رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري وكتابه الإبانة عن أصول الديانة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري وكتابه الإبانة عن أصول الديانة
  ► ◄  


بسم الله الرحمن الرحيم

قال أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن عيسى بن درباس الكردي (572 - 622 هـ):

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وخصّ نبينا وآله منه بالنصيب الأوفى.

أما بعد. فاعملوا معشر الإخوان وفقنا الله وإياكم للدين القويم وهدانا أجمعين الصراط المستقيم أن كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه من الاعتزال بمنَّ الله ولطفه، وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها وتبرأ إلى الله سبحانه منها، كيف وقد نص فيه على أنه ديانته التي يدين الله سبحانه بها، وروى وأثبت ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، وأنه ما دلّ عليه كتاب الله وسنّة رسوله فهل يسوغ أن يقال: إنه رجع عنه إلى غيره؟ فإلى ماذا رجع؟ إلى كتاب الله وسنّة نبي الله وخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون، وقد علم أنه مذهبهم ورواه عنهم، هذا الذي -لعمري- لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين كيف بأئمة الدين؟ أو هل يقال: إنه جهل الأمر فيما نقله عن السلف الماضين مع إفنائه جل عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات؟ وهذا ما لا يتوهمه منصف ولا يزعمه إلا مكابر بسرف ويكفيه معرفته بنفسه أنه على غير شيء.

وقد ذكر الكتاب واعتمد عليه وأثبته عن الإمام أبي الحسن رحمه الله عليه وأثنى عليه بما ذكره فيه وبرأه من كل بدعة نسبت إليه، ونقل منه إلى تصنيفه جماعة من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم.

منهم الإمام الفقيه الحافظ أبو بكر البيهقي صاحب التصانيف المشهورة والفضائل المنثورة، اعتمد عليه في كتاب الاعتقاد له، وحكى عنه في موضع منه، ولم يذكر من تواليفه سواه، فقال في (باب القول في القرآن) ما أخبرنا به الإمام شيخ الإسلام بقية السلف الصالح صدر الدين قاضي القضاة عمي أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس قدس الله روحه بقراءتي عليه، قال: أنبأنا الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن حسن الشافعي المعروف بابن عساكر بقراءتي عليه، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي الصاعدي بقراءتي عليه: أنبأنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي وحكم عن الشافعي رحمه الله ما دلّ على أن ما نتلوه بألسنتنا ونسمعه بآذاننا ونكتبه في مصاحفنا كلام الله.

قال: وبمعناه ذكره أيضًا علي بن إسماعيل – يعني أبا الحسن – الأشعري رحمة الله عليه في كتاب الإبانة. ثم قال: وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل رحمة الله عليه في كتابه: فإن قال قائل: حدثونا أتقولون: إن كلام الله في اللوح المحفوظ؟ قيل له: نقول ذلك، لأن الله قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} فالقرآن في اللوح المحفوظ، وهو في صدور الذين أوتوا العلم. قال الله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهو متلو بالألسنة، قال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} فالقرآن مكتوب في الحقيقة، محفوظ في صدورنا في الحقيقة، متلو بألسنتنا في الحقيقة، مسموع لنا في الحقيقة كما قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله}. هذا آخر ما حكاه البيهقي عن كتاب الإبانة.

وقال البيهقي أيضًا في أول هذا الباب بعد احتجاجه بآيات وغيرها مما هو مذكور في كتاب الإبانة فقال: وقد احتج علي بن إسماعيل بهذه الفصول.

ومنهم الإمام الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي، فإنه قال في بيان مسألة الاستواء من تأليفه ما أخبرنا به الإمام الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت قال: رأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتأويل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري. وما هذا بأول باطل ادَّعوه وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه المرسوم بـ (الإبانة عن أصول الديانة) أدلة من جملة ما ذكرته في إثبات الاستواء. وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل هم يقولون: يا ساكن العرش. ثم قال: ومن حَلِفِهِم جميعًا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سماوات. هذا آخر ما حكاه، وهو في الإبانة كما ذكره.

ومنهم الإمام الأستاذ الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني، فإنه قال ما أنبأني به الشيخ الجليل أبو محمد القاسم ابن الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر الشافعي ببيت المقدس حرسه الله سنة ست وسبعين وخمس مئة، قال: أنبأني أبي، قال: سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشار البوشنجي الخرجردي الفقيه الزاهد، أُراه يحكي عن بعض شيوخه: أن الإمام أبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري قلما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده كتاب (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري، ويظهر الإعجاب به، ويقول: ما الذي ينكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه؟ قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر عقب هذه الحكاية: فهذا قول الإمام أبي عثمان، وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان.

ومنهم إمام القراء أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الفارسي، فإنه قال ما أنبأني به الإمام الحافظ أبو طاهر السلفي، عن أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أبي علي الصيرفي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم، وفاطمة بنت الحافظ سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاريان، قالا: أنبأنا الإمام أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ – وذكر الإمام أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه – فقال: وله كتاب في السنة سماه (كتاب الإبانة) صنفه ببغداد لما دخلها، قال: وله مسألة في الإيمان أنه غير مخلوق.

قلت أنا: وهذه المسألة قد ذكرها الحافظ أبو القاسم بن عساكر وأثبتها عنه، وهي عندنا من رواية الإمام الحافظ أبي طاهر السلفي، ولم يقع لي شيء من تواليف أبي الحسن بالرواية المتصلة إليه سواه.

ومنهم الإمام الفقيه أبو الفتح نصر المقدسي رحمه الله، فإني وجدت (كتاب الإبانة) في كتبه ببيت المقدس حرسه الله، ورأيت في بعض تواليفه في الأصول فصولاً منها بخطه.

ومنهم الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، فإنه قال في كتاب (تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري) ردًا على من زعم أن أبا الحسن لم يكن يدين الله تعالى بما ذكره في (كتاب الإبانة) فقال ما أنبأني به ابنه الشيخ الجليل أبو محمد بن أبي القاسم، قال: أنبأني أبي رحمه الله قال: وما ذكره – يعني ما تقدم في معنى (كتاب الإبانة) – فقول بعيد من قول أهل الديانة، كيف يصنف في العلم كتابًا يخلده، وهو لا يقول بصحة ما فيه ولا يعتقده، بل هم – يعني المحققين من الأشعرية – يعتقدون ما فيها أشد اعتقاد، ويعتمدون عليها أشد اعتماد، فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات، ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات، وما وصفه به نبيه في صحيح الروايات. قال: ولم يزل (كتاب الإبانة) مستصوبًا عند أهل الديانة. ثم حكى ما حكيناه عن الأستاذ أبي عثمان الصابوني.

وقال في موضع آخر من كتابه هذا: فإذا كان أبو الحسن كما ذكرنا عنه من حسن الاعتقاد مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجه الأمانة، ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركًا للخيانة، ليتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة. فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه بـ (الإبانة) فإنه قال: الحمد لله – ثم استمر الحافظ أبو القاسم رحمه الله في إيراد الكلام على نصه وفصه من أوله إلى باب الكلام في إثبات الرؤية لله عز وجل بالإبصار في الآخرة حرفًا حرفًا كما شرط. ثم قال عقيب ذلك: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أصحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام العادل الذي شرحه وبيّنه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأحسنه، وكونوا ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، وبينوا فضل أبي الحسن، واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة في بغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات، تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع إلى أن قال: حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر بن القشيري بوزارة النظام، ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحلال النظام.

ومنهم الفقيه أبو المعالي مجلي صاحب (كتاب الذخائر) في الفقه. فقد أنبأني غير واحد عن الحافظ أبي محمد المبارك بن علي البغدادي ونقلت أنا من خطه في آخر (كتاب الإبانة): نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخة كانت مع الشيخ الفقيه مجلي الشافعي أخرجها إلي في مجلد، فنقلتها وعارضت بها، وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكرناه فيها، ويقول: لله من صنفه، ويناظر على ذلك لمن ينظره، وذكر ذلك لي وشافهني به. وقال: هذا مذهبي وإليه أذهب، فرحمنا الله وإياه. نقلت ذلك في سنة أربعين وخمس مئة بمكة حرسها الله. هذا آخر ما نقلته من خط ابن الطباخ رحمه الله.

ومنهم الحافظ أبو محمد بن علي البغدادي نزيل مكة حرسها الله، فإني شاهدت نسخة لكتاب (الإبانة) بخطه من أوله إلى آخره، وفي آخره بخطه ما تقدّم ذكره آنفًا، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن علي بن المفضل المقدسي، ونسخت منها نسخة وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخة أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس حرسه الله، ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراءً إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس، فأنكرها وجحدها، وقال: ما سمعنا بها قط، ولاهي من تصنيفه، واجتهد آخراً في إعمال روايته ليزيل الشبهة فطنته، فقال بعد التحريك – تحريك لحيته -: لعله ألفها لما كان حشويًا، فما دريت من أي أمريه أعجب؟ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف مع العلماء، أو من جهله لحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها؟ وشبهت لعزة أمره في ذلك بحكاية: أنبأناها الإمام أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الحافظ رحمه الله قال: فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة يكونون بحال السلف الماضي وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين، وهم لا يلوون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم، وهم والله بذلك أجهل وأجهل، كيف لا وقد قنع أحدهم بكتاب ألفه الجهمية بعض من ينتمي إلى أبي الحسن بمجرد دعواه، وهو في الحقيقة مخالفة لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها، قد ذهب صاحب ذلك التأليف إلى المقالة الأولى وكان خلال ذلك أحرى به وأولى، لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحدة.

والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.