسلمية جارية عمه أبي لهب التي أعتقها حين بشرته بولادته أياما قبل قدوم حليمة، وخولة بنت المنذر وأم أيمن، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة من العواتك.

وأكثرهن إرضاعا له حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وتكنَّى أم كبشة. وكان من عادة العرب إذا ولد لهم مولود أن يلتمسوا له مرضعة من غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له، فجاءت نسوة من بني سعد إلى مكة يلتمسن الرضعاء ومعهن حليمة السعدية في سنة شديدة القحط، فكل امرأة أخذت رضيعا إلا حليمة وقد كانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها - الحارث بن عبد العزى - وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضعاء، قالت: وهي سنة شهباء لم تبق لنا شيئا، فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثدييّ ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل لها: إنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده؟ فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا فقلت لزوجي: والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فقال: لا بأس عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، فلما أخذته رجعت به إلى رحلي فلما وضعته في حجري أقبل على ثدييَّ بما شاء من لبن فشرب حتى رُوي وشرب معه أخوه حتى رُوي ثم ناما وما كنا ننام منه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا فبتنا بخير ليلة، وقال صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، فقلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حُمُرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب ويحك اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها شأنا، ثم قدمنا منازلنا في بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح عليّ حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا وما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فلم نزل بها حتى ردته معنا.

شق الصدر

قالت حليمة: فرجعنا فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بَهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو؟.

قالت: فرجعنا إلى خبائنا وقال لي أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلت: قد بلغ الله بابني وقضيت الذي عليَّ وتخوفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين، قالت: ما هذا شأنك فأصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لابني لشأنا أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي به قصور بُصرى من أرض الشام، ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة.

كان أول ما شق صدره عليه الصلاة والسلام في السنة الثالثة من عمره، وقيل: في الرابعة وذلك لتطهيره وإخراج حظ الشيطان منه، وشق صدره ليلة الإسراء كما رواه البخاري، ويقول مؤرخو الإفرنج ومنهم الأستاذ نيكولسون في كتابه «تاريخ أدب العرب» صفحة (147 - 148) طبعة 1907 وكذا الأستاذ موير في كتابه «حياة محمد» إن هذه نوبة صرعية، وهذا مردود لأنه لم تُشاهد فيه علامات الصرع طول عمره.

وإلى قصة إرضاعه يشير صاحب الهمزية حيث يقول:

وبدت في رضاعه معجزات ** ليس فيها عن العيون خفاء

إذ أبته ليتمه مرضعات ** قلن ما في اليتيم عنا غناء

فأتته من آل سعد فتاة ** قد أبتها لفقرها الرضعاء

أرضعته لبانها فسقتها ** وبنيها ألبانهن الشاء

أصبحت شوّلا عجافا وأمست ** ما بها شائل ولا عجفاء

أخصب العيش عندها بعد محل ** إذ غدا للنبيِّ منها غذاء

يا لها منة لقد ضوعف الأجـ ** ـر عليها من جنسها والجزاء

وإذا سخّر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء

الحض على قتله صغيرا

وكانت حليمة كلما مر جماعة من اليهود وحدثتهم بشأنه حضوا على قتله وكلما عرضته على العرافين في الأسواق، صاحوا بقتله وكانوا يقولون: اقتلوا هذا الصبيّ فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم، وعن حليمة رضي الله عنها أنه مر بها جماعة من اليهود فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا حملته أمه كذا ووضعته كذا ورأت عند ولادته كذا وذكرت لهم كل ما سمعته من أمه وكلّ ما رأته هي بعد أن أخذته وأسندت الجميع إلى نفسها كأنها هي التي حملته ووضعته، فقال أولئك اليهود بعضهم لبعض: اقتلوه، فقالوا: أوَ يتيم هو؟ فقالت: لا، هذا أبوه وأنا أمه، فقالوا: لو كان يتيما قتلناه لأن ذلك عندهم من علامات نبوته، وعن حليمة أيضا رضي الله عنها أنها نزلت به بسوق عكاظ وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة، المحل المعروف، كانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذا السوق شهر شوال يتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون، فلما وصلت به حليمة سوق عكاظ رآه كاهن من الكهان فقال: يا أهل عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له مُلكا، فمالت به وحادت عن الطريق فأنجاه الله.

وقد رأت حليمة السعدية من النبي الخير والبركة وأسعدها الله بالإسلام هي وزوجها وبنوها.

وفاة آمنة

بعد أن ردت حليمة رسول الله خرجت به أمه مرة إلى المدينة سنة 575 - 576م لزيارة أخواله من بني النجار، أي أخوال جده عبد المطلب فمرضت وهي راجعة به، وماتت ودُفنت بالأبواء بين مكة والمدينة وعمره ست سنين وكان عمر آمنة حين وفاتها ثلاثين سنة.

وفي الحديث: أن رسول الله زار قبر أمه بالأبواء في ألفِ مُقَنَّعِ، فبكى وأبكى، أي في ألف فارس مغطى بالسلاح.

فحضنته أم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه وحملته إلى جده عبد المطلب بن هاشم الذي كان يحبه ويكرمه فقد كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له فكان رسول الله يأتي وهو غلام حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: «دعوا ابني فوالله إن له لشأنا». ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.

وبوفاة أمه صار يتيما وقد أُشير إلى يتمه في القرآن قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوَى} (الضحى: 6)، وفي السنة التي استقل جده فيها بكفالته رمد الرسول رمدا شديدا.

عبد المطلب يهنىء سيف بن ذي يزن

لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي أتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جُدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غُمدان - بضم الغين - فطلبوا الإذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئا. ولما فرغ أدناه وقربه ثم استنهضوا إلى دار الضيافة وقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الانصراف، ثم انتبه إليهم انتباهة فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه وقال:

«يا عبد المطلب إني مفوض إليك من علمي أمرا لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه فليكن مصونا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره، إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة».

قال عبد المطلب: «مثلك يا أيها الملك برّ، وسرّ، وبشّر، ما هو؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر».

قال ابن ذي يزن: «إذا ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم القيامة».

قال عبد المطلب: «أبيت اللعن لقد أُبت بخير ما آب به أحد فلولا إجلال الملك لسألته عما سارّه إلى ما ازداد به سرورا».

قال ابن ذي يزن: «هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه وقد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض، يخمد الأديان، ويكسر الأوثان ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل، وأمره حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله».

فقال عبد المطلب: «طال عمرك، ودام ملكك، وعلا جدك، وعز فخرك، فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟».

فقال ابن ذي يزن: «والبيت ذي الطنب، والعلامات والنصب، إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب».

فخرَّ عبد المطلب ساجدا، وقال ابن ذي يزن: «ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟».

فقال عبد المطلب: «أيها الملك، كان لي ابن كنت له محبا وعليه حدبا مشفقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه، يقال لها: آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه».

قال ابن ذي يزن: «إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، إطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة، فيبغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره. فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنّه وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن تقصير مني بمن معك».

ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: «إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره».

فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: «يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره ولعقبي»، فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين، اهـ.

وفي «أسد الغابة» أن سيف بن ذي يزن أدرك النبي وأخبر جده عبد المطلب بنبوة محمد

كانت اليمن تابعة للحبشة فكره أهلها حكمهم ونهض سيف بن ذي يزن لاسترداد عرش آبائه فسعى لدى الإمبراطورية الرومانية لشد أزره فلم يفلح فالتجأ إلى ملك الفرس فأمده بجيش فحارب الحبشة وانتصر عليها وقتل واليها الذي كان يدعى مسروقا وذلك حوالي سنة 575م ويوافق العام الذي توفيت فيه آمنة أم رسول الله فليس هناك اعتراض على ذهاب الوفود العربية لتهنئة ابن ذي يزن من الوجهة التاريخية، أضف إلى ذلك أن الواجب يقضي على رؤساء العرب بذلك لقرابتهم وجوارهم واشتراك مصالحهم التجارية لأنهم كانوا يرحلون إلى اليمن للتجارة في الشتاء كما كانوا يرحلون إلى الشام صيفا.

وقد اعترض الأستاذ «فيل» Weil على صحة القصة المتقدّمة من الوجهة التاريخية وفيما شرحه الأستاذ «برسيفال» M.C. de Perceval رد على اعتراضه لأنه أثبت انهزام الحبشة لأول مرة في سنة 575م وإن كانت لم تطرد نهائيا من اليمن إلا سنة 597م، أما الأستاذ موير فإنه لم يستطع تكذيب ذهاب الوفود ومعهم عبد المطلب (الذي كان وقتئذ حاكم مكة) تكذيبا باتّا بل قال: إن القصة تشمل مبالغات كثيرة فيما يتعلق بالإخبار عن النبي المنتظر وهذا ما جعله يرتاب فيها، على أن المتتبع للسيرة النبوية يجد أن هذه القصة ليست فريدة في بابها من حيث الإخبار برسول الله فإن ما أخبر به سيف عبد المطلب قاله بحيرى لأبي طالب وعرفه سلمان الفارسي وأذاعه أحبار اليهود مما سنعنى بذكره مفصلا في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

ولعل ما أخبر به ابن ذي يزن عبد المطلب كان من الأسباب التي جعلت عبد المطلب يكرم النبي ويقول لأولاده إذا نحّوا رسول الله عن مجلسه لصغره: (دعوا ابني فوالله إن له لشأنا).

إن الطفل الصغير، ذا المستقبل العظيم، تظهر عليه آيات العظمة والذكاء منذ نعومة أظفاره، ويكون له جاذبية خاصة تميزه عن سائر الأطفال بل تميزه عن إخوته إذا كان له إخوة، ويكون محبوبا مفضلا على غيره أينما حل، وهذا هو شأن عظماء الرجال كما تلونا من سيرهم.

فكان عبد المطلب، جد رسول الله يرعاه رعاية خاصة ويؤثره على أولاده بسبب تلك الجاذبية والعظمة الكامنة فيه منذ الصغر، وهذه العظمة كانت تزداد وضوحا كلما ترعرع وكبر، وقد ثبت مما رواه الصحابة أن رسول الله كانت له جاذبية غريبة فكانوا يحبونه محبة فائقة ولا يخالفون له أمرا.

إن عبد المطلب لم يكن يعلم أن محمدا، ذلك الطفل الصغير، سيكون رسول الله، لكنه كان يشعر في قرارة نفسه بتلك الجاذبية التي لازمته طول مدة حياته وبتلك العظمة الكامنة فيه، وهذا هو السر في محبته وشدة رعايته له ولا سيما أن عبد المطلب كان رجلا عظيما جليلا ذا فطنة وفراسة فكان يقول لأولاده:(دعوا ابني فوالله إن له لشأنا).

وفاة جده عبد المطلب سنة 578 م وكفالة عمه أبي طالب

لما بلغ رسول الله ثماني سنوات توفي جده عبد المطلب بمكة سنة 578 م بعد عام الفيل بثماني سنين وله عشر ومائة سنة، وقيل أكثر من ذلك، وكان رسول الله يبكي خلف سريره ودُفن بالحجون، جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصيّ، ولما حضرته الوفاة أوصى به إلى عمه شقيق أبيه «أبي طالب» واسمه عبد مناف وعبد الكعبة وكان كريما لكنه كان فقيرا كثير الأولاد، وكان يرى منه الخير والبركة ويحبه حبا شديدا ولذا لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج به متى خرج، وأوصى عبد المطلب إلى أبي طالب أيضا بسقاية زمزم وإلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة.

وفي هذه السنة مات حاتم الطائي وكسرى أنوشروان.

وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال:

قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب فهلم فاستسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى تجلت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة (جمع غلام مصغر) فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ الغلام بأصبعه (أشار بأصبعه إلى السماء كالمتضرع الملتجىء) وما في السماء قزعة (قطعة من سحاب) فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق (كثر مطره) وانفجر الوادي وأخصب النادي وفي ذلك يقول أبو طالب مادحا النبي

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثِمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم ** فهم عنده في نعمة وفواضل

(الثِمال) بكسر المثلثة الملجأ والغياث، وقيل: المطعم في الشدة، (عصمة للأرامل) أي يمنعهم من الضياع والحاجة، هذان بيتان من قصيدة طويلة لأبي طالب، وقد شاهد أبو طالب هذا الاستسقاء فنظم هذه القصيدة وقد شاهده مرة أخرى قبل هذه، فروى الخطابي حديثا فيه أن قريشا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس (بالتصغير اسم الجبل المشرف على مكة) فقام عبد المطلب واعتضده فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام فقال أيفع أو قرب ثم دعا فسقوا في الحال، فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال أعني قوله: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه».

وكان الاستسقاء في الجاهلية الأولى بخلاف هذه الطريقة فكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات واشتد الجدب واحتاجوا إلى الأمطار يجمعون بقرا معلقة في أذنابها وعراقيبها السلعَ والعُشر ويصعدون بها إلى جبل وعر ويشعلون فيها النار ويفرقون بينها وبين أولادها ويسوقون البقر إلى ناحية المغرب دون سائر الجهات وتسمى هذه النار التي يشعلونها نار الاستمطار، قال ابن أبي الحديد: وإنما ضرموا النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ويضجون بالدعاء والتضرع وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث.

كان عبد الله أبو رسول الله وأبو طالب من أم واحدة، ورُوي أن أبا طالب قال لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه؟ فقال: بلى، فقال: إني ضممته إليّ فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا آتمن عليه أحدا، إني كنت أنوّمه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني، وقال: يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب، والله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني: ها أنا يا عم فأرجع ولقد كنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عند مضي بعض الليل، وكنا لا نسمّي على الطعام والشراب ولا نحمد بعده وكان يقول في أول الطعام: باسم الله الأحد، فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله، فتعجبت منه ثم لم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف مع صبيان يلعبون.

السفر إلى الشام سنة 582م

لما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة، خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام في ركب للتجارة سنة 582م فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وهي قصبة حوران وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان وكان ببصرى راهب يقال له بَحِيرا في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهبا، إليه يصير علمهم عن كتاب يتوارثونه كابرا عن كابر.

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام نزلوا به قريبا من صومعته، فصنع لهم طعاما كثيرا وذلك عن شيء رآه وهو في صومعته.

فقد رأى رسول الله في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصانها (مالت) على رسول الله حتى استظل تحتها.

فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم.

قال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا: صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم. فاجتمعوا وتخلف رسول الله من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده قال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي، قالوا: يا بحيرا ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلاما وهو أحدث القوم سنّا فتخلف في رحالهم. فقال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. ثم قام إليه رجل من قريش فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرا فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعُزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟ وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فأبى رسول الله أن يستحلفه بهما، فقال له بحيرا: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله ومن نومه وهيئته، فجعل رسول الله يخبره بخبره فيوافق ذلك ما عند بَحيرا من صفته ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه وكان مثل أثر المحجمة (يعني أثر المحجمة القابضة على اللحم حتى يكون ناتئا) فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال له بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنّه شرا فإنه كائن له شأن عظيم، فأسرع به إلى بلده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

إن بحيرا لما عرف رسول الله تخوّف عليه من اليهود فنصح لأبي طالب بالرجوع به سريعا والمحافظة عليه، وقد روت حليمة أن اليهود كانوا إذا رأوه وعرفوه حضّ بعضهم بعضا على قتله حتى إنها كانت تضطر إلى الاختفاء به والابتعاد عنهم، وعلى كل حال كانوا ينتظرون في ذلك الوقت ظهور نبيّ وكان بعض المتعمقين في الدين يعرفون علامات ذلك النبي، وسنذكر فيما بعد أوصافه المذكورة في التوراة ولا شك أن عالما مثل بحيرا كان يعرفها.

الرد على مستر موير

قال مستر ويليام موير في كتابه (حياة محمد) بشأن رحلته مع عمه إلى الشام:

«إن جميع الذين دونوا سيرة الرسول قد ذكروا تفاصيل كثيرة مضحكة عن هذه الرحلة تدل على عظمة نبوته المنتظرة».

ثم أورد قصة سفره كما ذكرت في هذا الكتاب وكما ذكرها المؤرخون، وإنا لا ندري لماذا كانت هذه التفاصيل مضحكة في نظر مستر موير إنه يعترف بأن جميع المؤرخين رووا هذه التفاصيل ولا شك أنه يستقي منهم سيرة الرسول، ومن بينهم من يعتمد عليه ويحتج بكلامه ويرفض ما يريد رفضه إذا لم تكن الحادثة أو الرواية واردة في كتبهم أو إذا طرأ تحريف في نص كلامهم، فهو يعوّل مثلا على ابن إسحاق وعلى الطبري والواقدي وغيرهم فكان الواجب عليه باعتبار كونه مؤرخا أن يقر هذه التفاصيل التي ذكرها جميع المؤرخين بلا استثناء، هذا وليس لديه رواية أثبت من روايتهم تعارض أو تنفي ما ذكروه، أما كون هذه التفاصيل مضحكة، فهذا ما لم يقل به أحد من أكابر المؤرخين الذين استمد منهم مادته، وكان ينبغي عليه أن يقدر موقفه ويعلم أنه إنما يكتب تاريخ نبي لا شخص عادي، فالأنبياء والرسل تقع في حياتهم أمور خارقة تدل على نبوتهم وتؤيد رسالتهم فالتي تقع قبل النبوة كالخوارق التي حدثت في مولده وما شاهدته حليمة من تيسير الرزق والبركة وشق الصدر وما حدث أثناء سفره إلى الشام تسمى إرهاصات، والتي تقع بعد النبوة تسمى معجزات، وكرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء غير أنهم لم يدعوا النبوة، ويجب الإيمان بالأولياء قال تعالى: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: 62)، ولا شك أن محمدا وقعت منه خوارق العادات قبل النبوة وبعدها ولا سبيل إلى إنكار مجموع إرهاصاته ومعجزاته، أولا: من الوجهة التاريخية لأن معاصريه وكبار الصحابة قد شاهدوها ورووها ورواها عنهم كبار المؤرخين ولو أبطلنا مشاهدتهم وروايتهم لم يبق للتاريخ قيمة، ثانيا: من الوجهة الدينية لأن الدين يقر معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، فمن ذلك معجزات عيسى عليه السلام فإنه تكلم في المهد صبيا وأبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الميت. ومع ذلك لم يقل أحد من المسلمين إن هذه أمور مضحكة، وكذا معجزات موسى عليه السلام وهي مذكورة في التوراة والقرآن.

وفي العالم أناس ليسوا بأنبياء ولا أولياء تراهم في كل زمان ممتازين على أبناء جيلهم يأتون أعمالا يستحيل على غيرهم الإتيان بمثلها، ولقد شاهدنا في مصر فتى أميّا من أبناء أحد المزارعين ذاع صيته ونشرت الجرائد صورته، هذا الطفل يضرب أرقاما طوالا وينطق بالجواب الصحيح بسهولة وبسرعة مدهشة من غير أن يخط بقلم، وقد رأيته شخصيا أكثر من مرة وحار فيه علماء الرياضة وامتحنه كبار رجال الحكومة والصحافة، فهذا إنسان عاديّ له موهبة خاصة أذهلت عقول الخاصة، فكيف يمكن إنكار هذه الموهبة الخارقة والفتى لا يزال حيّا بين ظهرانينا يحل المسائل في الطرق ويجيب كل سائل.

فإذا جاء رجل مثل مستر موير بعد ذلك بجيل أو أكثر وزعم أن هذه خرافة مضحكة ابتدعها المصريون، لم يغيِّر ذلك شيئا من الحقيقة.

وقد تواترت الروايات أن زكريا عليه السلام كان يجد عند مريم فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم كان فعلا خارقا للعادة، ولم يقل أحد إن ذلك مضحك.

ويُروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا وصوّره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال تعالى: {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران: 49)، فهل قال أحد إن هذا أمر مضحك؟ فلماذا يستبعدون الإرهاصات والمعجزات على رسول الله؟ وروى القرآن أن عيسى تكلم في المهد، وقد سأله الحواريون أن ينزل عليهم مائدة من السماء فسأل عيسى الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون عيدا لهم وآية من الله فاستجاب الله دعاءه، فهل قال المسلمون إن هذا مضحك؟.

من هو بحيرا

كان بَحيرا الذي مر ذكره راهبا مسيحيا في الشام في ذلك الوقت وقد ذكر في «الآداب البيزنطية» أنه راهب نسطوري على مذهب أريوس ونسطور، وكان ينكر لاهوت المسيح ويقول إن تسميته بإله غير جائزة بل يجب أن يدعى كلمة وأن تدعى والدته مريم والدة الناسوت الذي هو مظهر الكلمة السامي لا والدة الله. وكان بحيرا قسّا فلكيا منجما وقد اتخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وأقام هناك مدة تمر عليه العربان والقوافل فكان يأمرهم بعبادة الله الواحد وينهاهم عن عبادة الأصنام، له تلميذ اسمه مذهب، وكان من جملة المتتلمذين له سلمان الفارسي قبل إسلامه، ولإسلامه قصة غريبة ستذكر في موضعها.

قال مذهب: إن بحيرا توفي قتيلا بدسيسة بعض يهود أشرار، ومعنى بَحيرا في السريانية عالم متبحر، وجاء في «دائرة المعارف الإسلامية» أن اسم بحيرا مشتق من الكلمة الآرامية بحيرا ومعناها المنتخب فهو لقب له، قيل: إن اسم بحيرا المسيحي هو سرجيوس أو جرجيوس.

رعية رسول الله الغنم بمكة

قال رسول الله «ما من نبي إلا قد رعى الغنم»، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا»، وقال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط»، وعن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي نجني الكَباث فقال: «عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذ كنت راعي الغنم»، قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: «نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها»، قيل: من حكم ذلك أن راعي الغنم التي هي من أضعف البهائم تسكن في قلبه الرأفة واللطف فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولا.

حرب الفجار

(580 - 590)

أيام الفجار أربعة، فالفجار الأول كان بين كنانة وهوازن، والثاني بين قريش وكنانة، والثالث بين كنانة وبني نضر بن معاوية ولم يكن فيه كبير قتال، والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها وهوازن وكان بين هذا الأخير ومبعث النبي خمس وعشرون سنة، وقد شهد النبي الفجار الأخير وهو ابن خمس عشرة سنة وكان سببها أن النعمان بن المنذر أمير الحيرة بعث بلطيمة له إلى سوق عكاظ للتجارة وأجارها له عروة الرجال من بني هوازن فنزلوا على ماء يقال له أوراة، فوثب البرَّاض، خليع من بني كنانة على عروة فقتله وهرب إلى خيبر فاستخفى بها ولقي بشر بن أبي خازم الأسدي الشاعر فأخبره الخبر وأمره أن يعلم ذلك عبدالله بن جدعان وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية ونوفل بن معاوية الديلي وبلعاء بن قيس، فوافى عكاظ فأخبرهم فخرجوا موائلين منكشفين إلى الحرم وبلغ قيسا الخبر آخر ذلك اليوم فقال أبو براء رئيس هوازن: ما كنا من قريش إلا في خدعة فخرجوا في آثارهم فأدركوا وقد دخلوا الحرم فناداهم رجل من بني عامر يقال له الأردم بن شعيب بأعلى صوته: إن ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل وأنا لا نأتلي في جمع.

ولم تقم تلك السنة سوق عُكَاظ فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش سنة يتأهبون لهذه الحرب وتأهبت قيس عيلان ثم حضروا من قابل ورؤساء قريش: عبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية وأبو أحيحة سعيد بن العاص وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل ومعمر بن حبيب الجمحي وعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وخرجوا متساندين ويقال بل أمرُهم إلى عبد الله بن جدعان وكان في قيس أبو براء عامر بن مالك بن جعفر وسبيع وربيعة بن معاوية النضري ودُريد بن الصِّمّة ومسعود بن معتب وأبو عروة بن مسعود وعوف بن أبي حارثة المري وعباس بن رعل السلمي، وهؤلاء هم الرؤساء والقادة، ويُقال: بل كان أمرهم جميعا إلى أبي براء وكانت الراية بيده وهو الذي سوَّى صفوفهم فالتقوا فكانت الدبرة (الهزيمة) أول النهار لقيس وكنانة على هوازن ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس فقتلوهم قتلا ذريعا حتى نادى عتبة بن ربيعة يومئذ - وإنه لشاب ما كملت له ثلاثون سنة - إلى الصلح فاصطلحوا على أن يدوا القتلى وودت قريش لقيس ما قتلت فضلا عن قتلاهم ووضعت الحرب أوزارها فانصرفت قريش وقيس.

قال رسول الله وذكر الفجار فقال: «قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن أفعل»، وقال رسول الله «كنت أنبل على أعمامي» يعني أناولهم النبل.

حلف الفضول

كان حِلف الفضول منصرف قريش من الفجار وكان أشرف حلف، وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما فتعاقدوا وتعاهدوا بالله لنكونن مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه ما بلّ بحر صوفة، وفي التآسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وعن رسول الله أنه قال: «ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم وإني أعذر به هاشم وزهرة وتيم، تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بلّ بحر صوفة ولو دعيت به لأجبت وهو حلف الفضول».

هل سافر النبي إلى اليمن؟

قال الأستاذ «فيل» الألماني Weil: إن رسول الله سافر في السادسة عشرة من عمره إلى اليمن مع عمه الزبير في رحلة تجارية، ورد عليه الدكتور إشبرنجر Dr. Sprenger إن هذا الخبر ليس له أساس صحيح وإنه لم يجده في الكتب الموثوق بها، والحقيقة كما قال الدكتور إشبرنجر، نعم قد ذكر الطبري رواية جاء فيها: أن خديجة إنما كانت استأجرت رسول الله ورجلا آخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة الخ، غير أنه جاء في الطبري بعد ذلك أن الواقدي قال:«فكل هذا خطأ والمشهور رواية ابن إسحاق وهي رحلته إلى الشام» كذلك لم يسافر الرسول إلى الحبشة بطريق البحر ولا إلى فارس ولا إلى مصر فكل هذا من الأوهام الكاذبة.

ابتعاده صلى الله عليه وسلم عن معايب الجاهلية

كان رسول الله يكره كشف العورة قبل البعثة، وسمع وهو صغير من دار من دور مكة غناء وصوت دفوف في حفلة زواج فنام فما أيقظه إلا حر الشمس، وكان يأبى أن يحضر مع قومه العيد الذي كانوا يقيمونه لصنم يقال له (بوانة) حتى غضب عليه عمه أبو طالب وعماته، ولم يذق شيئا ذبح على الأصنام حتى أكرمه الله برسالته، ولم يدخل في يهودية أو نصرانية، واعتزل الأوثان ونهى عن الوأد وكان يحييها وإذا أراد أحد ذلك أخذ الموءودة من أبيها وتكفّلها، ولم يلعب الميسر ولم يشرب خمرا قط مع أنها كانت منتشرة إلا أن تحريم الخمر ليس من خصائصه بل حرّمها على نفسه كثير في الجاهلية لما في شربها من آفات وسيئات، وحرّمها من أجداده قُصيّ وعبدالمطلب، لكن الإسلام حرّمها تحريما عامّا وسنّ عقوبة لشاربها.

وعادة وأد البنات من أفظع الجرائم التي تقشعر منها الأبدان فحرّمها واستأصل شأفتها الإسلام وطهّر العرب منها، قال تعالى في سورة التكوير: {وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (التكوير: 8، 9).

الرحلة الثانية إلى الشام

595م

لما بلغ رسول الله خمسا وعشرين سنة، قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وهذه عير قومك وقد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فلو جئتها فعرضت عليها نفسك لأسرعت إليك. وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له فأرسلت إليه في ذلك وقالت له: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. فخرج مع غلامها ميسرة وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم بُصرى من الشام وهي مدينة على طريق دمشق فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبيّ وهو آخر الأنبياء، وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلان رسول الله من الشمس فوعى ذلك كله ميسرة وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا أخبرها ميسرة بما قال الراهب نسطور، فلما رأت خديجة الربح الكثير أضعفت له ضعف ما سمت له.

قال مستر موير عند ذكر هذه الرحلة: «إن محمدا لم يكن في وقت من الأوقات طامعا في الغنى، إنما كان سعيه لغيره ولو ترك الأمر لنفسه لآثر أن يعيش في هدوء وسلام قانعا بحالته ولما فكر في رحلة كهذه، ولكن لما عرض عليه عمه السفر شعرت نفسه الكريمة بضرورة تفريج كربة عمه فأجاب طلبه مسرورا.

تزويج رسول الله خديجة رضي الله عنها

كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ امرأة حازمة جلدة شريفة غنية جميلة من أواسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة وبسيدة قريش، وقد عرض كثيرون عليها الزواج فلم تقبل، فلما رجع رسول الله من رحلته إلى الشام، أرسلت إليه من يرغبه في الزواج وقيل: إنها أرسلت أختها، وقيل: أرسلت نفيسة مولاة لها، فقال: «ما بيدي ما أتزوج به»، فقالت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: «فمن هي؟»، قالت له: خديجة، قال: «فأنا أفعل»، فذهبت فأخبرت خديجة فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضر ودخل رسول الله في عمومته فزوجه أحدهم، فقال عمرو بن أسد: «هذا البضع لا يقرع أنفه»، وتزوجها رسولُ الله وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة، وذلك بعد عودته من الشام بشهرين.

وقد حضر رؤساء مضر وحضر أبو بكر رضي الله عنه ذلك العقد، فقال أبو طالب:

«الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد (معدنه) وعنصر مضر (أصله) وجعلنا حضنة بيته وسوَّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم»، فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة فقال:

«الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم؛ وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على كذا» ثم سكت.

فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها عمرو بن أسد:

«اشهدوا عليّ يا معشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد» فقبل النبي النكاح وشهد على ذلك صناديد قريش.

وأولم عليها فنحر جزورا، وقيل: جزورين وأطعم الناس وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وفرح أبو طالب فرحا شديدا وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الغموم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله

قال الواقدي: ويقولون أيضا: إن خديجة أرسلت إلى النبي تدعوه إلى نفسها (تعني التزويج) وكانت امرأة ذات شرف وكان كل قرشي حريصا على نكاحها قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل ونحرت بقرة وخلقته بخلوق وألبسته حلة حبرة ثم أرسل إلى رسول الله في عمومته فدخلوا عليه فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا الحبير؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله، قال: ما فعلت، أنّى أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل، قال الواقدي: وهذا غلط، والثبت عندنا محفوظ من حديث محمد بن عبد الله بن مسلم عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم، ومن حديث ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومن حديث ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس «أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله وأن أباها (خويلد بن أسد) مات قبل الفجار».

تزوج خديجة قبل رسول الله ـ وهي بكر - عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ثم هلك عنها وتزوجها بعده أبو هالة النباش بن زرارة.

وولدت خديجة لعتيق، هندا بنت عتيق وولدت لأبي هالة هندا بنت أبي هالة، وهالة بن أبي هالة، فهند بنت عتيق وهند وهالة ابنا أبي هالة وكلهم أخوة أولاد رسول الله من خديجة.

وبعد زواج رسول الله بخديجة لم يسافر في رحلة للتجارة بل أقام بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة.

وولدت خديجة لرسول الله جميع ولده إلاّ إبراهيم فإنه من مارية القبطية، فأكبر أولاده القاسم وبه كان يُكنى: «أبا القاسم» ثم الطيّب، ثم الطاهر، ثم رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، قال الواقدي: ولم أر أصحابنا يثبتون الطيّب ويقولون هو الطاهر.

تجديد بناء الكعبة

سنة 605م

الكعبة هي بيت الله الحرام، وهو بناء مربع الشكل في وسط المسجد الحرام، بابه مرتفع على الأرض نحو قامة، وقد بنى الكعبة إبراهيم عليه السلام لعبادة الله، وهو رسول من أولي العزم أرسله الله إلى الكلدانيين في جنوب بابل وكانوا يعبدون النجوم والأوثان، ثم ترك إبراهيم قومه حين عصوه وهاجر إلى مدين وهناك أمره الله تعالى بالهجرة بولده إسماعيل، وأمه هاجر إلى بلاد العرب فقصدوا مكة ثم أمره الله ببناء الكعبة. قال السيد الإمام التقي الفاسي: بناء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام الكعبة ثابت بالكتاب والسنّة، وروى الأزرقي في «تاريخه» عن ابن إسحاق أن الخليل عليه الصلاة والسلام لمّا بنى البيت جعل طوله في السماء تسع أذرع وجعل طوله في الأرض من قبل وجه البيت الشريف من الحجر الأسود إلى الركن الأسود إلى الركن الشامي اثنتين وثلاثين ذراعا وجعل عرضه في الأرض من قبل الميزاب من الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي يسمى الآن الركن العراقي اثنتين وعشرين ذراعا وجعل طوله في الأرض من جانب ظهر البيت الشريف من الركن الغربي المذكور اليماني إحدى وثلاثين ذراعا وجعل عرضه في الأرض من الركن اليماني إلى الحجر الأسود عشرين ذراعا، وجعل الباب لاصقا بالأرض غير مرتفع عنها ولا مبوّب حتى جعل لها تبع الحميري بابا.

ومقام إبراهيم عليه السلام بإزاء وسط البيت الذي فيه الباب، قال ياقوت في «معجم البلدان»: إن خصائص الكعبة كثيرة وفضائلها لا تحصى ولا يسع كتابنا هذا إحصاء الفضائل وليست أمة في الأرض إلا وهي تعظم ذلك البيت وتعترف بقدمه وفضله وأنه من بناء إبراهيم حتى اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، وقد بقيت الكعبة على هيئتها من عمارة إبراهيم عليه السلام إلى أن بلغ النبي خمسا وثلاثين سنة من عمره فخافت قريش أن تهدم لتصدع جدرانها بسيل دخلها بعد حريق أصابها وكانت رضما فوق القامة وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جُدة فتحطمت فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش فابتاعوا خشبها وأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة نجار يدعى باقوم مولى سعيد بن العاص وصانع المنبر الشريف فأمروه أن يلي بناء الكعبة وكان ينقل الحجارة معهم فلما بلغ البناء موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضع الحجر موضعه وأرادت كل قبيلة رفعه وتواعدوا للقتال ثم تشاوروا بينهم فجعلوا أول من يدخل من باب بني شيبة يقضي بينهم، فكان أول من دخل رسول الله فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين رضينا به، وأخبروه الخبر فوضع رسول الله رداءه وبسطه على الأرض ثم أخذ الحجر فوضعه فيه ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه»، ففعلوا فلما بلغوا موضعه، وضعه هو بيده الشريفة فرضوا بذلك وانتهوا عن الشرور، وكانت قريش تسمي رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين، لوقاره وهديه وصدق لهجته وبعده عن الأدناس.

وفي كتاب «تهذيب الأسماء»: أن أول امرأة عربية كست الكعبة الحرير، نتيلة أم العباس وسببه أن العباس ضاع وهو صغير فنذرت إن وجدته أن تكسوها فوجدته ففعلت.

تسميته بالأمين صلى الله عليه وسلم

جاء في «دائرة المعارف البريطانية» في ترجمة حياته أن تسميته بالأمين مأخوذة من اسم أمّه (آمنة) وإن كان العرب لا يجعلون علاقة بينهما في هذه التسمية، هذا ما زعمه كاتب الترجمة في دائرة المعارف البريطانية فهو يريد أن يقول: إن العرب لم يسموه أمينا لأمانته بل لأن اسم والدته آمنة فلا فخر ولا فضل، والحقيقة التاريخية هي أنه سمي أمينا لأمانته ولذا استخدمته خديجة في تجارتها فربحت ربحا طائلا ثم تزوجته لثقتها به، وكانوا يستأمنونه على ودائعهم وقد جعله قومه حكما بينهم في بناء الكعبة عن طيب نفس، قال المسيو سيديو Sedillot في كتابه «تاريخ العرب»: «ولما بلغ محمد من العمر خمسا وعشرين سنة استحق بحسن سيرته واستقامة سلوكه مع الناس أن يلقب (بالأمين). وقال موير Muir: إنه لقب بالأمين بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه. وكتب لفظة أمين بالإنجليزية هكذا: Faithful.

وكان أهل مكة يستأمنونه ويودعون عنده ودائعهم إلى أن هاجر إلى المدينة وترك عليا مكانه فبقي حتى رد الودائع إلى أربابها ثم هاجر.

خلقه صلى الله عليه وسلم في طفولته وشبابه

الأخبار عن حاله في طفولته قليلة غير مستفيضة لعدم العناية بتدوين السيرة وقتئذ، ونذكر هنا أنه كان في صغره يلعب ذات مرة مع غلمان قريش فكانوا يحملون الحجارة في أُزُرهم فتبدو عوراتهم، فخالفهم وصار يحملها على رقبته لئلا ترى عورته.

وعن عليّ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: «ما هممت بقبيح مما همَّ به أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بالنبوة إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله عز وجل من فعلهما: قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فلما جئت أدنى دار من مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة، فلهوت بذلك الصوت حتى غلبني النوم فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك».

إن الله إذا أراد أن يحفظ شخصا، سد عليه أبواب الملاهي والفساد وأوجد العقبات في طريقها وصده عن سبيلها بكيفية لا تخطر على بال، لذلك سلط جل شأنه عليه النعاس حتى لا يشاهد شيئا مما كان يجري في أفراح الجاهلية من لهو وفرح وخمر وما شاكل ذلك، ليبقى نقيا طاهرا من كل شائنة بل من كل ريبة.

وعن أم أيمن قالت: كانوا في الجاهلية يجعلون لهم عيدا عند بوانة، وهو صنم من أصنام مكة تعبده قريش وتعظمه وتنسك أي تذبح له وتحلف عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك. قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه أشد الغضب وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا وما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب معهم، ثم رجع فزعا مرعوبا، فقلن: ما دهاك؟ فقال: إني أخشى أن يكون بي لمم (أي لمة وهي المس من الشيطان)، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ فقال: «إني كلما دنوت من صنم تمثَّل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: «وراءك يا محمد لا تمسه»، قالت: فما عاد إلى عيدهم حتى تنبأ

ولم يذق شيئا ذبح على الأصنام، وقيل له عليه الصلاة والسلام: هل عبدت وثنا قط؟ قال: «لا»، قالوا: هل شربت خمرا؟ قال: «ما زلت أعرف أن الذي هُم عليه كفر»، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان (أي كيفية الدعوة إليهما)، وعنه «لما نشأتُ بغضت إليّ الأصنام والشعر».

وكان عليه الصلاة والسلام يرعى الغنم في صغره لزيادة الرحمة في قلبه فكان يرعاها لأهل مكة كما تقدم.

وحضر النبيُّ حرب الفجار، قيل: وكان له من العمر 14 سنة وكان يناول عمومته السهام.

وحضر حلف الفضول.

ولما سافر إلى الشام في تجارة لخديجة - رضي الله عنها - ظهرت أمانته ونجح في تجارته وربح ربحا طائلا، قال ميسرة غلام خديجة: يا محمد اتجرنا لخديجة (كذا سفرة) ما رأينا ربحا قط أكثر من هذا الربح. وقد أحبه ميسرة حبا عظيما لما رآه من أمانته وحسن أخلاقه.

ومما يدل على رجاحة وحضور بديهته لحل المشكلات، الطريقة التي ابتكرها لإشراك المتنازعين في وضع الحجر الأسود.

وقد وثقت به خديجة لما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه فاستأجرته ليتاجر بها وضاعفت له الأجر، كانت - رضي الله عنها - امرأة عاقلة شريفة فلما عاد وأخبرها غلامها عن حميد صفاته دعته عليه الصلاة والسلام وقالت له: إني رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك وأمانتك عندهم وحسن خلقك وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها فلما تزوجها كان مثال الزوج الصالح وكان موضع احترامها وتقديرها، يدل على ذلك قولها له بعد نزول الوحي وهي تهدىء روعه: «والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق» وقد كانت أول من آمن به، وقال رسول الله في حقها: «أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم» (امرأة فرعون). وكان رسول الله يثني عليها كثيرا أمام عائشة - رضي الله عنها - حتى أدركتها الغيرة، فالوفاق بينهما في المعيشة الزوجية كان بالغا حده ولا شك أن هذا من حسن الخلق وصفاء السيرة والسريرة. ولما أدركت عائشة - رضي الله عنها - الغيرة من حسن ثنائه على خديجة قالت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب رسول الله حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء»، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدا. فكان عليه السلام متحليا في صغره وشبابه بخير الخلال وأجل الصفات بعيدا عن الشبهات.

رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثباتها من التوراة والإنجيل

أرسل النبي إلى الناس كافة ناسخا بشريعته الشرائع الماضية، قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ كَآفَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28).

وقال: {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَلَمِينَ نَذِيرا} (الفرقان: 1).

وقد وردت البشارة به في التوراة والإنجيل والزبور.

فجاء في قول يوحنا حكاية عن المسيح عليه السلام (ص14 ف15) ما يأتي:

(إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليطا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم وفيكم).

وفي ص16 ف5: (وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط Paraclete لكن إن ذهبت أرسله إليكم ومتى جاء ذاك يبكِّت العالم على خطيئته وعلى برّ وعلى دينونة، أما على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي وأما على برّ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين، إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه لا يأخذ مما لي ويخبركم).

إن هذه الترجمة رديئة فالأسلوب ضعيف والألفاظ مكررة تكرارا لا مسوغ له والجمل مفككة خالية من الروح ولذا لا يتأثر منها القارىء وترجمة الفارقليط أو البارقليط بالعربية (أحمد) كما قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمُبَشّرا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6)، وقد تصرَّف المترجمون في هذه اللفظة فكانوا تارة ينقلونها عن اللغات الثلاث الأصلية وهي: العبرانية والكلدانية واليونانية بالمغزى وأخرى بالمخلص أو يكتبونها البارقليط كما هي.

ومن يقرأ هذه النصوص وينعم النظر في معناها ومرماها يجد أن عيسى عليه السلام بشر برسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام فسماه فارقليطا آخر يعني رسولا غيره تبقى شريعته إلى قيام الساعة ولا يأتي بعده نبيّ ولا رسول، وقال: إنه إن لم يكن ينطلق لا يأتي الفارقليط وقد بكَّت النبي النصارى واليهود الذين أنكروا نبوة المسيح وأساءوا إليه وحرفوا دينه وقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام الناس كافة إلى الحق وكان لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به أي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، وثبت أنه أخبر بأمور آتية وقد وقع ما أخبر به ومجّد عيسى عليه السلام، وتدل آيات القرآن الكريم على ما ورد في الإنجيل فإن النبي (الفارقليط الذي أتى بعد عيسى عليه السلام) لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به وأنه يرشد إلى الحق. قال تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعا مّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الأحقاف: 9)، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحا مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَنُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُورا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52)، {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (محمد: 2)، {تَلْكَ ءايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَتِهِ يُؤْمِنُونَ} (الجاثية: 6).

وإذا كان الفارقليط لا يشير إلى محمد رسول الله فإلى من يشير إذن؟ وأين الذي جاء بعد عيسى عليه السلام؟ ومن هو الذي بكّت العالم على خطيئته ومن هو روح الحق الذي لا يتكلم من نفسه الخ، أليس هو رسول الله

وجاء في وصية موسى الكليم عليه السلام كما في ص23 ف2: من التثنية ولفظه:

(قال: جاء الرب من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سِنة من نار، أحب الشعوب جميع الأطهار بيده والذين يقتربون من رجليه يقبلون من تعليمه).

هذه الوصية هي آخر وصايا موسى عليه السلام، وقد أخبر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ووضح لهم أن الله جاء من سيناء وأوصاكم بواسطتي باتباع التوراة ويستشرق عليكم بواسطة عيسى من ساعير وهي جبال فلسطين فلم يبق إلا أن يستعلن من جبال فاران (والمراد بها مكة وهي البلدة التي سكنها إسماعيل) وألوف الأطهار هم الصحابة رضوان الله عليهم، في يمينه سِنة من نار وهي الشريعة الإسلامية لأنها أحرقت المشركين.

ولما كان من المهم أن نعرف مكان فاران التي وردت في وصية موسى بحثت عنها في أشهر المراجع الموثوق بها فقد جاء في «معجم ياقوت» جزء 6 صفحة 323 طبع مصر سنة 1324 (فاران هي من أسماء مكة ورد ذكرها في التوراة قيل: هي اسم لجبال مكة). وجاء في كتاب «صفة جزيرة العرب» للهمداني طبع ليدن 1883 صفحة 170: وأما معدن فران فإنه نسب إلى فَرانَ بن بَليّ بن عمرو كما قيل في جبال الحرم جبال فاران وذكرت بذلك في التوراة وهي نسبة إلى فاران بن عمليق. وجاء في كتاب «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» تأليف قطب الدين النهروالي المكي طبع ليبسيك سنة 1857 ص18 عند ذكر أسماء مكة ما يأتي:

(ومن أسمائها كوثى لأن كوثى اسم لمحل من قيقعان وفاران والمقدسة وقرية النمل لكثرة نملها والحاطمة لحطمها للجبابرة والوادي والحرم الخ) فلم يبق شك في أن فاران جبال بمكة أو هي مكة نفسها سميت باسم تلك الجبال.

وجاء في سفر أشعيا الإصحاح الحادي والأربعين: (أنصتي إليّ أيتها الجزائر ولتجدد القبائل قوة ليقتربوا ثمّ يتكلموا، لنتقدم معا إلى المحاكمة من أنهض من المشرق الذي يلاقيه النصر عند رجليه دفع أمامه أمما وعلى ملوك سلطه، جعلهم كالتراب بسيفه وكالقش المنذري بقوسه، طردهم، مر سالما في طريق لم يسلكه برجليه من فعل وصنع داعيا الأجيال من البدء أنا الرب الأول ومع الآخرين أنا هو) والمراد بالقبائل العرب وصاحب السيف والقوس هو محمد فإن عيسى لم يحارب أصلا.

وجاء في الفصل 18 من الكتاب الخامس من سفر التثنية أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: (قل لبني إسرائيل إني أقيم لهم آخر الزمان نبيا مثلك من بني إخوتهم) وكل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل وآخرهم عيسى عليه السلام فلم يبق أن يكون من بني إخوتهم إلا نبينا محمد لأنه من ولد إسماعيل وإسماعيل أخو إسحاق وإسحاق جد بني إسرائيل فهذه هي الأخوة التي ذكرت في التوراة ولو كانت هذه البشارة بنبي من أنبياء بني إسرائيل لم يكن لذكر إخوتهم معنى.

وجاء في كتاب الرؤيا المنسوب إلى يوحنا الإنجيلي في ص 19 ف 11 ما نصه:(ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا صادقا وبالعدل يحكم ويحارب وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو) وهناك قال: إنه يحارب ولا شك أنه محمد وقد كان يدعى قبل الرسالة بالأمين الصادق كما أسلفنا.

وجاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي ص 19 ف 15: (ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء) والمراد من قوله يخرج من فمه سيف ماض الخ هو القرآن الكريم، وقد داس النبي معصرة خمر أعني أنه حرّم الخمر تحريما قطعيا، أما عيسى فقد روى عنه المسيحيون أنه قلب الماء خمرا في عرس قانا، ورُوي عنه أنه قال عن الخمر إنها دمه.

هذه النصوص المذكورة في التوراة والإنجيل ناطقة برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، لهذا لما كان بحيرا الراهب متبحرا في علم النصرانية فقد عرف النبي وأخبره برسالته مما اطلع عليه في الكتب المقدسة ففيها أوصافه عليه الصلاة والسلام وشيء من إرهاصاته ومعجزاته وكانت حليمة السعدية تعرض النبي على اليهود والكهان وتحدثهم بشأنه فيعرفونه من أوصافه وأحواله وقد أخبر برسالته عليه الصلاة والسلام ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة وكان شيخا نصرانيّا عندما أخبره رسول الله بما رأى من الوحي إذ قال له: «هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى» إلى آخر ما قال ممّا سيأتي ذكره في موضعه، هذا وقد أنذر اليهود برسول الله وإليك ما جاء في سيرة ابن هشام:

إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا ما كنا نسمع من رجال يهود وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبيّ يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به وفيهم نزلت هذه الآيات من البقرة: {وَلَمَّا جَآءهُمْ كِتَبٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَفِرِينَ} (البقرة: 89)، قال ابن هشام: يستفتحون يستنصرون: ويستفتحون أيضا يتحاكمون، وفي كتاب الله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَتِحِينَ} (الأعراف: 89).

قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن محمود بن لبيد بن عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان سلمة من أصحاب بدر، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنّا عليّ بردة لي مضطجع فيها بفناء أهلي فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان أترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم والذي يُحلف به، ويودّ أنَّ له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك يا فلان فما آية ذلك؟ قال: نبيّ مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا أحدثهم سنّا، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمدا وهو حيٌّ بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا، قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى ولكن ليس به. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسد بن عبيد نفر من هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام، قال: قلت: لا والله، قال: فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدَّين من شعير، قال: فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقي الله لنا فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم، قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أَتوكف خروج نبيّ قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تُسبقن إليه، يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه، فلما بعث رسول الله وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شبابا أحداثا -: يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم. قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود.

قال تعالى يوبخ أهل الكتاب على كفرهم بمحمد وجحودهم نبوته: {يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} (آل عمران: 70)، أي تشهدون أن نعت محمد في كتابكم ثم تكفرون به ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل النبيّ والأميّ.

سلمان الفارسي وقصة إسلامه

سلمان الفارسي أبو عبد الله ويعرف بسلمان الخير مولى رسول الله وأصله من جيّ وهي من قرى مدينة أصفهان، وكان اسمه قبل الإسلام مابه بن مورسلان بن بهبوزان بن فيروز بن سهرك من ولد آب الملك وكان ببلاد فارس مجوسيا سادن النار، وكان أبوه مجوسيا فاتفق أنه هرب منه يوما ولحق بالرهبان وصحبهم ثم قدم الحجاز عند ظهور النبي مع العرب فباعوه إلى يهودي من قريظة فأتى به المدينة فلما دخلها النبي أسلم وشهد معه أكثر المشاهد، وأول مشاهده وقعة الخندق وكان من فضلاء الصحابة وزهادهم وعلمائهم وذوي القربى من الرسول وهو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق حين جاءت الأحزاب، وفيه قال رسول الله «سلمان منا أهل البيت»، وكان يعمل الخوص بيده ويأكل من ثمنه وآخى الرسول بينه وبين أبي الدرداء وروى عنه جماعة من العلماء، توفي سنة 35 للهجرة وقيل: 34 ودفن في المدافن شرقي بغداد وله مقام إزاء ديوان كسرى يزار حتى الآن ويعرف بمقام سلمان باك وهي لفظة فارسية معناها الطاهر، قيل: عاش 150 سنة، وقيل: أكثر من ذلك وهو من معمري العرب.

وهذه قصة إسلامه عن ابن عباس رضي الله عنه.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: حدثني سلمان الفارسي وأنا أسمع من فيه قال: كنت رجلا من أهل فارس من أصبهان من جيّ ابن رجل من دهاقينها وكنت أحب خلق الله إليه فأجلسني في البيت كالجواري فاجتهدت في الفارسية وكان أبي صاحب ضيعة وكان له بناء يعالجه فقال لي يوما: يا بنيَّ قد شغلني ما ترى فانطلق إلى الضيعة ولا تحتبس فتشغلني عن كل ضيعة بهمّي بك، فخرجت لذلك فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون فملت إليهم وأعجبني أمرهم وقلت: هذا والله خير من ديننا، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس لا أنا أتيت الضيعة ولا رجعت إليه فاستبطأني وبعث رسلا في طلبي وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى والدي، فقال: يا بنيَّ قد بعثت إليك رسلا، فقلت: مررت بقوم يصلون بكنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم وعلمت أن دينهم خير من ديننا، فقال: يا بنيّ دينك ودين آبائك خير من دينهم، فقلت: كلا والله، فخافني وقيدني فبعثت إلى النصارى وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم وسألتهم إعلامي من يريد الشام ففعلوا فألقيت الحديد من رجلي وخرجت معهم حتى أتيت الشام فسألتهم عن عالمهم فقالوا: الأسقف، فأتيته فأخبرته وقلت: أكون معك أخدمك وأصلي معك، قال: أقم، فمكثت مع رجل سوء كان يأمرهم بالصدقة فإذا أعطوه شيئا أمسكه لنفسه حتى جمع سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فتوفي فأخبرتهم بخبره فزجروني فدللتهم على ماله فصلبوه ولم يغيبوه ورجموه وأجلسوا مكانه رجلا فاضلا في دينه زهدا ورغبة في الآخرة وصلاحا فألقى الله حبه في قلبي حتى حضرته الوفاة فقلت: أوصني، فذكر رجلا بالموصل وكنّا على أمر واحد حتى هلك فأتيت الموصل فلقيت الرجل فأخبرته بخبري وأن فلانا أمرني بإتيانك فقال: أقم فوجدته على سبيله وأمره حتى حضرته الوفاة، فقلت له: أوصني، فقال: ما أعرف أحدا على ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية، فأتيته بعمورية فأخبرته بخبري فأمرني بالمقام وثاب لي شيئا واتخذت غنيمة وبقرات فحضرته الوفاة فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحدا اليوم على مثل ما كنا عليه ولكن قد أظلك نبيٌّ يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، مهاجره بأرض ذات نخل وبه آيات وعلامات لا تخفى، بين منكبيه خاتم النبوة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت فتخلص إليه.

فتوفي فمر بي ركب من العرب من بني كلاب فقلت: أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه وتحملوني إلى بلادكم، فحملوني إلى وادي القرى فباعوني من رجل من اليهود، فرأيت النخل فعلمت أنه البلد الذي وصف لي فأقمت عند الذي اشتراني وقدم عليه رجل من بني قريظة فاشتراني منه وقدم بي المدينة فعرفتها بصفتها فأقمت معه أعمل في نخله وبعث الله نبيه وغفلت عن ذلك حتى قدم المدينة فنزل في بني عمرو بن عوف، فإني لفي رأس نخلة إذ أقبل ابن عمّ لصاحبي، فقال: أي فلان قاتل الله بني قيلة مررت بهم آنفا وهم مجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبيٌّ، فوالله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذني القرّ فرجفت بي النخلة حتى كدت أسقط ونزلت سريعا فأقبلت على عملي حتى أمسيت فجمعت شيئا فأتيته به وهو بقباء عند أصحابه، فقلت: اجتمع عندي شيء أردت أن أتصدق به فبلغني أنك رجل صالح ومعك رجال من أصحابك ذوو حاجة فرأيتهم أحق به فوضعته بين يديه فكف يده وقال لأصحابه: «كلوا» فأكلوا، فقلت: هذه واحدة، ورجعت وتحوَّل إلى المدينة فجمعت شيئا فأتيته به فقلت: أحببت كرامتك فأهديت لك هدية وليست بصدقة فمد يده فأكل وأكل أصحابه فقلت: هاتان اثنتان، ورجعت فأتيته وقد تبع جنازة في بقيع الغرقد وحوله أصحابه، فسلمت وتحولت أنظر إلى الخاتم في ظهره فعلم ما أردت فألقى رداءه فرأيت الخاتم فقبلته وبكيت فأجلسني بين يديه فحدثته بشأني كله كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجبه ذلك وأحب أن يسمعه أصحابه ففاتني معه بدر وأحد بالرِّق فقال لي: «كاتب يا سلمان على نفسك» فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته على أن أغرس له ثلاثمائة ودية وعلى أربعين أوقية من ذهب فقال النبي «أعينوا أخاكم بالنخل» فأعانوني بالخمس والعشر حتى اجتمع لي فقال لي: «انقر لها ولا تضع منها شيئا حتى أضعه بيدي» ففعلت فأعانني أصحابي حتى فرغت فأتيته فكنت آتيه بالنخلة فيضعها ويسوِّي عليها ترابا فأنصرف، والذي بعثه بالحق فما ماتت منها واحدة وبقي الذهب فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابه من بعض المعادن، فقال: «ادع سلمان المسكين الفارسي المكاتب»، فقال: «أدّ هذه»، فقلت: يا رسول الله وأين تقع هذه مما عليّ؟

هذه قصة سلمان الفارسي وهي كما يتضح للقارىء المنصف معقولة وليس فيها شيء من المبالغة، ويلاحظ أن سلمان كان من صغره ميالا إلى التدين والتقشف فصاحب كبار أهل الدين وتعلم منهم وهذه القصة تدل على صدق رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، لأن سلمان ما عرف النبيَّ إلا بالعلامات التي أخبره بها صاحبه بعمورية ولم يسلم إلا بعد أن تحقق صحّة هذه العلامات فيه ومن المحقق من ترجمة حياة سلمان أن أباه كان مجوسيا من بلاد الفرس وأنه هرب منه ولحق بالرهبان وصاحبهم واحدا بعد واحد إلى أن لقي النبي

ونلاحظ أن سلمان لم يذكر أسماء الرهبان أو الأساقفة الذين كان يلازمهم وإن كان قد ذكر بلادهم.

وشهد رسول الله لسلمان الفارسي بالطهارة والحفظ الإلهي والعصمة حيث قال: «سلمان منا أهل البيت»، وفيه قال رسول الله «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس» وأشار إلى سلمان الفارسي.

وكان سلمان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم وذوي القرب من رسول الله قالت عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله بالليل حتى كان يغلبنا على رسول الله. وسئل عليٌّ عن سلمان، فقال: علم العلم الأول والعلم الآخر وهو بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت. وهو الذي أشار على رسول الله بحفر الخندق لما جاءت الأحزاب، فأمر رسول الله بحفره فاحتمى المهاجرون والأنصار في سلمان وكان رجلا قويا، وتوفي سنة 45هـ في آخر خلافة عثمان، وقيل إنه عاش 350 سنة، فأما 250 فلا يشكون فيه.

من تسمى في الجاهلية بمحمد

كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث من العرب اسمه (محمد) فسمَّى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة. سُمِّيَ محمد بن الخزاعي بن حزابة من بني ذكوان من بني سليم طمعا في النبوّة فأتى أبرهة باليمن فكان معه على دينه حتى مات فلما وجه قال أخوه قيس بن خزاعي:

فذلكمُ ذو التاج منا محمد ** ورايته في حومة الحرب تخفق

وكان في بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع وكان أسقفا قيل لأبيه إنه يكون للعرب نبيٌّ اسمه محمد فسماه محمدا، ومحمد الجشعي في بني سواءة، ومحمد الأسيدي ومحمد الفقيمي سموهم طمعا في النبوة.

هذا ما وجدته في طبقات ابن سعد فليرجع إليه من شاء، ومن هذا كله يتضح أنهم كانوا ينتظرون ظهور نبي في ذلك الزمان.

عبادة الأصنام والأوثان

الصنم ينحت من خشب ويصاغ من فضة ونحاس، والجمع أصنام، وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن، قال ابن الأثير: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد، والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين، قال: وقد يطلق الوثن على غير الصورة.

الوثنية ببلاد العرب ترجع إلى عهد بعيد جدا، قيل: إن إسماعيل بن إبراهيم لما سكن مكة وولد له بها أولاد كثيرة حتى ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد لالتماس المعاش.

وكان الذي حدا بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمُّنا منهم وصبابة بالحرم وحبا له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل.

ثم أدى بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوح منها على إرث ما بقي فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه.

وكان أول من غيَّر دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان وسيَّب السائبة ووصل الوصيلة وبَحَر البَحِيرة وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لُحَيّ بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وهو أبو خزاعة.

وكانت أم عمرو بن لحي فهيرة بنت عمرو بن الحارث.

وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة فلما بلغ عمرو بن لُحَيّ نازعه في الولاية وقاتل جرهما ببني إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت بعدهم.

ثم إنه مرض مرضا شديدا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمَّة إن أتيتها برأت فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة، وقيل: إنهم أعطوه صنما يقال له هُبل فقدم به مكة فوضعه عند الكعبة فكان أول صنم وضع بمكة.

قال ابن هشام: فحدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال النبي «رفعت لي النار فرأيت عَمرا (أي عمرو بن لُحَيّ) رجلا قصيرا أحمر أزرق يجر قُصبه في النار، قلت: من هذا؟ قيل: هذا عمرو بن لُحَيّ أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيَّب السائبة وحمى الحامية وغيَّر دين إبراهيم ودعا العرب إلى عبادة الأوثان».

وقد جاء في القرآن ذكر الأصنام الخمسة التي كان يعبدها قوم نوح، قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارا وَمَكَرُواْ مَكْرا كُبَّارا وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّا وَلاَ سُوَاعا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيرا وَلاَ تَزِدِ الظَّلِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلا مّمَّا خَطِيئَتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارا وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَفِرِينَ دَيَّارا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِرا كَفَّارا رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِولِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّلِمِينَ إِلاَّ تَبَارا} (نوح: 21 - 28).

ولم يرد ذكر هُبل في القرآن.

ويُقال: إن هذه الأصنام وجدها عمرو بن لُحَيّ في ساحل جُدة وفرقها فاتخذتها العرب آلهة.

ومن الأصنام المشهورة القديمة إساف ونائلة عبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعدُ من العرب وكانوا ينحرون ويذبحون عندهما.

ومَنَاة كان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقُدَيْد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعا تعظمه وتذبح حوله ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج، وقد ورد ذكر مناة في القرآن، قال تعالى: {وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} (النجم: 20).

وكانت لهذيل وخزاعة، وقد هدمها علي رضي الله عنه عند فتح مكة بأمر رسول الله

والفِلس وهو صنم طيء هدمه عليّ رضي الله عنه بأمر رسول الله

واللات (تأنيث الله) وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة وكانت قريش كلها تعظمها وهي بالطائف ذكرها الله في القرآن فقال: {أَفَرَءيْتُمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى} (النجم: 19)، ولم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله المغيرة بن شعبة فهدمها وأحرقها بالنار، والطاغية هي اللات كانوا يقولون لها الربة، وجاء في «قاموس الإسلام»: «أن هيرودوت لم يشر إلى الكعبة لكنه ذكر اللات وقال إنها من أعظم آلهة العرب وهذا دليل قوي على وجود ذلك الصنم المسمى باللات وقد كان من معبودات ذلك الزمن».

ومن أصنامهم العُزى (تأنيث الأعز) والأعز بمعنى العزيز ويقال: إنها أحدث من اللاة ومناة، كانت بوادي نخلة الشآمية وكانت أعظم الأصنام عند قريش وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبح.

قال ابن حبيب: العزى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غَطَفَان، وفي التنزيل: {أَفَرَءيْتُمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} (النجم: 19، 20).

ولم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيه فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فاشتد ذلك على قريش، ومرض أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه فدخل عليه أبو لهب فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه؟ فقال: لا ولكني أخاف ألا تعبد (العزى) بعدي فقال له أبو لهب: ما عبدت في حياتك لأجلك ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة. وأعجبه شدة نصبه في عبادتها، وتدل القصة على شدة التمسك بعبادة الأصنام، وكان بعضهم يعبد الملائكة وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الاْنثَى} (النجم: 27).

فلما افتتح النبي مكة، بعث خالد بن الوليد فهدم العزى، وكانت لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها وكان أعظمها عندهم هُبل، قيل: إنه كان من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر؛ وكان يقال له هُبل خزيمة، وعنده ضرب عبد المطلب على ابنه عبد الله بالقداح، ومن الأصنام التي كانت عند الكعبة إساف ونائلة فلما ظهر رسول الله يوم فتح مكة أخرجت من المسجد وأحرقت وكان يبلغ عددها 360 صنما، ومن أصنامهم مناف.

وكان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره، كان أول ما يصنع الرجل إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا وكانوا يسمون الحجارة التي ينصبونها حول الحرم «الأنصاب».

ومن أصنامهم: ذو الخَلَصة وسعد وذو الكفين وذو الشرى والأقيصر وسعير وعميانس والأسحم والأشهل وأوال وباجر والبجة والبعيم وبلج وبوانة وتيم وجريش، وعبدة الأصنام ينكرون بعث الأجساد، وكان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الأرواح في الأجساد وكانوا يعتقدون وقوع المسخ ونسبوا أكثر الأمراض إلى الجن وعبدها بعضهم. ومن هذا يرى أن آلهة العرب كانت متعددة.

الأربعة الباحثون عن دين إبراهيم

قد استنكر بعض العرب عبادة الأصنام وأدرك أنها لا تنفع ولا تضر وذلك في الجاهلية قبل أن يبعث رسول الله فقد حدث أنه بينما كانت قريش مجتمعة يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم يعتكفون عنده ويدوروه به وكان ذلك عيدا لهم كل سنة، إذ خلص منهم أربعة وهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين إبراهيم.

1 - فأما ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب في أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب.

2 - وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة ابنة أبي سفيان مسلمة ثم تنصَّر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانيا، وخلف رسول الله بعده على امرأته أم حبيبة.

3 - وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر، ملك الروم فتنصَّر وحسنت منزلته عنده.

4 - وأما زيد بن عمرو بن نفيل، فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان.

الرد على مستر كانون سل

قال مستر كانون سل في كتابه «حياة محمد»: (قال زيد وأصحابه: إنهم رغبوا في اتباع دين إبراهيم)، ويظن أن محمدا أخذ منهم هذه الفكرة ثم قال: (بقي زيد حنيفا وعاب على أهل مكة عبادة الأصنام فأثار ذلك غضبهم فأرغم على ترك مكة والإقامة في جبل حراء وبعد أن أمضى هنالك زمنا يفكر، توفي ودفن بأسفل الجبل وقد كان له تأثير عظيم في محمد الذي كان يجل شأنه ويقدره قدره. ولا ريب أن هؤلاء الرجال وأمثالهم من ذوي العقول الراجحة كانوا كثيرا ما يتشاورون ويتحادثون فيما وصلت إليه حالة العرب الاجتماعية من الانحطاط ويأسفون لانتشار الوثنية وضعف مركزهم السياسي، ولم ينجح عثمان بن الحويرث في تأسيس سلطة مركزية لاعتماده على دولة أجنبية - الامبراطورية الرومانية - ومع ذلك كانت الحاجة تدعو إلى وجود سلطة مركزية والاعتراف بالكعبة وجعلها قوة دينية للعرب جميعا، فكيف الوصول إلى ذلك؟ وكيف يمكن إبطال عبادة الأصنام؟) إلى أن قال: (وهنا سنحت الفرصة لظهور نبيّ وقد كان الاستعداد لظهوره قريبا وما لبث أن ظهر نبيٌّ قوي الشخصية ذو فطنة سياسية فائقة برسالة محدودة للأمة العربية اهـ). هذا ما زعمه مستر كانون سل، فنقول:

نعم إن هؤلاء تحادثوا في أمر انتشار عبادة الأصنام وأخذوا يبحثون عن الدين الصحيح لكن محادثتهم كانت قليلة، وليس لها شأن ولم يبلغنا أن النبي كان يجتمع بهم ويحادثهم في شؤون العرب الدينية أو السياسية. وقد كان زيد بن عمرو مضطهدا ولجأ إلى حراء لكن لم تكن له اجتماعات برسول الله حتى يقال إنه تذاكر معه مسائل الدين وترك في نفسه أثرا عميقا أو أنه أخذ منه الفكرة، لأن المسألة ليست مسألة اقتباس فكرة، فالقرآن وما حواه من فصاحة وبلاغة خارقة وحكم بالغة وأمثال محكمة وذكر أحوال الماضين من أنبياء وأمم وأنباء المستقبل وعلاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بغيره والتشريع العظيم الشأن الذي صار موضوع بحث الأئمة المجتهدين والعلماء الأعلام - لا يكون مصدره اجتماع زيد بن عمرو برسول الله مصادفة في حراء أو في الطريق، ثم إننا فوق ذلك لا نعلم من تاريخ رسول الله أنه كان يتذاكر مع رجال أو كانوا يعلمونه من صغره إلى أن صار نبيا بل الثابت أنه كان أميّا لا يدري ما الكتابة والقراءة ولا الدين ولا أصوله حتى أُوحي إليه ثم إن رسالة النبي لم تكن محدودة للأمة العربية كما ظن سل وأمثاله بل كانت رسالته عامة بنص القرآن؛ قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ كَآفَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28).

وإليك ترجمة حياة زيد بن عمرو إتماما للحديث.

ترجمة زيد بن عمرو

هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي العدوي والد سعيد بن زيد أحد العشرة وابن عم عمر بن الخطاب يجتمع هو وعمر في نفيل، سئل عنه النبي فقال: «يبعث أمة وحده يوم القيامة»، وكان يتعبّد في الجاهلية ويطلب دين إبراهيم الخليل ويوحّد الله تعالى ويقول: إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم وقول: - الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى - إنكارا لذلك وإعظاما له وكان لا يأكل مما ذبح على النصب - الأوثان - واجتمع رسول الله بزيد بن عمرو بأسفل بلدح قبل أن يوحى إليه وكان يحيي الموءودة، وعن زيد بن حارثة قال: خرجت مع رسول الله يوما حارا من أيام مكة وهو مردفي فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل فحيا كل واحد منا صاحبه فقال النبي «يا زيد ما لي أرى قومك قد شنفوا لك»، قال: والله يا محمد إن ذلك لغير نائلة ترة لي فيهم ولكن خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا الدين الذي أبتغي، فخرجت فقال لي شيخ منهم: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخا بالحيرة، قال: فخرجت حتى أقدم عليه فلما رآني قال: ممن أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله من أهل الشوك والقرظ، قال: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك، قد بُعث نبيٌّ قد طلع نجمه وجميع من رأيتهم في ضلال، قال: فلم أحسّ بشيء.

قال زيد بن حارثة: ومات زيد بن عمرو أُنزل على النبي فقال النبي في زيد: «إنه يُبعث يوم القيامة أُمة وحده».

وقال أبو بكر الصدّيق يذكر اجتماعه بزيد بن عمرو:

«كنت جالسا بفناء الكعبة وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدا، فمر به أمية بن أبي الصلت، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: هل وجدت؟ قال: لا ولم آل من طلب، فقال:

كل دين يوم القيامة إلا ** ما قضى الله والحنيفة بور

أما إن هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم أو من أهل فلسطين؟ قال: ولم أكن سمعت من قبل ذلك بنبيّ يُنتظر أو يُبعث، فخرجت أريد ورقة بن نوفل وكان كثير النظر في السماء، كثير همهمة الصدر، فاستوقفته ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، أبى أهل الكتاب والعلماء إلا أن هذا النبي الذي ينتظر من أوسط العرب نسبا، ولي علم بالنسب، وقومك أوسط العرب نسبا، قلت: يا عم، وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له (أي ما يوحى إليه) إلا أنه لا ظلم ولا تظالم، فلما بعث النبي آمنتُ وصدقت».

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، وكان يقول: اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه ثم يسجد على راحته. وقال ابن إسحاق: حدثني بعض آل زيد كان إذا دخل الكعبة قال: «لبيك حقّا حقّا، عُذت بما عاذ به إبراهيم».

ويقول وهو قائم: «أنفي لك عانٍ راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا المال وهل مهجر كمن قال؟» وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيد بن عمرو بن نفيل حتى خرج إلى أعلى مكة فنزل حراء مقابل مكة ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم فلا يتركونه يدخل مكة وكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقهم، وتوفي زيد قبل مبعث النبي فرثاه ورقة بن نوفل:

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ** تجنبت تنورا من النار حاميا

بدينك ربا ليس رب كمثله ** وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وقد يدرك الإنسان رحمة ربه ** ولو كان تحت الأرض ستين واديا

وكان يقول: «يا معشر قريش إياكم والرياء فإنه يورث الفقر».

هذه ترجمة زيد بن عمرو وهو مع اعتناقه دين إبراهيم هربا من الوثنية لم يكن يعلم أحب الوجوه إلى الله تعالى ليعبده به ولم يذكر أنه اجتمع برسول الله غير مرة ولا بأبي بكر غير المرة التي ذكرناها.

بدء الوحي

6 أغسطس سنة 610م

لما قربت أيام الوحي حُبِّب إليه الخلوة فكان يختلي في غار حراء ويتعبّد فيه الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، وكانت عبادته على دين إبراهيم عليه السلام وقيل: كان يتعبَّد إلهاما من الله، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، وكانت تلك الرؤيا الصادقة مقدمات الوحي، قيل: مدتها ستة أشهر.

فلما تم له أربعون سنة جاءه جبريل بالنبوة وذلك في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان لل سنة الحادية والأربعين من ميلاده، فيكون عمره إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر وثمانية أيام، وذلك يوافق 6 أغسطس سنة 610 من وهو بغار حراء.

جاء في «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

«أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح ثم حُبِّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حِرَاء فيتحنث فيه - وهو التعبُّد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ، فقال: «ما أنا بقارىء»، قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ}» (العلق: 1 - 3)، فرجع بها رسول الله يرجُفُ فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زمّلوني، زملوني» فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيتُ على نفسي»، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسبُ المعدوم، وتَقْري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العُزَّى ابن عم خديجة، وكان امرأَ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيَّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتبَ وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال لي ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله «أو مخرجيَّ هم»؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي».

أول ما نزل عليه من القرآن: «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف.

النبي المنتظر

اتفق مؤرخو العرب وأصحاب السير أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون ظهور نبيّ في ذلك الزمان وكانوا يعلمون أوصافه وأحواله، من ذلك أنهم ذكروا:

1 - أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد قبل زمان ظهوره.

2 - قصة حليمة السعدية وأنها كانت تعرض رسول الله على اليهود كلما مر بها جماعة منهم وتحدثهم بشأنه فكانوا يحضون على قتله فتهرب منهم.

3 - أنهم اتفقوا على أن بحيرا الراهب عرف الرسول بعلامات فيه وقال لأبي طالب: «ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليَبغُنَّه شرا فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده».

4 - في «سيرة ابن هشام» فصل عن إنذار يهود برسول الله نقلا عن رواية ابن إسحاق فليراجع في موضعه وقد أوردته في هذا الكتاب.

5 - قصة سلمان الفارسي الذي أسلم بعد أن استدل على رسول الله بعلامات كان يعرفها من الراهب الذي صحبه أخيرا، وقصة إسلام سلمان مشهورة ومذكورة في المصادر المعتبرة التي يعوّل عليها المؤرخون ولا يمكن أن تكون مختلفة، فقد رواها ابن عباس عن لسان سلمان الفارسي نفسه، والقصة مذكورة في هذا الكتاب أيضا لأهميتها.

6 - إسلام عبد الله بن سلام بن الحارث فإنه كان حَبرا عالما، قال: سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مُسِرّا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله المدينة إلى آخر ما قال مما هو مذكور في هذا الكتاب نقلا عن «سيرة ابن هشام».

7 - كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث في العرب اسمه محمد فسمى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة، وقد ذكرت في كتابي هذا أسماء بعضهم نقلا عن «طبقات ابن سعد» كاتب الواقدي.

8 - ما جاء في «صحيح البخاري» في باب بدء الوحي من أن ورقة بن نوفل (وذلك الشيخ العالم بالنصرانية والذي كان يكتب الإنجيل بالعبرانية) قال لرسول الله حين عرضته عليه خديجة: «هذا الناموس الذي نزل على موسى» الخ.

9 - أن النبي لما جمع بني قينقاع - وهم طائفة من اليهود - قال لهم: «يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم».

10 - كان قيس بن نُشْبَةَ في الجاهلية منجِّما متفلسفا واعدا بمبعث النبي فأتاه فقال له: يا محمد ما كَحْلةُ؟ فقال: «السماء»، قال: وما مَحْلةُ؟ فقال: «الأرض»، فآمن به وقال: لا يعرف هذا إلا نبيٌّ، فقال قيس في ذلك:

تابعتُ دين محمد ورضيتُه ** كلَّ الرضا لأمانتي ولديني

ما زلتُ آمُلهُ وأرقب وقته ** والله قدر أنه يهديني

أعني ابنَ آمنةَ الأمينَ ومن به ** أرجو التخلصَ من عذاب الهون

فكان قوم قيس إذا وردوا على النبي قال لهم: «كيف حبركم».

كل هذا وغيره يؤيد أنهم كانوا ينتظرون نبيا يظهر في ذلك الزمان وليس ذلك بمستغرب فإن البشارة به قد وردت في التوراة والإنجيل وقد أثبتنا ذلك في فصل سابق من هذا الكتاب مستشهدين بآيات من الكتاب المقدس المطبوع باللغة العربية (راجع ص 45 - 47) فلا بد أن أهل الكتاب في ذلك الزمان كانت لديهم كتب أخرى ألَّفها علماؤهم شرحا للكتاب المقدس فاستقوا منها تلك المعلومات والعلامات التي عرفوا بها صفة رسول الله وموطنه وزمنه واضطهاد قومه له وهجرته، إننا نرجح ذلك بل نؤكده لأننا إذا كنا قد استخرجنا من الكتاب المقدس المطبوع في أيامنا آيات تبشر برسالته وتصفه وتصف شريعته وموطنه وأصحابه فلا بد أن يكون أهل الكتاب قديما - ولا سيما العلماء منهم - قد اطلعوا في النسخ العبرية القديمة التي كانت لديهم، ولم نتوصل إليها، على معلومات أوفى خاصة بالرسول تعد غريبة بالنسبة لنا.

هذا ما يستنتجه المؤرخ المنصف، بل هذا ما يتبادر إلى ذهن من تتبع سيرة الرسول.

أما مستر موير فإنه انبرى في الجزء الثاني من كتابه يكذب جميع المصادر التاريخية ويرفض ما جاء فيها من أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون نبيا يبعث، زاعما أن هذه الروايات لا أساس لها من الصحة وأنها من مخترعات المؤرخين لأنه لو اعترف بصحتها أو بصحة بعضها لوجب عليه أن يعترف برسالة النبي في حين أنه حاول في جميع ما كتبه واستنبطه إثبات أنه لم يكن نبيا بل كان رجلا يدّعي النبوة لبسط نفوذه.

النبي الأمي

أول ما نزل عليه من القرآن: «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة وروى ذلك عن أبي موسى الأشعري، وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف، وقوله: «ما أنا بقارىء» أي إني أميٌّ فلا أقرأ الكتب. قال الزجاج: الأميّ الذي على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته، وفي التنزيل العزيز: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ إِلاَّ أَمَانِىَّ} (البقرة: 78)، فمعنى الأميين في هذه الآية الذين لا معرفة لهم بقراءة ولا كتابة.

قال أبو إسحاق: معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلة أمه أي لا يكتب وهو في أنه لا يكتب أميّ لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه، أي على ما ولدته أمه عليه، وكانت الكتابة في العرب من أهل الطائف تعلموها من رجل من أهل الحيرة وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار، وفي الحديث: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» أراد على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، وفي الحديث: «بعثت إلى أمة أمية» قيل للعرب الأميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة، هذا معنى كلمة «أميّ» في اللغة العربية وهكذا كان يفهمها العرب.

قال تعالى في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157)، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48) الآية، قال الفخر الرازي في «تفسيره»: «فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميّا، قال أهل التحقيق وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه:

الأول: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها بالقليل والكثير، ثم إنه عليه الصلاة والسلام - مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ - يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الأعلى: 6).

الثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع كتب الأوَّلين فحصّل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذا لاَّرْتَبَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48).

الثالث: أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من الحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات» اهـ.

وقد طالعت ما كتبه الذين تعرضوا لهذا البحث من الإفرنج الذين ترجموا حياة النبي فوجدت تخبطا مدهشا فقد بحث الأستاذ نولدكه الألماني في كتابه «تاريخ القرآن» هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة؟ فلم يجزم بشيء بيد أنه زعم أن لفظة «أميّ» المذكورة في القرآن لا تدل على أنه يجهل القراءة والكتابة بل تفيد أنه لا يعرف الأسفار القديمة.

والثابت من التاريخ والقرآن والحديث أن النبي ما كان يعرف القراءة والكتابة بالرغم من أن بعض المستشرقين يحاولون أن يثبتوا عكس ذلك من غير برهان، إنما هم يستنتجون بعقولهم، ليتعجبوا ما شاءوا من أُمِّيته ولكن يجب عليهم أن يعترفوا بأنه ما كان يعلم القراءة والكتابة. وجاء في «قاموس الإسلام»:

«ومع ذلك فمن المحقق أنه - النبي - كان يتظاهر بأنه يجهل القراءة والكتابة كي يجعل إنشاء القرآن معجزا».

فهل بعد ذلك تعسُّف لو كان رسول الله يقرأ أو يكتب لتحدث بذلك أصحابه أو أعداؤه، ولما أمكن أن يكون سرا مكتوما طول حياته خصوصا أن جميع صفات النبي وأعماله قد روتها الصحابة بالتفصيل حتى خصوصياته في منزله مع نسائه، على أن المنصفين من مؤرخي الإفرنج وفلاسفتهم قد اعترفوا بأُمِّيته فمن ذلك ما كتبه المسيو سيديو في كتابه «تاريخ العرب» الجزء الأول ص 59 من الطبعة الثانية:

«ولما كان (رسول الله غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة».

وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتاب «الأبطال» الذي عني بترجمته الأستاذ محمد السباعي رحمه الله:

«ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هي عيشة الصحراء وأحوالها».

وجاء في «كتاب الإسلام» تأليف الكونت هنري دي كاستري، ترجمة المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا:

«إن محمدا ما كان ليقرأ أو ليكتب بل كان - ما وصف نفسه مرارا - نبيا أميّا، وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار، الخ».

ولما كان رسول الله أميا احتاج إلى كتّاب يكتبون له وقد ذكرهم الحافظ أبو القاسم في «تاريخ دمشق»، وروى ذلك كله بأسانيده وهم:

أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، والزبير، وأبيّ بن كعب بن قيس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن مسلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد بن سعيد، وثابت بن قيس، وحنظلة بن الربيع، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، والعلاء بن عتبة، والمغيرة بن شعبة، والسجل، وزاد غيره شرحبيل بن ح سنة، وقالوا: وكان أكثرهم كتابة زيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم.

وسيأتي في غزوة أُحُد أن العباس كان بمكة وكتب إلى النبي كتابا يخبره بجمع قريش وخروجهم، فلما جاء كتاب العباس وكان أرسله مع رجل من بني غفار، فك رسول الله ختمه ودفعه لأبيّ بن كعب فقرأه عليه فاستكتم أبيّا.

فلو كان النبي يعرف القراءة لما دفع كتابا يحوي أخبارا سرية إلى أحد لقراءته.

قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: كنت جار رسول الله فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له.

وذكر ابن ماكولا أن تميم بن جراشة وفد على النبي وروى عنه أنه قال: قدمت على النبي في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتابا فيه شروط فقال: اكتبوا ما بدا لكم ثمّ ائتوني به. فسألناه في كتابنا أن يحلّ لنا الربا والزنا فأبى عليّ أن يكتب لنا فسألنا خالد بن سعيد بن العاص، فقال له عليّ: تدري ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول الله أولى بأمره. فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله فقال للقارىء: اقرأ، فلما انتهى إلى الربا قال: ضع يدي عليها فوضع يده فقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَواْ} (البقرة: 278) الآية، ثم محاها وألقيت علينا السكينة فما راجعناه فلما بلغ «الزنا» وضع يده عليها وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (الإسراء: 32) الآية، ثم محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا.

وقد زعم بعضهم أن النبي كان يتلو الكتب الدينية القديمة ومنها استقى معلوماته، وهذا الزعم لا أساس له، إذ لم يكن في جزيرة العرب كتب دينية باللغة العربية في ذلك الوقت، ومن المؤكد أنه ما كان يعرف أي لغة من اللغات الأجنبية.

وقد قيل أيضا: إنه اقتبس بعض تعاليم المسيحية أثناء سفره إلى الشام عندما كان يتاجر، وبديهي أن التاجر العربي الذي لا يعرف اللغة الآرامية واليونانية كان يتعذر عليه الحصول على معلومات دينية من مسيحيي الشام، أما الذين كانوا يتكلمون العربية من هؤلاء المسيحيين فقد كانوا جهالا أميين.

وأما ما قيل من أن ورقة بن نوفل ترجم جزءا من الكتب المسيحية إلى العربية فغير محتمل بالمرة ومع ذلك يزعم دومنغم في كتابه «حياة محمد» أن ورقة ترجم الأناجيل إلى العربية وهذا زعم لا أساس له إنما هو مجرد ظن.

فالمستشرقون الذين زعموا أن رسول الله كان يعرف القراءة والكتابة غضوا الطرف عن الآيات التي صرحت بأنه كان أميّا، ذلك لأنهم وجدوا أن القرآن معجز ويحتوي على قصص الماضين وعلى شريعة عظيمة فاقت كل الشرائع وفيه عظات بالغة وحكم وأمثال رائعة وأن أبناء هذا العصر مع تقدم العلوم والفنون وانتشار الجامعات لم يستطيعوا أن يضعوا شريعة للناس كالشريعة الإسلامية ولا آدابا وأخلاقا كالآداب والأخلاق الواردة في القرآن، فهالهم الأمر وتحيروا وقالوا في أنفسهم: من أين جاء لمحمد ( هذا العلم كله، وكيف كان أميّا؟ فإن قيل لهم: هذا دليل على نبوَّته وأنه كان يوحى إليه، لم يسلموا لأنهم لو سلموا بنزول الوحي عليه لزمهم التصديق برسالته تخلُّصا من هذا المأزق، ونفوا عنه الأمية وقالوا: إنه كان يقرأ ويكتب ويتلو الكتب القديمة ولما وجدوا أن التاريخ لا يساعدهم على هذا الزعم لأن معاصريه أقروا أنه كان أميّا وأن ذلك يطابق ما جاء في القرآن، قال قائلهم: إنه كان يخفي أمره ويكتم عن الناس (وعن الناس جميعا حتى عن زوجاته وأولاده وجميع أصحابه) علمه بالقراءة والكتابة، وهذا قول مضحك لأن الذي يقرأ ويكتب لا بد أن يراه أحد بل يراه كثير من الناس، فإن هذا أمر لا يمكن إخفاؤه كالأكل والشرب، هذه هي الحقيقة وهذا ما نعتقد وما يجب أن يعتقده كل باحث في السيرة المحمدية والشريعة الإسلامية.

فترة الوحي

جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما وهو يحدث عن فترة الوحي فقال: قال رسول الله في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1 - 5) فحمى الوَحْي وتتابع».

قال ابن إسحاق: ابتدىء رسول الله بالتنزيل في شهر رمضان بقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر: 1 - 5)، وقال الله تعالى: {حم وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرا مّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (الدخان: 1 - 5)، وقال تعالى: {إِن كُنتُمْ ءامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الأنفال: 41) وذلك ملتقى رسول الله والمشركين ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان.

ولما فتر الوحي حزن النبي حزنا شديدا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس الجبال فكلما أوفى على ذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما جزم به ابن إسحاق ثم نزل عليه جبريل بسورة الضحى يقسم له ربه، وهو الذي أكرمه بما أكرمه به، وما ودعه وما قلاه، فقال تعالى: {وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَآئِلا فَأَغْنَى} (الضحى: 1 - 8) يعرفه الله أنه ما قطعه قطع المودع وما أبغضه.

رُوي أن الوحي لما تأخر عنه قال المشركون إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ردا عليهم: {وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى}، فإنها باقية خالصة من الشوائب وهذه فانية مشوبة بالمضار.

أول من آمن به

أول من آمن به من الرجال البالغين الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان عليٌّ، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال بن رباح الحبشي.

قال أهل الأثر وعلماء السير: إن أول الناس إيمانا به على الإطلاق خديجة رضي الله عنها وصلى رسول الله معها آخر يوم الاثنين وهو أول يوم من صلاته وكانت الصلاة وقتئذ ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.

وكان عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه لم يبلغ الحلم حين أسلم وكان ابن عشر سنين وكان عند النبي قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره وهو أصغر إخوته وسيأتي سبب إسلامه رضي الله عنه في ترجمة حياته.

وأول من أسلم من النساء بعد خديجة أم أيمن وأم الفضل زوج العباس وأسماء بنت أبي بكر وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب.

أبو بكر الصديق وإسلامه

هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي.

ولد أبو بكر سنة 573 م وهو أول الخلفاء وأمه أم سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وهي ابنة عم أبي قحافة وهو صاحب رسول الله في الغار وفي الهجرة والخليفة بعده، روى عن النبي وروى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد اختلف في اسمه فقيل: كان عبد الكعبة فسماه رسول الله عبد الله، وقيل: إن أهله سموه عبد الله ولا يبعد ذلك لأن التسمية بعبد الله كانت موجودة قبل الإسلام؛ ويقال له عتيق أيضا، واختلفوا في السبب الذي قيل له لأجله «عتيق» فقال بعضهم: قيل له عتيق لحسن وجهه وجماله، قاله الليث بن سعد وجماعة معه. وقال الزبير بن بكار وجماعة معه: إنما قيل له عتيق لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، وقيل: إنما سمي عتيقا لأن رسول الله قال: «أنت عتيق من النار». وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على رسول الله فقال له: «أنت عتيق من النار» فيومئذ سُمي عتيقا، وقيل له: «الصديق» أيضا، قالت عائشة رضي الله عنها: لما أُسريَ بالنبي إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان قد آمن وصدق وفتنوا به، فقال أبو بكر: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سُمي أبو بكر الصدّيقَ، وقال أبو محجن الثقفي:

وسميت صديقا وكل مهاجر ** سواك يسمى باسمه غير منكر

سبقت إلى الإسلام والله شاهد ** وكنت جليسا في العريش المشهر

وكان رضي الله عنه صديقا لرسول الله قبل البعثة وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات، وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وقيل: كُنّي بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة فلما أسلم آزر النبي في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله وكان له لما أسلم أربعون ألف درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة، قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل: 17 - 19)، وقد أجمع المفسرون على أن المراد منه أبو بكر؛ قال الفخر الرازي ردا على من قال إنها نزلت في حق عليّ رضي الله عنه: «ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر، وتقريرها أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق فإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد هو أبو بكر فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود إلى أن قال - لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله إما أبو بكر أو عليّ ولا يمكن حمل هذه الآية على عليّ بن أبي طالب فتعين حملها على أبي بكر، وإنما قلنا لا يمكن حملها على عليّ بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى: {وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل: 19)، وهذا الوصف لا يصدق على عليّ بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي ولأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه السلام عليه نعمة دنيوية بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام، بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين إلا أن هذا لا يجزي لقوله تعالى: {مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (الفرقان: 57) والمذكور ها هنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعليّ رضي الله عنه».

كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم وكان إليه الأشناق في الجاهلية كان إذا حمل شيئا صدّقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه فلما جاء الإسلام سبق إليه وأسلم على يده جماعة لمحبتهم له وميلهم إليه حتى إنه أسلم على يده خمسة من العشرة، وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم، قال الشعبي: سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ قال: أبو بكر، أما سمعت قول حسان:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها ** بعد النبي وأوفاها بما حملا

والثاني التالي المحمود مشهده ** وأول الناس قدما صدّق الرسلا

وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر وكان تاجرا ذا ثروة طائلة وكريما حسن المجالسة عالما بتعبير الرؤيا، ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام، قال ابن إسحاق: بلغني أن النبي قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما عتم عنه حين ذكرته له» - أي أنه بادر به -، ونزل فيه وفي عمر: {وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159)، فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله فكان يشاوره في أموره كلها ولما اشتد أذى كفار قريش لم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله وهاجر معه إلى المدينة تاركا عياله وأولاده وأقام معه في الغار ثلاثة أيام، قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40).

لما كانت الهجرة جاء رسول الله إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه فقال رسول الله «قد أذِنَ لي في الخروج»، قالت عائشة: فلقد رَأيت أبا بكر يبكي من الفرح، ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام، قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40).

وقد دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر لأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما استصحبه في هجرته واستخلصه لنفسه وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله وأنه تعالى سماه ثاني اثنين، وكان النبي يكرمه ويجله ويعرّف أصحابه مكانه ويثني عليه في وجهه، واستخلفه في الصلاة وشهد مع رسول الله بدرا وأُحُدا والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع.

قال رسول الله «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا»، ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديدا وقال: «يا قوم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم» وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى منهم بلال وعامر بن فهيرة، وكان أبو بكر إذا مُدح قال: «اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون» وهذا من تواضعه رضي الله عنه، ومما يدل على قوة إرادة أبي بكر ما قاله أبو السفر وهو: دخلوا على أبي بكر في مرضه فقالوا: يا خليفة رسول الله ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إليّ، قالوا: ما قال؟ قال: «إني فعَّال لما أريد».

قال عمر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي، فقال: «ما أبقيت لأهلك»؟ قلت: مثله، جاء أبو بكر بكل ما عنده فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك»؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا.

ومن أخبار تواضعه رضي الله عنه أنه كان يحلب للحيّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائحنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية: أتحبين أن أرغي لك أو أن أصرح؟ فأي ذلك؟ قالت: فعل.

والآن يقولون إننا في عصر المدنية والحرية والديمقراطية ومع هذا تجد الموظف الصغير يأنف أن يكلم الناس أو يقضي حوائجهم.

وعن سالم بن عبيد أن النبي لما اشتد مرضه أُغمِيَ عليه فلما أفاق قال: «مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، قال: ثم أُغميَ عليه فقالت عائشة: إن أبي رجل أسِيف فلو أمرت غيره، فقال: «أقيمت الصلاة»؟ فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبي رجل أسِيف فلو أمرت غيره، قال: «إنكن صواحبات يوسف مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، ثم أفاق فقال: «أقيمت الصلاة»؟ قالوا: نعم، قال: «ادعوا لي إنسانا أعتمد عليه» فجاءت بريرة وإنسان آخر فانطلقوا يمشون به وإن رجليه تخطان في الأرض، فأجلسوه إلى جنب أبي بكر فذهب أبو بكر يتأخر فحبسه حتى فرغ الناس فلما توفي - قال: وكانوا قوما أميين لم يكن فيهم نبي قبله - قال عمر: لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا، فقالوا له: اذهب إلى صاحب رسول الله فادعه - يعني أبا بكر -، فذهبت، فوجدته في المسجد قال: فأجهشت أبكي، قال: لعل نبي الله توفي، قلت: إن عمر قال لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فأخذ بساعدي ثم أقبل يمشي حتى دخل فأوسعوا له فأكب على رسول الله حتى كاد وجهه يمس وجه رسول الله فنظر نفسه حتى استبان أنه توفي، فقال: إنك ميت وإنهم ميتون، قالوا: يا صاحب رسول الله توفي رسول الله قال: نعم، فعلموا أنه كما قال.

قال ابن إسحاق: توفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشر (23 أغسطس سنة 634) وصلى عليه عمر بن الخطاب.

توفي بعد النبي بسنتين وأشهر بالمدينة وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وكان أبو بكر رجلا أبيض نحيفا خفيف العارضين أحنى، معروق الوجه، غائر العينين، ناتىء الجبهة، عاري الأشاجع، يخضب بالحناء والكتم، وكان أول من أسلم من الرجال وأسلم أبواه، له ولوالديه ولولده وولد ولده صحبة رضي الله عنهم، واختلف في سبب موته، فقيل: إنه مات مسموما، وقيل: إنه اغتسل في يوم بارد فَحُمَّ خمسة عشر يوما ثم مات بعدها، وقيل: إنه مات كمدا على رسول الله

هذه ترجمة حياة أبي بكر أثبتناها هنا بمناسبة إسلامه وما كان له من الشأن العظيم والقدر الرفيع، ولأنه قد بذل المجهود في نصرة الرسول فدل بذلك على غاية الوفاء ومنتهى الإخلاص، ولم يكن - رضي الله عنه - رجلا ضعيفا كما ظن بعض المستشرقين، بل كان شجاعا وكان مع شجاعته مخلصا لا يبالي بالأهوال ويحتمل المشقات كما يستفاد من سيرته، فبقي مع الرسول ولم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين عند اشتداد أذى الكفار على المسلمين، ولما دعاه النبي إلى الهجرة معه بكى من فرط السرور واشترك معه في غزواته، وهو ممن ثبت مع رسول الله في غزوة أُحُد، ولما توفي النبي فقد الناس صوابهم وقال عمر من قال: إن محمدا مات ضربته بسيفي هذا، أما أبو بكر فملك شعوره ولم يفقده وقع المصاب الجلل صوابه، فقال: إنك ميت وإنهم ميتون، وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر وفاة رسول الله فإذا كانت هذه مواقف ضعف وخلال وهن فأين مواطن القوة؟ ولم نذكر هنا أعماله الجليلة في خلافته.

يقول هؤلاء المستشرقون إنه كان يصدق الرسول تصديقا أعمى وإنه كان كالنساء سريع البكاء، وهو قول عجيب، فكيف لا يصدق الرسول وهو يعلم أنه صادق لا يكذب، بل هو أعلم خلق الله بصدقه عليه الصلاة والسلام لصحبته له تلك الصحبة الطويلة، إن تصديقه لرسول الله في كل ما قاله نتيجة الثقة به ولأجل هذه الثقة المتينة كان لا يتردد في التصديق به، ولأجلها تحمل معه الشدائد والاضطهادات، ولأجلها أنفق أمواله كلها وهذا شأن العاقل الذي إذا ثبت يقينه على أساس قوي لم يبال بما يصادفه من عقبات في سبيل نصرة الحق، أما بكاؤه عند سماع القرآن فهذا أظهر دليل على إخلاصه وتوقد ذكاؤه وقوة فهمه لكلام الله عز وجل إذ بقدر الفهم يكون التأثر، وقد أجمعوا على كثرة علمه ووفور عقله وفهمه وزهده وتواضعه.

كلماته المأثورة

كان رضي الله عنه يقول:

«أكيس الكياسة التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة، إن العبد إذا داخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة، ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد».

وقال: «لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا في مال لا ينفق منه في سبيل الله، ولا فيمن يغلب جهلُه حلمَه، ولا فيمن لا يخاف في الله لومة لائم».

«وجدنا الكرم في التقوى والغَناء في اليقين والشرف في التواضع».

«من مقت نفسه في ذات الله، أمنه الله من مقته».

«فاز بالمروءة من امتطى التغافل، وهان على القربى من عرف باللجاج».

«إياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إليه يعود، ثم يأكله الدود».

«لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة».

علي بن أبي طالب وإسلامه

علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ولد سنة 600 - 601 بعد الميلاد، وأم عليّ فاطمة بنت أسد بن هاشم وكنيته أبو الحسن وصهر رسول الله على ابنته فاطمة وأبو السِّبطين، وهو أول هاشمي وُلد من هاشميين، والخليفة الرابع وأول خليفة من بني هاشم وكان حين أسلم لم يبلغ الحلم، وقال ابن إسحاق: إنه كان يومئذ ابن عشر سنين وكان في كفالة النبي قبل أن يوحى إليه لأن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب كثير العيال، قليل المال، فأخذ رسول الله عليّا وضمه إليه وأخذ العباس جعفرا وضمه إليه تخفيفا عن أبي طالب ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

وسبب إسلامه أنه دخل على النبي ومعه خديجة رضي الله عنها وهما يصليان سواء، فقال: ما هذا؟ فقال رسول الله «دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته والكفر باللات والعزى»، فقال علي رضي الله عنه: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب، وكره رسول الله أن يفشي سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: «يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم هذا»، فمكث عليّ ليلته ثم إن الله تعالى هداه إلى الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله فأسلم على يديه، وكان عليّ رضي الله عنه يخفي إسلامه خوفا من أبيه إلى أن اطلع عليه وأمره بالثبات عليه فأظهره حينئذ، أما أبو طالب فلم يرض أن يفارق دين آبائه، وعن أنس بن مالك قال: بُعث النبي يوم الاثنين وأسلم عليّ يوم الثلاثاء، وأمره رسول الله أن يضطجع على فراشه ليلة خرج مهاجرا وقال: «إن قريشا لم يفقدوني ما رأوك» فاضطجع على فراشه، وسيأتي ذكر ذلك عند الكلام على الهجرة، ثم لحق برسول الله بالمدينة بعد قضاء ديون رسول الله وردّ الودائع التي كانت عنده، فلما وصل إليها كانت قدماه قد ورمتا من المشي وكانتا تقطران دما فاعتنقه رسول الله وبكى رحمة لما أصاب قدميه وتفل في يديه ومسح بهما رجليه ودعا له بالعافية فلم يشتكهما حتى استشهد رضي الله عنه، وشهد بدرا وغيرها من المشاهد، ولم يشهد غزوة تبوك لا غير لأن رسول الله خلفه على أهله، وأصابته يوم أُحُد ست عشرة ضربة، وكان عليّ رضي الله عنه مع شجاعته الفائقة عالما.

واستخلف عليّ رضي الله عنه، وبويع بالمدينة في مسجد رسول الله بعد قتل عثمان وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين (24 يونيه 656).

قتله رضي الله عنه

انتدب ثلاثة نفر من الخوارج: عبد الرحمن بن ملجم المرادي وهو من حمير وعداده في بني مراد وهو حليف بني جبلة، من كندة والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكير التميمي، فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة عليّ بن أبي طالب ومعاوية وعمرو بن العاص ويريحون العباد منهم، فقال ابن ملجم: أنا لكم بعليّ، وقال البرك: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو بن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا عليه وتواثقوا ألا ينكص منهم رجل عن صاحبه الذي سمي له ويتوجه له حتى يقتله أو يموت دونه، فحددوا ليلة سبع عشرة من رمضان ثم توجه كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه، فقدم عبد الرحمن بن ملجم الكوفة فلقي أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريد وكان يزورهم ويزورونه فزار يوما نفرا من بني تيم الرباب فرأى امرأة منهم يُقال لها: قطام بنت سخبة بن عدي بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تيم الرباب وكان عليّ قتل أباها وأخاها بالنهروان فأعجبته فخطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تسمي لي، فقال: لا تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فقالت: ثلاثة آلاف وقتل عليّ بن أبي طالب، فقال: والله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل عليّ وقد أعطيتك ما سألت، ولقي ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعي فأعلمه ما يريد ودعاه أن يكون معه فأجابه إلى ذلك وظل ابن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها أن يقتل عليا في صبيحتها يناجي الأشعث بن قيس الكندي في مسجده حتى طلع الفجر، فقال له الأشعث، فضحك الصبحُ فقام ابن ملجم الكندي وشبيب بن بجرة فأخذا أسيافهما ثم جاءا حتى جلسا في مقابل السدة التي يخرج منها عليّ، فلما خرج اعترضه الرجلان فضرب الاثنان بسيفيهما، فأما سيف ابن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه وكان قد سنّ سيفه شهرا، وأما سيف شبيب فوقع في الطاق فسمع عليّ يقول: لا يفوتنكم الرجل وشد الناس عليهما من كل جانب، فأما شبيب فأفلت وأُخذ ابن ملجم فأدخل على عليّ فقال: «أطيبوا طعامه وألينوا فراشه فإن أعش فأنا وليّ دمي عفو أو قصاص، وإن أمت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين» ضرب عليّ رضي الله عنه في السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين (24 يناير سنة 661) واستشهد بعد ذلك بثلاثة أيام ودفن بالكوفة ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة على الأصح وكانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر.

قال عليّ الباقر: كان عليّ آدم اللون مقبل العينين عظيمهما ذا بطن، أصلع، ربعة لا يخضب، وقال أبو إسحاق السبيعي: رأيته أبيض الرأس واللحية وكان ربما خضب لحيته، وقال أبو رجاء العطاردي: رأيت عليا ربعة، ضخم البطن، كبير اللحية قد ملأت صدره، أصلع، شديد الصلع.

هذا وقد اقتصرت في تاريخ حياة عليّ رضي الله عنه عَلى هذا القدر الضروري لأن المقام لا يسع أكثر من ذلك.

زيد بن حارثة وإسلامه

زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى، ويقع في نسبه خلاف وتغيير وزيادة ونقص وهو أشهر موالي رسول الله، ويقال له حِب رسول الله وهبته خديجة رضي الله عنها للنبي قبل النبوة وهو ابن ثمان سنين وأعتقه رسول الله وتبنَّاه وذلك أن أباه قد وَجَدَ (حَزِنَ) لفقده وجدا شديدا وكان قد أخذ في السبي، فلما علم أبوه أنه بمكة قدمها ليفديه فدخل حارثة وأخوه كعب على النبي فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فقال: «من هو»؟ قالا: زيد بن حارثة، فقال رسول الله «فهلا غير ذلك؟» قالا: ما هو؟ قال: «ادعوه وخيروه فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا»، قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه رسول الله فقال: «هل تعرف هؤلاء؟» قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال: «فأنا من قد عرفت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما»، قال: ما أريدهما وما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني فكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأهل بيتك؟ قال: نعم، ورأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا، فلما رأى رسول الله ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: «يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه»، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما وانصرفا.

وهاجر زيد مع رسول الله إلى المدينة وشهد بدرا وأُحدا والخندق والحديبية وخيبر، وكان هو البشير إلى المدينة بنصر المؤمنين يوم بدر، وكان من الرماة المذكورين وزوَّجه رسول الله مولاته أم أيمن فولدت له أسامة، وتزوج زينب بنت جحش أم المؤمنين، ثم طلقها، ثم تزوجها رسول الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ} (الأحزاب: 37)، إلى قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} (الأحزاب: 37)، فإن رسول الله لما تزوجها - يعني زينب - قالوا: إنه تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ} (الأحزاب: 40)، وكان زيد يقال له زيد بن محمد فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لاِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (الأحزاب: 5) الآية.

قال العلماء: ولم يذكر الله عز وجل في القرآن باسمه العلم من أصحاب نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم إلا زيدا في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَكَهَا} (الأحزاب: 37).

وآخى رسول الله بينه وبين حمزة، وأرسله رسول الله أخيرا أميرا على الجيش في غزوة مؤتة فقاتل فيها حتى قتل وذلك في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وكان زيد أبيض أحمر وكان ابنه أسامة آدم شديد الأدمة (أي أسمر).

الدعوة إلى الإسلام خفية

بعد أن نزلت سورة: «يا أيها المدثر» أخذ رسول الله يدعو الناس إلى الله تعالى وتتابع الوحي، ونزول هذه السورة ابتداء رسالته فهي متأخرة عن نبوته، وصار عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الإسلام خفية ثلاث سنين لعدم الأمر بالإظهار إلى أن أُمر بإظهار الدعوة وكان من أسلم إذا أراد الصلاة ذهب إلى بعض الشعاب ليستخفي بصلاته من المشركين حتى اطلع نفر من المشركين على سعد بن أبي وقاص وهو في نفرٍ من المسلمين يصلون في بعض الشعاب فناكروهم وعابوا ما يصنعون وقاتلوهم فضرب سعد رجلا منهم فشجه وهو أول دم أهريق في الإسلام، فعند ذلك خل رسول الله هو وأصحابه دار الأرقم مستخفين بصلاتهم وعبادتهم إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين، ودار الأرقم هي دار للأرقم بن أبي الأرقم من السابقين في الإسلام وهي في أصل الصفا.

وقد أسلم من الصحابة بدعاء أبي بكر: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله فجاء إلى رسول الله حين استجابوا له فأسلموا وصلوا وهنا يجب أن نذكر شيئا عنهم لرفعة شأنهم.

1 - فعثمان بن عفان هو الخليفة الثالث، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ويقال له: ذو النورين لأنه تزوج بنتي رسول الله رقية ثم أم كلثوم بعد وفاة رقية، ولد في السنة السادسة بعد الفيل وقتل شهيدا يوم الجمعة لثمان عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وهو ابن 82 سنة وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، وفي زمنه كانت غزوة الإسكندرية ثم سابور ثم إفريقية ثم قبرس وإصطخر الآخرة وفارس الأولى ثم خوز وفارس الآخرة ثم طبرستان ودار بجرد وكرمان وسجستان ثم الأساودة في البحر وغيرهن ثم مرو.

وكان رضي الله عنه حسن الوجه، رقيق البشرة، كث اللحية، أسمر كثير الشعر، بين الطويل والقصير وكان محببا من قريش.

2 - الزبير بن العوام أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله فهو ابن عمة رسول الله وابن أخي خديجة بنت خويلد زوجة النبي، وكان عمره حين أسلم اثنتي عشرة سنة، وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة في أحدهم: عثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، هاجر الزبير إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهو أول من سلّ سيفا في سبيل الله، شهد بدرا وأُحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وحصار الطائف والمشاهد كلها مع رسول الله وشهد اليرموك وفتح مصر، وكان أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية، وكان الزبير يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف فلحقه جماعة من الغوغاء فقتلوه بوادي السباع بناحية البصرة وقبره هناك، قتل في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وكان عمره حينئذ سبعا وستين، وقيل: ستا وستين سنة.

3 - عبد الرحمن بن عوف ولد بعد الفيل بعشر سنين قبل دخول رسول الله دار الأرقم، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة الذين هم أهل الشورى الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة، وجرح يوم أُحُد إحدى وعشرين جراحة وجرح في رجله وسقطت ثنيتاه، وكان كثير الإنفاق في سبيل الله، أعتق في يوم واحدا وثلاثين عبدا، وكان كثير المال محظوظا في التجارة، غنيا، وكان أبيض مشربا بحمرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، أعين، أهدب الأشفار، أقنى له جمة ضخم الكفين غليظ الأصابع لا تغير بشعره، توفي سنة ثنتين وثلاثين وهو ابن ثنتين وسبعين ودفن بالبقيع.

4 - سعد بن أبي وقاص - وكان عمره حين أسلم تسع عشرة سنة وهو أحد العشرة وأحد الستة أصحاب الشورى وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأول من أراق دما في سبيل الله، هاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله إليها، شهد مع رسول الله بدرا وأُحُدا والخندق وسائر المشاهد وكان يقال له فارس الإسلام، وأبلى يوم أُحد بلاءً شديدا وكان مجاب الدعوة، استعمله عمر بن الخطاب على الجيوش التي بعثها إلى بلاد فارس، وكان أمير الجيش الذي هزم الفرس بالقادسية وبجلولاء وغنمهم وفتح مدائن كسرى وبنى الكوفة وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه العراق، ورمى سعد يوم أُحُد ألف سهم، ولما قتل عثمان رضي الله عنه اعتزل سعد الفتن فلم يقاتل في شيء من تلك الحروب، توفي سنة خمس وخمسين بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ودفن بالبقيع وكان آدم طوالا ذا هامة.

5 - طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وسماه رسول الله طلحة الخير وطلحة الجود وهو من المهاجرين الأولين لم يشهد بدرا وشهد أُحُدا وما بعدها من المشاهد: قتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وكان عمره أربعا وستين سنة وقبره بالبصرة مشهور يُزار ويُتبرك به.

هذا جزء يسير من تراجم الخمسة الذين أسلموا بدعاء أبي بكر، وهم من الرجال الذين ذاع صيتهم في الإسلام لما قاموا به من جلائل الأعمال، وقد أسلم بعد هؤلاء: أبو عبيدة الجراح واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وعبيدة بن الحارث وسعيد بن زيد وامرأته فاطمة بنت الخطاب وأسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة وخباب بن الأرتّ حليف بني زهرة وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ومسعود بن القاري وهو مسعود بن ربيعة وسليط بن عمرو وأخوه حاطب بن عمر وعيَّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة وامرأته أسماء بنت سلامة وخنيس بن حذافة بن قيس وعامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد بن جحش وجعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عُمَيس وحاطب ابن الحارث وغيرهم.

الرد على مستر مرجوليوث

قدمنا أن عثمان بن عفان قد أسلم إجابة لدعوة أبي بكر، لكن الأستاذ مرجليوث في كتابه «محمد» يزعم أن سبب إسلامه أنه كان يحب رقية بنت رسول الله ويريد أن يتزوجها، فلما بلغه أنها خطبت لغيره حزن وأخبر أبا بكر بما بلغه وصادف مرور رسول الله فأسرّ أبو بكر كلمات في أذن الرسول وبذلك انتهى الأمر وأسلم عثمان وتزوج رقية، ولم يذكر لنا مستر مرجوليوث المصدر الذي استقى منه هذا الخبر حتى نناقشه ونفنده فما كل رواية يؤخذ بها ويعوّل عليها، ثم تعرض بعد ذلك إلى خالد بن سعيد وسبب إسلامه، فقد كان خالد من السابقين إلى الإسلام فكان ثالثا أو رابعا وقيل: كان خامسا في الإسلام، وسبب إسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به وكأن أباه يدفعه فيها ورأى رسول الله آخذا بحقويه لا يقع فيها ففزع من نومه وقال: أحلف إنها لرؤيا حق ولقي أبا بكر رضي الله عنه فذكر ذلك له، فقال له أبو بكر: أُريد بك خيرا، هذا رسول الله فاتبعه فإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع في النار وأبوك واقع فيها. فلقي رسول الله وهو بأجياد فقال: «يا محمد إلى من تدعو؟ قال: «أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده»، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فسرَّ رسول الله بإسلامه، وبعد أن ذكر مرجوليوث رؤيا خالد باختصار وتعبير أبي بكر لها وأن هذه الرؤيا كانت سبب إسلام خالد بن سعيد، تساءل هل الناس حقيقة يحلمون هكذا؟ لكنه قال: «إن فلاماريون وميرز (Flammarion and Myers) يجيبان نعم، إنهم يرون مثل ذلك» وهما من العلماء المشهورين، والمدهش أن الأستاذ مرجوليوث لا يعلم أن الناس يرون أحلاما هكذا مع إقرار علماء النفس في أوربا وأمريكا بذلك، والأحلام على العموم شائعة بين الناس، وليست رؤيا خالد من الأحلام المستغربة حتى يشك فيها مثل مرجوليوث، أما إذا كان الشك لغرض فهذا أمر آخر.

إن الناس يرون أحلاما يتحقق بعضها وبعضها يحتاج إلى تأويل، ويستبعد جدا أن يقص إنسان حلما مختلفا وليس للأحلام حدود أو ضوابط حتى يقال: إن هذا حلم وهذا ليس بحلم، فلا محل لتحكّم مستر مارجوليوث واستنكاره رؤيا خالد بن سعيد للنار، وهذا يوسف عليه السلام ورؤياه التي قصها على أبيه فقد تحققت بعد أربعين عاما وما رآه الفتيان اللذان كانا معه في السجن مما ورد ذكره في القرآن فقد عبّر يوسف عليه السلام رؤياهما وتحققت حسب تعبيره، إذ عاد أحدهما إلى مركزه السابق لدى الملك وأُعدم الآخر، إلا أن مستر مرجوليوث غرضه التهكم على الإسلام لا استنكار الأحلام، وهذا لا يليق بمستشرق مثله.

إيذاء المشركين لأبي بكر الصديق

عبادة الأصنام مع أنها واضحة البطلان فإن العرب كانوا متمسكين بها تمسكا شديدا لرسوخها في نفوسهم منذ زمن طويل فلا يطيقون سماع من يعيبها أو يطعن فيها بل لا يقبلون إرشاد ناصح يخاطبهم بالحسنى ويناقشهم بالعقل والبرهان، فإذا قيل لهم كيف تعبدون الحجارة التي لا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تعلم من يعبدها، ومن لا يعبدها، ثارت ثائرتهم وقالوا: هذا ما وجدنا عليه آباءنا واعتدوا على أعز الناس لديهم وأشرفهم وأعقلهم وأسهلهم أخلاقا، فلم يكن من الحكمة وأصالة الرأي أن يجهر النبي وأصحابه القليلون بالإسلام ويؤدوا شعائرهم الدينية أمام أمة بأسرها متعصبة لدينها الوثني تعصبا أعمى.

وقد أدرك بعض أفراد بعقلهم الثاقب وفطرتهم السليمة أن قومهم في خطأ مبين فمنهم من مات وهو منكر لعبادة الأصنام قبل الإسلام، ومنهم من آمن برسول الله عندما بلغته رسالته كسلمان الفارسي أو عندما دعاه رسول الله إلى اتباع الدين القويم كأبي بكر، ومن أَسلم بدعائه وغيرهم ولم يبالوا بما يصيبهم من سخط قومهم وإيذائهم مع ما يعلمونه من قلة عدد المؤمنين في بادىء الأمر.

فما وقع لأبي بكر رضي الله عنه من الأذية ما ذكره بعضهم كما في «السيرة الحلبية» أن رسول الله لما دخل دار الأرقم ليعبد الله هو ومن معه من أصحابه سرا ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه في الظهور، فقال له النبي «يا أبا بكر إنا قليل»، فلم يزل به حتى خرج رسول الله ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله جالس ودعا إلى رسول الله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى، فثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا مبرحا، ووطىء أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار، ثم تكلم وقال: ما فعل رسول الله فعذلوه فصار يكرر ذلك، فقالت أمه: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه، فخرجت إليها وقالت لها أن تسأل عن محمد بن عبد الله، قالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر، ثم قالت: تريدين أن أخرج معك؟ قالت: نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا فصاحت وقالت:

إن قوما نالوا هذا منك لأهلُ فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم، فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: ما فعل رسول الله فقالت له: هذه أمك تسمع، قال: فلا عين عليك منها، أي إنها لا تفشي سرك، قالت: سالم هو في دار الأرقم، فقال: والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجنا به يتكىء عليّ حتى دخل على رسول الله فرقّ له رقة شديدة وأكب عليه يقبّله وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برّة لو دعوت لها فعسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.

لا شك أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في خطر شديد، فقد كان لا يهدأ للمشركين بال إلا إذا أساءوا إليهم ولذلك كان الاستخفاء في غاية الحكمة، وبقي المسلمون مستخفين في دار الأرقم حتى كملوا أربعين رجلا، وكان آخرهم إسلاما عمر بن الخطاب، فلما كملوا به أربعين خرجوا وأظهروا إسلامهم.

تلك شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقوة إيمانه وصدق يقينه، لقد وقف أمام المشركين وجها لوجه ولم يبال بكثرتهم وعرّض حياته الغالية للخطر ليدعوهم إلى الحق، إلى عبادة الله الواحد القهار ونبذ الشرك وخلع الوثنية فأصيب بشر ما يصاب به إنسان وكاد يقضى عليه، فلما أفاق كان أول ما تلفظ به السؤال عن رسول الله ولم ترتح نفسه وتطمئن حتى رآه بعينيه سالما معافى، فأين هذا من الذين يخالفون عقائدهم ويميلون مع الأهواء وينضمون إلى من يأنسون فيه القوة ويعينون على الباطل لمتاع مؤقت لا يلبث أن يزول؟.

لو كان المسلمون في بادىء أمرهم متهاونين مذبذبين لما ثبتت دعائم الإسلام وصار قوي الأركان، متين البنيان، بل لقُبِرَ في مهده، لكنه ارتفع على كواهل رجال أقوياء صادقين أدهشوا العالم بأعمالهم وجهادهم حتى خضعت لهم أمم الأرض فبمثل عمل هؤلاء فليهتد المصلحون.

إظهار الإسلام سنة 613م

أمر الله سبحانه وتعالى النبي أن يصدع بما جاءه منه، وأن يدعو الناس إليه ويأمرهم به، وكان بين إخفاء رسول الله أمره واستتاره به وبين أمر الله تعالى إياه بإظهار دينه ثلاث سنين من بعثه، ثم قال الله تعالى له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لله} (الحجر: 94)، أي لا تبالِ بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة، وقال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 214 - 215)، فصعد رسول الله على الصفا، فقال: «يا معشر قريش»، فقالت قريش: محمد على الصفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا، فقالوا: ما لكَ يا محمد؟ قال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟» قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط، قال: «فإني نذير لكم بين يديْ عذاب شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة - حتى عدد الأفخاذ من قريش - إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله»، فقال أبو لهب: - تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ - فأنزل الله تبارك وتعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} (المسد: 1) السورة كلها، فلمّا سمع أبو لهب قوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} قال: إن كان ما يقول محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي فنزل: {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد: 2)، وكان أبو لهب إذا سأله وفد عن النبي قال: إنه ساحر ومجنون لينصرفوا عنه قبل لقائه، وقد أغضبت هذه السورة أبا لهب فأظهر شدة العداوة وصار متهما فلم يقبل قوله في رسول الله فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه، ورُوي عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله في السوق يقول: «أيها الناس: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه، ويقول: لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد وعمه أبو لهب، أما امرأته فهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية فكانت أيضا في غاية العداوة لرسول الله وترمي الشوك في طريقه.

وعن الزهري أنه قال: دعا رسول الله إلى الإسلام سرا وجهرا فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنه غلام بني عبد المطلب يكلم من السماء فكان ذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر فشنفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه.

وعن ابن عتبة أنه قال: لما أظهر رسول الله الإسلام ومن معه وفشا أمره بمكة ودعا بعضهم بعضا فكان أبو بكر يدعو ناحية سرا، وكان سعيد بن زيد مثل ذلك، وكان عمر وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح يدعون علانية، فغضبت قريش من ذلك وظهر منهم لرسول الله الحسد والبغي وأشخص به منهم رجال فبادوه وتستر آخرون وهم على ذلك الرأي إلا أنهم ينزهون أنفسهم عن القيام والإشخاص برسول الله وكان أهل العداوة والمباداة لرسول الله وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل: أبو جهل بن هاشم وأبو لهب بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدي وهو ابن الغليطة، والوليد بن المغيرة، وأُبيّ بن خلف، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث، ومنبه بن الحجاج، وزهير بن أبي أمية والسائب بن صيفي بن عابد، والأسود بن عبد الأسد، والعاص بن سعيد بن العاص، والعاص بن هاشم، وعقبة بن أبي مُعيط، وأبو الأصدى الهذلي، والحكم بن أبي العاص، وعدي بن الحمراء، وذلك أنهم كانوا جيرانهم، والذين كانت تنتهي عداوة رسول الله إليهم أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط، وكان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل هداوة ولكنهم لم يشخصوا بالنبي نحو قريش ولم يسلم منهم أحد إلا أبو سفيان.

عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن

كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله عبد الله بن مسعود، اجتمع يوما أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشاهم عليه إنما نريد رجلا له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه، فقال: دعوني؛ فإن الله سيمنعني، فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام، فقال رافعا صوته: بسم الله الرحمن الرحيم: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ} (الرحمن: 1، 2)، فاستقبلها فقرأ فتأملوا، فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.

وقيل: إن أبا جهل لطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي عليه السلام رقّ قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي؟» فقال: ستعلم، فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال عليه السلام: «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين»، فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه.

الضرب والشتم حيلة الجهال المتعصبين

إن كفار قريش، لم يفكروا في مناقشة ما يسمعون من الآيات القرآنية التي كان يتلوها رسول الله وأصحابه، بل كانوا يتهمونه بالكذب تارة أو بالجنون أو بالسحر ويضربون من يجهر بالقرآن، وهذا سلاح الضعيف الجاهل، إن رسول الله كان يعيب آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ويقول: إنها أصنام صنعتموها بأيديكم وهي لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر، فاتركوها واعبدوا الله خالق السماوات والأرض ويعدد لهم صفاته وقدرته جل شأنه، فلولا رسوخ العقيدة الباطلة في نفوسهم، والعقائد الباطلة القديمة، تشل عقل معتنقيها، نقول لولا رسوخ العقيدة، لحكموا عقولهم وبادروا إلى الإيمان بالله، لكن عزَّ عليهم أن يأتي رجل منهم ويتهمهم بالكفر والضلال ويعيب تلك الآلهة القديمة التي وجدوا آباءهم وأجدادهم يسجدون لها ويقدمون لها الذبائح والهدايا، فالتجأوا إلى الضرب والشتم وهذا شأن كل جاهل متعصب، ولما دخل رسول الله مكة فاتحا وأمر بهدم تلك الأصنام التي كانوا يعتقدون أنها مقدسة لا يقدر أحد على إيصال الأذى إليها، وهدمت بالفعل ووجد أن لا حول لها ولا قوة وقتل من كان فيها من المشعوذين، أيقنوا أنهم كانوا في ضلال مبين فقال الرسول: {جَآء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَطِلُ إِنَّ الْبَطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81)، فاللهم طهِّر قلوبنا من الشرك وأَمِتْنا مسلمين.

القرآن يحير ألباب العرب

تحيَّرت ألباب العرب في القرآن الذي نزل بلغتهم وهم أهل فصاحة وبلاغة، وخشيت قريش أن ينتشر الإسلام وينتصر النبي بدينه على الأصنام، فاتفقوا على إطلاق اسم على رسول الله ينفّر القبائل منه، ويشوّه سمعته، ويكون عقبة في سبيل نشر دعوته، ذلك أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسمُ فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسمُ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقل به، قال: بل أنتم قولوا أسمع، قالوا: نقول كاهنا، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخَنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه، وهزَجه، وقريضه، مقبوضه، ومبسوطه فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحار وسحرهم فما هو بنفْثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعَذْق، وإن فرعه لجنَاةٌ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، والمرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر أحد إلا حذروه إياه، لكن النتيجة جاءت عكس ذلك فقد انتشر ذكره في بلاد العرب.

وقد كان ضماد بن ثعلبة الأزدي صديقا للنبي في الجاهلية، وكان رجلا يتطيب ويرقي ويطلب العلم، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فجاءه وقال: إني راق فهل بك من شيء فأرقيك؟ فأجابه بقوله: «الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد»، فقال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن النبي ثلاثا، فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وسمعت قول السحرة، وسمعت قول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات لقد بلغت ناعوس البحر فمد يدك أبايعك على الإسلام، فمد النبي يده فبايعه وأسلم.

وهكذا أخفق مسعاهم وسقط إفكهم والحسود لا يسود، والكذب لا تقوم له قائمة فلا بد أن يسود الحق ويكتسح الباطل أمامه.

قريش تفاوض أبا طالب في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

المفاوضة الأولى

لما رأت قريش أن أبا طالب قد قام دون النبي ولم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البَخْتري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل السهمي ونبيه ومنبِّه ابنا الحجاج، وغيرهم، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه. فقال لهم أبو طالب قولا جميلا، وردهم ردا رقيقا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما هو عليه، هذه هي المفاوضة الأولى، لكنها لم تثمر شيئا، إذ ظل الرسول يدعو إلى عبادة الله كما كان.

المفاوضة الثانية

ثم لما تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله فكروا في مفاوضة أبي طالب مرة أخرى، فمشوا إليه وقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد اشتهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا، وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا، ثم انصرفوا عنه، ومعنى ذلك أنهم هددوا أبا طالب في هذه المرة وأظهروا له العداوة، فعظم عليه فراق قومه وعداوتهم له، ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله وخذلانه، فبعث إلى رسول الله فأعلمه ما قالت قريش، وقال له: أبق على نفسك وعليّ ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله أن عمه قد خذله وضعف عن نصرته، فقال له: «يا عماه والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» ثم بكى رسول الله وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب فأقبل عليه وقال: - اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا - فتدبر أيها القارىء في قوة رسول الله تلك القوة المعنوية العظيمة أمام شعب معاد معاند وشدة تمسكه بمبدئه إلى النهاية.

المفاوضة الثالثة

أصرّ أبو طالب على الدفاع عن ابن أخيه قياما بالواجب على نحو من تربّى في كفالته ونشأ في بيته وعملا بالمروءة، ولكنه مع ذلك بقي على دينه ولم يعتنق الإسلام لذلك صارت مهمته شاقة ومركزه حرجا فأمامه قريش متعصبة لدينها وقد أغضبها قيام محمد بنشر الإسلام ومحاربة الأصنام، وصاحب الدعوة لا يثنيه عن القيام بما أُمر به سخرية ساخر أو اضطهاد مضطهد، فلو أن أبا طالب أسلم لكان دفاعه أعظم وحجته أبلغ أمام العرب وأحكم، لكنه ظل على دين آبائه ودافع عن رسول الله لا عن عقيدة بل أداء لواجب القرابة.

وفي هذه المرة مشوا إلى أبي طالب بعُمارة بن الوليد، فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم فخذه فلك عقله ونصرته فاتخذه ولدا وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفّه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومك نقتله فإنما رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك. وكلّ عاقل يرى أن ما عرضته قريش على أبي طالب في غاية السخف لكنهم كانوا يتلمسون الحيل للخلاص من صاحب الدعوة بأي حال، فلما يئسوا من إجابة طلبهم اشتدت قريش على من أسلم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم إلى منع رسول الله فأجابوا إلى ذلك.

تعذيب المسلمين

أخذت قريش تؤذي النبي وتؤذي من آمن به حتى عذبوا جماعة من المستضعفين عذابا شديدا يدل على مبلغ تعصبهم وقسوتهم.

فمن الذين عذبوا لأجل إسلامهم بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر، وكان أبوه من سبي الحبشة وأمه حمامة سبية أيضا وهو من مولدي الشراة وكنيته أبو عبد الله فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرّمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان بلال وهو في هذه الحال يقول: «أَحَد.، أَحَد» فرآه أبو بكر يعذب، فقال لأمية بن خلف الجمحي: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته فأنقذه، فقال: عندي غلام على دينك أسود أجدل من هذا أعطيكه به، قال: قبلت، فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه، وقيل: اشتراه أبو بكر بخمس أواق، أما أمية بن خلف فقتله بلال، واشترك مع معاذ بن عفران وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف. قال ابن إسحاق: أما ابنه عليّ فقتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف وذلك في موقعة بدر.

ومن المعذَّبين: عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسيُّ وهو بطن من مراد، وعنس هذا أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديما ورسول الله في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلا، أسلم هو وصهيب في يوم أحد، وكان ياسر حليفا لبني مخزوم فكانوا يخرجون عمارا وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء فمرّ بهم النبي فقال: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»، فمات ياسر في العذاب وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل فطعنها في فرجها بحربة فماتت وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة وبوضع الصخر في شدة الحر على صدره تارة أخرى، فقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا وتقول في اللات والعزى خيرا، ففعل فتركوه فأتى النبي يبكي فقال: «ما وراءك؟» فقال: شر يا رسول الله كان الأمر كذا وكذا، فقال: «فكيف تجد قلبك؟» قال: أجده مطمئنا بالإيمان، فقال: «يا عمار إن عادوا فعد»، فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَنِ} (النحل: 106).

ومنهم خبَّاب بن الأرت وكان إسلامه قديما، قيل: سادس ستة قبل دخول رسول الله دار الأرقم فأخذه الكفار وعذبوه عذابا شديدا فكانوا يعرّونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرَّضْف وهي الحجارة المحماة بالنار ولووا رأسه فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا، وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ونزل الكوفة ومات سنة سبع وثلاثين، وقال عليّ رضي الله عنه: رحمه الله إنَّ خبَّابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا وابتغى في جسمه ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا.

ومنهم صُهيب بن سنان الرومي كناه رسول الله «أبا يحيى» قبل أن يولد له، وكان ممن يعذب في الله فعذب عذابا شديدا فلما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله أجمع وجعله عمر بن الخطاب عند موته يصلي بالناس إلى أن يستخلف بعض أهل الشورى.

ومنهم عامر بن فهيرة مولى الطفيل بن عبد الله، وكان الطفيل أخا عائشة لأمها أم رومان أسلم قديما قبل دخول رسول الله دار الأرقم وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه واشتراه أبو بكر وأعتقه، ولما خرج رسول الله وأبو بكر إلى الغار مهاجرين أمر أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة أن يروح بغنم أبي بكر عليهما وكان يرعاها وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما، وشهد عامر بدرا وأُحُدا وقُتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة وهو ابن أربعين سنة.

ومنهم لبيبة جارية بني مؤمل بن حبيب بن كعب أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب وكان يعذبها حتى تفتن ثم يدعها ويقول: إني لم أدعك إلا سآمة، فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.

هذه أمثلة ذكرتها ليتضح للقارىء اشتداد العذاب على هؤلاء المساكين رجالا ونساءً.

ومما أصاب النبي من الإيذاء ما قاله ابن عمر كما في البخاري: بينا رسول الله بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله فلفَّ ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه فدفعه عن رسول الله وفي رواية ثم قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله.

وفي رواية البخاري: كان رسول الله يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء بهم ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم فلما سجد رسول الله وضعه بين كتفيه وثبت النبي ساجدا فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك فانطلق منطلق إلى فاطمة فأقبلت تسعى وثبت النبي ساجدا حتى ألقته (ثمّ أقبلت) عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله قال: «اللهم عليك بقريش»، ثم سمى فقال: «اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد»، وقد سقطوا جميعهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى قليب بدر، أما عقبة بن أبي معيط فكان من أسرى بدر وأمر رسول الله بقتله.

ما عرضته قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال عتبة بن ربيعة يوما وهو جالس في نادي قريش والنبي عليه الصلاة والسلام جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم كفرَّت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال رسول الله «قل يا أبا الوليد أسمع»، قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟ قال: نعم، قال: «فاسمع مني»، قال: أفعل، قال: «بسم الله الرحمن الرحيم: {حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَبٌ فُصّلَتْ ءايَتُهُ قُرْءانا عَرَبِيّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرا وَنَذِيرا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (فصلت:1 - 4)، ثم مضى رسول الله فيها يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك».

فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.

لقد ظن أبو الوليد في بادىء الأمر أن النبي يقبل ما يعرضه عليه من مال وجاه وملك فأظهر له استعداد قريش لمنحه كل ما يبغي على ألا يتعرض لدينهم ولا يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام، ظن ذلك لأن الإنسان ولا سيما الفقير المحتاج يطمع في المال وتغره أبهة الملك فيتشبث بهما ويسعى إليهما ما وجد للسعي سبيلا، ولو كان أبو الوليد عرض ذلك كله أو بعضه على غير النبي لاغتبط به واتفق مع قريش في الحال وأراح نفسه وأصحابه من العناء والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل في كل وقت. ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن طامحا إلى شيء من ذلك أصلا ولم يكن في وسعه أن يتنحى عن الدعوة إلى الإسلام مهما حاولت قريش صرفه عنها، ألا ترى أنه قال لعمه أبي طالب: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»، وما ذلك إلا لأن الله سبحانه قد أمره بنشر الدعوة حيث قال: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} (المدثر: 2، 1)، وقال عزّ شأنه: {وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 7)، أي: اصبر على مشاق التكاليف وأذى المشركين، فكيف بعد هذا الأمر الإلهي تخور عزيمته وتفتر قوته ولا يصبر على كل ما يصيبه من الإيذاء؟ بل كيف يغتر بحطام الدنيا وينخدع لما تعرضه عليه قريش من ملك وجاه ومال.

ولما رأت قريش أن رسول الله قد رفض ما عرضوه عليه قالوا له: يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيِّر عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول، فقال: «ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك مَلكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا: فأسقط السماء علينا كِسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال رسول الله: «ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل»، قالوا: يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، إنه قد بلغنا إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا لا نؤمن بالرحمن

أبدا فقد اعتذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، فلما قالوا ذلك لرسول الله قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك، ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجِّل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل ثم قال له: فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك مع أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدّقك ثم انصرف رسول الله إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه.

إن هذه المطالب التي طلبتها قريش من النبي مطالب مدهشة تدل على شدة تعنتهم وعنادهم وعلى أنهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا إذا شاهدوا المستحيلات ورأوا خوارق العادات ولذلك سألوا رسول الله أشياء عجيبة لا تخطر على البال بقصد تعجيزه والتشهير به فسألوه أن يغيّر طبيعة بلادهم فيسيّر الجبال ويفجر الأنهار ويحيي الموتى أو أن يجعل الله له الجنان والقصور ويعطيه الكنوز، فهذه مطالب عبّاد المادة عباد الأصنام، ثم ما أسخف ما سأله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي طلب أن يتخذ النبي عليه الصلاة والسلام سلما إلى السماء ويأتي بصك وأربعة ملائكة يشهدون معه على صحة ما يقول، ولماذا كل هذا؟ ليؤمن عبد الله بن أبي أمية هذا وقد قاسى الأنبياء صلوات الله عليهم الصعاب في سبيل هداية الكفار الذين كانوا يرمونهم بالضلال والسفاهة والجنون والسحر، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 59)، فبماذا أجابوه على ذلك؟ {قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ} (الأعراف: 60).

ولما دعا هود عليه السلام قومه على عبادة الله رموه بالسفاهة والكذب، قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَذِبِينَ} (الأعراف: 65، 66).

ولما أظهر موسى عليه السلام المعجزة وألقى العصا فانقلبت ثعبانا ادّعوا أنه ساحر، قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآء لِلنَّظِرِينَ قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَحِرٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 107 - 109) فالمتعنتون لا يؤمنون مهما رأوا من الآيات البينات وخوارق العادات: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 132)، فهل بعد ذلك مكابرة وإصرار على الكفر؟

حماقة أبي جهل

لما عاد رسول الله آسفا من عناد قومه وتشبّثهم بالكفر قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه. ومن هذا تظهر عداوة أبي جهل للنبي وهذه العداوة أخرجته عن حد العقل فأخذ يسلك سلوك الجهال ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذ النبي من شره ونجّاه من غدره.

كان أبو جهل فرعون هذه الأمة اسمه عمرو بن هشام، قتل يوم بدر كافرا وكانت بدر في السنة الثانية من الهجرة، قتله عمرو بن الجموح وابن عفراء الأنصاريان، وكانا حدثين وحديثهما في الصحيح مشهور، وفي كتب السنن أن رسول الله حين رآه مقتولا قال: «قُتل فرعون هذه الأمة» وقد كان سيّىء الخلق فظّا غليظ القلب، فمن ذلك أنه ظلم تاجرا قدم من زبيد بثلاثة أجمال حسان فسامها منه أبو جهل بثلث أثمانها ثم لم يسمها لأجله سائم فأكسد عليه سلعته ولم ينصفه غير رسول الله لأنه ساومه حتى ألحقه برضاه وأخذها رسول الله فباع جملين بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه، وكان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستعان اليتيم بالنبي فمشى معه ورد إليه ماله منه.

وابتاع من شخص يقال له الأراشي أجمالا بأثمانها فلما استعان الرجل برسول الله وذكر له أنه غريب وابن سبيل وأن أبا جهل غلبه على حقه قام معه إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال: «محمد»، فخرج إليه وقد امتقع لونه، فقال: «أعط هذا الرجل حقه»، فامتلأ رعبا وأعطى الرجل حقه، هذا هو أبو جهل وهذا شيء من غلظته وجوره وهضمه للحقوق.

وفي كتاب «قاموس الإسلام» الطبعة الثانية سنة 1896 ص 8: «إن أبا جهل كان فخورا فاجرا». Dictionary of Islam. 2nd edition. (1896), Page 8.

قريش تمتحن رسول الله صلى الله عليه وسلم

لم تكتفِ قريش بهذا كله بل أرادوا إحراجه عليه الصلاة والسلام بالأسئلة فبعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاثة نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئنا بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله فقالوا: يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح وما هي؟.

فقال لهم رسول الله: «أخبركم بما سأَلتم عنه غدا» ولم يستثن، فانصرفوا عنه فمكث رسول الله خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه وحيا ولا يأْتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سأَلناه عنه، فشق على الرسول تأْخير الوحي وما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سأَلوه عنه.

قال المفسرون: إن القوم لما سأَلوا النبي عن المسائل الثلاث قال عليه السلام: «أجيبكم عنها غدا» ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما ثم نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلِكَ غَدا إِلاَّ أَن يَشَآء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24)، والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول - إن شاء الله - هو أن الإنسان إذا قال سأَفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضا لو بقي حيا أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق فإِذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في ذلك الوعد، والكذب منفِّر وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام.

جاء جبريل من الله عز وجل بخبر ما سألوه عنه، فقال تعالى في شأن الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءايَتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9)، وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطوّاف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْرا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرْضِ وَآتَيْنَهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَبا فَأَتْبَعَ سَبَبا} (الكهف: 83 - 85) إلى آخر القصة.

وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} (الإسراء: 85).

وقد أيد هذه الرواية الدكتور ولفنسون الإسرائيلي مدرّس اللغات السامية بالجامعة المصرية ودار العلوم فقال في رسالته (تاريخ اليهود في بلاد العرب) صفحة 98 ما يأتي:

«وينفي بعض المستشرقين صحة هذه القصة الخطيرة دون أن يأتوا بدليل نطمئن إليه، والحق أن من العسير إنكار رواية تاريخية كانت سببا في نزول سورة الكهف والآيات الخاصة بالروح وذي القرنين وعندنا دليل يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الرواية من المحتمل أن تكون واقعية، وهي أن في التلمود قصة مشهورة تشبه قصة أهل الكهف ومن هذه القصة أخذ أحبار اليهود الأسئلة التي وجهوها للرسول بواسطة وفد قريش، ويؤيد هذه القصة ما ذهبنا إليه من أنه لم يكن بمكة أحد من اليهود؛ إذ لو وجد منهم في مكة ما أوفد قريش وفدهم إلى المدينة ليسألوا أحبار اليهود عن شأن النبي وإذا وجد منهم أحد فلا بد أن يكون غير عالم».

وأنزل الله عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاْمْرُ جَمِيعًا} (الرعد: 31)، أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.

وأنزل عليه في قولهم خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ويبعث ملكا يصدقه بما يقول ويرد عنه: {وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُورا انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآء جَعَلَ لَكَ خَيْرا مّن ذلِكَ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا} (الفرقان: 7 - 10) أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش: {جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا} (الفرقان: 10).

وأنزل الله عليه فيما قال عبد الله بن أبي أمية: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَرَ خِلَلَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ قُلْ سُبْحَنَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا لله} (الإسراء: 90 - 93).

وأنزل عليه في قولهم إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدا: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبّى لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30).

وأنزل عليه فيما قال أبو جهل وما همَّ به: {أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْدا إِذَا صَلَّى أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (العلق: 9 - 19).

وأنزل الله عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٍ} (سبأ: 47).

إسلام جابر بن عبد الله

بحث الأستاذ مرجليوث وأجهد نفسه في البحث على ما يظهر في كتابه - محمد - صفحة 106 عن الأساتذة الذين كانوا يعلمون رسول الله الكتب المقدسة فقال ما ترجمته:

«كان جابر بن عبد الله مولى بني عبد الدار يهوديا صائغا في مكة فكان يجلس هو وياسر - يهودي آخر - يقرآن الكتاب المقدس أثناء اشتغالهما بالتجارة، وكان النبي يمر عليهما ويستمع منهما» ومعنى ذلك حسب رأيه أنه كوّن أفكاره الخاصة بالتوراة من سماع جابر بن عبد الله وهو يتلو عليه لكنه قال بعدئذ: «إن جابرا اعتنق الإسلام عند سماعه النبي يقرأ سورة يوسف» فإذا كان جابر اليهودي قد أسلم عند سماعه قصة يوسف وهي في التوراة التي كان يتلوها على النبي كما ادعى فلا بد أن القصة مذكورة في القرآن بغاية الدقة والإحكام والتفصيل المدهش حتى إنها حيَّرت لب جابر الذي ذكره مرجوليوث كمعلم لرسول الله، على أن الأستاذ مرجوليوث اعترف بإسلام جابر لأنه مذكور في كتب السير، وإنا نعد إسلامه دليلا على إعجاز القرآن الكريم وعلى أنه منزل على رسول الله، أما ياسر فقد أسلم أيضا وعذب لإسلامه عذابا شديدا حتى مات.

وقال الأستاذ مرجوليوث: «ويُظن أن الجزء الخاص بالمسيحية في القرآن قد تعلمه النبي من صهيب الذي أسلم قديما وقد كان روميا من الموصل» وإنا نقول: إن إسلام هؤلاء دليل على رسالة رسول الله وصدقه وقد أسلم صهيب ورسول الله في دار الأرقم وكان من المستضعفين بمكة المعذبين في الله عز وجل وهاجر إلى المدينة وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، هذا وقد ذكرنا أن الأستاذ نولدكه اعترف بأن رسول الله ما كان يعرف الأسفار القديمة.

وما قاله مرجوليوث قاله كفار قريش، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءاخَرُونَ} (الفرقان: 4)، قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه قوم آخرون، يعني عداسا مولى حويطب بن عبد العزى ويسارا غلام عامر بن الحضرمي وجبرا مولى عامر وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا كان النبي يتعهدهم ومن أجل ذلك قال النضر ما قال.

الهجرة الأولى إلى الحبشة شهر رجب السنة الخامسة من المبعث

(سنة 615م)

لما رأى رسول الله ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب وما هو فيه من العافية لمكانه من الله عز وجل ودفاع أبي طالب عنه وأنه لا يقدر أن يمنعهم، قال لهم:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه» ومكث هو فلم يبرح يدعو إلى الله سرا وجهرا.

وكان اسم النجاشي وقتئذ أصحمة بن أبجر، ومعنى أصحمة بالعربية عطية، والنجاشي اسم لكل ملك يلي الحبشة وكان الأحباش مسيحيين نسطوريين فخرج المهاجرون متسللين سرا وذلك في شهر رجب سنة خمس من بعد النبوّة (سنة 615 م).

وكان الذي خرجوا اثني عشر رجلا وأربع نسوة حتى انتهوا إلى الشعيبة، فمنهم الراكب والماشي، ووفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيها إلى أرض الحبشة وخرجت قريش في أثرهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا، فكان خروجهم سرا.

قالوا: قدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار، أمِنّا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه، وكانت الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها ويجدون فيها رزقا وأمنا حسنا.

كان عدد المهاجرين قليلا ولكن كان لهجرتهم هذه شأن عظيم في تاريخ الإسلام فإنها كانت برهانا ساطعا لأهل مكة على مبلغ إخلاص المسلمين وتفانيهم في احتمال ما يصيبهم من المشقات والخسائر في سبيل تمسكهم بعقيدتهم، وكانت هذه الهجرة الأولى مقدمة للهجرة الثانية إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، وهذه أسماء المهاجرين والمهاجرات:

عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله، أبو حذيفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل، مصعب بن عمير، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، أبو سلمة بن عبد الأسد ومعه امرأته، أم سلمة، عثمان بن مظعون، عبد الله بن مسعود، عامر بن ربيعة ومعه امرأته، ليلى بنت أبي هيثمة، أبو سبرة، حاطب بن عمرو، سهيل بن بيضاء وهو سهيل بن وهب.

شفاعة الغرانيق افتراء الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

روى بعض المؤرخين ونقل عنهم المفسرون أن رسول الله لما رأى من قومه كفَّا عنه، جلس خاليا وتمنى فقال: ليته لا ينزل عليّ شيء ينفرهم عني وقارب رسول الله قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1)، حتى بلغ: {أَفَرَءيْتُمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} (النجم: 19، 20) ألقى الشيطان كلمتين على لسانه: «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى» فتكلم رسول الله بها ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم جميعا ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود، ويقال: إن أبا أحيحة سعيد ابن العاص أخذ ترابا ورفعه إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا فبعض الناس يقول: إنما الذي رفع التراب الوليد وبعضهم يقول: أحيحة، وبعضهم يقول كلاهما فعل ذلك فرضوا بما تكلم به رسول الله وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده وأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك، فكبر ذلك على رسول الله من قولهم حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة.

فقال جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله «قلتُ على الله ما لم يقل» فأوحى الله إليه: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذا لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا إِذًا لأَذَقْنَكَ ضِعْفَ الْحَيَوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} إلى قوله: {إِلاَّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ} (الإسراء: 73 - 75).

نقل هذه الرواية ابن سعد في «طبقاته» عن عبد الله بن حنطب، وقد قال الترمذي: إن عبد الله ابن حنطب لم يدرك النبي أخرجه الثلاثة، أما الآية التي قيل: إنها نزلت بسبب أن رسول الله قد قال على الله ما لم يقل بذكره شفاعة الغرانيق وهي: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} (الإسراء: 73) الآية، فلم تنزل بهذه المناسبة، فقد قال ابن عباس في رواية عطاء، نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله فسألوه شططا وقالوا: متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة من شجرها وطيرها ووحشها فأبى رسول الله ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله عنهم وداخلهم الطمع فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى صاحب «الكشاف» أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون، ولا يجبون، فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب: اكتب ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله فقام عمر بن الخطاب وسلّ سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش، أسعر الله قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا، فنزلت هذه الآية، وهذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا: إن هذه الآية مدنية.

وذكر الطبري مسألة شفاعة الغرانيق فقال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، ثم سرد رواية محمد بن كعب القرظي بما يقارب رواية عبد الله بن حنطب التي نقلناها عن طبقات ابن سعد إلا أنه قال: فأنزل الله عز وجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج: 52) فأذهب الله عز وجل عن نبيّه الحزن وآمنه من الذي كان يخاف ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم إنها الغرانيق العلا وإن شفاعتهن ترتجى بقول الله عز وجل حين ذكرت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى تِلْكَ إِذا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَآءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإنسَنِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَوتِ لاَ تُغْنِى شَفَعَتُهُمْ شَيْئا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآء وَيَرْضَى} إلى قوله: {لِمَن يَشَآء وَيَرْضَى} (النجم: 21 - 26) أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده، الخ.

أما محمد بن كعب القرظي - منسوب إلى بني قريظة الطائفة المعروفة من اليهود - فهو تابعي توفي سنة ثمان ومائة، جاء في «تهذيب التهذيب» لابن حجر العسقلاني ما يأتي:

«وما تقدم نقله عن قتيبة من أنه ولد في عهد النبي لا حقيقة له وإنما الذي ولد في عهده هو أبوه فقد ذكروا أنه من سبي قريظة ممن لم يحتلم ولم ينبت فخلوا سبيله، حكى ذلك البخاري في ترجمة محمد، قال الفخر الرازي في «تفسيره»: الآية المتقدمة بعد أن ذكر قصة الغرانيق، هذه رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنّة والمعقول، أما القرآن فمن وجوه:

أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (الحاقة: 44 - 46).

وثانيها: قوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَآء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} (يونس: 15).

وثالثهما: قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4)، فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلا، وكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم.

ورابعها: قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذا لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا} (الإسراء: 73)، وكلمة كاد معناها قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل.

وخامسها: قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} (الإسراء: 74)، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل لوجود التثبيت.

وسادسها: قوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (الفرقان: 32).

وسابعها: قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الأعلى: 6).

أما السنة فهي ما رُوي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة؛ وصنف فيه كتابا.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيها حديث الغرانيق.

ورُوي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق، وأما المعقول فمن وجوه:

أحدها: أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم.

وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم؟.

رابعا: قوله: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَتِهِ} (الحج: 52) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن بالقرآن فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.

وخامسها: وهو أقوى الوجوه - أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة وكل ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها هنا لكنهم ما بلغوا حد التواتر وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة.

ثم ذكر الفخر الرازي تفصيلات أخرى فلتراجع، وإنا نعتقد أن هذه القصة باطلة ومدسوسة ومن وضع الزنادقة الذين يريدون بالإسلام سوءا ومع هذا فليس من المعقول أن يعترف النبي بشفاعة الغرانيق وهو يدعو إلى عبادة الله تعالى ويحارب الأصنام ولو كان الشيطان له سلطان عليه بدرجة أنه يملي عليه ويحرك لسانه بالكفر لكان ألعوبة له ليس في هذه القصة فقط بل في غيرها أيضا، والنبي معصوم من الشيطان، قال البيضاوي في تفسيره بعد ذكر قصة الغرانيق: - ثم نبّهه جبريل فاغتم به فعزاه الله بهذه الآية وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه -، قال إسماعيل القنوي في «حاشيته»: وهو مردود عند المحققين، بل يجب أن يكون مردودا عند جميع المسلمين لما عرفته من أمارات الكذب، قوله: وإن صح الخ إشارة إلى منع صحته رواية لما قاله القاضي عياض في «الشفاء»: إنه لم يوجد في شيء من الكتب المعتمدة بسند صحيح وقال إنه من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض: إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل إنما أولع به المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب.

قال ابن حزم في كتاب «الملل والنحل» جزء 4 ص 23: وأما الحديث الذي فيه «وأنهن الغرانيق العلا وأن شفاعتهن لترتجى» فكذب بحت لأنه لم يصح قط من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد.

وقال البيهقي: رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم، وقال الإمام النووي نقلا عنه: وأما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله ما جرى على لسانه من الثناء على آلهتهم فباطل لا يصح منه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لأن مدح إله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك إلى رسول الله ولا أن يقوله الشيطان على لسانه ولا يصح تسلط الشيطان عليه وإلا لزم عدم الوثوق بالوحي، اهـ.

وقال الآلوسي في «تفسيره»: «وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة، كبرت كلمة خرجت من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم السلام، فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بها نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أي قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الخ، لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة».

أما معنى قوله تعالى في سورة الحج: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} (الحج: 52) الخ الآية، أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى، وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر، فالآية ليست بخصوص قصة الغرانيق بل هي بخصوص وسوسة الشيطان على العموم للأنبياء والرسل، فالواجب ألا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم، فذلك هو المحكم، وقال أبو مسلم: معنى الآية أنه لم يرسل نبيا إلا إذا تمنى كأنه قيل وما أرسلنا إلى البشر ملكا، وما أرسلنا إليهم نبيا إلا منهم وما أرسلنا نبيا خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلم صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان، قال: وفيما تقدم من قوله: {قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الحج: 49)، تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكا بل أرسل رجالا فقد يوسوس الشيطان إليهم.

فأمثال هذه القصص المدسوسة المكذوبة على رسول الله هي التي جعلت للطاعنين في الإسلام مجالا للنقد وتشويه الحقائق وتقبيح المحاسن، وقد حُشِرت في كتبنا من غير تحقيق وهاك دليلا آخر على كذب هذه القصة من الوجهة التاريخية وهو:

إن الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت في رجب سنة خمس من النبوة وكانت السجدة في رمضان من السنة نفسها أي قبل إسلام حمزة وعمر لأنهما أسلما في السنة السادسة.

وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين قبل إسلام عمر كانوا يستخفون في دار الأرقم ويؤدون شعائرهم الدينية في منازلهم، وكان أصحاب النبي لا يقدرون أن يصلوا عند الكعبة حتى أسلم عمر. فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلوا معه واتفقوا على تسميته «الفاروق».

فإذا كان المسلمون قبل إسلام عمر ما كانوا يستطيعون الصلاة عند الكعبة فكيف مع هذا يقال: إن رسول الله سجد عند الكعبة وسجد معه القوم جميعا؟ الحقيقة أن الرواية كذب واختلاق محض.

قال «موير» في الجزء الثاني من «حياة محمد»: إن حمزة وعمر أسلما في السنة السادسة من النبوة، وقال: إن المسلمين لم يعودوا يخفون صلاتهم في منازلهم بل كانوا بعدئذ يجتمعون حول الكعبة ويصلون وهم آمنون مطمئنون.

إن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة عادوا إلى مكة بسبب ما بلغهم من تحسن الأحوال أو أنهم سمعوا إشاعة كاذبة تطمئنهم فقدموا في شوال سنة خمس إلا أنه لم يدخل أحد منهم إلا بجوار عثمان بن مظعون فإنه دخل بلا جوار ومكث قليلا ثم أسرع الرجوع إلى الحبشة لأن المسلمين كانوا لا يزالون يُضطهدون وكان النبي يعيب الأصنام».

فكل هذه البراهين تؤيد أن قصة شفاعة الغرانيق أو أن النبي ذكر آلهة قريش بخير، افتراء واختلاق ولا يمكن أن يصدق هذه القصة أحد من المؤرخين المحققين، وقد ذُكِرَت في كتاب «تاريخ القرون الوسطى» لجامعة كامبردج الجزء الثاني ص 310، 311، باعتبار أنها صحيحة، وأنه ندم على ما قال ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه، واستنتج الكاتب أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتقد أنه إنما يتبع أمرا إلهيا سواء عند تلفظه بهذه الكلمات أو عند عدوله عنها، لكنه علق في الهامش بما يأتي:

«إن كثيرا من المحققين المسلمين يعتبرون هذه القصة خرافية وهذا ما كان ينتظر منهم، لكن من المدهش أن مؤرخا غير متحيز مثل - كايتاني - ينكرها أيضا».

وأنا أقول: لا وجه للدهشة لأن المؤرخ الذي يقدر موقفه ولا يتحيز لأحد يعترف بالحقيقة بغض النظر عن أي اعتبار آخر فإذا كان الأستاذ (كايتاني) وهو ذلك المؤرخ الإيطالي الكبير الذي يصدر المؤلفات الضخمة عن تاريخ الإسلام ينكر هذه القصة فما ذلك إلا أنه لم يرد أن يثبت إلا ما وصل إليه تحقيقه في هذه المسألة دون تحيز.

إسلام حمزة

حمزة بن عبد المطلب، وأمه هالة بنت وهب، وهو عم رسول الله وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكان رضي الله عنه أسن من رسول الله بسنتين، وهو سيد الشهداء وآخى رسول الله بينه وبين زيد بن حارثة، أسلم سنة ست من النبوة وكنيته أبو عمارة وكان شجاعا، محاربا، قوي الجسم، طويل القامة.

وكان سبب إسلامه أن أبا جهل اعترض رسول الله فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له فلم يكلمه رسول الله وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له فكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدّها شكيمة وكان يومئذ مشركا على دين قومه، فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله فرجع إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم آنفا؛ وجده ها هنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد، فاحتمل حمزة الغضب فخرج سريعا لا يقفُ على أحد كما كان يصنع، يريد الطواف بالبيت معدا لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت، فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك، أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقوله الحق فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. قال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا وثبت حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولونه به ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وأبلى بلاءً عظيما مشهورا، وقاتل يوم بدر بسيفين وشهد أُحدا فقُتلَ بها يوم السبت النصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة بعد أن قتل من المشركين قبل أن يُقتل أحدا وثلاثين نفسا، وبينما كان يقاتل إذ عثر عثرة وقع فيها على ظهره فانكشف الدرع عن بطنه فزرقه وحشي الحبشي مولى جبير بن مطعم بحربة فقتله، ومثّل به المشركون وبجميع قتلى المسلمين وجعل نساء المشركين، هند وصواحباتها يجدعن أنوف المسلمين وآذانهم ويبقرن بطونهم، وبقرت هند بطن حمزة رضي الله عنه فأخرجت كبده فجعلت تلوكها فلم تسغها فلفظتها، فقال النبي «لو دخل بطنها لم تمسها النار»، وبكى رسول الله لما رآه قتيلا، ومع ذلك عفا رسول الله عن هند يوم الفتح، ودُفن عند أُحد في موضعه وكان عمره تسعا وخمسين سنة، وكان حمزة أول شهيد صلى عليه رسول الله

عمر بن الخطاب وسبب إسلامه

عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى وأمه حنتمة بنت هاشم، ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، رُوي عن عمر أنه قال: ولدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين ويوافق مولده سنة 581 م، وكان مديد القامة، تاجرا مشهورا من أشراف قريش، وكانت إليه السفارة في الجاهلية، وذلك أن قريشا إذا وقعت بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافرا ومفاخرا، ولما بعث رسول الله كان شديدا عليه وعلى المسلمين، وقد ذكرنا أنه كان يعذب جارية بني مؤمل لإسلامها فاشتراها أبو بكر وأعتقها.

إسلامه رضي الله عنه

عن ابن عباس أنه قال: «أسلم مع رسول الله تسعة وثلاثون رجلا وامرأة، ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين»، ورُوي أن النبي قال: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام» يعني أبا جهل.

وحكى عمر عن سبب إسلامه فقال:

كنت من أشد الناس على رسول الله فبينا أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة إذ لقيني رجل من قريش فقال: أين تذهب يا ابن الخطاب أنت تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد صبأت، قال: فرجعت مغضبا، وقد كان رسول الله يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة فيكونان معه ويصيبان من طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين فجئت حتى قرعت الباب، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، وكان القوم جلوسا يقرأون في صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتي تبادروا واختفوا وتركوا أو نسوا الصحيفة من أيديهم فقامت المرأة ففتحت لي، فقلت: يا عدوة نفسها قد بلغني أنك صبأت، قال: فأرفع شيئا في يدي فأضربها به فسال الدم فلما رأت المرأة الدم بكت ثم قال: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت، فدخلت وأنا مغضب فجلست على السرير فنظرت فإذا بكتاب في ناحية البيت، فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطنيه - وكان عمر كاتبا - فقالت: لا أعطيك، لست من أهله، أنت لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهر وهذا لا يمسه إلا المطهرون، قال: لم أزل بها حتى أعطتنيه - بعد أن اغتسل - فإذا فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1)، فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدي ثم رجعت إليّ نفسي فإذا فيها: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَوتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحديد: 1)، قال: فكلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت ثم ترجع إليّ نفسي حتى بلغت: {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} حتى بلغت إلى قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الحديد: 7، 8)، قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني وحمدوا الله عز وجل، ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فإن رسول الله دعا يوم الاثنين فقال: «اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين إما عمرو بن هشام وإما عمر بن الخطاب»، وإنا نرجو أن تكون دعوة رسول الله لك فأبشر، قال: فلما عرفوا مني الصدق قلت لهم: أخبروني بمكان رسول الله فقالوا: هو في بيت في أسفل الصفا وصفوه، فخرجت حتى قرعت الباب قيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: وقد عرفوا شدتي على رسول الله ولم يعلموا بإسلامي فما اجترأ أحد منهم أن يفتح الباب، فقال رسول الله «افتحوا له فإنه إن يرد الله به خيرا يهده»، ففتحوا لي وأخذ رجلان بعضدي حتى دنوت من النبي فقال: «أرسلوه»، فأرسلوني فجلست بين يديه فأخذ بمجمع قميصي فجبذني إليه ثم قال: «أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده»، قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبّر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة.

وكان إسلام عمر في السنة السادسة من النبوة، وكان في السادسة والعشرين من عمره بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام، وسماه رسول الله الفاروق لأنه لما أسلم قال لرسول الله: ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن متم أو حييتم»، قال: فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر حتى دخلنا المسجد فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبها مثلها، فسمَّاني رسول الله الفاروق، وفرق بين الحق والباطل. قال عمر رضي الله عنه: لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله عداوة حتى آتيه فأخبره أني أسلمت، قال: قلت: أبو جهل، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه فخرج إليّ أبو جهل، فقال: مرحبا ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به، فضرب الباب في وجهي وقال: قبّحك الله وقبّح ما جئت به، فكان إسلام عمر ضربة قاضية على أبي جهل.

ولا شك أن عمر رضي الله عنه قد أسلم لما قرأ آي الذكر الحكيم مع أنه كان قبل إسلامه يعذب جارية بني مؤمل لإسلامها أشد العذاب بلا رحمة ولا شفقة ولا يتركها إلا إذا ملّ وكلّ، وهذا يدل على أنه كان شديد البغض للإسلام، شديد التعصب لدينه، وقد تعدى على أخته وشجها، ولم يكن أحد يتصور أن صاحب هذا الخلق الشديد الحانق على الإسلام والمسلمين والمعتدي على الرجال والنساء بالتعذيب والضرب يسلم بمجرد قراءته آي القرآن، نعم لم يكن أَحد يتصور ذلك لكن لما كان القرآن ليس كلام البشر بل كلام الله سبحانه وتعالى كان له تأثير عجيب في النفوس، ولا بد أن سامعه يرق قلبه مهما كان قاسيا، لذلك لم يسع عمر بن الخطاب هذا العربي الصميم إلا الاعتراف بأن ما تلاه هو كلام الله سبحانه وتعالى وليس في استطاعة البشر الإتيان بمثله فصدق بما جاء به محمد وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، وعمر رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين وقد ضرب المثل الأعلى بعدله وزهده.

قال عليّ رضي الله عنه: ما علمت أحدا هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب فإنه لما همَّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده سهما، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها فطاف سبعا ثم صلى ركعتين عند المقام ثم أتى حلقهم واحدة واحدة وقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه وييتّم ولده وترمل زوجته فليلحقني وراء هذا الوادي.

فما تبعه أحد منهم.

ومن مناقب عمر بن الخطاب العظيمة رضي الله عنه أن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها:

1 - آية أخذ الفداء عن أسارى بدر.

2 - آية تحريم الخمر.

3 - آية تحويل القبلة.

4 - آية أمر النساء بالحجاب.

5 - النهي عن القيام على قبر من مات من المنافقين.

وطعن عمر رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، ودُفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين (يوافق سنة 644 م) وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور.

والذي طعن عمر: العلج أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة وهو قائم في صلاة الصبح حين أحرم بالصلاة طعنه بسكين ذات طرفين فضربه في كتفه وخاصرته، وقيل: ضربه ضربات، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدّعي الإسلام. والظاهر أن العلج هذا كان مجنونا لأنه طعن مع عمر ثلاثة عشر رجلا، توفي منهم سبعة وعاش الباقون، ولما أحس أنه مقتول قتل نفسه.

وكانت خلافته - رضي الله عنه - عشر سنين وخمسة أشهر وأحدا وعشرين يوما، وثبت في «صحيح البخاري» وغيره أنه أول من جمع الناس لصلاة التراويح فجمعهم على أبيّ بن كعب بن قيس رضي الله عنه، وأجمع المسلمون في زمنه وبعده على استحبابها، ورُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه مرّ على المساجد في رمضان وفيها القناديل فقال: «نوَّر الله على عمر قبره كما نوّر علينا مساجدنا».

قال الغزالي رحمه الله: لما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة، كانت له زوجة يحبها فطلقها خيفة أن تشير عليه بشفاعة في باطل فيطيعها ويطلب رضاها، وذلك لشدة تمسكه بالعدل.

الهجرة الثانية إلى الحبشة

لما قدم أصحاب النبي مكة من الهجرة الأولى - بسبب إسلام عمر وإظهار الإسلام - اشتد عليهم قومهم وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا فأذن لهم رسول الله في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الآخرة أعظمها مشقة ولقوا من قريش تعنيفا شديدا ونالوهم بالأذى واشتدّ عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، وتخوفوا من حماية دولة أجنبية قوية للمسلمين المهاجرين. فقال عثمان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة إلى النجاشي ولست معنا، فقال رسول الله: «أنتم مهاجرون إلى الله وإليّ لكم هاتان الهجرتان جميعا»، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله، وكان عدة من خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانين رجلا ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية وسبعا غرائب، فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي في أحسن جوار، فلما سمعوا بمهاجر رسول الله إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ومن النساء ثماني نسوة فمات منهم رجلان بمكة وحبس بمكة سبعة نفر.

حصار الشعب وخبر الصحيفة - مقاطعة رسول الله وأتباعه

لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله وجعل الإسلام ينتشر في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله للقتل، أعني أنهم اتفقوا وتعاهدوا على مقاطعتهم مقاطعة تامة انتقاما منهم لإسلامهم ودفاعهم عن رسول الله وكتبوا بذلك صحيفة توكيدا لأنفسهم وعلقوها في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع من النبوة (617 م)، وكانت الصحيفة مكتوبة بخط بغيض ابن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله فشل يده، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب وقطعوا عنهم الميرة والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغوا الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقال: انظروا ما أصاب بغيض بن عامر فأقاموا في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله ماله وأنفق أبو طالب ماله وأنفقت خديجة مالها وصاروا إلى حد الضر والفاقة، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأن الأرَضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم وبقي ما كان فيها من ذكر الله، فذكر ذلك رسول الله لأبي طالب فذكر أبو طالب لإخوته وخرجوا إلى المسجد، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي قد أخبرني - ولم يكن يكذبني - قط أن الله قد سلَّط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقي ما كان فيها من ذكر الله، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر؟ ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة فقال: اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم الله منا ثم انصرفوا إلى الشعب. وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم وكان فيهم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هاشم وزهير بن أبي أمية فلبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا، فلما رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة.

وفي «سيرة ابن هشام» أنهم أقاموا عل ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل بن هشام فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله ومعه في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري وقال: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله وأصحابه فيشمتوا بهم، ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس. هذا ومن المدهش أن مرجوليوث يقول: إن أبا جهل كان مشهورا بالعقل والذكاء، وهل تدري لماذا أيها القارىء؟ لأنه كان معاديا لرسول الله لأن أعماله وصفاته التي ذكرناها لا تدل على أنه كان عاقلا ذكيا. إن النبي كان يدعو العرب إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، كان يدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى نبذ عبادة الحجارة، ومعنى ذلك أنه كان يعمل على انتشالهم من الانحطاط الديني الذي كانوا غارقين فيه ورفعهم إلى أعلى المراتب وأسمى العقائد، وعدا ذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام يهذبهم ويعلمهم مكارم الأخلاق ويبث في نفوسهم الآداب الاجتماعية العالية، فهل يقال عن رجل اتصف بشدة عداوة لرسول الله إنه عاقل ثم إن مرجوليوث يظهر حنقه على من أسلموا ولا سيما إذا كانوا من الأبطال الأشداء فيرميهم بأوصاف ذميمة منفرة.

الطفيل بن عمرو الدوسي شاعر يحكم عقله ويسلم

كانت قريش إذا سمعت بقدوم أحد من العرب يقابلونه ويحذرونه من رسول الله ويصفونه بكل نقيصة خشية أن يسلم ويعود إلى بلاده ويدعوهم إلى الإسلام، لكن الطفيل بن عمرو الدوسي لم يعبأ بتحذيرهم بل حكم عقله وتقابل مع رسول الله وسمع منه القرآن فكر فيه وتذوقه لأنه شاعر فأسلم وهذه قصته:

هو الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله ابن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن نصر بن الأزد الدوسي، يُلقب ذا النون.

كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل بنا وفرق جماعتنا وإنما قوله كالحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبينه وبين زوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك فلا تكلمه ولا تسمع منه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت أذني كرسفا، فرقا أن يبلغني من قوله وأنا أريد أن لا أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل شاعر لبيب ما يخفى عليّ الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ إن كان الذي يأتي حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته، فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا ثم إن الله أبى إلا أن أسمع قولك فسمعت قولا حسنا فأعرض عليّ أمرك.

فعرض عليّ الإسلام وتلا عليّ القرآن ما سمعت قولا قطّ أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وقلت: يا رسول الله إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللهم اجعل له آية، قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح فقلت: اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوها مُثْلَة لفراقي دينهم فتحولت في رأس سوطي فجعل الحاضر يتراءون ذلك في النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت: إليك عني يا أبت فلست منك ولست مني، قال: ولم أي بني؟ قلت: إني أسلمت، وقال: أيُخاف عليّ من ذي الشرى - صنم لهم -، فقلت: لا، أنا ضامن لذلك، ثم دعوت دوسا فأبطأوا عن الإسلام، فرجعت إلى رسول الله بمكة فقلت: يا رسول الله قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم، فقال: «اللهم اهد دوسا إليّ، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم»، قال: فرجعت فلم أزل بأرض قومي دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجروا إلى النبي إلى المدينة وقضى بدرا وأُحُدا والخندق ثم قدمت على رسول الله بمن أسلم معي من قومي ورسول الله بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا برسول الله بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين، ثم لم أزل مع رسول الله حتى فتح الله عز وجل عليه مكة فقلت: يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممة - حتى أُحرِّقه، فخرج إليه فجعل طفيل يقول وهو يحرقه وكان من خشب:

يا ذا الكَفَيْن لست من عبّادكا ** ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

ثم رجع طفيل إلى رسول الله فكان معه بالمدينة حتى قبض الله رسوله

وفاة أبي طالب سنة 620 م

كان أبو طالب بن عبد المطلب من أشد الناس دفاعا عن رسول الله لكن نفسه لم تطاوعه على اعتناق الإسلام وفراق دين آبائه، رُوي أن النبي قال: «ما زالت قريش كاعة عني حتى مات عمي» وكان النبي يحب أن يسلم عمه لأنه هو الذي كفله وذاد عنه إلى آخر لحظة من حياته.

ولما اشتد مرضه قال رسول الله «يا عم، قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة» - يعني قل الشهادة -، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي لولا مخافة المسبة وأن تظن قريش إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء} (القصص: 56)، قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها خشية أن تعيّره قريش على أن الذي منعه من الإسلام هو خوف الملام والشتم وأنه فارق دين آبائه واتبع دين ابن أخيه وقد رباه صغيرا، فالمشهور أنه مات كافرا وكان له من الولد جعفر وعليّ وعقيل وطالب وأم هانىء واسمها فاختة وجمانة وكلهم أعقب إلا طالبا، وكان أبو طالب أعرج وتوفي بعد النبوة بعشر سنين وقبل الهجرة بثلاث سنين بالغا من العمر نحو ثمانين سنة، وقالت الشيعة: إن أبا طالب مات مسلما.

وفي «أسد الغابة»: لما اشتد بأبي طالب مرضه دعا بني عبد المطلب فقال: إنكم لن تزالوا بخير ما سمعتم قول محمد واتبعتم أمره فاتبعوه وصدقوه ترشدوا.

ولما مات أبو طالب قال له رسول الله «رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله»، فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113).

وفاة خديجة سنة 620م

توفيت خديجة زوجة رسول الله بعد أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل بأكثر من ذلك، في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين ولها خمس وستون سنة وكان مقامها مع رسول الله بعدما تزوجها أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ودفنها رسول الله بالحجون ولم تكن الصلاة على الجنائز يومئذ، وحزن عليها النبي ونزل في حفرتها، وتتابعت على رسول الله بموت أبي طالب وخديجة المصائب لأنهما كانا من أشد المعضدين له المدافعين عنه، فاشتد أذى قريش عليه حتى نثر بعضهم التراب على رأسه وطرح بعضهم عليه سلى الشاة وهو يصلي - السلى الجلدة التي يكون فيها الولد - وسُمي العام الذي مات فيه أبو طالب وخديجة - عام الحزن - ولم ينسَ رسول الله محبته لخديجة بعد وفاتها وكان دائما يثني عليها ولم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها، وقد كانت مثال الزوجة الصالحة الوفية، فبذلت نفسها ومالها لرسول الله وصدقته حين نزل عليه الوحي.

سفره إلى الطائف

الطائف بلدة في الحجاز على مسافة 65 ميلا جنوبا شرقيا من مكة، وهي مشهورة بجودة مناخها وخصب أرضها وفواكهها، ولا سيما العنب والبرقوق والرمان والخوخ وبها مياه جارية ويضرب بعنبها المثل في الحسن وربما جمد الماء فيها في الشتاء، والجبل الذي هي عليه يقال له - غزوان - وهي مصيف أغنياء مكة، ومقر عبادة العزى وقد سافر إليها النبي لثلاث بقين من شوال سنة عشر من المبعث (يناير - فبراير سنة 620 م) ومعه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف النصرة فعمد إلى جماعة من أشراف ثقيف ودعاهم إلى الله فقال واحد منهم: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبدا لأنك إن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمونه بالحجارة ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط وقد أدموا رجليه فلما اطمأن ورجع عنه السفهاء قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع، إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك». وهذا الدعاء مشهور بدعاء الطائف، فلما رأى ابنا ربيعة عتبة وشيبة ما لقي رسول الله تحركت له رحمهما فدعوا له غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله فلما وضع رسول الله يده قال: باسم الله، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، قال له رسول الله «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟»، قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى»؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله «ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي»، فأكب عداس على رأس رسول الله يقبّل رأسه ويديه ورجليه، فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي؟ فقالا: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه. ثم إن رسول الله انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف فوجد قومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به، وفي الطبري: أن بعضهم ذكر أن رسول الله لما انصرف من الطائف مريدا مكة مر به بعض أهل مكة فقال له رسول الله «هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها؟»، قال: نعم، قال: «ائت الأخنس بن شَريق فقل له: يقول لك محمد هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي»؟ قال: فأتاه فقال له ذلك، فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح، فأتى النبي فأخبره، قال: «تعود؟»، قال: نعم، قال: «ائت سهيل بن عمرو فقل له: إن محمدا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟» فأتاه فقال له ذلك، فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب، فرجع إلى النبي فأخبره، قال: «تعود؟»، قال: نعم، قال: «ائت المطعم بن عدي فقل له إن محمدا يقول لك هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟» قال: نعم، فليدخل، فرجع إليه الرجل فأخبره، وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد، فلما رآه أبو جهل قال: أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت، فدخل النبي مكة وأقام بها، فدخل يوما المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة فلما رآه أبو جهل قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف، قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك؟ فأخبر بذلك النبي أو سمعه فأتاهم فقال: «أما أنت يا عتبة بن ربيعة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله ولكن حميت لأنفك، وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا، وأما أنتم يا معشر الملأ من قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون».

ويقال: إن رسول الله أقام بالطائف عشرة أيام، وظاهر أن الذي دعاه إلى السفر هو التماس النصرة، ولكنهم خذلوه وما التمس النصرة من ثقيف إلا بعد أن توفي أبو طالب وخديجة، أضف إلى ذلك أن فريقا من المسلمين هاجروا إلى الحبشة، ولما عاد من الطائف لم يستطع دخول مكة إلا بجوار رجل كالمطعم بن عدي.

وفي رجوعه من الطائف مرّ به نفر من جن أهل نصيبين اليمن وهو يقرأ سورة (الجن) فاستمعوا له وآمنوا به، ولم يشعر بهم حتى نزل عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرا مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} (الأحقاف: 29)، وكانوا سبعة وقيل أكثر.

الإسراء والمعراج سنة 621 م

كان الإسراء قبل الهجرة ب سنة، وبه جزم ابن حزم في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب وهو المشهور وعليه عمل الناس وكان ليلة الإثنين، وكان بعد خروجه إلى الطائف.

كان الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى السموات، وفرضت عليه في تلك الليلة الصلوات الخمس وقد ذكر الإسراء في القرآن.

قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1).

واختلف في كيفية الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أُسري بجسد رسول الله والأقلون قالوا: إنه ما أُسري إلا بروحه، حُكي عن محمد بن جرير الطبري في «تفسيره» عن حذيفة أنه قال: ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله وإنما أسري بروحه، حُكي هذا القول أيضا عن عائشة رضي الله عنها وعن معاوية رضي الله عنه وحديث عائشة ليس بالثابت لأنها لم تكن حينئذ زوجته، قال النسفي: وكان الإسراء في اليقظة، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والله ما فقد جسد رسول الله ولكن عرج بروحه، وعن معاوية مثله. وعلى الأول الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم.

واتفق الأكثرون من طوائف المسلمين على أنه أسري بجسد رسول الله وهو الصحيح، جاء في «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية:

«وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناما وإنما قالا أسرِي بروحه ولم يفقد جسده وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض وروحه لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا عرج برسول الله طائفتان: طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أُسري بها وعرج بها حقيقة وباشرت من جنس ما تباشر به بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السموات سماء سماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فتقف بين يدي الله سبحانه وتعالى فيأمرها بما يشاء ثم تنزل إلى الأرض، فالذي كان لرسول الله ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة، ومعلوم أن هذا الأمر فوق ما يراه النائم» الخ.

فالإسراء ما كان مناما قطعا لأنه لو كان مناما لما كذبه المشركون فإن من الناس من يرى أنه صعد إلى السماء أو قطع مسافات شاسعة لا يتصورها العقل، وليس المنام معجزة خارقة للعادة، والروح في المنام لا تفارق الجسم، كذلك لو كان الإسراء مناما لصرح به رسول الله

والطبري في «تفسيره» ينكر أن الإسراء كان بالروح فقط وقد رد على من قال بذلك فقال:

«والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده كما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله أن الله حمله على البراق حتى أتاه به وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال أُسْريَ بروحه دون جسده لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته ولا حجة له على رسالته ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك يدفعون به عن صدقه فيه إذ لم يكن منكرا عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل، إلى أن قال: ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجسام إلا أن يقول قائل: إن معنى قولنا أُسرِيَ بروحه رأى في المنام أنه أُسري بجسده على البراق فيكذب حينئذ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله لم يكن النبي على قوله حمل على البراق لا جسمه ولا شيء منه وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين وذلك دفع لظاهر التنزيل وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله وجاءت به الآثار من الصحابة والتابعين».

ومما قاله الفخر الرازي في «تفسيره»: قال أهل التحقيق: إن الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر، أما القرآن فهذه الآية، وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح إلخ، وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات، اهـ.

والمعراج به إلى السموات ليطلع على عجائب الملكوت كما قال تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَتِنَآ} (الإسراء: 1)، وإلا فالله تعالى لا يحويه زمان ولا مكان ورأى ربه تلك الليلة وأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليه خمس صلوات وجمع له الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصلى بهم في بيت المقدس ثم استقبلوه في السموات ورجع من ليلته إلى مكة.

وقد أنكر المسيحيون إسراء رسول الله ومعراجه وليس ذلك بمستغرب منهم، إنما الغريب أنهم يؤمنون بقيام المسيح وصعوده إلى السماء، ففي آخر إنجيل مرقص:

(ثم إن الرب بعدما كلمهم، ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله).

وجاء في آخر إنجيل لوقا:

(وفيما هو «المسيح» يباركهم، انفرد عنهم وأصعد إلى السماء).

تأثير خبر الإسراء في قريش

لما أصبح رسول الله أخبر الناس بما رآه فصدقه الصدِّيق وكل من آمن به إيمانا قويا وارتد ناس ممن آمن به، وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس فوصفه لهم وسألوه عن أشياء في المسجد فمثل بين يديه فجعل ينظر إليه ويصفه ويعدّ أبوابه لهم بابا بابا فيطابق ما عندهم، وسألوه عن عير لهم فأخبرهم بها وبوقت قدومها فكان كما أخبر.

ويُروى أنه لما رجع إلى مكة من ليلته أخبر بمسراه أم هانىء بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنه وأنه يريد أن يخرج إلى قومه ويخبرهم بذلك لأنه ما أحب أن يكتم قدرة الله وما هو دليل على علو مقامه فتعلقت بردائه أم هانىء وقالت: أنشدك الله يا ابن عم ألا تحدث بها قريشا فيكذبك من صدقك فضرب بيده على ردائه فانتزعه منها، قالت: وسطع نور عند فؤاده كاد يخطف بصري فخررت ساجدة فلما رفعت رأسي فإذا هو قد خرج، قال: فقلت لجاريتي نبعة وكانت حبشية: اتبعيه وانظري ماذا يقول، فلما رجعت أخبرتني أن رسول الله انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم وفيهم مطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام فأخبرهم بمسراه.

ولما قص رسول الله خبر الإسراء على جمع من قريش أعظموا ذلك الإسراء وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا - فلو كان الإسراء رؤيا منامية لما كانت مستغربة ولما أحدثت تلك الضجة وكذبه المسلمون اللهم إلا من كان منهم قوي العقيدة ثابت الإيمان - قال مطعم بن عدي: إن أمرك قبل اليوم كان أمرا يسيرا غير قولك اليوم، هو يشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة؟ واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذي تقول قط، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك جبهته وكذبته أنا أشهد أنه صادق، وفي رواية: فسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة وروحة، فقال مطعم: يا محمد صف لنا بيت المقدس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: صف لي يا رسول الله فإني قد جئته، فجاءه جبريل بصورته ومثاله فجعل يقول باب منه في موضع كذا وباب منه في موضع كذا، وأبو بكر رضي الله عنه يقول: أشهد أنك رسول الله حتى أتى على أوصافه.

وهذه هي الأحاديث الواردة في «صحيح البخاري» الخاصة بالإسراء مشروحة في الهامش شرحا موجزا نقلا عن القسطلاني:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: «لما كذبني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه».

المعراج

عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما: أن نبي الله حدثهم عن ليلة أُسريَ به قال: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال: في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه - قال الراوي من ثغرة نحره إلى شعرته - فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض - قال الراوي: وهو البراق - يضع خطوة عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنِعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، وقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا إدريس قال: هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد، قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: «ما هذا يا جبريل؟» قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت عليّ الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمس كل يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني جربت الناس قبل وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قلت: وسألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلّم قال: فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.

عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ} (الإسراء: 60)، قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله ليلة أُسريَ به إلى بيت المقدس، قال: والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم.

هل رأى رسول الله ربه ليلة الإسراء؟

أنكرت عائشة رؤية رسول الله ربه ليلة الإسراء ورُوي عن ابن عباس أنه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب رضي الله عنهما، وكان الحسن رحمه الله يحلف على ذلك، ومن القائلين بالرؤية ابن مسعود وأحمد بن حنبل وجماعة من الصحابة، وعن ابن عباس أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد وعن عكرمة سئل ابن عباس: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم، قال النووي في شرح «صحيح مسلم»: والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر رضي الله عنهم في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد ربه فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها فإنها لم تخبر أنها سمعت النبي يقول: لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيا أَوْ مِن وَرَآء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} (الشورى: 51)، ولقول الله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَرُ} (الأنعام: 103)، والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي.

والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، والظاهر أن إخباره بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء بل تأخر عنه بناء على أنهما كانا في ليلة واحدة ولم تنزل قصة المعراج في سورة الإسراء بل أنزل ذلك في سورة النجم، ومما يؤيد أنهما كانا في ليلة واحدة قول البخاري في «صحيحه»: باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء؛ لأن من المعلوم أن فرض الصلوات الخمس إنما هو في المعراج.

نقول: وقد خالفت عائشة ابن عباس في هل كان الإسراء بالجسد أو بالروح، فقالت عائشة: والله ما فقد جسد رسول الله ولكن صعد بروحه، وابن عباس يقول: إنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا ما ذهب إليه معظم الصحابة، أما ما يتصوره بعضهم في أن الصعود بالجسد إلى السموات مستحيل عقلا، فنقول: إن هذا الصعود بالجسم معجزة لرسول الله لا تُدرك بالعقل كجميع معجزاته وكمعجزات الرسل عليهم صلوات الله ولو كان الصعود بالروح فقط لصرح به رسول الله ولما كذبته قريش.

وإذا كان أمر الإسراء والمعراج عجيبا فأعجب منه أن المسيح يُصلب ويُقتل ويُدفن ثم يقوم من بين الموتى ويصعد إلى السماء ويجلس على يمين الله كما يعتقد المسيحيون.

فريضة الصلاة

فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء قبل الهجرة ب سنة ولا خلاف في ذلك، قيل: كما هي الآن في عدد الركعات وهو الأصح، والصلاة هي فريضة قائمة وشريعة ثابتة عرفت فريضتها بالكتاب وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ} (البقرة: 43)، وقوله تعالى: {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَوتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238)، فإنه يدل على فرضيتها وعلى كونها خمسا لأنه أمر بالمحافظة على جميع الصلوات وعطف عليها الصلاة الوسطى وأقل جمع يتصور معه وسطى هو الأربع، وب السنة قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله فرض على كل مسلم ومسلمة في كل يوم وليلة خمس صلوات».

وحكمة مشروعيتها التذلل والخضوع بين يدي الله تعالى ومناجاته بالقراءة والذكر واستعمال الجوارح في خدمته وهي أفضل العبادات البدنية الظاهرة.

جاء في «رسالة الصلاة» لابن سينا: أن الصلاة تشبه النفس الإنساني الناطق بالأجرام الفلكية والتعبد الدائم للحق المطلق طلبا للثواب السرمدي، قال رسول الله «الصلاة عماد الدين»، والدين هو تصفية النفس الإنساني عن الكدورات الشيطانية والهواجس البشرية والإعراض عن الأعراض الدنيوية الدنية، والصلاة هي التعبد للمعبود الأعظم الأعلى، فعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) بيعرفون؛ لأن العبادة هي المعرفة أي عرفان واجب الوجود وعلمه بالسر الصافي والقلب النقي والنفس الفارغة، فإذا حقيقة الصلاة علم الله سبحانه وتعالى بوحدانيته ووجوب وجود وتنزيه ذاته، وتقديس صفاته في سوانح الإخلاص في صلاته، وأعني بالإخلاص: أن تعلم صفات الله بوجه لا يبقى للكثرة فيه مشرع ولا للإضافة فيه منزع، فمن فعل هذا فقد أخلص وصلى وما ضل وما غوى ومن لم يفعل فقد افتى وكذب وعصى، والله أجل وأعلى وأعز من ذلك وأقوى، اهـ.

قال «لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا إيمان لمن لا أمانة له»، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).

عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب

أخفى رسول الله رسالته بادىء الأمر ثم أعلنها في السنة الرابعة من النبوة ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق الموسم وهي عكاظ ومجنة وذو المجاز، وكانت العرب إذا حجَّت تقيم بعكاظ شهر شوال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما، ثم تجيء إلى سوق ذي المجاز فتقيم به أيام الحج وكان يعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه، وكان يطوف على الناس في منازلهم ويقول: «يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا»، وكان أبو لهب يمشي وراءه ويقول: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، وروى ابن إسحاق: أنه عرض نفسه على كندة وكلب وعلى بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقال له: أنقاتل العرب دونك فإذا أظفرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه، فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركته السن لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم فقالوا: جاءنا فتىً من قريش أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ - أي هل لهذه القصة من تدارك - والذي نفس فلان بيده ما يقولها كاذبا من بني إسماعيل قط وإنها لحق وإن رأيكم غاب عنكم.

وروى الواقدي أنه أتى بني عبس وبني سليم وبني محارب وفزارة ومرة وبني النضر وعذرة والحضارمة فردوا عليه أقبح الرد وقالوا: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ولم يكن أحد من العرب أقبح عليه من بني حنيفة وهم أهل اليمامة، قوم مسيلمة الكذاب، ومن ثم جاء في الحديث: «شر قبائل العرب بنو حنيفة»، ومن أقبح القبائل في الرد عليه وسلم ثقيف، ومن ثم جاء: «شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف»، وما زال يعرض نفسه على القبائل في كل موسم يقول: «لا أكره أحدا على شيء، من رضي الذي أدعو إليه فذاك ومن كره لم أكرهه وإنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي»، فلم يقبله أحد من تلك القبائل ويقولون: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه؟

بدء إسلام الأنصار بيعة العقبة الأولى

إسلام سعد بن معاذ

خرج رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب وحجاجهم كما كانت عادته كل موسم، فبينما هو عند العقبة التي تضاف إليها الجمرة فيقال: جمرة العقبة، وهي على يسار القاصد منىً من مكة إذ لقي رهطا من الأوس والخزرج كانوا يحجون من العرب، وهما قبيلتان مشهورتان عظيمتان من العرب في يثرب وقد لقبهم رسول الله بالأنصار لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وكان الذين لقيهم من الخزرج هم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ويعرف بابن عفراء، وهما من بني النجار، ورافع بن مالك بن العجلان وعامر بن عبد حارثة وهما من بني زريق، وقطبة بن عامر بن حديدة من بني سلمة، وعقبة بن عامر بن نابىء من بني غنم، وجابر بن عبد الله بن رباب من بني عبيدة، فعرض النبي عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقبلوا ذلك منه وأثر في قلوبهم وكان اليهود مع الأوس والخزرج بالمدينة وكانوا أهل كتاب والأوس والخزرج أهل شرك وأوثان، وكانوا إذا كان بينهم شيء تقول اليهود: إن نبيا سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم يصفونه بصفاته لهم، فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم النبي ودعوهم إلى الإسلام فأسلم كثيرون منهم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وذلك سنة اثنتي عشرة من النبوة (621 م) فلقوه بالعقبة فبايعوه بيعة النساء، وسُميت بذلك لأنها كانت على الأمور التي ورد ذكرها في سورة الممتحنة خاصة ببيعة النساء وهي هذه الآية: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءكَ الْمُؤْمِنَتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: 12).

وبعد أن تمت هذه البيعة بعث معهم مصعب بن عُمَيْر بن هاشم إلى المدينة يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام وكان يُسمَّى مصعب بالمدينة المقرىء، فأسلم على يده سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكان سعد من أجلّ رؤسائهم ثم فشا فيهم الإسلام في المدينة، وقال سعد لما أسلم لبني عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا فأسلموا، فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام، وشهد بدرا، لم يختلفوا فيه وشهد أحدا والخندق وفيها أصيب بسهم وهو الذي حكم على بني قريظة بالقتل كما سيأتي، وبعد أن حكم عليهم انفجر عرقه فاحتضنه رسول الله فجعلت الدماء تسيل على رسول الله، فجاء أبو بكر وقال: وانكسار ظهره فقال له النبي «مه»، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولما دفنه رسول الله وانصرف من جنازته، جعلت دموعه تحادر على لحيته ويده في لحيته ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت - وهو صيفي - وكان شاعرا لهم وقائدا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام ولم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله إلى المدينة.

بيعة العقبة الثانية

اتفق جماعة من الأنصار للقاء النبي مستخفين لا يشعر بهم أحد فوافوا مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريق، فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة وحضر معهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، وأسلم تلك الليلة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وكان لا يزال على دين قومه وأحب أن يتوثق لابن أخيه وكان أول من بايع تلك الليلة وهو أول من تكلم، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمّي الخزرج والأوس به - إن محمدا منا حيث قد علمتم في عز ومنعة وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم فإن كنتم ترون أنكم تفون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة، فقال الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت. فتكلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: «تمنعونني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»، وكان للبراء بن معرور في تلك الليلة المقام المحمود في الإخلاص والتوثق لرسول الله إذ أخذ بيده وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه ذرارينا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب. فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التَّيْهَان حليف بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن أظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله وقال: «بل الدم الدم، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم»، وكانت عدة الذين بايعوا في تلك الليلة سبعين رجلا وامرأتين: نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء بنت عمرو بن عدي من بني سلمة، واختار رسول الله اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وقال لهم: «أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي»، والنقباء هم:

1 - سعد بن عبادة.

2 - أسعد بن زرارة.

3 - سعد بن الربيع.

4 - سعد بن خيثمة.

5 - المنذر بن عمرو.

6 - عبد الله بن رواحة.

7 - البراء بن معرور.

8 - أبو الهيثم بن التيهان.

9 - أسيد بن حضير.

10 - عبد الله بن عمرو بن حرام.

11 - عبادة بن الصامت.

12 - رافع بن مالك بن العجلان.

ورُوي أنه نقب على النقباء أسعد بن زرارة فتوفي بعد والمسجد النبوي يبنى، فكان أول من دفن بالبقيع من المسلمين.

فلما بايعوا النبي رجعوا إلى المدينة فكان قدومهم في ذي الحجة فأقام رسول الله بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول وقدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين فأصابهم جهد شديد، فأمر النبي أصحابه بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا حتى لم يبق أحد من المسلمين بمكة مع رسول الله إلا أبو بكر وعلي بن أبي طالب فإنهما أقاما بأمره وكان ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.

وإسلام الأنصار له شأن كبير في تاريخ الإسلام بل في تاريخ الدنيا.

مؤامرة قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم

لقد بلغ اضطهاد قريش للمسلمين أنهم اضطروهم إلى الهجرة ففريق هاجر إلى الحبشة ثم هاجر من بقي مع رسول الله إلى المدينة، ولما علمت قريش تتابع أصحاب رسول الله بالهجرة أخيرا إلى المدينة وقد صارت له شيعة وأنصار من غيرهم وأنه أجمع على اللحاق بهم، تشاوروا فيما يصنعون في أمره فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصيّ بن كلاب وتشاوروا في حبسه أو إخراجه عنهم - نفيه - ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابا جلدا فيقتلوه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعا ويقال: إن هذا كان رأي أبي جهل، وهكذا نجد دائما اسم أبي جهل وأبي لهب في كل مؤامرة ضد النبي وكل إيذاء واضطهاد كأن لا عمل لهما غير ذلك.

استعدوا لقتله عليه الصلاة والسلام من ليلتهم وأتى جبريل رسول الله فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فأمر عليا أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الأخضر وأن يتخلف عنه ليؤدي ما كان عند رسول الله من الودائع إلى أربابها فامتثل أمره فكان أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ووقى بنفسه رسول الله

وهنا نقول: إن الأستاذ مرجوليوث اعتاد أن يصف أعداء رسول الله برجاحة العقل والنبل ولا يعدم أن يجد كتابا يذكر كمصدر له من غير تحقيق فقد قال عن أبي جهل في كتابه (محمد): إنه حاز شهرة عظيمة في العقل حتى إنه دخل دار الندوة في سنّ الثلاثين في حين أنه كان لا يسمح لأحد من أهل مكة بدخولها إلا إذا بلغ الأربعين، والحقيقة أنهم كانوا لا يدخلون فيها غير قرشي إلا إن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي تمييزا له، وبما أن أبا جهل قرشي فكان يسوغ له دخول دار الندوة قبل الأربعين وليس ذلك لأنه كان شديد الذكاء راجح العقل بل لأنه كان قرشيا.

القرآن وما نزل منه بمكة

عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا ممّا لا خلاف فيه، وأمّا إقامته بمكة بعد النبوّة فالمشهور ثلاث عشرة سنة لأنه أُوحِيَ إليه وهو ابن أربعين سنة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح.

والقرآن منه مكي ومنه مدني، فالمكي ما نزل قبل الهجرة أي بمكة، والمدني ما نزل بعد الهجرة سواء كان بالمدينة أم بغيرها من أي البلاد حتى ولو كان بمكة أو عرفة.

والسفير بين الله تعالى ومحمد جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ لله عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (الشعراء: 193، 194)، وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} (التكوير: 19 - 22) الآيات.

وقد تحداهم الله تعالى بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا، فالقرآن معجزة رسول الله الباقية إلى يوم القيامة، وقد احتوى على العلوم الكثيرة والأخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والآتية والأحكام العادلة.

ونزل القرآن بلغة قريش وقريش خلاصة العرب، وللقرآن أسماء كثيرة منها: الفرقان والتنزيل والحديث الخ.، ومعناه: القراءة، قال ابن عباس: القرآن والقراءة واحد.

ويشتمل على 114 سورة، أطولها (البقرة) ونزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة ونزل تمام بعضها بالمدينة وكان أول ما نزل على رسول الله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ}، ثم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (الطارق: 1)، ثم: {وَالضُّحَى} (العلق: 1)، ثم: {يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ} (المزمل: 1)، ثم: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ} (المدثر: 1)، ثم فاتحة الكتاب، ثم تبت، ثم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ} (التكوير: 1)، ثم: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1)، ثم: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1)، ثم: {وَالْفَجْرِ} (الفجر: 1)، ثم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح: 1)، ثم: {الرَّحْمَنِ} (الرحمن: 1)، ثم: {وَالْعَصْرِ} (العصر: 1)، ثم: {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر: 1)، ثم: {أَلْهَكُمُ التَّكَّاثُرُ} (التكاثر: 1)، ثم: {أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ} (الماعون: 1)، ثم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ} (الفيل: 1)، ثم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1)، ثم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (عبس: 1)، ثم: {إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1)، ثم: {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} (الشمس: 1)، ثم: {وَالسَّمَآء ذَاتِ الْبُرُوجِ} (البروج: 1)، ثم: {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التين: 1)، ثم: {لإِيلَفِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1)، ثم: {الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1)، ثم: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَمَةِ} (القيامة: 1)، ثم: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ} (الهمزة: 1)، ثم: {وَالْمُرْسَلَتِ عُرْفا} (المرسلات: 1)، ثم: {ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ} (ق: 1)، ثم: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1)، ثم: {وَالسَّمَآء وَالطَّارِقِ} (الطارق: 1)، ثم: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (القمر: 1)، ثم: {ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ} (ص: 1)، ثم الأعراف، ثم سورة الجن، ثم سورة يس، ثم: {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} (الفرقان: 1)، ثم حمد الملائكة، ثم سورة مريم، ثم سورة طه، ثم طسم الشعراء، ثم طسم القصص، ثم سورة بني إسرائيل، ثم سورة يونس، ثم سورة هود، ثم سورة يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم حملله المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم عسق، ثم الزخرف، ثم سبأ، ثم تنزيل الزمر، ثم حم الدخان، ثم حم الشورى، ثم حم الأحقاف، ثم والذاريات، ثم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} (الغاشية: 1)، ثم سورة الكهف، ثم سورة النحل، ثم: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحا} (نوح: 1)، ثم سورة إبراهيم، ثم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَبُهُمْ} (الأنبياء: 1)، ثم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: 1)، ثم الرعد، ثم والطور، ثم: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك: 1)، ثم: {الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1)، ثم: {سَأَلَ سَآئِلٌ} (المعارج: 1)، ثم: {عَمَّ يَتَسَآءلُونَ} (النبأ: 1)، ثم: {وَالنَّزِعَتِ غَرْقا} (النازعات: 1)، ثم: {إِذَا السَّمَآء انفَطَرَتْ} (الانفطار: 1)، ثم سورة الروم، ثم العنكبوت.

وعن ابن عباس أنه قال: كان القرآن ينزل مفرقا لا ينزل سورة سورة فما نزل أولها بمكة أثبتناها بمكة، وإن كان تمامها بالمدينة وكذلك ما نزل بالمدينة وأنه كان يعرف فصل ما بين السورة والسورة إذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم فيعلمون أن الأولى قد انقضت وابتدىء بسورة أخرى.

الهجرة إلى المدينة 12 ربيع الأول

(سنة 622 م)

خرج رسول الله وهم يرصدونه فأخذ حفنة تراب وجعل ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله تعالى يللهس إلى قوله: {فَأغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يللهس: 9)، ثم انصرف فلم يروه، فلما أفاقوا من غشيتهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما وعليه برد رسول الله فيقولون: إن محمدا لنائم، فأقاموا بالباب يحرسون عليا يحسبونه النبي حتى يقوم في الصباح، فلما أصبحوا قام عليّ عن الفراش فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فعلموا أن النبي قد نجا، فأما عليّ فأقام بمكة حتى يؤدي ودائع النبي وقصد النبي دار أبي بكر رضي الله عنه وأعلمه بأن الله قد أذن له بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة، فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحا واستأجر عبد الله بن أريقط الديلمي وكان مشركا ليدل بهما إلى المدينة وينكب عن الطريق العظمى، ولم يعلم بخروج رسول الله غير أبي بكر وعليّ وآل أبي بكر، وكان خروجه من مكة يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه، وذلك يوم الاثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 يونيه (622 م) ورُوي أن النبي قال حين خروجه من مكة إلى المدينة: «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك». رواه الحاكم في «المستدرك». وكان مدة مقامه بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، ثم أتيا الغار الذي بجبل (ثور) على ثلاثة أميال من جنوب غربي مكة، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة ثم يأتيهما ليلا وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلا ليأخذا حاجتهما من لبنها وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما فأقاما في الغار ثلاثا، ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار وقال هنا انقطع الأثر. وإذا بنسيج العنكبوت على فم الغار وقد عششت على بابه حمامتان، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء، وجعلوا مئة ناقة لمن يرده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيرين فأخذ أحدهما رسول الله من أبي بكر بالثمن لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه الصلاة والسلام في استكمال فضل الهجرة إلى الله تعالى، ثم ركبا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق وأتتهما أسماء بسفرة لها وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت «ذات النطاقين» وحمل أبو بكر جميع ماله وكان نحو ستة آلاف درهم وبينما هما في الطريق مجردين من كل سلاح بصر بهما سراقة بن مالك بن جُعشم فاتبعهما ليردهما فدعا عليه رسول الله فساخت (غاصت) قوائم فرسه في أرض صلبة، فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله أن أرد عنك الطلب فدعا له فخلص، فعاد يتبعهما، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب، فدعا له فخلص وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم وأن يكتم عنهم ثلاث ليال، فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب بأن يقول ما ها هنا.

وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت عائشة: فجاء رسول الله فاستأذن له فدخل فقال النبي لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، وأسماء بنت أبي بكر الصديق كانت أسن من عائشة وهي أختها لأبيها وكان عبد الله بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها، قالت: ثم لحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور (جبل بمكة) فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فجاءهما براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل، قال سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي تقرب بي وعصيت الأزلام حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا ركبتيها فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنها، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله ومما وقع لهما في الطريق أنهما لقيا طلحة بن عبيد الله في الطريق وكان راجعا من تجارة وكساهما ثيابا بيضا، وقيل: لقيهما الزبير كذلك ولعلهما لقياهما معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر اهـ.

غادر رسول الله مكة مسقط رأسه بعد أن سخر به قومه ورفضوا دعوته وتمسكوا بعقيدتهم القديمة التي ألفوها ولم يحكّموا عقولهم، ولم يعترفوا أن عبادة الأصنام من دون الله تعالى كفر، وليس بعد الكفر ذنب ولا بعد الشرك ضلال، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} (النساء: 48).

غادر رسول الله مكة وهو آسف لفراق قومه بعد أن صبر على أذاهم وجاهد وكافح سنين طويلة، فغادرهم ذلك النور الساطع والعلم الواسع والهمة العالية والنفس الأبية والروح الطاهرة النقية والشخصية الجذابة المحبوبة والوجه المشرق الدائم الابتسام والخلق العظيم والفم الذي لا ينطق عن الهوى.

لقد غادرهم ذلك الرسول الأمين الهادي إلى الصراط المستقيم، مبلغ رسالات رب العالمين.

ولو علمت قريش الحقيقة وتخلوا عن التعصب، لتمسكوا بأهدابه وتعلقوا بأذياله واغترفوا من فيض علمه وبحور حكمته واهتدوا بهديه وتخلقوا بخلقه وفازوا بنعيم الدنيا والآخرة.

إن الرسول بهجرته قد ترك في ظلام دامس فلما وصل المدينة، أشرقت أنواره في جميع أرجائها فخرج القوم يستقبلونه بالبشر والسرور ويتسابقون لمشاهدة وجهه الصبوح ويتبركون به ويستضيفونه ويستمعون إلى حكمه البالغة، وقد عبروا عن شعورهم بذلك النور بقولهم: طلع البدر علينا.

وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

وصل رسول الله المدينة يوم الاثنين من شهر ربيع الأول قرب الظهر، ونزل قُباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس، وقباء قرية على ميلين من جنوب المدينة وهي خصبة بها حدائق من أعناب ونخيل وتين ورمان وأقام بها رسول الله يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وهو الذي أسس على التقوى من أول يوم، ونزل أبو بكر رضي الله عنه على حبيب بن إساف بالسنح ثم قدم عليّ رضي الله عنه معه الفواطم وأم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين بعد أن أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده إلى الناس، ولما وصل نزل على كلثوم بن الهدم بالنبي وكان علي رضي الله عنه في طريقه يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه فاعتنقه النبي وبكى رحمة له لما بقدمه من الورم وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ثم ركب النبي يوم الجمعة يريد المدينة وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي بمن معه من المسلمين وكانوا مئة وهي أول جمعة صلاها بالمدينة وأول خطبة خطبها في الإسلام ثم ركب راحلته (القصوى) يريد المدينة وأرخى زمامها فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة ويعترضون ناقته فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى بركت عند موضع مسجده اليوم وكان مربدا للتمر لغلامين يتيمين وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو من بني النجار فلما بركت لم ينزل عنها ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها الأول فبركت فيه ووضعت جرانها (مقدم عنقها) فنزل عنها رسول الله واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل ناقته إلى بيته فأقام عنده حتى بنى حجره ومسجده ودعا رسول الله صاحبي المربد - وكانا غلامين - فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبل منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير ذهبا أدّاها من مال أبي بكر ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن (الطوب النيىء) في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن:

هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر

ويقول:

إن الأجر أجر الآخرة ** فارحم الأنصار والمهاجره

ثم وادع رسول الله اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة وسنأتي على نص الكتاب فيما بعد.

وقبل أن يتم رسول الله بناء مسجده مات سعد بن زرارة بالذبحة والشهقة وكان نقيبا لبني النجار فطلبوا إقامة نقيب مكانه فقال: أنا نقيبكم ولم يخص منهم أحدا دون آخر فكانت من مناقبهم، وأقام رسول الله يبني مسجده من ربيع الأوس إلى صفر، فكان مسجدا بسيطا، جدرانه من اللبن، على قاعدة من الحجارة، والسقف من جريد النخل، مقاما على الجذوع ولم يكن فيه أثر للزخرفة أو النقش وليس به منبر.

فرح أهل المدينة بمقدم النبي فرحا شديدا وقابلوه بالابتهاج وصعدت ذوات الخدور على الأسطحة، وعن عائشة رضي الله عنها لما قدم رسول الله المدينة جلس النساء والصبيان والولائد يقلن جهرا:

طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع

ولعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه وكانت الأنصار يتقربون إلى رسول الله بالهدايا رجالهم ونساؤهم.

قال ابن عباس: ولد النبي يوم الإثنين، واستنبىء يوم الإثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الإثنين، وقبض يوم الإثنين، وابتدىء التاريخ في الإسلام من هجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، وأول من أرخ بالهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشرة من الهجرة إلا أن التاريخ الهجري يبدأ قبل الهجرة بشهرين، وذلك أنهم جعلوا مبدأ التاريخ المحرم من تلك السنة والنبي بعد بمكة، ثم كانت الهجرة بعد ذلك في ربيع الأول.

ذكر الهجرة في القرآن

قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40)، وهذا إعلام من الله لأصحاب رسول الله أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، إذ يقول لصاحبه، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر: لا تحزن، وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما فجزع من ذلك فقال له رسول الله «لا تحزن إن الله معنا، وإن الله ناصرنا فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا»، وقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد.

خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة

هذا نص الخطبة التي خطبها رسول الله في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:

«الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم، ثم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا الله من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرا، وأن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد، والذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّمٍ لّلْعَبِيدِ} (قلله: 29)، فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله يوقي مقته ويوقي سخطه، وإن تقوى الله يبيض الوجوه ويرضي الرب ويرفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم».

هذه هي أول خطبة خطبها رسول الله بالمدينة في أول جمعة ونلاحظ أن رسول الله لم يذكر فيها أهل مكة ولا ما كان من عنادهم وإصرارهم على الكفر وإيذائهم للمسلمين وتآمرهم على قتله بل قصر خطبته على حض المسلمين على التقوى، وتذكيرهم بالله تعالى وهذا في الحق غاية الأدب ومنتهى ما يصل إليه حلم الحليم، ولو كان غير رسول الله لاستفزه الغضب وعدد مثالبهم لأنهم هم الذين خذلوه واضطهدوه وأخرجوه من أحب البلاد إليه وكان عقبة في سبيل تبليغ رسالة ربه وقد صدق الله تعالى حيث قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).

نعم إن هذا خلق عظيم وأدب كريم، ونحن نرى رجال الأحزاب يستعملون في خطبهم أقبح الألفاظ وأشنع الشتائم لأسباب تافهة ومع ذلك يزعمون أنهم قادة وسادة ينشرون العلم والمدنية وينشدون الإصلاح والحرية.

معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط عليهم واشترط لهم:

بسم الله الرحمن الرحيم

«هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على رِبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وأن المؤمنين لا يتركون مفرجا بينهم، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن من دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير المظلومين ولا متناصرين عليهم وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم وأن كل غازية غزت معنا تعقب بعضها بعضا وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلقتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم وأن لبني الشطنة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم وأن موالي ثعلبة كأنفسهم وأن بطانة يهود كأنفسهم وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد وأنه لا ينحجز على ثار جرح وأنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها وأن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم وأن ليهود الأوس مواليهم وأنفسهم مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج وآمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم وأن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله .

الخزرج والأوس وما كان بينهما وبين اليهود

الخزرج والأوس هما قبيلتان مشهورتان من العرب في يثرب وقد لقيهم رسول الله بالأنصار لما هاجر إليهم لأنهم هم الذين نصروه ومنعوه، وقد مر ذكرهم في بيعتي العقبة الأولى والثانية ولا شك أن الباحث يشتاق إلى الوقوف على تاريخ هاتين القبيلتين، وما كان بينهما وبين اليهود من علاقات وحروب لأن ذلك يساعده على فهم تاريخ سكان المدينة، وعلى موقف الأنصار واليهود إزاء الإسلام والمسلمين وليكون على بينة من أمرهم عند ذكرهم في الحوادث التي وقعت بعد هجرة النبي إلى المدينة.

خزرج وأوس أخوان أبوهما حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف ابن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأم أوس وخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن قضاعة ولذلك يقال لهما ابنا قيلة، وكان منهما قبيلتان مشهورتان عظيمتان من العرب في يثرب تذكران غالبا معا فيقال الأوس والخزرج، لكن غلب اسم الخزرج وسموا أيضا الأنصار لأنهم أول من قام بنصرة النبي وساعدوه في حروبه وآووه إلى أرضهم.

أما أصلهم فقد جاء في كتب السير، أنه لما خرج مزيقياء من اليمن بعد تفرق أهل سبأ، بسيل العرم ملك غسان بالشام ثم هلك وملَكَ ابنه ثعلبة العنقاء، ولما هلك ملَكَ بعده عمرو ابن أخيه جفنة فسخط مكانه ابنه حارثة وأجمع الرحلة إلى يثرب ونزل على يهود خيبر وسألهم الحلف والجوار على الأمان والمنعة فأعطوه من ذلك ما سأل وقيل: لما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر في من معه اجتازوا يثرب فتخلف بها أوس وخزرج ابنا حارثة في من معهما فنزل بعضهم بضرار وبعضهم بالقرى مع أهلها ولم يكونوا أهل نعم ولا شاة، لأن البلاد لم تكن بلاد مرعى ولا نخل لهم ولا زرع إلا الأغداق اليسيرة فكانوا يحيون الأرض الموات ويزرعونها والأموال لليهود فلبثوا حينا من الدهر على ذلك وهم في ضيق مال وسوء حال، ثم قدم منهم مالك بن عجلان على أبي جبيلة الغساني فسأله عن حالهم فأخبره بضيق معاشهم، فقال: ما بالكم لا تغلبونهم كما غلبنا أهل بلدنا ووعده أنه يسير إليهم فينصرهم فرجع مالك وأخبر قومه بوعد أبي جبيلة فاستعدوا له، وقدم عليهم وخشي عليهم أن يتحصن منه اليهود فاتخذ حائرا وبعث إليهم فمال خواصهم وحشمهم وأذن لهم في دخول الحائر ثم أمر جنوده فقتلوهم عن آخرهم، وقال للأوس والخزرج: إذا لم تتغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنكم ورجع إلى الشام، فأقاموا في عداوة مع اليهود ثم صنع لهم مالك بن عجلان طعاما ودعاهم فامتنعوا خوفا من الغدر فاعتذر إليهم مالك عن فعل أبي جبيلة ووعدهم أنه لا يقصد مثل ذلك فأجابوه وجاءوا إليه فغدرهم وقتل 87 من رؤسائهم وفر الباقون وصورت اليهود مالكا في كنائسهم وبيعهم وكانوا يلعنونه كلما دخلوا.

وذكر ابن الأثير رواية أخرى وهي: أن اليهود كان لهم ملك اسمه الفِطيون وكان ظالما فاسقا، وقد سنّ سنة أن كل امرأة تتزوج دخل عليها قبل زوجها، فاتفق يوما زفاف أخت مالك هذا فأتت مجلسا فيه أخوها وكشفت عن ساقها، فقال لها أخوها: قد أتيت بسوء، فقالت: الذي يراد بي الليلة أشدّ من هذا. فثارت النخوة في رأسه واحتال على الدخول معها عند الملك في زي امرأة فلما خلا المكان قتله وفر إلى أبي جبيلة ولم يكن هذا ملكا لغسان بل معظما عند ملوك غسان وقد ذلوا بعد هذه الفعلة وخافوا ولجأ كل قوم إلى بطن من الأوس والخزرج يستنصرون بهم ويكونون لهم أحلافا، وعظم شأن مالك وسودة الحيان، ولم يمض زمان طويل حتى أثرى الأوس والخزرج وامتنع جانبهم وقد تناسلوا وتكاثروا وتشعبوا عدة بطون فكان بنو الأوس كلهم لمالك بن الأوس فمنهم خطة بن جشم بن مالك وثعلبة ولوذان وعوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك، ومن بني عوف حنش ومالك كلفة، ومن مالك معاوية وزيد، ومن زيد عبيد وضبيعة وأمية ومن كلفة جحجبا، ومن مالك بن الأوس الحارث وكعب ابنا الخزرج بن عمرو بن مالك، فمن كعب بنو ظفر، ومن الحارث بن الخزرج حارثة وجشم، ومن جشم بنو عبد الأشهل، ومن مالك بن الأوس أيضا بنو سعد وبنو عامر ابنا مرة بن مالك، فبنو سعد الجعادرة، ومن بني عامر عطية وأمية ووائل بنو زيد بن قيس بن عامر، ومن مالك بن الأوس أيضا أسلم وواقف ابنا امرىء القيس بن مالك، فهذه بطون الأوس كما ذكر ابن خلدون.

وأما الخزرج فخمسة بطون من كعب وعمرو وعوف وجشم والحارث.

1 - فمن كعب بن الخزرج، بنو ساعدة بن كعب.

2 - وعمرو بن الخزرج بنو النجار وهم: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو وهم شعوب كثيرة: بنو مالك وبنو عدي وبنو مازن وبنو دينار، كلهم بنو النجار، ومن مالك بن النجار، مبدول واسمه عامر وغانم وعمرو، ومن عمرو عدي، ومعاوية.

3 - ومن عوف بن الخزرج، بنو سام والقواقل وهما: عوف بن عمرو بن عوف.

والقواقل ثعلبة ومرضخة وبنو قوقل بن عوف، ومن سالم بن عوف، بنو العجلان بن زيد بن عصم بن سالم وبنو سالم بن عوف.

4 - ومن جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم ويزيد بن جشم، فمن غضب بنو بياضة وبنو زريق وبنو عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، ومن يزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن يزيد.

5 - ومن الحارث بن الخزرج، بنو خدرة وبنو حرام ابن عوف بن الحارث بن الخزرج.

فلما فعلوا ما فعلوا باليهود واعتزوا وكثروا تفرقوا في عالية يثرب وسافلتها وملكوا أمرها في حلفهم من جاورهم من قبائل مضر ثم قامت الفتن بين الحيين وكل منهم يستنصر بمن حالفه من مضر واليهود ورحل عمرو بن الإطنابة من الخزرج بن المنذر ملك الحيرة فملكه على الحيرة واتصلت الرياسة في الخزرج والحرب بينهم وبين الأوس.

العداوة بين الأوس والخزرج

كانت أول فتنة وقعت بين الأوس والخزرج «حرب سمير» وذلك أن رجلا حليفا يقال له كعب فاخر الأوس بشيء فغضب منهم رجل يقال له: سمير، وشتمه ثم رصده حتى خلا به فقتله فغضب مالك بن عجلان وطلب الرجل من عشيرته فأنكروا معرفته وعرضوا عليه الدية فقبلها فأرسلوا إليه نصف دية، لأن الرجل حليف لا نسيب فأبى إلا دية كاملة فامتنعوا ولجَّ الأمر حتى أفضى إلى المحاربة فاقتتلوا مرتين كانت النصرة في الثانية منهم للأوس فلما افترقوا أرسلت الأوس إلى مالك أن حكم بيننا المنذر بن حرام النجاري الخزرجي وهو جد حسان بن ثابت فأجابهم إلى ذلك فحكم بأن يؤدي الأوس إلى مالك دية الصريح ثم يعودون إلى سنتهم القديمة فرضوا بذلك وافترقوا وقد شبت البغضاء في قلوبهم وتمكنت العداوة بين القبيلتين.

ثم إن كعب بن عمرو المازني الخزرجي تزوج امرأة من بني سالم فأمر أحيحة بن جلاح رئيس بني جحجبا من الأوس جماعة أن يرصدوه ويقتلوه ففعلوا فدعا أخوه عاصم قبيلته للنصرة فاستعدوا والتقوا هم والأوس واقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت بنو جحجبا وانهزم فركض وراءه عاصم فأدركه وقد دخل الحصن وأغلقه فرماه بسهم فلم يصبه فقتل أخا له فعزم أحيحة أن يكبس بني النجار وكان متزوجا بامرأة منهم فلم يرضها ذلك وخافت على قومها فسارت إليهم ليلا وقد نام أحيحة بعد سهر طويل وأنذرتهم فلما همّ أحيحة إذا هم على سلاحهم فلم يقدر عليهم فضرب امرأته حتى كسر يدها لما بلغه ما فعلت وطلقها.

ثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج، وذلك أن الحصين بن الأسلت الأوسي نازع رجلا من بني مازن وقتله فتبعه قوم من بني مازن فقتلوه فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وانضمت الأوس والخزرج كلها فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الأوس.

ثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبني مالك بن النجار من الخزرج، وذلك أن رجلا من ظفر كان يمر إلى أرضه في أرض رجل من بني النجار فمنعه فلم يمتنع فنازعه فقتله الظفري فاجتمع قومهما واقتتلا فانهزم بنو مالك بن النجار.

ثم إن رجلا من بني النجار أصاب غلاما من قضاعة وقتله وكان عم الغلام جارا لمعاذ بن النعمان الأوسي فطلب معاذ ديته من بني النجار فامتنعوا فلقيهم بقومه عند فارع أطم حسان بن ثابت ولم يزل القتال بينهم حتى حمل الدية إليه عامر بن الإطنابة فاصطلحوا حالا.

ثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب وهو حاطب بن قيس من بني أمية بن مالك بن عوف الأوسي وبينهما وبين حرب سمير نحو مائة سنة وكان سبب هذه الحروب أن حاطبا كان رجلا شريفا سيدا فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه ثم إنه غدا يوما إلى سوق قينقاع فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فسحم وهي أمه وهو من بني الحارث بن الخزرج، فقال يزيد لرجل يهودي: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي. فأخذ رداءه وكسعه كسعة سمعها من بالسوق فنادى الثعلبي: يا لحاطب كسع ضيفك وفضح، وأخبر حاطب بذلك فجاء إليه فسأله من كسعه فأشار إلى اليهودي فضربه حاطب بالسيف ففلق هامته فأخبر ابن فسحم الخبر وقيل له: قتل اليهودي قتله حاطب، فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله فلقي رجلا من بني معاوية فقتله - ولا ندري السبب الذي دعا ابن فسحم أن يحرض ذلك اليهودي على ضرب الثعلبي في دبره - فثارت الحرب بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيها للخزرج وهذا اليوم من أشهر أيامهم، وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب فمنها يوم الربيع، ويوم البقيع، والفجار، الأول والثاني، ويوم بعاث وهو آخر الأيام بينهم.

وفي يوم الفجار الثاني حالفت قريظة والنضير الأوس على الخزرج وجرى بينهم قتال سُمِّيَ ذلك اليوم يوم الفجار الثاني، وسبب حرب يوم بعاث هو أن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على المؤازرة والتناصر واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا، فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وأرسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وأرسلت الأوس حلفاءها من مزينة ومكثوا أربعين يوما يتجهزون للحرب والتقوا (ببعاث) وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب والد أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس، فلما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا وصبروا جميعا، ثم إن الأوس وجدت من السلاح، فولوا منهزمين نحو العريض فلما رأى حضير هزيمتهم برك وكعن قدمه بسنان رمحه وصاح واعقراه كعقر الجمل والله لا أعود حتى أقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا، فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان من بني عبد الأشهل يقال لهما: محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يُدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله فبينا عبد الله بن أبي بن سلول يتردد راكبا قريبا من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان قتيلا في عباءة يحمله أربعة رجال كما كان قال له، فلما رآه قال ذق وبال البغي، وانهزمت الخزرج ووضعت فيهم الأوس السلاح فصاح صائح: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهللوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب. فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم وإنما سلبهم قريظة والنضير وحملت الأوس حضيرا مجروحا فمات وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، ونجّى يومئذ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن شماس الخزرجي أخذه فجز ناصيته وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني قريظة.

الخلاصة

تبين لنا من تاريخ الخزرج والأوس أنهما ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء الذي خرج من اليمن بعد تفرق أهل سبأ بسيل العرم وأن هذا السيل ليس خرافة بل حدث مرارا وخرب السد فغرقت البلاد.

وقد لبث الخزرج والأوس حينا من الدهر مع اليهود يحيون الأرض الموات ويزرعونها وهم في عسر شديد وكان اليهود هم أرباب الأموال فحدث نزاع وشجار بينهم وبين اليهود وهو أشبه شيء بالثورات التي حدثت بين المزارعين أو العمال والمتمولين في القرون الأخيرة.

ثم نشبت حروب بين الأوس والخزرج فتارة كان النصر فيها للخزرج وأخرى للأوس وكان الظفر في أكثرها للخزرج، وأخيرا حالفت قريظة والنضير الأوس على الخزرج وانضم بنو قينقاع إلى الخزرج على أن تلك الحروب الطاحنة بين القبيلتين الأختين كان سببها - بناء على ما وصل إلينا من تاريخها - حزازات شخصية كان في الإمكان ملافاتها، لكن العداء اشتد بينهما لما في طبيعة العرب من التمسك بالأخذ بالثأر، وقد بلغت العداوة بين الخزرج والأوس مبلغا عظيما قبل هجرة النبي إلى المدينة. وآخر الحروب بينهم يوم بعاث الذي هزم فيه الخزرج وكان حوالي سنة 616 م فلما سئموا القتال أجمعوا على تتويج عبد الله بن أبي ابن سلول ملكا عليهم وابن سلول هذا هو الملقب برأس المنافقين وكان رئيس الخزرج ولما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق والضغن فكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون، وقد حسد النبي لأن الإسلام منع تتويجه وأخذته العزة فأضمر الشر وهو الذي قال في غزوة المصطلق: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ} (المنافقون: 8) فقال ابنه عبد الله للنبي: هو والله الذليل وأنت العزيز يا رسول الله إن أنت أذنت لي في قتله قتلته فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها أحد أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلا مسلما فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض حيا حتى أقتله، فقال النبي «بل نحسن صحبته ونترفق به ما صحبنا ولا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن بر أباك وأحسن صحبته».

ولما أنعم الله على الخزرج والأوس بنعمة الإسلام اتفقت الكلمة واجتمع الشمل وتآخى الفريقان فوحّد رسول الله اسمهما ولقبهما بالأنصار لأنهم نصروه، وتوحيد الإسمين تحت راية الإسلام كان له أعظم أثر في النفوس إذ بذلك امتنع الشقاق وتصافت النفوس وساروا جميعا نحو غرض واحد ومبدأ واحد وهو نشر الإسلام.

جاء في «دائرة المعارف الإسلامية» في مادة أنصار (Ansar): «لكأن محمدا أراد أن يشابه بين كلمة الأنصار والنصارى المطلقة على المسيحيين»، وهذا خطأ واضح لأن كلمة أنصار جمع نصير، أما نصارى فنسبة إلى قرية بالشام تسمى ناصرة أو نصران وفوق ذلك فإن سبب تسمية الخزرج والأوس بالأنصار معروف وهو لأنهم نصروه وقد جل رسول الله عن التشبه والتقليد.

مدينة يثرب

سُميت يثرب بعد الإسلام بالمدينة، مدينة رسول الله وهي عبارة عن جملة قرى تقع في سهل خصب وبينها وبين مكة 200 ميل وهي في شمالها، جاء في «معجم البلدان» لياقوت: «إن لهذه المدينة تسعة وعشرين اسما» ثم سردها. وكذا أحصى المجد الشيرازي اللغوي نحو ثلاثين اسما، وذكر السمهودي في كتاب «وفاء الوفا» أربعة وتسعين اسما وقال: إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ونقل ابن زبالة، أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما.

فمن أسمائها أثرب كمسجد ويثرب، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يأَهْلَ.يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ} (الأحزاب: 13)، والبلد، قال تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1) ودار الهجرة والسنة وطيبة وطابة وقرية الأنصار ومدينة الرسول ومضجع الرسول وأكالة البلدان والمباركة والمسكينة والعذراء والبارة والفاضحة.

أما قدرها فهي في مقدار نصف مكة وهي في حرة سبخة ولها نخيل كثيرة ومياه ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد وللمدينة سور والمسجد في نحو وسطها وقبر النبي في شرق المسجد وهو بيت مرتفع وليس بينه وبين سقف المسجد إلا فرجة وهو مسدود لا باب له وفيه قبر النبي وقبر أبي بكر وقبر عمر، والمنبر الذي كان يخطب عليه رسول الله قد غشي بمنبر آخر والروضة أمام المنبر بينه وبين القبر، ومصلاه الذي كان يصلي فيه الأعياد في غربي المدينة داخل الباب.

و(بقيع الغرقد) خارج المدينة من شرقيها وهو مدفن أكثر أمواتها. و(قُباء) خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة وهي شبيهة بالقرية. و(أُحُد) جبل في شمال المدينة وهو أقرب الجبال إليها مقدار فرسخين وبقربها مزارع ونخيل وضياع لأهل المدينة. (وادي العقيق) فيما بينها وبين الفرع. و(الفُرع) من المدينة على أربعة أيام في جنوبها وبها مسجد جامع غير أن أكثر هذه الضياع خراب، وكذلك حوالي المدينة ضياع كثيرة أكثرها خراب، وأعذب مياه تلك الناحية آبار العقيق.

وحرَّم رسول الله شجر المدينة بريدا في بريد من كل ناحية ورخَّص في الهش وفي متاع الناضح، ونهى عن الخبط - ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها - وأن يعضد ويهصر ولم تكن المدينة بلدا خصبا مثمرا، إنما كان بها بعض النخيل والماشية ومن خصائص المدينة أنها طيبة الريح وللعطر فيها فضل رائحة لا توجد في غيرها وتمرها الصيحاني لا يوجد في بلد من البلدان مثله، ولهم حب اللبان ومنها يحمل إلى سائر البلدان، وجبلها أُحد قد فضله رسول الله فقال: «أُحد جبل يحبنا ونحبه وهو على باب من أبواب الجنة» وحجارة أُحد من الجرانيت.

المسافات: من المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل ومن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة وطريق البصرة إلى المدينة نحو من ثماني عشرة مرحلة ويلتقي مع طريق الكوفة بقرب معدن النقرة ومن الرقة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة، ومن البحرين إلى المدينة عن طريق الساحل.

ولما قدم رسول الله المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كَيْلا فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} (المطففين: 1) فأحسنوا الكَيْل بعد ذلك.

مرض المهاجرين بحمى المدينة

حاول رؤساء قريش منع المسلمين من الهجرة إلى المدينة لكنهم استطاعوا الهجرة بعد بضعة أسابيع وقد اعتاد المهاجرون جوّ مكة الجاف فلما قدموا المدينة أصيب أكثرهم بالحمى وربما كانت أنفلونزا أو ملاريا لأن صيفها رطب وشتاءها قارس والمطر دائم تقريبا، قالت عائشة: لما قدم رسول الله المدينة وهي أول أرض أصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه وأصابت الحمى أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله في عيادتهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب من شدة الحمى فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحد فوجدتهم يهذون من شدة الحمى فأخبرت رسول الله قالت: فنظر إلى السماء وقال: «اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدّنا وصحِّحها لنا وانقل حُمَّاها إلى الجحفة»، فاستجاب الله له فطيَّب هواءها وترابها وسكنها والعيش بها، وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى أنشد:

كل امرىء مصبح في أهله ** والموت أدنى من شراك نعله

وهذا من شعر حنظلة بن يسار وليس من شعر أبي بكر، وحمى المدينة كانت الملاريا لما كان يحيط بها من البرك والآبار حتى إن الجمال كانت تمرض من الشرب منها وكانت قريش تعيب على أهل يثرب ما يعتريهم من الحمى وتسلط اليهود عليهم وتسمّي الحمى (أم ملدم). قال رسول الله لزيد الخيل وكان قد أتى مع وفد طيّء وأسلم: «يا زيد تقتلك أم ملدم» يعني: الحمى، فأصيب بها أثناء الطريق عند عودته ومات بها.

مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن عمر: كان بناء المسجد على عهد رسول الله وسقفه جريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا فزاد فيه عمر وبناه على ما كان من بنائه ثم غيره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه.

وفي «الصحيح» في ذكر بناء المسجد: وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية».

وروى البيهقي في «الدلائل» عن سفينة مولى رسول الله قال: لما بنى النبي المسجد وضع حجرا ثم قال: «ليضع أبو بكر حجره إلى حجري ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر»، فقال رسول الله «هؤلاء الخلفاء من بعدي».

وعن مكحول قال: لما كثر أصحاب رسول الله قالوا: اجعل لنا مسجدا، فقال: خشبات وثمامات عريش كعريش أخي موسى صلوات الله عليه، الأمر أعجل من ذلك، ورواه رزين وزاد فيه: فطفقوا ينقلون اللبن وما يحتاجون إليه ورسول الله ينقل معهم الخ (الثمامات ما يبس من الأغصان).

وكان الذين أسّسوا المسجد جعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخره وهو في جهة القبلة اليوم وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويُقال له: باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله وهو باب آل عثمان اليوم، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة، ولما صرفت القبلة سد رسول الله الباب الذي كان خلفه وفتح هذا الباب ومحاذيه هذا الباب الذي سد.

ولما بنى رسول الله مسجده، بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من اللبن وجريد النخل، وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر (شجر السرو) أوساج، ولما تزوج رسول الله نساءه بنى لهن حجرا وهي تسعة أبيات وذلك في أوقات مختلفة، وحجر أزواج النبي ليست من المسجد ولكن أبوابها شارعة في المسجد.

وكان رسول الله يخطب إلى جذع يتكىء عليه فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم»، فجعلوا له منبرا، ولما فارق رسول الله الجذع وصعد المنبر، حنَّ الجذع وسمع له صوت كصوت العشار، فقال النبي «ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة؟» فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم فنزل إليهم رسول الله فضمه فسكن.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عمر قال: كان النبي يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوَّل إليه فحنَّ الجذع فأتاه فمسح بيده عليه.

ولا شك أن حنين الجذع من معجزاته وحديث الجذع مشهور رواه من الصحابة بضعة عشر، وكان المنبر من خشب الأثل ومن درجتين وله مجلس.

وذكر ابن بطوطة في رحلته «الجذع» فقال:

دخلنا الحرم الشريف وانتهينا إلى المسجد الكريم فوقفنا بباب السلام مسلمين وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حنَّ إلى رسول الله وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة، وقال عند ذكر القبر الكريم:

وفي الحديث: أن رسول الله كان يخطب إلى جذع نخلة بالمسجد فلما صنع له المنبر وتحول إليه، حن الجذع حنين الناقة إلى حوارها، ورُوي أن رسول الله نزل إليه فالتزمه فسكن وقال: «لو لم ألتزمه لحنّ إلى يوم القيامة». واختلفت الروايات فيمن صنع المنبر الكريم، فرُوي: أن تميما الداري رضي الله عنه هو الذي صنعه، وقيل: إن غلاما للعباس رضي الله عنه صنعه، وقيل: غلام لامرأة من الأنصار، وورد ذلك في الحديث الصحيح وصنع من طرفاء الغابة، وقيل: من الأثل وكان له ثلاث درجات فكان رسول الله يقعد على علياهن ويضع رجليه الكريمتين في وسطاهن، فلما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قعد على وسطاهن ووضع رجليه على أولاهن، فلما ولي عمر رضي الله عنه جلس على أولاهن ووضع رجليه على الأرض، وفعل ذلك عثمان رضي الله عنه صدرا من خلافته ثم ترقى إلى الثالثة، ولما أن صار الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نقل المنبر إلى الشام فضج المسلمون فلما رأى ذلك معاوية، تركه وزاد فيه ست درجات من أسفله فبلغ تسع درجات.

ولما حج المهدي بن المنصور العباسي سنة 261 أراد أن يعيده إلى ما كان عليه، فأشار عليه الإمام مالك بتركه خشية التهافت فتركه، ويقال: إن المنبر الذي صنعه معاوية ورفع منبر النبي عليه، تهافت على طول الزمان وجدده بعض خلفاء بني العباس واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي أمشاطا للتبرك ثم احترق هذا المنبر لما احترق المسجد في مستهل رمضان سنة 654م أيام المستعصم بالله واشتغل المستعصم عن عمارته بقتال التتار فعمل المظفر صاحب اليمن المنبر وبعث به إلى المدينة سنة 656م فنصب في موضع منبر النبي فبقي إلى سنة 666م.

تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها

عائشة رضي الله عنها هي بنت أبي بكر الصديق وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، ولدت في السنة الثامنة أو التاسعة قبل الهجرة (613 - 614 م) أسلمت صغيرة وتزوجها رسول الله بمكة في شهر شوال قبل الهجرة ودخل بها في المدينة في منزل أبي بكر بالسنح بعد الهجرة بثمانية أشهر في شهر شوال وكان صداقها أربعمائة درهم وكانت أحب نسائه إليه وكنيتها أم عبد الله، كنيت بابن أختها أسماء وهي أم عبد الله بن الزبير وكان يدعوها أمّا لأنه تربَّى في حجرها. وروت عن النبي أكثر من ألف حديث، وكانت من أكبر النساء عقلا، فصيحة الكلام صحيحة المنطق، تحفظ كثيرا من القصائد، كريمة لا تدَّخر شيئا، أحفظ أهل زمانها للحديث وقد روت عنها الرواة من الرجال والنساء.

وأثبت بعض المؤرخين أن عائشة كان لديها نسخة من القرآن، وقبض رسول الله وهي بنت ثماني عشرة ولم يتزوج بكرا غيرها، وقبض رسول الله ورأسه في حجرها ودفن في بيتها وتوفيت سنة سبع وخمسين للهجرة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان (13 يوليو 678 م) وقد قاربت سبعا وستين سنة وصلى عليها أبو هريرة بالبقيع ودفنت ليلا وذلك زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية وكان مروان استخلف أبا هريرة لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة.

روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فضلت أزواج النبي بعشر خصال: تزوجني رسول الله بكرا دون غيري، وأبواي مهاجران، وجاء جبريل عليه السلام بصورتي في حريرة، وأمره أن يتزوج بي، وكنت أغتسل معه في إناء واحد، وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وأنا معه في لحاف واحد، وتزوجني في شوال وبنى بي في ذلك الشهر، وقبض بين سحري ونحري، وأنزل الله تعالى عذري من السماء ودفن في بيتي، وكل ذلك لم يساوني غيري فيه.

صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة 15 شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة

(نوفمبر سنة 623 م)

لما هاجر رسول الله إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة لما بلغه أن اليهود قالوا: يخالفنا ويتبع قبلتنا، فقال: «يا جبريل وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة يهود». فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله، وجعل إذا صلى إلى بيت المقدس يرفع رأسه إلى السماء ينتظر أمر الله لأن السماء قبلة الدعاء، فنزلت عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} (البقرة: 144)، فوجه إلى الكعبة إلى الميزاب، ويُقال: صلى رسول الله ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون. ويقال: بل زار رسول الله أم بشر بن البراء بن مُعرور في بني سلمة فصنعت له طعاما وحانت الظهر فصلى رسول الله بأصحابه ركعتين ثم أمر أن يتوجه إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب فسُمِّيَ المسجد مسجد القبلتين وذلك يوم الإثنين للنصف من رجب على رأس ثمانية عشر شهرا، قال الجمهور الأعظم: إنما حرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.u

وفي البخاري: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فاستداروا إلى الكعبة.

قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِرطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 142)، وهذا رد على اليهود والمنافقين الذين ساءهم ذلك، وعن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن والبصري قالا: أول ما نسخ من القرآن القبلة.

الأذان

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس للصلاة فذكر عنده البوق وأهله، وذكر الناقوسُ وأهله، فكره حتى أُري رجل من الأنصار يقال له: - عبد الله بن زيد - الأذان وأريه عمر بن الخطاب تلك الليلة فأما عمر فقال: إذا أصبحت أخبرت رسول الله وأما الأنصاري فطرق رسول الله في الليلة فأخبره، وأمر رسول الله بلالا فأذن بالصلاة وذكر أذان الناس اليوم، قال: فزاد بلال في الصبح: الصلاة خير من النوم، فأقرها رسول الله وليست فيما رأى الأنصاري، وله من المؤذنين بلال وابن أم مكتوم بالمدينة، وبلال أول من أذّن في الإسلام وأذّن في جامع عمر بن الخطاب بالقدس ومات بدمشق، وكان الأذان في السنة الأولى من الهجرة بعدما بنى رسول الله مسجده، أما تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي فلما فيه من التنويه بالنبي والرفع لذكره لأنه إذا كان على لسان غيره كان أرفع لذكره، ويُقال: إن الوحي قد سبق الرؤيا.

والأذان لغة: الإعلام وهو مصدر أذن تأذينا، وشرعا، إعلام مخصوص على وجه مخصوص بألفاظ مخصوصة، وهو سنّة مؤكدة للرجال في مكان عال، للفرائض الخمس في وقتها ولو قضاء لا لغيرها، والمؤذنون الآن يتنغمون في الآذان وليس ذلك من السنّة ولا المستحب، والمطلوب تحسين الصوت بما لا تخرج ألفاظه عن المشروع، كذلك زادوا فيه ما ليس منه.

فرض صيام شهر رمضان وزكاة الفطر

لما نقل العرب أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سمّوها بالأزمنة التي هي فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر أي شدته وقد نزل فرض صيام شهر رمضان بعدما صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من هجرة رسول الله قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} (البقرة: 183) الآية، وقال عزّ وجل: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)، فأثبت صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله يصومه موافقة لهم ولم يأمر أحدا من أصحابه بصيامه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه»، وكان يهود المدينة يصومونه ويعظمونه لأن الله أنجى فيه موسى وقومه من الغرق وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله وصامه رسول الله وأمر بصيامه قائلا: «نحن أحق بموسى منكم»، وفي رواية: «أنا أولى بموسى»، ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم.

وركن الصيام الإمساك عن المفطرات وأمر في هذه السنة بزكاة الفطر وذلك قبل أن تفرض الزكاة في الأموال وكان يخطب رسول الله قبل الفطر بيومين فيأمر بإخراجها قبل أن يذهب إلى المصلى وأقام رسول الله بالمدينة عشر سنين يضحي في كل عام، وكان يضحّي بكبشين سمينين أقرنين أملحين أحدهما عن أمته والآخر عن نفسه وآله، فيأكل هو وأهله منهما ويطعم المساكين.

فريضة الزكاة

الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمس، وقد فرضت في السنة الثانية من الهجرة، قال رسول الله «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا».

وقال تعالى: {وَآتُواْ الزَّكَوةَ} (البقرة: 43)، وقال: {وَفِى أَمْولِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19)، وقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60).

وقال عليه الصلاة والسلام: «أدوا زكاة أموالكم».

وإيجاب الزكاة علاج لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، ومانع من طغيان الأغنياء، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَنَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6، 7).

وإخراج الزكاة يحبب الأغنياء إلى الفقراء والمساكين فيزول عنهم الحقد والحسد والسخط، والمال الفاضل إذ أمسكه الإنسان صار معطلا، فيجب صرف طائفة منه إلى الفقير لإصلاح شأنه، وهذا من أعظم نعم الإسلام ومحاسنه، وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة: 103)، يثبت للإمام حق الأخذ من كل مال وكذلك كان رسول الله والخليفتان بعده يأخذون الزكاة من الناس ويوزعونها على المحتاجين إلى أن فوض عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته أداء الزكاة من الأموال الباطنة إلى ملاكها، إلا أن هذا لا يسقط طلب الإمام أصلا، ولذا لو علم أن بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها، والسواد الأعظم من الأغنياء لا يؤدون الزكاة من تلقاء أنفسهم، فاشتدت حالة الفقراء كربا وحرجا وحنقوا على الأغنياء وامتدت إليهم أيديهم بالقتل والسرقة، لذلك نرى الخير كل الخير في أن تجبي الحكومة الزكاة المفروضة وتنفقها فيما يصلح شأن الفقراء من إيوائهم وإطعامهم وكسوتهم وعلاجهم وتعليمهم بدلا من تركهم يعانون آلام الفاقة من جوع وعري ومرض وتشريد واعتناق للمبادىء الاشتراكية المتطرفة التي نشأت من الخلاف القائم بين الأغنياء والفقراء.

فعلى الحكومات الإسلامية الرجوع إلى نظام الزكاة وجبايتها لمصلحة المعوزين ولاستتباب الأمن، أما ترك الأغنياء لضمائرهم في إخراج الزكاة فهو تعطيل لها وإبطال لحكمتها.

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

كان رسول الله أمر أصحابه قبل هجرته بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا فكان أولهم قدوما إليها أبو سلمة بن عبد الأسد وعامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش وبعد قدومه إلى المدينة بخمسة أشهر آخى بين المهاجرين والأنصار لتذهب عنهم وحشة الغربة وليؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، وقد آخى بينهم على الحق والمواساة ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام وكانوا تسعين رجلا خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: كانوا مائة وخمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار وكان ذلك قبل بدر فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} (الأنفال: 74)، نسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطعت المؤاخاة في الميراث ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه، وإنا لنذكر هنا بعض من آخى بينهم:

أخذ رسول الله بيد عليّ بن أبي طالب فقال: هذا أخي.

أبو بكر الصديق وخارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الأنصاري، جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل الأنصاري، حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة، أبو عبيدة الجراح وسعد بن معاذ الأنصاري، عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري، الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة الأنصاري، طلحة بن عبيدالله كعب بن مالك الأنصاري، عثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري، سعيد بن زيد وأُبيّ بن كعب الأنصاري، مصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري، أبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر الأنصاري، عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان العنسي الأنصاري، حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة الأنصاري، سلمان الفارسي وأبو الدرداء الأنصاري، أبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو الأنصاري، أبو سبرة بن أبي رهم وسلامة بن وقش الأنصاري، خباب بن الأرت وتميم مولى خراش بن الصمَّة، صفوان بن وهب ورابع بن العجلان، صهيب بن سنان والحارث بن الصمة، عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو بن ورقة، مسعود بن ربيعة وعبيد بن التَّيْهَان، معمر بن الحارث بن معمر ومعاذ بن عفراء، واقد بن عبد الله بن عبد مناف وبشر بن البراء، زيد بن الخطاب معن بن عدي، الأرقم بن أبي الأرقم وطلحة بن زيد.

قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، كفونا المؤونة وأشركونا في المهنة حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: «لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتهم لهم»، أي فإن ثنائكم عليهم ودعاءكم لهم حصل منكم به نوع مكافأة، قال تعالى يثني على الأنصار في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9).

المراد من الدار في هذه الآية، المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين.

ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا أي حسدا وحزازة وغيظا مما أوتي المهاجرون من دونهم.

ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، يقال: آثره بكذا إذا خصه به، ومفعول الإيثار محذوف والتقدير، ويؤثرون بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

عن ابن عباس أن النبي قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم، وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم، فقالوا: لا، بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة، فأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9).

فالأنصار أكرموا المهاجرين إكراما عظيما ليدفعوا عنهم غوائل الحاجة فكانوا يحرمون أنفسهم لمساعدة إخوانهم في الإسلام على حداثة عهدهم به حتى صاروا مثلا يُضرب للتعاون وحسن الخلق.

إسلام عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي

كان عبد الله بن سلام كما قال بعض أهله عنه حبرا عالما، قال: سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكَّف له فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله المدينة فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله كبَّرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيّبك الله والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت، قال: قلت لها: أي عمّة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. فقالت: أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قلت لها: نعم. قالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجت إلى رسول الله فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله فقلت: يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني، فأدخلني رسول الله في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم: «أي رجل الحصين بن سلام فيكم»؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا، قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه، قالوا: كذبت، ثم وقعوا بي فقلت لرسول الله ألم أخبرك يا نبي الله أنهم بهت أهل غدر وكذب؟ قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة ابنة الحارث فحسن إسلامها.

وذكرت «دائرة المعارف الإسلامية» أنه كان من يهود المدينة واسمه الحصين وسماه النبي عبد الله لما أسلم وأنه توفي سنة 43هـ (663 - 664م).

وقد كان عبد الله بن سلام حليفا لبني الخزرج كنيته أبو يوسف كُنِيَ بابنه وهو من بني قينقاع وكان اسمه في الجاهلية حصينا ونزل في فضله قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْرءيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (الأحقاف: 10)، وقول الله تعالى: {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد: 10).

وفي «صحيح البخاري» عن أنس رضي الله عنه قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله المدينة فأتاه، فقال: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله «خبَّرني بهنّ آنفا جبريل»، قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غَشِيَ المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبق ماؤها كان الشبه بها»، قال: أشهد أنك رسول الله، الحديث.

قال الطبري: مات (عبد الله بن سلام) في قول جميعهم بالمدينة سنة ثلاث وأربعين.

عداء اليهود ومناقشاتهم

عُرف بعض اليهود بالمدينة بشدة عداوتهم لرسول الله مع أن علماءهم كانوا يعرفون أنه سيبعث نبي وكانوا يعرفون صفاته من التوراة، فمن أعدائه الذين انتصبوا لعداوته حُيَيّ وأبو ياسر، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وكعب بن الأشراف، وعبد الله بن صوريا وابن صلوبا، ومخيريق الذي أسلم بعد، ولبيد بن الأعصم الذي حرّضه اليهود وسحر النبي ثم جاء جبريل وأخبره بذلك السحر وبمكانه وعفا عنه رسول الله، وقال: أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا (يعني بقتله).

ومنهم مالك بن الصلت، وقد كان من أحبار اليهود ورئيسا فإنه قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فانظر كيف أدى به عداؤه لرسول الله إلى الكفر بنبينا وبموسى عليهما السلام وبما أنزل عليهما، فقالت اليهود له: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني فقلت ذلك فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

وممن كان من أحبار اليهود حريصا على رد الناس من الإسلام شأس بن قيس اليهودي، كان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ يوما على الأنصار: الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدثون فغاظه ما رأى من أُلفتهم بعدما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع بنو قيلة والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر فتى شابا من اليهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكر يوم بعاث: أي الحرب، التي كانت بينهم وما كان فيه وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار، ففعل فتكلم القوم عند ذلك وذكر كل أقوال شاعرهم وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة فنادى هؤلاء: يا آل الأوس، ونادى هؤلاء: يا آل الخزرج، ثم خرجوا للحرب وقد أخذوا السلاح واصطفوا للقتال.

فلما بلغ الخبر رسول الله خرج إليهم فمن كان معه من المهاجرين فقال: «يا معشر المسلمين الله الله اتقوا الله، أَبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا»؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوكم فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين، وأنزل الله في شأس بن قيس: {قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجا وَأَنْتُمْ} (آل عمران: 99)، وأنزل الله في الأنصار: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقا مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرطٍ مّسْتَقِيمٍ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 100 - 103).

وقد كان اليهود يسألون النبي عن أشياء تعنتا وحسدا وبغيا ليلبسوا الحق بالباطل، فجاء مرة يهوديان إلى رسول الله فسألاه عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَتٍ} (الإسراء: 101)، فقال لهما: «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، وعليكم يا يهود خاصة ألا تعدوا في السبت»، فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي، قال: «ما يمنعكما أن تسلما؟» فقالا: نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود.

وسألوه مرة: فقالوا: أخبرنا عن علامة النبي، فقال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه».

وسألوه أي طعام حرَّمه إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة، قال: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام مرض مرضا وطال سقمه فنذر لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه؟ فكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها»، قالوا: اللهم نعم.

وقالوا مرة إغاظة له ما يرى لهذا الرجل همَّة إلا في النساء والنكاح فلو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوَّة عن النساء، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} (الرعد: 38)، فقد جاء أن سليمان عليه السلام كان له مائة امرأة وتسعمائة سرية.

وقد انضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج منافقون على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث إلا أنهم دخلوا في دين الإسلام خشية القتل لما قهرهم الإسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه فكان هواهم مع اليهود في السر وفي الظاهر مع المسلمين وهؤلاء هم المنافقون، وقد ذكر بعضهم أن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي ثلاثمائة، منهم: عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين ولاشتهاره بالنفاق لم يعد في الصحابة، وكان من أعظم أشراف أهل المدينة وكانوا قبل مجيئه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه، وكان عبد الله بن أُبي جميل الصورة ممتلىء الجسم فصيح اللسان وهو المعني بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَمُهُمْ} (المنافقون: 4).

مثال من نفاق ابن أبي

من نفاقه ما أخرجه الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ} (البقرة: 14) الآية، في عبد الله بن أُبي وأصحابه وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقال ابن أُبي: انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء. فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه وقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق والقوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه وسيد بني هاشم، ما خلا رسول الله فقال له رضي الله عنه: اتق الله يا عبد الله، ولا تنافق فإن المنافقين شرّ خليقة الله. فقال له عبد الله: مهلا يا أبا الحسن أتقول لي هذا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم، ثم افترقوا، فقال لأصحابه: كيف رأيتموني؟ فأثنوا عليه خيرا فرجع المسلمون إلى النبي وأخبروه بذلك فنزلت الآية: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14) إلى آخر الآيات التي في المنافقين كلها فيه وفي أصحابه.

وبالجملة فقد لاقى النبي من شدة الأذى من المنافقين واليهود شيئا كثيرا ولكنه بالنسبة لأذى أهل مكة كالعدم فإنه كان بالمدينة في غاية العزة والمنعة والقوة من أول يوم، وأذى اليهود غايته المجادلة والتعنت في السؤال، ولما قويت شوكة الإسلام واشتد الجناح أذن له بالقتال.

أهل الصفة

أهل الصفّة هم فقراء المهاجرين إلى المدينة ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه ولا عشائر وكانوا نحو 400 فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة، وكان رسول الله يدعوهم بالليل إذا تعشى فيفرقهم على أصحابه وتتعشى طائفة منهم مع رسول الله حتى جاء الله بالغنى وكان أبو هريرة من أهل الصفة وكان رسول الله إذا أتته صدقة بعث بها إليهم.

عن أبي هريرة قال: خرج النبي ليلة فقال: «ادع لي أصحابي» - يعني أهل الصفة - فجعلت أتبعهم رجلا رجلا فأوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله فاستأذنا فأذن لنا فوضع لنا صحفة فيها صنيع من شعير ووضع عليها يده، وقال: «خذوا باسم الله فأكلنا ما شئنا»، قال: ثم رفعنا أيدينا، وقد قال رسول الله حين وضعت الصحفة: «والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئا ترونه». فقلنا لأبي هريرة: قدر كم هي حين فرغتم؟ قال: مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع، وكان رسول الله يؤثر على نفسه وأولاده فيعطي ما بيده للمحتاجين - ومنهم أهل الصفة - حتى إن ابنته فاطمة رضي الله عنها جاءته تشكو ما تلقى من الرحى وخدمة البيت وكانت سمعت بسبي جاءه فطلبت منه خادما فقال: «لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع» وأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: «آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله تعالى ما سألته إلا ليشبعني فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسَّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: «أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «إلحق»، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: «من أين هذا اللبن؟» قالوا: أهدى لك فلان أو فلانة، قال: «أبا هر»، قلت: لبيك رسول الله، قال: «إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي»، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منهم وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؛ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله ورسوله بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: «يا أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم»، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح حتى انتهيت إلى النبي وقد رَوى القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسم، فقال: «أبا هر»: قلت ليبك رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت»، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب» فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» فشربت فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد مسلكا، قال: «فأَرني» فأعطيته القدح فحمد الله وسَمّى وشرب الفضلة»، رواه البخاري في كتاب الاستئذان.

قال الله تعالى يذكر أهل الصفة: {لِلْفُقَرَآء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 273).

عن ابن عباس وقف رسول الله على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم، فطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفاقي».

وقد ترك أغلب المهاجرين أملاكهم وأموالهم بمكة عدا عثمان فإنه تمكن من أخذ جميع أمواله معه، وقد كان غنيا واشتغل المهاجرون بالزراعة، أعطاهم أهل المدينة أرضا يستثمرونها.

عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مقدم النبي المدينة إذا حضر منا الميت أتيناه فخبرناه فحضره واستغفر له حتى إذا قبض انصرف ومن معه؛ وربما قعد حتى يدفن وربما طال ذلك على رسول الله من حبسه، فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: والله لو كنا لا نؤذن النبي بأحد حتى يقبض فإذا قبض آذناه فلم تكن لذلك مشغلة عليه ولا حبس قال ففعلنا ذلك، قال: فكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت فيأتيه فيُصلي عليه ويستغفر له فربما انصرف عند ذلك وربما مكث حتى يدفن الميت فكنا على ذلك أيضا حينا»؛ ثم قالوا: والله لو أنا لم نشخص رسول الله وحملنا الميت إلى منزله حتى نرسل إليه فيُصلى عليه عند بيته لكان ذلك أرفق به وأيسر عليه، قال ففعلنا ذلك، قال محمد بن عمر: فمن هناك سُميّ ذلك الموضع موضع الجنائز حملت إليه، ثم جرى ذلك من فعل الناس من حمل جنائزهم والصلاة عليهم في ذلك الموضع إلى اليوم.

الإذن بالقتال

أذن لرسول الله في القتال لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر صفر في السنة الثانية من الهجرة، وقد مكث النبي يدعو كفار قريش ثلاث عشرة سنة إلى نبذ الأصنام وعبادة الله الواحد بغير قتال صابرا على شدة أذى العرب فلم يزدادوا إلا تعنتا وتعسفا واضطهدوا النبي وأصحابه اضطهادا شديدا وألجأوهم إلى هجر بلادهم وترك أموالهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إليه ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بقتالهم»، وقال جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون - وهو أخو عثمان بن مظعون - وسعد بن أبي وقاص: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فائذن لنا في قتال هؤلاء، فقال: «كفوا أيديكم عنهم فإني لم أومر بقتالهم».

لم يبق بعد ذلك غير استعمال السلاح للدفاع عن كيانهم والتغلب على عبدة الأصنام، فالمسألة صارت مسألة حياة أو موت، فإما انتصار يحقق نشر الدين أو انكسار لا تقوم للمسلمين بعده قائمة، ولو تمكنت قريش من مهاجمة المدينة والانتصار على المسلمين لكان في ذلك القضاء على الإسلام، وكان المسيحيون في الامبراطورية الرومانية في ذلك الوقت يقاتلون الفرس وينتصرون عليهم.

لما هاجر النبي إلى المدينة وكثر أتباعه وقام الأنصار بنصره وأصر المشركون على الكفر والتكذيب أذن لهم بالقتال فبعث عليه السلام البعوث وغزا بنفسه.

وأول ما أنزل في أمر القتال قوله تعالى في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاْمُورِ} (الحج: 39 - 41).

هذا أول ما أنزل في الإذن بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية.

بعث حمزة

كان أول بعوثه أن بعث عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة (623م) في ثلاثين راكبا من المهاجرين، قال بعضهم: كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار، والمجمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين ولم يبعث رسول الله أحدا من الأنصار مبعثا حتى غزا بهم بدرا وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دارهم، خرج حمزة ومن معه يعترضون عيرا لقريش جاءت من الشام تريد مكة وكان فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب ولما بلغوا ساحل البحر من ناحية العيص من بلاد جهينة التقوا وتصافوا للقتال ثم حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان مصالحا للفريقين فانصرف القوم بغير قتال ولم يكن النبي معهم، وكان يحمل اللواء أبو مرثد كنَّاز بن الحصين الغنوي وهو أول لواء عقده رسول الله وكان لواء أبيض.

سرية عبيدة بن الحارث

وفي شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة (623م) بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف إلى بطن رابغ وعقد لواء أبيض وكان الذي حمله مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكانوا ستين رجلا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، فلقي أبا سفيان بن حرب وهو في مائتين من أصحابه وهو على ماء يقال له أحياء من بطن رابغ على عشرة أميال من الجحفة وأنت تريد قديدا عن يسار الطريق، وإنما نكبوا عن الطريق ليرعوا ركابهم فكان بينهم الرمي ولم يسلوا السيوف ولم يصطفوا للقتال وإنما كانت بينهم المناوشة إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في الإسلام ثم انصرف الفريقان على حاميتهم.

سرية سعد بن أبي وقاص

ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار وهو واد في الحجاز يصب في الجحفة وذلك في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة، عقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهرواني، وبعثه في عشرين رجلا من المهاجرين يعترض لعير قريش تمر به وعهد إليه ألا يجاوز الحرار، قال سعد: فخرجنا على أقدامنا فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحناها صبح حمس فنجد العير قد مرت بالأمس فانصرفنا إلى المدينة.

غزوة ودان أو غزوة الأبواء

أول مغازيه التي خرج فيها بنفسه غزوة ودان، قال زين العابدين بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم: «كنا نعلم مغازي رسول الله كما نعلم السور من القرآن»، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.

فأول غزوة خرج فيها (ودان) وهي قرية جامعة من أعمال الفرع، وبعضهم يسميها غزوة الأبواء، فمنهم من أضافها إلى ودان ومنهم من أضافها إلى الأبواء لأنهما متقاربان في وادي الفرع بينهما ستة أميال، خرج رسول الله إليها في صفر على رأس اثني عشر شهرا من الهجرة - يونيه سنة 623م - يريد عيرا لقريش وبني ضمرة، وقيل: لم يكن مريدا لهم بل مريدا للعير التي لقريش فلما لقي بني ضمرة عقد بينه وبينهم صلحا وكان خروجه في ستين راكبا ليس فيهم أنصاري فلم يدرك العير التي أراد، وكانت المصالحة بينه وبين بني ضمرة على أنهم لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا ولا يعينون عليه عدوا وأن لهم النصر على من رامهم بسوء وأنه إذا دعاهم لنصر أجابوه وعقد ذلك معهم سيدهم مخشي بن عمرو الضمري وكتب بينهم كتابا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

«هذا كتاب محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وأن لهم النصر على من رامهم بسوء بشرط أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله».

وكان لواؤه أبيض وكان مع عمه حمزة رضي الله عنه واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.

غزوة بواط

ثم غزوة بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة (يوليه 623 م) وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص وكان اللواء أبيض واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، خرج رسول الله في مائتين من أصحابه من المهاجرين خاصة حتى بلغ بواط يعترض لعير قريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش و(2500) بعير ففاتته العير ورجع ولم يلق حربا.

غزوة بدر الأولى أو غزوة سفوان

وفي شهر ربيع الأول أيضا خرج رسول الله لطلب كرز بن جابر الفهري وكان لواؤه أبيض وكان بيد علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة مولاه زيد بن حارثة، وكان كرز بن جابر قد أغار على سرح المدينة فاستاقه وكان يرعى بالجمعاء فطلبه رسول الله حتى بلغ واديا يقال له سفَوان من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يلحقه فرجع رسول الله إلى المدينة، وهذه الغزوة هي غزوة بدر الأولى.

أما كرز فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وولاه رسول الله الجيش الذي بعثه في أثر العرنيين الذين قتلوا راعيه وقُتل كرز يوم الفتح وذلك سنة ثمان من الهجرة.

وقد ذكر ابن إسحاق هذه الغزوة بعد العشيرة، قال ابن حزم بعشرة أيام.

غزوة العشيرة

كانت غزوة العُشيرة في جمادى الأول وقيل الآخرة على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة - أكتوبر سنة 623 م - وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب وكان لواؤه أبيض واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وخرج في خمسين ومائة ويقال في مائتين من المهاجرين ممن انتدب ولم يكره أحدا على الخروج وخرجوا على ثلاثين بعيرا، خرج يعترض عير قريش حين أبدت إلى الشام وكان قد جاءه الخبر بقفولها من مكة فيها أموال قريش فبلغ العشيرة وهي لبني مدلج بناحية ينبع وبين ينبع والمدينة تسعة برد فوجد العير التي خرج لها قد مشت قبل ذلك بأيام وهي العير التي خرج لها أيضا يريدها حين رجعت من الشام فساحلت على البحر وبلغ قريشا خبرها فخرجوا يمنعونها فلقوا رسول الله ببدر فواقعهم وقتل منهم من قتل، وبالعشيرة كنى رسول الله علي بن أبي طالب أبا تراب وذلك أنه رآه نائما متمرغا في البوغاء فقال: اجلس أبا تراب، فجلس، وفي هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.

كانت قريش قد جمعت أموالها في تلك العير ويقال: إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير وكان قائد تلك العير أبا سفيان بن حرب ومعه سبعة وعشرون وقيل: تسعة وثلاثون رجلا، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص.

سرية عبد الله بن جحش الأسدي

أمر رسول الله أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو فتجهز فلما أراد المسير بكى صبابة إلى رسول الله فبعث مكانه عبد الله بن جحش الأسدي في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان بعيرا إلى نخلة وهو بستان ابن عامر الذي كان قرب مكة، وذلك في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة (نوفمبر سنة 623 م) وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يكره أحدا من أصحابه ففعل ذلك، ثم قرأ الكتاب وفيه يأمره بنزول نخلة بين مكة والطائف فيرصد قريشا ويعلم أخبارهم، فأعلم أصحابه فساروا معه حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع أضل بعيرا، وكان زميله عتبة بن غزوان فأقام يومين يبغيانه ومضى عمرو بن الحضرمي وعثمان بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم وأشرف لهم عكاشة بن محصن الأسدي وقد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمار لا بأس عليكم، وذلك آخر يوم من رجب، ثم إنهم تشاوروا فأجمعوا على القتال، فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وهو أول قتيل قتله المسلمون وشد المسلمون عليهم فاستأسر عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وهرب نوفل وغنم المسلمون ما معهم، ويقال: إن عبد الله بن جحش لما رجع من نخلة خمس ما غنم وقسم بين أصحابه سائر الغنائم فكان أول خمس في الإسلام وذلك قبل أن يفرض وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون، وكان الذي أسر الحكم المقداد بن عمرو، فدعاه رسول الله إلى الإسلام فأسلم وقُتل ببئر معونة شهيدا.

أما سعد بن أبي وقاص وزميله عتبة بن غزوان، فلم يشهدا هذه الغزوة وقدما المدينة بعد عودته السرية بأيام.

أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى إلى المدينة فلما قدموا قال لهم رسول الله: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقّف العير والأسرين فسقط في أيديهم وعنفهم المسلمون وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه به الشهر الحرام فأنزل الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 217).

فلما نزل القرآن وفرج الله عن المسلمين قبض رسول الله العير وفدى الأسيرين.

وفي هذه السرية سُمِّيَ عبد الله بن جحش: «أمير المؤمنين».

غزوة بدر الثانية أو غزوة بدر الكبرى17 رمضان في السنة الثانية من الهجرة

يناير سنة 624م

بدر بلدة بالحجاز إلى الجنوب الشرقي من الجار، وهو ساحل البحر بينهما نحو مرحلة ويسمونها بدر حنين، وهي في سهل يليه من الشمال إلى الشرق جبال وعرة من الجنوب آكام صخرية ومن الغرب كثبان رملية.

كانت غزوة بدر الكبرى، يوم الجمعة في شهر رمضان في السابع عشر على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة - يناير سنة 624 م - وكان سببها قتل عمرو الحضرمي الذي قتل في سرية عبد الله ابن جحش وإقبال أبي سفيان بن حرب من الشام في عير لقريش عظيمة وفيها أموال كثيرة تبلغ - 20.000 جنيه تقريبا - ومعها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري بن العاص.

فلما سمع بهم رسول الله ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم لأنهم ظنوا أن الرسول لا يلقى حربا.

وكان أبو سفيان قد سمع أن رسول الله يريد فحذِره، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا وبعثه إلى مكة يستنفر قريشا ويخبرهم الخبر، فسار وألقى فيهم النفير فخرجوا مسرعين ومن تخلف أرسل مكانه آخر، ولم يتخلف أحد من أشراف مكة إلا أبو لهب وبعث مكانه العاص بن هشام نظير أجر قدره 4000 درهم؛ وكان السبب في خروجهم حماية العير وإنقاذها.

قوة قريش

كان الذين خرجوا من قريش نحو 1000 منهم 600 دارع ومعهم 100 فرس عليها 100 درع سوى دروع المشاة.

وكان حامل لوائهم السائب بني يزيد ثم أسلم رضي الله عنه وهو الأب الخامس للإمام الشافعي رضي الله عنه، وكان معهم أيضا 700 بعير، وخرجوا ومعهم القيان - وهن الإماء المغنيات - يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين وهم في غاية البطر والخيلاء حين خروجهم اعتمادا على كثرة عددهم وعُددهم، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَرِهِم بَطَرا وَرِئَآء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال: 47).

وكان المطعمون لهذا الجيش اثني عشر رجلا وكان كل واحد منهم ينحر كل يوم عشرة جزر، وهؤلاء الإثنا عشر هم: أبو جهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وحكيم بن حزام، والعباس بن عبد المطلب، وأبو البَختري، وزمعة بن الأسود، وأُبي بن خلف، وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وفيهم أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْولَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (الأنفال: 36).

قوة المسلمين

كان عدة الذين خرجوا مع رسول الله 313، وقيل: لما عد أصحابه فوجدهم ثلاثمائة وثلاثة عشر فرح وقال: عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وخرجت الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عددهم 207 وسائرهم من المهاجرين وكانت الإبل 70 والأفراس خمسة، ولما أراد رسول الله الخروج لبس درعه ذات الفضول وتقلّد سيفه العضب ورد رسول الله من استصغر فكان ممّن ردّه أسامة بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت ورد عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه.

وتخلف ثمانية من أصحابه بسهامهم وأجورهم: ثلاثة من المهاجرين: عثمان بن عفان خلفه رسول الله على امرأته رقية بنت رسول الله وكانت مريضة فأقام عليها حتى ماتت، وطلحة بن عبيدالله، وسعيد بن زيد بعثهما يتجسسان خبر العير وخرجا في طريق الشام، وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة فأمره بالمقام على أمه.

وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بن عبد المنذر الأوسي خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي العجلاني خلفه على أهل العالية، والحارث بن حاطب العمري رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث بن الصمة كسر بالروحاء، وخوات بن جبير كسر أيضا، وهؤلاء ثمانية لا اختلاف فيهم.

وكانت الإبل سبعين بعيرا يتعاقب النفر البعير، وكانت الخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان اللواء مع مصعب بن عمير، وكان أمام رسول الله رايتان سوداوان إحداهما مع عليّ بن أبي طالب يقال لها العقاب وكانت من مرط عائشة أي ثوبها وكان عمر عليّ يومئذ عشرين سنة والأخرى مع بعض الأنصار، وجعل على الساقة - المؤخرة - قيس بن أبي صعصعة الأنصاري فكانت قوة المسلمين قليلة بالنسبة لقوة عدوهم.

واستعمل أبا لبابة واليا على المدينة ورده، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس بالمدينة.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه

كان رسول الله بعث رجلين يتجسسان أخبار عِير أبي سفيان وهما بَسبَس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء وأخذا يستقيان من الماء فسمعا جاريتين تقول إحداهما لصاحبتها: إن أتاني العير غدا أو بعد غد أعمل لهم، أي أخدمهم، ثم أقضيك الذي لك، فانطلقا حتى أتيا رسول الله فأخبراه بما سمعا.

فاستشار النبي أصحابه في طلب العير وفي حرب النفير، يعني أن النبي خير أصحابه بين أن يذهبوا للعير أو إلى محاربة النفير وأخبرهم بمسير قريش، وقال لهم: «إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش»، وكانت العير أحب إليهم ليستعينوا بما فيها من الأموال على شراء الخيل والسلاح، وقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنّا خرجنا للعير، وفي رواية: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فتغير وجه رسول الله

وتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن.

وكان يخشى أن تكون الأنصار لا ترى وجوب نصرته عليها إلا ممن دهمه فجأة من العدو بالمدينة فقط وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو، فلما قال لهم: «أشيروا عليّ»، قال له سعد بن معاذ رضي الله عنه، وهو سيد الأوس، بل هو سيد الأنصار، وكان فيهم كالصديق رضي الله عنه في المهاجرين، قال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت لنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء لعل الله يريك فينا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسرّ رسول الله لقوله ونشطه ذلك للقاء الكفار، ثم قال رسول الله: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير».

الخلاف بين أبي سفيان وأبي جهل

كان أبو سفيان قد ساحل وترك بدرا يسارا ثم أسرع فنجا فلما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش وهم بالجحفة أن الله قد نجى عيركم وأموالكم فارجعوا.

فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكانت بدر موسما من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر فتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا، ويقال كان أبو جهل وقتئذ يبلغ من العمر سبعين سنة ولكنه كان لا يزال قوي الجسم.

فلما بلغ أبا سفيان كلام أبي جهل قال: هذا بغي والبغي منقصة وشؤم لأن القوم إنما خرجوا لنجاة أموالهم وقد نجاها الله، ولما قال أبو جهل ما قال رجع من قريش بنو زهرة وكانوا نحو المائة وقيل: ثلاثمائة، فلذا قيل لم يقتل أحد منهم ببدر، وكان قائد بني زهرة الأخنس بن شريق الثقفي وكان حليفا لهم، فقال لهم: يا بني وهرة قد نجّى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل فإنه كان في العير وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فارجعوا فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير منفعة، دعوا ما يقول هذا، يعني أبا جهل، وكذلك لم يخرج من قريش بنو عدي بن كعب فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد، لكن هذا الخلاف لم يمنع نشوب الحرب.

مسير الجيشين ونزول المطر

مضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي.

ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه وحفروا القلُب لأنفسهم ليجعلوا فيها الماء من الآبار المعينة فيشربوا منها ويسقوا دوابهم.

وأدرك المسلمون النعاس وأصبحوا لا يصلون إلى الماء للشرب والغسل والوضوء، فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المسلمون واتخذوا الحياض على عدوة الوادي واغتسلوا وتوضأوا وسقوا الركاب وملأوا الأسقية وأطفأت المطر الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليهم الأقدام والحوافر وضر ذلك بالمشركين لكون أرضهم كانت سهلة لينة وأصابهم ما لا يقدرون معه على الارتحال وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: {إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَآء مَآء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ} (الأنفال: 11).

وبات رسول الله يدعو ربه، يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده: «يا حي يا قيّوم» يكرر ذلك حتى أصبح.

قال علي رضي الله عنه فلما أن طلع الفجر نادى رسول الله للصلاة - عباد الله - فجاء الناس من تحت الشجرة والحجف فصلى بنا رسول الله ثم خطب وحضَّ على القتال.

بناء حوض على القليب

قال ابن إسحاق: خرج رسول الله يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به فقال الحباب بن المنذر بن الجموح رضي الله عنه: يا رسول الله هذا منزل أنزلكه الله تعالى لا تتقدمه ولا تتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: «بل الرأي والحرب والمكيدة»، قال: فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فإني أعرف غزارة مائه فننزل به ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال «أشرت بالرأي»، فنهض ومن معه من الناس حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلُب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء ثم قذفوا فيه الآنية وقد كان الحباب خبيرا بالآبار في تلك الجهة، وقد قبل رسول الله مشورته وهي فكرة سديدة لها أهمية حربية فإن الجيش يكون على اتصال دائم بالماء الذي لا غنى عنه، ومن يومئذ قيل للحباب: «ذو الرأي».

بناء العريش

وبعد ذلك قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا لما تخلفوا عنك إنما ظنوا أنها العير يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثنى عليه خيرا ودعا له الخير وقال: «يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد»، ثم بُنِيَ له العريش فوق تلّ مشرف على المعركة فدخله النبي وأبو بكر الصديق وقام سعد بن معاذ متوشحا بالسيف.

وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أشجع الناس أبو بكر رضي الله عنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله عريشا فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فكان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله فوالله ما دنا منه أحد إلا وأبو بكر رضي الله عنه شاهر بالسيف على رأس رسول الله لا يهوي أحد إليه إلا أهوى إليه أبو بكر رضي الله عنه، وجاء أنه لما التحم القتال وقف أيضا على باب العريش سعد بن معاذ رضي الله عنه وجماعة من الأنصار، والعريش شيء يشبه الخيمة يستظل به وكان من جريد، قال السيد السمهودي: ومكان - العريش - عند مسجد بدر وهو معروف عند النخيل والعين قريبة منه.

عتبة بن ربيعة ينصح قريشا بالرجوع

تقدم قبل ذلك أن أبا سفيان كان من رأيه الرجوع لنجاة عير قريش وأموالها وأن أبا جهل كان مصمما على الحرب، فلما اطمأنت قريش بالجهة التي نزلوا فيها أرسلوا عمير بن وهب الجمحي يستطلع، فجال بفرسه حول عسكر النبي فوجد أنهم يبلغون ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون وقال لهم: لقد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، رجال يثرب تحمل الموت الناقع، ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي لا يريدون أن يقبلوا إلى أهليهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الجحف قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حي يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم عدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم، فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش والمطاع فيها هل لك أن تذكر بخير إلى آخر الدهر؟ فقال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، فقام عتبة خطيبا، فقال: يا معشر قريش والله ما تصنعون شيئا أن تلقوا محمدا وأصحابه والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قد قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب فإن أصابه غيركم فذاك إذا أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعدموا منه ما تريدون، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي - أي اجعلوها عارا متعلقا بي - وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.

فلما بلغ أبا جهل هذا الكلام عن عتبة رماه بالجبن، وقال: - والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد - فأفسدَ أبو جهل على الناس رأي عتبة وتشبث بضرورة قتال المسلمين.

تعديل صفوف المسلمين ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما أصبح المسلمون، عدل النبي صفوف أصحابه وأقبلت قريش ورآها فقال:

«اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني».

اقتحام الحوض

خرج الأسود المخزومي وكان شرسا سيّىء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنّه أو لأموتنّ دونه، فلما أقبل قصده حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عنه فضربه دون الحوض فوقع على ظهره تشخب - تسيل - رجله دما ثم اقتحم الحوض زاعما أن تبرّ يمينه فقتله حمزة في الحوض، والأسود هذا هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي أخو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه زوج أم سلمة رضي الله عنها، وهو أول قتيل قُتل يوم بدر من المشركين وهو أول من يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة، وأما أخوه عبد الله بن عبد الأسد فهو أول من يأخذ كتابه بيمينه كما جاء ذلك في أحاديث متعددة.

المبارزة

التمس عتبة بن ربيعة بيضة، أي خوذة يدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسع رأسه لعظمها فتعمم ببرد له وخرج بعد أن تعمم بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى انفصل من الصف ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار وهم عوف ومعاذ ابنا الحارث الأنصاريان وعبد الله بن رواحة الأنصاري، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فناداهم: أن ارجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم، ثم قال «قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا عليّ». فبارز عبيدة - وكان أسن المسلمين - عتبة وكان أسن الثلاثة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد بن عتبة، فقتل حمزة شيبة وعليّ الوليد واختلف عبيدة وعتبة ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة فحاذياه إلى أصحابه، وكانت الضربة التي أصابت عبيدة في ركبته فمات منها لمّا رجعوا بالصفراء، قيل: وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام.

تعديل صفوف المسلمين والحث على الجهاد

قال ابن إسحاق: لما قتل المبارزون خرج من العريش لتعديل الصفوف فعدلهم بقدح في يده فمر بسواد بن غزية حليف النجار وهو خارج من الصف فطعنه رسول الله في بطنه بالقدح وقال: «استو يا سواد»، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني من نفسك، فكشف رسول الله عن بطنه وقال: «استقد» فاعتنق سواد النبي وقبل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد»؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير ثم لما عدل الصفوف قال لهم: «إن دنا القوم منكم فانضحوهم واستبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم» وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد والمصابرة ثم عاد إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش موشح بسيفه مع نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ويخافون عليه كرة العدو.

ألوية المسلمين والمشركين

كان لواء رسول الله الأعظم - لواء المهاجرين - مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وجعل رسول الله شعار المهاجرين: «يا بني عبد الرحمن»، وشعار الخزرج: «يا بني عبد الله»، وشعار الأوس: «يا بني عبيد الله»، ويقال: بل كان شعار المسلمين جميعا يومئذ: «يا منصور أمت».

وكان مع المشركين ثلاثة ألوية: لواء مع أبي عزيز بن عمير، ولواء مع النضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة وكلهم من بني عبد الله.

تزاحم الناس والتحام القتال

بعد أن عاد رسول الله تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وأقبل نفر من قريش حتى وردوا حوضه فقال: «دعوهم» فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل إلا حكيم بن حزام فإنه أسلم وأمر رسول الله أن لا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وكان قد أخذته سنة من النوم فاستيقظ وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر أصحابه فكان تثبيتا لهم، ثم خرج رسول الله يحرض المؤمنين وأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال: «شاهت الوجوه» - أي قبحت الوجوه - ونفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال: «شدوا» فكانت الهزيمة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال وهو في العريش يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلا تُعبد»، وفي رواية: «إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تُعبد في الأرض».

وروى النسائي والحاكم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت لاستكشاف حال النبي فإذا رسول الله يقول في سجوده: «يا حي يا قيُّوم» لا يزيد على ذلك فرجعت فقاتلت ثم جئته فوجدته كذلك، فعل ذلك أربع مرات وقال في الرابعة ففتح عليه، وهذا يدل على عظم هذا الاسم.

لما رمى رسول الله المشركين بالحصا، لم يبق من المشركين رجل إلا امتلأت عينه وأنفه وفمه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17)، وهذه إحدى معجزات رسول الله

خرج رسول الله وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45)، وقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة»، فقال عمير بن الحمام الأنصاري - وبيده تمرات يأكلهن -: «بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء»، ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قُتل، ورُمي مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل، ثم رُمِي حارثة بن سراقة الأنصاري فقُتل، وقاتل عوف بن عفراء حتى قتل، واقتتل الناس اقتتالا شديدا فانهزم المشركون فقتل من قُتل منهم وأسر من أسر، كان بدء القتال في الصباح، وكانت الهزيمة في الظهر، وبلغ عدد القتلى من المشركين سبعين والأسرى أربعة وسبعين وعدد القتلى من المسلمين أربعة عشر: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وفي يوم بدر دعا أبو بكر الصدّيق ابنه عبد الرحمن إلى المبارزة وكان أسن أولاده فقال له النبي «متعنا بنفسك أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري»، ثم أسلم عبد الرحمن في هدنة الحديبية وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة وقيل: عبد العزى فسماه رسول الله عبدالرحمن وكان من أشجع قريش وأرماهم.

وقتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا.

قتل بلالٌ أمية بن خلف الجمحي صديق عبد الرحمن بن عوف في الجاهلية لأنه كان يعذبه بمكة على أن يترك الإسلام، وكان ابن عفراء ضرب أبا جهل حتى أثبته وقطع ابن الجموح رجله، فلما أمر رسول الله الناس بأن يلتمسوا أبا جهل في القتلى خرج معهم عبد الله بن مسعود فوجده وهو بآخر رمق، فوضع رجله على عنقه وحز رأسه وحمل رأسه إلى رسول الله ثم إن النبي بعد إلقاء الرأس بين يديه خرج يمشي مع ابن مسعود حتى أوقفه على أبي جهل، فقال: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو رسول الله، هذا كان فرعون هذه الأمة ورأس قاعدة الكفر، قال ابن مسعود: ونفلني سيفه وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة.

إمداد المسلمين بالملائكة يوم بدر

وردت الآيات والأحاديث على أن الله تعالى أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر فقاتلوا معهم، فلما انقضى أمر بدر أنزل الله عز وجل فيه من القرآن سورة الأنفال فممّا أنزل خاصا بالملائكة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 9، 10).

وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12).

وقال تعالى في سورة آل عمران: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالآفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: 123 - 126).

وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».

إن إمداد المسلمين بالملائكة من معجزات رسول الله التي نص عليها القرآن الكريم ولا سبيل إلى إنكارها.

رُوِي عن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.

سيما الملائكة يوم بدر

كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها خلف ظهورهم إلا جبريل عليه السلام فإنه كان عليه عمامة صفراء، وقيل: حمراء، وقيل: بعض الملائكة كانوا بعمائم صفر، وبعضهم بعمائم بيض، وبعضهم بعمائم سود، وبعضهم بعمائم حمر.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضرا وصفرا وحمرا.

وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه يوم بدر متعمما بعمامة صفراء، وكانت خيل الملائكة بلقا مسومة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.

إلقاء القتلى في القليب

أمر رسول الله بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم وأن يطرحوا في القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتقطعت أوصاله فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة، والسبب في إلقاء قتلى المشركين في القليب كثرة جيفهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر من دفنهم.

ثم جاء رسول الله حتى وقف على شفير القليب بعد ثلاثة أيام من إلقائهم فيه وكان ذلك ليلا ومعه أصحابه وقال: «يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم، أمنتكم فكذبتموني وصدقني الناس، ثم قال: يا عتبة، يا شيبة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام - وعدد من كان في القليب - هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا؟» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كيف تُكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

الأسرى وفداؤهم

كان فداء الأسرى أربعة آلاف إلى ما دون ذلك، فكان يفادي بهم على قدر أموالهم. وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه، فكان زيد بن ثابت ممن علم.

وكان من بين الأسرى العباس عم النبي وصنو أبيه يكنى أبا الفضل بابنه الفضل، وكان أسن من رسول الله بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وكان في الجاهلية رئيسا في قريش وإليه كانت عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية، خرج مع المشركين يوم بدر فأُسِر وشُدّ وثاقه فسهر النبي تلك الليلة ولم ينم، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا نبي الله؟ فقال: «أسهر لأنين العباس» فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه فقال له رسول الله «ما لي لا أسمع أنين العباس»، فقال الرجل: أنا أرخيت من وثاقه، فقال رسول الله «فافعل ذلك بالأسرى كلهم»، قال له رسول الله «افد نفسك يا عباس وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية»، فقال للنبي تركتني فقير قريش ما بقيت، فقال له رسول الله «فأين المال الذي دفعته لأم الفضل وقلت لها إن أصبت فهذا لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم؟»، فقال: والله إني أشهد أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله.

وفي رواية قال للنبي «لقد تركتني فقير قريش ما بقيت»، فقال له: «كيف تكون فقير قريش وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل - زوجته - وقلت لها: إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت»، فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان وما اطلع عليه إلا الله، ونطق بالشهادتين، بحضرة رسول الله

وقد قيل: إن العباس كان قد أسلم، وكان يكتم إسلامه لديون له كانت متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم، وقد جاء في بعض الروايات: أن العباس رضي الله عنه قال: علامَ يؤخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ وفي رواية: وكنت مسلما ولكن القوم استكرهوني، فقال النبي «الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك»، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا، وقد أنزل الله تعالى في العباس رضي الله عنه: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال: 70)، وعند نزول هذه الآية قال العباس للنبي وددت أنك كنت أخذت مني أضعاف ما أخذت، وقد صدق الله وعده له فأعطاه الله مالا عظيما حتى كان عنده مائة عبد في يد كل عبد مال يتجر فيه، وبلغ ما دفعته قريش فداء للأسرى أكثر من 20.000 درهم.

وكان من الأسرى: النضر بن الحارث العبدري وكان من أشد الناس عداوة للنبي وكان يقول في القرآن إنه أساطير الأولين، ويقول: لو نشاء لقلنا مثل هذا وغير ذلك من الأقاويل. فأمر النبي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فضرب عنقه، فلما بلغ الخبر أخته قتيلة، وقيل: إنما هي بنته، رثته بأبيات ثم أسلمت، في «أسد الغابة» أنها قتيلة بنت النضر، قال الواقدي: هي التي قالت الأبيات التالية في رسول الله لما قتل أباها النضر بن الحارث يوم بدر وهي:

يا راكبا إن الأثيل مظنة ** من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية ** ما إن تزالُ بها النجائب تخفقُ

مني إليك وعبرة مسفوحة ** جادت بواكفها وأخرى تخنق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ** لله أرحام هناك تشقق

قسرا يقاد إلى المنية معتبا ** رسف المقيَّد وهو عان موثَق

أمحمد أو لست صفوَ نجيبة ** من قومها والفحلُ فحلٌ معرِق

ما كان ضرك لو مننت وربما ** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة ** وأحقهم إن كان عتق يعتق

وحين سمع ذلك بكى وقال: «لو بلغنى هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه».

وكان من الأسرى أيضا عقبة بن أبي معيط بن ذكوان المكنى بأَبي عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان من أشد الناس عداوة للنبي ومن المستهزئين به، جاء عن ابن عباس أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أُقتل بينكم صبرا؟ فقال له النبي «بكفرك واجترائك على الله ورسوله»، وعقبة هذا هو الذي وضع سلا الجزور على ظهر النبي وهو ساجد بمكة.

فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط هما الأسيران اللذان أمر بقتلهما، أما سائر الأسرى فقد استشار رسول الله في أمرهم، فاستشار أبا بكر وعمر وعليّا رضي الله عنهم فيما هو الأصلح من الأمرين القتل أو أخذ الفداء.

رأي أبي بكر رضي الله عنه في الأسرى

قال أبو بكر: «يا رسول الله، أهلك وقومك»، وفي رواية: «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان قد أعطاك الله الظفر بهم ونصرك عليهم أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم بك فيكونوا لنا عضدا» وقد وافق الصحابة أبا بكر على أخذ الفداء.

رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل الأسرى

قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من - فلان - قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليّا من عقيل أخيه فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه العباس فيضرب عنقه حتى يُعلم أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فأعرض عنه رسول الله وقال سعد بن معاذ: - الإثخان في القتل أحب إليّ من إبقاء الرجال -.

أما عليّ رضي الله عنه فلم يذكر عنه جواب مع أنه أحد الثلاثة المستشارين، قال العلامة الزرقاني لأنه لما رأى تغيّر المصطفى حين اختلف الشيخان، لم يجب أو لم تظهر له مصلحة حتى يذكرها.

وكان رأي عبد الله بن رواحة إحراقهم في واد كثير الحطب.

لكن رسول الله أخذ برأي أبي بكر رضي الله عنه، وقال: «لا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق»، وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَبٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَلا طَيّبا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال: 67 - 69)، فبكى النبي وأبو بكر رضي الله عنه، وقال رسول الله «إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب»، ولم يقل وابن رواحة لأنه أشار بإضرام النار وليس بشرع.

وهذه الآية موافقة لرأي عمر رضي الله عنه، وهي من المواضع التي جاء القرآن فيها موافقا لقول عمر رضي الله عنه، وهي كثيرة نحو بضعة وثلاثين أفردت بالتأليف.

ولما استقر الأمر على الفداء فرق رسول الله الأسرى في أصحابه، وكان أول أسيرا فُديَ أبو وداعة الحارث فداه ابنه المطلب - وكان كيسا تاجرا - بأربعة آلاف درهم ثم أسلم وقد عده بعضهم من الصحابة، وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم وكان من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة فإذا تعلموا كان ذلك فداءه كما تقدم.

وكان من الأسرى أبو العاص بن الربيع فإنه أسلم بعد ذلك وهو زوج زينب بنت النبي ورضي عنها وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولم يكن في ذلك الوقت تزوُّج الكافر بالمسلمة محرما، وإنما حرّم ذلك بعد لأن الأحكام إنما شرعت بالتدريج.

وقدمت زينب المدينة بعد شهر من بدر، وقد جاء بها زيد بن حارثة بأمر رسول الله ثم أسلم زوجها وهاجر وردها إليه بغير عقد بل بالنكاح الأول، وقيل: عقد عليها عقدا آخر وولدت له - أمامة - التي كان يحملها على ظهره وهو يصلي، ثم لما كبرت تزوجها عليّ رضي الله عنه بعد خالتها فاطمة رضي الله عنها بوصية من فاطمة لعلي بذلك.

وكان في الأسارى وهب بن عُمَيْر رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وأسره رفاعة بن رافع، وكان عُمَيْر شيطانا من شياطين قريش وكان ممن يؤذي رسول الله وأصحابه بمكة فجلس يوما مع صفوان بن أمية وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: ما في العيش خير بعدهم، فقال عُمَيْر: والله صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، كنت آتي محمدا حتى أقتله فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا، قال عُمَيْر: فاكتم عني شأني وشأنك، قال: أفعل، ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه وسمّه ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينا عمر بن الخطاب في نفر من والمسلمين يتحدثون عن يوم بدر، إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، ما جاء إلا بشرّ. فدخل عمر على رسول الله، فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال رسول الله: «فأدخله عليّ»، فأقبل عمر رضي الله عنه حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فأمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون.

ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: «أرسله يا عمر، أدن يا عُمَيْر»، فدنا، ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك، يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم - يعني ولده وهبا - فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال رسول الله: «اصدقني ما الذي جئت له»؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك»، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء ما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق.

ثم شهد شهادة الحق.

ثم قال رسول الله: «فَقِّهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن وأطلقوا أسيره» ففعلوا ذلك.

ومرّ رسول الله على نفر من الأسرى بغير فداء منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر، وقد كان يؤذي النبي والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ. فمن عليه رسول الله وأطلقه وأخذ عليه عهدا أن لا يظاهر عليه أحدا، ولما وصل إلى مكة قال: سحرت محمدا ورجع لما كان عليه من الإيذاء بشعره، ولما كان يومُ أُحد خرج مع المشركين يحرّض على قتال المسلمين بشعره فأسر فأمر النبي بضرب عنقه، فقال: أعتقني وأطلقني فإني تائب، فقال «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين». فضربت عنقه وحمل رأسه إلى المدينة وأنزل الله فيه: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} (الأنفال: 71).

تأثير الانتصار في المدينة

كان لنبأ الانتصار تأثير عظيم في النفوس فخاف رسولَ الله كلُّ عدو بالمدينة وما حولها وأسلم كثير من اليهود منهم عبد الله بن أُبي، لكنه لم يكن مخلصا في إسلامه بل ظل منافقا إلى أن مات ومع انتصار المسلمين في بدر، لم تنقطع معارضة اليهود ودسائسهم فكان لا بد من القضاء عليهم واستئصال شأفتهم، وقد كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ومن النساء سبعين، وكانوا يؤذونه إذا غاب ويتملقونه إذا حضر.

ثم أرسل رسول الله عبد الله بن رواحة بشيرا لأهل العالية، وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بما فتح الله على رسوله وعلى المسلمين.

رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتقسيم الغنيمة

لما قارب رسول الله المدينة خرج المسلمون للقائه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة بالدفوف، والولائد جمع وليدة وهي الصبية يقلن:

طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع

وقسم رسول الله النفل وكانت 150 من الإبل وعشرة أفراس، ومتاعا وسلاحا وأنطاعا، وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة ونادى منادي رسول الله: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له، وتنفل رسول الله زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار وجمل أبي جهل.

وقع خبر الانتصار على قريش

سمعت قريش خبر انتصار رسول الله ممن رجع منهم من ساحة القتال وقص أبو سفيان ابن الحارث ما رأى على أبي لهب ففقد رشده وضرب أبا رافع ضربا مبرحا، ولم يعش بعدها أبو لهب إلا سبع ليال ومات مصابا بالجدري وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا يقرب أحد منه خوفا من العدوى حتى أنتن ولما تحققت قريش خبر الهزيمة وما أصابهم من قتل وأسر، ناحت على قتلاها شهرا، وجز النساء شعورهن، ثم اتفقوا على عدم الاسترسال في الجزع لئلا يشمت بهم المسلمون وتواصوا على الأخذ بالثأر.

أسباب انتصار المسلمين في وقعة بدر

كانت وقعة بدر أول انتصار للمسلمين في حروبهم ولم تكن من الوقائع الكبيرة من حيث عدد جيوش المتحاربين واستعدادهم الحربي فإن عدد المسلمين كان نحو 313 يقابلهم نحو ألف من أهل مكة ولكنها وقعة مهمة لأنها كانت بمثابة الحجر الأساس في انتصار الرسول في الوقائع المقبلة وهي بدء تحوّل خطير في تاريخ الإسلام وتاريخ العالم، في هذه الوقعة انهزم أهل مكة وظهر ضعفهم في القتال على كثرة عددهم وفرسانهم وقد أبدى بعض المؤرخين استغرابه لما أصاب أعداء المسلمين من الفشل مع أنهم كانوا أكثر منهم عددا وكان معهم مئة فرس وسبعمائة بعير ومع ذلك لم يكتسحوهم أمامهم بفرسانهم وركبانهم بل ولّوا هاربين، والظاهر أن المسلمين كانوا أحسن نظاما فقد عدل صفوفهم النبي وخطب فيهم مستنهضا هممهم وكان يشرف على الوقعة من ذلك العريش العالي ويصدر الأوامر فكان قائدا عاما، ولم يصدر من أصحابه أية مخالفة لأوامره، أما أبو سفيان فلم يكن قائدا ماهرا، وقد ساعد بناء الحوض وتوافر الماء على النصر، والقرآن الكريم والأحاديث النبوية تنص صراحة على أن الله سبحانه وتعالى أمد نبيّه بمدد باطني فحاربت الملائكة مع المسلمين ونصروهم على أعدائهم وقد رآهم بعض الصحابة وبعض أهل مكة في ميدان القتال وذكروهم بسيماهم، فقيل: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضرا وصفرا وحمرا وكان الزبير بن العوام متعمما بعمامة صفراء فقال «نزلت الملائكة - أي بعضهم - بسيما أبي عبدالله» - يعني الزبير -، وكانت خيل الملائكة بلقا مسومة - مزينة -، وعن عليّ كرّم الله وجهه قال: هبت ريح شديدة يوم بدر ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك ثم جاءت أخرى كذلك، فنزل في الأولى جبريل في ألف من الملائكة أمام النبي ونزل في الثانية ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله

هذا وقد جيء بالعباس يوم بدر، أسره أبو اليَسَر وكان مجموعا وكان العباس جسيما فقيل لأبي اليسر: كيف أسرته؟ قال: أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل ذلك بهيئة كذا وكذا، فقال رسول الله «لقد أعانك عليه ملك كريم».

وقد كان رسول الله قال لأصحابه: «قد رأيت جبريل وعلى ثناياه النقع»، فقال رجل من بني غفار: أقبلت أنا وابن عم لي فصعدنا جبلا يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب فدنت منا سحابة فسمعت فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، قال: فأما ابن عمي فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت، وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قتله غيري، وقال سهل بن حنيف: كان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف فكيف بعد هذا كله نكذب إمداد الله رسوله بالملائكة في وقعة بدر إن الله قد اختص نبيّه بمعجزات وهذه إحداها ولا سبيل لإنكارها وإن أنكرها المستشرقون الذين كتبوا سيرة النبي فقد وردت في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة.

وروى الصحابة رضي الله عنهم الذين شهدوا بدرا أنهم رأوا الملائكة بسيماهم وهم يحاربون، قال حويطب بن عبد العزى: شهدت بدرا مع المشركين فرأيت عبرا، رأيت الملائكة تقتل وتأسر بين السماء والأرض ولم أذكر ذلك لأحد.

ومن أسباب انتصار المسلمين قوة العقيدة فإن لها تأثيرا عظيما في الحروب، فشتان بين من يحارب بعقيدة راسخة لينصر الله ورسوله فإن قتل فاز بنعمة الشهادة وتنعم في دار الخلد وبين من يحارب وهو لا يشعر بقوة العقيدة التي تدفع خصمه إلى القتال من غير مبالاة، فالمسلمون كانوا يتوقون إلى الموت في سبيل الله، فمن ذلك أن رسول الله خرج من العريش يوم بدر وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45)، وحرّض المسلمين وقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة». فقال عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن: بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قُتل.

ويؤكد سير وليام موير William Muir أن الخوف الذي كان مستوليا على أهل مكة من إراقة دماء أقاربهم مع ما يقابل ذلك من رغبة المسلمين في القتال، كان هو العامل المهم في انتصار المسلمين في وقعة بدر.

فضل أهل بدر

جاء أحد الصحابة إلى النبي فقال: يا رسول الله إن ابن عمي نافق أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال «إنه شهد بدرا وعسى أن يكفر عنه»، وفي رواية: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله «اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم - أو قال -: فقد وجبت لكم الجنة»، وعن الإمام أحمد عن حفصة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله يقول: «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله تعالى أحد شهد بدرا أو الحديبية»، وكان رسول الله يكرّم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم، وفي «الخصائص الصغرى»: وخصّ أهل بدر أصحابه بأن يزادوا في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لفضلهم.

وفاة رقية ابنة رسول الله

تزوجت رقية ابنة رسول الله عثمان بن عفان بمكة وهاجرت معه إلى الحبشة وولدت له هناك ولدا اسماه عبد الله وكان عثمان يُكنى به، فبلغ الغلام ست سنين فنقر عينه ديك فورم وجهه ومرض ومات، وكان موته في جمادى الأولى سنة أربع.

ولما سار رسول الله إلى بدر، كانت ابنته رقية مريضة فتخلف عليها عثمان بأمر رسول الله له بذلك فتوفيت يوم وصول زيد بن حارثة مبشرا بظفر رسول الله وكان قد أصابتها حصبة.

زواج فاطمة بنت رسول الله سنة 2هـ

فاطمة بنت رسول الله هي سيدة نساء العالمين ما عدا مريم ابنة عمران صلى الله عليهما، أمها خديجة بنت خويلد، وكانت تُكنى أم أبيها وكانت أحب الناس إلى رسول الله زوَّجها رسول الله من عليّ بعد أن ابتنى لعائشة بأربعة أشهر ونصف، وابتنى بها بعد تزويجه إياها بسبعة أشهر ونصف وكانت سنّها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وانقطع نسل رسول الله إلا منها فإن الذكور من أولاده ماتوا صغارا.

خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله فأبى عليهما، فقال عمر: أنت لها يا عليّ، فقال: ما لي من شيء إلا درعي أرهنها، فزوجه رسول الله فاطمة، فلما بلغ ذلك فاطمة بكت، فدخل عليها رسول الله فقال: «ما لَكِ تبكين يا فاطمة؛ فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما وأفضلهم حلما وأوّلهم سلما».

وعن عليّ رضي الله عنه قال: خُطبت فاطمة إلى رسول الله فقالت لي مولاة لي: هل علمت أن فاطمة خطبت إلى رسول الله قلت: لا، قالت: فقد خطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله فيزوجك، قلت: وهل عندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله زوجك، فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله وكانت لرسول الله جلالته وهيبته فلما قعدت بين يديه أقحمت فوالله ما أستطيع أن أتكلم، فقال: «ما جاء بك»؟ فسكت، فقال: «لعلك جئت تخطب فاطمة؟» قلت: نعم، قال: «وهل عندك من شيء تستحلها به؟» فقلت: لا والله يا رسول الله، فقال: «ما فعلت بالدرع التي سلحتكها؟» فقلت: عندي، والذي نفس عليّ بيده إنها لحُطَميَّة ما ثمنها أربعمائة درهم، قال: «قد زوجتك فابعث بها فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله .

وقال رسول الله لعليّ ليلة البناء بفاطمة: «لا تحدثن شيئا حتى تلقاني»، فدعا رسول الله بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على عليّ وقال: «اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما».

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم: أن رسول الله كان يغار لبناته غيرة شديدة، كان لا يُنكح بناته على ضرة.

وعن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله يقول وهو على المنبر: «إن بني هشام ابن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد عليّ بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنها بضعة مني، يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها».

أمر رسول الله أن يجهزوا فاطمة، فجُعل لها سرير مشروط ووسادة من أدم حشوها ليف وأرسل رسول الله أسماء بنت عميس فهيأت البيت فصلى العشاء وأرسل إلى فاطمة رضي الله عنها فجاءت مع أم أيمن بركة الحبشية مولاته حتى قعدت في جانب البيت وعليُّ رضي الله عنه في جانب آخر ثم جاء رسول الله بعدما صلى العشاء الآخرة فقال: «أها هنا أخي»؟ قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: «نعم، إي هو كَأخي في المنزلة والمؤاخاة فلا يمتنع عليَّ تزويجي إياه بنتي»، ودخل وقال لفاطمة رضي الله عنها: «ائتني بماء»، فقامت تعثر في ثوبها من الحياء إلى قعب في البيت، فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه - أي وضعه في فمه ورمى به في القعب، والقعب إناء ضخم كالقصعة - ثم قال لها: «تقدمي»، فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: «اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم»، ثم قال: «أدبري»، فأدبرت فصب بين كتفيها، ثم فعل مثل ذلك بعليّ، ثم قال له: «ادخل بأهلك باسم الله والبركة»، وكان مهرها رضي الله عنها 400 درهم فضة، وخرّ عليّ رضي الله عنه ساجدا شكرا لله تعالى.

وكانت وليمة عليّ رضي الله عنه آصعا من شعير وتمر وحَيْس - وهو تمر يخلط بسمن - وقيل: أولم بكبش من سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار، وكان فرشهما ليلة عرسهما جلد كبش، وكانت سن عليّ يومئذ 21 سنة وخمسة أشهر.

وتُلقب فاطمة بالبتول لانقطاعها عن الدنيا، ولدت لعليّ الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، كانت مشيتها مشية رسول الله كما قالت عائشة، وتوفيت فاطمة بعد رسول الله بستة أشهر وهذا أصح ما قيل، وما رؤيت ضاحكة بعد وفاته حتى لحقت بالله تعالى وكانت أول أهله لحوقا به وهي أول من غُطيَ نعشها في الإسلام وأوصت أن تُدفن ليلا، قيل: توفيت لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة وكان عمرها 29 سنة، وقيل: 30 رحمها الله تعالى.

غزوة بني سليم

لما قدم رسول الله المدينة من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سُليم واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري - وهو من مشاهير الصحابة - وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، وكان لواؤه أبيض حمله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فبلغ رسول الله ماء من مياههم يقال له - الكُدْر - فأقام ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا وارتفع القوم وهربوا وبقيت نعمهم، فظفر بها وانحدر بها إلى المدينة وقسمها بصرار، وهو مكان على ثلاثة أميال من المدينة وكانت خمسمائة بعير، وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة.

غزوة بني قينقاع سنة 2 هـ

624 م

قَينُقاع اسم لشعب من اليهود الذين كانوا بالمدينة، أُضيف إليهم سوق كانت بها، ويُقال سوق بني قَينُقاع، وهم من موالي الخزرج وحلفاء عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان عددهم قليلا وصناعتهم الصياغة وهم أغنى سكان المدينة، وكانت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة عداوة قديمة في الجاهلية سببها اشتراكهم مع الخزرج في يوم بعاث، كما ذكرنا سابقا.

كانت غزوة بني قينقاع في شوال من السنة الثانية من الهجرة (فبراير سنة 624 م)، قال ابن إسحاق: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال: «يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم».

قالوا: يا محمد إنك ترى أنا كقومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس، أي أنهم بذلك دعوه للقتال.

دعا رسول الله بني قينقاع إلى الإسلام، وإلى الاعتراف بنبوته لأنهم يجدون ذلك في كتابهم، لكنهم مع ذلك وعلى قلة عددهم وإقامتهم مع المسلمين في المدينة نفسها أغلظوا له في الجواب ولم يقفوا عند حدود الأدب وادعوا الشجاعة.

قال الدكتور ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود» في صدد ما ردوا به على رسول الله: «إنهم أجابوه بكل جرأة وتبجح - ص 129» وقال: «يظهر من هذا الرد أن بني قينقاع كانوا يعتمدون على معاضدة حلفائهم من الخزرج في نزاعهم مع الرسول قبل كل شيء، إذ لا يتصور أن بطنا كبطن بني قينقاع يجرؤ على إعلان الحرب ضد أغلب بطون يثرب، ولكن بني الخزرج خذلوهم ولم يتحركوا لنجدتهم رغم أنهم من مواليهم ص 129 - 130».

وقد كان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر وأُحد.

قال ابن هشام: وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال:

كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

ولم يرو هذه الحادثة ابن إسحاق وكذا لم يذكرها الطبري في «تاريخه» ولا ابن سعد في «طبقاته»، وليس في هذه القصة ذكر لاسم المرأة ولا اسم الصائغ الذي قتل ولا اسم المسلم القاتل له، ولذلك نشك في صحة هذه القصة لا لأن ابن إسحاق لم يروها، بل لأن روايتها بهذه الصفة تحملنا على الشك إذ ليس فيها ما يساعدنا على البحث والتحقيق، لذلك لا نعتمد عليها.

وقد حاصرهم رسول الله خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد حتى نزلوا على حكمه فكتفوا وهو يريد قتلهم ويبلغ عددهم 400، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم - وكانوا حلفاءه وحلفاء عبادة بن الصامت - فقال: يا محمد أحسن في موالي فأبطأ عليه النبي فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه النبي فأدخل يده في جيب درع رسول الله فقال رسول الله «أرسلني» وغضب حتى رأوا في وجهه ظلالا ثم قال: «ويحك أرسلني»، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأسود والأحمر تحصدهم في غداة واحدة وإني والله لا آمن وأخشى الدوائر، فقال رسول الله «هم لك لا بارك الله لك فيهم»، وعن عمر بن قتادة أنه قال: «خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم فأرسلوهم»، ثم أمر بإجلائهم وغنّم الله عز وجل رسوله والمسلمين ما كان لهم من مالٍ ولم تكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة فأخذ رسول الله منهم سلاحا كثيرا وآلة صياغتهم، وكان الذي ولي إخراجهم من المدينة بذراريهم، عبادة بن الصامت فمضى بهم حتى بلغ ذباب وهو يقول الشرف الأبعد الأقصى فالأقصى، وكان رسول الله استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر.

وقد استغرق خروجهم ثلاثة أيام وذهبوا إلى أذرعات لم يدر الحول عليهم حتى هلكوا بدعوته في قوله لابن أبي: «لا بارك الله لك فيهم»، وكان عددهم 400 حاسر و 300 دارع، فسألوا رسول الله أن يخلي سبيلهم وأن يجلوا من المدينة وأن لهم النساء والذرية ويجعلوا بقية الأموال للنبيّ ومنها الحلقة التي هي السلاح، ولم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع فصالحهم على ذلك فنزلوا فخُمّست أموالهم، جعل منها أربعة أخماس للمؤمنين المجاهدين وخمسا له فكان أول خمس قبضه رسول الله، وقد وجد في منازلهم سلاح كثير فأخذ رسول الله من سلاحهم ثلاث قسي قوسا تدعى - الكتوم - لا يسمع لها صوت إذ رمى بها كسرت بأحد، وقوسا تدعى - الروحاء - وقوسا تدعى - البيضاء - وأخذ درعين، درعا يقال لها - السغدية - يقال إنها درع داود التي لبسها حين قتل جالوت والأخرى يُقال لها - فضة - وثلاثة أرماح وثلاثة أسياف، ووهب درعا لمحمد بن مسلمة ودرعا لسعد بن معاذ وكان لواء رسول الله يوم بني قينقاع لواء أبيض مع حمزة بن عبد المطلب.

غزوة السويق

غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة - إبريل 624 م - وولي تلك الحجة المشركون من تلك السنة، وكان أبو سفيان حين رجع إلى مكة نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة أي لا يأتي النساء حتى يغزو محمدا فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير ليلا، فأتى حُييّ بن أخطب وهو من رؤساء بني النضير، وهو أبو صفية أم المؤمنين، فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه فانصرف عنه إلى سلام بن مِشكم وكان سيد بني النضير في زمانه وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه خمرا وبطن له من خير الناس ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها يقال لها العريض فخرقوا أصوارا من نخل بها ووجدوا بها معبد بن عمرو الأنصاري وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين ونذر بهم الناس.

فخرج رسول الله في طلبهم في 200 من المهاجرين والأنصار واستعمل على المدينة بشير ابن عبد المنذر - وهو أبو لبابة - حتى بلغ قرقرة الكُدر، ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه وقد رأوا أزوادا من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخففون منها للنجاة، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله يا رسول الله أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: «نعم».

وإنما سُميت «غزوة السَّويق» لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم «السويق» فرجع المسلمون بسويق كثير فسُميت - غزوة السويق -.

والظاهر أن أبا سفيان أراد بهذه الغزوة أن يبر بيمينه فقط، لأنه لا يُتصور أنه كان يريد بهذه القوة الصغيرة - 200 راكب - الانتصار على المسلمين في هذه الغزوة بعد أن شاهد قوتهم في غزوة بدر، لذلك كانت هذه مناوشة لا قيمة لها.

غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان

لما رجع رسول الله من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها ثم غزا نجدا يريد غَطَفان وهي غزوة ذي أمَر لأن جمعا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر يريدون الإغارة، جمعهم دُعْثُور بن الحارث المحاربي، فخرج رسول الله في 450 رجلا واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فلما سمعوا بمجيئه هربوا في رؤوس الجبال فرجع رسول الله ولم يلق كيدا وأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك، وأصاب المسلمون رجلا منهم يقال له جبار الثعلبي فدعاه رسول الله إلى الإسلام فأسلم وضمه إلى بلال ليعلمه الشريعة الإسلامية كما هو دأبه من العناية بتعليم المسلمين وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بمعجزة من النبي مع أنه هو الذي جمع قومه لمحاربته وكان سيدا شجاعا وبعد أن أسلم ذهب إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فاهتدى به خلق كثير.

زواج أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

أم كلثوم، ابنة رسول الله من خديجة رضي الله عنها وهي أصغر سنا من رقية لأن رسول الله زوّج رقية من عثمان فلما توفيت زوَّجه أم كلثوم وما كان ليزوَّج الصغرى ويترك الكبرى، وكان رسول الله زوَّج رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني أبي لهب فلما أنزل الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1)، قال أبو لهب لابنيه: رأسي من رؤوسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد، وقالت أم جميل أمهما: «حمالة الحطب» بنت حرب بن أمية لابنيها: إن رقية وأم كلثوم قد صبأتا، فطلقاهما ففعلا فطلقاهما قبل الدخول بها، فزوّج النبي رقية من عثمان، فلما توفيت زوَّجه أم كلثوم رضي الله عنهم، وكان نكاحه إياها في ربيع الأول من سنة ثلاث وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة ولم تلد منه ولدا وتوفيت سنة أربع وصلى عليها رسول الله.

زواج حفصة

في شعبان من هذه السنة تزوّج رسول الله بحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعد أن انقضت عدتها من زوجها خُنَيْس بن حذاقة، قال عمر رضي الله عنه: ولدت حفصة وقريش تبني البيت قبل مبعث النبي بخمس سنين.

وقد كان عمر رضي الله عنه عرض حفصة ابنته على أبي بكر فلم يجبه بشيء، وعرضها على عثمان فلم يجبه بشيء فقال عمر: يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني، فقال رسول الله «إن الله قد زوّج عثمان خيرا من ابنتك وزوَّج ابنتك خيرا من عثمان»، فتزوج عثمان أم كلثوم وتزوج رسول الله حفصة وكان عمرها 20 عاما.

وتزوج رسول الله حفصة سنة 3 بعد عائشة وطلقها تطليقة فبلغ ذلك عمر فحثا التراب على رأسه وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته ثم ارتجعها رسول الله، وتوفيت سنة 41 هـ في زمن معاوية.

سرية زيد بن حارثة

سرية زيد بن حارثة إلى القَرْد - ماء من مياه نجد - وسببها أن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكونها إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى وكلهم أسلموا عام الفتح ومعهم فضة كثيرة، فبعث رسول الله زيد بن حارثة رضي الله عنه في 100 راكب فلقيهم على ذلك الماء فأصاب العير وما فيها وهرب الرجال، فقدم بالعير على رسول الله فخمسها فبلغت قيمة الخمس، عشرين ألف درهم، وكانت هذه السرية في جمادى الآخرة من السنة الثالثة من الهجرة - سبتمبر سنة 624 م -.

قتل كعب بن الأشرف

كعب بن الأشرف اليهودي كان أبوه عربيا من بني نبهان، أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، شاعرا مجيدا، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله فكان يعطي أحبار يهود ويصلهم، وكان يهجو رسول الله في أشعاره ويحرض كفار قريش على قتاله، وكان من عداوته أنه لما أصيب أصحاب بدر، قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية، بشيرين بعثهما رسول الله إلى من بالمدينة من المسلمين يخبرانهم بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل وأسر من أسر من المشركين، كبر عليه ذلك وقال: أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمّي هذان الرجلان - البشيران - وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن الخبر ورأى الأسرى خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرِّض بأشعاره على قتال النبي وكان ينتقل من قوم إلى قوم وأخباره تصل إلى النبي فيذكره لحسان فيهجوه، وقال رسول الله «اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت»، ثم رجع إلى المدينة فتغزل في نساء المسلمين وذكرهن بسوء وأبى أن ينزع عن أداه، وكان يرمي إلى إحداث ثورة في المدينة ضد رسول الله فغضب رسول الله وقال: «من لي بابن الأشرف»، فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله هو خالي، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك»، فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري أأفينَّ لك به أم لا؟ قال: «إنما عليك الجهد».

ثم أتى أبا نائلة، وكان أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة وكان شاعرا وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأخبرهم بما وعد به رسول الله من قتل ابن الأشرف، فأجابوه وقالوا كلنا نقتله، ثم أتوا رسول الله وقالوا: يا رسول الله لا بد لنا أن نقال، قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حِلّ من ذلك، ومعنى ذلك أنهم استأذنوه أن يقولوا قولا غير مطابق للواقع يسر كعبا ليتوصلوا به إلى قتله وكان لا بد لهم من التماس الحيلة لأنه كان يقيم في حصن منيع خارج المدينة، فأباح لهم الكذب لأنه من خِدع الحرب، فجاء محمد بن مسلمة، كعب بن الأشرف فقال: إن هذا الرجل - يعني النبي ـ قد سألنا صدقة ونحن ما نجد ما نأكل قد عَنَّانا وإني قد أتيتك أستسلفك، قال كعب: وأيضا والله لَتَمَلُّنَّه، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين، قال: ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ ثم أجابهم بأنه يسلفهم، وقال: ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: وكيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن وسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ولكن نرهنك الّلأمة يعني السلاح مع علمك بحاجتنا إليه، قال: نعم، وإنما قالوا لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسلاح فواعده أن يأتيه وجاءه أيضا أبو نائلة وقال له: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني، فقال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك وإن معي أصحابا على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، فقال: إن في الحلقة لوفاء، وكان أبو نائلة أخا لكعب من الرضاعة ومحمد بن مسلمة ابن أخيه من الرضاعة، فجاءه محمد بن مسلمة وأبو نائلة ومعهما عباد بن بشر والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر وكلهم من الأوس، ولما فارقوا النبي مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم، ثم رجع إلى بيته وكان ذلك بالليل وكانت الليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه وكان حديث عهد بعرس فناداه أبو نائلة ثم بقية أصحابه فعرفهم ووثب في ملحفته فأخذته امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ مُحارب وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال لها: إنه لأب نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تمشي إلى شعب العجوز نتحدث به بقية ليلتنا؟ فقال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة أدخل يده في باطن رأسه ثم شم يده وقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها وأمسكه من شعره وقال: اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فوقع على الأرض فجزوا رأسه فحملوه في مخلاة كانت معهم إلى رسول الله، وكان ذلك في السنة الثالثة من الهجرة شهر ربيع الأول (يوليه سنة 624م).

هذه الحادثة قد أوقعت الرعب في نفوس اليهود جميعا، فقد قال رسول الله «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه»، فلم يخرج من عظمائهم أحد من شدة خوفهم.

قتل ابن سنينة

ولما سمع مُحيّصة بن مسعود ذلك من رسول الله وثب على ابن سُنَينَة اليهودي وهو من تجار يهود فقتله، فقال له أخوه حُوَيّصة وهو مشرك: يا عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله وضربه، فقال محيّصة: لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك، قال: فوالله لئن كان لأول إسلام حويصة فقال: إن دينا قد بلغ بك ما أرى لعجب، ثم أسلم.

هذه قصة مقتل كعب بن الأشرف ذكرنا ملخصها من أوثق المصادر التاريخية، وقد استنكر بعض الإفرنج الذين كتبوا سيرة الرسول اغتيال كعب بأمر رسول الله لكن كعبا هو الذي أساء إلى نفسه إذ قد ساقه الغرور إلى ارتكاب متن الشطط بعداء النبي معتمدا على ثروته وجاهه وشعره، فإنه بعد أن عاهد النبيَّ مع من معاهده من اليهود نقض العهد ونشط يهجو رسول الله والمسلمين بأشعاره، ورحل إلى مكة يبث الدعوة للقتال فإذا ما عاد إلى المدينة تغزل بنساء المسلمين ولا ريب أن ذلك كله يوغر الصدور والعرب لا يغفرون لمن يرمي نساءهم بسوء، ومن هذا نرى أنه كان عرضة للقتل بيد كل من يغار على حريمه ودينه من المسلمين.

ذكرنا مقتل كعب بن الأشرف قبل موقعه أُحُد لأن سرية محمد بن مسلمة كانت في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة، وغزوة أُحُد في شوال من هذه السنة، ذلك أن كعبا لما جاء البشيران اللذان أرسلهما رسول الله ليزفا إلى المسلمين خبر انتصارهم في بدر وقتل من قُتل وأسر من أُسر من أشراف قريش لم يصدقهما، فلما سأَل الناس وتثبت من صحة الخبر رحل إلى مكة وأخذ يحرض قريشا على قتال المسلمين بأَشعاره طارقا أبوابهم ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين فأَمر رسول الله بقتله فقُتل وقد حدث ذلك بعد وقعة بدر وقبل أُحُد إذ الذي دفعه إلى الرحيل إلى مكة وإظهار عدائه شدة تغيّظه من انهزام المشركين وانتصار المسلمين ذلك الانتصار المبين، وقد ذكر ابن هشام وابن الأثير وابن سعد في «طبقاته» وفي كتاب «السير» للإمام أبي العباس مقتل كعب قبل أُحُد وكذلك أورده الطبري قبل أُحُد مع حوادث السنة الثالثة للهجرة وقد نقل عن الواقدي أن النبي وجّه من وجه إليه - أي كعب - في شهر ربيع الأول من هذه السنة - الثالثة - وأرخ مستر موير هذه الحادثة يوليه سنة 624 - السنة الثالثة من الهجرة -.

ومن الغريب أن الأستاذ ولفنسون يغمض عينيه عن هذه المراجع المهمة في رسالته (تاريخ اليهود) ويتشبث برأي اليعقوبي ويعتبره صحيحا لأن اليعقوبي يقول إن النبي أمر بقتل كعب بن الأشرف بعد يوم أُحُد أي في ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، لكن ما الذي ألجأ الأستاذ إلى ذلك؟ إن الذي ألجأه إلى ذلك نفي التهمة عن كعب بن الأشرف وهي تحريضه قريشا على قتال المسلمين وتشبيه بنسائهم فاضطر إلى تكذيب رواية ابن هشام وغيره من كبار المؤرخين.

فلماذا قُتل كعب إذن؟.

قال الأستاذ: إنه قتل في السنة الرابعة قبيل محاصرة النبي لبني النضير وكان قتله بمثابة إعلان حرب عليهم فإنه كان زعيما من زعمائهم.

وبذلك نفى الأستاذ ولفنسون التهمة عن كعب وجوز على النبي قتل زعيم من زعماء بني النضير لا لشيء غير إعلان الحرب عليهم.

غزوة أحد يوم السبت 15 شوال سنة 3 هـ

يناير سنة 625 م

أُحُد جبل مشهور بالمدينة في شماليها الغربي بينه وبين المدينة ثلاثة أميال، سُمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك وهو الموضع الذي دُفن فيه هارون أخو موسى عليهما السلام.

وسببها أن قريشا لما أصابهم يوم بدر ما أصابهم مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، ومشى رجال آخرون من أشراف قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فكلموا أبا سفيان وكل من له تجارة في تلك العير التي كانت سببا في وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة بدار الندوة ولم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا ونحن طيبو النفس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشنا إلى محمد.

فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت 50.000 دينار وأخرجوا أرباحها وكان الربح دينارا لكل دينار، وتجهزت قريش ومن والاهم من قبائل كنانة وتهامة، وقال صفوان بن أمية لأبي عزة الجمحي: يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك ولك عليَّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ وأطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: بلى فأعنا بلسانك.

خرج أبو عزة ومسافع يستفزان الناس بأشعارهما، ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقذف بالحربة قلما يخطىء بها، فقال له: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة بن عبد المطلب بعمّي طعيمة بن عدي فأنت حر، لأن حمزة هو الذي قتل طعيمة يوم بدر، وقيل: إن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإنى لا أرى في القوم كفئا له غيرهم، فأنت عتيق.

وكان أبو سفيان بن حرب قائدهم وكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس، وجملة النساء 17 امرأة معهن الدفوف والمعازف أي آلات الملاهي والخمور والبغايا وخرجت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان التي قُتل أبوها في غزوة بدر لتنتقم لأبيها وقالت:

نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق ** أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وخرجت أم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة وريطة بنت منبه السهمية مع زوجها عمرو بن العاص وغيرهن يبكين قتلى بدر - إذ البكاء دأب النساء - وينحن عليهم ويحرضن على القتال وعدم الهزيمة والفرار.

وكان خروجهم من مكة لخمس مضين من شوال، وكتب العباس للنبي وأخبره بجمعهم وخروجهم وأرادوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال، فجاء كتابه للنبي وهو بقباء وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار، استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لأُبيّ بن كعب فقرأه عليه.

وهذا مما يؤيد أن النبي كان أميا بمعنى أنه ما كان يعرف القراءة والكتابة وإلا لكان قرأ الكتاب بنفسه وكتم سره بدلا من أن يطلب من أُبيّ بن كعب تلاوته ثم يستكتمه.

ثم نزل على سعد بن الربيع فأَخبره بكتاب العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، ولما خرج رسول الله من عنده، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله فقال لها: يا أم محمد ما أنت وذاك فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله فاسترجع وأخذ بيدها ولحق النبي وأخبره خبرها، وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له، وقد استكتمني إياه، فقال له رسول الله «خل عنها».

سارت قريش وهم 3000 رجل ومعهم الأحابيش الذين حالفوا قريشا وهم بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة وخرج معهم أبو عامر الراهب في 70 فارسا.، وسماه رسول الله الفاسق بدلا عن الراهب وابنه حنظلة من فضلاء الصحابة وهو من المستشهدين بأُحُد، اجتمع الأحابيش عند حبيش وهو جبل بأسفل مكة وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة ما سجا ليل ووضح نهار وما رسا حبيش مكانه.

سارت قريش حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أُحُد مقابل المدينة بذي الحليفة، وكان وصولهم يوم الأربعاء ثاني عشر شوال فأقاموا به الأربعاء والخميس والجمعة، وتشاور المسلمون في الخروج من المدينة، وكان رأي عبد الله ابن أُبي بن سلول رأى النبي فإنه كان يرى عدم الخروج منها، ولكن ألحَّ عليه بعضُ الصحابة فخرج فأصبح بالشعب من أُحُد يوم السبت للنصف من شوال.

وقد رأى النبي رؤيا قبل خروجه، وكانت ليلة الجمعة، فلما أصبح قال: «والله إني قد رأيت خيرا رأيت بَقَرا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي - طرفة - ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وكأني مردف كبشا، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يُقتل، وأولت الدرع الحصينة المدينة، وأولت الكبش بأني أقتل صاحب الكتيبة»، وقد صدق الله رؤياه فكان الرجل الذي من أهل بيته «حمزة» سيد الشهداء، وقتل عليّ رضي الله عنه «طلحة بن عثمان العبدري» صاحب لواء المشركين، فهو صاحب الكتيبة وكبش القوم سيدهم وكان الذي بسيفه ما أصاب وجهه الشريف في الغزوة كما سيأتي ذكره.

قال رسول الله لأصحابه: «امكثوا بالمدينة، فإن دخل القوم المدينة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن»، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار وأرسل إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول يستشيره تألفا له ولم يستشره قبل ذلك، فكان رأي عبد الله مع رأيه فقال رجال من المسلمين لم يحضروا بدرا وأسفوا على ما فاتهم من مشهدها: يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم ووافقهم حمزة بن عبد المطلب.

فقال ابن أبيّ: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا ما أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا، أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا، رجعوا خائبين كما جاءوا.

وقال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم: فيكون هذا جرأة منهم علينا، وزاد حمزة فقال: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، وقال النعمان: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها.

فترجح عنده موافقة رأيهم وإن كرهه ابتداء ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولم يكن قد أُوحِيَ إليه في شأن البقاء أو الخروج فأَنفذ مشورتهم.

صلى رسول الله بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم بأن النصر لهم ما صبروا وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ثم صلى بالناس العصر، ثم دخل بيته ومعه صاحباه فعمماه وألبساه وتقلد السيف وخرج وقد لبس لأمته - درعه، وقيل: سلاحه - وألقى الترس في ظهره وأخذ قناته بيده.

اصطف الناس ينتظرون خروجه فقال لهم سعد بن مُعاذ رضي الله عنه وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله على الخروج فردوا الأمر إليه، وكان سعد بن معاذ سيد الأوس وهو في الأنصار كالصدّيق في المهاجرين.

ولما خرج رسول الله متقلدا سيفه، ندم الطالبون لخروجه على ما صنعوا وقالوا ما كان ينبغي لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، وفي رواية: فإن شئت فاقعد، فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه فخرج يوم الجمعة وأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت للنصف من شوال ومشى على رجليه ولما خالف رسول الله رأي ابن أُبيّ بخروجه إلى القتال، شق عليه ذلك، وقال: أطاع الولدان وعصاني.

واستعمل على المدينة «ابن أم مكتوم» رضي الله عنه، وعقد ثلاثة ألوية، لواء للأوس وجعله بيد أسيد بن حضير.، ولواء للخزرج وجعله بيد الحباب بن المنذر.، ولواء المهاجرين وجعله بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وكان في المسلمين مائة دارع - الدارع، لابس الدرع - وركب فرسه وقيل: خرج ماشيا وخرج السعدان أمامه يعدوان - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة - وكانا دارعين، ورد جماعة من المسلمين نحو سبعة عشر لصغر سنهم منهم: أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري والنعمان بن بشير ورافع بن خديج وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل إنه رام، فخرج وأصيب بسهم في ترقوته فنزع السهم وبقي النصل إلى أن مات.

ورأى جماعة من اليهود مع عبد الله بن أبيّ يريدون الخروج فقال: «أوَقد أسلموا؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «مروهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»، وكان المسلمون الخارجون معه 1000 ثم انخذل عبد الله بن أبيّ ورجع هو ومن معه من المنافقين وكانوا 300 فبقي المسلمون 700 وكان عدد المشركين 3000 ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان: فرس لرسول الله وفرس لأبي بردة.

وقال ابن أبيّ حين أراد الرجوع: عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي به، علامَ نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس.

لما انخذل ابن أبيّ ومن معه سقط في أيدي طائفتين من المسلمين وهمّتا أن تفشلا وهما: بنو حارثة من الخزرج وبنو سلمة من الأوس.

ثم مضى رسول الله حتى نزل الشعب من أُحد في عدوة الوادي في الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أُحد وصلى الصبح بأصحابه صفوفا، ثم اصطف المسلمون بالسبخة وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى مسيرتها عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية، وقيل: عمرو بن العاص.

وقال النبي للزبير بن العوام: «استقبل خالدا وكن بإزائه»، وأمر جماعة آخرين أن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين ولم يكن مع المسلمين إلا فرس أو فرسان، وجعل النبي على الرماة عبد الله بن جبير بن النعمان الأوسي وهو أخو خوات بن جبير، وكان الرماة خمسين رجلا، فأقامهم النبي على جبل صغير مرتفع، وقال لهم:

«احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم».

وفي رواية قال لهم رسول الله:

«إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».

ثم عرض رسول الله سيفا وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه»؟ فقام رجل وبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا يا رسول الله، منهم أبو بكر الصديق وعمر وعليّ والزبير، فأمسكه عنهم ولم يعطه لهم حتى قام إليه - أبو دجانة - فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب في وجه العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله، قال: لعلك إن أعطيتكه تقاتل في الكيّول - مؤخر الصفوف -، قال: لا يا رسول الله، فأعطاه إياه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه يتبختر قال: إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن، فحمل أبو دجانة لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله، وكان إذا كلّ السيف شحذه بالحجارة ثم يضرب به العدو.

ولما اصطف القوم نادى أبو سفيان: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم ولعنوه أشد اللعن.

وخرج طلحة بن أبي طلحة وكان بيده لواء المشركين فطلب المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد، فخرج إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه فقطع رجليه فوقع على الأرض وبدت عورته فرجع عنه ولم يجهز عليه، فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة الذي قتله عليّ رضي الله عنه فرماه عاصم أيضا فقتله، ثم حمل اللواء كلاب بن طلحة فقتله الزبير فحمله جلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله عليّ رضي الله عنه ثم حمله أبو زيد بن عمرو فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم وكان عبدا حبشيا فقتله عليٌّ، ثم لم يزل اللواء طريحا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فاستداروا حوله.

قد كان لواء المشركين شؤما عليهم، فكلما حمله أحد قُتل وهكذا قُتل أحد عشر رجلا حملوا اللواء بالتوالي وكان اهتمام المسلمين موجها إلى حامل العلم بنوع خاص لأنه كبش الكتيبة، ونكب بحمل العلم كل من مسافع والحارث وكلاب وجلاس وهؤلاء الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة فكلهم قُتلوا كأبيهم وعمهم وهما عثمان وأبو سعيد.

ولما قُتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة فجاش المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم وأزالوهم عن أمكنتهم وكان شعار المسلمين يومئذ: - أمت أمت - وشعار الكفار: - يا للعزى يا لهبل -.

الكرة على المسلمين

انهزم المشركون ووقع المسلمون ينتهبون المعسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم واشتغلوا عن الحرب، فقال أصحاب عبد الله بن جبير وهم الرماة الذين أمرهم النبي بالبقاء بمكانهم «الغنيمة» أي قوم قد غلب أصحابكم، فما تنتظرون؟ ومعنى ذلك: أن الرماة طمعوا في الغنيمة ناسين أمر القائد العام وهو رسول الله فإنه أمرهم بالثبات في مراكزهم إذ قال لهم: إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله يعني قوله: لا تبرحوا، فأبوا أن يطيعوه، وقالوا: والله لنأتين الناس ولنصيبن من الغنيمة فإن المشركين قد انهزموا فما مقامنا ها هنا؟ وقد ظن هؤلاء أن الحرب قد انتهت وأن قريشا قد هُزمت وقد ثبت عبد الله بن جبير في مكانه وثبت معه دون العشرة.

فلما توجه الرماة إلى محل الغنيمة، كرّ المشركون راجعين، ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله التف بالخيل من وراء الجبل وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوه