رفع الملام عن الأئمة الأعلام/1

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

رفع الملام عن الأئمة الأعلام

لشيخ الإسلام ابن تيمية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على آلائه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه وسلم تسليما . وبعد : فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم ؛ فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا . وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله في شيء من سنته ؛ دقيق ولا جليل ؛ فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه . وجميع الأعذار ثلاثة أصناف : أحدها : عدم اعتقاده أن النبي قاله . والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول . والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ . وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة .

السبب الأول : ألا يكون الحديث قد بلغه . ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر ؛ أو بموجب قياس ؛ أو موجب استصحاب : فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى . وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث ؛ فإن الإحاطة بحديث رسول الله لم تكن لأحد من الأمة . وقد كان النبي يحدث ؛ أو يفتي ؛ أو يقضي ؛ أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا ويبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلغونه فينتهي علم ذلك إلى من يشاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ثم في مجلس آخر قد يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل شيئا ويشهده بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته . وأما إحاطة واحد بجميع حديث رسول الله فهذا لا يمكن ادعاؤه قط واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله وسنته وأحواله خصوصا الصديق رضي الله عنه الذي لم يكن يفارقه حضرا ولا سفرا بل كان يكون معه في غالب الأوقات حتى إنه يسمر عنده بالليل في أمور المسلمين . وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه كثيرا ما يقول : دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ثم مع ذلك { لما سئل أبو بكر - رضي الله عنه - عن ميراث الجدة قال : ما لك في كتاب الله من شيء وما علمت لك في سنة رسول الله من شيء ولكن اسأل الناس فسألهم فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي أعطاها السدس } وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين أيضا وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر وغيره من الخلفاء ثم قد اختصوا بعلم هذه السنة التي قد اتفقت الأمة على العمل بها . وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى واستشهد بالأنصار وعمر أعلم ممن حدثه بهذه السنة . ولم يكن عمر أيضا يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى أن الدية للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان - وهو أمير لرسول الله على بعض البوادي - يخبره { أن رسول الله ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها } فترك رأيه لذلك وقال : لو لم نسمع بهذا لقضينا بخلافه . ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - { أن رسول الله قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب } . ولما قدم سرغ وبلغه أن الطاعون بالشام استشار المهاجرين الأولين الذين معه ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح فأشار كل عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسنة حتى قدم عبد الرحمن بن عوف { فأخبره بسنة رسول الله في الطاعون وأنه قال إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه } . وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي يشك في صلاته فلم يكن قد بلغته السنة في ذلك حتى { قال عبد الرحمن بن عوف عن النبي إنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن } . وكان مرة في السفر فهاجت ريح فجعل يقول : من يحدثنا عن الريح ؟ قال أبو هريرة : فبلغني وأنا في أخريات الناس فحثثت راحلتي حتى أدركته فحدثته بما أمر به النبي عند هبوب الريح . فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه إياها من ليس مثله ومواضع أخر لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى فيها أو أفتى فيها بغير ذلك مثل ما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبي موسى وابن عباس - وهما دونه بكثير في العلم - علم بأن { النبي قال : هذه وهذه سواء يعني : الإبهام والخنصر } فبلغت هذه السنة لمعاوية رضي الله عنه في إمارته فقضى بها ولم يجد المسلمون بدا من اتباع ذلك ولم يكن عيبا في عمر - رضي الله عنه - حيث لم يبلغه الحديث . وكذلك كان ينهي المحرم عن التطيب قبل الإحرام ؛ وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة هو وابنه عبد الله رضي الله عنهما وغيرهما من أهل الفضل ولم يبلغهم { حديث عائشة رضي الله عنها طيبت رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف } . وكان يأمر لابس الخف أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت واتبعه على ذلك طائفة من السلف ولم تبلغهم أحاديث التوقيت التي صحت عند بعض من ليس مثلهم في العلم وقد روي ذلك عن النبي من وجوه متعددة صحيحة . وكذلك عثمان رضي الله عنه لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت الموت حتى حدثته { الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري بقضيتها لما توفي زوجها وأن النبي قال لها : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله } فأخذ به عثمان . وأهدي له مرة صيد كان قد صيد لأجله فهم بأكله حتى أخبره علي رضي الله عنه أن النبي رد لحما أهدي له . وكذلك علي رضي الله عنه قال ؛ كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر وذكر حديث صلاة التوبة المشهور . وأفتى هو وابن عباس وغيرهما بأن المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد بأبعد الأجلين ولم يكن قد بلغتهم { سنة رسول الله في سبيعة الأسلمية حيث أفتاها النبي بأن عدتها وضع حملها } . وأفتى هو وزيد وابن عمر وغيرهم بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله في بروع بنت واشق . وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله عددا كثيرا جدا . وأما المنقول منه عن غيرهم فلا يمكن الإحاطة به ؛ فإنه ألوف فهؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها فمن بعدهم أنقص ؛ فخفاء بعض السنة عليه أولى فلا يحتاج إلى بيان . فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا فهو مخطئ خطأ فاحشا قبيحا . ولا يقولن قائل : الأحاديث قد دونت وجمعت ؛ فخفاؤها والحال هذه بعيد . لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين ومع هذا فلا يجوز أن يدعي انحصار حديث رسول الله في دواوين معينة ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم ولا يكاد ذلك يحصل لأحد . بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير ؛ لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول ؛ أو بإسناد منقطع ؛ أو لا يبلغنا بالكلية فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية . ولا يقولن قائل : من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا . لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي وفعله فيما يتعلق بالأحكام : فليس في الأمة مجتهد وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل ثم إنه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي يبلغه .

السبب الثاني : أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده أو متهم أو سيئ الحفظ . وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا ؛ أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث قد رواه الثقات لغيره بإسناد متصل بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقة أو يكون قد رواه غير أولئك المجروحين عنده ؛ أو قد اتصل من غير الجهة المنقطعة وقد ضبط ألفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ ؛ أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبين صحتها . وهذا أيضا كثير جدا . وهو في التابعين وتابعيهم إلى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العصر الأول أو كثير من القسم الأول فإن الأحاديث كانت قد انتشرت واشتهرت لكن كانت تبلغ كثيرا من العلماء من طرق ضعيفة وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق فتكون حجة من هذا الوجه مع أنها لم تبلغ من خالفها من هذا الوجه ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته فيقول : قولي في هذه المسألة كذا وقد روي فيها حديث بكذا ؛ فإن كان صحيحا فهو قولي .

السبب الثالث : اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول : كل مجتهد مصيب ؛ ولذلك أسباب : منها : أن يكون المحدث بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفا ؛ ويعتقده الآخر ثقة . ومعرفة الرجال علم واسع ؛ ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه ؛ لاطلاعه على سبب جارح وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح ؛ إما لأن جنسه غير جارح ؛ أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح . وهذا باب واسع وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم . ومنها : ألا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب توجب ذلك معروفة . ومنها : أن يكون للمحدث حالان : حال استقامة وحال اضطراب مثل أن يختلط أو تحترق كتبه فما حدث به في حال الاستقامة صحيح وما حدث به في حال الاضطراب ضعيف فلا يدري ذلك الحديث من أي النوعين ؟ وقد علم غيره أنه مما حدث به في حال الاستقامة . ومنها : أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد أو أنكر أن يكون حدثه معتقدا أن هذا علة توجب ترك الحديث . ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به . والمسألة معروفة . ومنها : أن كثيرا من الحجازيين يرون ألا يحتج بحديث عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال قائلهم : نزلوا أحاديث أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقيل لآخر : سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة ؟ قال : إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا وهذا لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء وأن أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها . وبعض العراقيين يرى ألا يحتج بحديث الشاميين وإن كان أكثر الناس على ترك التضعيف بهذا فمتى كان الإسناد جيدا كان الحديث حجة سواء كان الحديث حجازيا أو عراقيا أو شاميا أو غير ذلك . وقد صنف أبو داود السجستاني كتابا في مفاريد أهل الأمصار من السنن يبين ما اختص به أهل كل مصر من الأمصار من السنن التي لا توجد مسندة عند غيرهم مثل المدينة ؛ ومكة ؛ والطائف ؛ ودمشق وحمص والكوفة والبصرة وغيرها . إلى أسباب أخر غير هذه .

السبب الرابع : اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطا يخالفه فيها غيره مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيها إذا خالف قياس الأصول واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك مما هو معروف في مواضعه .

السبب الخامس : أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه وهذا يرد في الكتاب والسنة مثل الحديث المشهور { عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد الماء ؟ فقال : لا يصل حتى يجد الماء فقال له عمار : يا أمير المؤمنين أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة وأما أنت فلم تصل فذكرت ذلك للنبي فقال : إنما يكفيك هكذا وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه ؟ } فقال له عمر : اتق الله يا عمار فقال : إن شئت لم أحدث به . فقال : بل نوليك من ذلك ما توليت . فهذه سنة شهدها عمر ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر وهو لم يكذب عمارا بل أمره أن يحدث به . وأبلغ من هذا أنه خطب الناس فقال : لا يزيد رجل على صداق أزواج النبي وبناته إلا رددته . فقالت امرأة : يا أمير المؤمنين لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه ؟ ثم قرأت : { وآتيتم إحداهن قنطارا } فرجع عمر إلى قولها وقد كان حافظا للآية ولكن نسيها . وكذلك ما روي أن عليا ذكر الزبير يوم الجمل شيئا عهده إليهما رسول الله فذكره حتى انصرف عن القتال . وهذا كثير في السلف والخلف .

السبب السادس : عدم معرفته بدلالة الحديث تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريبا عنده مثل لفظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة والمنابذة والغرر ؛ إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها وكالحديث المرفوع : { لا طلاق ولا عتاق في إغلاق } فإنهم قد فسروا الإغلاق بالإكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير . وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي وهو يحمله على ما يفهمه في لغته بناء على أن الأصل بقاء اللغة كما سمع بعضهم آثارا في الرخصة في النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر ؛ لأنه لغتهم وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد ؛ فإنه جاء مفسرا في أحاديث كثيرة صحيحة . وسمعوا لفظ الخمر في الكتاب والسنة فاعتقدوه عصير العنب المشتد خاصة بناء على أنه كذلك في اللغة وإن كان قد جاء من الأحاديث أحاديث صحيحة تبين أن الخمر اسم لكل شراب مسكر . وتارة لكون اللفظ مشتركا أو مجملا ؛ أو مترددا بين حقيقة ومجاز ؛ فيحمله على الأقرب عنده وإن كان المراد هو الآخر كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل وكما حمل آخرون قوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } على اليد إلى الإبط . وتارة لكون الدلالة من النص خفية ؛ فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدا يتفاوت الناس في إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلا في ذلك العام ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك . وهذا باب واسع جدا لا يحيط به إلا الله وقد يغلط الرجل فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التي بعث الرسول بها .

السبب السابع : اعتقاده أن لا دلالة في الحديث . والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة سواء كانت في نفس الأمر صوابا أو خطأ مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة وأن المفهوم ليس بحجة وأن العموم الوارد على سبب مقصور على سببه أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب ؛ أو لا يقتضي الفور أو أن المعرف باللام لا عموم له أو أن الأفعال المنفية لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها أو أن المقتضي لا عموم له ؛ فلا يدعي العموم في المضمرات والمعاني إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه فإن شطر أصول الفقه تدخل مسائل الخلاف منه في هذا القسم وإن كانت الأصول المجردة لم تحط بجميع الدلالات المختلف فيها وتدخل فيه أفراد أجناس الدلالات : هل هي من ذلك الجنس أم لا ؟ مثل أن يعتقد أن هذا اللفظ المعين مجمل بأن يكون مشتركا لا دلالة تعين أحد معنييه أو غير ذلك .

السبب الثامن : اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز إلى أنواع المعارضات . وهو باب واسع أيضا ؛ فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم .

السبب التاسع : اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه ؛ أو نسخه ؛ أو تأويله إن كان قابلا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية أو حديث آخر أو مثل إجماع وهذا نوعان : أحدهما : أن يعتقد أن هذا المعارض راجح في الجملة فيتعين أحد الثلاثة من غير تعيين واحد منها . وتارة يعين أحدها بأن يعتقد أنه منسوخ ؛ أو أنه مؤول . ثم قد يغلط في النسخ فيعتقد المتأخر متقدما وقد يغلط في التأويل بأن يحمل الحديث على ما لا يحتمله لفظه أو هناك ما يدفعه وإذا عارضه من حيث الجملة فقد لا يكون ذلك المعارض دالا وقد لا يكون الحديث المعارض في قوة الأول إسنادا أو متنا وتجيء هنا الأسباب المتقدمة وغيرها في الحديث الأول والإجماع المدعي في الغالب إنما هو عدم العلم بالمخالف . وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضي خلاف ذلك لكن لا يمكن العالم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا ؛ مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه حتى إن منهم من يعلق القول فيقول : إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما يتبع وإلا فالقول عندي كذا وكذا وذلك مثل من يقول : لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد . وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم ويقول : أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث وتوريثه محفوظ عن علي وابن مسعود وفيه حديث حسن عن النبي . ويقول آخر : لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي في الصلاة وإيجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر ؛ وذلك أن غاية كثير من العلماء أن يعلم قول أهل العلم الذين أدركهم في بلاده وأقوال جماعات غيرهم كما تجد كثيرا من المتقدمين لا يعلم إلا قول المدنيين والكوفيين وكثير من المتأخرين لا يعلم إلا قول اثنين أو ثلاثة من الأئمة المتبوعين وما خرج عن ذلك فإنه عنده يخالف الإجماع ؛ لأنه لا يعلم به قائلا وما زال يقرع سمعه خلافه فهذا لا يمكنه أن يصير إلى حديث يخالف هذا ؛ لخوفه أن يكون هذا خلافا للإجماع أو لاعتقاده أنه مخالف للإجماع والإجماع أعظم الحجج . وهذا عذر كثير من الناس في كثير مما يتركونه وبعضهم معذور فيه حقيقة ؛ وبعضهم معذور فيه وليس في الحقيقة بمعذور وكذلك كثير من الأسباب قبله وبعده .