دمعة وابتسامة (1914)/بين الكوخ والقصر
بين الكوخ والقصر
جاء المساءُ وشعشعت أنوار الكهربائية في صرح الغني، فوقف الخدام على الأبواب بملابس مخملية وعلى صدورهم الأزرار اللامعة ينتظرون مجيء المدعوين
صدحت الموسيقى بأنغامها المطرِبة، وتقاطر الأشراف والشريفات تجرهم الخيول المطهمة نحو ذلك القصر فدخلوا يرفلون بالملابس المزركشة، ويجرون أذيال العزازة والفخر.
قام الرجال ودَعَوُا النساء للرقص فوقفن واخترن الأعزاء، وأصبحت تلك المقصورة روضة تمر بها نسيمات الموسيقى فتتمايل أزاهرها تيهًا وإعجابًا.
انتصف الليل فمدت سفرة عليها كل ما عَزَّ من الفاكهة وطاب من الألوان، ودارت الكؤُوس على الجميع فلعبت بنت الكرمة في عقولهم حتى ألعبتهم
جاء الصباح وفرق شمل أولئك الأشراف الأغنياء بعد أن أضناهم السهر، وسرقت عاقلتهم الخمرة، وأتعبهم الرقص، وأذبلهم القصف، وذهب كلٌّ إلى فراشه الناعم
بعد أن غابت الشمس وقف رجل يرتدي أثواب الشغل أمام باب كوخ حقير، وقَرَعَ ففُتح له ودخل وحيَّى مبتسمًا، ثم جلس بين صبية يصطلون بقرب النار، وبعد ردهة هيَّأت زوجته العشاء فجلسوا جميعًا حول مائدة خشبية يلتهمون الطعام، ثم قاموا وجلسوا بقرب مسرجة ترسل سهام أشعتها الصفراء الضعيفة إلى كبد الظلمة
وبعد مرور الهزيع الأول من الليل قاموا بسكينة كلية، واستسلموا لملك الرقاد. جاء الفجر فهَبَّ ذلك الفقير من نومه وأكل مع صغاره وزوجته قليلًا من الخبز والحليب، ثم قبَّلهم وحمل على كتفه معولًا ضخمًا وذهب إلى الحقل ليسقيه من عرق جبينه ويستثمر ويطعم قواه أولئك الأغنياء الأقوياء الذين صرفوا ليلة أمس بالقصف والخلاعة
طلعت الشمس من وراء الجبل، وثقلت وطأة الحر على رأس ذلك الحارث، وأولئك الأغنياء ما برحوا خاضعين لسِنة الكرى الثقيل في صروحهم الشاهقة
هذه مأساة الإنسان المستتبة عَلَى مرسح الدهر، وقد كثر المتفرِّجون المستحسنون وقلَّ من تأمل وعقل