دمعة وابتسامة (1914)/بنات البحر
بنات البحر
في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس – هنالك في الأعماق حيث الدرُّ الكثير جثّة فتىً هامدة بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية قد جلسن بين نبات المرجان ينظرن بعيونهن الزرقاء الجميلة ويتحدثن بأصوات موسيقيّة . حديث سمعته اللجة فحملته الأمواج إلى الشواطئ فجاء به النسيم إلى نفسي .
قالت واحدة : – « هذا بشريٌّ هبط بالأمس اذ كان البحر حانقاً »
فقالت الثانية : « لم يكن البحر حانقاً ولكن الإنسان – وهو الذي يدعي بانه من سلالة الالهة – كان في حرب حامية أهرقت فيها الدماء حتى صار لون الماء قرمز ياً وهذا البشريُّ هو قتيل الحرب . »
فقالت الثالثة :– « لا ادري ما هي الحرب ولكني اعلم ان الانسان بعد ان تغلب عَلَى اليابسة طمع بالسيادة عَلَى البحر فابتدع الآلات الغريبة ومخر العباب فدرى نبتون اله البحار وغضب من هذا التعدي فلم يرَ الانسان بدَّا اذ ذاك من ارضاء مليكنا بالذبائح والهدايا . فالأشلاء التي رأَيناها بالأمس هابطة هي آخر تقدمة من الانسان الى نبتون العظيم»
قالت الرابعة : – « ما اعظم نبتون ولكن ما اقسى قلبه · لو كنت انا سلطانة البحار لمـا رضيت بالذبائح الدموية · تعالين لنرى جثة هذا الشاب فربما افادتنا شيئاً عن طائفة البشر » .
اقتربت بنات البحر من جثمان الشاب وبحثنَ في جيوب اثوابه فعثرن عَلَى رسالة في الثوب الملاصق قلبه فاخذت الرسالة واحدة منهنَ وقرأَت :
« ياحبيبي! – ها قد انتصف الليل وانا ساهرة وليس لي مسلٍّ غير دموعي ولا معزٍّ سوى املي برجوعك اليََ من بين مخالب الحرب ولا اقدر بان افتكر الا بمـا قلتهُ لي عند الوداع بان عند كل انسان امانة من الدمع لا بد من ردها يوما . . . لا ادري ياحبيبي ماذا اكتب بل اترك نفسي تسيل على الورق . نفسٌ يعذبها الشقاء ويعزيها الحب الذي يجعل الالم لذَّة والاحزان مسرًّة .. لما وحد الحب قلبينـا وصرنا نتوقع ضمّ جسمين تجول فيها روح واحدة نادتك الحرب فاتبعتهـا مدفوعاً بعوامل الواجب والوطنية . ما هذا الواجب الذي يفرق المحبين ويرمل النساء وييتم الاطفال ? ما هذه الوطنية التي من اجل اسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد ؟ ما هذا الواجب المحثوم عَلَى القروي المسكين والذي لا يحفل به القوي وابن الشرف الموروث ؟ اذا كان الواجب ينفي السلم من بين الامم ، والوطنية تزعج سكينة حياة الانسان ، فسلام عَلَى الواجب والوطنية ..... لا لا يا حبيبي، لاتحفل بكلامي بل كن شجاعاً ومحباً لوطنك ولا تسمع كلام ابنة اعماها الحب واضاع بصيرتها الفراق ...... اذا كان الحب لا يرجعك اليَّ في هذه الحياة فالحب يضمني اليك في الحياة الاتية »
وضعت بنات البحر تلك الرسالة تحت اثواب الشاب وسبحن بسكينة محزنة ولما بعدن قالت واحدة منهنَّ : – « إن قلب الانسان اقسى من قلب نبتون »