رحلة ابن جبير/مكة المكرمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


مكة المكرمة

ودخلنا مكة، حرسها الله، في الساعة الأولى من يوم الخميس الثالث عشر لربيع المذكور، وهو الرابع من شهر أعشت، على باب العمرة، وكان إسراؤنا تلك الليلة المذكورة، والبدر قد ألقى على البسيطة شعاعه، والليل قد كشف عنا قناعه، والأصوات تصك الآذان بالتلبية من كل مكان، والألسنة تضج بالدعاء وتبتهل الله بالثناء، فتارة تشتد بالتلبية، وآونة تتضرع بالأدعية.فيما لها ليلة كانت في الحسن بيضة العقر، فهي عروس ليالي العمر وبكر بنيات الدهر. أن وصلنا، في الساعة المذكورة من اليوم المذكور، حرم الله العظيم ومبوأ الخليل إبراهيم. فألفينا الكعبة الحرام عروساً مجلوة مزفوفة جنة الرضوان ومحفوفة بوفود الرحمن، فطفنا طواف القدوم، ثم صلينا بالمقام الكريم وتعلقنا بأستار الكعبة عند الملتزم، وهو بين الحجر الأسود والباب، وهو موضع استجابة الدعوة. ودخلنا قبة زمزم وشرينا من مائها وهو لما شرب له، كما قال، الله عليه وسلم. ثم سعينا بين الصفا والمروة، ثم حلقنا أحللنا. فالحمد لله الذي كرمنا بالوفادة عليه وجعلنا ممن انتهت الدعوة الإبراهيمية إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وكان نزولنا فيها بدار تعرف بالنسبة الحلال قريباً من الحرم، من باب السدة أحد أبوابه في حجرة كثيرة المرافق المسكنية مشرفة على الحرم وعلى الكعبة المقدسة.

شهر جمادى الأول

استهل هلاله ليلة الاثنين الثاني والعشرين لأغشت، وقد كمل لنا بمكة، شرفها الله تعالى، ثماينة عشر يوماً، فهلال هذا الشهر أسعد هلال اجتلته أبصارنا فيما سلف من أعمارنا. طلع علينا وقد تبوأنا مقعد الجدار الكريم وحرم الله العظيم والقبة التي فيها مقام إبراهيم، مبعث الرسول ومهبط الروح الأمين جبريل بالوحي والتنزيل، فأوزعنا الله شكر هذه المنة وعرفنا قدر ما خصنا به من نعمة، وختم لنا بالقبول، وأجرانا على كريم عوائده من الصنيع الجميل ولطيف التيسير والتسهيل بعزته وقدرته، لا اله سواه.

البيت المكترم له أربعة أركان. وهو قريب من التربيع. واخبرني زعيم الشيبيين الذين إليهم سدانة البيت، وهو محمد بن إسماعيل بن عبد الرحمن من ذرية عثمان بن طلحة بن شيبة بن طلحة بن عبد الدار صاحب رسول الله، الله عليه وسلم، وصاحب حجابة البيت: أن اربتفاعه في الهواء من الصفح الذي يقابل باب الصفا، وهو من الحجر الأسود، الركن اليماني، تسع وعشرون ذراعاً وسائر الجوانب ثمان وعشرون، بسبب انصباب السطح الميزاب.

فأول أركانه الركن الذي فيه الحجر الأسود، ومنه ابتداء الطواف، ويتقهقر الطائف عنه ليمر جميع بدنه به، والبيت المكرم عن يساره، وأول ما يلقى بعده الركن العراقي، وهو ناظر جهة الشمال. ثم الركن الشامي، وهو ناظر جهة الغرب. ثم الركن اليماني، وهو ناظر جهة الجنوب. ثم يعود الركن الأسود، وهو ناظر جهة الشرق. وعند ذلك يتم شوطاً واحداً.

وباب البيت الكريم في الصفح الذي بين الركن العراقي وركن الحجر الأسود، وهو قريب من الحجر بعشرة اشبار محققة. وذلك الموضع الذي بينهما من صفح البيت يسمى الملتزم، وهو موضع استجابة الدعاء والباب الكريم مرتفع عن الأرض بأحد عشر شبراً ونصف. وهو من فضة مذهبة، بديع الصنعة، رائق الصفة، يستوقف الأبصار حسناً وخشوعاً للمهابة التي كساها الله بيته.

وعضادناه كذلك، والعتبة العليا كذلك أيضاَ. وعلى رأسها لوح ذهب خالص ابريز في سعته مقدار شبرين. وللباب نقارنا فضة كبيرتان يتعلق عليهما قفل الباب، وهو ناظر للشرقِ، وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبراً وغلظ الحائط الذي ينطوي عليه الباب خمسة أشبار. وداخل البيت الكريم مفروش بالرخام المجزع، وحيطانه رخام كلها مجزع.

قد قام على ثلاثة أعمدة من الساج مفرطة الطول، وبين كل عمود وعمود أربع خطاً. وهي على طول البيت متوسطة فيه. فأحد الأعمدة، وهو أولها، يقابل نصف الصفح الذي يحف به الركنان اليمانيان. وبينه وبين الصفح مقدارثلاث خطاً. والعمود الثالث، وهو آخرها، يقابل الصفح الذي يحف به الركنان العراقي والشامي.

ودائر البيت كله من نصفه الأعلى مطلي بالفضة المذهبة المستحسنة، يخيل للناظر إليها أنها صفيحة ذهب لغظها. وهي تحف بالجوانب الأربعة وتمسك مقدار نصف الجدار الأعلى.

وسقف البيت مجلل بكساء من الحرير الملون. وظاهر الكعبة كلها من الأربعة الجوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر وسداها قطن وفي أعلاها رسم بالحرير الأحمر، فيه مكتوب: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكةالآية، واسم الإمام الناصر لدين الله في سعته قدر ثلاث أذرع يطيف بها كلها. قد شكل في هذه الستور من الصنعة الغريبة التي تبصرها أشكال محاريب رائقة ورسوم مقروءة مرسومة بذكر الله تع وبالدعاء للناصر العباسي المذكور الآمر باقامتها، وكل ذلك لايخالف لونها، وعدد الستور من الجوانب الأربعة أربعة وثلاثون ستراً. وفي الصفحين الكبيرين منها ثمنانية عشر، وفي الصفحين الصغيرين ستة عشر، وله خمسة مصاوئ، وعليها زجاج عراقي بديع النقش، أحدها في وسط السقف، ومع كل ركن مضوأ، والواحد منها لايظهر لأنه تحت القبو المذكور بعد. وبين الأعمدة أكواس من الفضة عددها ثلاث عشرة واحداها من ذهب.

واول مايلقى الداخل على الباب عن يساره الركن الذي خارجه الحجر الأسود، وفيه صندوقان فيهما مصاحف، وقد علاهما في الركن بويبان من فضة كأنهما طاقان ملصقان بزاوية الركن. وبينهما وبين الأرض ازيد من قامة. وفي الركن الذي يليه وهو اليماني كذلك لكنهما انقلعا وبقي العمود الذي كانا ملصقين عليه. وفي الركن الشامي كذلك وهما باقيان. وفي جهة الركن العراقي كذلك.

وعن يمينه الركن العراقي وفيه باب يسمى بباب الرحمة يصعد منه سطح البيت المكرم. وقد قام له قبو فهو متصل بأعلى سطح البيت داخله الأدراج.

وفي أوله البيت المحتوي على المقام الكريم. فتجد للبيت الكريم بسبب هذا القبو خمسة أركان، وفي سعة صفحيه قامتان، وهو محتو على الركن العراقي بنصفين من كل صفح، وثلثا قناة هذا القبو مكسوان بستر الحرير الملون كأنه قد لف فيه ثم وضع.

وهذا المقام الكريم الذي داخل هذا القبو هو مقام إبراهيم، الله على نبينا وعليه، وهو حجر مغشى بالفضة، وارتفاعه مقدار ثلاثة أشبار، وسعته مقدار شبرين، وأعلاه اوسع من اسفله، فكأنه، وله التنزيه والمثل الأعلى، كانون فخار كبير أو سطه يضيق عن اسفله وعن أعلاه، عايناه وتبركنا بلمسه وتقبيله، وصب لنا في أثر القدمين المباركتين ماء زمزم فشربناه، نفعنا الله به. وأثرهما بين وأثر الأصابع المكرمة المباركة. فسبحان من ألانه لواطئه حتى أثرت فيه ولاتأثير القدم في الرمل الوثير، سبحان جاعله من الآيات البينات.

ولمعاينته ومعاينة البيت الكريم هول يشعر النفوس من الذهول ويطيش الأفئدة والعقول، فلا تبصر إلا لحظات خاشعة وعبرات هامعة ومدامع باكية وألسنة الله، عز وجلن ضارعة داعية.

وبين الباب الكريم والركن العراقي حوض طوله اثناعشر شبراً، وعرضه خمسة اشبار ونصف، وارتفاعه نحو شبر، متصل من قبالة عضادة الباب التي تلي الركن المذكور آخذاً جهته، وهو علامة موضع المقامدة إبراهيم، عليه السلام إن صرفه النبي، ، الموضع الذي هو الآن م. وبقي الحوض المذكور مصباً لماء البيت إذا غسل، وهو موضع مبارك، يقال:انه روضة من رياض الجنة، والناس يزدحمون للصلاة فيه. وأسفله مفروش برملة بيضاء وثيرة.

وموضع المقام الكريم هو الذي ي خلفه، يقابل مابين الباب الكريم والركن العراقي، وهو الباب أميل بكثير، وعليه قبة خشب في مقدار القامة أو ازيد مركنة محددة بديعة النقش، سعتها من ركنها الواحد الثاني أربع أشبار، وقد نصبت على الموضع الذي كان فيه المقام وحوله تكفيف من حجارة نصبت على حرف كالحوض المستطيل في ارتفاعه نحو شبر، وطوله خمس خطاً، وعرضه ثلاث خطاً. وأدخل المقام الموضع الذي وصفناه في البيت الكريم احتياطاً عليه، وبينه وبين صفح البيت الذي يقابله سبع عشرة خطوة، والخطوة كلها فيها ثلاثة أشبار.

ولموضع المقام أيضاَ قبة مصنوعة من حديد موضوعة جانب قبة زمزم. فاذا كان في أشهر الحج وكثر الناس ووصل العراقيون والخراسانيون رفعت قبة الخشب ووضعت قبة الحديد لتكون أحمل للازدحام.

ومن الركن الذي فيه الحجر الأسود الركن العراقي أربعة وخمسون شبراً محققة. ومن الحجر الأسود الأرض ستة أشبار، وفالطويل يتطأمن إليه والقصير يتطاول إليه. ومن الركن العراقي الركن الشامي ثمانية واربعون شبراً محققة، وذلك داخل الحجر، واما من خارج فمنه إليه أربعون خطوة، وهو مئة وعشرون شبراً محققة، ومن خراجه يكون الطواف. ومن الركن الشامي الرسن اليماني ما من الركن الأسود العراقي لأنه الصفح الذي يقابله. ومن اليماني الأسود ما من العراقي الشامي داخل الحجر لأنه الصفح الذي يقابله.

وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنه الرخام حسناً، منها سود وسمر وبيض قد الصق بعضها بعض، واتسعت عن البيت بمقدار تسع خطاً إلا في الجهة التي تقابل المقام، فانها امتدت إليه حتى احاطت به. وسائر الحرم مع البلاطات كلها مفروش برمل ابيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة، وبين الركن العراقي وبين أول جدار الحجر مدخل الحجر سعته أربع خطاً وهي ست أذرع محققة كلناها باليد. وهذا الموضع الذي لم يحجر عليه هو الذي تركت قريش من البيت، وهو ست أذرع، حسبما وردت به الآثار الصحاح، ويقابله عند الركن الشامي مدخل آخر على مثال تلك السعة. وبين جدار البيت الذي تحت الميزاب والذي يقابله من جدار الحجر على خط استواء يشق وسط الصحن والمذكور أربعون شبراً، وسعته من المدخل المدخل ست عشرة خطوة، وهي ثمانية وأربعون شبراً، ودور الجدار رخام كله مجزع بديع الإلصاق... وهناك قضبان صفر مذهبة وضع منها في صفحة أشكال شطرنجية متداخلة بعضها على بعض وصفات محاريب، فاذا ضربت الشمس فيها لاح لها بصيص ولألاء يخيل للناظر إليها انها ذهب يرتمي بالأبصار شعاعه.

وفي ارتفاع جدار هذا الحجر الرخامي خمسة أشبار ونصف، وستعته أربعة أشبار ونصف. وداخل الحجر بلاط واسع ينعطف عليه الحجر كأنه ثلثا دائرة، وهو مفروش بالرخام المجزع المقطع في دور الكف دور الدينار مافوق ذلك، ثم الصق بانتظام بديع وتأليف معجز الصنعة غريب الإتقان رائق الترصيع والتجزيع رائع التركيب والرصف، يبصر الناظر فيه من التعاريج والتقاطيع والخواتم والأشكال الشطرنجية وسواها على اختلاف أواعها وصفاتها مايقيد بصره حسناً، فكأنه يجليه في أزهار مفروشة مختلفات الألوان محاريب قد انعطف عليها الرخام انعطاف القسي وداخلها هذه الأشكال الموصوفة والصنائع المذكورة وبازائها رخامتان متصلتان بجدار الحجر المقابل للميزاب أحدث الصانع فيهما من التوريق الرقيق والتشجير والتقضيب مالا يحدثه الصنع باليدين في الكاغد قطعاً بالجلمين. فمر آهما عجيب، أمر بصنعتهما على هذه الصفة إمام المشرق أبو العباس أحمد الناصر بن المستضيء بالله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف العباسي، رضي الله عنه.

ويقابل الميزاب في وسط الحجر وفي نصف جداره الرخامي رخامة قد نقشت أبدع نقش، وحفت بها طرة منقوشة نقشاً مكحلاً عجيباً، فيه مكتوب: مما أمر بعمله عبد الله وخليفته أبو العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين، وذلك في نسة ست وسبعين وخمس مئة. والميزاب في اعلى الصفح الذي يلي الحجر المذكور، وهو من صفر مذهب، قد خرج الحجر بمقدار أربع أذرع، وسعته مقدار شبر. وهذا الموضع تحت الميزاب هو ايضاً مظنة استجابة الدعوة بفضل الله تع. وكذلك الركن اليماني ويسعى المستجار مايليه، وهذا الصفح المتصل به من جهة الركن الشامي.

وتحت الميزاب في صحن الحجر بمقربة من جدار البيت الكريم قبر اسماعيل، الله عليه وسلم، وعلامته رخامة خضراء مستطيلة قليلاً شكل محراب تتصل بها رخامة خضراء مستديرة. وكلتاهما غريبة المنظر فيهما نكت تنفتح عن لونها الصفرة قليلاً كأنها تجزيع، وهي أشبه الأشياء بالنكت التي تبقى في البيدق من حل الذهب فيه. و جانبه مما يلي لاركن العراقي قبر أمه هاجر، رضي الله عنها، وعلامته رخامة خضراء سعتها مقدار شبر ونصف.يتبرك الناس بالصلاة في هذين الموضعين من الحجر. وحق لهم ذلك لأنهما من البيت العتيق وقد انطبقا على جسدين مقدسين مكرمين نورهما الله ونفع ببركتهما كل من عليهما. وبين القبرين المقدسين سبعة أشبار.

وقبة بئر زمزم تقابل الركن، ومنها إليه أربع وعشرون خطوة. والمقام المذكور الذي ي خلفه عن يمين القبة، ومن ركنها إليه عشر خطاً. وداخليها مفروش بالرخام الأبيض الناصع البياض. وتنور البئر المباركة في وسطها مائل عن الوسط جهة الجدار الذي يقابل البيت المكرم، وعمقها احدى عشرة قامة حسبما ذرعناه. وعمق الماء سبع قامات على مايذكر. وباب القبة ناظر لشرق، وبابا العباس وقبة اليهودية ناظران الشمال.

والركن من الصفح الناظر البيت العتيق من القبة المنسوبة اليهودرة يتصل بالركن الأيسر من الصفح الأخير الناظر الشرق من القبة العباسية. فبينهما هذا القد من الانحراف. وتلي قبة بئر زمزم من وراثها قبة الشراب، وهي المنسوبة للعباس، رضي الله عنه. وتلي هذه القبة العباسية على انحراف عنها قبة تنسب لليهودية. وهاتان القبتان مخزنان لأوقاف البيت الكريم من مصاحف وكتب وأتوار شمع وغير ذلك. والقبة العباسية لم تخل من نسبتها الشرابية لأنها كانت سقاية الحاج وهي حتى الآن يبرد فيها ماء زمزم.

ويخرج مع الليل لسقي الحاج في قلال يسمونها الدوارق، كل دورق منها ذو مقبض واحد. وتنور بئر زمزم من رخام قد الصق بعضه ببعض الصاقاً لا تحيله الأيام وأفرغ في أثنائه الرصاص. وكذلك داخل التنور. وحفت به أعمدة الرصاص الملصقة إليه إبلاغاً في قوة لزه ورصه: اثنان وثلاثون عموداً قد خرجت لها رؤوس قابضة على حافة البئر دائرة بالتنور كله. ودوره أربعون شبراً، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف، وغلظه شبر ونصف. وقد استدارت بداخل القبة سقاية سعتها شبر، وعمقها نحو شبرين، وارتفاعها عن الأرض خمسة أشبار، تملأ ماء للوضوء، وحولها مصطبة دائرة يرتفع الناس إليها ويتوضأون عليها.

والحجر الأسود المبارك ملصق في الركن الناظر جهة المشرق، ولا يدري قدر ما دخل في الركن، وقيل: إنه داخل في الجدار بمقدار ذراعين. وسعته ثلثا شبر، وطوله شبر وعقد، وفيه أربع قطع ملصقة. ويقال: أن القرمطي، لعنه الله، كان الذي كسره. وقد شدت جوانبه بصفيحة فضة يلوح بصيص بياضها على بصيص سواد الحجر ورونقه الصقيل فيبصر الرائي من ذلك منظراً عجيباً هو قيد الأبصار.

والحجر عند تقبيله لدونة ورطوبة يتنعم بها الفم حتى يود اللاثم أن يقلع فمه عنه، وذلك خاصة من خواص العناية الإلهية. وكفى أن النبي، اله عليه وسلم، قال: "إنه يمين الله في أرضه". نفعنا الله لاستلامه ومصافحته، وأوفد عليه كل شيق إليه بمنه.

وفي القطعة الصحيحة من الحجر مما يلي جانبه الذي يلي يمين المستلم له إذا وقف مستقبله نقطة بيضاء صغيرة مشرقة تلوح كأنها خال في تلك الصفحة المباركة. وفي هذه الشامة البيضاء أثر: إن النظر إليها يجلو البصر. فيجب على المقبل أن يقصد بتقبيله موضع الشامة المذكورة ما استطاع.

والمسجد الحرام يطيف به ثلاث على ثلاث سوار من الرخام منتظمة كأنها بلاط واحد، ذرعها في الطول أربع مئة ذراع، وفي العرض ثلاث مئة ذراع. فيكون تكسيره محققاً ثمانية وأربع مرجعاً وما بين البلاطات فضاء كبير، وكان على عهد رسول الله الله عليه وسلم، صغيراً. وقبة زمزم خارجة عنه، وفي مقابلة الركن الشامي، رأس سارية ثابتة في الأرض منها كان حد الحرم أولاً.وبين رأس السارية وبين الركن الشامي المذكور اثنتان وعشرون جطوة، والكعبة في وسطجه على استواء من الجوانب الأربع، ما بين الشرق والجنوب والشمال والغرب. وعدد سواريه الرخامية التي عددتها بنفسي أربع مئة سارية واحد وسبعون سارية حاشا الجصية التي منها في دار الندوة، وهي التي زيدة في الحرم، وهي داخلة في البلاط الآخذ من الغرب الشمال، ويقابلها المقام مع الركن العراقي، وفضاؤها متسع يدخل من البلاط إليه. ويتصل بجدار هذا البلاط كله مصاطب تحت قسي حنايا يجلس فيها النساخون والمقرئون وبعض أهل صنعة الخياطة.

والحرم محدق بحلقات المدرسين وأهل العلم. وفي جدار البلاط الذي يقابله أيضاً مصاطب تحت حنايا على تلك الصفة، وهو البلاط الآخذ من الجنوب الشرق. سائر البلاطات تحت جداراتها مصاطب دون حنايا عليها، والبنيان فيها الآن على أكمل ما يكون. وعند باب إبراهيم مدخل آخر من البلاط الآخذ من الغرب الجنوب فيه أيضاً سوار جصية. ووجدت بخط أبي جعفر بن علي الفنكي القرطبي الفقيه المحدث: أن عدد سواريه أربع مئة وثمانون، لأني لم أحسب التي خارج باب الصفا.

وللمهدي محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي في توسعة المسجد الحرام والتأنق في بنائه آثار كريمة. وجدت في الجهة التي من الغرب الشمال مكتوباً في أعلى جدار البلاط: "أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله، بتوسعة المسجد الحرام، لحجاج بيت الله وعماره، في سنة سبع وستين ومئة".

وللحرم سبع صوامع: أربع في الأربعة جوانب، وواحدة في دار الندوة، وأخرى على باب الصفا، وهي أصغرها، وهي علم لباب الصفا، وليس يصعد إليها لضيقها، وعلى باب إبراهيم صومعة قد ذكرت عند باب إبراهيم فيما بعد.

وباب الصفاء يقابل الركن الأسود بالبلاط الذي من الجنوب الشرق، وفي وسط البلاط المقابل للباب ساريتان مقابلتان الركن المذكور فيهما منقوش: "أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله، بإقامة هاتين الأسطوانتين علماً لطريق رسول الله الله عليه وسلم، الصفا ليتأسى به حاج بيت الله وعماره، على يدي يقطين بن موسى وإبراهيم بن صالح، في سنة سبع وستين ومئة".

وفي باب الكعبة المقدسة نقش بالذهب رائق الخط طويل الحروف غليظها، يرتمي الأبصار برونقه وحسنه، مكتوب فيه: "مما أمر بعمله عبد الله وخليفته الإمام أبو عبد الله محمد المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، الله عليه وعلى الأئمة آبائه الطاهرين، وخلد ميراث النبوة لديه، وجعلها كلمة باقية في عقبه يوم الدين، في سنة خمسين وخمس مئة" في صفحتي البابين على هذا النص المذكور.

ويكتنف البابين الكريمين عضادة غليظة من الفضة المذهبة البديعة النقش، تصعد العتبة المباركة تشف عليها وتستدير بجانبي البابين. ويعترض أيضاً بين البابين عند إغلاقهما شبه العضادة الكبيرة من الفضة المذهبة هي بطول البابين متصلة بالواحد منهما الذي عن يسار الداخل البيت.

وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر، حسبما ذكرناه. وهي أربع وثلاثون شقة: في الصفح الذي بين الركن اليماني والشامي منها تسع وفي الصفح الذي يقابله بين الركن الأسود والعراقي تسع أيضاً،وفي الصفح بين العراقي والشامي ثمان، وفي الصفح بين اليماني والأسود ثمان أيضاً، وقد وصلت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعم الأربعة جوانب. وقد أحاط بها من أسفلها تكفيف مبني بالجص، في إرتفاعه أزيد من شبر، وفي سعته شبران أو أزيد قليلاً، في داخله خشب غير ظاهر، وقد سمرت فيه أوتاد حديد في رؤوسها حلقات حديد ظاهرة قد أدخل فيها مرسى من القنب غليظ مفتول. واستدار بالجوانب الأربعة بعد أن وضع في أذيال الستور شبه حجز السراويلات وأدخل فيها ذلك المرس وخيط عليه بخيوط من القطن المفتولة الوثيقة.

ومجتمع الستور في الأركان الأربعة مخيط أزيد من قامة، ثم منها أعلاها تتصل بعري من حديد يدخل بعضها في بعض. واستدار أيضاً بأعلاها على جوانب السطح تكفيف ثان وقعت فيه أعالي الستور في حلقات حديد على تلك الصفة المذكورة. فجاءت الكسوة المباركة مخيطة الأعلى والأسفل، وثيقة الأزرار، لا تخلع إلا من عام عام عند تجديدها، فسبحان من خلد لها الشرف يوم القيامة، لا إله سواه.

وباب الكعبة الكريم يفتح كل يوم اثنين ويوم جمعة إلا في رجب فإنه يفتح في كل يوم. وفتحه أول بزوغ الشمس، يقبل سدنة البيت الشيبيون، فيبادر منهم من ينقل كرسياً كبيراً شبه المنبر الواسع له تسعة أدراج مستطيلة قد وضعت له قوائم من الخشب متطأمنة مع الأرض لها أربع بكرات كبار مصفحة بالحديد لمباشرتها الأرض، يجري الكرسي عليها حتى يصل البيت الكريم. فيقع درجه الأعلى متصلاً بالعتبة المباركة من الباب. فيصعد زعيم الشيبيين إليه، وهو كهل جميل الهيئة والشارة، وبيده مفتاح القفل البارك، ومعه من السدنة من يمسك في يده ستراً أسود يفتخ يديه به أمام الباب خلال ما يفتحه الزعيم الشيبي المذكور، فإذا فتح القفل قبل العتبة ثم دخل البيت وحده وسد الباب خلفه وأقام قدر ما يركع ركعتين. ثم يدخل الشيبيون ويسدون الباب أيضاً ويركعون. ثم يفتح الباب ويبادر الناس بالدخول، وفي أثناء محاولة فتح الباب الكريم يقف الناس مستقبلين إيها بأبصار خاشعة وأيد مبسوطة الله ضارعة وإذا انفتح الباب كبر الناس وعلا ضجيجهم ونادوا بألسنة مستهلة: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك،يا أرحم الراحمين. ثم دخلوا بسلام آمنين.

وف يالصفح المقابل للداخل فيه، الذي هو من الركن اليماني الركن الشامي، خمس رخامات منتصبات طولاً كأنها أبواب تنتهي مقدار خمسة أشبار من الأرض، وكل واحدة منها نحو القامة، الثلاث منها حمر والاثنان خضراوان. في كل واحدة منها تجزيع بياض فلم ير أحسن منظراً منه كأنه فيها تنقيط. فيتصل بالركن اليماني منها الحمراء ثم تليها بخمسة أشبار الخضراء، والموضع الذي يقابلها متقهقراً عنه بثلاث أذرع هو م النبي، الله عليه وسلم، فيزدحم الناس على الصلاة فيه تبركاً به. ووضعهن على هذا الترتيب، وبين كل واحدة وأخرى القدر المذكور. ويتصل بينهما رخام أبيض صافي اللون ناصع البياض، قد أحدث الله، عز وجل، في أصل خلقته أشكالاً غريبة مائلة الزرقة مشجرة مغصنة وفي التي تليها مثل ذلك بعينه من ا لأشكال كأنها مقسومة، فلو انطبقتا لعاد كل شكل يصافح شكله، فكل واحدة شقة الأخرى لا محالة عندما نشرت انشقت على تلك الأشكال فوضعت كل واحدة بإزاء أختها. والفاصل منها بين كل خضراء وحمراء رخامتان، سعتهما خمسة أشبار لأعداد الأشبار المذكورة. والأشكال فيها تختلف هيئاتها، وكل أخت منها بإزاء اختها.وقد شدت جوانب هذه الرخامات تكافيف غلظها قدر إصبعين من الرخام المجزع من الأخضر والأحمر المنقطين ولأبيض ذي الخيلان كأنها أنابيب مخروطة يجار الوهم فيها. فاعترضت في هذا الصفح المذكور من فرج الرخام الأبيض ست فرج.

وفي الصفح الذي عن يسار الداخل، وهو من الأسود الركن اليماني، أربع رخامات: اثنتان خضراوان، واثنتان حمراوان. وبينهما خمس فرج من الرخام الأبيض. وكل ذلك على الصفة المذكورة. وفي الصفح الذي عن يمين الداخل، وهو من الركن الأسود العراقي، ثلاث: اثنتان حمراوان، وواحدة خضراء. وتصل بها ثلاث فرج من الرخام الأبيض وهذا الصفح هو المتصل بالركن الذي فيه باب الرحمة، وسعته ثلاث أشبار، وطوله سبعة، وعضادته التي عن يمينك إذا استقبلته رخامة خضراء في سعة ثلثي شبر. وفي الصفح الذي من الشامي العراقي ثلاث: اثنتان حمروان، وواحدة خضراء. وتصل بها ثلاث فرج من الرخام الأبيض على الصفة المذكورة.

ويكلل هذا الرخاخم المذكور طرتان؛ واحدة على الأخرى، سعة كل واحدة منهما قدر شبرين، ذهب مرسوم في اللازورد قد خط فيه خط بديع. وتتصل الطرتان بالذهب المنقوش على نصف الجدار الأعلى. والجهة التي عن يمين الداخل لها طرة واحدة، وفي هاتين الطرتين بعض مواضع دراسة.

وفي كل ركن من الأركان الأربعة ما يلي الأرض رخامتان خضراوان صغيرتان تكتنفان الركن، وتكتنف أيضاً كل بابين من الفضة، اللذين في كل ركن كأنهما طاقان، عضادتان من الرخام الأخضر صغيرتان على قدر نقبيهما. وفي أول كل صفح من الصفحات المذكورة رخامة حمراء وفي آخره مثلها، والخضراء بينهما على الترتيب المذكور إلا الصفح الذي عن يسار الداخل، فأول رخامة تجدها متصلة بالركن الأسود رخامة خضراء، صم حمراء كمال الترتيب الموصوف.

وبإزاء المقام الكريم منبر الخطيب، وهو أيضاً على بكرات أربع شبه التي ذكرناها. فإذا كان يوم الجمعة وقرب وقت الصلاة ضم صفح الكعبة الذي يقابل المقام، وهو بين الركن الأسود والعراقي، فيسند المنبر إليه. ثم يقبل الخطيب داخلاً على باب النبي، الله عليه وسلم، وهو يقابل المقام في البلاط الآخذ من الشرق الشمال لابساً ثوب سواد مرسوماً بذهب ومتعمماً بعمامة سوداء مرسومة أيضاً وعليه طيلسان شرب رقيق، كل ذلك من كسا الخليفة التي يرسلها خطباء بلاده يرفل فيها وعليه السكينة والوقار، يتهادى رويداً بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من قومة المؤذنين، وبين يديه ساعياً أحد القومة، وفي يده عود مخروط أخمر قد ربط في رأسه مرس من الأديم المفتول رقيق طويل في طرفه عذبة صغيرة ينفضها بيده في الهواء نفضاً فتأتي بصوت عال يسمع من داخل الحرم وخارجه كأنه ايذان بوصول الخطيب، ولا يزال في نفضها أن يقرب من المنبر، ويسمونها الفرقعة. فإذا قرب من المنبر عرج الحجر الأسود فقبله ودعا عنده ثم سعى المنبر والمؤذن الزمزمي، رئيس المؤذنين بالحرم الشريف، ساع أمامه لابساً ثياب السواد أيضاً وعلى عاتقه السيف يمسكه بيده دون تقلد له، فعند صعوده في أول درجة قلده المؤذن المذكور السيف. ثم ضرب بنعلة سيفه فيها ضربة أسمع بها الحاضرين ثم في الثانية. ثم في الثالثة. فإذا انتهى الدرجة العليا ضرب ضربة رابعة ووقف داعياً مستقبل الكعبة بدعاء خفي. ثم انفتل عن يمينه وشماله وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فيرد الناس عليه السلام. ثم يقعد ويبادر المؤذنون بين يديه في المنبر بالأذان على لسان واحد. فإذا فرغوا قام للخطبة فذكر ووعظ وخشع فأبلغ. ثم جلس الجلسة الخطيبية وضرب بالسيف ضربة خامسة. ثم قام للخطبة الثانية فأكثر بالصلاة على محمد، الله عليه وسلم، وعلى آله ورضي عن أصحابه واختص الأربعة الخلفاء بالتسمية، رضي الله عن جميعهم، ودعا لعمي النبي، الله عليه وسلم، حمزة والعباس وللحسن والحسين وو الترضي عن جميعهم. ثم دعا لأمهات المؤمنين زوجات النبي، ، ورضى عن فاطمة الزهراء وعن خديجة الكبرى بهذا اللفظ. ثم دعا للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر، ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبي هاشم الحسني، ثم لصلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب ولولي ههده أخيه أبي بكر بن ايوب. وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الآلسنة بالتأمين عليه من كل مكان.

واذا أحـــــب الله يـــــــــوماً عبده القى عليه محبةً للناس

وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم وحسن النظر لهم ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم.

وفي هذا التاريخ أعلمنا بأن كتابه وصل الامير مكثر، وأهم فصوله التوصية بالحاج والتأكيد في مبرتهم وتأنيهم ورفع أيدي الاعتداء عنهم والايعاز في ذلك الخدام والاتباع والاوزاع، وقال: انه انما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج. فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد الكريم. واحسان الله يتضاعف من احسن عباده، واعتناؤه الكريم موصول لمن جعل همه الاعتناء بهم، والله عز وجل كفيل بجزاء المحسنين، انه ولي ذلك لارب سواه.

وفي أثناء الخطبة تركز الريتان السوداوان في أول درجة من المنبر ويمسكهما رجلان من المؤذنين، وفي جانبي باب المنبر حلقتان تلقى الرايتان فيهما مركوزتين. فإذا فرغ من الصلاة خرج والرايتان عن يمينه وشماله والفرقمة أمامه على الصفة التي دخل عليها، كأن ذلك أيضاَ ايذان بانصراف الخطيب والفراغ من الصلاة ثم أعيد المنبر موضعه بإزاء المقام.

وليلة أهل هلال الشهر المذكور، وهو جمادى الأول، بكر أمير مكة مكثر المذكور في صبيحتها الحرم الكريم مع طلوع الشمس، وقواده يحفون به والقراء يقرأون أمامه، فدخل علىباب النبي، ورجاله السودان الذين يعرفونهم بالحرابة يطوفون أمامه وبأيديهم الحراب. وهو في هيئة اختصار عليه السكينة والوقار وسمت سلفه الكريم، رضي الله عنهم، لابساً ثوب بياض متقلداً سيفه مختصراً متمتعاً بكرزية صوف بيضاء رقيقة، فلما انتهى بإزاء المقام الكريم وقف وبسط له وطاء كتان ف ركعتين. ثم تقدم الحجر الأسود فقبله وشرع في الطواف، وقد علا في قبة زمزم صبي، هو أخو المؤذن الزمزمي، وهو أول المؤذنين أذاناً، به يقتدون وله يتبعون، وقد لبس أفخر ثيابه وتعمم، فعندما يكمل الأمير شوطاً واحداً ويقرب من الحجر يندفع الصبي في اعلى القبة رافعاً صوته بالدعاء ويستفتحه بصبح الله مولانا الأمير بسعادة دائمة ونعمة شاملة. ويصل ذلك بتهنئة الشهر بكلام مسجوع مطبوع حفيل الدعاء والثناء. ثم يختم ذلك بثلاثة أبيات أو أربعة من الشعر في مدحه سلفه الكريم وذكر سابقة النبوة، رضي الله عنهم، ثم يسكت،فإذا أطل من الركن اليماني يريد الحجر اندفع بدعاء على ذلك الاسلوب، ووصله بأبيات من الشعر غير الابيات الآخر في ذلك المعنى بعينه كأنها منتزعة من قصائد مدح بها. هكذا في السبعة الأشواط أن يفرغ منها. والقراء في اثناء طوافه أمامه. فينتظم من هذه الحال والأبهة وحسن صوت ذلك الداعي على صغره لأنه ابن احدى عشر سنة أو نحوها، وحسن الكلام الذي يورده نثراً ونظماً، وأصوات القراء وعلوها بكتاب الله، عز وجل، مجموع يحرك النفوس ويشجيها ويستوكف العيون ويبكيها، تذكراً لأهل البيت الذين أدهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. فإذا فرغ من الطواف ركع عند الملتزم ركعتين ثم جاء وركع خلف المقام ايضاً ثم ولى منصرفاً وحلبته تحف به. ولايظهر في الحرم إلا لمستهل هلال آخر، هكذا دائماً. والبيت العتيق مبني بالحجارة الكبار الصم السمر قد رص بعضها على بعض والصقت بالعقد الوثيق الصاقاً لاتحيله الأيام ولا تقصمه الأزمان. ومن العجيب أن قطعة انصدعت من الركن اليماني فسمرت بمسامير فضة واعيدت كأحسن ما كانت، والمسامير فيه ظاهرة.

ومن آيات البيت العتيق أنه قائم وسط الحرم كالبرج المشيد وله التنزيه الأعلى. وحمام الحرم لاتحصى كثرة، وهي من الأمن بحيث يضرب بها المثل، ولاسبيل أن تنزل بسطحه الأعلى حمامة ولاتحل فيه بوجه ولا على حال. فترى الحمام يتجلى على الحرم كله، فإذا فربت من البيت عرجت عنه يميناً أو شمالاً والطيور سواها كذلك. وقرأت في أخبار مكة أنه لاينزل عليه طائر إلا عند مرض يصيبه، فإما أن يموت في حينه أو يبرأ. فسبحان من أورثه التشريف والتكريم.

ومن آياته أن بابه الكريم يفتح في الأيام المعلومة المذكورة، والحرم قد غص بالخلق، فيدخله الجميع ولايضيق عنهم بقدرة الله، عز وجل، ولايبقى فيه موضع الاويصلي فيه كل أحد. ويتلاقى الناس عند الخروج منه، فيسأل بعضهم بعضاً: هل دخل البيت ذلك اليوم? فكل يقول: دخلت ومليت في موضع كذا وموضع كذا حيث الجميع. ولله الآيات البينات والبراهين المعجزات، سبحانه وتعالى.

ومن عجائب اعتناء الله تبارك وتعالى به أنه لايخلوا من الطائفين ساعة من النهار ولا وقتاً من الليل. فلا تجد من يخبر أنه رآه دون طائف به، فسبحان من كرمه وعظمه وخلد له التشريف يوم القيامة.

وفي أعلى بلاطات الحرم سطح يطيف بها كلها من الجوانب الأربعة، وهو مشرف كله بشر فات مبسوطة مركنة، في كل جانب من الشرفة ثلاثة اركان كأنها أيضاًَ شرفات أخر صغار. والركن الأسفل منها متصل بالركن الذي يليه من الشرفة الأخرى. وتحت كل صلة منها ثقب مستدير في دور الشبر منفوذ يخترقه الهواء يضرب فيه شعاع الشمس أو القمر فيلوح كأنها أقمار مستديرة، يتصل ذلك بالجوانب الأربعة كلها، كأن الشرفات المذكورة بنيت شقة واحدة ثم احدثت فيها هذه التقاطيع والتراكين فجاءت عجيبة المنظر والشكل.

وفي النصف من كل جانب من الجوانب الأربعة المذكورة شقة من الجص معترضة بين الشرفات مخرمة فرجية طولها نحو الثلاثين شبراً تقديراً، تقابل كل شقة منها صفحاً من صفحات الكعبة المقدسة قد علت على الشرفات كالتاج.

وللصوامع أيضاً أشكال بديعة، وذلك أنها ارتفعت بمقدار النصف، مركنة من الأربعة جوانب بحجارة رائعة النقش عجيبة الوضع، قد أحاط بها شباك من الخشب الغريب الصنعة، وارتفع عن الشباك عمود في الهواء كأنه مخروط مختم كله بالآجر تختيماً يتداخل بعضه على بعض بصنعة تستميل الأبصار حسناً. وفي أعلى ذلك العمود الفحل وقد استدار به أيضاً شباك آخر من الخشب على تلك الصنعة بعينها. وهي متميزة الأشكال كلها لايشبه بعضها بعضاً. لكنها على هذا المثال المذكور، من كون نصفها الأول مركناً ونصفها الأعلى عموداً لاركن له.

وفي النصف الأعلى من قبة زمزم والقبة العباسية التي تسمى السقاية والقبة التي تليها منحرفة عنها يسيراً المنسوبة لليهودية، صنعة من قرنصة الخشب عجيبة، قد تأنق الصانع فيها وأحدق بأعلاها شباك مشرجب من الخشب رائق الخلل والتأريج وداخل شباك قبة زمزم شطح وقد قام في وسطه شبه فحل الصومعة.

وفي ذلك السطح يؤذن الزمزمي، وقد انخرط من ذلك الفحل عمود من الجص واستقر في رأسه صفحة حديد تتخذ مشعلاً في شهر رمضان المعظم.

وفي الصفح الناظر البيت العتيق من القبة سلاسل فيها قناديل من زجاج معلقة توقد كل ليلة. وفي الصفح الذي عن يمينه كذلك، وهو الناظر الشمال.

وفي كل جانب منها ثلاثة شراجيب مقومة كأنها أبواب قد قامت على سوار من الزجاج صغار لم ير أبدع منها صنعة، منها ماهو مفتول فتل السوار ولا سيما الجانب الذي يقابل الحجر الأسود من قبة زمزم، فإن سواريه في نهاية من اتقان الصنعة، قد أدير بكل سارية منها رؤوس ثلاثة أو أربعة، وتحت مابين كل رأس ورأس ... وأحدثت فيه صنائع من النقش عجيبة المنظر، وربما فتل بعضها عن الصفة السوارية.

وهذا الجانب الذي يقابل الحجر الأسود من القبة المذكورة تتصل به مصطبة من الرخام دائرة بالقبة يجلس الناس فيها معتبرين بشرف ذلك الموضع لأنه أشرف مواضع الدنيا المذكورة بشرف مواضع الآخرة، لأن الحجر الأسود أمامك والباب الكريم مع البيت قبالتك والمقام عن يمينك وباب الصفا عن يسارك وبئر زمزم وراء ظهرك. وناهيك بهذا! وينطبق على كل شرجب من تلك الشراجيب أعمدة حديد قد تركب بعضها على بعض كأنها شراجيب أخر. وأحد أركان شباك الخشب المحدق بالقبة العباسية بتصل بأحد أركان شباك القبة اليهودية حتى يتماسا. فمن يكون في أعلى سطح هذه ينفتل سطح الأخرى من الركنين المذكورين. وداخل هذه القباب صنعة من القرنصة الجصية رائقة الحسن.

وللحرم أربعة أثمة سنية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية. واشراف أهل هذه البلدة على مذهبهم، وهم يزيدون في الأذان: حي على خير العمل إثر قول المؤذن حي على الفلاح، وهم روافض سبابون، والله من وراء حسابهم وجزائهم، ولايجمعون مع الناس إنما يصلون ظهراً أربعاً، ويصلون المغرب بعد فراغ الأئمة من صلاتها.

أول الأئمة السنية الشافعي، رحمه الله، وإنما قدمنا ذكره لأنه المقدم من الإمام العباسي. وهو أول من يصلي، وصلاته خلف مقام إبراهيم، وعلى نبينا الكريم، إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها: يبدأ مؤذن الشافعي بالإقامة، ثم يقيم مؤذنو سائر الأئمة. وربما دخل في هذا الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة. فربما ركع المالكي بركوع الشافعي أو الحنفي أو سلم أحدهم بغير سلام إمامه. فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنه مخافة السهو. ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس. ثم المالكي، رحمه الله، وهو يصلي قبالة الركن اليماني، وله محراب حجر يشبه محاريب الطرق الموضوعة فيها. الحنفي، رحمه الله، وصلاته قبلة الميزاب تحت حطيم مصنوع له. وهو أعظم الأئمة أبهة وأفخرهم ألة من الشمع وسواها بسبب أن الدولة الأعجمية كلها على مذهبه، فالاحتفال له كثير، وصلاته آخراً . ثم الحنبلي، رحمه الله، وصلاته مع صلاة المالكي في حين واحد، موضع صلاته يقابل مابين الحجر الأسود والركن اليماني. ويصلي الظهر والعصر قريباً من الحنفي في البلاط الآخذ من الغرب الشمال، والحنفي يصليهما في البلاط الآخذ من الغرب الجنوب قبالة محرابه ولاحطيم له. والشافعي بازاء المقام حطيم حفيل.

وصفة الحطيم خئبنان موصول بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان على تلك الصفة، قد عقدت هذه الخشب على رجلين من الجص غير بائنة الاتفاع. واعترض في أعلى الخشب خشبة مسمرة فيها قد نزلت منها طيف حديد فيها قناديل معلقة من الزجاج. وربما وصل بالخشبة المعترضة العليا شباك مشرجب بطول الخشبة.

وللحنفي بين الرجلين الجصيتين المتعقدتين على الخشب محراب ي فيه. وللحنبلي حطيم معطل هو قريب من حطيم الحنفي، وهو منسوب لرامشت أحد الأعاجم ذوي الثراء، وكانت له في الحرم آثار كريمة من النفقات، رحمه الله. ويقابل الحجر حطيم معطل أيضاً ينسب للوزير المقدم بهذا اللفظ المجهول .

ويطيف بهذه المواضع كلها، دائر البيت العيتيق وعلى بعد منه يسيراً، مشاعيل توقد في صحاف حديد فوق خشب مركوزة فيتقد الحرم الشريف كله نوراً. ويوضع الشمع بين ايدي الأئمة في محاريبهم. والمالكي أقلهم شمعاً واضعفهم حالاً لأن مذهبه في هذه البلاد غريب. والجمهور على مذهب الشافعي وعليه علماء البلاد وفقهاؤها، إلا الإسكندرية وأكثر أهلها مالكيون وبها الفقيه ابن عوف، وهو شيخ كبير من أهل العلم، بقية الأئمة المالكية.

وفي إثر كل صلاة مغرب يقف المؤذن الزمزمي في سطح قبة زمزم، ولها مطلع على أدراج من عود في الجهة التي تقابل باب الصفا، رافعاً صوته بالدعاء للإمام العباسي أحمد الناصر لدين الله ثم للأمير مكثر ثم لصلاح الدين أمير الشام وجهات مصر كلها واليمن، ذي المآثر الشهيرة والناقب الشريفة، فإذا انتهى ذكره بالدعاء ارتفعت أصوات الطائفين بالتأمين بألسنة تمدها القلوب الخالصة والنيات الصادقة. وتخفق الألسنة بذلك خفقاً يذيب القلوب خشوعاً لما وهب الله لهذا السلطان العادل من الثناء الجميل وألقى عليه من محبة الناس وعباد الله شهدائه في أرضه. ثم يصل ذلك بدعاء لأمراء اليمن من جهة صلاح الدين ثم لسائر المسلمين والحجاج والمسافرين، وينزل. هكذا دأبه دائماً أبداً.

وفي القبة العباسية المذكورة خزانة تحتوي على تابوت مبسوط متسع وفيه مصحف أحد الخلفاء الأربعة أصحاب رسول الله، ، وبخط يد زيد بن ثابت، رضي الله عنه، منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله، ، وينقص منه ورقات كثيرة. وهو بين دفتي عود مجلد بمغاليق من صفر، كبير الورقات واسعها، عايناه وتبركنا بتقبيله ومسح الخدود فيه. نفع الله بالنية في ذلك.

وأعلمنا صاحب القبة المتولي لمرضه علينا: أن أهل مكة متى أصابهم قحط أو نالتهم شدة في أسفارهم اخرجوا المصحف المذكور وفتحوا باب البيت الكريم ووضعوه في القبة المباركة مع المقام الكريم: مقام الخليل ابراهيم، نبينا وعليه، واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم داعين متضرعين، وبالمصحف الكريم والمقام العغظيم الله متوسلين. فلا ينفصلون عن مقامهم ذلك إلا ورحمة الله عز وجل قد تداركتهم، والله لطيف بعباده، لااله سواه.

وبإزاء الحرم الشريف ديار كثيرة تطيف به لها مناظر وسطوح يخرج منها سطح الحرم فيبيت اهلها فيه ويبردون ماءهم في اعالي شرفاته، فهم من النظر البيت العتيق دائماً في عبادة متصلة، والله ينئهم ماخصهم به من مجاورة بيته الحرام بمنه وكرمه.

وألفيت بخط الفيه الزاهد الورع أبي جعفر الفنكي القرطبي: أن ذرع المسجد الحرام في الطول والعرض ماأثبته أولاً، وطول مسجد رسول الله، ، ثلاث مئة ذراع، وعرضه مئتان، وعدد سواريه ثلاث مئة، ومناراته ثلاث، فيكون تكسيره أربعة وعشرين مرجعاً من المراجع المغربية، وهي خمسون ذراعاً في مثلها، وطول مسجد بيت المقدس، أعاده الله للإسلام، سبع مئة وثمانون ذراعاً، وعرضه اربع مئة وخمسون ذراعاً، وسواريه أربع مئة وأربع عشرة سارية، وقناديله خمس مئة، وأبوابه خمسون باباً، فيكون تكسيره من المراجع المذكورة مئة مرجع وأربعين مرجعاً وخمسي مرجع.

أبواب الحرم الشريف

للحرم تسعة عشر باباً أكثرها مفتح على ابواب كثيرة، حسمبما يأتي ذكره إن شاء الله.

باب الصفا: يفتح على خمسة أبواب، وكان يسمى قديماً بباب بني مخزوم.

باب الخلقيين. ويسمى بباب جياد الأصفر مفتح على بابين، هو محدث.

باب العباس، رضي الله عنه: هو يفتح على ثلاثة أبواب.

باب علي، رضي الله عنه: مفتح على ثلاثة أبواب.

باب النبي، الله عليه وسلم: يفتح على بابين.

باب صغير أيضاً بإزاء باب بني شيبة المذكور: لااسم له.

باب بني شيبة: وهو يفتح على ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء.

باب دار الندوة: ثلاثة، البابان من دار الندوة منتظمان، والثالث في الركن الغربي من الدار.

فيكون عدد أبواب الحرم بهذا الباب المنفرد عشرين باباً.

باب صغير بإزاء بني شيبة شبه خوخة الأبواب: لااسم له، وقيل: انه يسمى باب الرباط، لأنه يدخل منه لرباط الصوفية.

باب صغير لدار العجلة: محدث.

باب السدة: واحد.

باب العمرة: واحد.

باب حزورة: على بابين.

باب ابراهيم،  : واحد.

باب ينسب لحزورة أيضاً: على بابين باب جياد الأكبر: على بابين.

باب جياد الأكبر أيضاً: على بابين.

باب ينسب لجياد أيضاً على بابين. ومنهم من ينسب البابين من هذه الأبواب الأربعة الجيادية الدقاقين، والروايات فيها تختلف، لكنا اجتهدنا في اثبات الأقرب من اسمائها الصحة، والله المستعان لارب سواه.

وباب ابراهيم، ، هو في زاوية كبيرة متسعة فيها دار المكناسي الفيه الذي كان إمام المالكية في الحرم، رحمه الله.

وفيها ايضاً غرفة هي خزانة للكتب المحبسة على المالكية في الحرم. والزاوية المذكورة متصلة بالبلاط الآخذ من الغرب الجنوب وخارجه عنه. وبازاء الباب المذكور عن يمين الداخل عليه صومعة على غير اشكال الصوامع المذكورة. فيها تخاريم في الجص، مستطيلة الشكل كأنها محاريب، قد حفت بها قرنصة غريبة الصنعة. وعلى الباب قبة عظيمة بائنة العلو يقرب من لاصومعة ارتفاعها، قد ضمن داخلها غرائب من الصنعة الجصية والتخاريم القرنصية يعجز عنها الوصف. وظاهرها ايضاً تقاطيع في الجص كأنها أرجل مدورة قد تركبت دائرة على دائرة. وفحل الصومعة المذكورة على أرجل من الجص مفتح مابين كل رجل ورجل. وخارج باب ابراهيم بئر تنسب إليه، عليه السلام.

وانما بدئ بباب الصفا لأنه أكبر الأبواب، وهو الذي يخرج عليه السعي. وكل وافد مكة، شرفها الله، يدخلها بعمرة فيستحب له الدخول على باب بني شيبة ثم يطوف سبعاً ويخرج على باب الصفا ويجعل طريقه بين الاسطوانتين اللتين أمر المهدي، رحمه الله، فإقامتها علماً لطريق رسول الله، الله عليه وسلم، الصفا، حسبما تقدم ذكره. وبين الركن اليماني ست واربعون خطوة، ومنهما باب الصفا ثلاثون خطوة. ومن باب الصفا الصفا ست وسبعون خطوة. وللصفا أربعة عشر درجاً، وهو على ثلاثة أقواس مشرفة، والدرجة العليا متسعة كأنها مصطبة، وقد أحدقت به الديار، وفي سعته سبع عشرة خطوة.

وبين الصفا والميل الأخضر مايأتي ذكره. والميل سارية خضراء، وهي خضرة صباغية. وهي التي ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم على قارعة المسيل المروة وعن يسار الساعي إليها. ومنها يرمل في السعي الميلين الأخضرين، وهما أيضاً ساريتان خضراوان على الصفة المذكورة، الواحدة منها بإزاء باب علي في جدار الحرم وعن يسار الخارج من الباب، والميل الآخر يقابله في جدار دار تتصل بدار الامير مكثر. وعلى كل واحدة منهما لوح قد وضع على رأس السارية كالتاج ألفيت فيه منقوشاً برسم مذهب: أن الصفا والمروة من شعائر الله الآية. وبعدها أمر بعمارة هذا الميل عبد الله وخليفته أبو محمد المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، أعز الله نصره، في سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة. وبين الصفا والميل الأول ثلاث وتسعون خطوة، وهي مسافة الرمل جائياً وذاهباً من الميل الميلين. ثم من الميلين الميل ومن الميلين المروة ثلاث مئة وخمس وعشرون خطوة. فجميع خطا الساعي من الصفا المروة اربع مئة خطوة وثلاث وتسعون خطوة.

وادراج المروة خمسة، وهي بقوس واحد كبير، وسعتها سعة الصفا سبع عشر خطوة. ومابين الصفا والمروة مسيل هو اليوم سوق حفيلة بجميع الفواكه وغيرها من الحبوب وسائر المبيعات الطعامية، والساعون لايكادون يخلصون من كثرة الزحام، وحوانيت الباعة يميناً وشمالاً، وماللبلدة سوق منتظمة سواها إلا البزازين والعطارين، فهم عند باب بني شسيبة تحت السوق المذكورة وبمقربة تكاد تتصل بها.

وعلى الحرم الشريف جبل أبي قبيس، وهو في الجهة الشرقية، يقابل ركن الحجر الأسود، وفي أعلاه رباط مبارك فيه مسجد وعليه سطح مشرف على البلدة الطيبة، ومنه يظهر حسنها وحسن الحرم واتساعه وجمال الكعبة المقدسة القائمة وسطه. وقرأت في اخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي أنه أول جبل خلقه الله عز وجل، وفيه استودع الحجر زمن الطوفان، وكانت قريش تسميه الأمين لأنه أدى الحجر ابراهيم، ، وفيه قبر آدم، صلوات الله عليه، وهو أحد أخشبي مكة، والاخشب الثاني الجبل المتصل بقعيقعان في الجهة الغربية. صعدنا جبل أبي قبيس المذكور وصلينا في المسجد المبارك. وفيه موضع موقف النبي، ، عند انشقاق القمر له بقدرة الله عز وجل. وناهيك بهذه الفضيلة والبركة! والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء حتى الجمادات من مخلوقاته، لااله سواه.

وفي أعلاه آثار بناء جص مشيد كان اتخذه معقلاً أمير البلد عيسى أبو مكثر المذكور، فهدمه عليه أمير الحاج العراقي لمخالفة صدرت عنه، فغادره خراباً.وألفيت منقوشاً على سارية خارج باب الصفا تقابل السارية الواحدة من اللتين أقيمتا علماً لطريق النبي، ، الصفا داخل الحرم المتقدمتي الذكر: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله تع، بتوسعة المسجد الحرام ممايلي باب الصفا، لتكون الكعبة في وسط المسجد، في سنة سبع وستين ومئة. فدل ذلك المكتوب على أن الكعبة المقدسة في وسط المسجد، وكان يظن بها الانحراف جهة باب الصفا، فاختبرنا جوانبها المباركة بالكيل، فوجدنا الأمر صحيحاً حسبما تضمنه رسم السارية.

وتحت ذلك النقش في أسفل السارية منقوش أيضاً: امر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين، أصلحه الله، بتوسعة الباب الأوسط، الذي بين هاتين الأسطوانتين، وهو طريق رسول الله، ، الصفا.

وفي أعلى السارية التي تليها منقوش أيضاً: أمر عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين، أصلحه الله، بصرف الوادي مجراه على عهد أبيه ابراهيم، الله عليه وسلم، وتوسعته بالرحاب التي حول المسجد الحرام لحاج بيت الله وعمارة. وتحتها أيضاً منقوش ماتحت الأول من ذكر توسعة الباب الأوسط. والوادي المذكور هو الوادي المنسوب لإبراهيم، ،ومجرا على باب الصفا المذكور، وكان السيل قد خالف مجراه فكان يأتي على المسيل بين الصفا والمروة ويدخل الحرام، فكان مةة بالأمطار يطاف حول الكعبة سبحاً، فأمر المهدي، رحمه الله، برفع موضع في أعلى البلد يسمى رأس الردم، فمتى جاء السيل عرج عن ذلك الردم مجراه واستمر على باب ابراهيم الموضع الذي يسمى المسلفة ويخرج عن البلد ولايجري الماء فيه إلا عند نزول ديم المطر الكثير. وهو الوادي الذي عنى، ، بقوله حيث حكى الله تبارك وتع عنه: رنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع، فسحان من أبقى له الآيات البينات.

ذكر مكة المكرمة واثارها

هي بلدة قد وضعها الله عز وجل بين جبال محدقة بها، وهي بطن واد مقدس، كبيرة مستطيلة، تسع من الخلائق مالا يحصيه إلا الله عز وجل. ولها ثلاثة أبواب: أولها باب المعلى، ومنه يخرج الجبانة المباركة، وهي بالموضع الذي يعرف بالحجون. وعن يسار المار إليها جبل في أعلاه ثنية عليها علم شبيه البرج، يخرج منها طريق المعرة، وتلك الثنية تعرف بكداء، وهي التي عنى حسان بقوله في شعره:

تثير النقع موعدها كداء

فقال النبي، ، يوم الفتح: ادخلوا من حيث قال حسان. فدخلوا من تلك الثنية. وهذا الموضع الذي يعرف بالحجون هو الذي عناه الحارث بن مضاض الجرهمي بقوله:

كأن لم يكن بين الحجون الصفـا أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلهـا فـأبـادنـا صروف الليالي والجدود العواثر.

وبالجبانة المذكورة مدفن جماعة من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين قد دثرت مشاهدهم المباركة وذهبت عن أهل البلد أسماؤهم. وفيه الموضع الذي صلب فيه الحجاج بن يوسف، جازاه الله، جثة عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما. وعلى الموضع بقية علم ظاهر اليوم، وكان عليه مبنى مرتفع، فهدمه أهل الطائف غيرة منهم على ما كان يجدد من لعنة صاحبهم الحجاج المذكور. وعن يمينك، اذا استقبلت الجبانة المذكورة، مسجد في مسيل بين جبلين، يقال إنه المسجد الذي بايعت فيه الجن النبي، ، وشرف وكرم.

وعلى هذا الباب المذكور طريق الطائف وطريق العراق والصعود عرفات، وجعلنا الله ممن يفوز بالموقف فيها. وهذا الباب المذكور بين الشرف والشمال، وهو المشرق أميل.

ثم باب المسفل: وهو جهة الجنوب، وعليه طريق اليمن، ومنه كان دخول خالد بن الوليد، رضي الله عنه، يوم الفتح.

ثم باب الزاهر: ويعرف أيضاً بباب العمرة، وهو غربي، وعليه طريق مدينة الرسول، ، وطريق الشام وطريق جدة، منه يتوجه التنعيم، وهو أقرب ميقات المعتمرين، يخرج من الحرم إليه على باب العمرة، ولذلك أيضاً يسمى هو بهذا الاسم.

والتنعيم من البلدة على فرسخ، وهو طريق حسن فسيح، فيه الآبار العذبة التي تسمى بالشبيكة.

وعندما تخرج من البلدة بنحو ميل تلقى مسجداً بإزائه حجر موضوع على الطريق كالمصطبة يعلوه حجر آخر مسند فيه نقش دائر الرسم يقال إنه الموضع الذي قعد فيه النبي، ، مستريحاً عند مجيئه من العمرة. فيتبرك الناس بتقبيله مسح الخدود فيه، وحق ذلك لهم، ويستندون إليه لتنال اجسامهم بركة لمسه. ثم بعد هذا الموضع بمقدار غلوة تلقى على قارعة الطريق، من جهة اليسار للمتوجه العمرة، قبرين قد علتهم أكوام من الصخر عظام، يقال إنهما قبرا أبي لهب وامرأته، لعنهما الله، فما زال الناس في القديم هلم جراً يتخذون سنة رجمهما بالحجارة حتى علاهما من ذلك جبلان عظيمان.

م تسير منها بمقدار ميل وتلقى الزاهر، وهو مبتنى على جانبي الطريق، يحتوي على دار وبساتين، والجميع ملك أحد المكيين، وقد أحدث في المكان مطاهر وسقاية للمعتمرين. وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيرزان الماء ومراكن مملؤة للوضوء، وهي القصاري الصغار. وفي الموصع بئر عذبة يملأ منها المطاهر المذكورة فيجد المعتمرون فيها مرفقاً كبيراً للطهور والموضوء والشرب. فصاحبها على سبيل معمورة بالاجر والثواب.

وكثير من الناس المتاجرين من يعينه على ما هو بسبيله. وقيل: أن له من ذلك فائداً كبيراً.

وعن جانبير الطريق في هذا الموضع جبال أربعة: جبلان من هنا، وجبلان من هنا، عليها اعلام من الحجارة، وذكر لنا أنها الجبال المباركة التي جعل ابراهيم، عليه السلام، عليها أجزاء الطير ثم دعاهن حسبما حكى الله، عز وجل، سؤاله إياه جل وتع أن يريه كيف يحيي الموتى. وحول تلك الجبال الأربعة جبال غيرها، وقيل: أن التي جعل ابراهيم عليها الطير سبعة منها، والله أعلم.

وعند إجازتك الزاهر المذكور تمر بالوادي المعروف بذي طوى الذي ذكر أن النبي، ، نزل فيه عند دخوله مكة، وكان ابن عمر، رضي الله عنهما، يغتسل فيه وحينئذ يدخلها. وحوله آبار تعرف بالشبيكة، وفيه مسجد يقال انه مسجد ابراهيم، عليه السلام، فتأمل بركة هذا الطريق ومجموع الآيات التي فيه والآثار المقدسة التي اكتنفته.

وتجيز الوادي مضيق تخرج منه الأعلام التي وضعت حجزاً بين الحل والحرام، فما دخلها مكة حرم وما خارجها حل، وهي كالأبراج مصفوفة كبار وصغار واحد بازاء آخر، وعلى مقربة منه تأخذ من أعلى الجبل الذي يعترض عن يمين الطريق في التوجه العمرة، وتشق الطريق أعلى الجبل عن يساره، ومنه ميقات المعتمرين، وفيها مساجد مبنية بالحجارة ي المعتمرون فيها ويحرمون منها.

ومسجد عائشة، رضي الله عنها، خارج هذه الأعلام بمقدار غلوتين، واليه يصل المالكيون ومنه يحرمون. وأما الشافعيون فيحرمون من المساجد التي حول الأعلام المذكورة. وامام مسجد عائشة، رضي الله عنها، مسجد ينسب لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

ومن عجيب ما عرض علينا بباب بني شيبة المذكور عتب من الحجارة العظام طوال كأنها مصاطب صفت أمام الأبواب الثلاثة المنسوبة لبني شيبة، ذكر لنا أنها الأصنام التي كانت قريش تعبدها في جاهليتها، وكبيرها هبل بينها، قد كبت على وجوهها، تطؤها الأقدام وتمتهنها بأنعلتها العوام، ولم تغن عن أنفسها فضلاً عن عابديها شيئاً، فسبحان المنفرد بالوحدانية لا اله سواه. والصحيح في أمر تلك الحجارة أن النبي، الله عليه وسلم. أمر يوم فتح مكة بكسر الأصنام واحراقها. وهذا الذي نقل إلينا غير صحيح وإنما تلك التي على الباب حجارة منقولة وعني القوم بتشبهها الأصنام لعظمها. ومن جبال مكة المشهورة، بعد جبل أبي قبيس، جبل حراء، وهو في الشرق على مقدار فرسخ أو نحوه مشرف على منى، وهو مرتفع في الهواء عالي القنة، وهو جبل مبارك، كان النبي، الله عليه وسلم، كثيراً ما ينتابه ويتعبد فيه، واهتز تحته فقال له النبي، الله عليه وسلم: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد"، وكان معه أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما.ويروي: "أثبت فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان"، وكان عثمان،رضي الله عنه، معهم، وأول آية نزلت من القرآن على النبي، الله عليه وسلم، في الجبل المذكور وهو آخذ من الغرب الشمال، ووراء طرفه الشمالي جبانة الحجون التي تقدم ذكرها. وسور مكة إنما كان من جهة المعلى وهو مدخل البلد، ومن جهة المسفل وهو مدخل أيضاً إليه. ومن جهة باب العمرة وسائر الجوانب جبال لا يحتاج معها سور. وسورها اليوم منهدم إلا آثاره الباقية وأبوابه القائمة.

ذكر بعض مشاهدها المقدسة، وآثارها المعظمة

مكة، شرفها الله، كلها مشهد كريم، كفاها شرفاً ما خصها الل به من مثابة بيته العظيم وما سبق لها من دعوة الخليل إبراهيم وإنها حرم الله وأمنه، وكفاها أنها منشأ النبي، الله عليه وسلم، الذي آثره الله بالتشريف والتكريم وابتعثه بالآيات والذكر الحكيم، فهي مبدأ نزول الوحي والتنزيل وأول مهبط الروح الأمين جبريل، وكانت مثابة أنبياء الله ورسله الأكرمين، وهي أيضاً مسقط رؤوس جماعة من الصحابة القرشيين المهاجرين الذين جعلهم الله مصابيح الدين ونجوماً للمهتدين.

فمن مشاهدها التي عايناها قبة الوحي، وهي في دار خديجة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وبها كان ابتناء النبي، الله عليه وسلم، بها، وقبة صغيرة أيضاً في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، وفيها أيضاً ولدت سيدي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين، رضي الله عنهما، وهذه المواضع المقدسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناء يليق بمثلها. ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبي، الله عليه وسلم، والتربة الطاهرة التي هي أول تربة مست جسمه الظاهر، بني عليها مسجد لم ير أحفل بناء منه، أكثره ذهب منزل به. والموضع المقدس الذي سقط فيه، الله عليه وسلم، ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين محفوف بالفضة. فيا لها تربة شرفها الله بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الأنام، الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام وسلم تسليماً. يفتح هذا الموضع المبارك فيدخله الناس كافة متبركين به في شهر ربيع الأول ويوم الاثنين منه، لأنه كان شهر مولد النبي، الله عليه وسلم، وفي اليوم المذكور ولد، الله عليه وسلم، وتفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها. وهو يوم مشهود بمكة دائماً.

ومن مشاهدها الكريموةأيضاً دار الخيزران، وهي الدار التي كان النبي، الله عليه وسلم، يعبد الله فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه، رضي الله عنهم، حتى نشر الله الإسلام منها على يدي الفاروق عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، وكفى بهذه الفضيلة. ومن مشاهدها أيضاً دار أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وهي اليوم دارسة الأثر، ويقابلها جدار فيه حجر مبارك يتبرك الناس بلمسه، يقال: إنه كان يسلم على النبي، الله عليه وسلم، متى اجتاز عليه. وذكر أنه جاء يوماً، الله عليه وسلم دار أبي بكر،رضي الله عنه، فنادى به ولم يكن حاضراً فأنطق الله عز وجل الحجر المذكور، وقال: يا رسول الله ليس بحاضر. وكانت إحدى آياته المعجزات، الله عليه وسلم.

ومن مشاهدها قبة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي وسطها بئر يقال أنه كان يجلس فيها للحكم، رضي الله عنه. والصحيح في هذه القبة أنها قبة حفيده عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وبإزاء داره المنسوبة إليه، وفيها كان يجلس للحكم أيام توليه مكة. كذلك حكى لنا أحد أشياخنا الموثوقين. ويقال أن البئر كانت في القديم فيها، ولا بئر فيها الآن لأنا دخلناها فالفيناها مسطحة، وهي حفيلة الصنعة.

وكانت بمقربة من الدار التي نزلنا فيها دار جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، ذي الجناحين.

وبجهة المسفل، وهو آخر البلد، مسجد منسوب لأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، يحف به بستان حسن فيه النخل والرمان وشجر العناب، وعاينا فيه شجر الحناء. وأمام المسجد بيت صغير فيه محراب، يقال: أنه كان مختبأ له، رضي الله عنه، من المشركين الطالبين له.

وعلى مقربة من دار خديجة، رضي الله عنها، المذكورة، وفي الزقاق الذي الدار المكرمة فيه مصطبة فيها متكأ يقصد الناس إليها ويصلون فيها ويتمسحون بأركانها، لأن في موضعها كان موضع قعود النبي، الله عليه وسلم.

ومن الجبال التي فيها أثر كريم ومشهد عظيم الجبل المعروف بأبي ثور، وهو في الجهة اليمنية من مكة على مقدار فرسخ أو ازيد. وفيه الغار الذي آوى إليه النبي، الله عليه وسلم، مع صاحبه الصديق، رضي الله عنه، حسبما ذكر الله تع في كتابه العزيز. وقرأت في كتاب أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي: إن الجبل نادى النبي، الله عليه وسلم، فقال: إلي يا محمد! إلي يا محمد! فقد آويت قبلك نبياً. وخص الله، عز وجل، نبيه فيه بآيات فمنها أنه، الله عليه وسلم، دخل مع صاحبه على شق فيه ثلثا شبر وطوله ذراع، فلما اطمأنا فيه، أمر الله العنكبوت فاتخذت عليه بيتاً، والحمام فصنعت عليه عشاً وفرخت فيه. فانتهى المشركون إليه بدليل قصاص للأثر مستاف أخلاق الطريق، فوقف لهم على الغار وقال: ههنا انقطع الأثر، فأما صعد بصاحبكم من ههنا السماء أوغيض به في الأرض. ورأوا العنكبوت ناسجة على فم الغار والحمام مفرخة فيه، فقالوا: ما دخل هنا أحد. فأخذوا في الانصراف. فقال الصديق، رضي الله عنه: يا رسول الله! لو ولجوا علينا من فم الغار ما كنا نصنع? فقال رسول الله، الله عليه وسلم: "لو ولجوا علينا منه كنا نخرج من هناك، وأشار بيده المباركة الجانب الآخر من الغار، ولم يكن فيه شق، فانفتح للحين فيه باب، بقدر الله عز وجل، وهو سبحانه قدير على ما يشاء.

وأكثر الناس ينتابون هذا الغار المبارك ويتجنبون دخوله من الباب الذي أحدث الله عز وجل فيه، ويرومون دخوله من الشق الذي دخل النبي، الله عليه وسلم، منه تبركاً به. فيمتد المحاول لذلك على الأرض ويبسط خده بإزاء الشق ويولج يديه ورأسه أولاً ثم يعالج ادخال سائر جسده. فمنهم من يتأتى له ذلك بحسب قضافة بدنه، ومنهم من يتوسط بدنه فم الغار فيعضه فيروم الدخول أو الخروج فلا يقدر فينشب ويلاقي مشقة وصعوبة، حتى يتناول بالجذاب العنيف من ورائه.

فالعقلاء من الناس يجتنبونه لهذا السبب، ولا سيما ويتصل به سبب آخر مخجل فاضح، وذلك أن عوام الناس يزعمون أن الذي لا يسع عليه ويمتسك فيه ولا يلجه ليس لرشدة. جرى هذا الخبر على السنتهم حتى عاد عندهم قطعاً على صحته لا يشكون. فبحسب المتشب فيه المتعذر ولوجه عليه ما يكسوه هذا الظن الفاضح المخجل، زائداً ما يكابده بدنه من اللز في ذلك المضيق وإشرافه منه على المنية توجعاً وانقطاع نفس وبرح ألم. فالبعض من الناس يقولون في مثل: ليس يصعد جبل ألي ثور إلا ثور.

وعلى مقرلبة من هذا الغار في الجبل بعينه عمود منقطع من الجبل، قد قام شبه الذراع المرتفعة بمقدار شبه القامة، وانبسط له في أعلاه شبه الكف، خارجاً عن الذراع، كأنه القبة المبسوطة، بقدرة الله عز وجل، يستظل تحتها نحو العشرين رجلاً، وتسمى قبة جبريل، الله عليه وسلم. ومما يجب أن يثبت ويؤثر، لبركة معاينته وفضل مشاهدته: أن في يوم الجمعة التاسع عشر من جمادى الأولى، وهو التاسع من ستنبر، أنشأ الله بحرية فتشاءمت فانهلت عيناً غديقة،كما قال رسول الله، الله عليه وسلم، وذلك أثر صلاة العصر ومع العشي من اليوم المذكور، فجاءت بمطر جود. وتبادر الناس الحجر فوقفوا تحت المزاب المبارك متجردبن عن ثيابهم، يتلقون الماء الذي يصبه الميزاب برؤوسهم وأيديهم وأفواههم مزدحمين عليه ازدحاماً عظيماً، أحدث ضوضاء عظيمة، كل يحرص على أن ينال جسمه من رحمة اله نصيباً، ودعاؤهم قد علا، ودموع أهل الخشوع منهم تسيل، فلا تسمع إلا ضجيج دعاء، أو نشيج بكاء. والنساء قد وقفن خارج الحجر ينظرن بعيون دوامع، وقلوب خواشع، يتمنين ذلك الموقف لو ظفرن به.

وكان بعض الحجاج المتأجرين المشفقين يبل ثوبه بذلك الماء المبارك ويخرج إليهن ويعصره في أيدي البعض منهن، فيتلقينه شرباً ومسحاً على الوجوه والأبدان.

وتمادت تلك السحابة المباركة قريب المغرب، وتمادى الناس على تلك الحال من الإزدحام على تلقي ماء الميزاب بالأيدي والوجوه والأفواه، وربما رفعوا الأواني ليقع فيها. فكانت عشية عظيمة استشعرت النفوس فيها الفوز بالرحمة ثقة بفضله وكرمه لما اقترن بها من القرائن المباركة، فمنها: أنها كانت عشية الجمعة وفضل اليوم فضله، والدعاء فيها يرجى من اله تع قبوله، لما ورد فيها من الأثر الصحيح، وأبواب السماء تفتح عند نزول المطر. وقد وقف الناس تحت الميزاب، وهو من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء، وطهرت أبدانهم رحمة الله النازلة من سمائه سطح بيته العتيق الذي هو حيال البيت المعمور، وكفى بهذا المجتمع الكريم والمنتظم الشريف، جعلنا الله ممن طهر فيه من أرجاس الذنوب، واختص من رحمة الله تع بذنوب، ورحمته سبحانه واسعة تسع عباده المذنبين، إنه غفور رحيم.

وذكروا أن الإمام أبا حامد الغزالي دعا الله عز وجل بدعوات، وهو في حرمه الكريم، في رغبات رفعها الله جل وتع، فأعطي بعضاً ومنع بعضاً. وكان مما منع نزول المطر وقت مقامه بمكة، وكان تمنى أن يغتسل به تحت الميزاب ويدعو الله عز وجل عند بيته الكريم في الساعة التي أبواب سمائه فيها مفتوحة فمنع ذلك وأجيب دعاؤه في سائر ما سأله.فله الحمد وله الشكر على ما أنعم به علينا. ولعل عبداً من عباده الصالحين الوافدين على بيته الكريم خصه الله بهذه الكرامة، فدخلنا، جميع المذنبين، في شفاعته، والله ينفعنا بدعاء المخلصين من عباده ولا تجعلنا ممن شقي بدعائه، إنه منعم كبير.

ذكر ما خص الله تعالى به مكة من الخيرات والبركات

هذه البلدة المباركة سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الإبراهيمية، وذلك أن الله عز وجل يقول حاكياً عن خليله، الله عليه وسلم:فأجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات، لعلهم يشكرون، وقال عز وجل: "أولم نمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء". فبرهان ذلك فيها ظاهر متصل يوم القيامة، وذلك أن أفئدة الناس تهوي إليها من الأصقاع النائية والأقطار الشاحطة. فالطريق إليها ملتقى الصادر والوارد ممن بلغته الدعوة المباركة. والثمرات تجبى إليها من مكان، فهي أكثر البلاد نعماً وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر.

ولو لم يكن لها من المتاجر إلا أو أن الموسم ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب، فيباع فيها في يوم واحد، فضلاً عما يتبعه، من الذخائر النفيسة كالجواهر، والياقوت، وسائر الأحجار، ومن أنواع الطيب: كالمسك، والكافور، والعنبر والعود؛ والعقاقير الهندية، غير ذلك من جلب الهند وتالحبشة، الأمتعة العراقية واليمانية، غير ذلك من السلع الخراسانية، والبضائع المغربية، مالا ينحصر ولا ينضبط، ما لو فرق على البلاد كلها لأقام لها الأسواق النافقة ولعم جميعها بالمنفعة التجارية، كل ذلك في ثمانية أيام بعد الموسم، حاشا ما يطرأ بها مع طول الأيام من اليمن وسواها فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة إلا وهي موجودة فيها مدة الموسم. فهذه بركة لا خفاء بها وآية من آياتها التي خصها الله بها.

وأما الأرزاق والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المزية على سائر حظوظ البلاد حتى حللنا بهذه البلاد المباركة فألفيناها تغص بالنعم والفواكه: كالتين، والعنب، والرمان، والخيار، جميع البقول كالباذنجان، واليقطين، والسلجم، والجزر، والكرنب، سائرها، غير ذلك من الرياحين العبقة والمشمومات العطرة. وأكثر هذه البقول كالباذنجان والقثاء والبطيخ لا يكاد ينقطع مع طول العام، وذلك من عجيب ما شاهدناه مما يطول تعداده وذكره. ولكل نوع من هذه الأنواع فضيلة موجودة في حاسة الذوق يفضل بها نوعها الموجود في سائر البلاد، فالعجب من ذلك يطول.

ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البطيخ والسفرجل، وكل فواكهها عجب، لكن للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة، وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح وأطيبها، يدخل به الداخل عليك فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك، فيكاد يشغلك الاستمتاع بطيب رياه عن أكلك إياه، حتى إذا ذقته خيل إليك أنه شيب بسكر مذاب أو بجنى النحل اللباب، ولعل متصفح هذه الأحرف يظن أن في الوصف بعض غلو، كلا لعمر الله! أنه لأكثر مما وصفت وفوق ما قلت، وبها عسل أطيب من الماذي المضروب به المثل يعرف عندهم بالمسعودي.

وأنواع اللبن بها في نهاية من الطيب، وكل ما يصنع منها من السمن، فإنه لا تكاد تميزه من العسل طيباً ولذاذة. ويجلب إليها قوم من اليمن يعرفون بالسرور نوعاً من الزبيب الأسود والأحمر في نهاية الطيب، ويجلبون معه من اللوز كثيراً. وبها قصب السكر أيضاً كثير، يجلب من حيث تجلب البقول التي ذكرناها والسكر بها كثير مجلوب وسائر النعم والطكيبات من الرزق، والحمد لله.

وأما الحلوى فيصنع منها أنواع غريبة من العسل والسكر المعقود على صفات شتى، أنهم يصنعون بها حكايات جميع الفواكه الرطبة واليابسة. وف يالأشهر الثلاثة: رجب، وشعبان، ورمضان، يتصل منها أسمطة بين الصفا والمروة، ولم يشاهد أحد أكمل منظراً منها لا بمصر ولا بسواها، قد صورت منها تصاوير إنسانية وفاكهية وجليت في منصات كأنها العرائس ونضدت بسائر أنواعها المنضدة الملونة، فتلوح كأنها الأزاهر حسناً، فتقيد الأبصار وتستنزل الدراهم والدينار.

وأما لحوم ضأنها فهناك العجب العجيب، قد وقع القطع من كل من تطوف على الآفاق وضرب نواحي الأقطار أنها أطيب لحم يؤكل في الدنيا. وما ذاك، والله أعلم، إلا لبركة مراعيها، هذا على افراط سمنه، ولو كان سواء من لحوم البلاد ينتهي ذلك المنتهى في السمن للفظته الأفواه زهماً ولعافته وتجنبته. والأمر في هذا بالضد، كلما ازداد سمناً زادت النفوس فيه رغبة والنفس له قبولاً، فتجده هنيئاً رخصاً يذوب في الفم قبل أن يلاك مضغاً، ويسرع لخفته عن المعدة انهضاماً. وما أرى ذلك إلا من الخواص الغريبة، وبركة البلد الأمين قد تكلفت بطيبه لا شك فيه. والخبر عنه يضيق عن الخبر له، والله يجعل فيه رزقاً لمن تشوق بلدته الحرام، وتمنى هذه المشاهد العظام، والمناسك الكرام، يعزته وقدرته.

وهذه الفواكه تجلب إليها من الطائف، وهي على مسيرة ثلاثة أيام منها، على الرفق والتؤدة، ومن قرى حولها. وأقرب هذه المواضع يعرف بأدم، هو من مكة على مسيرة يوم أو أزيد قليلاً، وهو من بطن الطائف، ويحتوي على قرى كثيرة، ومن بطن مر، وهو على مسيرة يوم أو أقل؛ ومن نخلة، وهي على مثل هذه المسافة؛ ومن أودية بقرب من البلد كعين سليمان وسواها، قد جلب الله إليها من المغاربة ذوي البصارة بالفلاحة والزراعة فأحدثوا فيه بساتين ومزارع، فكانوا أحد الأسباب في خصب هذه الجهات، وذلك بفضل الله، عز وجل، وكريم اعتنائه بحرمه الكريم، وبلده الأمين. ومن أغرب ما ألفيناه فاستمتعنا بأكله وأجرينا الحديث بإستطابته، ولا سيما لكوننا لم نعهد، الرطب، وهو عندهم بمنزلة التين الأخضر في شجره يجنى ويؤكل، وهو في نهاية من الطيب واللذاذة، لا يسأم التفكه به، وابانه عندهم عظيم، يخرج الناس إليه كخروجهم الضيعة أو كخروج أهل المغرب لقراهم أيام نضج التين والعنب، ثم بعد ذلك عند تناهي نضجه يبسط على الأرض قدر ما يجف قليلاً ثم يركم بعضه على بعض في السلاسل والظروف ويرفع.

ومن صنع الله الجميل وفضله العميم علينا أنا وصلنا هذه البدة المكرمة فألفينا كل من بها من الحجاج المجاورين ممن قدم عهده فيها وطال مقامه بها يتحدث على جهة العجب بأمنها من الحرابة المتلصصين فيها على الحاج المختلسين ما بأيديهم والذين كانوا آفة الحرم الشريف، لا يغفل أحد عن متاعه طرفة عين إلا اختلس من يديه أو من وسطه بحيل عجيبة ولطافة غريبة، فما منهم إلا أحذ يد القميص، فكفى الله في هذا العام شرهم إلا القليل، وأظهر أمير البلاد التشديد عليهم فتوقف شرهم، وبطيب هوائها في هذا العام، وفتور حمارة قيظها المعهود فيها، وانكسار حدة سمومها. وكنا نبيت في سطح الموضع الذي كنا نسكنه، فربما يصيبنا من برد هواء الليل ما نحتاج معه دثار يقينا منه. وذلك أمر مستغرب بمكة.

وكانوا أيضاً يتحدثون بكثرة نعمها في هذا العام، ولين سعرها، وأنها خارقة للعوائد السالفة عندهم. كان سوم الحنطة أربعة اصواع بدينار مؤمني، وهي أو بتان من كيل مصر وجهاتها، والأوبتان قد حان ونصف قدح من الكيل المغربي. وهذا السعر في بدل لاضيعة فيه ولاقوام معيشة لأهله الا بالميرة المجلوبة اليه سعر لاخفاء بيمنه وبركته على كثرة المجاورين فيها في هذا العام وانجلاب الناس اليها وترادفهم عليها. فحدثنا غير واحد من المجاورين الذين لهم بها سنون طائلة أنهم لم يروا هذا الجمع بها قط، ولا سمع بمثله فيها. والله يجعله جمعً مرحوماً معصوماً بمنه. ومازال الناس فيها يسلسلون أوصاف أحوالها في هذه السنة وتمييزها عما سلف من السنين، حتى لقد زعموا أن ماء زمزم المبارك زاد عذوبة ولم يكن قبل بصادقها. وهذا الماء المبارك في أمره عجب، وذلك أنك تشربه عند خروجه من قرارته، فتجده في حاسة الذوق كاللبن عند خروجه من الضرع دفيئاً، وتلك فيه من الله تع آية وعناية، وبركته أشهر من أن تحتاج لوصف واصف، وهو لما شرب له كما قال، الله وسلم، أروى الله منه كل ظامئ اليه، بعزته وكرمه.

ومن الأمور المجربة في هذا الماء المبارك أن الإنسان ربما وجد مس الإعياء وفتور الأعضاء اما من كثرة الطواف أو من عمرة يعتمرها على قدميه أو من غير ذلك من الأسباب المؤدية تعب البدن، فيصب من ذلك الماء على بدنه فيجد الراحة والنشاط لحينه ويذهب عنه ماكان أصابه.

شهر جمادى الآخرة، عرفنا الله يمنه وبركته

استهل هلاله ليلة الأربعاء، وهو الحادي والعشرون من شهر شتنبر العجمي، ونحن بالحرم المقدس، زاده تعظيماً وتشريفاً. وفي صبيحة الليلة المذكورة وافى الأمير مكثر باتباعه وأشياعه، على العادة السالفة المذكورة في الشهر الاول، وعلى ذلك الرسم بعينه، والزمزمي المغرد بثنائه والدعاء له فوق قبة زمزم، يرفع عقيرته بالدعاء والثناء عند كل شوط يطوفه الأمير، والقراء أمامه، أن فرغ من طوافه، وأخذ في طريق انصرافه.

ولأهل هذه الجهات المشرقية كلها سيرة حسنة، عند مستهل كل شهر من شهور العام يتصافحون وينهئ بعضهم بعضاً ويتغافرون ويدعو بعضهم لبعض، كفعلهم في الأعياد، هكذا دائماً. وتلك طريقة من الخير واقعة في النفوس، تجدد الإخلاص وتستمد الرحمة من الله، عز وجل، بمصافحة المؤمنين بعضهم بعضاً وبركة مايتهادونه من الدعاء. والجماعة رحمة، ودعاؤهم من الله بمكان.

حماما مكة، ومناقب جمال الدين

ولهذه البلدة المباركة حمامان: أحدهما ينسب للفقيه الميانشي، أحد الأشياخ المحلقين بالحرم المكرم، والثاني، وهو الأكبر، ينسب لجمال الدين، وكان هذا الرجل كصفته جمال الدين، له، رحمة الله، بمكة والمدينة، شرفهما الله، من الآثار الكريمة والصنائع الحميدة والمصانع المبنية في ذات الله المشيدة مالم يسبقه أحمد اليه فيما سلف من الزمان ولا أكابر الخلفاء فضلاً عن الوزراء.

وكان، رحمه الله، وزير صاحب الموصل، تمادى على هذه المقاصد السنية المشتملة على المنافع العامة للمسلمين في حرم الله تع وحرم رسوله،، أكثر من خمس عشرة سنة، ولم يزل فيها باذلاً أموالاً لاتحصى في بناء رباع بمكة مسبلة في طرق الخير والبر، مؤيدة، محبسة، واختطاط صهاريج للماء، ووضع جباب في الطرق يستقر فيها ماء المطر، تجديد آثار من البناء في الحرمين الكريمين.

وكان من أشرف أفعاله أن جلب الماء عرفات وقاطع عليه العرب بني شعبة، سكان تلك النواحي المجلوب منها الماء، بوظيفة من المال كبيرة على أن لايقطعوا الماء عن الحاج، فلما توفي الرجل، رحمه الله عليه، عادوا عادتهم الذميمة من قطعه.

ومن مفاخره ومناقبه أيضاً أنه جعل مدينة الرسول، ، تحت سورين عتيقين أنفق فيهما أموالاً لاتحصى كثرة. ومن أعجب ما وفقه الله تع اليه أنه جدد أبواب الحرم كلها.

وجد باب الكعبة المقدسة وغشاه فضة مذهبة، وهو الذي فيها الآن حسبما تقدم وصفه، وجلل العتبة المباركة بلوح ذهب ابريز، وقد تقدم ذكره أيضاً. فأخذ الباب القديم وأمر بأن يصنع له منه تابوت يدفن فيه، فلما حانت وفاته أوصى بأن يوضع في ذلك التابوت المبارك ويحج يه ميتاً. فسيق عرفات ووقف به على بعد وكشف عن التابوت، فلما أفاض الناس أفيض به وقضيت له المناسك كلها وطيف به طواف الافاضة، وكان الرجل، رحمه الله، لم يحج في حياته. ثم حمل مدينة الرسول، ، وله فيها من الآثار الكريمة ما قدمنا ذكره، وكاد أشرافها يحملونه على رؤوسهم. وبنيت له روضة بإزاء روضة المصطفى، الله عليه وسلم، وفتح فيها موضع يلاحظ الروضة المقدسة، وأبيح له ذلك على شدة الضنانة بمثله لسابق أفعاله الكريمة، ودفن في تلك الروضة، وأسعده الله بالجوار الكريم، وخصه بالمواراة في تربة التقديس والتعظيم، والله لا يضيع أجر المحسنين، وسنذكر تاريخ وفاته إذا وقفنا عليه من التاريخ الثابت في روضته، إن شاء اله عز وجل، وهو ولي التيسير، لا رب غيره.

ولهذا الرجل، رحمه الله، من الآثار السئية والمفاخر العلية التي لم يسبقه إليها الأكابر الأجواد وسراة الأمجاد فيما سلف من الزمان ما يفوت الإحصاء ويستغرق الثناء ويتصحب طول الأيام من الألسنة الدعاء، وحسبك أنه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمين بجهة المشرق من العراق الشام الحجاز، حسبما نذكره، واستنبط المياه، وبنى الجباب، واختط المنازل في المفازات، وأمر بعمارتها مأوى لأبناء السبيل وجميع المسافرين، وابتنى بالمدن المتصلة من العراق الشام فنادق عينها لمزول الفقراء أبناء السبيل الذين يضعف أحدهم عن تأدية الأكرية، وأجرى على قومة تلك الفنادق والمنازل ما يقوم بمعيشتهم، وعين لهم ذلك في وجوه تأبدت لهم، فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على حالها الآن. فسارت بجميل ذكر هذا الرجل الرفاق، وملئت ثناء عليه الآفاق.

وكان مدة حياته بالموصل، على ما اخبرنا به غير واحد من ثقات الحجاج التجار ممن شاهد ذلك، قد اتخذ دار كرامة واسعة الفناء فسيحة الأرجاء يدعو إليها كل يوم الجفلى من الغرباء فيعمهم شبعاً ورياً، ويرد الصادر والوارد من أبناء السبيل في ظله عيشاً هنيئاً، لم يزل على ذلك مدة حياته، رحمه الله. فبقيت آثاره مخلدة، وأخباره بألسنة الذكر مجددة، وقضى حميداً سعيداً، والذكر الجميل للسعداء حياة باقية، ومدة من العمر ثانية، والله الكفيل بجزاء المحسنين عباده، فهو أكرم الكرماء، وأكفل الكفلاء.

منع النفقة لإصلاح الحرم

ومن الأمور المحظورة في هذا الحرم الشريف، زاده الله تعظيماً وتكريماً أن النفقة فيه ممنوعة، لا يجد من ذوي اليسار إليها سبيلاً في تجديد بناء أو إقامة حطيم أو غير ذلك مما يختص بالحرم المبارك. ولو كان الأمر مباحاً في ذلك لجعل الراغبون في نفقات البر من أهل الجدة حيطانه عسجداً وترابه عنبراً، لكنهم لا يجدون السبيل ذلك، فمتى ذهب أحد أرباب الدنيا تجديد أثر من آثاره أو إقامة رسم كريم من رسومه أخذ إذن الخليفة في ذلك. فإن كان مما ينقش عليه أويرسم فيه طرز باسم الخليفة ونفوذ أمره بعمله ولم يذكر اسم المتولي لذلك. ولا بد مع ذلك من بذل حظ وافر من النفقة لأمير البلد ربما يوازي قدر المنفوق فيه. فتضاعف المؤونة على صاحبه وحينئذ يصل غرضه من ذلك.

ومن أغرب ما اتفق لأحد دهاة الأعاجم، ذوي الملك والثراء، أنه وصل الحرم الكريم، مدة حد هذا الأمير مكثر، فرأى تنور بئر زمزم وقبتها على صفة لم يرضها. فاجتمع بالأمير، وقال: أريد أن أتأنق في بناء تنور زمزم وطيه وتجديد قبته، وأبلغ في ذلك الغاية الممكنة، وأنفق من صميم مالي، ولك علي في ذلك شرط أبلغ بالتزامه لك الغرض المقصود، وهو أن تجعل ثقة من قبلك يقيد مبلغ النفقة في ذلك، فإذا استوفى البناء التمام، وانتت النفقة منتهاها، وتحصلت محصاة، بذلت لك مثلها جزاء على إباحتك لي ذلك.

فاهتز الأمير طمعاً، وعلم أن النفقة في ذلك تنتهي آلاف من الدنانير، على الصفة التي وصفها له، فأباح له ذلك، وألزمه مقيداً يحصي قليل الإنفاق وكثيره. وشرع الرجل في بنائه واحتفل واستفرغ الوسع وتأنق وبذل المجهود، فعل من يقصد بفعله ذات الله عز وجل ويقرضه قرضاً حسناً. والمقيد يسود طواميره بالتقييد، والأمير يتطلع ما لديه، ويؤمل لقبض تلك النفقات الواسعة بسط يديه، أن فرغ البناء على الصفة التي تقدم ذكرها أولاً عند ذكر بئر زمزم وقبته، فلما لم يبق إلا أن يصبح صاحب النفقة بالحساب ويستقضي منه العدد المجتمع فيها، خلا منه المكان، وأصبح في خبر كان، وركب الليل جملاً، وأصبح الأمير يقلب كفيه، ويضرب أصدريه، ولم يمكنه أن يحدث في بناء وضع في حرم الله تع حادثاً يحيله، أو نقضاً يزيله، وفاز الرجل بثوابه، وتكفل الله به في انقلابه وتحسين مآبه: "وما انفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" وبقي خبر هذا الرجل مع الأمير يتهادى غرابة وعجباً، ويدعو له كل شارب من ذلك الماء المبارك.

رحلة ابن جبير
في الاندلس | أهوال البحر | البشرى بالسلامة | شهر ذي الحجة من السنة المذكورة | ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها | منار الإسكندرية | مناقب الإسكندرية | ذكر مصر والقاهرة | شهر رمضان المعظم | شهر شوال