دمعة وابتسامة (1914)/حكاية صديق
حكاية صديق
عرفته فتى ضائعًا في مسالك حياته، محكومًا بمفاعيل شبيبته، مستميتًا في إدراك غرض أمياله، عرفته زهرة لينه حملتها رياح النزق إلى لُجَّةِ الشهوات.
عرفته في تلك القرية صبيًّا شرسًا يمزق بيديه أعشاش العصافير ويميت أفراخها، ويسحق برجليه تيجان الأزهار ويبيد محاسنها، وعرفته في المدرسة يافعًا بعيدًا عن الاقتباس، قربيًا من الغطرسة، عدوًّا للسكينة، وعرفته في المدينة شابًّا يتاجر بشرف أبيه في سوق الخسائر، ويبذر أمواله في نوادي التهتُّك، ويعطي عاقلته إلى ابنة الكرمة.
ولكني كنت أحبه، أحبه محبة يساورها الأسف ويمازجها الإشفاق، أحبه لأن منكراته لم تكن نتائج نفس صغيرة بل كانت مآتي نفس ضعيفة قانطة، النفس أيها الناس تميل عن سبل الحكمة مكرهة وتعود إليها مريدة، وللشبيبة أعاصير تهب حاملة غبارًا ورمالًا تملأ الأجفان فتغمضها وتعميها، تعميها إلى أمد بعيد في أكثر المواطن.
أحببت هذا الفتى وكنت مخلصًا له؛ لأنني رأيت حمامة ضميره تغالب نشر سيئاته، فتغلب تلك الحمامة بقوة عدوِّها لا بخيانتها، الضمير قاضٍ عادل ضعيف والضعف واقف في سبيل تنفيذ أحكامه
قلت أحببته والمحبة تأتي بأشكال مختلفة، ففي الحكمة آنًا والعدل آونةََ، والأمل أخرى، فمحبتي له كانت أملي باستظهار نور شمسه الوضعي عَلَى ظلمة متاعبها العرضية، على أنني كنت جاهلًا أنَّى وأين تتبدل الأدرانُ بنقاوة، والشراسة بوداعة، والطيش بحكمة، والإنسان لا يدري كيفية انعتاق النفس من عبودية المادة إلا بعد الانعتاق، ولا يعرف كيف تبتسم الأزهار إلا بعد مجيء الصباح.
مرت الآيات آخذة بأعناق الليالي، وأنا أذكر ذلك الفتى بغصَّات مؤلمة، وأردف لفظ اسمه بتنهدات تجرح القلب وتدمي، حتى وافاني بالأمس كتاب منه قال فيه:
-تعال إلي يا صديقي فأنا أريد أن أجمع بينك وبين فتى يَسُرُّ قلبَك لقاؤه، وتطيب نفسك بمعرفته...
قلت: ويحي! أَيريد أن يشفع صداقته المحزنة بصداقة آخر على شاكلته، أوَلم يكن وحده أمثولة كافية لتعريف آيات الضلال؟ وهل يروم الآن تذليل تلك الأمثولة بآيات رفاقه كي لا يفوتني حرف من كتاب المادة؟ ثم قلت: «أذهب فالنفس تجني من العوسج تينًا بحكمتها.
والقلب يستمد من الظلمة نورًا بمحبته ...ولما جاء الليل ذهبت فوجدت ذلك الفتى منفردًا في غرفته يقرأ كتابًا شعريًّا، فحييته مستغربًا وجود الكتاب بين يديه وقلت: «أين الصديق الجديد؟ قال هو أنا يا خليل هو أنا»، ثم جلس بهدوء ما عهدته فيه، ونظر إلي وفي عينيه نور غريب يخرق الصدر ويحيط بالجوارح، تلك العيون التي طالما تأملتها ولم أَرَ فيها غير العنف والقساوة أصبحتْ تبعث نورًا يملأ القلب انعطافًا، ثم قال بصوت حسبته صادرًا من غيره: «إن ذاك الذي عرفته في الحداثة ورافقته أيام المدرسة وماشَيْته في الشبيبة قد مات، وبموته وُلِدْتُ أنا، أنا صديقك الجديد فخذ بيدي». أخذت يده فشعرت عند الملامسة أن في تلك اليد روحًا لطيفًا يسري مع دماء- تلك اليد العنيفة قد صارت لينة، تلك الأصابع التي شابهت بالأمس مخالب النمر بأعمالها أصبحت تلامس القلب برقتها.ثم قلتوليتني أذكر غرابة ما قلت: «من أنت وكيف سرت وأين صرت؟ هل اتخذك الروح هيكلًا فقدَّسك، أم أنت تمثل أمامي دورًا شعريًّا؟» قال: «أي يا صديقي إن الروح قد حل علي وقدسني، الحب العظيم قد جعل قلبي مذبحًا طاهرًا، هي المرأة يا خليلي- المرأة التي ظننتها بالأمس ألعوبة الرجل، قد أنقذتني من ظلمة الجحيم وفتحت أمامي أبواب الفردوس فدخلت، المرأة الحقيقية قد ذهبت بي إلى أردن محبتها وعمَّدتني، تلك التي احتقرت أختها بغباوتي قد رفعتني إلى عرش المجد، تلك التي دنَّست رفيقتها بجهلي قد طهرتني بعواطفها، تلك التي استبعدت بنات جنسها بالذهب قد حررتني بجمالها ...تلك التي أخرجت آدم الأول من الجنة بقوة إرادتها وضعفه قد أعادتني إلى تلك الجنة بحنوِّها وانقيادي.»
في تلك الدقيقة نظرت إليه فوجدت المدامع تتلألأ في عينيه، والابتسام يراود شفتيه، وشعاع الحب يكلل رأسه، فاقتربت منه وقبَّلت جبهته متبركًا مثلما يقبل الكاهن المذبح، ثم ودعته ورجعت مردِّدًا قوله: «تلك التي أخرجت آدم من الجنة بقوة إرادتها وضعفه، قد أعادتني إلى تلك الجنة بحنوِّها وانقيادي.»