دقائق التفسير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية (مختارات)

تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ)


فصل[عدل]

قال الله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة سورة البقرة 5 قال علي بن أبي طالب الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإن انقطع الرأس بار الجسد ألا لا إيمان لمن لا صبر له

فالصبر على أداء الواجبات ولهذا قرنه بالصلاة في أكثر من خمسين موضعا فمن كان لا يصلي من جميع الناس رجالهم ونسائهم فإنه يؤمر فإن امتنع عوقب بإجماع المسلمين ثم أكثرهم يوجبون قتل تارك الصلاة وهل يقتل كافرا مرتدا أو فاسقا على قولين في مذهب أحمد وغيره والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره وهذا مع الاقرار بالوجوب فإنه مع حجود الوجوب فهو كافر بالاتفاق

ومن ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم وامرهم بأن يصلوا بهم النبي حيث قال صلوا كما رأيتموني أصلي رواه البخاري وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر وقال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي

فعلى إمام الصلاة أن يصلي بالناس صلاة كاملة لا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه إلا لعذر وكذلك على إمامهم في الحج وأميرهم في الحرب ألا ترى الوكيل والولي في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله وهو في مال نفسه يفوت على نفسه ما شاء فأمر الدين أهم ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس صلح الدين للطائفتين والدنيا وإلا اضطربت الأمور عليهم جميعا

وملاك ذلك حسن النية للرعية وإخلاص الدين كله لله عز وجل والتوكل عليه فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة كما أمرنا أن نقول في صلاتنا إياك نعبد وإياك نستعين فهاتان الكلمتان قد قيل إنهما تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء

وروى أنه كان مرة في غزاة فقال يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها

وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله عز وجل فاعبده وتوكل عليه سورة هود 123 وقوله عليه توكلت وإليه أنيب سورة هود 88 سورة الشورى 10 وكان إذا ذبح أضحيته قال منك وإليك

وأصل ذلك المحافظة عل الصلوات بالقلب والبدن والإحسان إلى الناس بالنفع والمال الذي هو الزكاة والصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية وإذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة عرف ما يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه وفي الزكاة من الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثه الملهوف وقضاء حاجة المحتاج وفي الصحيح عن النبي قال كل معروف صدقة فيدخل فيه كل إحسان ولو ببسط الوجه والكلمة الطيبة

ففي الصحيح عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فيستقبل النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة

وفي السنن لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق وفي رواية ووجهك إليه منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقى

وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الأشر والبطر كما قال تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الدين صبروا وعملوا الصالحات الآية سورة هود 9 11

وروى الحسن البصري إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العلق الا ليقم من أجره على الله فلا يقوم الا من عفا وأصلح

وليس من حسن النية للرعية والإحسان اليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه قال تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن سورة المؤمنون 71 وقال لأصحاب نبيه واعملوا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتهم سورة الحجرات 7

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى

هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب في التفسير الا ما هو الخطأ فيها

منها قوله إن الذين آمنوا والذين هادوا الآيتين فهو سبحانه وصف أهل السعادة من الأولين والآخرين وهو الذي يدل عليه اللفظ ويعرف به معناه من غير تناقض ومناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المعروف عند السلف ويدل عليه ما ذكروه من سبب نزولها بالأسانيد الثابتة عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال سلمان سألت النبي عن أهل دين كنت معهم فذكر من عبادتهم فنزلت الآية ولم يذكر فيه أنهم من أهل النار كما روى بأسانيد ضعيفة وهذا هو الصحيح كما في مسلم إلا بقايا من أهل الكتاب

والنبي لم يكن بما لا علم عنده وقد ثبت أنه أثنى على من مات في الفترة كزيد بن عمرو وغيره ولم يذكر ابن أبي حاتم خلافا عن السلف لكن ذكر عن ابن عباس ثم أنزل الله ومن يبتع غير الإسلام دينا الآية ومراده أن الله يبين أنه لا يقبل إلا الإسلام من الأولين والآخرين

وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يظن أن الآية دالة عليه فإن من المعلوم ان من كذب رسولا واحدا فهو كافر فلا يتناوله قوله من آمن بالله الخ

وظن بعض الناس ان الآية فيمن بعث إليهم محمدا خاصة فغلطوا ثم افترقوا على أقوال متناقضة

فصل[عدل]

قال شيخ الإسلام:

فذكر سبحانه قصة مريم والمسيح في هذه السورة المكية التي أنزلها في أول الأمر بمكة في السور التي ذكر فيها أصول الدين التي اتفق عليها الأنبياء ثم ذكرها في سورة آل عمران وهي من السور المدينة التي يخاطب فيها من اتبع الأنبياء من أهل الكتاب والمؤمينن لما قدم عليه نصارى نجران فكان فيها الخطاب لأهل الكتاب فقال تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت أمرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أن السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من الشيطان إلا مريم وابنها ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم وإني أعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم

قال تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب

ثم ذكر قصة زكريا ويحيى ثم قال هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء..... الآيات من سورة آل عمران 38 - 68

فهو سبحانه قد ذكر قصة مريم والمسيح في هاتين السورتين

إحداهما مكية نزلت في أول الأمر مع السور المهدة لأصول الدين وهي سورة كهيعص

والثانية مدنية نزلت بعد أن أمر بالهجرة والجهاد ولهذا تضمنت مناظرة أهل الكتاب ومباهلتهم كما نزلت في براءة مجاهدتهم فأخبر في السور المكية أنها لما انفردت للعبادة أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا

قال أبو وائل علمت أن المتقي ذو نهيه أي تقواه ينهاه عن الفاحشة وأنها خافت منه أن يكون قصده الفاحشة فقالت أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا أي تتقي الله وما يقول بعض الجهال من أنه كان فيهم رجل فاجر اسمه تقي فهو من نوع الهذيان وهو من الكذب الظاهر الذي لا يقوله إلا جاهل ثم قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا

وفي القراءة الأخرى ولأهب لك غلاما ذكيا فأخبر هذا الروح الذي تمثل لها بشرا سويا أنه رسول ربها فدل الكلام على أن هذا الروح عين قائمة بنفسها ليست صفة لغيرها وأنه رسول الله ليس صفة من صفات الله ولهذا قال جماهير العلماء إنه جبريل عليه السلام فإن الله سماه الروح الأمين وسماه روح القدس وسماه جبريل وهكذا عند أهل الكتاب أنه تجسد من مريم ومن روح القدس لكن ضلالهم حيث يظنون أن روح القدس حياة الله وأنه إله يخلق ويرزق ويعبد وليس في شيء من الكتب الإلهية ولا في كلام الأنبياء أن الله سمى صفته القائمة به روح القدس ولا سمى كلامه ولا شيئا من صفاته ابنا وهذا أحد ما تبين به ضلال النصارى وأنهم حرفوا كلام الأنبياء وتأولوه على غير ما أرادت به الأنبياء فإن أصل تثليثهم مبني على ما في أحد الأناجيل من أن المسيح عليه السلام قال لهم عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس فيقال لهم هذا إذا كان قد قاله المسيح وليس في لغة المسيح ولا لغة أحد الأنبياء أنهم يسمون صفة الله القائمة به لا كلمته ولا حياته لا ابنا ولا روح قدس ولا يسمون كلمته ابنا ولا يسمونه نفسه ابنا ولا روح قدس ولكن يوجد فيما ينقلونه عنهم أنهم يسمون المصطفى المكرم ابنا وهذا موجود في حق المسيح وغيره كما يذكرون أنه قال تعالى لإسرائيل أنت ابني بكري أي بني إسرائيل وروح القدس يراد به الروح التي تنزل على الأنبياء كما نزلت على داود وغيره فإن في كتبهم أن روح القدس كانت في داود وغيره وأن المسيح قال لهم أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فسماه أبا للجميع لم يكن المسيح مخصوصا عندهم باسم الابن ولا يوجد عندهم لفظ الابن إلا اسما للمصطفى المكرم لا اسما لشيء من صفات الله القديمة حتى يكون الابن صفة الله تولدت منه وإذا كان كذلك كان في هذا ما يبين أنه ليس المراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية التي يقولون أنها تولدت من الله عندهم مع كونها أزلية ولا بروح القدس حياة الله بل المراد بالابن ناسوت المسيح وبروح القدس ما أنزل عليه من الوحي والملك الذي أنزل به فيكون قد أمرهم بالايمان بالله وبرسوله وبما أنزله على رسوله والملك الذي نزل به وبهذا الذي نزل به وبهذا أمرت الأنبياء كلهم وليس للمسيح خاصة استحق بها أن يكون فيه شيء من اللاهوت لكن ظهر فيه نور الله وكلام الله وروح الله كما ظهر في غيره من الأنبياء والرسل

ومعلوله أن غيره أيضا فيما ينقلونه عن الأنبياء يسمى ابنا وروح القدس حلت فيه وهذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على أن كلام الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضه بعضا وأنه ليس مع النصارى حجة سمعية ولا عقلية توافق ما ابتدعوه ولكن فسروا كلام الأنبياء بما لا يدل عليه وعندهم في الإنجيل أنه قال إن الساعة لا يعلمها الملائكة ولا الابن وإنما يعلمها الأب وحده فبين أن الابن لا يعلم الساعة فعلم أن الابن ليس هو القديم الأزلى وإنما هو المحدث الزماني

فصل موقف الأمم من الرسل[عدل]

وأما قوله تعالى يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة

فهذا حق كما أخبر الله به فمن اتبع المسيح عليه السلام جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكان الذين اتبعوه على دينه الذي لم يبدل قد جعلهم الله فوق اليهود أيضا فالنصارى فوق اليهود الذين كفروا به إلى يوم القيامة

وأما المسلمون فهم مؤمنون به ليسوا كافرين به بل لما بدل النصارى دينه وبعث الله محمدا بدين الله الذي بعث به المسيح وغيره من الأنبياء جعل الله محمدا وأمته فوق النصارى إلى يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال إنا معاشر الأنبياء دينا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا لأنه ليس بيني وبينه نبي

قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين

وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فكل من كان أتم إيمانا بالله ورسله كان أحق بنصر الله تعالى فإن الله تعالى يقول في كتابه إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد

وقال في كتابه ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون

اليهود كذبوا الرسل[عدل]

واليهود كذبوا المسيح ومحمدا كما قال الله فيهم بئسما اشتروا به انفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء عباده فباءوا بغضب على غضب

فالغضب الأول تكذيبهم المسيح والثاني محمدا والنصارى لم يكذبوا المسيح وكانوا منصورين على اليهود والمسلمون منصورون على اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بجميع كتب الله ورسله ولم يكذبوا بشيء من كتبه ولا كذبوا أحدا من رسله بل اتبعوا ما قال الله لهم حيث قال قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل الى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير

المسلمون أتباع جميع الرسل[عدل]

ولما كان المسلمون هم المتبعون لرسل الله كلهم المسيح وغيره وكان الله قد وعد الرسل وأتباعهم قال النبي في الحديث الصحيح لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال أيضا سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها الحديث فكان ما احتجوا به حجة عليهم لا لهم

فصل[عدل]

وأما قوله تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى بل هي مذكورة بعد قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ومعلوم أن الصفة المذكورة في قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق صفة لليهود وكذلك قوله

ضربت عليهم الذلة والمسكنة

فقوله عقب ذلك من أهل الكتاب أمة قائمة لا بد أن يكون متناولا لليهود ثم قد اتفق المسلمون والنصارى على أن اليهود كفروا بالمسيح ومحمد ليس فيهم مؤمن وهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب

وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي ولا العمل بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل إن النبي إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم

ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمنا بالنبي بمنزلة من يؤمن بالنبي في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون

قال تعالى وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع الى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زينا لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني الى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري الى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا فرعون أشد العذاب فقد أخبر سبحانه وتعالى أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك امرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال تعالى وضرب الله مثلا الذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين وامرأة الرجل من آله بدليل قوله إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين

وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في باطن يؤمن بالله ورسوله محمد يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو عاجز عن الهجرة إلى دار الإسلام كعجز النجاشي وكما أن الذين يظهرون الإسلام فيهم من هم في الظاهر مسلمون وفيهم من هو منافق كافر في الباطن إما يهودي وإما مشرك وإما معطل

كذلك في أهل الكتاب والمشركين من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن أهل الإيمان بمحمد يفعل ما يقدر على علمه وعمله ويسقط عنه ما يعجز عنه من ذلك

وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال لما مات النجاشي قال النبي استغفروا لأخيكم فقال بعض القوم تأمرنا أن نستغفر لهذا العلج يموت بأرض الحبشة فنزلت وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ذكره ابن أبي حاتم وغيره باسانيدهم وذكر حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أن رسول الله قال استغفروا لأخيكم النجاشي فذكر مثله

وكذلك ذكر طائفة من المفسرين عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة أنهم قالوا نزلت هذه الآية في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل للنبي في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم فقالوا ومن هو قال النجاشي فخرج رسول الله إلى البقيع وزاد بعضهم وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه استغفروا له فقال المنافقون أبصروا الى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب

وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنها نزلت فيمن كان على دين المسيح عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا فآمن به كما نقل ذلك عن عطاء

وذهبت طائفة إلى أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم

والقول الأول أجود فإن من آمن بمحمد وأظهر الإيمان به وهو من أهل دار الإسلام يعمل بما يعمله المسلمون ظاهرا وباطنا فهذا من المؤمنين وإن كان قبل ذلك مشركا يعبد الأوثان فكيف إذا كان كتابيا وهذا مثل عبدالله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما وهؤلاء لا يقال إنهم من أهل الكتاب كما لا يقال في المهاجرين والأنصار إنهم من المشركين وعباد الأوثان ولا ينكر أحد من المنافقين ولا غيرهم أن يصلي على واحد منهم بخلاف من هو في الظاهر منهم وفي الباطن من المؤمنين وفي بلاد النصارى من هذا النوع خلق كثير يكتمون إيمانهم إما مطلقا وإما يكتمونه عن العامة ويظهرونه لخاصتهم وهؤلاء قد يتناولهم قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية فهؤلاء لا يدعون الإيمان بكتاب الله ورسوله لأجل مال يأخذونه كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله فيمنعونهم من الإيمان بمحمد

وأما قوله من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون كتاب الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فهذه الآية تتناول اليهود أقوى مما تتناول النصارى ونظيره قوله تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون هذا مدح مطلق لمن تمسك بالتوراة ليس في ذلك مدح لمن كذب المسيح ولا فيها مدح لمن كذب محمدا

وهذا الكلام تفسير سياق الكلام فإنه قال تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ثم قال تعالى ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون فقد جعلهم نوعين نوعا مؤمنين ونوعا فاسقين وهم أكثرهم لقوله تعالى منهم المؤمنون يتناول من كان مؤمنا قبل مبعث محمد كما يتناولهم قوله تعالى وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة إلى قوله وكثير منهم فاسقون وكذلك قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون

وقوله عن إبراهيم الخليل وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ثم قال وأكثرهم الفاسقون قال لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وضرب الذلة عليهم أينما ثقفوا ومباؤهم بغضب من الله الآية وما ذكر معه من قتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم واعتدائهم كان اليهود متصفين به قبل مبعث محمد كما قال تعالى في سورة البقرة وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال بعد ذلك إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

فتناولت هذه الآية من كان من أهل الملل الأربع متمسكا بها قبل النسخ بغير تبديل كذلك آية آل عمران لما وصف أهل الكتاب بما كانوا متصفا به أكثرهم قبل محمد من الكفر قال ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين

وهذا يتناول من كان متصفا منهم بهذا قبل النسخ فإنهم كانوا على الدين الحق الذي لم يبدل ولم ينسخ كما قال في الأعراف ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين وقد قال تعالى مطلقا وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون

فهذا خبر من الله عمن كان متصفا بهذا الوصف قبل مبعث محمد ومن أدرك من هؤلاء محمدا فآمن به كان له أجره مرتين

فصل في إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم[عدل]

دعوى النصارى في المسيح

قالوا: “وقال أيضا في موضع آخر إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب فأعنى بقوله مثل عيسى إشارة إلى الناسوت المؤخوذ من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط

وكما أن آدم خلق من غير جماع ومباضعة فكذلك جسد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة وكما أن جسد آدم ذاق الموت فكذلك جسد المسيح ذاق الموت وقد يبرهن بقوله أيضا قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الخالقة حلت في مريم وتجسدت بإنسان كامل

وعلى هذاالمثال نقول في السيد المسيح طبيعتان:

طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه

وطبيعة ناسوتية التي اخذت من مريم العذراء واتحدت به ولما تقدم به القول من الله تعالى على لسان موسى النبي إذ يقول أليس هذا الأب الذي خلقك وبرأك واقتناك قيل وعلى لسان داود النبي روحك القدس لا تنزع مني وأيضا على لسان داود النبي بكلمة الله تشددت السموات وبروح فاه جميع أفواههن وليس يدل هذا القول على ثلاثة خالقين بل خالق واحد الأب ونطقه أي كلمته وروحه أي حياته”

الرد عليهم حقيقة القول في عيسى[عدل]

والجواب من وجوه

أحدها أن قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته

فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى

وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى كما قال وخلق منها زوجها

وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر

وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى

وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح فإن حواء خلقت من ضلع آدم وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم وخلق آدم أعجب من هذا وهذا وهو أصل خلق حواء

فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب والتراب ليس من جنس بدن الإنسان أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان

وهو سبحانه خلق آدم من تراب ثم قال له كن فيكون لما نفخ فيه من روحه فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له كن فيكون ولم يكن آدم بما نفخ فيه من روحه لاهوتا وناسوتا بل كله ناسوت فكذلك المسيح كله ناسوت والله تبارك وتعالى ذكر هذه الآية في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى لما قدم على النبي نصارى نجران وناظروه في المسيح وأنزل الله فيه ما أنزل فبين قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى فكذب الله الطائفتين هؤلاء في غلوهم فيه وهؤلاء في ذمهم له

وقال عقب هذه الآية فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

وقد امثثل النبي قول الله فدعاهم إلى المباهلة فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل الله عليهم لعنته فأقروا بالجزية وهم صاغرون ثم كتب النبي الى هرقل ملك الروم بقوله تعالى يا أهل الكتاب تعالوا إلى آخرها وكان أحيانا يقرأ بها في الركعة الثانية من ركعتي الفجر ويقرأ في الأولى بقوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

وهذا كله يبين أن المسيح عبد ليس بإله وأنه مخلوق كما خلق آدم وقد أمر أن يباهل من قال أنه إله فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المختص به ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء ويدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين فإن كان النصارى كاذبين في قولهم هو الله حقت اللعنة عليهم وإن كان من قال ليس هو الله بل عبد الله كاذبا حقت اللعنة عليه وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق

والنصارى لما لم يعلموا أنهم على الحق نكلوا عن المباهلة وقد قال عقب ذلك إن هذا لهو القصص الحق وما من لا إله إلا الله تكذبيا للنصارى الذين يقولون هو إله حق من إله حق فكيف يقال أنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت وأن هذا هو الناسوت فقط دون اللاهوت

وبهذا ظهر الجواب عن قولهم قال في موضع آخر إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فأعنى بقوله عيسى أشار الى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر الناسوت ها هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط فإنه يقال عيسى هو المسيح بدليل أنه قال ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فأخبر أنه ليس المسيح إلا رسولا ليس هو بإله وأنه ابن مريم والذي هو ابن مريم هو الناسوت وقال إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا الله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا

وقال تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله انى يؤفكون

وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا

الوجه الثاني

أن ما ذكروه من موته قد بينا أن الله لم يذكر ذلك وأن المسيح لم يمت بعد وما ذكروه من أنه صلب ناسوته دون لاهوته باطل من وجهين إن ناسوته لم يصلب وليس فيه لاهوت وهم ذكروا ذلك دعوى مجردة فيكفي في مقابلتها المنع

الوجه الثالث

ولكن نقول في الوجه الثالث إنهم في اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبهونه تارة باتحاد الماء باللبن وهذا تشبيه اليعقوبية وتارة باتحاد النار بالحديد أو النفس بالجسم وهذا تشبيه الملكانية وغيرهم

ومعلوم أنه لا يصل إلى الماء إلا وصل إلى اللبن فإنه لا يتميز أحدهما عن الآخر وكذلك النار التي في الحديد متى طرق الحديد أو بصق عليه لحق ذلك بالنار التي فيه والبدن إذا ضرب وعذب لحق ألم الضرب والعذاب للنفس فكأن حقيقة تمثيلهم يقتضي أن اللاهوت أصابه ما أصاب الناسوت من إهانة اليهود وتعذيبهم وإتلافهم له والصلب الذي ادعوه

وهذا لازم على القول بالاتحاد فإن الاتحاد لو كان ما يصيب أحدهما لا يشركه الآخر فيه لم يكن هنا اتحاد بل تعدد

الوجه الرابع

أن هؤلاء الضلال لم يكفهم أن جعلوا إله السموات والأرض متحدا ببشر في جوف امرأة وجعلوه له مسكنا ثم جعلوا أخابث خلق الله أمسكوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه بين لصين وهو في ذلك يستغيث بالله ويقول إلهي إلهي لم تركتني وهم يقولون الذي كان يسمع الناس كلامه هو اللاهوت كما سمع موسى كلام الله من الشجرة ويقولون هما شخص واحد ويقول بعضهم لهما مشيئة واحدة وطبيعة واحدة

والكلام إنما يكون بمشيئة المتكلم فيلزم أن يكون المتكلم الداعي المستغيث المصلوب هو اللاهوت هو المستغيث المتضرع وهو المستغاث به وأيضا فهم يقولون إن اللاهوت والناسوت شخص واحد فمع القول بأنهما شخص واحد إما أن يكون مستغيثا وإما أن يكون مستغاثا به وإما أن يكون داعيا وإما أن يكون مدعوا فإذا قالوا إن الداعي هو غير المدعو لزم أن يكون اثنين لا واحدا وإذا قالوا هما واحد فالداعي هو المدعو

الوجه الخامس

أن يقال لا يخلو الأمر ان يقولوا إن اللاهوت كان قادرا على دفعهم عن ناسوته وإما أن يقولوا لم يكن قادرا فإن قالوا لم يكن قادرا لزم أن يكون أولئك اليهود أقدر من رب العالمين وأن يكون رب العالمين مقهورا مأسورا مع قوم من شرار اليهود وهذا من أعظم الكفر والتنقص برب العالمين وهذا أعظم من قولهم إن لله ولدا وإنه بخيل وإنه فقير ونحو ذلك مما سب به الكفار رب العالمين

وإن قالوا كان قادرا فإن كان ذلك من عدوان الكفار على ناسوته وهو كاره لذلك فسنة الله في مثل ذلك نصر رسله المستغيثين به فكيف لم يغث ناسوته المستصرخ به هذا بخلاف من قتل من النبيين وهو صابر فإن أولئك صبروا حتى قتلوا شهداء والناسوت عندهم استغاث وقال إلهي إلهي لماذا تركتني وإن كان هو قد فعل ذلك مكرا كما يزعمون أنه مكر بالشيطان وأخفى نفسه حتى يأخذه بوجه حق فناسوته أعلم بذلك من جميع الخلق فكان الواجب أن لا يجزع ولا يهرب لما في ذلك من الحكمة وهم يذكرون من جزع الناسوت وهربه ودعائه ما يقتضي أن كل ما جرى عليه كان بغير اختياره ويقول بعضهم مشيئتهما واحدة فكيف شاء ذلك وهرب مما يكرهه الناسوت بل لو يشاء اللاهوت ما يكرهه كانا متباينين وقد اتفقا على المكر بالعدو لم يجزع الناسوت كما جرى ليوسف مع أخيه لما وافقه على أنه يجعل الصوامع في رحله ويظهر أنه سارق لم يجزع أخوه لما ظهر الصوامع في رحلة كما جزع إخوته حيث لم يعلموا وكثير من الشطار العيارين يمسكون ويصلبون وهم ثابتون صابرون فما بال هذا يجزع الجزع العظيم الذي يصفون به المسيح وهو يقتضي غاية النقص العظيم مع دعواهم فيه الإلهية

الوجه السادس

قولهم إنه كلمته وروحه تناقض منهم لأن عندهم أقنوم الكلمة فقط لا أقنوم الحياة

الوجه السابع

قولهم وقد برهن بقوله رأينا أيضا في موضع آخر قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم واتحدت بإنسان كامل

فيقال لهم أما قول الله في القرآن فهو حق ولكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء وما بلغوه عن الله وذلك أن الله تعالى قال إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق ليس هو ما يقوله النصارى منها أنه قال بكلمة منه وقوله بكلمة منه نكرة في الإثبات يقتضي أنه كلمة من كلمات الله ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى

ومنها أنه بين مراده بقوله بكلمة منه وأنه مخلوق حيث قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

كما قال في الآية الأخرى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون

وقال تعالى في سورة كهيعص ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أنه قال له كن فيكون وهذا تفسير كونه كلمة منه وقال اسمه المسيح عيسى بن مريم أخبر أنه ابن مريم وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين وهذه كلها صفة مخلوق والله تعالى وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك وقالت مريم أنى يكون لي ولد فبين أن المسيح الذي هو الكلمة هو ولد مريم لا ولد الله سبحانه وتعالى

وقال في سورة النساء يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا

فقد نهى النصارى عن الغلو في دينهم وأن يقولوا على الله غير الحق وبين أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسله فبين أنه رسوله ونهاهم أن يقولوا ثلاثة وقال انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد وهذا تكذيب لقولهم في المسيح أنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ثم قال سبحانه أن يكون له ولد فنزه نفسه وعظمها أن يكون له ولد كما تقوله النصارى ثم قال له ما في السموات وما في الأرض فأخبر أن ذلك ملك ليس له فيه شيء من ذاته ثم قال لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا الله ولا الملائكة المقربون أي لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله تبارك وتعالى فمع ذلك البيان الواضح الجلي هل يظن ظان أن مراده بقوله وكلمته أنه إله خالق أو أنه صفة لله قائمة به وأن قوله وروح منه المراد به أنه حياته أو روح منفصلة من ذاته

ثم نقول أيضا أما قوله وكلمته فقد بين مراده أنه خلقه ب كن وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى المخلوق خلقا لقوله هذا خلق الله ويقال درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ولهذا يسمى المأمور به أمرا والمقدور قدرة وقدرا والمعلوم علما والمرحوم به رحمة

كقوله تعالى وكان أمر الله قدرا مقدورا وقوله أتى أمر الله فلا تستعجلوه

وقال النبي يقول الله للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي وقال إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فيها تتراحم الخلق ويتعاطفون وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه الى تلك فرحم بها الخلق ويقال للمطر والآيات هذه قدرة عظيمة ويقال غفر الله لك علمه فيك أي معلومه فتسمية المخلوق بالكلمة كلمة من هذا الباب

وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الرد علىالجهمية وذكره غيره أن النصارى الحلولية والجهمية المعطلة اعترضوا على أهل السنة فقالت النصارى القرآن كلام الله غير مخلوق والمسيح كلمة الله فهو غير مخلوق وقالت الجهمية المسيح كلمة الله وهو مخلوق والقرآن كلام الله فيكون مخلوقا

وأجاب أحمد وغيره بأن المسيح نفسه ليس هو كلاما فإن المسيح إنسان وبشر مولود من امرأة وكلام الله ليس بإنسان ولا بشر ولا مولود من امرأة ولكن المسيح خلق بالكلام وأما القرآن فهو نفسه كلام الله فأين هذا من هذا

وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وما من عاقل إذا سمع قوله تعالى في المسيح عليه السلام إنه كلمته ألقاها الى مريم إلا يعلم أن المراد لا أن المسيح نفسه كلام الله ولا أنه صفة لله ولا خالق ثم يقال للنصارى فلو قدر أن المسيح نفس الكلام ليس بخالق فإن القرآن كلام الله وليس بخالق والتوراة كلام الله وليست بخالقة وكلمات الله كثيرة وليس منها شيء خالق فلو كان المسيح نفس الكلام لم يجز أن يكون خالقا فكيف وليس هو الكلام وإنما خلق بالكلمة وخص باسم الكلمة فإنه لم يخلق على الوجه المعتاد الذي خلق عليه غيره بل خرج عن العادة فخلق بالكلمة من غير السنة المعروفة بالبشر

وقوله بروح منه لا يوجب أن يكون منفصلا من ذات الله كقوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه

وقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك

وقال تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة

فالمسيح الذي هو روح من تلك الروح أولى أن يكون مخلوقا قال تعالى فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا

وقد قال تعالى ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين فأخبر أنه نفخ في مريم من روحه كما أخبر أنه نفخ في آدم من روحه وقد بين أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته

فهذا الروح الذي أرسله الله إليها ليهب لها غلاما زكيا مخلوق وهو روح القدس الذي خلق المسيح منه ومن مريم فإذا كان الأصل مخلوقا فكيف الفرع الذي حصل به وهو روح القدس وقوله عن المسيح وروح منه خص المسيح بذلك لأنه نفخ في أمه من الروح فحبلت به من ذلك النفخ وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر فامتاز بأنها حبلت به من نفخ الروح فلهذا سمي روحا منه

ولهذا قال طائفة من المفسرين روح منه أي رسول منه فسماه باسم الروح الذي هو الرسول الذي نفخ فيها فكما يسمى كلمة يسمى روحا لأنه كون بالكلمة لا كما يخلق الآدميون غيره ويسمى روحا لأنه حبلت به أمه بنفخ الروح الذي نفخ فيها لم تحبل من ذكر كغيره من الآدميين وعلى هذا فيقال لما خلق من نفخ الروح ومن مريم سمى روحا بخلاف سائر الآدميين فإنه يخلق من ذكر وأنثى ثم ينفخ فيه من الروح بعد مضي أربعة أشهر

والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ولو اقتصروا على هذا وفسروا روح القدس بالملك الذي نفخ فيها وهو روح الله لكان هذا موافقا لما أخبر الله به لكنهم جعلوا روح القدس حياة الله وجعلوه ربا وتناقضوا في ذلك فإنه على هذا كان ينبغي فيه أقنومان أقنوم الكلمة وأقنوم الروح

وهم يقولون ليس فيه ألا أقنوم الكلمة وكما يسمى المسيح كلمة لأنه خلق بالكلمة يسمى روحا لأنه حل به الروح فإن قيل فقد قال في القرآن والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك وقال تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم

وقد قال أئمة المسلمين وجمهورهم القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وقال في المسيح وروح منه قيل هذا بمنزلة سائر المضاف إلى الله إن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة فيها كان مخلوقا وإن كان صفة مضافة إلى الله كعلمه وكلامه ونحو ذلك كان إضافة صفة وكذلك ما منه إن كان عينا قائمة تعين بغيرها كما في السموات والأرض والنعم والروح الذي أرسلها الى مريم وقال إنما أنا رسول ربك كان مخلوقا وإن كان صفة لا تقوم بنفسها ولا يتصف بها المخلوق كالقرآن لم يكن مخلوقا فإن ذلك قائم بالله وما يقوم بالله لا يكون مخلوقا

والمقصود هنا بيان بطلان احتجاج النصارى وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة كما ليس لهم حجة في سائر كتب الله وإنما تمسكوا بآيات متشابهات وتركوا المحكم كما أخبرا الله عنهم بقوله هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء وابتغاء تأويله والآية نزلت في النصارى فهم مرادون من الآية قطعا ثم قال وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وفيها قولان وقراءتان منهم من يقف عند قوله إلا الله ويقول الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله

ومنهم من لا يقف بل يصل بذلك قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ويقول الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه وكلا القولين مأثور عن طائفة من السلف وهؤلاء يقولون قد يكون الحال من المعطوف دون المعطوف عليه كما في قوله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا أي قائلين وكلا القولين حق باعتبار فإن لفظ التأويل يراد به التفسير ومعرفة معانيه

والراسخون في العلم يعلمون تفسير القرآن قال الحسن البصري لم ينزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم في ماذا نزلت وما عني بها وقد يعني بالتأويل ما استأثر الله بعلمه من كيفية ما أخبر به عن نفسه وعن اليوم الآخر وقت الساعة ونزول عيسى ونحو ذلك

فهذا التأويل لا يعلمه الا الله وأما لفظ التأويل إذا أريد به صرف اللفظ عن ظاهره الى ما يخالف ذلك لدليل يقترن به فلم يكن السلف يريدون بلفظ التأويل هذا ولا هو معنى التأويل في كتاب الله عز وجل

ولكن طائفة من المتأخرين خصوا لفظ التأويل بهذا بل لفظ التأويل في كتاب الله يراد به ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهرة كقوله تعالى هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل

ومنه تأويل الرؤيا كقول يوسف الصديق هذا تأويل رؤياي من قبل وكقوله إلا نبأتكما بتأويله وقوله ذلك خير وأحسن تأويلا وهذا مبسوط في موضع آخر

والمقصود هنا أنه ليس للنصارى حجة لا في ظاهر النصوص ولا باطنها كما قال تعالى إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه

والكلمة عندهم هي جوهر وهي رب لا يخلق بها الخالق بل هي الخالقة لكل شيء كما قالوا في كتابهم إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم والله تعالى قد أخبر أنه سبحانه ألقاها الى مريم والرب سبحانه هو الخالق والكلمة التي ألقاها ليست خالقة إذ الخالق لا يلقيه شيء بل هو يلقي غيره وكلمات الله نوعان كونية ودينية فالكونية كقوله للشيء كن فيكون، والدينية أمره وشرعه الذي جاءت به الرسل وكذلك أمره وإرادته وإذنه وإرساله وبعثه ينقسم الى هذين القسمين وقد ذكر الله تعالى إلقاء القول في غير هذا وقد قال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا

وقال تعالى وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم

وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة

وأما لقيته القول فتلقاه فذلك إذا أردت أن تحفظه بخلاف ما إذا ألقيته إليه فإن هذا بقوله فيما يخاطبه به وإن لم يحفظه كمن ألقيت إليه القول بخلاف القول إنكم لكاذبون وألقوا إليهم السلام وليس هنا إلا خطاب سمعوه لم يحصل نفس صفة المتكلم في المخاطب فكذلك مريم إذا ألقى الله كلمته إليها هي قول كن لم يلزم أن تكون نفس صفته القائمة به حلت في مريم كما لم يلزم أن تكون صفته القائمة به حلت في سائر من ألقى كلامه كما لا تحصل صفة كل منكم فيمن يلقي إليه كلامه

فصل[عدل]

في الرد على أن في عيسى طبيعتين

وأما قولهم وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان

طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه

وطبيعة ناسوتية التي أخذها من مريم العذراء واتحدت به فيقال لهم كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف مناقض وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه ولا قول معقول ولا قول دل عليه كتاب بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى كاليعقوبية والملكانية والنسطورية ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة كثيرة الاختلاف

ولهذا يقال لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والاتحاد كما هو مذكور في أمانتهم لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء ولا يوجد لا في كلام المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء ولكن عندهم في الكتب ألفاظ متشابهة وألفاظ محكمة يتنازعون في فهمها ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح

فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء ولما ابتدعوا ما ابتدعوه من التثليث والحلول كان فيهم من يخالفهم في ذلك

وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها والقول الذي يحكيه كثير من نظائر المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه كما نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسم الأنصاري وغيرهما أن القديم واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم وأنهم يعنون بالأقنوم الوجود والحياة والعلم

ونقلوا عنهم أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين بل هما صفتان نفسيتان للجوهر قالوا ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض قال وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس فيعنون بالأب الوجود وبالابن المسيح والكلمة وربما سموا العلم كلمة والكلمة علما ويعبرون عن الحياة بالروح قال ولا يريدون بالكلمة الكلام فإن الكلام عندهم من صفات الفعل ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن قالوا ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت ثم اختلفوا في معنى الاتحاد

فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية قالوا إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن قالوا وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية قالوا فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة

وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما قالوا وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة والنقش في الخاتم

ومنهم من قال ظهور اللاهوت علىالناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين وذهب كثير من هذه الطوائف الى أن المراد بالاتحاد الحلول

فصل[عدل]

وأما قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين يريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين آتاهم بلغتهم لا غير ممن لم يأتهم بما جاء به

فيقال لهم من فسر مراد متكلم أي متكلم كان بما يعلم الناس أنه خلاف مراده فهو كاذب مفتر عليه وإن كان المكلم من آحاد العامة ولو كان المتكلم من المتنبئين الكذابين فإن عرف كذبه إذا تكلم بكلام وعرف مراده به لم يجز أن يكذب عليه فيقال أراد كذا وكذا فإن الكذب حرام قبيح على كل أحد سواء كان صادقا أو كاذبا فيكف بمن يفسر مراد الله ورسوله بما يعلم كل من خبر حاله علما ضروريا أنه لم يرد ذلك بل يعلم علما ضروريا أنه أراد العموم فإن قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا صيغة عامة وصيغة من الشرطية من أبلغ صيغ العموم كقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره

ثم إن سياق الكلام يدل على أنه أراد أهل الكتاب وغيرهم فإن هذا في سورة آل عمران في أثناء مخاطبته لأهل الكتاب ومناظرته للنصارى فإنها نزلت لما قدم على النبي وفد نجران النصارى وروى أنهم كانوا ستين راكبا وفيهم السيد والأيهم والعاقب وقصتهم مشهورة معروفة كما تقدم ذكرها

وقد قال قبل هذا الكلام يذم دين النصارى الذين ابتدعوه وغيروا به دين المسيح ولبسوا الحق الذي بعث به المسيح بالباطل الذي ابتدعوه حتى صار دينهم مركبا من حق وباطل واختلط أحدهما بالآخر فلا يكاد يوجد معه من يعرف ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره والمسيح قرر أكثر شرع التوراة وغير المعنى وعامة النصارى لا يميزون ما قرره مما غيره فلا يعرف دين المسيح

قال تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون

فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر فمن اتخذ من دونهم أربابا كان أولى بالكفر وقد ذكر أن النصارى اتخذوا من هو دونهم أربابا بقوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

ثم قال تعالى في سورة آل عمران وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين

قال ابن عباس وغيره من السلف ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه والآية تدل على ما قالوا فإن قوله تعالى وإذا أخذ الله ميثاق النبيين يتناول جميع النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه

وهذه اللام الأولى تسمى اللام الموطئة للقسم واللام الثانية تسمى لام جواب القسم والكلام إذا اجتمع فيه شرط وقسم وقدم القسم سد جواب القسم مسد جواب الشرط والقسم كقوله تعالى لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون

ومنه قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين وقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة وقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ومنه قوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقوله ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب وقوله لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين وقوله لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم وقوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك وقوله وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم وقوله ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين وقوله تعالى ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون وقوله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم وقوله ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه

ومثل هذا كثير وحيث لم يذكر القسم فهو محذوف مراد تقدير الكلام والله لئن أخرجوا لا يخرجون معهم والله ولئن قوتلوا لا ينصرونهم

ومن محاسن لغة العرب أنها تحذف من الكلام ما يدل المذكور عليه اختصارا وإيجازا لا سيما فيما يكثر استعماله كالقسم وقوله لما آتيتكم من كتاب وحكمة هي ما الشرطية والتقدير أي شيء أعطيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ولا تكتفوا بما عندكم عما جاء به ولا يحملنكم ما آتيتكم من كتاب وحكمة على أن تتركوا متابعته بل عليكم أن تؤمنوا به وتنصروه وإن كان معكم من قبله من كتاب وحكمة فلا تستغنوا بما آتيتكم عما جاء به فإن ذلك لا ينجيكم من عذاب الله

فدل ذلك على أن من أدرك محمدا من الأنبياء وأتباعهم وإن كان معه كتاب وحكمة فعليه أن يؤمن بمحمد وينصره كما قال لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وقد أقر الأنبياء بهذا الميثاق وشهد الله عليهم به كما قال تعالى أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ثم قال تعالى فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ثم قال تعالى أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ثم قال تعالى قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ثم قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

قالت طائفة من السلف لما أنزل الله هذه الآية قال من قال من اليهود والنصارى نحن مسلمون فقال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا فقالوا لا نحج فقال تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين

فكل من لم ير حج البيت واجبا عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين كما دل عليه القرآن واليهود والنصارى لا يرونه واجبا عليهم فهم من الكفار حتى أنه روي في حديث مرفوع إلى النبي من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا وهو محفوظ من قول عمر بن الخطاب وقد اتفق المسلمون على أن من جحد وجوب مباني الإسلام الخمس الشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت فإنه كافر

وأيضا فقد قال تعالى في أول سورة آل عمران شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد فقد أمره تعالى بعد قوله إن الدين عند الله الإسلام أن يقول أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وأن يقول للذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى والأميين وهم الذين لا كتاب لهم من العرب وغيرهم أأسلمتم فالعرب الأميون يدخلون في لفظ الأميين باتفاق الناس

وأما من سواهم فإما أن يشمله هذا اللفظ أو يدخل في معناه بغيره من الألفاظ المبينة أنه أرسل إلى جميع الناس

قال تعالى فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد فقد أمر اهل الكتاب بالإسلام كما أمر به الأميين وجعلهم إذا أسلموا مهتدين وإن لم يسلموا فقد قال إنما عليك البلاغ أي تبلغهم رسالات ربك إليهم والله هو الذي يحاسبهم فدل بهذا كله على أنه عليه أن يبلغ أهل الكتاب ما أمرهم به من الإسلام كما يبلغ الأميين وأن الله يحاسبهم على ترك الإسلام كما يحاسب الأميين

وفي الصحيحين عن النبي في الكتاب الذي كتبه الى هرقل ملك النصارى من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

الإسلام دين جميع الأنبياء[عدل]

وأبلغ من ذلك أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الإسلام دين الأنبياء كنوح وإبراهيم ويعقوب وأتباعهم إلى الحواريين وهذا تحقيق لقوله تعالى { ومن يتبغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } و { إن الدين عند الله الإسلام } في كل زمان ومكان

قال تعالى عن نوح أول رسول بعثه الى الأرض: { واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين }

فهذا نوح الذي غرق أهل الأرض بدعوته وجعل جميع الآدميين من ذريته يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين

وأما الخليل فقال تعالى: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }

فقد أخبر تعالى أنه أمر الخليل بالإسلام وأنه قال أسلمت لرب العالمين وأن إبراهيم وصى بنيه ويعقوب وصى بنيه أن لا يموتن إلا وهم مسلمون

وقال تعالى: { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين }

وقال تعالى عن يوسف الصديق بن يعقوب أنه قال: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين }

وقد قال تعالى عن موسى: { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }

وقال عن السحرة الذين آمنوا بموسى: { قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين }

وقال تعالى: { وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين }

قال تعالى في قصة سليمان: { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } و { قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين { وقال تعالى: { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين }

وقال تعالى عن بلقيس التي آمنت بسليمان: { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال عن أنبياء بني إسرائيل: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقال تعالى عن الحواريين: { وإذ أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } وقال تعالى: { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين }

فهؤلاء الأنبياء كلهم وأتباعهم كلهم يذكر الله تعالى أنهم كانوا مسلمين. وهذا مما يبين أن قوله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } وقوله { إن الدين عند الله الإسلام } لا يختص بمن بعث إليه محمد بل هو حكم عام في الأولين والآخرين ولهذا قال تعالى: { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا }

وقال تعالى: { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

فصل[عدل]

قال شيخ الإسلام:

الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وقوله تعالى إلا ما ذكيتم عائد إلى ما تقدم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكلية السبع عند عامة العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم

فما أصابه الموت قبل أن يموت أبيح لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك فمنهم من قال ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد

ومنهم من يقول ما يعيش معظم اليوم ذكي

ومنهم من يقول ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد

ثم من هؤلاء من يقول الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح ومنهم من يقول ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح والصحيح أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح فإن حركات المذبوح لا تنضبط بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته وفيها ما يقل زمانه وتضعف حركته وقد قال النبي : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله

والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا فإن الميت يجمد دمه ويسود ولهذا حرم الله الميتة لاحتقان الرطوبات فيها فإذا جرى منه الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله وإن تيقن أنه يموت فإن المقصود ذبح وما فيه حياة فهو حي وإن تيقن أنه يموت بعد ساعة فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا جازت وصيته وصلاته وعهوده وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح حلت ولم يشترطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح وهذا قاله الصحابة لأن الحركة دليل على الحياة والدليل لا ينعكس فلا يلزم إذا لم يوجد هذا منها أن تكون ميتة بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب وكذلك المغمي عليه يذبح ولا يضطرب وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية ولكن خروج الدم الذي لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة والله أعلم

فصل[عدل]

وتجوز ذكاة المرأة والرجل وتذبح المرأة وإن كانت حائضا فإن حيضتها ليست في يدها وذكاة المرأة جائزة باتفاق المسلمين وقد ذبحت امرأة شاة فأمر النبي بأكلها

فصل[عدل]

والتسمية على الذبيحة مشروعة لكن قيل هي مستحبة كقول الشافعي وقيل واجبة مع العمد وتسقط مع السهو كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه وقيل تجب مطلقا فلا تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد اختارها أبو الخطاب وغيره وهو قول غير واحد من السلف وهذا أظهر الأقوال فإن الكتاب والسنة قد علقا الحل بذكر اسم الله في غير موضع كقوله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه وقوله فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه

وفي الصحيحين أنه قال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا وفي الصحيح أنه قال لعدي إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل وإن خالط كلبك كلاب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره وثبت في الصحيح أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال

لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن

فهو لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر اسم الله عليه فكيف بالإنس ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه ويذكر اسم الله عليه لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة كما ثبت في الصحيح أن قوما قالوا يا رسول الله إن ناسا حديثي عهد بالإسلام يأتونا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا فقال سموا أنتم وكلوا

فصل[عدل]

أما عظم الميتة وقرنها وظفرها وما هو من جنس ذلك كالحافر ونحوه وشعرها وريشها ووبرها

ففي هذين النوعين للعلماء ثلاثة أقوال

أحدها نجاسة الجميع كقول الشافعي في المشهور وذلك رواية عن أحمد

والثاني أن العظام ونحوها نجسة والشعور ونحوها طاهرة وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد

والثالث أن الجميع طاهر كقول أبي حنيفة وهو قول في مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصواب لأن الأصل فيها الطهارة ولا دليل على النجاسة

وأيضا فإن هذه الأعيان هي من الطيبات ليست من الخبائث فتدخل في آية التحليل وذلك لأنها لم تدخل فيما حرمه الله من الخبائث لا لفظا ولا معنى أما اللفظ فكقوله تعالى حرمت عليكم الميتة لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها وذلك لأن الميت ضد الحي والحياة نوعان حياة الحيوان وحياة النبات فحياة الحيوان خاصتها الحس والحركة الإرادية وحياة النبات النمو والاغتذاء

وقوله حرمت عليكم الميتة إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية فإن الزرع والشجر إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين وقد تموت الأرض ولا يوجب ذلك نجاستها باتفاق المسلمين وإنما الميتة المحرمة ما كان فيها الحس والحركة الإرادية وأما الشعر فإنه ينمو ويغتذي ويطول كالزرع ليس فيه حس ولا يتحرك بإرادة ولا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها ولا وجه لتنجيسه

وأيضا فلو كان الشعر جزءا من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة فإن النبي سئل عن قوم يحبون أسنمة الإبل وأليات الغنم فقال

ما أبين من البهيمة وهي حية فهو ميت رواه أبو داود وغيره وهذا متفق عليه بين العلماء فلو كان حكم الشعر حكم السنام والألية لما جاز قطعه في حال الحياة فلما اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان حلالا طاهرا علم أنه ليس مثل اللحم

وأيضا فقد ثبت أن النبي أعطى شعره لما حلق رأسه للمسلمين وكان النبي يستنجي ويستجمر فمن سوى بين الشعر والبول والعذرة فقد أخطأ خطأ مبينا

وأما العظام ونحوها فإذا قيل أنها داخلة في الميتة لأنها تنجس قيل لمن قال ذلك لم تأخذوا بعموم اللفظ فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب والخنفساء لا ينجس عندكم

وعند جمهور العلماء مع أنها ميتة موتا حيوانيا

وقد ثبت في الصحيح أن النبي قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ومن نجس هذا قال في أحد القولين أنه لا ينجس المائعات الواقعة فيه لهذا الحديث وإذا كان كذلك علم أن علة نجاسة الميتة إنما هو احتباس الدم فيها فما لا نفس له سائلة ليس فيه دم سائل فإذا مات لم يحتبس فيه الدم فلا ينجس فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجيس من هذا فإن العظم ليس فيه دم سائل ولا كان متحركا بالإرادة إلا على وجه التبع

فإذا كان الحيوان الكامل الحساس المتحرك بالإرادة لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه سائل

ومما يبين صحة قول الجمهور أن الله إنما حرم علينا الدم المسفوح كما قال تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا فإذا عفي عن الدم غير المسفوح مع أنه من جنس الدم حيث علم أن الله سبحانه فرق بين الدم الذي يسيل وبين غيره فلهذا كان المسلمون يصنعون اللحم في المرق وخيوط الدم في القدر تبين ويأكلون ذلك على عهد رسول الله كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها ولولا هذا لاستخرجوا الدم من العروق كما يفعل اليهود

والله تعالى حرم ما مات حتف أنفه أو لسبب غير جارح محدد كالموقودة والمتردية والنطيحة وحرم ما صيد بغيره من المعراض وقال إنه وقيذ والفرق بينهما إنما هو سفح الدم فدل على أن سبب التنجيس هو احتقان الدم واحتباسه وإذا سفح بوجه خبيث بأن يذكر عليه غير اسم الله كان الخبث هنا من وجه آخر فإن التحريم تارة لوجود الدم وتارة لفساد التذكية كذكاة المجوسي والمرتد والذكاة في غير المحل

فإذا كان كذلك فالعظم والظفر والقرن والظلف وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح فلا وجه لتنجيسه وهذا قول جمهور السلف

قال الزهري كان خيار هذه الأمة يتمشطون بأمشاط من عظام الفيل وقد روي في العاج حديث معروف لكن فيه نظر ليس هذا موضعه فإنا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك

وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال في شاة ميمونة: هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها وليس في البخاري ذكر الدباغ ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه ولكن ذكره ابن عيينة ورواه مسلم في صحيحه وقد طعن الإمام أحمد في ذلك وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث

وحينئذ فهذا النص يقتضي جواز الانتفاع بها بعد الدبغ بطريق الأولى لكن إذا قيل أن الله حرم بعد ذلك الانتفاع بالجلود حتى تدبغ أو قيل إنها لا تطهر بالدباغ لم يلزم تحريم العظام ونحوها لأن الجلد جزء من الميتة فيه الدم كما في سائر أجزائه والنبي جعل ذكاته دباغه لأن الدبغ ينشف رطوبته فدل على أن سبب التنجيس هو الرطوبات والعظم ليس فيه نفس سائلة وما كان فيه منها فإنه يجف وييبس وهي تبقى وتحفظ أكثر من الجلد فهي أولى بالجهارة من الجلد

والعلماء تنازعوا في الدباغ هل يطهر فذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما أنه لا يطهر ومذهب الشافعي وأبي حنيفة والجمهور أنه يطهر وإلى هذا القول رجع الإمام أحمد كما ذكر ذلك عنه الترمذي

وحديث ابن حكيم يدل على أن النبي نهاهم أن ينتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب بعد أن كان أذن لهم في ذلك لكن هذا قد يكون قبل الدباغ فيكون قد رخص فإن حديث الزهري بين أنه قد رخص في جلود الميتة قبل الدباغ فيكون قد رخص لهم في ذلك لما نهاهم عن الانتفاع بها قبل الدباغ نهاهم عن ذلك ولهذا قال طائفة من أهل اللغة أن الإهاب اسم لما لا يدبغ ولهذا قرن معه العصب والعصب لا يدبغ

فصل[عدل]

وأما لبن الميتة وأنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء

أحدهما أن ذلك طاهر كقول أبي حنيفة وغيره وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد

والثاني أنه نجس كقول الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس فإن ذبائح المجوس حرام عند جمهور السلف والخلف وقد قيل أن ذلك مجمع عليه بين الصحابة فإذا صنعوا جبنا والجبن يصنع بالأنفحة كان فيه هذان القولان

والأظهر أن أنفحة الميتة ولبنها طاهر لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس وكان هذا ظاهرا سائغا بينهم وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر

فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر وأهل العراق كانوا أعلم بهذا فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز

ويدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان نائب عمر بن الخطاب على المدائن وكان يدعو الفرس إلى الإسلام وقد ثبت عنه أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب فإن هذا أمر بين وإنما كان السؤال عن جبن المجوس فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحلها وإذا كان ذلك روي عن النبي انقطع النزاع بقول النبي

وأيضا فاللبن والأنفحة لم يموتا وإنما نجسها من نجسها لكونها في وعاء نجس فتكون مائعا في وعاء نجس فالنجس مبني على مقدمتين على أن المائع لاقى وعاء نجسا وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا فيقال أولا لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته لا على نجاسته ويقال ثانيا الملاقاة في الباطن لا حكم لها كما قال تعالى من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في باطنه والله أعلم

فصل[عدل]

في قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم سئل شيخ الإسلام عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل من ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقا ولا يدري ما حالهم هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي أم بعد ذلك بل يتناكحون وتقر مناكحتهم عند جميع الناس وهم أهل ذمة يؤدون الجزية ولا يعرف من هم ولا من هم آباؤهم فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين أم لهم الأكل من ذبائحهم كسائر بلاد المسلمين

أجاب رضي الله عنه ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان ولا يحرم ذبحهم للمسلمين ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطىء مخالف لإجماع المسلمين فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء كيف والقول بتحريم ذلك في هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدا مخالف لما علم من سنة رسول الله ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان وذلك لأن المنكر لهذا لا يخرج عن قولين

إما أن يكون ممن يحرم ذبائح أهل الكتاب مطلقا كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا ولا من أقوال أتباعهم وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم فإن الله تعالى قال في كتابه وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم

فإن قيل هذه الآية معارضة بقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وبقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر قيل الجواب من ثلاثة أوجه

أحدهما أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال الله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فجعل المشركين قسما غير أهل الكتاب وقال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا فجعلهم قسما غيرهم فأما دخولهم في المقيد ففي قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون فوصفهم بأنهم مشركون

وسبب هذا أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ولكنهم بدلوا وغيروا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطانا فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا لا باعتبار أصل الدين وقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر هو تعريف للكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين وأولئك كن مشركات لا كتابيات من أهل مكة ونحوها

والوجه الثاني إذا قدر أن لفظ المشركات ولفظ الكوافر يعني الكتابيات فآية المائدة خاصة وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق باتفاق العلماء كما في الحديث، المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين لكن الجمهور يقولون أنه مفسر له فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام وطائفة يقولون أن ذلك نسخ بعد أن شرع

الوجه الثالث إذا فرضنا النصين خاصين فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم والآخر أحلهما فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين

أحدهما أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء فتكون ناسخة للنص المتقدم ولا يقال أن هذا نسخ للحكم مرتين لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك بل كان لعدم التحريم بمنزلة شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك والتحريم المبتدأ لا يكون نسخا لاستصحاب حكم الفعل ولهذا لم يكن تحريم النبي لكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ناسخا لما دل عليه قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول الآية ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك بل كان ما سوى ذلك عفوا لا تحليل فيه ولا تحريم كفعل الصبي والمجنون وكما في الحديث المعروف الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وهذا محفوظ عن سلمان الفارسي موقوفا عليه أو مرفوعا إلى النبي

ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة اليوم أحل لكم الطيبات فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم وسورة المائدة مدنية بالإجماع وسورة الأنعام مكية بالإجماع فعلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة وقوله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم إلى آخرها فثبت نكاح الكتابيات وقبل ذلك كان إما عفوا على الصحيح وإما محرما ثم نسخ يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء

الوجه الثاني أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والإجماع والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم فإذا ثبت حل أحدهما ثبت حل الآخر وحل أطعمتهم ليس له معارض أصلا ويدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان تزوج يهوديه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك

فإن قيل قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم محمول على الفواكه والحبوب قيل هذا خطأ لوجوه

أحدها أن هذه مباحة من أهل الكتاب والمشركين والمجوس فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة

الثاني أن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعاما بفعلهم وهذا إنما يستحق في الذبائح التي صارت لحما بذكاتهم فأما الفواكه فإن الله خلقها مطعومة لم تصر طعاما بفعل آدمي

الثالث أنه قرن حل الطعام بحل النساء وأباح طعامنا لهم كما أباح طعامهم لنا ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين وكذلك حكم الطعام والفاكهة والحب لا يختص بأهل الكتاب

الرابع أن لفظ الطعام عام وتناوله اللحم ونحوه أقوى من تناوله للفاكهة فيجب إقرار اللفظ على عمومه لا سيما وقد قرن به قوله تعالى وطعامكم حل لهم ونحن يجوز لنا أن نطعمهم كل أنواع طعامنا فكذلك يحل لنا أن نأكل أنواع طعامهم

وأيضا فقد ثبت في الصحاح بل بالنقل المستفيض أن النبي أهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية فأكل منها لقمة ثم قال: إن هذه تخبرني أن فيها سما ولولا أن ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة وثبت في الصحيح أنهم لما غزوا خيبر أخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم قال قلت لا أطعم اليوم من هذا أحدا فالتفت فإذا رسول الله يضحك ولم ينكر عليه وهذا مما استدل به العلماء على جواز أكل جيش المسلمين من طعام أهل الحرب قبل القسمة

وأيضا فإن رسول الله أجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة رواه الإمام أحمد والإهالة في الودك الذي يكون من الذبيحة ومن السمن ونحوه الذي يكون في أوعيتهم التي يطبخون فيها في العادة ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأواني المجوس ونحوهم

وقد ثبت عن النبي أنه نهى عن الأكل في أوعيتهم حتى رخص أن يغسل

وأيضا فقد استفاض أن أصحاب رسول الله لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى وإنما امتنعوا من ذبائح المجوس ووقع في جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين لأن الجبن يحتاج إلى الأنفحة وفي أنفحة الميتة نزاع معروف بين العلماء فأبو حنيفة يقول بطهارتها ومالك والشافعي يقولان بنجاستها وعن أحمد روايتان

فصل[عدل]

المأخذ الثاني الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة وهذا مبني على أصل وهو أن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل على قولين للعلماء

فالقول الأول هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلاف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد بل هو المنصوص عنه صريحا

والثاني قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد

وأصل هذا القول أن عليا وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب فقال علي لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وروي عنه تغزوهم لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان فإنه شرط عليهم أن لا وغير ذلك من الشروط وقال ابن عباس بل تباح لقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم ولا يعرف ذلك إلا عن علي وحده وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب

فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس وهو قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وصححها طائفة من أصحابه بل هي آخر قوليه بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول وقال أبو بكر الأثرم ما علمت أحدا من أصحاب النبي كرهه إلا عليا وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق وفقهاء الحديث والرأي كالحسن وإبراهيم النخعي والزهري وغيرهم وهو الذي نقله عن أحمد أكثر أصحابه وقال إبراهيم بن الحارث كان آخر قولي أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا

ومن العلماء من رجح قول علي وهو قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب وهم الذين تنازع فيهم الصحابة فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل تنوخ وبهراء وغيرهما من اليهود فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعا ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك وما أعلم للقول الآخر قدوة من السلف

ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد قالوا بأنه من كان أحد أبويه غير كتابي بل مجوسيا لم تحل ذبيحته ومناكحته نسائه وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيا وأما الأم فله فيها قولان فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وحكي ذلك عن مالك وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه وهذا تفريع على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب

وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب وهي الرواية التي اختارها هؤلاء فأما إذا جعل الروايتين في بني تغلب دون غيرهم من العرب أو قيل أن النزاع عام وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم كما هو قول الأكثرين فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب بل لو كان الأبوان جميعا مجوسيين أو وثنيين والولد من أهل الكتاب فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم

ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبواه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه فهو مخطىء خطأ لا ريب فيه لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصراني العرب مطلقا ومن كان أحد أبويه غير كتابي كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد وهذا تناقض

والقاضي أبو يعلى وإن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير وهو آخر كتبه فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان كالروم وقبائل من العرب وهم تنوخ وبهراء ومن بني تغلب هل تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه في ذبائحهم واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته

وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم فمن كان أحد أبويه مشركا فهو أولى بذلك هذا هو المنصوص عن أحمد فإن قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان فإنه يقر بالجزية قال أصحابه وإذا أقررناه بالجزية حلت ذبائحهم ونساؤهم وهو مذهب ابي حنيفة ومالك وغيرهما

وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع علي وغيره من الصحابة في بني تغلب والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد

ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا في مأخذ علي فظن بعضهم أن عليا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل وأن من شككنا في أجداده هل كانوا من أهل الكتاب أم لا أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطا وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطا وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد

وقال آخرون بل علي لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته ومحظوراته بل أخذوا منه حل المحرمات فقط ولهذا قال إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر وهذا المأخذ من قول علي هو المنصوص عن أحمد وغيره وهو الصواب

وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف والقول بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد ذلك قول ضعيف بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وهو المنصوص الصريح عن أحمد وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا

وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب فإنه تؤكل ذبيحته وتنكح نساؤه وهذا يبين خطأ من يناقض منهم

وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور يقولون من دخل هو أو أبواه أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية سواء دخل في زماننا هذا أو قبله وأصحاب القول الآخر يقولون متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي والصواب قول الجمهور والدليل عليه من وجوه

أحدها أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي بقليل كما قال ابن عباس أن المرأة كانت مقلاتا والمقلات التي لا يعيش لها ولد كثيرة القلت والقلت الموت والهلاك كما ياقل امرأة مذكار ميناث إذا كانت كثيرة الولادة للذكور والإناث والسما الكثيرة الموت قال ابن عباس فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديا لكون اليهود كانوا أهل علم وكتاب والعرب كانوا أهل شرك وأوثان فلما بعث الله محمدا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي الآية

فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم في اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح صلوات الله عليه وهذا بعد النسخ والتبديل ومع هذا نهى الله عز وجل عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام وأقرهم بالجزية وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر

ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه وأنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب فلا يدخلون فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع

الوجه الثاني أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عربا ودخلوا في دين اليهود ومع هذا فلم يفصل النبي في أكل طعامهم وحل نسائهم وإقرارهم بالذمة بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى عليه السلام ومن دخل قبل ذلك ولا بين المشكوك في نفسه بل حكم في الجميع حكما واحدا عاما فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة وجعل طائفة لا تقر بالجزية وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم تفريق ليس له أصل في سنة رسول الله الثابتة عنه

وقد علم من النقل الصحيح المستفيض أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب ولهذا قال النبي لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: إنك تأتي قوما أهل كتاب وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وعدله مغافر ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب كثيرون أقرهم بالجزية وكذلك سائر اليهود والنصارى من قبائل العرب لم يفرق رسول الله ولا أحد من خلفائه وأصحابه بين بعضهم وبعض بل قبلوا منهم الجزية وأباحوا ذبائحهم ونساءهم وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة

الوجه الثالث أن كون الرجل مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ونحو ذلك من أسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لا باعتقاده وإرادته وقوله وعمله لا يلحقه هذا الاسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا حكم أبويه لكونه لا يستقل بنفسه فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرا بنفسه باتفاق المسلمين فلو كان أبواه يهودا أو نصارى فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرا باتفاق المسلمين فقد كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدا لأجل آبائه وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب فمن كان بنفسه مشركا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين فكذلك إذا كان يهوديا أو نصرانيا وآباؤه مشركين فحكمه حكم اليهود والنصارى أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كونه آبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين فهذا خلاف الأصول

الوجه الرابع أن يقال قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وقوله وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم المراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل فإن أولئك لم يكونوا كفارا ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن ولا قيل لهم في القرآن يا أهل الكتاب فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار والله تعالى مع ذلك سوغ إقرارهم بالجزية وأحل طعامهم ونساءهم

الوجه الخامس أن يقال هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير أهل الكتاب بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم فمن كان أبوه مسلما وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام هل تقبل توبته على قولين هما روايتان عن أحمد وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلى الله عليهما كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله ولا عند رسوله ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم ومن كفر بشيء من كتب الله فليس مسلما في أي زمان كان

وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية وحل ذبائحهم ونسائهم دون هؤلاء وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام وأنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب لأنه تعالى أنعم على أجدادهم نعما عظيمة في الدين والدنيا فكفروا نعمته وكذبوا رسله وبدلوا كتابه وغيروا دينه فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوأ الكفار عند الله وهو أشد غضبا عليهم من غيرهم لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم وتحريف الكتاب وتبديل النص وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على سائر إخوانهم الكفار مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار وإما أغلظ منه إذ لا يمكن أحدا أن يقول إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود

الوجه السادس أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل فإن الله تعالى قال يا أيها الناس إنا خلقناك من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال النبي  : لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه ولا يذم أحدا بنسبه وإنما يمدح الإيمان والتقوى ويذم الكفر والفسوق والعصيان

وقد ثبت أنه في الصحيح أنه قال: أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم فجعل الفخر بالأحساب من أمول الجاهلية فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأجل النسب علم أنه لأفضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل على من كان أبوه داخلا فيه بعد النسخ والتبديل وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين والشريعة إنما علقت بالنسب أحكاما مثل كون الخلافة من قريش وكون ذوي القربى لهم الخمس وتحريم الصدقة على آل محمد ونحو ذلك لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم كما قال النبي : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي ضعفين من العذاب كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب

فذوو الأنساب الفاضلة إذا أساؤوا كان إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فكفر من كفر من بني إسرائيل إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم ولهذا لم يقل أحد من العلماء أن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه

الوجه السابع أن يقال أصحاب رسول الله لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم كانوا يأكلون ذبائحهم لا يميزون بين طائفة وطائفة ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب وإنما تنازعوا في بني تغلب خاصة لأمر يختص بهم كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم ولم يلحق بهم سائر العرب وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم

الوجه الثامن أن يقال هذا القول مستلزم أن لا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب لأنا لا نعرف نسب كثير منهم ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودا أو نصارى قبل النسخ والتبديل ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع فإذا كان هذا القول مستلزما رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم أنه باطل

الوجه التاسع أن يقال ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل وأنه مقتضى الدليل فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل فهذا خلاف إجماع المسلمين فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلابحجة شرعية

وكذلك تنازعوا في متروك التسمية وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله وفي شحم الثرب والكليتين وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من المسائل وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين فمن صار إلى قول مقلد لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت

ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة بل من كان مقلدا لزم حل التقليد فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوب ولم يخطىء ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه فقبل ما تبين أنه حق ورد ما تبين أنه باطل ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان

وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فإنه من العوام المقلدين لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون والله تعالى يهدينا وإخواننا لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق والله أعلم

فصل[عدل]

قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين

فيه قراءتان مشهورتان النصب والخفض

فمن قرأ بالنصب فإنه معطوف على الوجه واليدين والمعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم

ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس لأوجه

أحدها أن الذين قرؤوا ذلك من السلف قالوا عاد الأمر إلى الغسل

الثاني أنه لو كان عطفا على الرؤوس لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو فقال تعالى وامسحوا برؤوسكم وقال فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم يقرأ القراء المعروفون في آية التيمم وأيديكم بالنصب كما قرؤوا في آية الوضوء فلو كان عطفا لكان الموضعان سواء وذلك أن قوله وامسحوا برؤوسكم وقوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم يقضتي إلصاق الممسوح لأن الباء للإلصاق وهذا يقتضي إيصال الماء والصعيد إلى أعضاء الطهارة وإذا قيل امسح رأسك ورجلك لم يقتض إيصال الماء إلى العضو وهذا يبين أن لباء حرف جاء لمعنى لا زائدة كما يظنه بعض الناس وهذا خلاف قوله معاوى إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا فإن الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعنى والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعنى فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها بل على لفظ المجرور بها أو على ما قبله

الثالث أنه لو كان عطفا على المحل لقرىء في آية التيمم فامسحوا بوجوهكم وامسحوا بأيديكم فكان في الآية ما يبين فساد مذهب الشارح بأنه قد دلت عليه فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه بالنصب لأن اللفظين سواء فلما اتفقوا على الجر في آية التيمم مع إمكان العطف على المحل لو كان صوابا علم أن العطف على اللفظ ولم يكن في آية التيمم منصوب معطوف على اللفظ كما في آية الوضوء

الرابع أنه قال وأرجلكم إلى الكعبين ولم يقل إلى الكعاب فلو قدر أن العطف على المحل كالقول الآخر وأن التقدير أن في كل رجلين كعبين وفي كل رجل كعب واحد لقيل إلى الكعاب كما قيل إلى المرافق لما كان في كل يد مرفق وحينئذ فالكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي الساق ليس هو معقد الشراك مجمع الساق والقدم كما يقوله من يرى المسح على الرجلين فإذا كان الله تبارك وتعالى إنما أمر بطهارة الرجلين إلى الكعبين الناتئين والماسح يمسح إلى مجمع القدم والساق علم أنه مخالف القرآن

الوجه الخامس أن القراءتين كالآيتين والترتيب في الوضوء إما واجب وإما مستحب مؤكد الاستحباب فإذا فصل ممسوح بين مغسولين وقطع النظير عن النظير دل ذلك على الترتيب المشروع في الوضوء

الوجه السادس أن السنة تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وهي قد جاءت بالغسل

الوجه السابع أن التيمم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخف الشطر الثاني وذلك فإنه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا

وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض فهي لا تخالف السنة المتواترة إذ القراءتان كالآيتين والسنة الثابتة لا تخالف كتاب الله بل توافقه وتصدقه ولكن تفسره وتبينه لمن قصر فهمه عن فهم القرآن فإن القرآن فيه دلالات خفية تخفى على كثير من الناس وفيه مواضع ذكرت مجملة تفسرها السنة وتبينها

والمسح اسم جنس يدل على إلصاق الممسوح به بالممسوح ولا يدل على لفظه وجريانه لا بنفي ولا إثبات قال أبو زيد الأنصاري وغيره العرب تقول تمسحت للصلاة فتسمي الوضوء كله مسحا ولكن من عادة العرب وغيرهم إذا كان الاسم عاما تحته نوعان خصوا أحد نوعيه باسم خاص وأبقوا الاسم العام للنوع الآخر كما في لفظة الدابة فإنه عام للإنسان وغيره من الدواب لكن للإنسان اسم يخصه فصاروا يطلقونه على غيره

وكذلك لفظ الحيوان ولفظ ذوي الأرحام يتناول لكل ذي رحم لكن للوارث بفرض أو تعصيب اسم يخصه

وكذلك لفظ المؤمن يتناول من آمن بالله وبملائكته وكتبه ورسله ومن آمن بالجبت

والطاغوت فصار لهذا النوع اسم يخصه وهو الكافر وأبقي اسم الإيمان مختصا بالأول وكذلك لفظ البشارة ونظائر ذلك كثيرة

ثم إنه مع القرينة تارة ومع الإطلاق أخرى يستعمل اللفظ العام في معنيين كما إذا أوصى لذوي رحمه فإنه يتناول أقاربه من مثل الرجال والنساء فقوله تعالى في آية الوضوء وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم يقتضي إيجاب مسمى المسح بينهما وكل واحد من المسح الخاص الخالي عن الإسالة والمسح الذي معه إسالة يسمى مسحا فاقتضت الآية القدر المشترك في الموضعين ولم يكن في لفظ الآية ما يمنع كون الرجل يكون المسح بها هو المسح الذي معه إسالة ودل على ذلك قوله إلى الكعبين فأمر بمسحهما إلى الكعبين

وأيضا فإن المسح الخاص هو إسالة الماء مع الغسل فهما نوعان المسح العام الذي هو إيصال الماء ومن لغتهم في مثل ذلك أن يكتفي بأحد اللفظين كقولهم علفتها تبنا وماء باردا والماء سقي لا علف وقوله

ورأيت زوجك في الوغى... متقلدا سيفا ورمحا

والرمح لا يتقلد ومنه قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس إلى قوله وحور عين فكذلك اكتفى بذكر أحد اللفظين وإن كان مراده الغسل ودل عليه قوله إلى الكعبين والقراءة الأخرى مع السنة المتواترة

ومن يقول يمسحان بلا إسالة يمسحهما إلى الكعاب لا إلى الكعبين فهو مخالف لكل واحدة من القراءتين كما أنه مخالف للسنة المتواترة وليس معه لا ظاهر ولا باطن ولا سنة معروفة وإنما هو غلط في فهم القرآن وجهل بمعناه وبالسنة المتواترة

وذكر المسح بالرجل مما يشعر بأن الرجل يمسح بها بخلاف الوجه واليد فإنه لا يمسح بهما بحال ولهذا جاء في المسح على الخفين اللذين على الرجلين ما لم يجىء مثله في الوجه واليد ولكن دلت السنة مع دلالة القرآن على المسح بالرجلين

ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل والرجل إذا كانت ظاهرة وجب غسلها وإذا كانت في الخف كان حكمها مما بينته السنة كما في آية الفرائض فإن السنة بينت حال الوارث إذا كان عبدا أو كافرا أو قاتلا ونظائره متعددة والله سبحانه أعلم

فصل[عدل]

في مجادلة أهل الكتاب في أمر المسيح

قال شيخ الإسلام

قال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا وقال تعالى أيضا لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما

وقال تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد فقد قال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم في موضعين

وقال تعالى لقد كفرا الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة

وقال تعالى ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم

وقال تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله

فذكر الله عنهم هذه الأقوال الثلاثة والنصارى قالت الأقوال الثلاثة لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم وهذا وهذا قول طائفة منهم وقولهم ثالث ثلاثة قول النسطورية وقولهم أنه ابن الله قول الملكانية ومنهم من يقول قوله أن الله هو المسيح بن مريم قول اليعقوبية وقولهم والابن وروح القدس

وظن ابن جرير الطبري أن هذه الطوائف كانوا قبل اليعقوبية والنسطورية والملكية كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم ثالث ثلاثة بالأب والابن وروح القدس

والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الأب والابن وروح القدس فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح إنه الله وتقول إنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم "نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من إله حق مولود غير مخلوق"

وأما قوله تعالى ولا تقولوا ثلاثة وقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة

فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول إن الله هو المسيح بن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالأب والابن وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله

قال السدي في قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله

وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، قال هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المرسية يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله فقد يقال إن هذا قول هؤلاء كما أن القول بأن عزيرا ابن الله قول طائفة من اليهود

وأما الأول فمتوجه فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم

فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وقال فآمنوا بالله ورسله ثم قال ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم ولم يذكر هنا أمه وقوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قال معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم وهو قوله كن فكان وكذلك قال قتادة ليس الكلمة صار عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في مصنفه الذي صنفه في كتبه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا آخر فقال إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا أي آية

قال قول الله إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم

فقلنا إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى عليه السلام تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قول عيسى ولكن المعنى في قوله جل ثناؤه إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان عيسى فالكن من الله قوله وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا عيسى روح الله وكلمته لأن الكلمة مخلوقة

قالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة

قال أحمد وأما قوله جل ثناءه وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقها الله كما يقول عبد الله وسماء الله وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله

وقال الشعبي في قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم الكلمة حين قال له كن

فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان وقال الليث عن مجاهد وروح منه قال رسول منه يريد مجاهد قوله فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك

والمعنى أن عيسى خلق من هذه الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس لأنه جاء كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب وهذا غلط منهم فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء عليهم السلام يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى بن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم أتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث

وقد قال تعالى والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين

وقال تعالى ومريم بنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا

فهذا يوافق قوله تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك وهذا مبسوط في موضع آخر

والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة فيجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم فإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب ولا الاحتجاج بشيء من المعقول بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح عليه السلام لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان من الكذابين امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به بنوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى فإذا قالوا علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو قد جمع في شريعته بين العدل والفضل فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك فيبطل بتكذيبهم محمدا جميع ما معهم من النبوات إذ حكم احد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داود وسليمان ويوشع ويحيى كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا أو قال ما يقوله السامرة إن يوشع كان نبيا ومن بعده كداود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء أو قال ما يقوله اليهود إن داود وسليمان وشيعا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة احق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل إن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء او قال إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة أو قال إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن له علم بالهيئة

ومن قال إن داود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبد الله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال إن موسى وعيسى رسولان رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمدا ليس برسول والقرآن لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لن تدبر ما جاء به محمد وما جاء به من قبله وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمة مما جاء به

فصل[عدل]

في عقوبة المحاربين بين وقطاع الطريق

قال الله تعالى فيهم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض

وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله

ومنهم من قال للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص

وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حدا لله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول عير مكافىء للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم

وإذ كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين فإن النبي قال: المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قعدهم يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا فإن الجيش يشاركها فيما غنمت لأنها بظهره وقوته تمكنت ولكن تنفل عنه نفلا فإن النبي كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بعد الخمس وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي لطلحة والزبير يوم بدر لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن نحوهما ظالمتان كما قال النبي : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال أراد قتل صاحبه أخرجاه في الصحيحين وتضمن كل طائفة أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد

وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا كما قد يفعله الأعراب كثيرا فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وهذا معنى قول الله تعالى أو تقطع أيديهم وأرجلهم تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل فإنه قد ينسى وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله

وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم اغمدوه أو هربوا أو تركوا الحراب فإنهم ينفون فقيل نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد وقيل هو حبسهم وقيل هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك

والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل

وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه وقال النبي : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته وقال: إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان

وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء ومنهم من قال يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل

فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما ما خطبنا رسول الله خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانها عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم ما فعلوا والترك أفضل كما قال الله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي : لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا فأنزل الله هذه الآية وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وقوله وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبي بل نصبر

وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال كان النبي إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاهم بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا

ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال فقد قيل إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس

وقال أكثرهم إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد وهذا قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه غالبا إلا بعض ماله وهذا الصواب لا سيما هؤلاء المحترفون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين

ولو حاربوا بالعصي والحجارة والمقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها فهم محاربون أيضا وقد حكي عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد وحكى بعضهم الإجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل

وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأني نوع كان من أنواع القتال فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصا فهو مجاهد في سبيل الله

وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليهم حكم القود فيه قولان للفقهاء

أحدهما أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به

والثاني أن المحارب هو المجاهر بالقتال وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم والأول أشبه بأصول الشريعة بل قد يكون هذا أشد لأنه لا يدري به

واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم على قولين في مذهب أحمد وغيره لأن في قتله فسادا

فصل[عدل]

وهذا كله إذا قدر عليه فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد وقتال هؤلاء أوكد من قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلية الذين يعتصمون برؤوس الجبال أو المغارات لقطع الطريق وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة فإنهم يقاتلون كما ذكرناه ولكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذا لم يكونوا كفارا ولا تؤخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يموت يكون قد وجب عليه القتل وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ومن أسر منهم أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة عن شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهم

وأما من كان لا يقطع الطريق ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس والدواب والأحمال ونحو ذلك فهذا مكاس عليه عقوبة المكاسين وقد اختلف الفقهاء جواز قتله وليس هو من قطاع الطريق فإن الطريق لا ينقطع به مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة حتى قال النبي في الغامدية: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له

ويجوز للمظلومين الذين تراد أموالهم قتل المحاربين بإجماع المسلمين ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير إذا أمكن قتالهم فإن النبي قال: من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد وهذا الذي يسميه الفقهاء الصائل وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية فإذا كان مطلوبه المال جاز منعه بما يمكن فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز وأما إذا كان مطلوبه الحرمة مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجوربه فإنه يجب عليه أن يدفع نفسه بما يمكن ولو بالقتال ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه لأن بذل المال جائز وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز

وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه وهل يجب عليه قتله أم لا على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره وهذا إذا كان للناس سلطان فأما إذا كان والعياذ بالله فتنة مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية وقد أخذوا الأموال التي للناس فعليه أن يستخرج منهم الأموال التي للناس ويردها عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم

وكذلك السارق فإن امتنعوا من إحضارهم المال بعد ثبوته عليهم عاقبهم بالحبس والضرب حتى يمكنوا من أخذه بإحضاره أو توكيل من يحضره والإخبار بمكانه كما يعاقب كل ممتنع من حق وجب عليه أداؤه فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليها حتى تؤديه فهؤلاء أولى وأحرى وهذا المطالبة والعقوبة حق لرب المال فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عن عقوبتهم فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليهم فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال

وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق فقيل يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وتبقى مع الإعسار في ذمتهم إلى ميسرة وقيل لا يجتمع الغرم والقطع وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار وهو قول مالك رحمه الله

ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا عن طلب المحاربين وإقامة الحد وارتجاع أموال الناس منهم ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمي البيكار وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة فإن كان له أقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات فإن هذا من سبيل الله فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين جاز ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف فأعطى الإمام من الفيء والمصالح أو الزكاة لبغض رؤسائهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره وهو ظاهر بالكتاب والسنة وأصول الشريعة

ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقارمة الحرامية ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين ببعض أموالهم أو لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا والواجب أن يقال فيه الردء والعون لهم

فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثر أهل العلم

وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله

وإن قتلوا وأخذوا المال قتل وصلب وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب وقيل يخير بين هذين وإن كان لم يأذن لهم لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال وعطل بعض الحقوق والحدود

ومن آوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفي منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم وقد لعنه الله ورسوله روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله : لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذي يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل فإنه لا يحل الإعلام به لأنه من التعاون على الإثم والعدوان بل يجب الدفع عنه لأنه نصر المظلوم واجب ففي الصحيحين عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله : انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وروى مسلم نحوه عن جابر

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم وإجابة الدعوة ونصر المظلوم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن لبس الحرير والقسي والديباج والاستبرق فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جاز عقوبته بالحبس وغيره حتى يخبر به لأنه امتنع من حق واجب عليه لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم ولاتجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل وليس هذا مطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره حتى يدخل في قوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وفي قول النبي : ألا لا يجني جان إلى على نفسه. وإنما ذلك مثل أن يطالب بمال قد وجب على غيره وهو ليس وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال أو يعاقب الرجل بجريمة قريبه أو جاره من غير أن يكون قد أذنب لا بترك واجب ولا بفعل محرم فهذا الذي لا يحل فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسه وهو أن يكون قد علم مكان الظالم الذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع إما محاباة وحمية لذلك الظالم كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض وإما معاداة أو بغضا للمظلوم وقد قال الله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وإما إعراضا عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعله التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض وعلى كل تقدير فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء ومن لم يسلك هذه السبل عطل الحدود وضيع الحقوق وأكل القوي الضعيف وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفى به دينه أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبة وكما تجب الدية على عاقلة القاتل

وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره وهو لا يحضره كالقطاع والسراق وحماتهم أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يعتدي عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ويجتمع شبهه وشهرته والواجب تمييز الحق من الباطل وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة وإذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناوئهم ويناوؤنه فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناوئهم ذلا أو عجزا وهذا على الإطلاق جاهلية محضة وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر أنه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذا سبب دخول الترك المغول دار الإسلام واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا ومن أذل نفسه لله أعزها ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ومن اعتز بالظلم في منع وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى من كان يريد العزة فلله العزة جميعا وقال تعالى عن المنافقين يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما ينصره ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم بل يكشف خبره من خصمه وغيره فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن أما من صلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة وإن كان كل منهما ظالما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل أو غلط وقع فيما بينهما سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وقال تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما وقد روى أبو داود في السنن عن النبي أنه قيل له أمن العصبية أن ينصر الرجل قومه في الحق قال لا قال ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل وقال: خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم وقال: مثل الذي ينصر قومه بالباطل كبعير تردى في بئر فهو يجر بذنبه وقال: من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا

وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار قال النبي : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا

فصل[عدل]

وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة أو بالإقرار تأخيره لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لا شفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق بمنزلة الوالد إذا أدب ولده فإنه لو كف عن تأيب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة

فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وآبتغي بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أو ليبذلوه له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم قالوا ما نستطيع أن ننظر إليه قال كيف محبتكم له قالوا هو أحب إلينا من أهلنا قال فكيف أدبه فيكم قالوا ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء

وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا ورابعا ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى

وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم كمالك والشافعي وأحمد ومنهم من يقول دينار أو عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم وفي لقظ لمسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاث دراهم والمجن الترس وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله : تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا وفي رواية للبخاري قال اقطعو في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وكان ربع الديار يومئذ دراهم والدينار اثني عشر درهما

ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الأخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث

وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج سمعت رسول الله : لا قطع في ثمر ولا كثر والكثر جمار النخل رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله قال يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها قال فالضالة من الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها قال فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثلية وجلدات نكال رواه أهل السنن لكن هذا سياق النسائي ولذلك قال النبي ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح

فصل[عدل]

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة قال عامة المفسرين كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء الوسيلة القربة

قال قتادة تقربوا إلى الله بما يرضيه قال أبو عبيدة توسلت إليه أي تقربت وقال عبد الرحمن بن زيد تحببوا إلى الله والتحبب والتقرب إليه إنما هو بطاعة رسوله فالإيمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة إلا الإيمان برسوله وطاعته وليس لأحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى إلا توسله بالإيمان بهذا الرسول الكريم وطاعته وهذه يؤمر بها الإنسان حيث كان من الأمكنة وفي كل وقت وما خص من العبادات بمكان كالحج أو زمان كالصوم والجمعة فكل في مكانه وزمانه وليس لنفس الحجرة من داخل فضلا عن جدارها من خارج اختصاص شيء في شرع العبادات ولا فعل شيء منها فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين والمسجد خص بالفضيلة في حياته قبل وجود القبر فلم تكن فضيلة مسجده لذلك ولا استحب هو ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر ولايعكف عليه لا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا أن يقصد السكنى قريبا من قبر أي قبر كان وسكنى المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر كما كان الأمر لما كان الناس مأمورين بالهجرة إليها فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع مكة وغيرها بل كان ذلك واجبا من أعظم الواجبات فلما فتحت مكة قال النبي : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وكان من اتى من اهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة يأمره أن يرجع إلى مدينته ولا يأمره بسكناها كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الناس عقب الحج أن يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة وكان يأمر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة أن يخرجوا إلى أماكن أخرى لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة يخرجوا إلى أماكن أخرى لولاية مكان وغيره وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة فكيف بها بعد ذلك إذ كان الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله وأما ما سوى ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك كما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا وقال إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين وقال: إن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا

قال شيخ الإسلام رحمه الله

فصل[عدل]

قوله سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك

قيل اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا ويمسعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك فيكونون كذابين ونمامين جواسيس والصواب أنها لام التعدية مثل قوله سمع الله لمن حمده فالسماع متضمن معنى القول أي قائلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين مثل قوله ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل في نوعي الكلام خبره وإنشائه فإن باطل الخبر الكذب وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل وهذا بعيد

ثم قال سماعون للكذب أكالون للسحت فذكر أنهم في غذاءي الجسد والقلب يغتدون الحرام بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله أو يؤثره لموافقته هواه فيدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة لأنها كذب لا سيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك وهو شبيه بقوله إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله اهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على الله ورسوله وأحكامه والذين يطيعون في معصية الخالق

ومثله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع واكثرهم كاذبون فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع

ثم قال في السورة لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة في العادة وللحكام منها خصوص فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة والدعوى الفاجرة فصار سماعا للكذب أكالا للسحت قائلا للإثم

ولهذا خير نبيه بين الحكم بينهم وبين تركه لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقا بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كاذبا وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة

فصل[عدل]

قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هاوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم إلى قوله وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله

يعلم من هذا أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد فيها حكم الله

والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله وإن قيل أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما يختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن لا يمكن أحدا أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ وهذا بخلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور وبالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب كما قال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وذلك أن اليهود قبل النبي وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة

وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان هذا ممكنا لكان ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال تعالى وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه

فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله تعالى في الإنجيل وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد

وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي فإنه تعالى قال وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون فإذا قرأ وليحكم كان المعنى وآتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق ولا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول هو ذلك الإنجيل

وأما قراءة الجمهور وليحكم أهل الإنجيل فهو أمر بذلك فمن العلماء من قال هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله تعالى وليحكم أمرا لهم قبل مبعث محمد وقال آخرون لا حاجة إلى هذا التكليف فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله ثم تولوا عن حكم الله وقال بعد ذلك وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع وإنما يكون الأمر لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيه باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد لمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد بما أنزله الله في التوراة والإنجيل ولم يحكم بما يخالف حكم محمد إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد كما قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل

وقال تعالى وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق

فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا

وقد ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد هذا ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فأمر بهما النبي فرجما

وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: أتي رسول الله بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق حتى جاء يهودي فقال ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا نسود وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قال فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا صدق فيها آية الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا وإن أحبارنا أحدثوا التحميم والتحبية فأمر رسول الله وسلم برجمهما فرجما

وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: مر على رسول الله بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد الرجم ولكنه كثير في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم إلى قوله فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون قال هي في الكفارة كلها

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أنه قال: رجم النبي رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله وسادة فجلس عليها ثم قال ائتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال ائتوني بأعمالكم فأتي بشاب ثم ذكر قصة الرجم

وأخرج أيضا ابو داود وغيره عن أبي هريرة أنه قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا نبي من أنبيائك قالوا فأتوا النبي وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا نحمم ونحبيه ونجلده والتحبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي ساكتا أنشده فقال اللهم إذا نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال النبي فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما

قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا

وكان النبي منهم وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية

قال أبو داود سلمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن العلا حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر

فلما بعث النبي قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط

والقسط النفس بالنفس ثم نزلت أفحكم الجاهلية يبغون قال أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون

وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول فقد أخبر الله عز وجل أن في التوراة الموجودة بعد المسيح عليه السلام حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول الثاني

وهذا من التبديل الثاني الذي ذموا عليه ودل على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل ومعلوم أن الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة لم ينسخه الإنجيل ولا القرآن فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه فإنه يحكم به

ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله كما أن الله أمر أمة محمد أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة

قال تعالى سورة المائدة الآيات 48 56

فقد أمر نبيه محمدا أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه وهو حكم الجاهلية حيث قال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله عز وجل

وكذلك موسى عليه السلام كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله عز وجل والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله عز وجل فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ بل كان إذا ناسخ ومنسوخ فالذي أنزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله ومما يوضح هذا قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذا كان ذلك مما قرره محمد ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يضاد وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني

ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول إنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع

وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون ما أنزل الله والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات هل هو المسيح بن مريم عليه السلام أو مسيح آخر ينتظر والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقنهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك

وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال إن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب على شبهة عن يقول إنه لم يبدل شيء من ألفاظها فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد لم يعلم الحق من الباطل فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيها واستشهد بهما في مواضع وجواب ذلك أن ماوقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة بينة بالمقصود تبين غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل فإنه ألفاظ قليلة وسائر نصوص الكتب يناقضها وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ما يبين ضعف تلك بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط وأنه ليس في كلام النبي بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار كما قد بسط في موضعه والقرآن يدل على غلط هذا وبين أن الخلق في ستة أيام وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد وكذلك ما روي أنه صلى الكسوف بركوعين أو ثلاثة فإن الثابت المتواتر عن النبي في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج البخاري إلا ذلك وضعف الشامي والبخاري وأحمد فإن النبي إنما صلى الكسوف مرة في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاثة والأربع فإن النبي إنما صلى مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه

فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين ذلك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها فإن هذا لا أعرف أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي فيهما ما أنزله الله عز وجل والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفةفي الألفاظ اختلافا بينا والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذا الكتب فإن عند السامرة نسخا متعددة وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود عليه السلام وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة

فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب عن ترك الحكم بما أنزل الله منها قيل النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالأخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك فلم تنسخ

وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول لأن أهل الكتاب كفروا من جهتين من جهة تبديلهم الكتاب الأول وترك الإيمان والعمل ببعضه ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني وهو القرآن كما قال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين

فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه قال تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين

وقال تعالى فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير

وقال تعالى فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين

وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن وبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول كما ليس في أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني

فصل[عدل]

قوله في سورة المائدة وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل الله فيه كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لما يخالفك وأنت رسول الله، فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله من أعظم الذنوب

ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه بقوله سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون لهم كما قال في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون لهم مطيعون لهم ومن قال إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال سماعون لهم هم الجواسيس فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه ومعلوم أن النبي كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيهم من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه

قال تعالى سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يظهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم

والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل

قال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ثم قال سورة المائدة الآيات 43 46

فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال عقب ذكرها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل فإنه قال في الإنجيل وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور وقال فيه وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

وقال في التوراة يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال عقب ذكرها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فهو سبحانه مع إخباره بإنزال الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل، كما قال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذي أسلموا للذين هادوا

وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا صلى الله عليهما وسلم تسليما وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى فكذلك ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل فعلم اتفاق أهل الملل كلها المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ

فصل[عدل]

يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم

وهذه حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا لم يا أبا عبد الرحمن قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة

فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم وهم كما قال تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل

ثم يقال من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال أنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم

وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه على قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة

وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر واتباعا لهما وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر وعمر وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا غيرهما فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي

وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي فنهاهم نبي الله وقال: أليس لكم بي أسوة فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله فقال له ابن عباس ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله قال من قال عائشة رضي الله عنها فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا قال فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث

وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي فقال لا على ملة علي ولا على ملة عثمان أنا على ملة رسول الله

وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضا وإنما سموا رافضة وصاروا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم فرفضه قوم فقال رفضتموني رفضتموني فسموا رافضة وتولاه قوم فسموا زيدية لانتسابهم إليه ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر فالزيدية خير من الرافضة أعلم وأصدق وأزهد وأشجع

ثم بعد أبي بكر عمر بن الخطاب وهو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ماله من صديق

فصل[عدل]

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى

هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ

منها قوله تعالى وعبد الطاغوت والصواب عطفه على قوله من لعنه الله فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية لكن المتقدمة الفاعل الله مظهرا أو مضمرا وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد حرف من لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود والله أعلم

فصل في بطلان الاستدلال بالمتشابه[عدل]

قال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون

فذكر القسيسين والرهبان لئلا يقال إن هذا قيل عن غيرنا فدل هذا على أفعالنا وحسن نياتنا ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة

والجواب أن يقال تمام الكلام وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين

فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد الذين قال فيهم وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهم الشهداء الذين قال فيهم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ولهذا قال ابن عباس وغيره فاكتبنا مع الشاهدين قال محمد وأمته

وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين

وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس

وأما قوله في أول الآية لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى فهو كما أخبر سبحانه وتعالى فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى والنصارى أقرب مودة لهم وهذا معروف من أخلاق اليهود فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى

وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم فكيف ببغضهم للمؤمنين

واما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم المؤمنين بجميع الكتب والرسل

وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة وقوله تعالى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون أي بسبب هؤلاء وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين

ثم قال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة والضمير وإن عاد إلى المتقدمين فالمراد به جنس المتقدمين لا كل واحد منهم كقوله تعالى والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل

وكان جنس الناس قالوا لهم إن جنس الناس قد جمعوا ويمتنع العموم فإن القائل من الناس والمقول له عنه من الناس والمقول عنه من الناس ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس إنه قد جمع لكم جميع الناس

ومثل هذا قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله أي جنس اليهود قال هذا لم يقل هذا كل يهودي ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود وهذا حق وأما قولهم ونفى عنا اسم الشرك فلا ريب أن الله فرق بين المشركين وأهل الكتاب في عدة مواضع ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في عدة مواضع وكلا الأمرين حق فالأول كقوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين

وقوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا وقال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا

وأما وصفهم بالشرك ففي قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون فنزه نفسه عن شركهم وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد والنهي عن الشرك كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون

وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت

وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون

فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كواكب ولا وثن ولا أن تسأل الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب ولا نبي ولا ملك فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل ولا مصورة في الحيطان ولا يجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل أو تعظيمهم والاستشفاع بهم وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها وقصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها كما فعله جهال المشركين وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته فإنه يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه ويقول أنا الخضر أنا المسيح أنا جرجس أنا الشيخ فلان

كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم وقد يقضي بعض حاجاتهم فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك

وأما الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك فالنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة ولكن بتعظيم التماثيل المصورة فليسوا على التوحيد المحض وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل فلهذا جعلهم الله نوعا غير المشركين تارة وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة

وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كقوله تعالى ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار لا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء كما كان عبد الله بن عمر ينهي عن نكاح هؤلاء ويقول لاأعظم شركا من أن يقول عيسى ربنا

وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم

وأما جمهور السلف والخلف فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان

وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى لأن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود

وكذلك قوله لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ونحو ذلك وهذا لأن لفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الأفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الاقتران كلفظ المعروف والمنكر في قوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فإنه يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف وجميع ما نهى عنه فإنه منكر

وفي قوله لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس

وكذلك المنكر في قوله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر قرن الفحشاء بالمنكر وقوله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون قرن الفحشاء بالمنكر والبغي

وكذلك لفظ البر والإيمان وإذا أفرده دخل فيه الأعمال والتقوى كقوله ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين

وقال إن الأبرار لفي نعيم وقوله إنما المؤمنون ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري وقال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون وقد يقرنه بغيره كقوله وتعاونوا على البر والتقوى وقوله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وكذلك لفظ الفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه لفظ الآخر

وقد يجمع بينهما في قوله إنما الصدقات للفقراء والمساكين فيكونان هنا صنفين وفي تلك المواضع صنف واحد فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا يدخل فيه جميع الكفار

أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين

وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي : كان إذا أرسل أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا وقال لهم اغزوا بسم الله في سبيل الله في دعة قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فإنهم ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم

وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي النصارى بالشام واليهود باليمن

وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة ولكن تنازعوا في الجزية هل تؤخذ من غير أهل الكتاب وهذا مبسوط في موضعه

فصل في ادعاء النصارى أن القرآن سوى بين الأديان[عدل]

قالوا في سورة المائدة إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

فساوى بهذا القول بين سائر الناس اليهود والمسلمون وغيرهم

والجواب أن يقال أولا لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم فإنه يسوي بينكم وبين اليهود والصابئين وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من بعث المسيح إليهم فكذبوه

وكذا الصابئون من حيث بعث إليهم رسول فكذبوه فهم كفار فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد ففيها مدح دين اليهود أيضا وهذا باطل عندكم وعند المسلمين

وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل

وكذلك يقال لليهودي إن احتج بها على صحة دينه

وأيضا فإن النصارى يكفرون اليهود فإن كان دينهم حقا لزم كفر اليهود وإن كان باطلا لزم بطلان دينهم فلا بد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما وقد سوت بينهما

فعلم أنها لم تمدح واحدا منهما بعد النسخ والتبديل وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد والذين هادوا الذين اتبعوا موسىعليه السلام وهم الذين كانوا على شرعة قبل النسخ والتبديل والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل

والصابئون وهم الصائبون الحنفاء كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ

فإن العرب من ولد إسماعيل وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة وهو عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم يحرمه الله ولهذا قال النبي : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه في النار وهو أول من بحر البحيرة وسيب السوائب وغير دين إبراهيم

وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم الذين مدحهم الله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحا كما قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

فصل في كفارة اليمين[عدل]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

كفارة اليمين هي المذكورة في سورة المائدة قال تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فمتى كان واحدا فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وإذا اختار أن يطعم عشرة مساكين فله ذلك ومقدار ما يطعم مبني على أصل وهو أن إطعامهم هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف فيه قولان للعلماء منهم من قال هو مقدر بالشرع وهؤلاء على أقوال

منهم من قال يطعم كل مسكين صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر كقول أبي حنيفة وطائفة

ومنهم من قال يطعم كل واحد نصف صاع من تمر أو شعير أو ربع صاع من بر وهو مد كقول أحمد وطائفة

ومنهم من قال بل يجزىء في الجميع مد من الجميع كقول الشافعي وطائفة

والقول الثاني أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرا ونوعا وهذا معنى قول مالك قال إسماعيل بن إسحاق كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزىء بالمدينة قال مالك وأما البلدان فإن لهم عيشا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم لقول الله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا

والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول ولهذا كانوا يقولون الأوسط خبز ولبن خبز وسمن خبز وتمر والأعلى خبز ولحم وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وهو قياس مذهب أحمد وأصوله فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف لا سيما مع قوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم فإن أحمد لا يقدر طعام المرأة والولد ولا المملوك ولا يقدر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته في ظاهر مذهبه ولا يقدر الضيافة الواجبة عنده قولا واحدا ولا يقدر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين في ظاهر مذهبه هذا مع أن هذه واجبة بالشرط فكيف يقدر طعاما واجبا بالشرع بل ولا يقدر الجزية في أظهر الروايتين عنه ولا الخراج ولا يقدر أيضا الأطعمة الواجبة مطلقا سواء وجبت بشرع أو شرط ولا غير الأطعمة مما وجبت مطلقا فطعام الكفارة أولى أن لا يقدر

والأقسام ثلاثة فما له حد في الشرع أو اللغة رجع في ذلك إليهما وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف ولهذا لا يقدر للعقود ألفاظا بل أصله في هذه الأمور من جنس أصل مالك كما أن قياس مذهبه أن يكون الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من بر وقد دل على كلامه أيضا كما قد بين في موضع آخر وإن كان المشهور عنه تقدير ذلك وبالصاع كالتمر والشعير

وقد تنازع العلماء في الأدم هل هو واجب أو مستحب على قولين والصحيح أنه إن كان يطعم أهله بأدم أطعم المساكين بأدم وإن كان إنما يطعمهم بلا أدم لم يكن عليه أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله

وعلى هذا فمن البلاد من يكون أوسط طعام أهله مدا من حنطة كما يقال عن أهل المدينة وإذا صنع خبزا جاء نحو رطلين بالعراقي وهو بالدمشقي خمسة أواق وخمسة أسباع أوقية فإن جعل بعضه أدما كما جاء عن السلف كان الخبز نحوا من أربعة أواق وهذا لا يكفي أكثر أهل الأمصار فلهذا قال جمهور العلماء يطعم في غير المدينة أكثر من هذا إما مدان أو مد ونصف على قدر طعامهم فيطعم من الخبز إما نصف رطل بالدمشقي وإما ثلثا رطل وإما رطل وإما أكثر وإما مع الأدم وإما بدون الأدم على قدر عادتهم في الأكل في وقت

فإن عادة الناس تختلف بالرخص والغلاء واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف وغير ذلك

وإذا حسب ما يوجبه أبو حنيفة خبزا كان رطلا وثلثا بالدمشقي فإنه يوجب نصف صاع عنده ثمانية أرطال وأما ما يوجبه من التمر والشعير فيوجب صاعا ثمانية أرطال وذلك بقدر ما يوجبه الشافعي ست مرات وهو بقدر ما يوجبه أحمد بن حنبل ثلاث مرات

والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس وعادتهم فقد يجزىء في بلد ما أوجبه أبو حنيفة وفي بلد ما أوجبه أحمد وفي بلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته عملا بقوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم

وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزا أو أدما من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم وهو أظهر القولين في الدليل فإن الله تعالى أمر بالإطعام لم يوجب التمليك وهذا إطعام حقيقة ومن أوجب التمليك احتج بحجتين

إحداهما أن الطعام الواجب مقدر بالشرع ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه

وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع وإن قدر أنه مقدر به فالكلام إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداء وعشاء وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر وأما التصرف بما شاء فالله تعالى لم يوجب ذلك إنما أوجب الإطعام ولو أراد ذلك لأوجب مالا من النقد والزكاة ونحوه وهو لم يوجب ذلك

والزكاة إنما أوجب فيها التمليك لأنه ذكرها باللام بقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين ولهذا حيث ذكر الله التصرف كقوله وفي الرقاب وفي سبيل الله فالصحيح أنه لا يجب التمليك بل يجوز أن يعتق من الزكاة وإن لم يكن تمليكا للمعتق ويجوز أن يشتري منها سلاحا يعين به في سبيل الله وغير ذلك ولهذا قال من قال من العلماء الإطعام أولى من التمليك لأن المملك قد يبيع ما أعطيته ولا يأكله بل قد يكنزه فإذا أطعم الطعام حصل مقصود الشارع قطعا

وغاية ما يقال أن التمليك قد يسمى إطعاما كما يقال أطعم رسول الله الجدة السدس وفي الحديث: ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر من بعده

لكن يقال لا ريب أن اللفظ يتناول الإطعام المعروف بطريق الأولى ولأن ذلك إنما يقال إذا ذكر المطعم فيقال أطعمه كذا فأما إذا أطلق وقيل أطعم هؤلاء المساكين فإنه لا يفهم منه إلا نفس الإطعام لكن لما كانوا يأكلون ما يأخذونه سمى التمليك للطعام إطعاما لأن المقصود هو الإطعام أما إذا كان المقصود مصرفا غير الأكل فهذا لا يسمى إطعاما عند الإطعام

فصل في معنى روح القدس[عدل]

قال تعالى يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس

فيقال هذا مما لا ريب فيه ولا حجة لكم فيه بل هو حجة عليكم فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى في البقرة وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس

وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس

وهذا ليس مختصا بالمسيح بل قد أيد غيره بذلك وقد ذكروا هم أنه قال لداود روحك القدس لا تنزع مني وقد قال نبينا لحسان بن ثابت: اللهم أيده بروح القدس

وفي لفظ روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه

وكلا اللفظين في الصحيح

وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس وكذلك عندهم روح القدس حدث في جميع الأنبياء

وقد قال تعالى سورة النحل الآيات 98 102

وقد قال تعالى في موضع آخر نزل به الروح الأمين على قلبك

وقال قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله

فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا

وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون

وقال تعالى يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق

فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب وكلاهما يتسمى روحا وهما متلازمان فالروح التي ينزل بها الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا

وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح وأيدناه بروح القدس

ولم يقل أحد أن المراد بذلك حياة الله ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح

ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان لاهوت الكلمة ولاهوت الروح فيكون قد اتحد به أقنومان ثم في قوله تعالى وأيدناه بروح القدس يمتنع أن يراد بها حياة الله فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره ولا تختص ببعض الموجودات غيره وأما عندهم فالمسيح هو الله الخالق فكيف يؤيد بغيره وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة فلا يصح تأييده بها

فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد

فصل عيسى عبد الله ورسوله[عدل]

قال تعالى سورة البقرة الآية 87

فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به بقوله أن اعبدوا الله ربي وربكم وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم وبعد وفاته كان الله الرقيب عليهم فإذا كان بعضهم قد غلط في النقل عنه أو في تفسير كلامه أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين

وقد أخبر الله سبحانه أن أول ما تكلم به المسيح أن قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا

ثم طلب لنفسه السلام فقال والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا

والنصارى يقولون علينا منه السلام كما يقوم الغالية فيمن يدعون فيه الإلهية كالنصيرية في علي والحاكمية في الحاكم

الوجه الثاني أن يقال إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل وإنما قال يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وقال المسيح فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد

وقال تعالى سورة النساء الآيات 155 161

فذم الله اليهود بأشياء منها قولهم على مريم بهتانا عظيما حيث زعموا أنها بغي ومنها قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله

قال تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وأضاف هذا القول إليهم وذمهم عليه ولم يذكر النصارى لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود ولم يكن أحد من النصارى شاهدا معهم بل كان الحواريون خائفين غائبين فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب

قال تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم فنفى عنه القتل ثم قال وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته

وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح وقد قيل قبل موت اليهود وهو ضعيف كما قيل إنه قبل موت محمد وهو أضعف فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر

وإن قيل المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة لم يكن في هذا فائدة فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به ولأنه قال قبل موته ولم يقل بعد موته ولأنه ولا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليه وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية فيموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وقوله ليؤمنن به فعل مقسم عليه وهذا إنما يكون في المستقبل فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا ولو أريد قبل موت الكتابي لقال وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به لم يقل ليؤمنن به

وأيضا فإنه قال إن من أهل الكتاب وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما يقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى

والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعي أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني وهذا خلاف الواقع وهو لما قال وإن منهم إلا ليؤمنن به قبل موته ودل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به لا إيمان من كل منهم ميتا

وهذا كما يقال إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال إلا مكة والمدينة أي في المدائن الموجودة حينئذ وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين

فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله إني متوفيك ورافعك إلي وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر الآية الزخرف الآيات 59 65

في الصحيحين أن النبي قال: يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية

وقوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت

وكذلك قوله ومطهرك من الذين كفروا ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره

معنى التوفي[عدل]

ولفظ التوفي في لغة العرب معناه الاستيفاء والقبض وذلك ثلاثة أنواع أحدها توفي النوم والثاني توفي الموت والثالث توفي الروح والبدن جميعا فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس ويخرج منهم الغائط والبول والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم والغائط والبول ونحو ذلك

الوجه الثالث قولهم إنه عنى بموته عن موت الناسوت كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم عنى بتوفيته عن توفي الناسوت وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت فليس هناك شيء غيره لم يتوف الله تعالى قال: إني متوفيك ورافعك إلي فالمتوفى هو المرفوع إلى الله وقولهم إن المرفوع هو اللاهوت مخالف لنص القرآن ولو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى

وكذلك قوله في الآية الأخرى وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه هو تكذيب لليهود في قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله واليهود لم يدعوا قتل لاهوت ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت

وقد زعموا أنهم قتلوه فقال تعالى وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه وإنما هو الناسوت فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل وهو الذي رفع والنصارى معترفون برفع الناسوت لكن يزعمون أنه صلب وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام ثم صعد إلى السماء وقعد عن يمين الأب الناسوت مع اللاهوت

وقوله تعالى وما قتلوه يقينا معناه أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا بأنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل إذ لا حجة معه بذلك

ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون إنه لم يصلب فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره كما دل عليه القرآن وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس أنا أعرفه فعرفوه وقول من قالوا معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف

الوجه الرابع أنه قال تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا فلو كان المرفوع هو اللاهوت لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته إني رافعك إلي وكذلك قوله بل رفعه الله إليه فالمسيح عندهم هو الله

ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه وإذا قالوا هو الكلمة فهم مع ذلك أنه الإله الخالق لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما مما هو كلام الله الذي قال فيه إليه يصعد الكلم الطيب بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع

الوجه الخامس قوله وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر كقوله إن كان هذا هو الحق ونحو ذلك فعلم أن المسيح بعد توفيته ليس رقيبا على اتباعه بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها

فصل فساد قول النصارى في أن المسيح خالق[عدل]

قالوا وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال وإذ تخلق من الطير كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني سورة المائدة 110

فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذة من مريم أنه كذا قال على لسان داود النبي بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه

وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره لأنه حيث قال وتخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت

والجواب إن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما نطق به أنبياؤه فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله تعالى

إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه

وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزل الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة

وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم ببعض ببع ويؤخذ كلامه ها هنا وها هنا وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده

وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ يجعل كلامه متناقضا ويترك كلامه على ما يناسب سائر كلامه كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه

فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم فإذا عرف هذا فيقول

الرد عليهم[عدل]

الجواب عما ذكروه هنا من وجوه

أحدهما أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا ولا خلقا عاما كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم

وقال تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى

فذكر نفسه بأنه الخالق البارىء المصور ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا وكذلك قال تعالى الله خالق كل شيء وهو وكيل له مقاليد السماوات والأرض

وقال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم

ووصف نفسه بأنه رب العالمين وبأنه مالك يوم الدين وأنه له الملك وله الحمد وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم ونحو ذلك من خصائص الربوبية ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من الخصائص التي يختص بها التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى

وأما المسيح عليه السلام فقال فيه وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني

وقال المسيح عن نفسه وأخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله فكيف يكون هذا الخلق هو ذاك

الوجه الثاني أنه خلق من الطين كهيئة الطير والمراد به تصويره بصورة الطير وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير وغير الطير من الحيوانات ولكن التصوير محرم بخلاف تصوير المسيح فإن الله أذن له فيه والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز وجل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين فإن هذا مشترك ولقد لعن النبي المصورين وقال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون

الوجه الثالث أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير وهو محرم والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله وأخبر الله أن هذا من نعمته التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل

وقال تعالى له ياعيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات

وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء وصريح بأن الإذن غير المأذون له والمعلم ليس هو المعلم والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه كما ليس هو والدته

والوجه الرابع أنهم قالوا أشاروا بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت ثم قالوا في قوله بإذن الله أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ففرق بين المسيح وبين الله وبين أن الله هو الآذن للمسيح وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن

الوجه الخامس أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه فإنهم يقولون هو إله واحد وهو الخالق فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه

الوجه السادس أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات فإن كان هو الكلام فالكلام صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة ولو لم تتحد بالناسوت واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا فكيف وهو ممتنع

فقد تبين امتناع كونه الكلمة تكون خالقة من وجوه وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين وعندهم هو الأب والمسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكل شيء والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته فليس المسيح هو ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه

الوجه السابع قولهم فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذة من مريم أنه كذا قال على لسان داود النبي بكلمة الله خلقت السماوات والأرض

فيقال لهم هذا النص عن داود حجة عليكم كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم فإن داود عليه السلام قال بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ولم يقل إن كلمة الله هي الخالقة كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله

والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض أمر ظاهر معروف كالفرق بين القادر والقدرة فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء بقدرته وليست القدرة هي الخالقة وكذلك الفرق بين المريد والإرادة فإن خلق الأشياء بمشيئته وليست مشيئته هي الخالقة وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته فالناس كلهم يقولون يا الله يا ربنا يا خالقنا ارحمنا واغفر لنا ولا يقول أحد يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا ولا يا قدرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه وليست صفاته هي الخالقة

الوجه الثامن أن قول داود عليه السلام بكلمة الله خلقت السماوات والأرض يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء أن الله يقول للشيء كن فيكون وهذا في القرآن في غير موضع وفي التوراة قال الله ليكن كذا ليكن كذا

الوجه التاسع قولهم لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه إن أرادوا بكلمته كلامه وبروحه حياته فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب عليه ثم يقال هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته وحينئذ فالخالق هو الله وحده وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه فإن الله لا شريك له

ولهذا لما قال تعالى الله خالق كل شيء دخل كل ما سواه في مخلوقاته ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أسماؤه مباينة له بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذات مجردة عن صفات الكمال فإن تلك حقيقة لها ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته يمتنع تحقق ذاته دونها

ولهذا لا يقال الله وعلمه خلق والله وقدرته خلق وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل والله وحده هو الخالق وإن شئت قلت إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة لله فتلك داخلة في مسمى اسمه وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت

الوجه العاشر أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت وهو عندهم اسم اللاهوت والناسوت لما اتحد والاتحاد فعل حادث عندهم فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحيا فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح ولكن غايتهم أن يقولوا أراد الكلمة التي اتحدت فيها بعد المسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين

فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي بها خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح

فصل[عدل]

قال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام 53

فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد علم وقوة وصحة وجمال ومال قال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا سورة الزخرف 32 وإذا خص أحد الشخصين بقوة وطبيعة تقتضي غذاء صالحا خصه بما يناسب ذلك من الصحة والعافية ون لم يعط الآخر ذلك نقص عنه وحصل له ضعف ومرض

والظلم وضع الشيء في غير موضعه فهو لا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضعها على محسن أبدا وفي الصحيح عن النبي أنه قال: يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يقبض ويبسط فبين أنه سبحانه وتعالى يحسن ويعدل ولا يخرج فعله عن العدل والإحسان ولهذا قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل

ولهذا يخبر أنه تعالى يعاقب الناس بذنوبهم وأن إنعامه عليهم إحسان منه كما في الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

وقد قال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك فالحسنات والسيئات هنا أراد بها النعم والمصائب كما قال تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات سورة الأعراف 68 وكما قال تعالى إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل سورة التوبة 50 وقوله تعالى إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها سورة آل عمران 120 ومثل هذا قوله تعالى وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون سورة الروم 36 فأخبر أن ما يصيب به الناس من الخير فهو رحمة منه أحسن بها إلى عباده وما أصابهم به من العقوبات فبذنوبهم وتمام الكلام على هذا مبسوط في مواضع آخر

وكذلك الحكمة أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة لكن تنازعوا في تفسير ذلك

فقالت طائفة الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده

ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة

وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم بل هو حكيم في خلقه وأمره والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في الأحكام الشرعية وإنما ينازع في ذلك طائفة من نفاة القياس وغير نفاته وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم

وأصحاب القول الأول كجهم بن صفوان وموافقيه كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يقولون ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله بل ليس فيه إلا لام العاقبة

وأما الجمهور فيقولون بل لام التعليل داخلة في أفعال الله وأحكامه

والقاضي أبو يعلى وأبو الحسن بن الزاغوني ونحوهما من أصحاب أحمد وإن كانوا قد يقولون بالأول فهم يقولون بالثاني أيضا في غير موضع وكذلك أمثالهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وغيرهما

وأما ابن عقيل في بعض المواضع وأبو خازم بن القاضي أبي يعلى وأبو الخطاب الصغير فيصرحون بالتعليل والحكمة في أفعال الله موافقة لمن قال ذلك من أهل النظر

والحنفية هم من أهل السنة وقائلين بالقدر وجمهورهم يقولون بالتعليل والمصالح

والكرامية وأمثالهم هم أيضا من القائلين بالقدر المثبتين لخلافة الخلفاء المفضلين لأبي بكر وعمر وعثمان وهم أيضا يقولون بالتعليل والحكمة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولون بالتعليل والحكمة وبالتحسين والتقبيح العقليين كأبي بكر القفال وأبي علي بن أبي هريرة وغيرهم من أصحاب الشافعي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب من أصحاب أحمد

وفي الجملة النزاع في تعليل أفعال الله وأحكامه مسألة لا تتعلق بالأمانة أصلا وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل

ولكن الذين أنكروا ذلك من أهل السنة احتجوا بحجتين

إحداهما أن ذلك يستلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة إن وجب أن يكون لكل حادث علة وإن عقل الإحداث بلا علة لم يحتج إلى إثبات علة فهم يقولون إن أمكن الإحداث بغير علة لم يحتج إلى علة ولم يكن ذلك عبثا وإن لم يكن وجود الإحداث إلا لعلة فالقول في حدوث العلة كالقول في حدوث المعلول وذلك يستلزم التسلسل

الحجة الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمستكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله

وأوردوا على المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة وإن كان وجودها أولى فإن كانت منفصلة عنه لزم أن يستكمل بغيره وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث

وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون فالمعتزلة وأتباعهم من الشيعة تثبت من التعليل ما لا يعقل وهو أنه فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء

وأما أهل السنة القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب ويرضى كما دل على ذلك الكتاب والسنة ويقولون إن المحبة والرضا أخص من الإرادة وأما المعتزلة وأكثر أصحاب الأشعري فيقولون إن المحبة والرضا والإرادة سواء فجمهور أهل السنة يقولون إن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى شخص يكون عديم الحكمة بل لله في المخلوقات حكم قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها

فصل[عدل]

قال تعالى وإذا جاءك الذين لا يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم سورة الأنعام 54 لم يمنع هذا أن يكون كل منهم متصفا بهذه الصفة ولا يجوز أن يقال إنهم لو عملوا سوءا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم

ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى وما ألتناهم من عملهم من شيء سورة الطور 21 وقوله تعالى وما من إله إلا الله سورة آل عمران 62 وقوله فما منكم من أحد عنه حاجزين سورة الحاقة 47 ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفي الجنس قطعا فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى لا إله لا الله سورة آل عمران 62 وقوله لا ريب فيه سورة البقرة 2 ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن من موجودة كقولك ما رأيت رجلا فإنها ظاهرة لنفي الجنس ولكن قد يجوز أن ينفي بها الواحد من الجنس كما قال سيبويه يجوز أن يقال ما رأيت رجلا بل رجلين فتبين أنه يجوز إرادة الواحد وإن كان الظاهر نفي الجنس بخلاف ما إذا دخلت من فإنه ينفي الجنس قطعا

ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم وكذلك لو قال لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن طلقن كلهن فإن المقصود بقوله منكم بيان جنس المعطي والمبرىء لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج

فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك

قيل نعم ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ولكن مقصودنا أن من لا ينافي شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل إن الخطاب دل على أن المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى آخر الكلام ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا والسيما في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدؤون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم

فصل في قول إبراهيم لا أحب الآفلين[عدل]

ظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام هذا ربي سورة الأنعام 77 أراد به هذا خالق السماوات والأرض القديم الأزلي وأنه استدل على حدوثه بالحركة

وهذا خطأ من وجوه

أحدها أن قول الخليل هذا ربي سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي أو غير ذلك ليس المراد به هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا كان قومه يقولون إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا قال هذا أحد من أهل المقالات المعروفة التي ذكرها الناس لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب ولا من مقالات غيرهم بل قوم إبراهيم كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم

وهذا دين المشركين من الصابئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطو وأمثاله من أهل هذا الدين وكلامه معروف في السحر الطبيعي الروحاني والكتب المعروفة بذخيرة الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخون به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة

وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان ولهذا قال الخليل إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين سورة الزخرف 26 27 وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء 75 77 وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدوه غير الله

وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به كما هو مذهب الفلاسفة المشائين فإنهم يقولون إنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها كما كان على ذلك من كان عليه من بني عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم

فالشرك الذي نهى عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال وأول من أظهر هذا النفي في الإسلام الجعد بن درهم معلم مروان ابن محمد

قال الإمام أحمد وكان يقال إنه من أهل حران وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله وكان لهم بها هيكل العلة الأولى وهيكل العقل الفعال وهيكل النفس الكلية وهيكل زحل وهيكل المشتري وهيكل المريخ وهيكل الشمس وهيكل الزهرة وهيكل عطارد وهيكل القمر وقد بسط هذا في هذا الموضع

الوجه الثاني أنه لو كان المراد بقوله هذا ربي أنه رب العالمين لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم لأن الكواكب والقمر والشمس ما زال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه وهو جسم متحرك متحيز صغير فلو كان مراده هذا للزم أن يقال إن إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين بل ولا كونه صغيرا بقدر الكوكب والشمس والقمر وهذا مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم

الوجه الثالث أن الأفول هو المغيب والاحتجاب ليس هو مجرد الحركة والانتقال ولا يقول أحد لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير إن الشمس والقمر في حال ميسرهما في السماء إنهما آفلان ولا يقول للكواكب المرئية في السماء في حال ظهورها وجريانها إنها آفلة ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وطار إنه آفل

الوجه الرابع أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير ولا بد من أهل اللغة بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع

وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعنى الإمكان كما قال في إشاراته

قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوث قوله تعالى لا أحب الآفلين سورة الأنعام 76 فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله

ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا ولا كل موجود بغيره آفلا ولا كل موجود يجب وجوده بغيره لا بنفسه آفلا ولا ما كان من هذه المعاني التي يعنيها هؤلاء بلفظ الإمكان بل هذا أعظم افتراء على القرآن واللغة من تسمية كل متحرك آفلا ولو كان الخليل أراد بقوله لا أحب الآفلين سورة الأنعام 76 هذا المعنى لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك

وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره إن هذا قول المحققين

واستعارته لفظ الهوى والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه

وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار وغيرها أن الكواكب والشمس والقمر هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك

وشبهتهم في ذلك أن إبراهيم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب إنه رب العالمين بخلاف ما ادعوه من النفس ومن العقل الفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله

وقول هؤلاء وإن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد

ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس

وأيضا فلو قدر أن ذلك يسمى كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا

والقرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبيه والاستعارة ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو

وأيضا فإنه قال تعالى فلما جن عليه الليل رأى كوكبا الأنعام 76 فذكره منكرا لأن الكواكب كثيرة ثم قال فلما رأى القمر الأنعام 77 فلما رأى الشمس سورة الأنعام 78 بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر المعروف والشمس المعروفة وهذا صريح بأن الكواكب متعددة وأن المراد واحد منها وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان

وايضا فإن قال لا أحب الآفلين والأفول هو المغيب والاحتجاب فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجبا عن الأبصار لا يرى بحال بل وكذلك واجب الوجوب عندهم لا يرى بالأبصار بحال بل تمتنع رؤيته بالأبصار عندهم

وإن أراد المغيب عن بصائر القلوب فهذا أمر نسبي إضافي فيمكن أن تكون تارة حاضرة في القلب وتارة غائبة عنه كما يمكن مثل ذلك في واجب الوجود فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها لا يكسبها صفة نقص ولا كمال ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها

وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك

فلو ذكر القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى حيث يقولون نور القمر مستفاد من نور الشمس كما أن النفس متولدة عن العقل مع ما في ذلك لو ذكروه من الفساد أما مع ذكر كوكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فسادا لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا

فصل: الأنبياء أفضل الخلق[عدل]

قال تعالى ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام 84 87 فأخبر أنه اجتباهم وهداهم

والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم

والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الأخرة وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم سورة الواقعة 7 12 وقال في تقسيمهم عند الموت فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم سورة الواقعة 88 94 وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة

والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوسف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذلك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبي كما قال عن الخليل وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين سورة العنكبوت 27 وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 101

فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها

وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاة الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم

وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصي على النبي وهذا يقتضي فساد قولهم بأن قولهم كل معصية كفر وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا

وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من اتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقوه أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن

وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما عملناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين إلى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون سورة الشعراء 192 226

فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يخزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح

وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسي وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشيطان ويوحون إليهم حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا

وفي الصحيحين عن النبي لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال له النبي : لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافي النبوة ويقدح فيها

وقد قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة سورة آل عمران 161 وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا

ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والاستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار

وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة سورة النجم 31 32 وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين سورة آل عمران 333 336 وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35 وقال حتى إذا بلغ أشده والبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف 15 16

وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم سورة العنكبوت 26 وقال في قصة شعيب عليه السلام قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سورة الأعراف 88 89 وقال في سورة إبراهيم وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين سورة إبراهيم 13

وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله نفسا بغير حق فقال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين سورة الشعراء 18 21 وكان موسى قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 15 16

فإن قيل فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفس

قيل هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أن يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الامتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعلى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر

ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجميعن

فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعي من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كن لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما

وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن اذنب ذنبا آخر فإن النبي قال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفي فإذا دعي إلى كل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر

فصل[عدل]

قال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم فإن قوله بديع السموات والأرض أي مبدعهما كما ذكر مثل ذلك في البقرة وليس المراد أنهما بديعة سماواته وأرضه كما تحتمله العربية لولا السياق لأن المقصود نفي ما زعموه من خرق البنين والبنات له ومن كونه اتخذ ولدا

وهذا ينتفي بضده كونه أبدع السموات ثم قال أنى يكون له ولد وذكر ثلاثة أدلة على نفي ذلك

أحدها كونه ليس له صاحبة فهذا نفي الولادة المعهودة وقوله وخلق كل شيء نفي للولادة العقلية وهي التولد لأن خلق كل شيء ينافي تولدها عنه وقوله وهو بكل شيء عليم يشبه والله أعلم أن يكون لما ادعت النصارى أن المتحد به هو الكلمة التي يفسرونها بالعلم والصائبة القائلون بالتولد والعلة لا يجعلونه عالما بكل شيء ذكر أنه بكل شيء عليم لإثبات هذه الصفة له ردا على الصائبة ونفيها عن غيره ردا على النصارى

وإذا كان كذلك فقول من قال بتولد العقول والنفوس التي يزعمون أنها الملائكة أظهر في كونهم يقولون أنه ولد الملائكة وأنهم بنوه وبناته فالعقول بنوه والنفوس بناته من قول النصارى

ودخل في هذا من تفلسف من المنتسبة إلى الإسلام حتى إني أعرف كبيرا لهم سئل عن العقل والنفس فقال بمنزلة الذكر والأنثى فقد جعلهم كالابن والبنت وهم يجعلونهم متولدين عنه تولد المعلول عن العلة فلا يمكنه أن يفك ذاته عن معلوله ولا معلوله عنه كما لا يمكنه أن يفصل نفسه عن نفسه بمنزلة شعاع الشمس مع الشمس وأبلغ

وهؤلاء يقولون إن هذه الأرواح التي ولدها متصلة بالأفلاك الشمس والقمر والكواكب كاتصال اللاهوت بجسد المسيح فيعبدونها كما عبدت النصارى المسيح إلا أنهم أكفر من وجوه كثيرة وهم أحق بالشرك من النصارى فإنهم يعبدون ما يعلمون أنه منفصل عن الله وليس هو إياه ولا صفة من صفاته والنصارى يزعمون أنهم ما يعبدون إلا ما اتحد بالله لا لما ولده من المعلولات

ثم من عبد الملائكة والكواكب وأرواح البشر وأجسادهم اتخذ الأصنام على صورهم وطبائعهم فكان ذلك أعظم أسباب عبادة الأصنام

ولهذا كان الخليل إمام الحنفاء مخاطبا لهؤلاء الذين عبدوا الكواكب والشمس والقمر والذين عبدوا الأصنام مع إشراكهم واعترافهم بأصل الجميع

وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير موضع وأولئك هم الصابئون المشركون الذين ملكهم نمروذ وعلماؤهم الفلاسفة من اليونانيين وغيرهم الذين كانوا بأرض الشام والجزيرة والعراق وغيرها وجزائر البحر قبل النصارى وكانوا بهذه البلاد في أيام بني إسرائيل وهم الذين كانوا يقاتلون بني إسرائيل فيغلبون تارة ويغلبون تارة وسنحاريب وبخت نصر ونحوهما هم ملوك الصابئة بعد الخليل والنمروذ الذي كان في زمانه

فتبين بذلك ما في القرآن من الرد لمقالات المتقدمين قبل هذه الأمة والكفار والمنافقين فيها من إثبات الولادة لله وإن كان كثير من الناس لا يفهم دلالة القرآن على هذه المقالات لأن ذلك يحتاج إلى شيئين إلى تصور مقالتهم بالمعنى لا بمجرد اللفظ وإلى تصور معنى القرآن والجمع بينهما فتجد المعنى الذي عنوه قد دل القرآن على ذكره وإبطاله

وأما اتحاد الولد فيفسر بعين الولادة وهو من باب الأفعال لا من باب الصفات كما يقوله طائفة من النصارى في المسيح

فصل[عدل]

فهذا نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا بأي وجه من وجوه الولادة أو اتخاذ الولد أيا كان

وأما نفي كونه مولودا فيتضمن نفي كونه متولدا بأي نوع من التوالد من أحد من البشر وسائر ما تولد من غيره فهو رد على من قال المسيح هو الله ورد على الدجال الذي يقول إنه الله ورد على من قال في بشر إنه الله من غالية هذه الأمة في علي وبعض أهل البيت أو بعض المشايخ كما قال قوم ذلك في علي وطائفة من أهل البيت وقالوه في الأنبياء ايضا وقاله قوم في الحلاج وقوم في الحاكم بمصر وقوم في الشيخ عدي وقوم في يونس العنيني وقوم يعمونه في المشايخ ويصوبون هذا كله

فقوله سبحانه لم يولد نفي لهذا كله فإن هؤلاء كلهم مولودون والله لم يولد ولهذا لما ذكر الله المسيح في القرآن قال ابن مريم بخلاف سائر الأنبياء كقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح وقوله ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وقوله إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك وقوله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقوله وجعلنا ابن مريم وأمه آية وقوله وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله

وفي ذلك فائدتان

إحداهما بيان أنه مولود والله لم يولد

والثانية نسبته إلى مريم بأنه ابنها ليس هو ابن الله

وأما قوله لن يستنكف المسيح الآية وقوله وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله فإنه حكى قولهم الذي قالوه وهم قد نسبوه إلى الله أنه ابنه فلم يضمنوا ذلك قولهم المسيح ابن مريم

وقوله ولم يكن له كفوا أحد نفي للشركاء والأنداد يدخل فيه كل من جعل شيئا كفوا لله في شيء من خواص الربوبية مثل خلق الخلق والإلهية كالعبادة له ودعائه ونحو ذلك

فهذه نكت تبين اشتمال كتاب الله على إبطال قول من يعتقد في أحد من البشر الإلهية باتحاد أو حلول أو غير ذلك

فصل[عدل]

قوله تعالى ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سورة الأنعام 103

أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وطائفة من غير الإمامية تنكرها والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم

قال الأشعري وكل المجمسة إلا نفرا قليلا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم

قلت وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي عند أهل العلم بحديثه

وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين أقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع والمقصود هنا نقل إجماع السلف على إثبات الرؤية بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي خاصة

وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام 103 فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة وألأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال أنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا

ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال أنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم أنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره وقد قال تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين سورة الشعراء 61 62 فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضا

ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه

وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال فلا يمدح الرب نفسه به بل ولا يوصف نفسه به وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقوله ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم سورة البقرة 225 وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض سورة سبأ 3 وقوله وما مسنا من لغوب سورة ق 38 ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه أنه لا يرى فعلم أن نفي الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه

وإذا كان المنفي هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى ولا يحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مدرك الرؤية ليس بمنفي وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم وقد روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي ولا تحتاج الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف

ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول الآية تحتمل ذلك فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية

فصل في ذبائح أهل الكتاب[عدل]

قال شيخ الإسلام

قال الله عز وجل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقال وما أهل به لغير الله فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه

وروى ابن حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني يقول اسم المسيح قال كل

قال ابن حنبل سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال لا تأكل قال الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فلا أرى هذا ذكاته وما أهل لغير الله به

فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم وهذا قول عامة قدماء الأصحاب

قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم كل من روي عن أبي عبد الله روى الكراهة فيه وهي متفرقة في هذه الأبواب

وما قال ابن حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وما أهل لغير الله به فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به وأما التسمية وتركها فقد روى عنه جميع أصحابه أنه لا بأس بأكل ما لم يسموا عليه إلا في وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم فإنه في معنى قوله تعالى وما أهل لغير الله به

وعند أبي عبد الله أن تفسير ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إنما عنى به الميتة وقد أخرجته في موضعه

ومقصود الخلال أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط فإن ذلك عنده لا يحرم وإنما كان لأنهم ذبحوه لغير الله سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره ولكن قصدهم الذبح لغير الله

لكن قال ابن أبي موسى ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم ولا يؤكل ما ذبح للزهرة

والرواية الثانية أن ذلك مكروه غير محرم وهذا الذي ذكره القاضي وغيره وأخذوا ذلك فيما أظنه مما نقله عبد الله بن أحمد سألت أبي عمن ذبح للزهرة قال لا يعجبني قلت أحرام أكله قال لا أقول حراما ولكن لا يعجبني وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم

ويمكن أن يقال إنما توقف عن تسميته محرما لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه كالجمع بين الأختين ونحوه هل يسمى حراما على روايتين كالروايتين عنده في أن ما اختلف في وجوبه هل يسمى فرضا على روايتين

ومن أصحابنا من أطلق الكراهة ولم يفسر هل أراد التحريم أو التنزيه

قال أبو الحسن الآمدي ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر فقال أحمد هو مما اهل به لغير الله أكرهه كل ما ذبح لغير الله والكنائس وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به

وكذلك مذهب مالك يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم

وفي المدونة وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم وتأول قول الله أو فسقا أهل لغير الله به

قال ابن القاسم وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم ولا أرى أن يؤكل

ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما لم يسموا عليه غير الله فإن سموا غير الله في عيدهم أو غير عيدهم حرم في أشهر الروايتين وهو مذهب الجمهور وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة منهم أبو الدرداء وأبو أمامة والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم

والثانية لا يحرم وإن سموا غير الله وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث

نقل ابن منصور أنه قيل لأبي عبد الله سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم الله متعمدا قال أرى أن لا يؤكل قيل له أرأيت إن كان يرى أنه يجزىء عنه فلم يذكر قال أرى أنه لا يؤكل قال أحمد المسلم فيه اسم الله يؤكل ولكن قد أساء في ترك التسمية النصارى أليس يذكرون غير اسم الله

ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في قوله عز وجل وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وفي عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله يقال أهللت بكذا إذا تكلمت به وإن كان أصله الكلام الرفيع فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل خرج الكلام على ذلك فيكون المعنى وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله

ومعلوم أن ما حرم أن تجعل غير الله مسمى فكذلك منويا إذ هذا مثل النيات في العبادات فإن اللفظ بها وأن كان أبلغ لكن الأصل القصد

ألا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال أذبحه لله أو سكت فإن العبرة بالنية وتسميته الله على الذبيحة غير ذبحها لله فإنه يسمي على ما يقصد به اللحم وأما القربان فيذبح لله سبحانه ولهذا قال النبي في قربانه: اللهم منك ولك بعد قوله بسم الله والله أكبر لقوله تعالى إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح وتارة يذبحونها قربانا إليهم وتارة يجمعون بينهما وكل ذلك والله أعلم يدخل فيما أهل لغير الله به فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله فقوله باسم كذا استعانة به وقوله لكذا عبادة له ولهذا جمع الله بينهما في قوله إياك نعبد وإياك نستعين

وأيضا فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله

وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم هل تشترط في ذبيحة الكتابي على روايتين وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين

فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى وما أهل لغير الله به والعموم المبيح وهو قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم اختلف العلماء في ذلك

والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا

ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم

ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله تعالى أعلم

فإن قيل ما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا باسم المسيح ونحوه فتحريمه ظاهر أما إذا لم يسموا أحدا ولكن قصدوا الذبح للمسيح أو للكوكب ونحوهما فما وجه تحريمه

قيل قد تقدمت الإشارة إلى ذلك وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب وذلك يقتضي تحريمه وإن كان ذابحه كتابيا لأنه لو كان التحريم لكونه وثينا لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب دل على أن طعام المشركين حرام فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة

وأيضا فإنه ذكر تحريم ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس فهو مذبوح على النصب

ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه وهذه الأنصاب قد قيل هي من الأصنام وقيل هي غير الأصنام

قالوا كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون عليها وكانوا إذا شاؤوا أبدلوا هذه الحجارة بحجارة هي أعجب إليهم منها ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه حتى صرت كالنصب الأحمر يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم

وفي قوله وما ذبح على النصب قولان

أحدهما أن نفس الذبح كان يكون عليها كما ذكرناه فيكون ذبحهم غير الأصنام فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام أو مذبوح لها وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله كما كرهه النبي من الذبح في مواضع أصنام المشركين ومواضع أعيادهم وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة لكونها محل شرك فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه

والقول الثاني أن الذبح على النصب أي لأجل النصب كما قيل: أولم رسول الله على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده وذبح فلان على ولده ونحو ذلك ومنه قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام ولا منافاة بين كون الذبح لها وبين كونها كانت تلوث بالدم

وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة

واختلاف هذين القولين في قوله تعالى على النصب نظير الاختلاف في قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وقوله تعالى وليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام

فإنه قد قيل المراد بذكر اسم الله عليها إذا كانت حاضرة

وقيل بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها بمنزلة قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم

وفي الحقيقة مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى وما ذبح على النصب كما قد أومأنا إليه

وفيها قول ثالث ضعيف أن المعنى على اسم النصف وهذا ضعيف لأن هذا المعنى حاصل من قوله تعالى وما أهل لغير الله به فيكون تكريرا لكن اللفظ يحتمله كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رسول الله : أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله الوحي فقدمت إلى رسول الله سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه

فصل[عدل]

قال شيخ الإسلام: الجن مأمورون ومنهيون كالإنس وقد بعث الله الرسل من الإنس إليهم وإلى الإنس وأمر الجميع بطاعة الرسل كما قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وهذا بعد قوله ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله قال غير واحد من السلف أي كثير من أغويتم من الإنس وأضللتموهم قال البغوي قال بعضهم استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون لهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهيؤونها ويسهل سبيلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينن لهم من الضلالة والمعاصي قال محمد بن كعب هو طاعة بعضهم لبعض وموافقة بعضهم بعضا وذكر ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعلمت الإنس وعن محمد بن كعب قال هو الصحابة في الدنيا وقال ابن السائب استمتاع الإنس بالجن استعاذتهم بهم واستمتاع الجن بالإنس أن قالوا قد أسرنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في أنفسهم وعظما في نفوسهم وهذا كقوله وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا

قلت الاستمتاع بالشيء هو أن يتمتع به ينال به ما يطلبه ويريده ويهواه ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم لبعض كما قال فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ومن ذلك الفواحش كاستمتاع الذكور بالذكور والإناث بالإناث

ويدخل في هذا الاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم ويدخل في ذلك الاستمتاع بالأموال كاللباس ومنه قوله ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة ولهذا قال الفقهاء أعلى المتعة خادم وأدناها كسوة يجزىء فيها الصلاة

وفي الجملة استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وقال تعالى وتقطعت بهم الأسباب قال مجاهد هي المودات التي كانت لغير الله قال الخليل إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا قال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه فالمشرك يعبد ما يهواه واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه وقد وقع في الإنس والجن هذا كله

وتارة يخدم هؤلاء لهؤلاء في أغراضهم وهؤلاء لهؤلاء في أغراضهم فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه والإنس تطيع الجن فتارة يسجد له وتارة لما يأمره بالسجود له وتارة يمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك الجينات منهن من يريد من الإنس الذي يخدمنه ما يريد نساء الإنس من الرجال وهذا كثير في رجال الجن ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء الإنس ما يناله الإنسي وقد يفعل ذلك بالذكران

وصرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة

تارة يكون الجني يحب المصروع ليتمتع به وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل

وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم أو صب عليهم ماء حارا أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى هذا أشد الصرع وكثيرا ما يقتلون المصروع

وتارة يكون بطريق العبث به كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل

ومن استمتاع الإنس والجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان فإن في الإنس من له غرض في هذا لما يحصل به من الرياسة والمال وغير ذلك فإن كان القوم كفارا كما كانت العرب لم تبال بأن يقال أنه كاهن كما كان العرب كهانا وقدم النبي المدينة وفيها كهان وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان وكان أبو ابرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن بل يجعل ذلك من باب الكرامات وهو من جنس الكهان فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده إما في شرك وإما في فاحشة وإما في أكل حرام وإما في قتل بغير حق فالشياطين لهم غرض فيما نهى الله عنه من الكفر والفسوق والعصيان ولهم لذة في الشر والفتن يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم وهم يقومون بأمر السارق أن يسرق ويذهب إلى أهل المال فيقولون فلان سرق متاعكم ولهذا يقال القوة الملكية والبهيمية والسبعية والشيطانية فإن الملكية فيها العلم النافع والعمل الصالح والبهيمية فيها الشهوات كالأكل والشرب والسبعية فيها الغضب وهو دفع المؤذي وأما الشيطانة فشر محض ليس فيها جلب منفعة ولا دفع مضرة

والفلاسفة ونحوهم ممن لا يعرف الجن والشياطين لا يعرفون هذه وإنما يعرفون الشهوة والغضب والشهوة والغضب خلقا لمصلحة ومنفعة لكن المذموم هو العدوان فيهما وأما الشيطان فيأمر بالشر الذي لا منفعة فيه ويحب ذلك كما فعل إبليس بآدم لما وسوس له وكما امتنع من السجود له فالحسد يأمر به الشيطان والحاسد لا ينتفع بزوال النعمة عن المحسود لكن يبغض ذلك وقد يكون بغضه لفوات غرضه وقد لا يكون

ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في إحضار بعض ما يطلبونه من مال وطعام وثياب ونفقة فقد يأتون ببعض ذلك وقد يدلونه على كنز وغيره واستمتاع الجن بالإنس استعمالهم فيما يريده الشيطان من كفر وفسوق ومعصية

ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم فيما يطلبه الإنس من شرك وقتل وفواحش فتارة بتمثل الجني في صورة الإنسي فإذا استغاث به في بعض أتباعه أتاه فظن أنه الشيخ نفسه وتارة يكون التابع قد نادى شيخه وهتف به يا سيدي فلان فينقل الجني ذلك الكلام إلى الشيخ بمثل صوت الإنسي حتى يظن الشيخ أنه صوت الإنسي بعينه ثم إن الشيخ يقول نعم ويشير إشارة يدفع بها ذلك المكروه فيأتي الجني بمثل ذلك الصوت والفعل يظن ذلك الشخص أنه شيخه نفسه وهو الذي أجابه وهو الذي فعل ذلك حتى إن تابع الشيخ قد تكون يده في إناء يأكل فيضع الجني يده في صورة يد الشيخ ويأخذ من الطعام فيظن ذلك التابع أنه شيخه حاضر معه والجني يمثل للشيخ نفسه مثل ذلك الإناء فيضع يده فيه حتى يظن الشيخ أن يده في ذلك الإناء فإذا حضر المريد ذكر له الشيخ أن يدي كانت في الإناء فيصدقه ويكون بينهما مسافة شهر والشيخ في موضعه ويده لم تطل ولكن الجني مثل للشيخ ومثل للمريد حتى ظن كل منهما أن أحدهما عند الآخر وإنما كان عنده ما مثله الجني وخيله وإذا سئل الشيخ المخدوم عن أمر غائب إما سرقة وإما شخص مات وطلب منه أن يخبر بحاله أو علة في النساء أو غير ذلك فإن الجني قد يمثل ذلك فيريه صورة المسروق فيقول الشيخ ذهب لكم كذا وكذا ثم إن كان صاحب المال معظما وأراد أن يدله على سرقته مثل له الشيخ الذي أخذه أو المكان الذي فيه المال فيذهبون إليه فيجدونه كما قال والأكثر منهم أنهم يظهرون صورة المال ولا يكون عليه لأن الذي سرق المال معه أيضا حتى يخدمه والجن يخاف بعضهم من بعض كما أن الإنس يخاف بعضهم بعضا فإذا دل الجني عليه جاء إليه أولياء السارق فآذوه وأحيانا لا يدل لكون السارق وأعوانه يخدمونه ويرشونه كما يصيب معرف اللصوص من الإنس تارة يعرف السارق ولا يعرف به إما لرغبة ينالها منه وإما لرهبة وخوف منه وإذا كان المال المسروق لكبير يخافه ويرجوه عرف سارقه فهذا وأمثاله من استمتاع بعضهم ببعض

والجن مكلفون كتكليف الإنس ومحمد مرسل إلى الثقلين الجن والإنس وكفار الجن يدخلون النار بنصوص وإجماع المسلمين وأما مؤمنهم ففيهم قولان وأكثر العلماء على أنهم يثابون أيضا ويدخلون الجنة وقد روي أنهم يكونون في ربضها يراهم الإنس من حيث لا يرون الإنس عكس الحال في الدنيا وهو حديث رواه الطبراني في معجمه الصغير يحتاج النظر في إسناده وقد احتج ابن أبي ليلى وأبو يوسف على ذلك بقوله تعالى ولكل درجات مما عملوا وقد ذكر الجن والإنس الأبرار والفجار في الأحقاف والأنعام واحتج الأوزاعي وغيره بقوله تعالى لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان وقد قال تعالى في الأحقاف أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس أنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا وقد تقدم قبل هذا ذكر أهل الجنة وقوله أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ثم قال ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لايظلمون قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات أهل الجنة تذهب علوا ودرجات أهل النار تذهب سفلا وقد قال تعالى عن قول الجن منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وقالوا وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ففيهم الكفار والفساق والعصاة وفيهم من فيه عباة ودين بنوع من قلة العلم كما في الإنس وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس فاليهود مع اليهود والنصارى مع النصارى والمسلمون مع المسلمين والفساق مع الفساق وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع

واستخدام الإنس لهم مثل استخدام الإنس للإنس بشيء منهم من يستخدمهم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم وقد يظنون ذلك من كرامات الصالحين وإنما هو من أفعال الشياطين

ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة إما إحضار ماله أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك

والنوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله كما يستعمل الإنس في مثل ذلك فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاههم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم وهذه حال نبينا وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله وينهون الإنس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله إذ كان نبينا محمد مبعوثا بذلك إلى الثقلين الإنس والجن وقد قال الله له قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وقال قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وعمر رضي لما نادى يا سارية الجبل قال إن لله جنودا يبلغون صوتي وجنود الله هم من الملائكة ومن صالحي الجن فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه فيقول يا فلان فيعان على ذلك فيقول الواسطة بينهما يا فلان وقد يقول لمن هو بعيد عنه يا فلان احبس الماء تعال إلينا وهو لا يسمع صوته فيناديه الواسطة بمثل ذلك يا فلان احبس الماء أرسل الماء إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته وإلا فلا يضر بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه وهذا حكاية كان عمر مرة قد أرسل جيشا فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش وشاع الخبر فقال عمر من أين لكم هذا قالوا شخص صفته كيت وكيت فأخبرنا فقال عمر ذاك أبو الهيتم يريد الجن وسيجيء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام

وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه فيخرج فيرى الناس يتحدثون به فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان لكن أعطي ملكا لا ينبغي لأحد بعده وسخرت له الإنس والجن وهذا لم يحصل لغيره والنبي لما تفلت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فدعته حتى سال لعابه على يدي وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته فلم يستخدم النبي الجن أصلا لكن دعاهم إلى الإيمان بالله وقرأ عليهم القرآن وبلغهم الرسالة وبايعهم كما فعل بالإنس والذي أوتيه أعظم مما أوتيه سليمان فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته واختار أن يكون عبدا رسولا على أن يكون نبيا ملكا فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد فهو أفضل كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء وكثير من أهل الكلام والعلم لم يعرفوا الفرق بين الأنبياء والصالحين في الآيات الخارقة وما لأولياء الشيطان من ذلك من السحرة والكهان والكفار من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والضلال من الداخلين في الإسلام جعلوا الخوارق جنسا واحدا وقالوا كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها

وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة فلا بد أن يسلبه الله ما كان معه من ذلك وأن يقيض له من يعارضه ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه الله فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي كان معتادا للناس قالوا إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة فهذه هي المعجزات عندهم وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا المعجزات هي خرق العادة لكن أنكروا كرامات الصالحين وأنكروا أن يكون السحر والكهانة من جنس الشعبذة وحيل لم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي قالوا فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحا بهذا الإجماع وهؤلاء أنفسهم قد ذكروا أنها تكون للسحرة ما هو مثلها وتناقضوا في ذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع

فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك ثم يقولون الولي إذا تولى لا يعترض عليه فمنهم من يراه مخالفا لما علم بالاضطرار من دين الرسول مثل ترك الصلاة المفروضة وأكل الخبائث كالخمر والحشيشة والميتة وغير ذلك وفعل الفواحش والفحش والتفحش في المنطق وظلم الناس وقتل النفس بغير حق والشرك بالله وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء الله قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل فضلا من الله تعالى ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين وأن هذه من أولياء الشياطين يضل به الناس ويغويهم

ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك

فتارة يأتون الشخص في النوم يقول أحدهم أنا أبو بكر الصديق وأنا أتوبك لي وأصير شيخك وأنت تتوب الناس لي ويلبسه فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان وقد جرى مثل هذا لعدد من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصا وتارة يقول أنا الشيخ فلان فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره

وكثيرا ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت فيأتونه في صورة ذلك الشيخ وقد يخلصونه مما يكره فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه أو أن ملكا تصور بصورته وجاءه ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك بالله أضلته الشياطين والملائكة لا تجيب مشركا

وتارة يأتون إلى من هو خال في البرية وقد يكون ملكا أو أميرا كبيرا ويكون كافرا وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه فيسلم على يديه ويطعمه ويدله على الطريق ويقول من أنت فيقول أنا فلان ويكون في موضع

كما جرى مثل هذا لي كنت في مصر في قلعتها وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق وقال له ذلك الشخص أنا ابن تيمية فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو وأخبر بذلك ملك ماردين وأرسل بذلك ملك ماردين إلى مصر رسولا وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر فعمل معهم مثل ما كنت أعمل وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك. قال لي طائفة من الناس فلم لايجوز أن يكون ملكا قلت لا إن الملك لا يكذب وهذا قد قال أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك

وكثير من الناس رأى من قال إني أن الخضر وإنما كان جنيا ثم صار من الناس من يكذب بهذه الحكايات إنكارا لموت الخضر والذين قد عرفوا صدقها يقطعون بحياة الخضر وكل من الطائفتين مخطىء فإن الذين رأوا من قال إني أنا الخضر هم كثيرون صادقون والحكايات متواترة لكن أخطؤوا في ظنهم أنه الخضر وإنما كان جنيا ولهذا يجري مثل هذا لليهود والنصارى فكثيرا ما يأتيهم في كنائسهم من يقول أنه الخضر وكذلك اليهود يأتيهم في كنائسهم من يقول أنه الخضر وفي ذلك من الحكايات الصادقة ما يضيق عنه هذا الموضع يبين صدق من رأى شخصا وظن أنه الخضر وأنه غلط في ظنه أنه الخضر وإنما كان جنيا وقد يقول أنا المسيح أو موسى أو محمد أو أبو بكر أو عمر او الشيخ فلان فكل هذا قد وقع والنبي قال من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي قال ابن عباس في صورته التي كان عليه في حياته وهذه رؤيا في المنام وأما في اليقظة فمن ظن أن أحدا من الموتى يجيء بنفسه للناس عيانا قبل يوم القيامة فمن جهله أتى

ومن هنا ضلت النصارى حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب كما يظنون أنه أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور في أناجيلهم وكلها تشهد بذلك وذاك الذي جاء كان شيطانا قال أنا المسيح ولم يكن هو المسيح نفسه ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذي يجب عليهم تبليغه ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء

وأصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول أن الحلاج فيرونه في صورته عيانا وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة وأراني صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله فرأيته بخط الجن وقد رأيت خط الجن غير مرة وفيه كلام من كلام الجن وذاك المعتقد يعتقد أن الشيخ حي وكان يقول انتقل ثم مات وكذلك شيخ آخر كان بالمشرق وكان له خوارق من الجن وقيل كان بعد هذا يأتي خواص أصحابه في صورته فيعتقدون أنه هو وهكذا الذين كانوا يعتقدون بقاء علي أو بقاء محمد بن الحنفية قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جني في صورته وكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم أحيانا ويكون المرئي جنيا جنيا فهذا باب واسع واقع كثيرا وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر ففي المشركين أكثر مما في النصارى وهو في النصارى كما هو في الداخلين في الإسلام وهذه الأمور يسلم بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كان عليه كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيرا مما كانوا وإن كان قصد ذلك الرجل فاسدا وقد قال النبي إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم وهذا كان كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل ويقوى بها قلوب كثير من أهل الحق وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها والخير والشر درجات فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذبا وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه فنفس ذلك الكفر الذي كان عليه وانتهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرا فانتقل إلى خير مما كان عليه وخف الشر الذي كان فيه ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتعليلها والنبي دعا الخلق بغاية الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون وأكثر المتكلمين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلما مبتدعا وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة وقد ذكرنا فيما تقدم أصناف البدع

ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون عليا ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر ولكن حكي عن بعض متقدميهم أنه قال فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين ولا أعلم عينها وقالوا أنه قال لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه ولو شهد علي مع آخر ففي قبول شهادته قولان وهذا القول شاذ فيهم والذي عليه عامتهم تعظيم علي

ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي ومنهم من يكفر هؤلاء ويفسقهم بخلاف طلحة والزبير وعائشة فإنهم يقولون أن هؤلاء تابوا من قتاله وكلهم يتولى عثمان ويعظمون أبا بكر وعمر ويعظمون الذنوب فهو يتحرون الصدق كالخوارج لا يختلقون الكذب كالرافضة ولا يرون أيضا اتخاذ دار غير دار الإسلام كالخوارج ولهم كتب في تفسير القرآن ونصر الرسول ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض وهو قصدهم إثبات توحيد الله ورحمته وحكمته وصدقه وطاعته وأصولهم الخمس على هذه الصفات الخمس لكنهم غلطوا في بعض ما قالوه في كل واحد من أصولهم الخمس فجعلوا من التوحيد نفي الصفات وإنكار الرؤية والقول بأن القرآن مخلوق فوافقوا في ذلك الجهمية وجعلوا من العدل أنه لا يشاء ما يكون ويكون ما لا يشاء وأنه لم يخلق أفعال العباد فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة وكذلك هم الخوارج قالوا بإنفاذ الوعيد ليثبتوا أن الرب صادق لا يكذب إذا كان عندهم قد أخبر بالوعيد العام فمتى لم يقل بذلك لزم كذبه وغلطوا في فهم الوعيد وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف قصدوا به طاعة الله ورسوله كما يقصده الخوارج والزيدية فغلطوا في ذلك وكذلك إنكارهم للخوارق غير المعجزات قصدوا به إثبات النبوة ونصرها وغلطوا فيما سلكوه فإن النصر لا يكون بتكذيب الحق وذلك لكونهم لم يحققوا خاصة آيات الأنبياء ولأشعرية ما ردوه من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم وبينوا ما بينوه من تناقضهم وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة فحصل بما قالوه من بيان تناقض أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير

فإن الأشعري كان من المعتزلة وبقي على مذهبهم أربعين سنة يقرأ على أبي علي الجبائي فلما انتقل عن مذهبهم كان خبيرا بأصولهم وبالرد عليهم وبيان تناقضهم وأما ما بقي عليه من السنة فليس هو من خصائص المعتزلة بل هو من القدر المشترك بينهم وبين الجهمية وأما خصائص المعتزلة فلم يوالهم الأشعري في شيء منها بل ناقضهم في جميع أصولهم ومال في مسائل العدل والأسماء والأحكام إلى مذهب جهم ونحوه وكثير من الطوائف كالنجارية اتباع حسين النجار والضرارية أتباع ضرار بن عمر ويخالفون المعتزلة في القدر والأسماء والأحكام وإنفاذ الوعيد والمعتزلة من أبعد الناس عن طريق أهل الكشف والخوارق والصوفية يذمونها ويعيبونها وكذلك يبالغون في ذم النصارى أكثر مما يبالغون في ذم اليهود وهم إلى اليهود أقرب كما أن الصوفية ونحوهم إلى النصارى أقرب فإن النصارى عندهم عبادة وزهد وأخلاق بلا معرفة ولا بصيرة فهم ضالون واليهود عندهم علم ونظر بلا قصد صالح ولا عبادة ولا زهد ولا أخلاق كريمة فهم مغضوب عليهم والنصارى ضالون

قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين وروى بإسناد عن أبي روق عن ابن عباس وغير طريق الضالين وهم النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه يقول فألهمنا دينك الحق وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا كما تعذبهم يقول امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك ورأفتك وقدرتك قال ابن أبي حاتم ولا أعلم في هذا الحرف اختلافا بين المفسرين وقد قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى

فأهل الكلام أصل أمرهم هو النظر في العلم ودليله فيعظمون العلم وطريقه وهو الدليل والسلوك في طريقه وهو النظر

وأهل الزهد يعظمون الإرادة والمريد وطريق أهل الإرادة فهؤلاء يبنون أمرهم على الإرادة وأولئك يبنون أمرهم على النظر وهذه هي القوة العلمية ولا بد لأهل الصراط المستقيم من هذا وهذا ولا بد أن يكون هذا وهذا موافقا لما جاء به الرسول

فالإيمان قول وعمل وموافقة السنة وأولئك عظموا النظر وأعرضوا عن الإرادة وعظموا جنس النظر ولم يلتزموا النظر الشرعي فغلطوا من جهة كون جانب الإرادة لم يعظموه وإن كانوا يوجبون الأعمال الظاهرة فهم لا يعرفون أعمال القلوب وحقائقها ومن جهة أن النظر لم يميزوا فيه بين النظر الشرعي الحق الذي أمر به الشارع وأخبر به وبين النظر البدعي الباطل المنهي عنه

وكذلك الصوفية عظموا جنس الإرادة إرادة القلب وذموا الهوى وبالغوا في الباب ولم يميز كثير منهم بين الإرادة الشرعية الموافقة لأمر الله ورسوله وبين الإرادة البدعية بل أقبلوا على طريق الإرادة طريقة النظر

وأعرض كثير منهم فدخل عليهم الداخل من هاتين الجهتين ولهذا صار هؤلاء يميل إليهم النصارى ويميلون إليهم وأولئك يميل إليهم اليهود ويميلون إليهم وبين اليهود والنصارى غاية التنافر والتباغض وكذلك بين أهل الكلام والرأي وبين أهل التصوف والزهد تنافر وتباغض هذا وهذا من الخروج عن الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

ونسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين

فصل[عدل]

قال تعالى يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير الآية وفيهما قراءتان إحداهما بالنصب فيكون لباس التقوى أيضا منزلا واما قراءة الرفع فلا وكلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل وقدلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل وقدلتاهما حق وقد قيل خلقناه وقيل أنزلنا أسبابه وقيل ألهمناهم كيفية صنعته وهذه الأقوال ضعيفة فإن النبات الذى ذكروا لم يجيءفيه لفظ أنزلنا ولم يستعمل في كل ما يصنع أنزلنا فلم يقل أ أنزلنا الدور وأنزلنا الطبخ ونحو ذلك وهو لم يقل إنا أنزلنا كل لباس ورياش

وقد قيل إن الريش والرياش المراد به اللباس الفاخر كلاهما بمعنى واحد مثل اللبس واللباس

وقد قيل هما المال والخصب والمعاش وارتاش فلان حسنت حالته

والصحيح أن الرياض هو الأثاث والمتاع قا أبو عمرو والعرب تقول أعطاني فلان ريشه أي كسوته وجهازه

وقال غيره الرياض في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب والفرش ونحوها

وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال والمراد به مال مخصوص

قال أبو زيد جمالا وهذا لأنه مأخوذ من ريش الطائر وهو ما يروش به ويدفع عنه الحر والبرد وجمال الطائر ريشه وكذلك ما يبيت فيه الإنسان من الفرش وما يبسطه تحته ونحو ذلك والقرآن مقصوده جنس اللباس الذي يلبس على البدن وفي البيوت

والله أعلم

فصل[عدل]

قال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد سورة الأعراف 29 لم يقل عند كل مشهد وقال ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين سورة التوبة 17 18ولم يقل إنما يعمر مشاهد الله بل عمار المشاهد يخشون بها غير الله ويرجون غير الله وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سورة الجن 18 ولم يقل وأن المشاهد لله وقال ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا سورة الحج 40 ولم يقل ومشاهد وقال في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإ يتاء الزكاة سورة النور 36 37

وأيضا فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات والاجتماع للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولاغيرهم لا مسجدا ولا مشهدا ولم يكن على عهده في الإسلام مشهد مبني على قبر وكذلك على عهد خلفائه الراشدين وأصحابه الثلاثة وعلي بن أبي طالب ومعاوية لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره لا على قبر إبراهيم الخليل ولا على غيره

بل لما قدم المسلمون إلى الشام غير مرة ومعهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم ثم لما قدم عمر لفتح بيت المقدس ثم لما قدم لوضع الجزية على أهل الذمة ومشارطتهم ثم لما قدم إلى سرغ ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجة النبي

ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصارى تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا

بل كان الصحابة إذا رأوا أحدا بنى مسجدا على قبر نهوه عن ذلك ولما ظهر قبر دانيال بتستر كتب فيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن تحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وتدفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به

وكان عمر بن الخطاب إذا رآهم ينتابون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي ينهاهم عن ذلك ويقول إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب

فهذا وأمثاله كانوا يحققون به التوحيد الذي أرسل الله به الرسول إليهم ويتبعون في ذلك سنته

والإسلام مبني على أصلين أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع

فالنصارى خرجوا عن الأصلين وكذلك المبتدعون من هذه الأمة من الرافضة وغيرهم

وأيضا فإن النصارى يزعمون أن الحواريين الذين اتبعوا المسيح أفضل من إبراهيم

وموسى وغيرهما من الأنبياء والمرسلين ويزعمون أن الحواريين رسل شافههم الله بالخطاب لأنهم يقولون إن الله هو المسيح ويقولون أيضا إن المسيح ابن الله

والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغالبيتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء لأنهم يعتقدون فيهم الإلهية كما اعتقدته النصارى في المسيح

والنصارى يقولون إن الدين مسلم للأحبار والرهبان فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه والدين ما شرعوه

والرافضة تزعم أن الدين مسلم إلى الأئمة فالحلال ما حللوه والدين ما شرعوه

وأما من دخل في غلو الشيعة كالإسماعيلية الذين يقولون بإلهية الحاكم ونحوه من أئمتهم ويقولون إن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله وغير ذلك من مقالات الغالية من الرافضة فهؤلاء شر من أكثر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين وهم ينتسبون إلى الشيعة يتظاهرون بمذاهبهم

فإن قيل ما وصفت به الرافضة من الغلو والشرك والبدع موجود كثير منه في كثير من المنتسبين إلى السنة فإن في كثير منهم غلوا في مشايخهم وإشراكا بهم وابتداعا لعبادات غير مشروعة وكثير منهم يقصد قبر من يحسن الظن به إما ليسأله حاجاته وإما ليسأل الله تعالى به حاجة وإما لظنه أن الدعاء عند قبره أجوب منه في المساجد وفيهم من يفضل زيارة قبورشيوخهم على الحج ومنهم من يجد عند قبر من يعظمه من الرقة والخشوع ما لا يجده في المساجد والبيوت وغير ذلك مما يوجد في الشيعة ويروون أحاديث مكذوبة من جنس أكاذيب الرافضة مثل قوله لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه الله به وقولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم قبر فلان هو الترياق المجرب

ويروون عن بعض شيوخهم أنه قال لصاحبه إن كان لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث بي ونحو ذلك فإن في المشايخ من يفعل بعد مماته كما كان يفعل في حياته وقد يستغيث الشخص بواحد منهم فيتمثل له الشيطان في صورته إما حيا وإما ميتا وربما قضى حاجته أو قضى بعض حاجته كما يجري نحو ذلك للنصارى مع شيوخهم ولعباد الأصنام من العرب والهند والترك وغيرهم

قيل هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه سواء كان فاعله منتسبا إلى السنة أو إلى التشييع ولكن الأمور المذمومة المخالفة للكتاب والسنة في هذا وغيره هي في الرافضة أكثر منها في أهل السنة فما يوجد في أهل السنة من الشر ففي الرافضة أكثر منه وما يوجد في الرافضة من الخبر ففي أهل السنة أكثر منه

وهذا حال أهل الكتاب مع المسلمين فما يوجد في المسلمين شر إلا وفي أهل الكتاب أكثر منه ولا يوجد في أهل الكتاب خير إلا وفي المسلمين أعظم منه

ولهذا يذكر سبحانه وتعالى مناظرة الكفار من المشركين وأهل الكتاب بالعدل فإذا ذكروا عيبا في المسلمين لم يبرئهم منه لكن يبين أن عيوب الكفار أعظم

كما قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه اكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة 217 وهذه الآية نزلت لأن سرية من المسلمين ذكر أنهم قتلوا ابن الحضرمي في آخر يوم من رجب فعابهم المشركون بذلك فأنزل الله هذه الآية

فصل[عدل]

في قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم

وقد روى مالك في موطئه عن زيد بن اسلم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا الآية فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله يسأل عنها فقال رسول الله إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل اهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله إن الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار

وهذا الحديث إنما رواه أهل السنن والمسانيد كأبي داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن وقد قيل إن إسناده منقطع وأن راويه مجهول ومع هذا فقد رواه مالك في الموطأ مع أنه أبلغ من غيره لقوله ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والثوري والليث وغيرهم فلو تأمل أبو المعالي وذووه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه ما يخصمهم ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي أمثال هذه السنن علم أصلا فكيف بالموطأ ونحوه وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني وأبو الحسن مع تمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الحديث يورث جهلا عظيما بأصول الإسلام واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد في البسملة وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه كيف يكون حالهم في غير هذا وإذا اتفق أصحابه على أن لا يجوز أن يتخذ إماما في مسألة واحدة من مسائل الفروع فكيف يتخذ إماما في أصول الدين مع العلم بأنه إنما نبل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعة أو بحث تفطن له فلا يجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلام الذي نصت عليه الأئمة ولهذا روى عنه ابن طاهر أنه قال وقت الموت لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يدركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا أموت على عقيدة أمي أو عقائد عجائز نيسابور وقال أبو عبد الله بن العباس الرستمي حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور فأقعد فقال لنا اشهدوا على أني رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح عليهم السلام وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور وعامة المتأخرين من أهل الكلام سلكوا خلفه من تلامذته وتلامذة تلامذته وتلامذة تلامذة تلامذته ومن بعدهم ولقلة علمه بالكتاب والسنة وكلام سلف الأمة يظن أن أكثر الحوادث ليست في الكتاب والسنة والإجماع ما يدل عليها وإنما يعلم حكمها بالقياس كما يذكر ذلك في كتبه ومن كان له علم بالنصوص ودلالتها على الأحكام علم أن قول أبي محمد بن حزم وأمثاله أن النصوص تستوعب جميع الحوادث أقرب إلى الصواب من هذا القول وإن كان في طريقة هؤلاء من الإعراض عن بعض الأدلة الشرعية ما قد يسمى قياسا جليا وقد يجعل من دلالة اللفظ مثل فحوى الخطاب والقياس في معنى الأصل وغير ذلك ومثل الجمود على الاستصحاب الضعيف ومثل الإعراض عن متابعة أئمة من الصحابة ومن بعدهم ما هو معيب عليهم وكذلك القدح في أعراض الأئمة لكن الغرض أن قول هؤلاء في استيعاب النصوص للحوادث وإن الله ورسوله قد بين للناس دينهم هو أقرب إلى العلم والإيمان الذي هو الحق ممن يقول أن الله لم يبين الناس حكم أكثر ما يحدث لهم من الأعمال بل وكلهم فيها إلى الظنون المتقابلة والآراء المتعارضة ولا ريب أن سبب هذا كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية

وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد ولكن اتبع أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس الذي ينقص صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقا لذلك وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره فليس الفضل بكثرة الاجتهاد ولكن بالهدى والسداد كما جاء في الأثر ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا وقد قال النبي في الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ويوجد لأهل البدع من أهل القبلة لكثير من الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم من الاجتهاد ما لا يوجد لأهل السنة في العلم والعمل وكذلك لكثير من أهل الكتاب والمشركين لكن إنما يراد الحسن من ذلك كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه فقيل له يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

وأما الشافعي رضي الله عنه فقد روى الأحاديث التي تتعلق بغرض كتابه مثل حديث النزول وحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي فيه قول رسول الله للجارية أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة وقد رواه مسلم في صحيحه بل روى في كتابه الكبير الذي اختصر منه مسنده من الحديث ما هو من أبلغ أحاديث الصفات ورواه بإسناد فيه ضعف فقال أخبرنا إبراهيم بن محمد قال حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى النبي فقال النبي ما هذه قال هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد قال النبي يا جبريل وما يوم المزيد قال إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز وجل ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ويجلس من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله عز وجل لهم أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك فيقول قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من خير وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة

وأما ما رواه الثوري والليث بن سعد وابن جريج والأوزاعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم من هذه الأحاديث فلا يحصيه إلا الله بل هؤلاء عليهم مدار هذه الأحاديث من جهتهم أخذت وحماد بن سلمة الذي قال إن مالكا احتذى موطأه على كتابه هو قد جمع أحاديث الصفات لما أظهرت الجهمية إنكارها حتى إن حديث خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن قد رواه هؤلاء الأئمة رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد ومن طريقه رواه مسلم في صحيحه ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي مرسلا ولفظه خلق آدم على صورة الرحمن مع أن الأعمش رواه مسندا فإذا كان الأئمة يروون مثل هذا الحديث وأمثاله مرسلا فكيف يقال أنهم كانوا يمتنعون عن روايتها

والحديث هو في الصحيحين من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة وفي صحيح مسلم من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة وقد روي عن ابن القاسم قال سألت مالكا عن من يحدث الحديث إن الله خلق آدم على صورته والحديث إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة وإنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد

قلت هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك فيقال إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك لمن يفتنه ذلك ولايحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقد كان مالك يترك رواية أحاديث كثيرة لكونه لا يأخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب فغاية ما يعتذر لمالك أن يقال كره أن يتحدث بذلك حديث يفتن المستمع الذي لا يحمل عقله ذلك

واما إن قيل أنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود على من قاله فقد حدث بهذه الأحاديث من هم أجل من مالك عند نفسه وعند المسلمين كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن عباس وعطاء بن أبي رباح وقد حدث بها نظراؤه كسفيان الثوري والليث بن سعد وابن عيينة والثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظه له وهو أقل غلطا فيه من مالك وإن كان مالك ينقي من يحدث عنه وأما الليث فقد قال فيه الشافعي كان أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه ففي الجملة هذا كلام في حديث مخصوص أما أن يقال أن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم

فصل: سورة التوبة[عدل]

سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فسماه هنا كلام الله وقال في مكان آخر إنه لقول رسول كريم فما معنى ذلك فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم ثم يقولون أنتم تعتقدون أن موسى صلوات الله عليه سمع كلام الله عز وجل حقيقة من الله من غير واسطة وتقولون إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين هذا وهذا وتقولون أن القرآن صفة لله تعالى فما الفرق بين هذا وهذا وتقولون إن القرآن صفة لله تعالى وإن صفات الله تعالى قديمة فإن قلتم أن هذا نفس كلام الله تعالى فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله تعالى

فأجاب الحمد لله رب العالمين هذه الآية حق كما ذكر الله وليست إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل وذلك أن قوله وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فيه دلالة على أن يسمع كلام الله من التالي المبلغ وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله كما في حديث جابر في السنن أن النبي كان يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما خرج على المشركين فقرأ عليهم الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون قالوا له هذا كلامك أم كلام صاحبك فقال ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي ولكنه كلام الله

وقد قال تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر فمن قال إن هذا القرآن قول البشر كان قوله مضاهيا لقول الوحيد الذي أصلاه الله سقر ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول النبي إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا هذا حديث رسول الله وهذا كلام رسول الله ولو قال المبلغ هذا كلامي وقولي لكذبه الناس لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئا منشئا لا لمن أداه راويا مبلغا فإذا كان مثل هذا معلوما في تبليغ كلام المخلوق فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق الذي هو أولى أن لا يجعل كلاما لغير الخالق جل وعلا

وقد أخبر تعالى بأنه منزل منه فقال والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وقال حم تنزيل من الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله من البشر والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكلاهما مبلغ له كما قال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وقال إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وهو مع هذا كلام الله ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتاليين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك لم يحدثوا شيئا من حروفه ولا معانيه قال الله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إلى قوله وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين

كان بعض المشركين يزعم أن النبي تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة إما عبد بن الحضرمي وإما غيره كما ذكر ذلك المفسرين فقال تعالى لسان الذي يلحدون إليه أي يضيفون إليه التعليم لسان أعجمي وهذا لسان عربي مبين فكيف يتصور من يعلمه أعجمي وهذا الكلام عربي وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه وبيان أن هذا الذ تعلمه من غير نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب سبحانه وتعالى لم ينزل معناه دون حروفه

ومن المعلوم أن من بلغ كلام غيره كمن بلغ كلام النبي أو غيره من الناس أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لبيد

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

أو قول عبد الله بن رواحة حيث قال

شهدت بأن وعد الله حق... وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف... وفوق العرش رب العالمينا

أو قوله

وفينا رسول الله يتلو كتابه... إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا... به موقنات أن ما قال واقع

وهذا الشعر قال منشئه لفظه ومعناه وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أن شعر ذلك المنشىء وكلامه ونظمه وقوله مع أن هذا التالي أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه وقام بقلبه من المعنى نظير من قام بقلب الأول وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشىء والشعر شعر المنشىء لا شعر المنشد والمحدث عن النبي إذا روى قوله إنما الأعمال بالنيات بلغه بحركته وصوته مع أن النبي تكلم به بحركته وصوته وليس صوت المبلغ صوت النبي ولا حركته كحركته والكلام كلام رسول الله لا كلام المبلغ له عنه

فإذا كان هذا معلوما معقولا فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارىء إذا قرأ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أن يقال هذا الكلام كلام البارىء وإن كان الصوت صوت القارىء فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول قائل قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل قد أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق وبدعوه كما جهموا من قال لفظي بالقرآن مخلوق وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فكيف من قال لفظي به قديم أو صوتي به قديم فابتدع هذا وضلاله أوضح فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو ضال مبتدع

وهؤلاء قد يحتجون بقوله حتى يسمع كلام الله ويقولون هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فهذا غير مخلوق ونحن لا نسمع إلا صوت القارىء وهذا جهل منهم فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة ويكون بواسطة الرسول المبلغ له قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء

ومن قال إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا

ولو قال قائل إنا نسمع كلام النبي كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحا فكيف من يقول أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى وإن كان الله كلم موسى تكليما بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتا للخالق وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا وأمثال ذلك مما جاءت به النصوص والآثار كلها ليس فيها أن صفة المخلوق هي صفة الخالق بل ولا مثلها بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فليس كلامه مثل كلامه ولا معناه مثل معناه ولا حرفه مثل حرفه ولا صوته مثل صوته كما أنه ليس علمه مثل علمه ولا قدرته مثل قدرته ولا سمعه مثل سمعه ولا بصره مثل بصره فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله

ولما استقر في فطر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب

وقد بين أئمة السنة والعلم كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال وغيرهما من أئمة السنة من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين

فصل[عدل]

وأما قوله تعالى إنه لقول رسول كريم فهذا قد ذكره في موضعين فقال في الحاقة إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون فالرسول هنا محمد وقال في التكوير إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين فالرسول هنا جبريل فأضافه إلى الرسول من البشر تارة وإلى الرسول من الملائكة تارة باسم الرسول ولم يقل إنه لقول ملك ولا نبي لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ عن غيره لا منشيء له من عنده وما على الرسول إلا البلاغ المبين فكان قوله إنه لقول رسول كريم بمنزلة قوله لتبليغ رسول أو مبلغ من رسول كريم أو جاء به رسول كريم أو مسموع عن رسول كريم وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئا منه أو أحدثه رسول كريم إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا

وأيضا فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشىء المؤلف لها فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل أحداث لفظه ونظمه ولو جاز أن تكون الإضافة هنا لأجل إحداث الرسول له أو لشيء منه لجاز أن نقول إنه قول البشر وهذا قول الوحيد الذي أصلاه الله سقر

فإن قال قائل فالوحيد جعل الجميع قول البشر ونحن نقول إن الكلام العربي قول البشر وأما معناه فهو كلام الله

فيقال لهم هذا نصف قول الوحيد ثم هذا باطل من وجوه أخرى

وهو أن معاني هذا النظم معان متعددة متنوعة وأنتم تجعلون ذلك المعنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وتجعلون ذلك المعنى إذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من العقل والدين فإن التوراة إذا عربناها لم يكن معناها معنى القرآن والقرآن إذا ترجمناه بالعبرانية لم يكن معناه معنى التوراة

وأيضا فإن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين وإنما يشتركان في معنى الكلام ومسمى كلام الله كما تشترك الأعيان في مسمى النوع فهذا الكلام وهذا الكلام وهذا الكلام كله يشترك في أنه كلام الله اشتراك الأشخاص في أنواعها كما أن هذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا الإنسان يشتركون في مسمى الإنسان وليس في الخارج خص بعينه هو هذا وهذا وهذا وكذلك ليس في الخارج كلام واحد هو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وهو معنى آية الدين وآية الكرسي

ومن خالف هذا كان في مخالفته لصريح المعقول من جنس من قال إن أصوات العباد وأفعالهم قديمة أزلية فاضرب بكلام البدعتين رأس قائلهما والزم الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين

وبسبب هاتين البدعتين الحمقاوين ثارت الفتن وعظمت الإحن وإن كان كل من أصحاب القولين قد يفسرونهما بما قد يلتبس على كثير من الناس كما فسر من قال إن الصوت المسموع من العبد أو بعضه قديم وأن القديم ظهر في المحدث من غير حلول فيه

وأما أفعال العباد فرأيت بعض المتأخرين يزعم أنها قديمة خيرها وشرها وفسر ذلك بأن الشرع قديم والقدر قديم وهي مشروعة مقدرة ولم يفرق بين الشرع الذي هو كلام الله والمشروع الذي هو المأمور به والمنهي عنه ولم يفرق بين القدر الذي هو علم الله وكلامه وبين المقدور الذي هو مخلوقاته والعقلاء كلهم يعلمون بالاضطرار أن الأمر والخبر نوعان للكلام لفظه ومعناه ليس الأمر والخبر صفات لموصوف واحد فمن جعل الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواعا له فقد خالف ضرورة العقل وهؤلاء في هذا بمنزلة من زعم أن الوجود واحد إذ لم يفرق بين الواحد بالنوع والواحد بالعين فإن انقسام الموجود إلى القديم والمحدث والواجب والممكن والخالق والمخلوق والقائم بنفسه والقائم بغيره كانقسام الكلام إلى الأمر والخبر أو إلى الإنشاء والإخبار أو إلى الأمر والنهي والخبر فمن قال الكلام معنى واحد هو الأمر والخبر فهو كمن قال الوجود واحد هو الخالق والمخلوق أو الواجب والممكن وكما أن حقيقة هذا تؤول إلى تعطيل الخالق فحقيقة هذا تؤول إلى تعطيل كلامه وتكليمه

وهذا حقيقة قول فرعون الذي أنكر الخالق وتكليمه لموسى ولهذا آل الأمر بمحقق هؤلاء إلى تعظيم فرعون وتوليه وتصديقه في قوله أنا ربكم الأعلى بل إلى تعظيمه على موسى وإلى الاستحقار بتكليم الله لموسى كما قد بسط في غير هذا الموضع

وأيضا فيقال ما تقول في كلام كل متكلم إذا نقله عنه غيره كما قد ينقل كلام النبي والصحابة والعلماء والشعراء وغيرهم ويسمع من الرواة أو المبلغين أن ذلك المسموع من المبلغ بصوت المبلغ هو كلام المبلغ أو كلام المبلغ عنه

فإن قال كلام المبلغ لزم أن يكون القرآن كلاما لكل من سمع منه فيكون القرآن المسموع كلام ألف ألف قارىء لا كلام الله تعالى وأن يكون قوله إنما الأعمال بالنيات ونظائره كلام كل من رواه لا كلام الرسول وحينئذ فلا فضيلة للقرآن إنه لقول رسول كريم فإنه على قول هؤلاء قول كل منافق قرأه والقرآن يقرأه المؤمن والمنافق كما في الصحيحين عنه أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها وعلى هذا التقدير فلا يكون القرآن قول بشر واحد بل قول ألف ألف بشر وأكثر من ذلك وفساد هذا في العقل والدين واضح

وإن قال كلام المبلغ عنه علم أن الرسول المبلغ للقرآن ليس القرآن كلامه ولكنه كلام الله ولكن لما كان الرسول الملك قد يقال إنه شيطان بين الله أنه تبليغ ملك كريم لا تبليغ شيطان رجيم ولهذا قال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين إلى قوله وما هو بقول شيطان رجيم وبين في هذه الآية أن الرسول البشري الذي صحبناه وسمعناه منه ليس بمجنون وما هو على الغيب بمتهم وذكره باسم الصاحب لما في ذلك

من النعمة به علينا إذ كنا لا نطيق أن نتلقى إلا عمن صحبناه وكان من جنسنا كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم وقال ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون كما قال في الآية الأخرى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وبين أن الرسول الذي من أنفسنا والرسول الملكي أنهما مبلغان فكان في هذا تحقيق أنه كلام الله

فلما كان الرسول البشري يقال إنه مجنون أو مفتر نزهه عن هذا وهذا وكذلك في السورة الأخرى قال إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين وهذا مما يبين أنه إضافة إليه لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وأنشأه فإنه قال وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين فجمع بين قوله إنه لقول رسول كريم وبين قوله وإنه لتنزيل رب العالمين والضميران عائدان إلى واحد فلو كان الرسول أحدثه وأنشأه لم يكن تنزيلا من رب العالمين بل كان يكون تنزيلا من الرسول ومن جعل الضمير في هذا عائدا إلى غير ما يعود إليه الضمير الآخر مع أنه ليس في الكلام ما يقتضي اختلاف الضميرين ومن قال أن هذا عبارة عن كلام الله فقل له هذا الذي تقرأه أهو عبارة عن العبارة التي أحدثها الرسول الملك أو البشر على زعمك أم هو نفس تلك العبارة فإن جعلت هذا عبارة عن تلك العبارة جاز أن تكون عبارة جبريل أو الرسول عبارة عن عبارة الله وحينئذ فيبقى النزاع لفظيا فإنه متى قال إن محمدا سمعه من جبريل جميعه وجبريل سمعه من الله جميعه والمسلمون سمعوه من الرسول جميعه فقد قال الحق وبعد هذا فقوله عبارة لأجل التفريق بين التبليغ والمبلغ عنه كما سنبينه

وإن قلت ليس هذا عبارة عن تلك العبارة بل هو نفس تلك العبارة فقد جعلت ما يسمع من المبلغ هو بعينه ما يسمع من المبلغ عنه إذ جعلت هذه العبارة هي بعينها عبارة جبريل فحينئذ هذا يبطل أصل قولك

واعلم أن أصل القول بالعبارة أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب هو أول من قال في الإسلام إن معنى القرآن كلام الله وحروفه ليست كلام الله فأخذ بنصف قول المعتزلة ونصف قول أهل السنة والجماعة وكان قد ذهب إلى إثبات الصفات لله تعالى

وخالف المعتزلة في ذلك وأثبت العلو لله على العرش ومباينة المخلوقات وقرر ذلك تقريرا هو أكمل من تقرير أتباعه بعده وكان الناس قد تكلموا فيمن بلغ كلام غيره هل يقال له حكاية عنه أم لا وأكثر المعتزلة قالوا هو حكاية عنه فقال ابن كلاب القرآن العربي حكاية عن كلام الله ليس بكلام الله

فجاء بعده أبو الحسن الأشعري فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات وفي مسألة القرآن أيضا واستدرك عليه قوله أن هذا حكاية وقال الحكاية إنما تكون مثل المحكي فهذا يناسب قول المعتزلة وإنما يناسب قولنا أن نقول هو عبارة عن كلام الله لأن الكلام ليس من جنس العبارة فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم عدة أمور

أحدها قولهم إن المعنى كلام الله وإن القرآن العربي ليس كلام الله وكانت المعتزلة تقول هو كلام الله وهو مخلوق فقال هؤلاء هو مخلوق وليس بكلام الله لأن من أصول أهل السنة أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل فإذا قام الكلام بمحل كان هو المتكلم به كما أن العلم والقدرة إذا قاما بمحل كان هو العالم القادر وكذلك الحركة وهذا مما احتجوا به على المعتزلة وغيرهم من الجهمية في قولهم إن كلام الله مخلوق خلقه في بعض الأجسام قالوا لهم لو كان كذلك لكان الكلام كلام ذلك الجسم الذي خلقه فيه فكانت الشجرة هي القائلة إني أنا الله رب العالمين فقال أئمة الكلابية إذا كان القرآن العربي مخلوقا لم يكن كلام الله فقال طائفة من متأخريهم بل نقول الكلام مقول بالاشتراك بين المعنى المجرد وبين الحروف المنظومة فقال لهم المحققون فهذا يبطل أصل حجتكم على المعتزلة فإنكم إذا سلمتم أن ما هو كلام الله حقيقة لا يمكن قيامه به بل بغيره أمكن المعتزلة أن يقولوا ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره

الثاني قولهم إن ذلك المعنى هو الأمر والنهي والخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وقال أكثر العقلاء هذا الذي قالوه معلوم الفساد بضرورة العقل

الثالث أن ما نزل به جبريل من المعنى واللفظ وما بلغه محمد لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله

ومسألة القرآن لها طرفان أحدهما تكلم الله به وهو أعظم الطرفين والثاني تنزيله إلى خلقه والكلام في هذا سهل بعد تحقيق الأول وقد بسطنا الكلام في ذلك في عدة مواضع وبينا مقالات أهل الأرض كلهم في هذه المسائل وما دخل في ذلك من الاشتباه ومأخذ كل طائفة ومعنى قول السلف القرآن كلام الله غير مخلوق وأنهم قصدوا به إبطال قول من يقول إن الله لم يقم بذاته كلام ولهذا قال الأئمة كلام الله من الله ليس ببائن عنه وذكرنا اختلاف المنتسبين إلى السنة هل يتعلق الكلام بمشيئته وقدرته أم لا وقول من قال من أئمة السنة لم يزل الله متكلما إذا شاء وأن قول السلف منه بدأ لم يريدوا به أنه فارق ذاته وحل في غيره فإن كلام المخلوق بل وسائر صفاته لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فكيف يجوز أن يفارق ذات الله كلامه أو غيره من صفاته بل قالوا منه بدأ أي هو المتكلم به ردا على المعتزلة والجهمية وغيرهم الذين قالوا بدأ من المخلوق الذي خلق فيه وقولهم إليه يعود أي يسري عليه فلا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في الصدور منه آية

والمقصود هنا الجواب عن مسائل السائل

فصل[عدل]

وأما قول القائل أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة وتقولون أن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائل بأصوات مختلفة فما الفرق بين ذلك

فيقال له بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق فإن كل عاقل يفرق بين سماع كلام النبي منه بغير واسطة كسماع الصحابة منه وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس وكل من السامعين سمع كلام النبي حقيقة وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أو غيرهما من الشعراء منه بلا واسطة ومن سمعه من الرواة عنه يعلم الفرق بين هذا وهذا وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره والإنسان إذا تعلم شعر غيره فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بأصواته المقطعة وإن كان المبلغ يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه

فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من القراء هو صوت الرب فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء وكذلك من توهم أن الصوت قديم أو أن المداد قديم فهذا لا يقوله ذو حس سليم بل ما بين لوحي المصحف كلام الله وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره فمن قال إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره فهو ملحد مارق

ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضا ملحد مارق بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم

فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى

والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد مثال ذلك أن الإنسان يقول رأيت الشمس والقمر والهلال إذ رآه بغير واسطة وهذه الرؤية المطلقة وقد يراه في ماء أو مرآة فهذه رؤية مقيدة فإذا أطلق قوله رأيته أو ما رأيته حمل على مفهوم اللفظ المطلق وإذا قال لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة فهو كلام صحيح مع التقييد واللفظ يختلف معناه بالإطلاق والتقييد فإذا وصل بالكلام ما يغير معناه كالشرط والاستثناء ونحوهما من التخصيصات المتصلة كقوله ألف سنة إلا خمسين عاما كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس

ومن قال إن هذا مجاز فقد غلط فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين ولا يجوز نفي مفهومهما بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مع أن قول القائل هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز نزاع لفظي وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد فإنه قال فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية هذا من مجاز القرآن وأول من قال ذلك مطلقا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه الذي صنفه في مجاز القرآن ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يجوز في اللغة ويسوغ فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء عقد لازم وجائز وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة

والمقصود أن القائل إذا قال رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية وبين رؤية ذلك بلا واسطة وإذا قال قائل ما رأى ذلك بل رأى مثاله أو خياله أو رأى الشعاع المنعكس أو نحو ذلك لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة وكذلك قول النبي من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي هو كما قال رآه في المنام حقا فمن قال ما رآه في المنام حقا فقد أخطأ ومن قال إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك

وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام وليس هذا كالسماع منه في اليقظة وقد يرى الرائي في المنام أشخاصا يخاطبهم ويخاطبونه والمرئيون لا شعور لهم بذلك وإنما رأى مثالهم ولكن يقال رآهم في المنام حقيقة فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس

فإن الرؤيا ثلاثة أقسام رؤيا بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي ولكن الرؤيا يظهر لكل أحد من الفرق بينها وبين اليقظة ما لا يظهر في غيرها فكما أن الرؤية تكون مطلقة وتكون مقيدة بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك حتى إن المرئي يختلف باختلاف المرآة فإذا كانت كبيرة مستديرة رأى كذلك وإن كانت صغيرة أو مستطيلة رأى كذلك فكذلك في السماع يفرق بين من سمع كلام غيره منه ومن سمعه بواسطة المبلغ ففي الموضعين المقصود سماع كلامه كما أن هناك في الموضعين يقصد رؤية نفس النبي لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة فيختلف باختلاف أصوات المبلغين كما يختلف المرئي باختلاف المرايا قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء

فجعل التكليم ثلاثة أنواع الوحي المجرد والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد

والمسلمون متفقون على أن الله أمرهم بما أمرهم به في القرآن ونهاهم عما نهاهم عنه في القرآن وأخبرهم بما أخبرهم به في القرآن فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول فهذا تكليم مقيد بالإرسال وسماعنا لكلامه سماع مقيد بسماعه من المبلغ لا منه وهذا القرآن كلام الله مبلغا عنه مؤدا عنه وموسى سمع كلامه مسموعا منه لا مبلغا عنه ولا مؤدا عنه وإذا عرف هذا المعنى زاحت الشبهة

والنبي يروي عن ربه ويخبر عن ربه ويحكي عن ربه فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكيا عنه فلو قال من قال إن القرآن حكاية إن محمدا حكاه عن الله كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله لكان قد قصد معنى صحيحا لكن يقصدون ما يقصده القائل بقوله فلان يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله وهو أنه يتكلم بمثل كلام الله فهذا باطل قال الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا

ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه في المرأة حصل مقصوده وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره الذي ألف ألفاظه وقصد معانيه فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير الذي يتخلف باختلاف الصائتين والقلوب إنما تشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود كما في الاسم والمسمى فإن القائل إذا قال جاء زيد وذهب عمرو ولم يكن مقصوده إلا الإخبار بالمجيء عن المسمى ولكن بذكر الاسم أظهر ذلك

فمن ظن أن الموصوف بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد أو لفظ عمرو كان مبطلا فكذلك إذا قال القائل هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فالمقصود هنا الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما ظهر وسمع بواسطة حركة التالي وصوته فمن ظن أن المشار إليه هو صوت القارىء وحركته كان مبطلا ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد رضي الله عنه قل هو الله أحد وسأله هل هذا كلام الله وهل هو مخلوق فأجابه بأنه كلام الله وأنه غير مخلوق فنقل عنه أبو طاب خطأ منه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فاستدعاه وغضب عليه وقال أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق قال لا ولكن قرأت عليك قل هو الله أحد وقلت لك هذا غير مخلوق فقلت نعم قال فلم تحكي عني ما لم أقل لا تقل هذا فإن هذا لم يقله عالم وقصته مشهورة حكاها عبد الله وصالح وحنبل والمروذي وفوزان وبسطها الخلال في كتاب السنة وصنف المروذي في مسألة اللفظ مصنفا ذكر فيه أقوال الأئمة

وهذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن الكلام وأدقه فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود وهو كلام الله الذي تكلم به لا إلى ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم فإذا قيل لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة وهذا باطل كما أن من رأى وجها في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال قد أبدر أو لم يبدر فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم لا نفس الصوت المسموع من الناطق فلو قال هذا الصوت أو صوتي بفلان صالح أو فاسق فسد المعنى

وكان بعضهم يقول لفظي بالقرآن مخلوق فرأى في منامه وضارب يضربه وعليه فروة فأوجعه بالضرب فقال له لا تضربني فقال أنا ما أضربك وإنما أضرب الفروة فقال إنما يقع الضرب علي فقال هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق فالخلق إنما يقع على القرآن يقول كما أن المقصود بالضرب بدنك واللباس واسطة فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله وصوتك واسطة فإذا قلت مخلوق وقع ذلك على المقصود كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت أنا أحب هذا وأنا أبغض هذا انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم لا إلى صوت الذاكر ولهذا قال الأئمة القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما تصرف بخلاف أفعال العباد وأصواتهم فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعا ضالا

فصل[عدل]

وأما قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله وإن صفات الله غير مخلوقة فإن قلتم أن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون بالحلولية والاتحادية وإن قلتم مغير ذلك قلتم بمقالتنا

فمن تبين له ما نبهنا عليه سهل عليه الجواب عن هذا وأمثاله فإن منشأ الشبهة أن قول القائل هذا كلام الله يجعل أحكامه واحدة سواء كان كلامه مسموعا منه أو كلامه مبلغا عنه

ومن هنا تختلف طوائف من الناس

طائفة قالت هذا كلام الله وهذا حروف وأصوات مخلوقة فكلام الله مخلوق

وطائفة قالت هذا مخلوق وكلام الله ليس بمخلوق فهذا ليس كلام الله

وطائفة قالت هذا كلام الله وكلام الله ليس بمخلوق وهذا ألفاظنا وتلاوتنا فألفاظنا وتلاوتنا غير مخلوقة

ومنشأ ضلال الجميع من عدم الفرق في المشار إليه في هذا فأنت تقول هذا الكلام الذي تسمعه من قائله صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم وكذلك إذا سمعته من ناقله تقول هذا الكلام صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم فالمشار إليه في الموضعين واحد وتقول أيضا إن هذا صوت حسن وهذا كلام من وسط القلب ثم إذا سمعته من الناقل تقول هذا صوت حسن أو كلام من وسط القلب فالمشار إليه هنا ليس هو المشار إليه هناك بل أشار إلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإذا كتب الكلام في صفحتين كالمصحفين تقول في كلم فهما هذا قرآن كريم وهذا كتاب مجيد وهذا كلام الله فالمشار إليه واحد ثم تقول هذا خط حسن وهذا قلم النسخ أو الثلث وهذا الخط أحمر أو أصفر والمشار إليه هنا ما يختص به كل من المصحفين عن الآخر

فإذا ميز الإنسان في المشار إليه بهذا وهذا تبين المتفق والمفترق وعلم أن من قال هذا القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق أن المشار إليه الكلام من حيث هو مع قطع النظر عما به وصل إلينا من حركات العباد وأصواتهم ومن قال هذا مخلوق وأشار به إلى مجرد صوت العبد وحركته لم يكن له في هذا حجة على أن القرآن نفسه حروفه ومعانيه الذي تعلم هذا القارىء من غيره وبلغه بحركته وصوته مخلوق من اعتقد ذلك فقد أخطأ وضل

ويقال لهذا هذا الكلام الذي أشرت إليه كان موجودا قبل أن يخلق هذا القارىء فهب أن القارىء لم تخلق نفسه ولا وجدت لا أفعاله ولا أصواته فمن أين يلزم أن يكون الكلام نفسه الذي كان موجودا قبله يعدم بعدمه ويحدث بحدوثه فإشارته بالخلق إن كانت إلى ما يختص به هذا القارىء من أفعاله وأصواته فالقرآن غني عن هذا القارىء وموجود قبله فلا يلزم من عدم هذا عدمه وإن كانت إلى الكلام الذي يتعلمه الناس بعضهم من بعض فهذا هو الكلام المنزل من الله الذي جاء به جبريل إلى محمد وبلغه محمد لأمته وهو كلام الله الذي تكلم به فذاك يمتنع أن يكون مخلوقا فإنه لو كان مخلوقا لكان كلاما لمحله الذي خلق فيه ولم يكن كلاما لله ولأنه لو كان سبحانه إذا خلق كلاما كان كلامه كان ما أنطق به كل ناطق كلامه مثل تسبيح الجبال والحصى وشهادة الجلود بل كان كلام في الوجود وهذا قول الحلولية يقولون

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

ومن قال القرآن مخلوق فهو بين أمرين إما أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه وبين أن يجعله غير متكلم بشيء أصلا فيجعل العباد المتكلمين أكمل منه وشبهه بالأصنام والجمادات والموات كالعجل الذي لا يكلمهم ولايهديهم سبيلا فيكون قد فر من إثبات صفات الكمال له حذرا في زعمه من التشبيه فوصفه بالنقص وشبهه بالجامد والموات

وكذلك قول القائل هذا نفس كلام الله وعين كلام الله وهذا الذي في المصحف هو عين كلام الله ونفس كلام الله وأمثال هذه العبارات هذه مفهومها عند الإطلاق في فطر المسلمين أنه كلامه لا كلام غيره وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان فإن من ينقل كلام غيره ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها فإذا جاء كتاب السلطان فقيل هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص يعني لم يزد فيه الكاتب ولا نقص وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه قيل هذا الكلام كلام فلان بعينه يعني لم يزد فيه ولم ينقص كما قال النبي نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه

فقوله فبلغه كما سمعه لم يرد به أنه يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه لا يزيد فيه ولاينقص فيكون قد بلغه كما سمعه فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله ويكون قد سمع كلام رسول الله كما قاله وذلك معنى قولهم هذا كلامه بعينه وهذا نفس كلامه لا يريدون أن هذا هو صوته وحركاته وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجىء أصحابه إلى القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات

ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة فإذا رأى الناس كلاما صحيحا فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل أن نفس ما قام المتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه ولا فارقته وحلت في الورق بل ولا يقول أن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق بل ولايقول أن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه فهذه الأمور كلها ظاهرة لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه سبحانه كما كتب التوراة لموسى وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم

وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه بل شعر مخلوق كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء ويقول الناس هذا شعر حسان بعينه وهذا هو نفس شعر حسان وهذا شعر لبيد بعينه كقوله

لا كل شيء ما خلا الله باطل

ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت

فيه وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق بل يمثلون العلم بنور السراج يقتبس منه المتعلم ولا ينقص ما عند العالم كما يقتبس المقتبس ضوء السراج فيحدث الله له ضوءا كما يقال أن الهوى ينقلب نارا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح والمقرىء والمعلم يقرىء القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده

ولهذا يقال فلان ينقل علم فلان وينقل كلامه ويقال العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك كما يقال نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب أو نقلت الكتاب أو نسخته وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عدمت منه وحلت في الثاني بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني مثل ما في الأول فيبقى المقصود بالأول منقولا منسوخا وإن كان لم يتغير الأول بخلاف نقل الأجسام وتوابعها فإن ذلك إذا نقل من موضع إلى موضع زال عن الأول

وذلك لأن الأشياء لها وجود في أنفسها وهو وجودها العيني ولها ثبوتها في العلم ثم في اللفظ المطابق للعمل ثم في الخط وهذا الذي يقال وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان وجود عيني ووجود علمي ولفظي ورسمي ولهذا افتتح الله كتابه بقوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فذكر الخلق عموما وخصوصا ثم ذكر التعليم عموما وخصوصا فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق العلم والعلم هو المطابق للمعلوم

ومن هنا غلط من غلط فظن أن القرآن في المصحف كالأعيان في الورق فظن أن قوله إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون كقوله الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فجعل إثبات القرآن الذي هو كلام الله في المصاحف كإثبات الرسول في المصاحف وهذا غلط إثبات القرآن كإثبات اسم الرسول هذا كلام وهذا كلام وأما إثبات اسم الرسول فهذا كإثبات الأعمال أو كإثبات القرآن في زبر الأولين قال تعالى وكل شيء فعلوه في الزبر وقال تعالى وإنه لفي زبر الأولين فثبوت الأعمال في الزبر وثبوت القرآن في زبر الأولين هو مثل كون الرسول مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ولهذا قيد سبحانه هذا بلفظ الزبر والكتب زبر يقال زبرت الكتاب إذا كتبته والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب فالقرآن نفسه ليس عند بني إسرائيل ولكن ذكره كما أن محمدا نفسه ليس عندهم ولكن ذكره فثبوت الرسول في كتبهم كثبوت القرآن في كتبهم بخلاف ثبوت القرآن في اللوح المحفوظ وفي المصاحف فإن نفس القرآن أثبت فيها فمن جعل هذا مثل هذا كان ضلاله بينا وهذا مبسوط في موضعه

والمقصود هنا أن نفس الموجودات وصفاتها إذا انتقلت من محل إلى محل حلت في ذلك المحل الثاني وأما العلم بها والخبر عنها فيأخذه الثاني عن الأول مع بقائه في الأول وإن كان الذي عند الثاني هو نظير ذلك ومثله لكن لما كان المقصود بالعلمين واحدا في نفسه صارت وحدة المقصود توجب وحدة التابع له والدليل عليه ولم يكن للناس غرض في تعدد التابع كما في الاسم مع المسمى فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ودعا به أناس متعددون فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله وقال ذلك هذا المؤذن وهذا المؤذن وقاله غير المؤذن فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله كما أن المسمى هو الله ورسوله

وإذا قال اقرأ باسم ربك وقال اركبوا فيها بسم الله وقال سبح اسم ربك الأعلى وقال بسم الله ففي الجميع المذكور هو اسم الله وإن تعدد الذكر والذاكر فالخبر الواحد عن المخبر الواحد من مخبره والأمر الواحد بالمأمور به من الآمر الواحد بمنزلة الاسم الواحد لمسماه هذا في المركب نظير هذا في المفرد وهذا هو واحد باعتبار الحقيقة وباعتبار اتحاد المقصود وإن تعدد من يذكر ذلك الاسم والخبر وتعددت حركاتهم وأصواتهم وسائر صفاتهم

وأما قول القائل إن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية فهذا قياس فاسد مثاله مثال رجل ادعى أن النبي يحل بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا إن النبي لا يحل في بدن غيره فقال أنتم تقولون إن المحدث يقرأ كلامه وإن ما يقرأه هو كلام النبي فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول ومعلوم أن هذا في غاية الفساد

والناس متفقون على إطلاق القول بأن كلام زيد في هذا الكتاب وهذا الذي سمعناه كلام زيد ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلم أو في هذا الورق وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي استذكروا القرآن فلهو أشد نفلتا من صدور الرجال من النعم في عقلها وقوله الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب وأمثال ذلك وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال الله في صدورنا وأجوافنا ولهذا لما ابتدع شخص يقال له الصوري بأن من قال القرآن في صدورنا فقد قال بقول النصارى فقيل لأحمد قد جاءت جهمية رابعة أي جهمية الخلقية واللفظية والواقفية وهذه الرابعة اشتد نكيره لذلك وقال هذا أعظم من الجهمية وهو كما قال

فإن الجهمية ليس فيهم من ينكر أن يقال القرآن في الصدور ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة فإن النصارى يقولون الأب والابن وروح القدس إله واحد وإن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت الناسوت وهو عندهم إله يخلق ويرزق ولهذا كانوا يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم ويقولون المسيح ابن الله ولهذا كانوا متناقضين فإن الذي تدرع المسيح إن كان هو الإله الجامع للأقانيم فهو الأب نفسه وإن كان هو صفة من صفاته فالصفة لا تخلق ولا ترزق وليست إلها والمسيح عندهم إله ولو قال النصارى إن كلام الله في صدر المسيح كما هو في صدور سائر الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر

فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر كما قالت النصارى والغالية من الرافضة وغلاة أتباع المشايخ أو يقولون بحلوله في كل شيء كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان وهو سبحانه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها أو قال وجوده وجود المخلوقات أو غير ذلك

فاما قول القائل إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين وإن الرسل بلغت كلام الله والذي بلغته هو كلام الله وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك فهذا لا يسمى حلولا ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلا للحقائق وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره فكيف صفة الخالق تبارك وتعالى ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه هل يقال إن كلام الله حال في المصحف أو حال في الصدور وهل يقال كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب حافظيه ونحو ذلك فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي أبي يعلى وأمثاله وقالوا ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول حل لأن حلول صفة الخالق في المخلوق أو حلول القديم في المحدث ممتنع

وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي الملقب بشيخ الإسلام وغيره وقالوا ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته

وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا لا نطلق الحلول نفيا ولا إثباتا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفي ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاق محذور لما في ذلك من الإجمال

واما قول القائل إن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا فجواب ذلك أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور فإذا زالت لم يبق منكرا

أحدها من يقول إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد والله خلقه في غيره

الثاني قول من يقول إن كلام الله ليس إلا معنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر وإن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدا وكذلك معنى آية الدين وآية الكرسي كمن يقول إن معاني أسماء الله الحسنى بمعنى واحد فمعنى العليم والقدير والرحيم والحكيم معنى واحد فهذا إلحاد في أسمائه وصفاته وآياته

الثالث قول من يقول إن ما بلغته الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله وإن القرآن كلام التالين لا كلام رب العالمين فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها

واما قول من قال إن القرآن العربي كلام الله بلغه عنه رسول الله وأنه تارة يسمع من الله وتارة من رسله مبلغين عنه وهو كلام الله حيث تصرف وكلام الله تكلم به لم يخلقه في غيره ولا يكون كلام الله مخلوقا ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه وقال مع ذلك إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة فهذا لا ينكر عليه

وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله تعالى وليس هو ولا شيء منه كلاما لغيره ولكن بلغته عنه رسله وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه ومع العلم بأن شيئا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا من كلام الخالق أولى وأظهر والله أعلم

فصل[عدل]

قال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون سورة التوبة 59 فجعل الإيتاء لله والرسول لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله بخلاف ما آتاه الملك خلقا وقدرا ولم يطع الله ورسوله فيه فإن ذلك مذموم مستحق للعقاب وإن كان قد آتاه الله ذلك خلقا وقدرا وأما من رضي بما آتاه الله ورسوله فهو ممن رضي بما أحله الله ورسوله ولم يطلب ما حرم عليه كالذين قال الله فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هو يسخطون ثم قال ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سورة التوبة 58 59 ولم يقل ورسوله لأن الله وحده كاف عبده كما قال الله تعالى أليس الله بكاف عبده سورة الزمر 36 وقال الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل سورة آل عمران 173 ثم دعاهم إلى أن يقولوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله فذكر أن الرسول يؤتيهم وأن ذلك من فضل الله وحده لم يقل من فضله وفضل رسوله ثم ذكر قوله إنا إلى الله راغبون ولم يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب سورة الشرح 7 8

وأما ما في القرآن من ذكر عبادته وحده ودعائه وحده والاستعانة به وحده والخوف منه وحده فكثير كقوله ولا يخشون أحدا إلا الله سورة الأحزاب 39 وقوله فإياي فارهبون سورة النحل 51 وإياي فاتقون سورة البقرة 41 وقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين سورة آل عمران 175 وكذلك قوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء 213 واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا سورة النساء 36

وأما المحبة فهي لله ورسوله والإرضاء لله والرسول كقوله تعالى أحب إليكم من الله ورسوله سورة التوبة 24 وقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين سورة التوبة 62 فالرسول علينا أن نحبه وعلينا أن نرضيه بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين وكذلك الطاعة لله والرسول قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله سورة النساء 80

والعبادات بأسرها الصلاة والسجود والطواف والدعاء والصدقة والنسك والذبح لا يصلح إلا لله ولم يخص الله بقعة نفعل الصلاة فيها إلا المساجد لا مقبرة ولا مشهدا ولا مغارة ولا مقام نبي ولا غير ذلك ولا خص بقعة غير المساجد بالذكر والدعاء إلا مشاعر الحج لا قبر نبي ولا صالح ولا مغارة ولا غير ذلك ولا يقبل على وجه الأرض شييء عبادة لله إلا الحجر الأسود ولا يتمسح إلا به وبالركن اليماني ولا يستلم الركنان الشاميان وهما من البيت فكيف غيرهما وقد طاف ابن عباس ومعاوية فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة فقال ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجور فقال ابن عباس رضي الله عنه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت ورجع إلى قوله

فالعبادات مبناها على أصلين أحدهما أن لا يعبد إلا الله وحده لا نعبد من دونه شيئا لا ملكا ولا نبيا ولا صالحا ولا شيئا من المخلوقات والثاني أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله

والعبادات تتضمن كمال الحب وكمال الخضوع فمن أحب شيئا من المخلوقات كما يحب الخالق فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165 وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ثم أن تزاني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون سورة الفرقان 68

والنبي قد أمر بالعبادة في المساجد وذكر فضل الصلاة في الجماعة ورغب في ذلك ولم يأمر قط بقصد مكان لأجل نبي ولا صالح بل نهى عن اتخاذها مساجد فلا يجوز أن تقصد للصلاة فيها والدعاء وهذا كله لتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله فقد قال بعض الناس يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون سورة البقرة 186

وفي الصحيح عن النبي أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الصحيحين عنه أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه حتى يطلع الفجر

فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه أمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعائه ونهوا أن يدعى أحد من دون الله تعالى وفي الصحيح عن النبي أنه قال أحب البقاع إلى الله تعالى المساجد وأبغضها إلى الله تعالى الأسواق يعني البقاع التي كانت تكون في مدينته ونحوها ولم يكن بالمدينة لا حانة ولا كنيسة ولا موضع شرك وهذه المواضع شر من الأسواق

وقد قال النبي شرار الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد هذا إذا بنى المسجد المسمى مشهدا على قبر صحيح فكيف وكثير من هذه المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهم كذب وكثير منها مختلف فيه لا يتوثق فيه بنقل ينقل في ذلك مما يوجد بالشام والعراق وخراسان وغير ذلك والسبب في خفائها وكثرة الخلاف فيها أن الله حفظ الدين الذي بعث به رسوله بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون سورة الحجر 9 واتخاذ هذه معابد ليس من الدين فلهذا لم يحفظ هذه المقامات والمشاهد بل مبني أمرهم على الجهل والضلال وإنما يستند أهلها إلى منامات تكون من الشياطين أو إلى أخبار وإما مكذوبة وإما منقولة عمن ليس قوله حجة

والشياطين تضل أهلها كما تضل عباد الأصنام فتارة تكلمهم وتارة تتراءى لهم وتارة تقضي بعض حوائجهم وتارة تصيح وتحرك السلاسل التي فيها القناديل وتطفىء القناديل وتارة تفعل أمورا أخر كما تفعل عبادة الأوثان التي كانت للعرب وهي اليوم تفعل مثل ذلك في أوثان الترك والصين والسودان وغيرهم فيظنون أن ذلك هو الميت أو ملك صور على صورته وإنما هو شيطان أضلهم بالشرك كما يجري ذلك لعباد الأصنام المصورة على صورة الآدميين هذا باب واسع ليس هذا موضع استقصائه

فصل[عدل]

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار سورة التوبة 100 هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة

وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين وهذا ضعيف فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة ولكن فيه سبق الذين ادركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئا فشيئا وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة ففضيلة من اسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب وليس مثل هذا مما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع بأولى بجعله خيرا من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص

وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي بيده عن عثمان لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته وبسببه بايع النبي الناس لما بلغه أنهم قتلوه

وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة

وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم أنه بهم رؤوف رحيم سورة التوبة 117 فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة

وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آوما ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا سورة الأنفال 72 إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الأنفال 75 فأثبت الموالاة بينهم

وقال للمؤمنين يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين سورة المائدة 51 إلى قوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون المائدة 55 56 وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض سورة التوبة 71 فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة وأصل المعاداة البغض وهم يبغضونهم ولا يحبونهم

وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل وكذبه بين من وجوه كثيرة

منها أن قوله الذين صيغة جمع وعلي واحد

منها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة

ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلا

ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن

ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي

ومنها أنه لم يكن له أيضا خاتم ولا كانوا يلبسون الخواتم حتى كتب النبي كتابا إلى كسرى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من ورق ونقش فيها محمد رسول الله

ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزىء إخراج الخاتم في الزكاة

ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يساله سائل

ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام

وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة والرافضة مخالفون لها

والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين وهذا أمر مشهور فيهم يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم

وقال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال 64 أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم

وقال تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا والذين رآهم النبي يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره

وقال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم سورة الأنفال 62 63 وإنما أيده في حياته بالصحابة

وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35 وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى

والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء

وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسب إلى التشيع ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ومنهم من ادعى إلهية البشر وادعى النبوة في غير النبي وادعى العصمة في الأئمة ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم

فصل[عدل]

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب

وقوله وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا وقوله الشمس والقمر بحسبان قوله والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج دليل على توقيت ما فيها من التوقيت للسنين والحساب فقوله لتعلموا عدد السنين والحساب إن علق بقوله وقدره منازل كان الحكم مختصا بالقمر وإن أعيد إلى أول الكلام تعلق بهما ويشهد للأول قوله من الأهلة فإنه موافق لذلك ولأن كون الشمس ضياء والقمر نورا لا يوجب علم عدد السنين والحساب بخلاف تقدير القمر منازل فإنه هو الذي يقتضي علم عدد السنين والحساب ولم يذكر انتقال الشمس في البروج

ويؤيد ذلك قوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله الآية فإنه نص على أن السنة هلالية وقوله الحج أشهر معلومات يؤيد ذلك لكن يدل على الآخر قوله وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب

وهذا والله أعلم لمعنى تظهر به حكمة ما في الكتاب وما جاءت به الشريعة من اعتبار الشهر والعام الهلالي دون الشمسي إن كل واحد من الشهر والعام ينقسم في اصطلاح الأمم إلى عددي وطبيعي فأما الشهر الهلالي فهو طبيعي وسنته عددية

واما الشهر الشمسي فعددي وسنته طبيعية فأما جعل شهرنا هلاليا فحكمته ظاهرة لأنه طبيعي وإنما علق بالهلال دون الاجتماع لأنه أمر مضبوط بالحس لا يدخله خلل ولا يفتقر إلى حساب بخلاف الاجتماع فإنه أمر خفي يفتقر إلى حساب وبخلاف الشهر الشمسي لو ضبط

وأما السنة الشمسية فإنها وإن كانت طبيعية فهي من جنس الاجتماع ليس أمرا ظاهرا للحس بل يفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل وإنما الذي يدركه الحس تقريب ذلك فإن انقضاء الشتاء ودخول الفصل الذي تسميه العرب الصيف ويسميه غيرها الربيع أمر ظاهر بخلاف محاذاة الشمس لجزء من أجزاء الفلك يسمى برج كذا أو محاذاتها لإحدى نقطتي الرأس أو الذنب فإنه يفتقر إلى حساب

ولما كانت البروج اثني عشر فمتى تكرر الهلالي اثني عشر فقد انتقل فيها كلها فصار ذلك سنة كاملة تعلقت به أحكام ديننا من المؤقتات شرعا أو شرطا إما بأصل الشرع كالصيام والحج وإما بسبب من العبد كالعدة ومدة الإيلاء وصوم الكفارة والنذر وإما بالشرط كالأجل في الدين والخيار والأيمان وغير ذلك

فصل[عدل]

ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما ذكر الله تعالى في كتابه وهم قسمان المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون

فولي الله ضد عدو الله قال الله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وقال تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا إلى قوله ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال تعالى لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وقال ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون وقال أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه

والولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته وقد ذكر النبي في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين وهم المتقربون إلى الله بالواجبات والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات

وذكر الله الصنفين في سورة فاطر والواقعة والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفا يمزج لأصحاب اليمين

والولي المطلق هو من مات على ذلك فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا لله أو يقال لم يكن وليا لله قط لعلم الله بعاقبته هذا فيه قولان للعلماء وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته فيه أيضا قولان للفقهاء والمتكلمين والصوفية

والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم لكن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع أن ولي الله هل يصير عدوا لله وبالعكس ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما على القولين

والتحقيق هو الجمع بين القولين فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلا وأبدا وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلا وأبدا لكن مع ذلك فإن الله تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته وقد يقال أنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به ويرضاه وقد يقال أنه يواليه حينئذ على ذلك

والدليل على ذلك اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنا ثم ارتد فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال وإنما يقال كما قال الله تعالى ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وقال لئن أشركت ليحبطن عملك وقال ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان إرثه المتقدم وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلا ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه ولو شهد أو حكم ثم ارتد لوجب أن تفسد صلاته وحكمه ونحو ذلك وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره لو كان محبوبا لله وليا له في حال كفره لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع

والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة

وعلى هذا يخرج جواب السائل فمن قال إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره ومن قال قد يكون وليا لله من كان مؤمنا تقيا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل

ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك فمن ثبتت ولايته بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص وأما من شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك هذا في الأمر العام

وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسول وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك فإن سند المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر ابن الخطاب وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه

ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة ولو كان أحد يأتيه من الله مالا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول في بعض دينه وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى ومن قال هذا فهو كافر

وقد قال الله تعالى وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته واللله عليم حكيم فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته ولم يضمن ذلك للمحدث ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته

ويحتمل والله أعلم أن لا يكون هذا الحرف متلوا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان في أمنية المحدث فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك وإن كان من أولياء الله المتقين فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورا لهم بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقا بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة

وقد قال الله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون فقد وصفهم الله بأنهم هم المتقون والمتقون هم أولياء الله ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان

وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ ومن يعتقدون أنه من الأولياء فالرافضة تزعم أن الأثني عشر معصومون من الخطأ والذنب ويرون هذا من أصول دينهم والغالية في المشائخ قد يقولون إن الولي محفوظ والنبي معصوم وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم ولهذا قال سيد ولد آدم لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله

هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها

منها قوله تعالى وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ظن طائفة أن ما نافية وهو خطأ بل هي استفهام فإنهم يدعون معه شركاء كما أخبر عنهم في غير موضع فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون لأنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة ولهذا قال إن يتبعون إلا الظن ولو أراد النفي لقال إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء بل بين أن الشرك لا علم معه إن هو إلا الظن والخرص كقوله قتل الخراصون

سورة هود. فصل عرض لما تضمنته السورة[عدل]

قد افتتح السورة فقال كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير إلا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير فذكر أنه نذير وبشير نذير ينذر بالعذاب لأهل النار وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحق

ثم ذكر حال الفريقين في السراء والضراء فقال ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير

ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء وحال من اتبعهم ومن كذبهم كيف سعد هؤلاء في الدنيا والآخرة وشقي هؤلاء في الدنيا والآخرة فذكر ما جرى لهم إلى قوله ذلك من أنباء القرى نقصه عليك إلى قوله وذلك يوم مشهود

ثم ذكر حال الذين سعدوا والذين شقوا ثم قال إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة فإنه قد يقال غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا والناس كلهم يموتون

وأما كونهم أهلكوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية وصاروا عبرة يذكرون بالشر ويلعنون إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة فإن لعنة المؤمنين لهم بالآخرة وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون هو مما يزيدهم عذابا كما أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء واتباعهم لهم هو مما يزيدهم ثوابا

فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة وكان ذلك له آية وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث فقد لا يبالي بمثل هذا وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله وذلك له آية

وقد ختم السورة بقوله وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون إلى آخرها كما افتتحها بقوله أن لا تعبدوا إلا الله فذكر التوحيد والإيمان بالرسل فهذا دين الله في الأولين والآخرين قال أبو العالية كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين

ولهذا قال ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين وأين شركائي الذين كنتم تزعمون هو الشرك في العبادة وهذان هما الإيمان والإسلام وكان النبي يقرأ تارة في ركعتي الفجر سورتي الإخلاص وتارة بآيتي الإيمان والإسلام فيقرأ قوله آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية فأولها الإيمان وآخرها الإسلام ويقرأ في الثانية قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام له

وقال ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ففيها الإيمان والإسلام في آخرها وقال الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون

فصل[عدل]

وقوله تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت فقد فصله بعد إحكامه بخلاف من تكلم لم يحكمه وقد يكون في الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده كما قال وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين وقال ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم

وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل فقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إلى قوله فهل أنتم مسلمون فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه كان في مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله من دون الله كما قال قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا

وحينئذ فعلم أن ذلك من خصائص من أرسله الله وما كان مختصا بنوع فهو دليل عليه فإنه مستلزم له وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها فإنها مختصة بجنسهم

وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتي به غيره وكان ذلك برهانا بينا على أن الله أنزله وأنه نزل بعلم الله هو الذي أخبره بخبره وأمر بما أمر به كما قال لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه الآية وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد وأنه لا إله إلا الله من جهة أن الرسول أخبر بذلك ومن جهة أنه لا يقدر أحد على الإتيان بهذا القرآن إلا الله فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله إلى غير ذلك من وجوه البيان فيه كما قد بسط ونبه عليه في غير هذا الموضع ولا سيما هذه السورة فإن فيها من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله وفيها من المواعظ والحكم والترغيب والترهيب ما لا يقدر قدره إلا الله

والمقصود هنا هو الكلام على قوله أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه حيث سأل السائل عن تفسيرها وذكر ما في التفاسير من كثرة الاختلاف فيها وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عمى عن معرفة المراد الذي يحصل به الهدى والرشاد فإن الله تعالى إنما نزل القرآن ليهتدي به لا ليختلف فيه والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك المعاني التي لا يمكن الجمع بينه وبينها ولم يعرف الحق ولم تفهم الآية ومعناها ولم يحصل به الهدى والعلم الذي هو المراد بإنزال الكتاب

قال أبو عبدالرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عثمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا

وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عنى بها وقد قال تعالى أفلا يتدبرون القرآن وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم وقال إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون

فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل والعقل يتضمن العلم والعمل فمن عرف الخير والشر فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا ولهذا لا يعد عاقلا إلا من فعل ما ينفعه واجتنب ما يضره فالمجنون الذي لا يفرق بين هذا وهذا قد يلقي نفسه في المهالك وقد يفر مما ينفعه

فصل[عدل]

قال تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء سورة هود 7 وأخبر أنه استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11

وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه قال إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي أنه قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض وفي رواية ثم خلق السموات والأرض والآثار متواترة عن الصحابة والتابعين بما يوافق القرآن والسنة من أن الله تعالى خلق السموات من بخار الماء الذي سماه الله دخانا

وقد تكلم علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في أول هذه المخلوقات على قولين حكاهما الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أحدهما أنه هو العرش والثاني أنه هو القلم ورجحوا القول الأول لما دل عليه الكتاب والسنة أن الله تعالى لما قدر مقادير الخلائق بالقلم الذي أمره أن يكتب في اللوح كان عرشه على الماء فكان العرش مخلوقا قبل القلم قالوا الآثار المروية أن أول ما خلق الله القلم معناها من هذا العالم وقد اخبر الله تعالى أنه خلقه في ستة أيام فكان حين خلقه زمن يقدر به خلقه ينفصل إلى أيام

فعلم أن الزمان كان موجودا قبل أن يخلق الله الشمس والقمر ويخلق في هذا العالم الليل والنهار

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال في خطبته عام حجة الوداع إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا ومنها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان وفي الصحيح عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله خطبة فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم

هذا وفي التوراة ما يوافق خبر الله تعالى في القرآن وأن الأرض كانت مغمورة بالماء والهواء يهب فوق الماء وأن في أول الأمر خلق الله السموات والأرض وأنه خلق ذلك في أيام ولهذا قال من قال من علماء اهل الكتاب ما ذكره الله تعالى في التوراة يدل على أنه خلق هذا العالم من مادة أخرى وأنه خلق ذلك في أزمان قبل أن يخلق الشمس والقمر

وليس فيما أخبر الله تعالى به في القرآن وغيره أنه خلق السموات والأرض من غير مادة ولا أنه خلق الإنس أو الجن أو الملائكة من غير مادة بل يخبر أنه خلق ذلك من مادة وإن كانت المادة مخلوقة من مادة أخرى كما خلق الإنس من آدم وخلق آدم من طين وفي صحيح مسلم عن النبي أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم

والمقصود هنا أن المنقول عن أساطين الفلاسفة القدماء لا يخالف ما أخبرت به الأنبياء من خلق هذا العالم من مادة بل المنقول عنهم أن هذا العالم محدث كائن بعد إن لم يكن

وأما قولهم في تلك المادة هل هي قديمة الأعيان أو محدثة بعد أن لم تكن أو محدثة من مادة أخرى بعد مادة قد تضطرب النقول عنهم في هذا الباب والله أعلم بحقيقة ما يقوله كل من هؤلاء فإنها أمة عربت كتبهم ونقلت من لسان إلى لسان وفي مثل ذلك قد يدخل من الغلط والكذب ما لا يعلم حقيقته ولكن ما تواطأت به النقول عنهم يبقى مثل المتواتر وليس لنا غرض معين في معرفة قول كل واحد منهم بل تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون سورة البقرة 134 141

لكن الذي لا ريب فيه أن هؤلاء اصحاب التعاليم كأرسطو واتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد

وإذا عرف أن نفس فلسفتهم توجب عليهم أن لا يقولوا بقدم شيء من العالم علم أنهم مخالفون لصريح المعقول كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول وأنهم في تبديل القواعد الصحيحة المعقولة من جنس اليهود والنصارى في تبديل ما جاءت به الرسل وهذا هو المقصود في هذا الباب

ثم إنه إذا قدر أنه ليس عندهم من المعقول ما يعرفون به أحد الطرفين فيكفي في ذلك إخبار الرسل باتفاقهم على خلق السماوات والأرض وحدوث هذا العالم والفلسفة الصحيحة المبنية على المعقولات المحضة توجب عليهم تصديق الرسل فيما أخبرت به وتبين أنهم علموا ذلك بطريق يعجزون عنها وأنهم أعلم بالأمور الإلهية والمعاد وما يسعد النفس ويشقيها منهم وتدلهم على أن من اتبع الرسل كان سعيدا في الآخرة ومن كذبهم كان شقيا في الآخرة وأنه لو علم الرجل من الطبيعيات والرياضيات ما عسى أن يعلم وخرج عن دين الرسل كان شقيا وأن من أطاع الله ورسوله بحسب طاقته كان سعيدا في الآخرة وإن لم يعلم شيئا من ذلك

ولكن سلفهم اكثروا الكلام في ذلك لأنهم لم يكن عندهم من آثار الرسل ما يهتدون به إلى توحيد الله وعبادته وما ينفع في الآخرة وكان الشرك مستحوذا عليهم بسبب السحر والأحوال الشيطانية وكانوا ينفقون أعمارهم في رصد الكواكب ليستعينوا بذلك على السحر والشرك وكذلك الأمور الطبيعية وكان منتهى عقلهم أمورا عقلية كلية كالعلم بالوجود المطلق وانقسامه إلى علة ومعلول وجوهر عرض وتقسيم الجواهر ثم تقسيم الأعراض وهذا هو عندهم الحكمة العليا والفلسفة الأولى ومنتهى ذلك العلم بالوجود المطلق الذي لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان

فصل: في قوله تعالى يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار[عدل]

وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه كقوله أدخلوا آل فرعون أشد العذاب قالوا فإنما أدخل آله دونه وقوله يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار قالوا إنما أوردهم ولم يدخلها قالوا ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه

وهذا القول كفر معلوم فساده باضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة بل ولا من اليهود ولا من النصارى بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون

فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون

ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع فإن القصص إنما هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان وليس في الكفار أعظم من كفره والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع

أحدها قوله تعالى في القصص فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين إلى قوله وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين

فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه وأخبر أنهم كانوا قوما فاسقين وأخبر أنهم قالوا ما هذا إلاسحر مفترى وأخبر أن فرعون قال ما علمت لكم من إله غيري وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذبا وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين

فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى الظالمين الداعين إلى النار الملعونين في الدنيا بعد غرقهم المقبوحين في الدار الآخرة

وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون وهو في الآخرة مقبوح غير منصور وهذا إخبار عن غاية العذاب وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب وهذا إخبار عن فرعون وقومه أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب وهذه الآية أحد ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ

وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون فظنوا أن فرعون خارج منهم وهذا تحريف للكلم عن مواضعه بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة يتبين ذلك بوجوه

أحدها أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص مثل قومه في الملائكة الذي ضافوا إبراهم إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ثم قال فلما جاء آل لوط المرسلون قال يعني لوطا إنكم قوم منكرون وكذلك قوله إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر ثم قال بعد ذلك ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر

ومعلوم أن لوطا في هذه المواضع وكذلك فرعون داخل في آل فرعون والمكذبين المأخوذين ومنه قول النبي قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وكذلك قوله كما باركت على آل إبراهيم فإبراهيم داخل في ذلك وكذلك قوله للحسن إن الصدقة لا تحل لآل محمد

وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان القوم إذا أتوا رسول الله بصدقة يصلي عليهم فأتى أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى وأبو أوفى هو صاحب الصدقة

ونظير هذا الاسم أهل البيت فإن الرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وقول النبي سلمان منا أهل البيت وقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وذلك لأن آل الرجل ممن يؤول إليه ونفسه ممن يؤول إليه وأهل بيته هم من يأهله وهو ممن يأهل أهل بيته

فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم هي حجة عليهم في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ وفي يوم القيامة ويبين ذلك أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه قال تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب إلى قوله قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد إلى قوله وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى إلى قوله فحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليه غدوا وعشيا إلى قوله قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد

فأخبر عقب قوله أدخلوا آل فرعون أشد العذاب عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء إنا كل فيها ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين وهو الذي استخف قومه فأطاعوه ولم يستكبر احد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه

الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله تعالى فاتبعوا أمر فوعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود إلى قوله بئس الرفد المرفود فأخبر أن يقدم قومه ولم يقل يسوقهم وأنه أوردهم النار ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرين النار كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادما بل كان سائقا يوضح ذلك أنه قال وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة فعلم أنه وهم يردون النار وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة

وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب والذين كفروا بعضهم أولياء بعض وأيضا فقد قال الله تعالى فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا يقول هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس

وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض إلى قوله سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ وأن هذه سنة الله الخالية في عباده

وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعا أو مقبولا فمن قال إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده

يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين فإن الإغراق هو عذاب على كفره فإذا لم يكن كافرا لما يستحق عذابا

وقوله بعد هذا فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية يوجب أن يعتبر من خلفه ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه وأيضا فإن النبي لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال هذا فرعون هذه الأمة فضرب النبي المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى

فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر فكيف يكون قد مات مؤمنا ومعلوم أن من مات مؤمنا لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف لأن الإسلام يهدم ما كان قبله وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو عن النبي في تارك الصلاة يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف

فصل[عدل]

وسئل رحمه الله

عن قوله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض وقوله تعالى يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب

فأجاب الحمد لله قال طوائف من العلماء أن قوله ما دامت السموات والأرض أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن وقال بعض العلماء في قوله تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون هي أرض الجنة

وعلى هذا فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التي هي سقف الجنة إذ كل ما علا فإنه يسمى في اللغة سماء كما يسمى السحاب سماء والسقف سماء

وأيضا فإن السموات وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها بل أصلها باق بتحويلها من حال إلى حال كما قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة وأرض دائمة والله أعلم

فصل[عدل]

وأما قوله ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد الهم همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبي إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها وقال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وأما ما ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا حرفا واحدا

وقوله وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهودته راودته فحينئذ قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه بل الأدلة تدل على نقيضه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع

فصل[عدل]

وسئل الشيخ الإمام العالم العامل الحبر الكامل شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن الصبر الجميل في قوله تعالى فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون والصفح الهجر الجميل وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس

فأجاب رحمه الله:

الحمد لله أما بعد الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل فالهجر الجميل هجر بلا أذى والصفح الجميل صفح بلا عتاب والصبر الجميل صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام إنما أشكو بثي وحزني إلى الله مع قوله فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ومن دعاء النبي اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وانت ربي اللهم إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا ابالي غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف

بخلاف الشكوى إلى المخلوق قرىء على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووسا كره أنين المريض وقال إنه شكوى فما أن حتى مات وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وقال لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله

ولا بد للإنسان من شيئين طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا إلى قوله وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط وقال تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وقال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقد قال يوسف أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

ولهذا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة بل ومن السالكين فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يسخطه ويبغضه وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات سعيدها وشقيها مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبىء الكاذب وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه والملائكة المقربون والمردة الشياطين

فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره ولا يشهد الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه وأعدائه وبين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له وطاعته رسوله وفعل ما يحبه ويرضاه وهو ما أمر به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب وترك ما نهى الله عنه ورسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس المشركين وهو شر من اليهود والنصارى

فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية إذ هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل افلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون ولهذا قال سبحانه وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال بعض السلف تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره

فمن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤوا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا

وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ويسلك هذه الحقيقة فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق بين أوليائه وأعدائه

ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس

ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه

فهذا التقسيم في القول والاعتقاد

وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك كما قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين

وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما قال بعضهم أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا غفرت لي وفي الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع

وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه

والقسم الرابع شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا من القدر الكوني وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام

أحدها أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة

والثاني الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرض أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه

والثالث قوم له نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر

وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا بل هم كما قال الله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم

فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار

وفي الصحيح عن النبي أنه كان يقول في خطبته خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وإذا كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبرا على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك

وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة قال الله تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فوركم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وقال الله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط وقال إخوة يوسف له أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموما وخصوصا فقال تعالى واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين

وفي اتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقا لخبر الله وطاعة لأمره وقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار وقال تعالى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين فهذه مواضع قرن فيه الصلاة والصبر

وقرن بين الرحمة والصبر في مثله قوله تعالى وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة وفي الرحمة والإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها فإن القسمة أيضا رباعية إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لينا من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي إنما يرحم الله من عباده الرحماء وقال من لا يرحم لا يرحم وقال لا تنزع الرحمة إلا من شقي وقال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء والله أعلم انتهى

فصل: سورة الرعد[عدل]

قال تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال

شبه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان القرآن فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار فاحتمل الزبد فقذفه بعيدا عن القلب وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع فيستقر ويبقى في القلب

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى

فصل[عدل]

في قوله تعالى وجعلوا لله شركاء قل سموهم قيل المراد سموهم بأسماء حقيقية لها معان تستحق بها الشرك له والعبادة فإن لم تقدروا بطل ما تدعونه

وقيل إذا سميتموها آلهة فسموها باسم الإله كالخالق والرازق فإذا كانت هذه كاذبة عليها فكذلك اسم الآلهة وقد حام حول معناها كثير من المفسرين فما شفوا عليلا ولا أرووا غليلا وإن كان ما قالوه صحيحا

فتأمل ما قبل الآية وما بعدها يطلعك على حقيقة المعنى فإنه سبحانه يقول أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وهذا استفهام تقرير يتضمن إقامة الحجة عليهم ونفي كل معبود مع الله الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت بعلمه وقدرته وجزائه في الدنيا والآخرة فهو رقيب عليها حافظ لأعمالها مجاز لها بما كسبت من خير وشر

فإذا جعلتم أولئك شركاء فسموهم إذ بالأسماء التي يسمى بها القائم على كل نفس بما كسبت فإنه سبحانه يسمى بالحي المحيي المميت السميع البصير الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه ووجوه كل شيء به فهل تستحق آلهتكم اسما من تلك الأسماء فإن كانت آلهة حقا فسموها باسم من هذه الأسماء وذلك بهت بين فإذا انتفى عنها ذلك علم بطلانها كما علم بطلان مسماها

وأما إن سموها بأسمائها الصادقة عليها كالحجارة وغيرها من مسمى الجمادات وأسماء الحيوان التي عبدوها من دون الله كالبقر وغيرها وبأسماء الشياطين الذين أشركوهم مع الله جل وعلا وبأسماء الكواكب المسخرات تحت أوامر الرب والأسماء الشاملة لجميعها أسماء المخلوقات المحتاجات المدبرات المقهورات

وكذلك بنو آدم عبادة بعضهم بعضا فهذه أسماؤها الحق وهي تبطل إلهيتها لأن الأسماء التي من لوازم الإلهية مستحيلة عليها فظهر أن تسميتها آلهة من أكبر الأدلة على بطلان إلهيتها وامتناع شركاء لله عز وجل

فصل: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون[عدل]

قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله

الحمد لله رب العالمين هذه المسألة مبنية على أصلين

أحدهما الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب بل هو الذي يكون المخاطب به ويخلقه بدون فعل من المخاطب أو قدرة أو إرادة أو وجود له وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرة وإرادة وإن كان ذلك جميعه بجول الله وقوته إذ لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي أو هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة

والأصل الثاني أن المعدوم في حال عدمه هل هو شيء أم لا فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات عين وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجودها زائد على حقيقتها وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من

المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة والذي عليه جماهير الناس وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة أنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين وأنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة والآخر وجوده الزائد على خقيقته فإن الله ابدع الذوات التي هي الماهيات فكل ما سواه سبحانه فهو مخلوق ومجعول ومبدع ومبدو له سبحانه وتعالى لكن في هؤلاء من يقول المعدوم ليس بشيء أصلا وإنما سمي شيئا باعتبار ثبوته في العلم كان مجازا ومنهم من يقول لا ريب أن له ثبوتا في العلم ووجودا فيه فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت كما فرق من قال المعدوم شيء ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء من الممكن والممتنع كما فرق من قال المعدوم شيء ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع كما فرق أولئك إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء وإنما النزاع في الممكن وعمدة من جعله شيئا إنما هو لأنه ثابت في العلم وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخير عنه والأمر به والنهي عنه وغير ذلك قالوا وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم والمحض فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي زالت الشبهة في هذا الباب

وقوله تعالى إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه وبذلك كان مقدرا مقضيا فإن سبحان وتعالى يقول ويكتب من ما يعلمه ما شاء كما قال النبي في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي أنه قال كان الله ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي أنه قال أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال ما أكتب قال ما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوما مخبرا عنه مكتوبا فيه شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتا في الخارج بل هو عدم محض ونفي صرف وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة وتعلقت به القدرة وخلق وكون كما قال إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فالذي يقال له كن هو الذي يراد وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز في العلم والتقدير ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم فإن قول السائل إن كان المخاطب موجودا فتحصيل الحاصل محال يقال له هذا إذا كان موجود في الخارج وجوده الذي هو وجوده ولا ريب أن المعدوم ليس موجودا ولا هو في نفسه ثابت وأما ما علم وأريد وكان شيئا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالا بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة وهو قول السائل إن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم ويقال له أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم في الخطاب بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال إلا من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه يطلب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل وكذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه فليس ذلك محالا بل هو أمر ممكن بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه فيقد أمر ا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته فإن كان قادرا على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم وإن كان عاجزا لم يحصل وقد يقول الإنسان ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه والله سبحانه على كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون

فصل: في قوله تعالى لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين[عدل]

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه عن قول النبي دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالميمن ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته ما معنى هذه الدعوة ولم كانت كاشفة للكرب وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها حتى يوجب كشف ضره وما مناسبة ذكره إني كنت من الظالمين مع أن التوحيد يوجب كشف الضر وهل يكفيه اعترافه أم لا بد من التوبة والعزم في المستقبل وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين والتعلق بهم بالكلية وتعلقه بالله تعالى ورجائه وانصرافه إليه بالكلية وما السبب المعين على ذلك

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين

دعاء العبادة

ودعاء المسألة

قال الله تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقال تعالى ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو وقال وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا وقال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وقال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون وقال في آخر السورة قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم

قيل لولا دعاؤكم إياه وقيل لولا دعاؤه إياكم فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول تارة ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى لأنه لا بد له من فاعل فلهذا كان هذا أقوى القولين أي ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه فقد كذبتم فسوف يكون لزاما أي عذاب لازم للمكذبين

ولفظ الصلاة في اللغة أصله الدعاء وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء وهو العبادة والمسألة

وقد فسر قوله تعالى ادعوني أستجب لكم بالوجهين قيل اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم كما قال تعالى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي يستجيب لهم وهو معروف في اللغة يقال استجابه واستجاب له كما قال الشاعر

داع دعايا من يجيب إلى الندى... فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقيل سلوني أعطكم

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسالني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فذكر أولا لفظ الدعاء ثم ذكر السؤال والاستغفار والمستغفر سائل كما أن السائل داع لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير وذكرهما جميعا بعد ذكر الداعي الذي تناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام

وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان

وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسؤول ولك عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه فكل عابد سائل وكل سائل عابد فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال

والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب يرغب في حصول مراده ويرهب من فواته قال تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وقال تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب من الخوف والطمع

وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون وجه الله فيقصدون التلذذ بالنظر إليه وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب ويخافون حرمانه فلم يخلوا عن الخوف والرجاء لكن مرجوهم بحسب مطلوبهم

ومن قال من هؤلاء لم أعبدك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن

وقد أنكر على من قال هذا الكلام يعني أسألك لذة النظر إلى وجهك فريق من أهل الكلام ظنوا أن الله لا يتلذذ بالنظر إليه وأنه لا نعيم إلا بمخلوق فغلط هؤلاء في معنى الجنة كما غلط أولئك لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب وهؤلاء أنكروا ذلك

وأما التألم بالنار فهو أمر ضروري ومن قال لو أدخلني النار لكنت راضيا فهو عزم منه على الرضا والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال

ليس لي في سواك حظ... فكيف ما شئت فامتحني

فابتلي بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول ادعوا لعمكم الكذاب قال تعالى ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون

وبعض من تكلم في علل المقامات جعل الحب والرضا والخوف والرجاء من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فني من لم يكن وبقي من لم يزل يخرج عن هذه الأمور وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعا

أما الحقيقة فإن الحي لا يتصور أن لا يكون حساسا محبا لما يلائمة مبغضا لما ينافره ومن قال إن إن الحي يستوي عنده جميع المقدورات فهو أحد رجلين إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل وإما أنه مكابر معاند ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله سواء سمى اصطلاما أو محوا أو فناء أو غشيا أو ضعفا فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء فإنه لم يسقط بجميعها

فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط بل لا بد من الفرق فإنه أمر ضروري

لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي فيبقى متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه

ولهذا لما وقعت هذه المسألة بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني وهو أن يفرق بين المأمور والمحظور وبين ما يحبه الله وما يكرهه مع شهوده للقدر الجامع فيشهد الفرق في القدر الجامع ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور خرج عن دين الإسلام

وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية وإن خرجوا عنه كانوا كفارا من شر الكفار وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الله ورسوله تارة كالعصاة من أهل القبلة وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء يتناول هذا وهذا قال الله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وفي الحديث أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا وقال النبي في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته سماها دعوة لأنها تتضمن نوعي الدعاء فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية وتوحيد الإلهية يتضمن احد نوعي الدعاء فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عباده ودعاء مسألة وهو الله لا إله إلا هو

وقوله إني كنت من الظالمين اعتراف بالذنب وهو يتضمن طلب المغفرة فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب وتارة يسأل بصيغة الخبر إما يوصف حاله وإما بوصف حال المسؤول وإما بوصف الحالين كقول نوح عليه السلام رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين فهذا ليس صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر

ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة وكذلك قول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين هو من هذا الباب ومن ذلك قول موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه

وقد روى الترمذي وغيره عن النبي أنه قال من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه مالك بن الحويرث وقال من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ

وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان

أذكر حاجتي أم قد كفاني... حباؤك إن شيمتك الحباء

إذا أثنى عليك المرء يوما... كفاه من تعرضه الثناء

قال فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى

ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان فهذا خبر يتضمن السؤال

ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره وهي صيغة خبر تضمنت السؤال وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه أنا جائع أنا مريض حسن أدب في السؤال وإن كان في قوله أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب طلب جازم من المسؤول فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب

وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك فإنها تقال على وجه الأمر إما لما في ذلك من حاجة الطالب وإما لما فيه من نفع المطلوب فأما إذا كانت من الفقير من كل وجهه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال

ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال وهو أبلغ من جهة العلم والبيان

وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول وتصريح به باللفظ وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والإجابة ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة كقول النبي لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم أخرجاه في الصحيحين

فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه وفيه بيان المقتضى للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب

وكثير من الأدعية يتضمن بعض ذلك كقول موسى عليه السلام أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة وقوله رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فيه وصف حال النفس والطلب وقوله إني لما أنزلت إلي من خير فقير فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة

يبقى أن يقال فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب

فيقال لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي فأصل الشر هو الذنب والمقصود دفع الضر والاستغفار جاء بالقصد الثاني فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم وهو الذي أدخل الضر على نفسه فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر فهذا مقدم في قصده وإرادته وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده

وهذا يتبين بالكلام على قوله سبحانك فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب يقول أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي قال تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقال تعالى وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم وقال وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا

وكذلك قال النبي في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وفي صحيح البخاري سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعتمك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة

فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لايظلم الناس شيئا فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه وهو يحسن إليهم فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل

فقوله لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية والألهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه إلى العباد فإن الإله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل

وقوله سبحانك يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص فإن التسبيح وإن كان يقال يتضمن نفي النقائص وقد روي في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي في قول العبد سبحان الله إنها براءة الله من السوء فالنفي لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوتا وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله ولله الأسماء الحسنى

وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله كقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته وقوله وما مسنا من لغوب يتضمن كمال قدرته ونحو ذلك فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء ونفي النقض عنه يتضمن تعظيمه ففي قوله سبحانك تبرئته من الظلم وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله والله غني عن كل شيء عليم بكل شيء وهو غني بنفسه وكل ما سواه فقير إليه وهذا كمال العظمة

وأيضا ففي هذا الدعاء للتهليل والتسبيح فقوله لا إله إلا أنت تهليل وقوله سبحانك تسبيح وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر

والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له وفي الصحيح عن النبي أنه سئل أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده وفي الصحيحين عن النبي أنه قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وفي القرآن فسبح بحمد ربك وقالت الملائكة ونحن نسبح بحمدك

وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد والأخرى بالتعظيم فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال والحمد إنما يكون على المحاسن وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام إذ ليس كل معظم محبوبا محمودا ولا كل محبوب محمودا معظما وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن وفيها الذل له الناشىء عن عظمته وكبريائه ففي إجلاله وإكرامه وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام

ومن الناس من يحسب أن الجلال هو الصفات السلبية والإكرام الصفات الثبوتية كما ذكر ذلك الرازي ونحوه والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يعظم كقوله إن الله هو الغني الحميد وكذلك قوله له الملك وله الحمد فإن كثيرا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودا بل مذموما إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة فيتضمن إخبارا بمحاسن المحبوب محبة له

وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك فالأول يهاب ويخاف ولا يحب وهذا يحب ويحمد ولا يهاب ولا يخاف والكمال اجتماع الوصفين كما ورد في الأثر أن المؤمن رزق حلاوة ومهابة وفي نعت النبي كان من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه

فقرن التسبيح بالتحميد وقرن التهليل بالتكبير كما في كلمات الأذان ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبا بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يجب فالإلهية تتضمن كمال الحمد ولهذا كان الحمد لله مفتاح الخطاب وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجدم وسبحان الله فيها إثبات عظمته كما قدمناه ولهذا قال فسبح باسم ربك العظيم وقد قال النبي اجعلوها في ركوعكم رواه أهل السنن وقال اما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم رواه مسلم فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم

ففي قوله سبحان الله وبحمده إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده وأما قوله لا إله إلا الله والله أكبر ففي لا إله إلا الله إثبات محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته وفي قوله الله أكبر إثبات عظمته فإن الكبرياء تتضمن العظمة ولكن الكبرياء أكمل

ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول الله أكبر فإن ذلك أكمل من قول الله أعظم كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته فجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء ومعلوم أن الرداء أشرف فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه وتضمن ذلك التعظيم وفي قوله سبحان الله صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم فصار كل من الكلمتين متضمنا معنى الكلمتين الأخريين إذا أفردتا وعند الاقتران تعطي كل كلمة خاصيتها

وهذا كما أن كل اسم من أسماء الله فإنه يستلزم معنى الآخر لكن هذا باللزوم وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة ودلالتها على أحدهما بالتضمن

فقول الداعي لا إله إلا أنت سبحانك يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ففيها كمال المدح

وقوله إني كنت من الظالمين فيه اعتراف بحقيقة حاله وليس لأحد من العباد أن يبرىء نفسه عن هذا الوصف لا سيما في مقام مناجاته لربه وقد ثبت في الصحاح عن النبي أنه قال لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقال من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب فمن ظن أنه خير من يونس بحيث يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب ولهذا كان سادات الخلائق لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام بل يقولون كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد

فصل: في بطلان الاحتجاج بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون[عدل]

سئل شيخ الإسلام حسنة الأيام أحد المجتهدين قامع المبتدعين تقي الدين أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي رضي الله عنه عن قوم يحتجون بالقدر ويقولون قد قضي الأمر من الذر فالسعيد سعيد والشقي شقي من الذر ويحتجون بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ويقولون ما لنا في جميع الأفعال قدرة وإنما القدرة لله تعالى قدر الخير والشر وكتبه علينا والمراد بيان خطأ هؤلاء بالأدلة القاطعة ويقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ويحتجون بالحديث الذي فيه قوله وإن زنا وإن سرق وبغير ذلك فما الجواب عن هذا جميعه أفتونا مأجورين

فأجاب نفعنا الله بعلومه الحمد لله رب العالمين هؤلاء القوم إذا صبروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى فإن النصارى واليهود يؤمنون بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب لكن حرفوا وبدلوا وآمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما فإذا كان من آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر حقا فكيف بمن كفر بالجميع ومن لم يقر بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده بل ترك ذلك محتجا بالقدر فهو أكفر ممن آمن ببعض وكفر ببعض وقول هؤلاء يظهر بطلانه من وجوه

أحدها أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد وإما أن لا يراه حجة للعبد فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس فإنهم كلهم مشتركون في القدر

وحينئذ يلزمه أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه ويأخذ ماله ويفسد حريمه ويضرب عنقه ويهلك الحرث والنسل وهؤلاء جميعهم كذابون متناقضون فإن أحدهم لا يزال يذم هذا ويبغض هذا ويخالف هذا حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه وينكرون عليه فإذا كان القدر حجة لمن فعل المحرمات وترك الواجبات لزمهم أن لا يذموا أحدا ولا يبغضوا أحدا ولا يقولون عن أحد أنه ظالم ولو فعل ما فعل ومعلوم أن هذا لا يمكن أحدا فعله ولو فعل الناس هذا لهلك العالم فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع وأنهم كذابون مفترون في قولهم إن القدر حجة للعبد

الوجه الثاني أن هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وقوم هود وكل من أهلكه الله بذنوبه معذورين وهذا من الكفر الذي اتفق عليه أرباب الملل

الوجه الثالث أن هذا يلزم منه أن لا يفرق بين أولياء الله وأعداء الله ولا بين المؤمنين والكفار ولا أهل الجنة وأهل النار وقد قال تعالى وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وذلك أن هؤلاء جميعهم سبقت لهم من الله تعالى السوابق وكتب الله تعالى مقاديرهم قبل أن يخلقهم وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد بالإيمان والعمل الصالح وإلى شقي بالكفر والفسوق والعصيان فعلم بذلك أن القضاء والقدر ليس بحجة لأحد على معاصي الله تعالى

الوجه الرابع أن القدر نؤمن به ولا نحتج به فمن احتج بالقدر فحجته داحضة ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا لقبل من إبليس وغيره من العصاة ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب الله أحدا من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة ولو كان القدر حجة لم يقطع سارق ولا قتل قاتل ولا أقيم حد على ذي جريمة ولا جوهد في سبيل الله ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر

الوجه الخامس أن النبي سئل عن هذا فإنه قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقيل يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له رواه البخاري ومسلم وفي حديث آخر في الصحيح أنه قيل له يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أفيما جفت به الأقلام وطويت به الصحف فقيل ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له

الوجه السادس أن يقال إن الله تعالى علم الأمور وكتبها على ما هي عليه فهو سبحانه قد كتب أن فلانا يؤمن ويعمل صالحا فيدخل الجنة وفلانا يفسق ويعصي فيدخل النار كما علم وكتب أن فلانا يتزوج امرأة ويطؤها فيأتيه ولد وأن فلانا يأكل ويشرب فيشبع ويروى وأن فلانا يبذر البذر فينبت الزرع فمن قال إن كنت من أهل الجنة فأنا أدخلها بلا عمل صالح كان قوله قولا باطلا متناقضا لما علمه الله وقدره ومثال من يقول أنا لا أطأ امرأة فإن كان الله قضى لي بولد فهو يولد فهذا جاهل فإن الله تعالى إذا قضى بالولد قضى أن أباه يطأ امرأة فتحبل وتلد فأما الولد بلا حبل ولا وطء فإن الله لم يقدره ولم يكتبه كذلك الجنة إنما أعدها الله تعالى للمؤمنين فمن ظن أنه يدخل الجنة بلا إيمان كان ظنه باطلا وإذا اعتقد أن الأعمال التي أمر الله بها لا يحتاج إليها ولا فرق بين أن يعملها أو لا يعملها كان كافرا والله قد حرم الجنة إلا على أصحابها

فصل[عدل]

وأما قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية فمن سبقت له من الله الحسنى فلا بد أن يصير مؤمنا تقيا فمن لم يكن من المؤمنين لم تسبق له من الله الحسنى لكن الله إذا سبقت للعبد منه سابقة استعمله بالعمل الذي يصل به إلى تلك السابقة كمن سبق له من الله تعالى أن يولد له ولد فلا بد أن يطأ امرأة يحبلها فإن الله سبحانه وتعالى قدر الأسباب والمسببات فسبق منه هذا وهذا فمن ظن أن أحدا سبق له من الله الحسنى بلا سبب فقد ضل بل هو سبحانه ميسر الأسباب والمسببات وهو قد قدر فيما مضى هذا وهذا

فصل ومن قال أن آدم عليه الصلاة والسلام ما عصى فهو مكذب للقرآن يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن الله تعالى قال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى والمعصية هي مخالفة الأمر الشرعي فمن خالف أمر الله الذي أرسل فيه رسله وأنزل به كتبه فقد عصاه وإن كان داخلا فيما قدره الله وقضاه وهؤلاء ظنوا أن المعصية هي الخروج عن قدر الله فإن لم تكن المعصية إلا هذا فلا يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وقوم عاد وثمود وجميع الكفار عصاة أيضا لأنهم داخلون في قدر الله تعالى ثم قائل هذا يضرب ويهان فإذا تظلم ممن فعل ذلك به قيل له هذا الذي فعل هذا ليس هو بعاص لله تعالى فإنه داخل في قدر الله عز وجل كسائر الخلق وقائل هذا القول متناقض لا يثبت على حال

فصل[عدل]

وأما قول القائل ما لنا في جميع أفعالنا قدرة فقد كذب فإن الله تعالى فرق بين المستطيع القادر وغير المستطيع وقال فاتقوا الله ما استطعتم وقال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وقال تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعض ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة والله تعالى قد أثبت للعبد مشيئة وفعلا كما قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقال تعالى جزاء بما كنتم تعملون لكن الله سبحانه خالقه وخالق كل ما فيه من قدرة ومشيئة وعمل فإنه لا رب غيره ولا إله سواه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه

فصل[عدل]

وأما قول القائل الزنا من المعاصي مكتوب فهو كلام صحيح لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به فإن الله تعالى كتب أفعال العباد خيرها وشرها وكتب ما يصيرون إليه من السعادة والشقاوة وجعل الأعمال سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للمرض والموت فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت والله تعالى قدر وكتب هذا وهذا كذلك من فعل ما نهي عنه من الكفر والفسوق والعصيان فإنه فعل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي من جنس حجة المشركين الذين قال الله تعالى عنهم وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم وقال تعالى سيقول الذين أشركوا ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وأنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

فصل[عدل]

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه في قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والأخرة ولهم عذاب عظيم في طرده الكلام على ما يتعلق بهذه الآية وغيرها فقال وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه

أحدها أن هذه الآية في أزواج النبي خاصة في قول كثير من أهل العلم فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا شيخ من بني كاهل قال فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات إلى آخر الآية قال هذه في شأن عائشة وأزواج النبي خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى قوله إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة قال فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر

وقال أبو سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس إن الذين يرمون المحصنات الغافلات نزلت في عائشة خاصة واللعنة في المنافقين عامة فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله وعيبه فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيما ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت ودرأ الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال

ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى أن من قذف امرأة غير محصنة كالأمة والذمية ولها زوج أو ولد محصن حد لقذفها لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين والرواية الأخرى عنه وهي قول الأكثرين أنه لا حد عليه لأنه أذى لهما لا قذف لهما والحد التام إنما يجب بالقذف وفي جانب النبي بعيب أزواجه فهو منافق وهذا معنى قول ابن عباس اللعنة في المنافقين عامة

وقد وافق ابن عباس جماعة فروى الإمام أحمد والأشج عن خصيف قال سألت سعيد بن جبير فقلت الزنا أشد أو قذف المحصنة قال لا بل الزنا قال قلت فإن الله تعالى يقول إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة

فقال إنما كان هذا في عائشة خاصة وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة فقال إنما كان هذا في عائشة خاصة وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة قال هذه الآية لأمهات المؤمنين خاصة وروى الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية قال هن نساء النبي وقال معمر عن الكلبي إنما عنى بهذه الآية أزواج النبي فأما من رمى امرأة من المسلمين فهو فاسق كما قال الله تعالى أو يتوب

ووجه هذا أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف فتكون اللام في قوله المحصنات الغافلات المؤمنات لتعريف المعهود والمعهود هنا أزواج النبي لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك ويؤيد هذا القول أن الله سبحانه رتب هذا الوعد على قذف محصنات غافلات مؤمنات وقال في أول السورة والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية فرتب الحدود والشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات فلا بد أن يكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف وإنما يمس متولي كبره فقط وقال هنا ولهم عذاب عظيم فعلم أن الذي رمى أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله وتولى كبر الإفك وهذه صفة المنافق ابن أبي والله أعلم على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضا موافقة لتلك الآية لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي لعن صاحبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال ابن عباس ليس فيها توبة لأن مؤذي النبي لا تقبل توبته أو يريد إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي أو بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة فإنه ما بغت امرأة نبي قط

وما يدل على أن قذفهن أذى للنبي ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت فقال رسول الله وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه عن أهل بيتي فوالله ما علمت على أهل بيتي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ لعمر الله لا تقتلنه ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت

وفي رواية أخرى صحيحة أن هذه الآية في أزواج النبي خاصة ويقول آخرون يعني أزواج المؤمنين عامة وقال أبو سلمة قذف المحصنات من الموجبات ثم قرأ إن الذين يرمون المحصنات الآية وعن عمر بن قيس قال قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة رواها الأشنج وهذا قول كثير من الناس ووجهه ظاهر الخطاب فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه إذ لا موجب لخصوصه وليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي داخل في العموم وليس هو من السبب ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة هنا ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك وقد علم أن شيئا منها لم يقصر على سببه والفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم وقد روي عن النبي من غير وجه عن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر وفي لفظ في الصحيح قذف المحصنات الغافلات المؤمنات

ثم اختلف هؤلاء فقال أبو حمزة الثمالي بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا إنها خرجت تفجر فعلى يكون يكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الإيمان ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب بن الأشرف وعلى هذا فمن فعل ذلك فهو كافر وهو بمنزلة من سب النبي

وقوله إنها نزلت زمن العهد يعني والله أعلم أنه عنى بها مثل أولئك المشركين المعاهدين وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق والهدنة كانت بعد ذلك بسنتين

ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها لأن سبب نزولها قذف عائشة وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق وسبب النزول لا بد أن يندرج في العموم ولأنه لا موجب لتخصيصها والجواب على هذا التقدير أنه سبحانه قال هنا لعنوا في الدنيا والآخرة على بناء الفعل للمفعول ولم يسم اللاعن وقال في الآية الأخرى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت وجاز أن الله يتولى لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنا في الدين ويتولى خلقه لعنة الآخرين وإذا كان اللاعن مخلوقا فلعنه قد يكون بمعنى الدعاء عليهم وقد يكون بمعنى أنهم يبعدونهم عن رحمة الله

ويؤيد هذا أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبا في القذف أن يلعنه الله كما أمر الله ورسوله أن يباهل من حاجة في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يعلن به القاذف ومما يلعن به أن يجلد وأن ترد شهادته ويفسق فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول وهي من رحمة الله وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة فإن لعنة الله توجب زوال النصر عنه من كل وجه وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين

ومما يؤيد الفرق أنه قال إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار كقوله الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا وقوله وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا

وقوله فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين اتخذا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين

وأما قوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أفضتم عذاب عظيم وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم وفي المحارب ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وفي القاتل وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وقوله ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم وقد قال سبحانه ومن يهن الله فما له من مكرم وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي وذلك قدر زائد على ألم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان فلما قال في هذه الآية وأعد لهم عذابا مهينا علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين ولما قال هناك ولهم عذاب عظيم جاز أن يكون من جني العذاب في قوله لمسكم فيما أفضم فيه عذاب عظيم

ومما يبين به الفرق أيضا سبحانه قال هناك وأعد لهم عذابا مهينا والعذاب إنما أعد للكافرين فإن جهنم لهم خلقت لأنهم لا بد أن يدخلوها وما هم منها بمخرجين

وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين قال سبحانه واتقوا النار التي أعدت للكافرين فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع أنها معدة للكافرين لا لهم ولذلك جاء في الحديث أما أهل النار هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما أقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها

وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم ويدخلها قوم بالشفاعة وقوم بالرحمة وينشىء الله لما فضل منها خلقا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه ولمن أولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر والله أعلم

فصل: اعتراض وجوابه[عدل]

قال المعترض في أسماء الله الحسنى النور الهادي يجب تأويله قطعا إذ النور كيفية قائمة بالجسمية وهو ضد الظلمة وجل الحق سبحانه أن يكون له ضد ولو كان نورا لم تجز إضافته إلى نفسه في قوله مثل نوره فتكون إضافته الشيء إلى نفسه وهو غير جائز وقوله الله نور السماوات والأرض قال المفسرون يعني هادي أهل السماوات والأرض وهو ضعيف لأن ذكر الهادي بعده يكون تكرارا وقيل منور السماوات بالكواكب وقيل بالأدلة والحجج الباهرة والنور جسم لطيف شفاف فلا يجوز على الله والتأويل مروي عن ابن عباس وأنس وسالم وهذا يبطل دعواه أن التأويل يبطل الظاهر ولم ينقل عن السلف ولو كان نورا حقيقة كما يقوله المشبهة لوجب أن يكون الضياء ليلا ونهارا على الدوام

وقوله إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ومعلوم أنه لم يكن السراج المعروف وإنما سمي سراجا بالهدى الذي جاء به ووضوح أدلته بمنزلة السراج المنير

وروي عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن يعني منور السماوات والأرض شمسها وقمرها ونجومها ومن كلام العارفين النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده ونور أسرار المحبين بتأييده وقيل هو الذي أحيا قلوب العارفين بنور معرفته ونفوس العابدين بنور عبادته

والجواب أن هذا الكلام وأمثاله ليس باعتراض علينا وإنما هو ابتداء نقص حرمته منهم لما يظن أنه يلزمنا أو يظن أنا نقوله على الوجه الذي حكاه وقد قال تعالى اجتنبوا كثيرا

من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وإذا كان في الكلام إخبار عن الغير بأنه يقول أقوالا باطلة في العقل والشرع وفيه رد تلك الأقوال كان هذا كذبا وظلما فنعوذ بالله من ذلك ثم مع كونه ظلما لنا يا ليته كان كلاما صحيحا مستقيما فكنا نحلله من حقنا ويستفاد ما فيه من العلم ولكن فيه من تحريف كتاب الله والإلحاد في آياته وأسمائه والكذب والظلم والعدوان الذي يتعلق بحقوق الله مما فيه لكن عفونا عن حقنا فحق الله إليه لا إلى غيره

ونحن نذكر من القيام بحق الله ونصر كتابه ودينه ما يليق بهذا الموضع فإن هذا الكلام الذي ذكره فيه من التناقض والفساد ما لا أظن تمكنه من ضبطه من وجوه

أحدها أنه قال في أوله النور كيفية قائمة بالجسمية ثم قال في آخره جسم لطيف شفاف فذكر في أول الكلام أنه عرض وصفة في آخره جسم وهو جوهر قائم بنفسه

الثاني أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأولوا ذلك بالهادي وضعف ذلك ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده وأسرار المحبين بتأييده وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته وهذا هو معنى الهادي الذي ضعفه أولا فيضعفه أولا ويجعله من كلام العارفين وهي كلمة لها صولة في القلوب وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في تحقيق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد وبعضها مكذوب على قائله مفترى كالمنقول عن جعفر وغيره وبعضها من المنقول الباطل المردود فإن إشارات المشايخ وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به وليس هذا موضعه وينقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح كانت حسنة مقبولة وإن كانت كالقياس الضعيف كان لها حكمه وإن كان تحريفا للكلام على غير تأويله كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية فتدبر هذا فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات

الوجه الثالث في تناقضه فإن قال التأويل منقول عن ابن عباس وأنس وسالم ولم يذكر إلا ثلاثة أقوال أحدها أنه هادي أهل السماوات والأرض وقد ضعف ذلك فإن كان المنقول هو هذا الضعيف فيا خيبة المسعى إذ لم ينقل عن السلف في جميع كلامه إلى هنا شيئا عن السلف إلا هذا الذي ضعفه وأوهاه وإن كان المنقول عن هؤلاء الثلاثة أنه منور السماوات بالكواكب كان متناقضا من وجه آخر وهو أنه قد ذكر فيما بعد أن هذا روي عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن أنه منورها بالشمس والقمر والنجوم وهذا يوجب أن يكون المنقول عن ابن عباس والاثنين أولا غير المنقول عنه في رواية أخرى وعمن ليس معه في الأولى وإن كان نوره بالحجج الباهرة والأدلة كان متناقضا فإن هذا هو معنى الهادي إذا نصبه للأدلة والحجج هي من هدايته وهو قد ضعف هذا القول فما أدري من أيهما العجب أم من حكايته القولين اللذين أحدهما داخل في معنى الآخر أم من تضعيفه لقول السائل الذي يوجب تضعيف الاثنين وهو لا يدري أنه قد ضعفهما جميعا

فيجب على الإنسان أن يعرف معنى الأقوال المنقولة ويعرف أن الذي يضعفه ليس هو الذي عظمه

الوجه الرابع أنه قد تبين أنه لم ينقل عن ابن عباس وأنس وسالم إلا القول الذي ضعفه أو ما يدخل فيه فإنه إن كان قولهم الهادي فقد صرح بضعفه وإن كان مقيم الأدلة فهو من معنى الهادي وإن كان المنور بالكواكب فقد جعله قولا آخر وإن كان ما ذكره عن بعض العارفين فهو أيضا داخل في الهادي وإذا كان قد اعترف بضعف ما حكاه عن ابن عباس وأنس وسالم لم يكن فيه حجة علينا

فتبين أن ما ذكره عن السلف إما أن يكون مبطلا في نقله أو مفتريا بتضعيفه وعلى التقديرين لا حجة علينا بذلك

الوجه الخامس أنه أساء الأدب على السلف إذ يذكر عنهم ما يضعفه وأظهر للناس أن السلف كانوا يتأولون ليحتج بذلك على التأويل في الجملة وهو قد اعترف بضعف هذا التأويل ومن احتج بحجة وقد ضعفها وهو لا يعلم أنه ضعفها فقد رمى نفسه بسهمه ومن رمى بسهم البغي صرع به والله لا يهدي القوم الظالمين

الوجه السادس قوله هذا يبطل دعواه أن التأويل دفع الظاهر ولم ينقل عن السلف فإن هذا القول لم أقله وإن كنت قلته فهو لم ينقل إلا ما عرف أنه ضعيف والضعيف لا يبطل شيئا فهذه الوجوه في بيان تناقضه وحكايته عنا ما لم نقله

وأما بيان فساد الكلام فنقول أما قوله يجب تأويله قطعا فلا نسلم أنه يجب تأويله ولا نسلم أن ذلك لو وجب قطعي بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم وهذا مذهب السلفية وجمهور الصفاتية من أهل الكلام والفقهاء والصوفية وغيرهم وهو قول أبي سعيد بن كلاب ذكره في الصفات ورد على الجمهية تأويل اسم النور وهو شيخ المتكلمين الصفاتية الأشعرية الشيخ الأول وحكاه عنه أبو بكر ابن فورك في كتاب مقالات ابن كلاب والأشعرية ولم يذكرا تأويله إلا عن الجهمية المذمومين باتفاق وهو أيضا قول أبي الحسن الأشعري ذكره في الموجز

وأما قوله إن هذا ورد في الأسماء الحسنى فالحديث الذي ذكر فيه ذلك هو حديث الترمذي روى الأسماء الحسنى في جامعه من حديث الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ورواها ابن ماجه في سننه من طريق مخلد بن زياد القطواني عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي وإنما كل منهما من كلام بعض السلف فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسرا في بعض طرق حديثه ولهذا اختلف أعيانهما عنه فروى عنه في إحدى الروايات من الأسماء بدل ما ذكر في الرواية الأخرى لأن الذين جمعوها قد كانوا يذكرون هذا تارة وهذا تارة واعتقدوا هم وغيرهم أن الأسماء الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة ليست شيئا معينا بل من أحصى تسعة وتسعين اسما من أسماء الله دخل الجنة أو أنها وإن كانت معينة فالاسمان اللذان يتفقان معناهما يقوم أحدهما مقام صاحبه كالأحد والواحد فإن في رواية هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عنه رواها عثمان بن سعيد الأحد بل الواحد والمعطي بدل المغني وهما متقاربان وعند الوليد هذه الأسماء بعد أن روى الحديث عن خليد بن دعلج عن قتادة عن ابن سيرين عن أبي هريرة ثم قال هشام وحدثنا الوليد حدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك وقال كلها في القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو مثل ما ساقها الترمذي لكن الترمذي رواها عن طريق صفوان بن صالح عن الوليد عن شعيب وقد رواها ابن أبي عاصم وبين ما ذكره هو والترمذي خلاف في بعض المواضع

وهذا كله مما يبين لك أنها من الموصول المدرج في الحديث عن النبي في بعض الطرق وليست من كلامه ولهذا جمعها قوم آخرون على غير هذا الجمع واستخرجوها من القرآن منهم سفيان بن عيينة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم كما ذكرت ذلك فيما تكلمت به قديما على هذا وهذا كله يقتضي أنها عندهم مما يقبل البدل فإن الذي عليه جماهير المسلمين أن أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين قالوا ومنهم الخطابي قوله إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها التقييد بالعدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بأنها هي هذه الأسماء فهذه الجملة وهي قوله من أحصاها دخل الجنة صفة للتسعة والتسعين ليست جملة مبتدأة ولكن موضعها النصب ويجوز أن تكون مبتدأة والمعنى لا يختلف والتقدير إن لله أسماء بقدر هذا العدد من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل إن مائة غلام أعددتهم للعتق وألف درهم أعددتها للحج فالتقييد بالعدد هو في الموصوف بهذه الصفة لا في أصل استحقاقه لذلك العدد فإنه لم يقل إن أسماء الله تسعة وتسعون

قال ويدل على ذلك قوله في الحديث الذي رواه أحمد في المسند اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته احدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فهذا يدل على أن لله أسماء فوق تسعة وتسعين يحصيها بعض المؤمنين

وأيضا فقوله إن لله تسعة وتسعين تقييد بهذا العدد بمنزلة قوله تعالى عليها تسعة عشر فلما استقلوهم قال وما يعلم جنود ربك إلا هو فأن لا يعلم أسماءه إلا هو أولى وذلك أن هذا لو كان قد قيل منفردا لم يفد النفي إلا بمفهوم العدد الذي هو دون مفهوم الصفة والنزاع فيه مشهور وإن كان المختار عندنا أن التخصيص بالذكر بعد قيام المقتضى للعموم يفيد الاختصاص بالحكم فإن العدول عن وجوب التعميم إلى التخصيص إن لم يكن للاختصاص بالحكم وإلا كان تركا للمقتضى بلا معارض وذلك ممتنع فقوله إن لله تسعة وتسعين قد يكون للتحصيل بهذا العدد فوائد غير الحصر ومنها ذكر أن إحصاءها يورث الجنة فإنه لو ذكر هذه الجملة منفردة وأتبعها بهذه منفردة لكان حسنا فكيف والأصل في الكلام الاتصال وعدم الانفصال فتكون الجملة الشرطية صفة لا ابتدائية فهذا هو الراجح في العربية مع ما ذكر من الدليل ولهذا قال انه وتر يحب الوتر ومحبته لذلك تدل على أنه متعلق بالإحصاء أي يجب أن يحصي من أسمائه هذا العدد وإذا كانت أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين أمكن أن يكون إحصاء تسعة وتسعين اسما يورث الجنة مطلقا على سبيل البدل فهذا يوجه قول هؤلاء وإن كان كثيرا

وكثير من الناس من يجعلها أسماء معينة ثم من هؤلاء من يقول ليس إلا تسعة وتسعين اسما فقط وهو قول ابن حزم وطائفة والأكثرون منهم يقولون وإن كانت أسماء الله أكثر لكن الموعود بالجنة لمن أحصاها هي معينة وبكل حال فتعيينها ليس من كلام النبي باتفاق أهل المعرفة حديثه ولكن روي في ذلك عن السلف أنواع

من ذلك ما ذكره الترمذي ومنها غير ذلك فإذا عرف هذا فقوله في أسمائه الحسنى النور الهادي لو نازعه منازع في ثبوت ذلك عن النبي لم تكن له حجة ولكن جاء ذلك في أحاديث صحاح مثل قوله في الحديث الذي في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي أنه كان يقول: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن الحديث وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه أو قال رأيت نورا فالذي في القرآن والحديث الصحيح إضافة النور بقوله نور السماوات والأرض أو نور السماوات والأرض ومن فيهن

وأما قوله أن النور كيفية قائمة فنقول النور المخلوق محسوس لا يحتاج إلى بيان كيفية لكنه نوعان أعيان وأعراض فالأعيان هو نفس جرم النار حيث كانت نور السراج والمصباح الذي في الزجاجة وغيره وهي النور الذي ضرب الله به المثل ومثل القمر فإن الله سماه نورا فقال جعل الشمس ضياء والقمر نورا ولاريب أن النار جسم لطيف شفاف وأعراض مثل ما يقع من شعاع الشمس والقمر والنار على الأجسام الصقيلة وغيرها فإن المصباح إذا كان في البيت أضاء جوانب البيت فذلك النور والشعاع الواقع على الجدر والسقف والأرض هو عرض وهو كيفية قائمة بالجسم

وقد يقال ليس الصفة القائمة بالنار والقمر ونحوهما نورا فيكون الاسم على الجوهر تارة وعلى صفة أخرى ولهذا يقال لضوء النهار نور كما قال تعالى وجعل الظلمات والنور ومن هذا تسمية الليل ظلمة والنهار نورا فإنهما عرضان وقد قيل هما جوهران وليس هذا موضع بسط ذلك فتبين أن اسم النور يتناول هذين والمعترض ذكر أولا حد العرض وذكر ثانيا حد الجسم فتناقض وكأنه أخذ ذلك من كلامي ولم يهتدوا لوجه الجمع وكذلك اسم الحق يقع على ذات الله تعالى وعلى صفاته القدسية القديمة كقول النبي أنت الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق

وأما قول المعترض النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد فيقال له لم تفهم معنى الضد المنفي عن الله فإن الضد يراد به ما يمنع ثبوت الآخر كما يقال في الأعراض المتضادة مثل السواد والبياض ويقول الناس الضدان لا يجتمعان ويمتنع اجتماع الضدين وهذا التضاد عند كثير من الناس لا يكون إلا في الأعراض وأما الأعيان فلا تضاد فيها فيمتنع عند هذا أن يقال لله ضد أو ليس له ضد ومنهم من يقول يتصور التضاد فيها والله تعالى ليس له ضد يمنع ثبوته ووجوده بلا ريب بل هو القاهر الغالب الذي لا يغلب

وقد يراد بالضد المعارض لأمره وحكمه وإن لم يكن مانعا من وجود ذاته كما قال النبي : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره رواه أبو داود وتسمية المخالف لأمره وحكمه ضدا كتسميته عدوا وبهذا الاعتبار فالمعادون المضادون لله كثيرون فأما على التفسير الأول فلا ريب أنه ليس في نفس الأمر مضادا لله لكن المضاد يقع في نفس الكافر فإن الباطل ضد الحق والكذب ضد الصدق فمن اعتند في الله ما هو منزه عنه كان هذا ضدا للإيمان الصحيح به

وأما قوله النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد فيقال له والحي ضد الميت والعليم ضد الجاهل والسميع والبصير والذي يتكلم ضد الأصم لأعمى الأبكم وهكذا سائر ما سمى الله به من الأسماء لها أضداد وهو منزه عن أن يسمى بأضدادها فجل الله أن يكون ميتا أو عاجزا أو فقيرا ونحو ذلك

وأما وجود مخلوق له موصوف بضد صفته مثل وجود الميت والجاهل والفقير والظالم فهذا كثير بل غالب أسمائه لها أضداد موجودة في الموجودين ولا يقال لأولئك إنهم أضداد الله ولكن يقال إنهم موصوفون بضد صفات الله فإن التضاد بين إنما يكن في المحل الواحد لا في محلين فمن كان موصوفا بالموت ضادته الحياة ومن كان موصوفا بالحياة ضاده الموت والله سبحانه يمتنع أن يكون ظلمة أو موصوفا بالظلمة كما يمتنع أن يكون ميتا أو موصوفا بالموت فهذا المعترض أخذ لفظ الضد بالاشتراك ولم يميز بين الضد الذي يضاد ثبوته ثبوت الحق وصفاته وأفعاله وبين أن يكون في مخلوقاته ما هو موصوف بضد صفاته وبين ما يضاده في أمره ونهيه فالضد الأول هو الممتنع وأما الآخران فوجودهما كثير لكن لايقال إنه ضد الله فإن المتصف بضد صفاته لم يضاده والذين قالوا النور ضد الظلمة قالوا يمتنع اجتماعهما في عين واحدة ولم يقولوا أنه يمتنع أن يكون شيء موصوف بأنه نور وشيء آخر موصوف بأنه ظلمة فليتدبر العاقل هذا التعطيل والتخطيط

وأما قوله لو كان نورا لم يجز إضافته إلى نفسه في قوله مثل نوره فالكلام عليه من طريقين أحدهما أن نقول النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض وقد أخبر النص أن الله نور وأخبر أيضا أنه يحتجب بالنور فهذه ثلاثة أنوار في النص وقد تقدم ذكر الأول

وأما الثاني قوله وأشرقت الأرض بنور ربها وفي قوله مثل نوره وفيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله : إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ومنه قوله في دعاء الطائف: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك رواه الطبراني وغيره ومنه قول ابن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه ومنه قوله ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى عن النبي قال قام فينا رسول الله بأربع كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فهذا الحديث فيه ذكر حجابه فإن تردد الراوي في لفظ النار والنور لا يمنع ذلك فإن مثل هذه النار الصافية التي كلم بها موسى يقال لها نار ونور كما سمى الله نار المصباح نورا بخلاف النار المظلمة كنار جهنم فتلك لا تسمى نورا

فالأقسام ثلاثة إشراق بلا إحراق وهو النور المحض كالقمر وإحراق بلا إشراق وهي النار المظلمة وما هو نار ونور كالشمس ونار المصابيح التي في الدنيا توصف بالأمرين وإذا كان كذلك صح أن يكون نور السماوات والأرض وأن يضاف إليه النور وليس المضاف هو عين المضاف إليه

والطريق الثاني أن يقال هذا يرد عليكم لا يختص بمن يسميه بما سمى به نفسه وبينه فأنت إذا قلت هاد أو منور أو غير ذلك فالمسمى نورا هو الرب نفسه ليس هو النور المضاف إليه فإذا قلت هو الهادي فنوره الهدى جعلت أحد النورين عينا قائمة والآخر صفة فهكذا يقول من يسميه نورا وإذا كان السؤال يرد على القولين والقائلين كان تخصيص أحدهما بأنه مخالف ظلما ولددا في المحاجة أو جهلا وضلالا عن الحق

واما ما ذكره من الأقوال فلا ريب أن للناس فيها من الأقوال أكثر مما ذكره والموجود بأيدي الأمة من الروايات الصادقة والكاذبة والآراء المصيبة والمخطئة لا يحصيه إلا الله والكلام في تفسير أسماء الله وصفاته وكلامه فيه من الغث والسمين ما لا يحصيه إلا رب العالمين وإنما الشأن في الحق والعلم والدين

وقد كتبت قديما في بعض كتبي لبعض الأكابر أن العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول فالشأن في أن نقول علما وهو النقل والصدق والبحث المحقق فإن ما سوى ذلك وإن زخرف مثله بعض الناس خزف مزوق وإلا فباطل مطلق مثلما ذكره في هذه الآية وغيرها

وهذه الكتب التي يسميها كثير من الناس كتب التفسير فيها كثير من التفسير منقولات عن السلف مكذوبة عليهم وقول على الله ورسوله بالرأي المجرد بل بمجرد شبهة قياسية أو شبهة أدبية فالمفسرون الذين ينقل عنهم لم يسمهم ومع هذا فقد ضعف قولهم بالباطل فإن القوم فسروا النور في الآية بأنه الهادي ولم يفسروا النور في الأسماء الحسنى والحديث عن النبي فلا يصح تضعيف قولهم بما ضعفه ونحن ما ذكرنا ذلك لبيان تناقضه وأنه لا يحتج علينا بشيء يروج على ذي لب فإن التناقض أول مقامات الفساد وهذا التفسير قد قاله طائفة من المفسرين

وأما كونه ثابتا عن ابن عباس أو غيره فهذا مما لم يثبته ومعلوم أن في كتب التفسير من النقل عن ابن عباس من الكذب شيء كثير من رواية الكلبي عن أبي صالح وغيره فلا بد من تصحيح النقل لتقوم الحجة فليراجع كتب التفسير التي يحرر فيها النقل مثل تفسير محمد بن جرير الطبري الذي ينقل فيه كلام السلف بالإسناد وليعرض عن تفسير مقاتل بقي بن مخلد الأندلسي وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الشامي وعبد بن حميد الكشي وغيرهم إن لم يصعد إلى تفسير الإمام إسحاق ابن راهويه وتفسير الإمام أحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة الذين هم أعلم أهل الأرض بالتفاسير الصحيحة عن النبي وآثار الصحابة والتابعين كما هو أعلم الناس بحديث النبي وآثار الصحابة والتابعين في الأصول والفروع وغير ذلك من العلوم فأما أن يثبت أصلا يجعله قاعدة بمجرد رأي فهذا إنما ينفق على الجهال بالدلائل الأغشام في المسائل ومثل هذه المنقولات التي لا يميز صدقها من كذبها والمعقولات التي لا يميز صدقها من خطئها ضل من ضل من أهل المشرق في الأصول والفروع والفقه والتصوف

وما أحسن ما جاء هذا في آية النور التي قال الله تعالى فيها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور نسأل الله يجعل لنا نورا

ثم نقول هذا القول الذي قاله بعض المفسرين في قوله الله نور السماوات والأرض أي هادي أهل السماوات لا يضرنا ولا يخالف ما قلناه فإنهم قالوه في تفسير الآية التي ذكر النور فيها مضافا لم يذكروه في تفسير نور مطلق كما ادعيت أنت من ورود الحديث به فأين هذا من هذا

ثم قول من قال من السلف هادي أهل السماوات والأرض لا يمنع أن يكون في نفسه نورا فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر من الأسماء أو بعض أنواعه ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات المسمى بل قد يكونان متلازمين ولا دخول لبقية الأنواع فيه وهذا قد قررناه غير مرة في القواعد المتقدمة ومن تدبره علم أن أكثر أقوال السلف في التفسير متفقة غير مختلفة

مثال ذلك قول بعضهم في الصراط المستقيم إنه الإسلام وقول آخر إنه القرآن وقول آخر إنه السنة والجماعة وقول آخر إنه طريق العبودية فهذه كلها صفات له متلازمة لا مباينة وتسميته بهذه الأسماء بمنزلة تسمية القرآن والرسول بأسمائه بل بمنزلة أسماء الله الحسنى

ومثال الثاني قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فذكر منهم صنفا من الأصناف والعبد يعم الجميع فالظالم لنفسه المخل ببعض الواجب والمقتصد القائم به والسابق المتقرب بالنوافل بعد الفرائض وكل من الناس يدخل في هذا بحسب طريقه والتفسير والترجمة ببيان النوع والجنس ليقرب الفهم على المخاطب كما قال الأعجمي ما الخبز فقيل له هذا وأشير إلى الرغيف فالغرض الجنس لا هذا الشخص فهكذا تفسير كثير من السلف وهو من جنس التعليم فقول من قال نور السماوات والأرض هادي أهل السماوات والأرض كلام صحيح فإن من معاني كونه نور السماوات والأرض أن يكون هاديا لهم أما أنهم نفوا ما سوى ذلك فهذا غير معلوم وأما أنهم أرادوا ذلك فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه وقد تقدم عن النبي من ذكر وجهه وفي رواية النور ما فيه كفاية فهذا بيان معنى غير الهداية وقد أخبر الله في كتابه أن الأرض تشرق بنور ربها فإذا كانت تشرق من نوره كيف لا يكون هو نورا ولا يجوز أن يكون هذا النور المضاف إليه إضافة خلق وملك واصطفاء كقوله ناقة الله ونحو ذلك من الوجوه

أحدها أن النور لم يضف قط إلى الله إذا كان صفة لأعيان قائمة فلا يقال في المصابيح إنها نور الله ولا في الشمس والقمر وإنما يقال كما قال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه وفي الدعاء المأثور عن النبي : أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة

الثاني أن الأنوار المخلوقة كالشمس والقمر تشرق لها الأرض في الدنيا وليس من نور إلا هو خلق من خلق الله وكذلك من قال منور السماوات والأرض لا ينافي أنه نور وكل منور نور فهما متلازمان ثم إن الله تعالى ضرب مثل نوره الذي في قلوب المؤمنين بالنور الذي في المصباح وهو في نفسه نور وهو منور لغيره فإذا كان نوره في القلوب هو نور وهو منور فهو في نفسه أحق بذلك وقد علم أن كل ما هو نور فهو منور

وأما قول من قال معناه منور السماوات بالكواكب فهذا إن أراد به قائله أن ذلك من معنى كونه نور السماوات والأرض وليس له معنى إلا هذا فهو مبطل لأن الله أخبر أنه نور السموات والأرض والكواكب لا يحصل نورها في جميع السماوات والأرض وأيضا فإنه قال مثل نوره كمشكاة فيها مصباح فضرب المثل لنوره الموجود في قلوب المؤمنين نور الإيمان والعلم المراد من الآية لم يضربها على النور الحسي الذي يكون للكواكب وهذا هو الجواب عما رواه عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية والحسن بعد المطالبة بصحة النقل والظن ضعفه عن ابن عباس لأنهم جعلوا ذلك من معاني النور أما أن يقولوا قوله الله نور السماوات والأرض ليس معناه إلا التنوير بالشمس والقمر والنجوم فهذا باطل قطعا

وقد قال : أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ومعلوم أن العميان لا حظ لهم في ذلك ومن يكون بينه وبين ذلك حجاب لا حظ له في ذلك والموتى لا نصيب لهم من ذلك وأهل الجنة لا نصيب لهم من ذلك فإن الجنة ليس فيها شمس ولا قمر كيف وقد روي أن أهل الجنة يعلمون الليل والنهار بأنوار تظهر من العرش مثل ظهور الشمس لأهل الدنيا فتلك الأنوار خارجة عن الشمس والقمر

وأما قوله قد قيل بالأدلة والحجج فهذا بعض معنى الهادي وقد تقدم الكلام على قوله هذا يبطل قوله أن التأويل دفع للظاهر ولم ينقل عن السلف فإن هذا الكلام مكذوب علي وقد ثبت تناقض صاحبه وأنه لم يذكر عن السلف إلا ما اعترف بضعفه

وأما الذي أقوله الآن وأكتبه وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي وإنما أقوله في كثير من المجالس إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه أول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في قوله تعالى يوم يكشف عن ساق فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيين ولا ريب أن ظاهر القرآن يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال يوم يكشف عن ساق نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر ومثل هذا ليس بتأويل إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف ولكن كثيرا من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولا له ثم يريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلا وهذا خطأ من وجهين كما قدمنا غير مرة

وأما قوله لو كان نورا حقيقة كما تقوله المشبهة لوجب أن يكون الضياء ليلا ونهارا على الدوام فنحن نقول بموجب ما ذكره من هذا القول فإن المشبهة يقولون إنه نور كالشمس والله تعالى ليس كمثله شيء فإنه ليس كشيء من الأنوار كما أن ذاته ليست كشيء من الذوات لكن ما ذكره له حجة عليهم فإنه يمكن أن يكون نورا يحجبه عن خلقه كما قال في الحديث حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه

لكن غلط هنا في النقل وهو إضافة هذا القول إلى المشبهة فإن هذا من أقوال الجهمية المعطلة أيضا كالمريسي فإنه كان يقول إنه نور وهو كبير الجهمية وإن كان قصده بالمشبهة من أثبت أن الله نور حقيقة فالمثبتة للصفات كلهم عنده مشبهة وهذه لغة الجهمية المحضة يسمون كل من أثبت الصفات مشبها فقد قدمنا أن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ذكرا أن نفي كونه نورا في نفسه هو قول الجهمية والمعتزلة وأنهما أثبتا أنه نور وقررا ذلك هما وأكابر أصحابهما فكيف بأهل الحديث وأئمة السنة وأول هؤلاء المؤمنين بالله وبأسمائه وصفاته ورسول الله وقد أجاب النبي على هذا السؤال الذي عارض به المعترض فقال : حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فأخبر أنه حجب عن المخلوقات بحجابه النور أن تدركها سبحات وجهه وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه فهذا الحجاب عن إحراق السبحات يبين ما يراد في هذا المقام

وأما ما ذكره عن ابن عباس في روايته الأخرى فمعناه بعض الأنوار الحسية وما ذكره من كلام العارفين فهو بعض معاني هدايته لعباده وإنما ذلك تنويع بعض الأنواع بحسب حاجة المخاطبين كما ذكرناه من عادة السلف أن يفسرها بذكر بعض الأنواع يقع على سبيل التمثيل لحاجة المخاطبين لا على سبيل الحصر والتحديد فقد تبين أن جميع ما ذكر من الأقوال يرجع إلى معنيين من معاني كونه نور السماوات والأرض وليس في ذلك دلالة على أنه في نفسه ليس بنور

فصل: سورة غافر. قوله تعالى ادعوني أستجب لكم[عدل]

سئل شيخ الإسلام فقيل له: قوله إذا جف القلم بما هو كائن فما معنى قوله ادعوني أستجب لكم وإن كان الدعاء أيضا مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولا بد من وقوعه

فيقال الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة وكسائر الأسباب في اقتضائه المسببات ومن قال إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول ليس بسبب أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودا ولا عدما بل ما يحصل بالدعاء يحصل بدونه فهما قولان ضعيفان فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر فعلق العطايا بالدعاء تعليق الوعد والجزاء بالعمل المأمور به وقال عمر بن الخطاب إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه وأمثال ذلك كثير

وأيضا فالواقع المشهود يدل على ذلك وبينه كما يدل على ذلك مثله في سائر أسباب وقد أخبر سبحانه من ذلك ما أخبر به في مثل قوله ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون وقوله تعالى: وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض وقوله تعالى عن زكريا رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجة وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون وقال تعالى ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص

فأخبر أنه إن شاء أوبقهن فاجتمع أخذهم بذنوبهم وعفوه عن كثير منها مع علم المجادلين في آياته أنه ما لهم من محيص لأنه في مثل هذا الحال يعلم المورد للشبهات في الدلائل الدالة على ربوبية الرب وقدرته ومشيئته ورحمته أنه لا مخلص له مما وقع فيه كقوله في الآية الأخرى وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال

فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال هل الرب موجب بذاته فلا يكون هو المحدث للحوادث ابتداء ولا يمكنه أن يحدث شيئا ولا يغير العالم حتى يدعى ويسأل وهل هو عالم بالتفصيل والإجمال وقادر على تصريف الأحوال حتى يسأل التحويل من حال إلى حال أو ليس كذلك كما يزعمه من المتفلسفة وغيرهم من الضلال فيجتمع مع العقوبة والعفو من ذي الجلال علم أهل المراء والجدال أنه لا محيص لهم عما أوقع بمن جادلوا في آياته وهو شديد المحال وقد تكلمنا على هذا وأشباهه وما يتعلق به من المقالات والديانات في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن يعلم أن الدعاء والسؤال هو سبب لنيل المطلوب المسؤول ليس وجوده كعدمه في ذلك ولا هو علامة محضة كما دل عليه الكتاب والسنة وإن كان قد نازع في ذلك طوائف من أهل القبلة وغيرهم مع أن ذلك يقربه جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين لكن طوائف من المشركين والصابئين من المتفلسفة المشائين اتباع أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه ونحو هؤلاء يزعمون أن تأثير الدعاء في نيل المطلوب كما يزعمونه في تأثير سائر الممكنات المخلوقات من القوى الفلكية والطبيعية والقوى النفسانية والعقلية فيجعلون ما يترتب على الدعاء هو من تأثير النفوس البشرية من غير أن يثبتوا للخالق سبحانه بذلك علما مفصلا أو قدرة على تغيير العالم أو أن يثبتوا أنه لو شاء أن يفعل غير ما فعل لأمكنه ذلك فليس هو عندهم قادرا على إن يجمع عظام الإنسان ويسوي بنانه وهو سبحانه هو الخالق لها ولقواها فلا حول ولا قوة إلا بالله

أما قوله وإن كان الدعاء مما هو كائن فما فائدة الأمر به ولا بد من وقوعه فيقال الدعاء المأمور به لا يجب كونا بل أذا أمر الله العباد بالدعاء فمنهم من يطيعه فيستجاب له دعاؤه وينال طلبته ويدل ذلك على أن المعلوم المقدور هو الدعاء والإجابة ومنهم من يعصيه فلا يدعو فلا يحصل ما علق بالدعاء فيدل ذلك على أنه ليس في المعلوم المقدور الدعاء ولا الإجابة فالدعاء الكائن هو الذي تقدم العلم بأنه كائن والدعاء الذي لا يكون هو الذي تقدم العلم بأنه لا يكون

فإن قيل فما فائدة الأمر فيما علم أنه يكون من الدعاء قيل الأمر هو سبب ايضا في امتثال المأمور به كسائر الأسباب فالدعاء سبب يدفع البلاء فإذا كان أقوى منه دفعه وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه لكن يخففه ويضعفه ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق والله أعلم

فصل: سورة الذاريات[عدل]

سئل شيخ الإسلام عن قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

فقال رحمه الله: قال السائل قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إن كانت هذه اللام للصيرورة في عاقبة الأمر فما صار ذلك وإن كانت اللام للغرض لزم أن لا يتخلف أحد من المخلوقين عن عبادته وليس الأمر كذلك فما التخلص من هذا المضيق

فيقال هذه اللام ليست هي اللام التي يسميها النحاة لام العاقبة والصيرورة ولم يقل ذلك أحد هنا كما ذكره السائل من أن ذلك لم يصر إلى على قول من يفسر يعبدون بمعنى يعرفون يعني المعرفة التي أمر بها المؤمن والكافر لكن هذا قول ضعيف وإنما زعم بعض الناس ذلك في قوله ولذلك خلقهم التي في آخر سورة هود فإن بعض القدرية زعم أن تلك اللام لام العاقبة والصيرورة أي صارت عاقبتهم إلى الرحمة وإلى الاختلاف وإن لم يقصد ذلك الخالق وجعلوا ذلك كقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقول الشاعر

لدوا للموت وابنوا للخراب

وهذا أيضا ضعيف هنا لأن لام العاقبة إنما تجيء في حق من لا يكون عالما بعواقب الأمور ومصايرها فيفعل الفعل الذي له عاقبة لا يعلمها كآل فرعون فأما من يكون عالما بعواقب الأفعال ومصايرها فلا يتصور منه أن يفعل فعلا له عاقبة لا يعلم عاقبته وإذا علم أن فعله له عاقبة فلا يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون فإن ذلك تمن وليس بإرادة

وأما اللام فهي اللام المعروفة وهي لام كي ولام التعليل التي إذا حذفت انتصب المصدر المجرور بها على المفعول له وتسمى العلة الغائية وهي متقدمة في العلم والإرادة متأخرة في الوجود والحصول وهذه العلة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل

لكن ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين

أحدهما الإرادة الكونية وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذه الإرادة في مثل قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وقوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم وقال تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقال تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله وأمثال ذلك وهذه الإرادة هي مدلول اللام في قوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم

قال السلف خلق فريقا للاختلاف وفريقا للرحمة ولما كانت الرحمة هنا الإرادة وهناك كونية وقع المراد بها فقوم اختلفوا وقوم رحموا

وأما النوع الثاني فهو الإرادة الدينية الشرعية وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى كما قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة ولهذا كانت الأقسام أربعة

أحدها ما تعلقت به الإرادتان وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة فإن الله أرادة إرادة دين وشرع فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون فوقع ولولا ذلك لما كان

والثاني ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع

والثالث ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن

والرابع ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي وإذا كان كذلك فمقتضى اللام في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون هذه الإرادة الدينية الشرعية وهذه قد يقع مرادها وقد لا يقع فهو العمل الذي خلق العباد له أي هو الذي يحصل كمالهم وصلاحهم الذي به يكونون مرضيين محبوبين فمن لم تحصل منه هذه الغاية كان عادما لما يحب ويرضى ويراد له الإرادة الدينية التي فيها سعادته ونجاته وعادما لكماله وصلاحه العدم المستلزم فساده وعذابه وقول من قال العبادة هي العزيمة أو الفطرية فقولان ضعيفان فاسدان يظهر فسادهما من وجوه متعددة

والله أعلم

سورة الانسان. فصل عرض مجمل للسورة[عدل]

اعلم أن سورة هل أتى على الانسان سورة عجيبة الشأن من سور القرآن على اختصارها فإن الله سبحانه ابتدأها بذكر كيفية خلق الانسان من النطفة ذات الأمشاج والاخلاط التي لم يزل بقدرته ولطفه وحكمته يصرفه عليها أطوارا وينقله من حال إلى حال إلى أن تمت خلقته وكملت صورته فأخرجه انسانا سويا سميعا بصيرا ثم لما تكامل تمييزه وادراكه هداه طريقي الخير والشر والهدى والضلال وأنه بعد هذه الهداية اما أن يشكر ربه واما أن يكفره ثم ذكر مآل أهل الشكر والكفر وما أعد لهؤلاء وهؤلاء وبدأ أولا بذكر عاقبة أهل الكفر ثم عاقبة أهل الشكر وفي آخر السورة ذكر أولا أهل الرحمة ثم أهل العذاب فبدأ السورة بأول أحوال الإنسان وهي النطفة وختمها بآخر أحواله وهي كونه من أهل الرحمة أو العذاب ووسطها بأعمال الفريقين فذكر أعمال أهل العذاب مجملة في قوله إنا أعتدنا للكافرين سورة الانسان 4 وأعمال أهل الرحمة مفصلة وجزاءهم مفصلا

فتضمنت السورة خلق الإنسان وهدايته ومبدأه وتوسطه ونهايته وتضمنت المبدأ والمعاد والخلق والأمر وهما القدرة والشرع وتضمنت إثبات السبب وكون العبد فاعلا مريدا حقيقة وأن فاعليته ومشيئته إنما هي بمشيئة الله ففيها الرد على الطائفتين القدرية والجبرية وفيها ذكر أقسام بني آدم كلهم فأنهم أما أهل شمال وهم الكفار أو أهل يمين وهم نوعان أبرار ومقربون وذكر سبحانه أن شراب الابرار يمزج من شراب عباده المقربين لأنهم مزجوا أعمالهم ويشربه المقربون صرفا خالصا كما أخلصوا أعمالهم وجعل سبحانه شراب المقربين من الكافور الذي فيه من التبريد والقوة ما يناسب برد اليقين وقوته لما حصل لقلوبهم ووصل إليها في الدنيا مع ما في ذلك من مقابلته للسعير

وأخبر سبحانه أن لهم شرابا آخر ممزوجا من الزنجبيل لما فيه من طيب الرائحة ولذة الطعم والحرارة التي توجب تغير برد الكافور واذابة الفضلات وتطهير الاجواف ولهذا وصفه سبحانه بكونه شرابا طهورا أي مطهرا لبطونهم

فوصفهم سبحانه بجمال الظاهر والباطن كما قال ولقاهم نضرة وسرورا الآية11 فالنضرة جمال وجوههم والسرور جمال قلوبهم كما قال تعرف في وجوههم نضرة النعيم سورة المطففين 24

وقريب من هذا قول امرأة العزيز في يوسف فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم سورة يوسف 32 فأخبرت بجمال ظاهره حين أشارت إليه بالخروج عليهن ثم ضمت إلى ذلك اخبارهم بأن باطنه أجمل من ظاهره بأني راودته فأبى إلا العفة والحياء والاستعصام

ثم ذكر سبحانه من أعمال الأبرار ما ينتبه سامعه على جمعهم لأعمال البر كلها فذكر سبحانه وفاءهم بالنذر وخوفهم من ربهم واطعامهم الطعام على محبتهم له واخلاصهم لربهم في طاعتهم

وذكر سبحانه الوفاء بالنذر وهو أضعف الواجبات فإن العبد هو الذي اوجبه على نفسه التزامه فهو دون ما أوجبه الله سبحانه وعليه فإذا وفى لله بأضعف الواجبين الذي التزمه هو فهو بأن يوفى بالواجب الاعظم الذي اوجبه الله عليه أولى وأحرى

ومن ههنا قال من قال من المفسرين المقربون يوفون بطاعة الله ويقومون بحقه عليهم وذلك أن العبد إذا نذر لله طاعة فوفى بها فإنما يفعل ذلك لكونها صارت حقا لله يجب الوفاء بها وهذا موجود في حقوقه كلها فهي في ذلك سواء

ثم أخبر عنهم بأنهم يخافون اليوم العسير القمطرير وهو يوم القيامة ففي ضمن هذا الخوف إيمانهم باليوم الآخر وكفهم عن المعاصي التي تضرهم في ذلك اليوم وقيامهم بالطاعات التي ينفعهم فعلها ويضرهم تركها في ذلك اليوم

ثم أخبر عنهم باطعام الطعام على محبتهم له وذلك يدل على نفاسته عندهم وحاجتهم إليه وما كان كذلك فالنفوس به أشح والقلوب به أعلق واليد له أمسك فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل

فذكر من حقوق العباد بذل قوت النفس على نفاسته وشدة الحاجة منبها على الوفاء بما دونه كما ذكر من حقوقه الوفاء بالنذر منبها على الوفاء بما هو فوقه وأوجب منه ونبه بقوله على حبه الآية 8 أنه لولا أن الله سبحانه أحب إليهم منه لما آثروه على ما يحبونه فآثروا المحبوب الأعلى على الأدنى

ثم ذكر أن مصرف طعامهم إلى المسكين واليتيم والأسير الذين لا قوة لهم ينصرونهم بها ولا مال لهم يكافئونهم به ولا أهل ولا عشيرة يتوقعون منهم مكافأتهم كما يقصده أهل لدنيا والمعاوضون بانفاقهم واطعامهم

ثم أخبر عنهم أنهم إنما فعلوا ذلك لوجه الله وأنهم لا يريدون من أطعموه عوضا من أموالهم ولا ثناء عليهم بألسنتهم كما يريده من لا اخلاص له باحسانه إلى الناس من معاوضتهم أو الشكور منهم فتضمن ذلك المحبة والاخلاص والاحسان

ثم أخبر سبحانه عنهم بما صدقهم عليه قبل أن يقولوه حيث قالوا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا الآية 10 فصدقهم قبل قولهم إذ يقول تعالى يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا الآية 7 ثم أخبر سبحانه بأنه وقاهم شر ما يخافونه ولقاهم فوق ما كانوا يأملونه

وذكر سبحانه أصناف النعيم الذي حباهم به من المساكن والملابس والمجالس والثمار والشراب والخدم والنعيم والملك الكبير

ولما كان في الصبر من حبس النفس والخشونة التي تلحق الظاهر والباطن من التعب والنصب والحرارة ما فيه كان الجزاء عليه بالجنة التي فيها السعة والحرير الذي فيه اللين والنعومة والاتكاء الذي يتضمن الراحة والظلال المنافية للحر

ثم ذكر سبحانه لون ملابس الابرار وإنها ثياب سندس خضر واستبرق وحليتهم وأنها أساور من فضة فهذه زينة ظواهرهم ثم ذكر زينه بواطنهم وهو الشراب الطهور وهو بمعنى التطهير

فإن قيل فلم اقتصر من آنيتهم وحليتهم على الفضة دون الذهب ومعلوم ان الجنان جنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنتيهما وحليتهما وما فيهما

قيل سياق هذه الآيات إنما هو في وصف الأبرار ونعيمهم مفصلا دون تفصيل جزاء المقربين فإنه سبحانه إنما أشار اليه أشارة تنبه على ما سكت عنه وهو أن شراب الأبرار يمزج من شرابهم

فالسورة مسوقة بصفة الأبرار وجزائهم على التفصيل وذلك والله أعلم لأنهم أعم من المقربين وأكثر منهم ولهذا يخبر سبحانه عنهم بأنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وعن المقربين السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين

وأيضا فإن في ذكر جزاء الأبرار تنبيها على أن جزاء المقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

وأيضا فإنه سبحانه ذك أهل الكفر وأهل الشكر وأهل الشكر نوعان أبرار أهل يمين ومقربون سابقون وكل مقرب سابق فهو من الابرار ولا ينعكس فاسم الابرار والمقربين كاسم الإسلام والايمان أحدهما أعم من الآخر

وأيضا فأنه سبحانه أخبر أن هذا جزاء سعيهم المشكور وكل من الابرار والمقربين سعيهم مشكور فذكر سبحانه السعي المشكور والسعي المسخوط

ثم ذكر سبحانه نبيه بما أنعم عليه من تنزيل القرآن عليه وأمره بأن يصبر لحكمه وهو يعم الحكم الديني الذي أمره به في نفسه وأمره بتبليغه والحكم الكوني الذي يجري عليه من ربه فإنه سبحانه امتحن عباده وابتلاهم بأمره ونهيه وهو حكمه الديني وابتلاهم بقضائه وقدره وهو حكمه الكوني وفرض عليهم الصبر على كل واحد من الحكمين وإن كان الحكم الديني في هذه الآية أظهر ارادة وأنه أمر بالصبر على تبليغه والقيام بحقوقه

ولما كان صبره عليه لا يتم بمخالفته لمن دعاه إلى خلافه من كل آثم أو كفور نهاه عن طاعة هذا وهذا وأتى بحرف أو دون الواو ليدل على أنه منهى عن طاعة أيهما كان أما هذا وأما هذا فكأنه قيل له لا تطع أحدهما وهو أعم في النهي من كونه منهيا عن طاعتهما فإنه لو قيل له لا تطعهما أو لا تطع آثما وكفورا لم يكن صريحا في النهي عن طاعة كل منهما بمفرده

ولما كان لا سبيل إلى الصبر إلا بتعويض القلب بشيء هو أحب إليه من فوات ما يصبر عليه فوته أمره بأن يذكر ربه سبحانه بكرة وأصيلا فإن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصبر وأن يصبر لربه بالليل فيكون قيامه بالليل عونا على ما هو بصدده بالنهار ومادة لقوته ظاهرا وباطنا ولنعيمه عاجلا وآجلا

ثم أخبر سبحانه عما يمنع العبد من إيثار ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة وهو حب العاجلة وإيثارها على الآخرة تقديما لداعي الحس على داعي العقل

ثم ذكر سبحانه خلقهم واحكامه واتقانه بما شد من أسرهم وهو ائتلاف الاعضاء والمفاصل والأوصال وما بينها من الرباطات وشد بعضها ببعض وحقيقته القوة ومنه قول الشاعر

من كل مجتنب شديد أسره... سلس القياد تخاله مختالا

ولا يكون ذلك إلا فيما له شد ورباط ومنه الاسار وهو الحبل الذي يشد به الأسير

ثم أخبر سبحانه أنه قادر على أن يبدل امثالهم بعد موتهم وأنه شاء ذلك فعله واذا للمحقق فهذا التبديل واقع لا محالة فهو الاعادة التي هي مثل البداءة

هذا هو معنى الآية ومن قال غير ذلك لم يصب معناها ولا توحشك لفظة المثل فإن المعاد مثل للمبدوء وإن كان هو بعينه فهو معاد أو هو مثله من جهة المغايرة بين كونه مبدءا ومعادا وهذا كالدار إذا تهدمت وأعيدت بعينها فهي الأولى وكذلك الصلاة المعادة هي الأولى وهي مثلها

وقد نطق القرآن بأنه سبحانه يعيدهم ويعيد امثالهم إذا شاء وكلاهما واحد فقال كما بدأكم تعودون سورة الأعراف 29 وقال تعالى والينا ترجعون سورة الانبياء35 وقال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده سورة الروم 27 وقال أوليس الذي خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم سورة يس 81 وقال انا لقادرون على ان نبدل امثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون سورة الواقعة 61 63

فهذا كله معاد الأبدان وقد صرح سبحانه بأنه خلق جديد في موضعين من كتابه وهذا الخلق الجديد هو المثل

ثم ختم سبحانه السورة بالشرع والقدر كما افتتحها بالخلق والهداية فقال فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا الآية 29 فهذا شرعه ومحل أمره ونهيه ثم قال وما تشاؤون إلا أن يشاء الله الآية 30 فهذا قضاؤه وقدره ثم ذكر الاسمين الموجبين للتخصيص وهما اسم العليم الحكيم

وقوله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله فأخبر أن مشيئتهم موقوفة على مشيته ومع هذا فلا يوجب ذلك حصول الفعل منهم إذ أكثر ما فيه أنه جعلهم شائين ولا يقع الفعل إلا حين يشاؤه منهم كما قال تعالى فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله سورة المدثر 55 56 وقال لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله سورة التكوير 28 29 ومع هذا فلا يقع الفعل منهم حتى يريد من نفسه اعانتهم وتوفيقهم

فهنا أربع ارادات ارادة البيان وارادة المشيئة وارادة الفعل وارادة الاعانة والله أعلم

فصل[عدل]

وقوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله لا يدل على أن العبد ليس بفاعل لفعله الاختياري ولا أنه ليس بقادر عليه ولا أنه ليس بمريد بل يدل على أنه لا يشاؤه الا من يشاء الله وهذه الآية رد على الطائفتين المجبرة والجهمية والمعتزلة القدرية فإنه تعالى قال لمن شاء منكم أن يستقيم فاثبت للعبد مشيئة وفعلا ثم قال وما تشاؤون الا ان يشاء الله رب العالمين فبين ان مشيئة معلقه بمشيئة الله والأولى رد على الجبرية وهذه رد على القدرية الذين يقولون قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله كما يقولون ان الله يشاء ما لا يشاؤون

وإذا قالوا المراد بالمشيئة هنا الأمر على أصلهم والمعنى وما يشاؤون فعل ما أمر الله به ان لم يأمر الله به قيل سياق الآية يبين انه ليس المراد هذا بل المراد وما تشاؤون بعد ان امرتم بالفعل ان تفعلوه الا أن يشاء الله فإنه تعالى ذكر الأمر والنهي والوعد والوعيد ثم قال بعد ذلك إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤون الا أن يشاء الله وقوله وما تشاؤون نفي لمشيئتهم في المستقبل وكذلك قوله الا ان يشاء الله تعليق لها بمشيئة الرب في المستقبل فإن حرف أن تخلص الفعل المضارع للاستقبال فالمعنى الا أن يشاء بعد ذلك والامر متقدم على ذلك وهذا كقول الانسان لا افعل هذا الا ان يشاء الله

وقد اتفق السلف والفقهاء على أن من حلف فقال لأصلين غدا ان شاء الله أو لأقضين ديني غدا إن شاء الله ومضى الغد ولم يقضه أنه لا يحنث ولو كانت المشيئة هي الأمر لحنث لأن الله أمره بذلك وهذا مما احتج به على القدرية وليس لهم عنه جواب ولهذا خرق بعضهم الاجماع القديم وقال انه يحنث

وايضا فقوله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله سيق لبيان مدح الرب والثناء عليه ببيان قدرته وبيان حاجة العباد إليه ولو كان المراد لا يفعلون الا أن يأمركم لكان كل امر بهذه المثابة فلم يكن ذلك من خصائص الرب التي يمدح بها وان اريد انهم لا يفعلون الا بأمره كان هذا مدحا لهم لا له

فصل في قوله النبي في الحديث الصحيح بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء[عدل]

لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه والعياذ بالله بل الأمر كما قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين آل عمران 3 85 وقال تعالى إن الدين عند الله الإسلام آل عمران3 19 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون آل عمران 3 102 وقال تعالى ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون البقرة 2 130 132

وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر وبينا أن الانبياء كلهم كان دينهم الإسلام الصحيح حديث عياض بن حماد عن النبي أنه قال ان الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من أهل الكتاب الحديث

ولا يقتضي هذا أنه أذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر بل هو أسعد الناس كما قال في تمام الحديث فطوبى للغرباء وطوبى من الطيب قال تعالى طوبى لهم وحسن مآب الرعد 13 29 فإنه يكون من جنفى السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا وهم أسعد الناس أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الانبياء عليهم السلام

وأما في الدنيا فقد قال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين الانفال 8 64 أي ان الله حسبك وحسب متبعك وقال تعالى ان وليى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين الأعراف 7 196 وقال تعالى أليس الله بكاف عبده الزمر 39 36 وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق 65 2 3 فالمسلم المتبع للرسول الله تعالى حسبه وكافيه وهو وليه حيث كان ومتى كان

ولهذا يوجد المسلمون المتمسكون بالإسلام في بلاد الكفر لهم السعادة كلما كانوا أتم تمسكا بالإسلام فإن دخل عليهم شر كان بذنوبهم حتى ان المشركين وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالإسلام عظموه وأكرموه وأعفوه من الأعمال التي يستعملون بها المنتسبين إلى ظاهر الإسلام من غير عمل بحقيقته لم يكرم

وكذلك كان المسلمون في أول الإسلام وفي كل وقت

فإنه لا بد أن يحصل للناس في الدنيا شر ولله على عباده نعم لكن الشر الذي يصيب المسلم أقل والنعم التي تصل إليه أكثر فكان المسلمون في أول الإسلام وان ابتلوا بأذى الكفار والخروج من الديار فالذي حصل للكفار الهلاك كان أعظم بكثير والذي كان يحصل للكفار من عز أو مال كان يحصل للمسلمين أكثر منه حتى من الاجانب

فرسول الله مع ما كان المشركون يسعون في أذاه بكل طرق كان الله يدفع عنه ويعزه ويمنعه وينصره من حيث كان أعز قريش ما منهم الا من كان يحصل له من يؤذيه ويهينه من لا يمكنه دفعه إذ لكل كبير كبير يناظره ويناويه ويعاديه وهذه حال من

فصل سورة الليل معنى آية ان علينا للهدى ونظيريها من سورتي الحجر والنحل وبيان اغلاط المفسرين فيها[عدل]

قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه

فصل في آيات ثلاث متناسبة متشابهة اللفظ والمعنى يخفى معناها على أكثر الناس

قوله تعالى قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من العاوين الحجر 15 41 42

وقوله تعالى وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر النحل 16 6 وقوله تعالى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى الليل 92 12 13 فلفظ هذه الآيات فيه أن السبيل الهادي هو على الله

وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في الآية الأولى ثلاثة أقوال بخلاف الآيتين الآخريين فإنه لم يذكر فيهما إلا قوله واحدا فقال في تلك الآية اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال

أحدها انه يعني بقوله هذا الاخلاص فالمعنى أن الاخلاص طريق إلي مستقيم وعلى بمعنى إلى

والثاني هذا طريق علي جوازه لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم وهو خارج مخرج الوعيد كما تقول للرجل تخاصمه طريقك علي فهو كقوله إن ربك لبالمرصاد الفجر 89 14

والثالث هذا صراط على استقامته أي أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان قال وقرأ قتادة ويعقوب هذا صراط علي أي رفيع

قلت هذه الأقوال الثلاثة قد ذكرها من قبله كالثعلبي والواحدي والبغوي وذكروا قولا رابعا فقالوا واللفظ للبغوي وهو مختصر الثعلبي، قال الحسن معناه صراط إلى مستقيم وقال مجاهد الحق يرجع إلي وعليه طريقه لا يعرج على شيء

وقال الاخفش يعني على الدلالة على الصراط المستقيم

وقال الكسائي هذا على التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه طريقك علي أي لا تفلت مني كما قال تعالى ان ربك لبالمرصاد

وقيل معناه على استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية

فذكروا الأقوال الثلاثة وذكروا قول الاخفش على الدلالة على الصراط المستقيم وهو يشبه القول الأخير لكن بينهما فرق فإن ذاك يقول على استقامته بإقامة الأدلة فمن سلكه كان على صراط مستقيم والآخر يقول أن أدل الخلق عليه بإقامة الحجج ففي كلا القولين أنه بين الصراط المستقيم بنصف الأدلة لكن هذا جعل عليه الدلالة عليه وهذا جعل عليه استقامته أي بيان استقامته وهما متلازمان ولهذا والله أعلم لم يجعله أبو الفرج قولا رابعا

وذكروا القراءة الأخرى عن يعقوب وغيره أي رفيع قال البغوي وعبر بعضهم عنه رفيع أن ينال مستقيم أن يمال

قلت القول الصواب هو قول أئمة السلف قول مجاهد ونحوه فإنهم أعلم بمعاني القرآن لا سيما مجاهد فإنه قال عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال الثوري إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به والأئمة كالشافعي وأحمد والبخاري ونحوهم يعتمدون على تفسيره والبخاري في صحيحة أكثر ما ينقله من التفسير ينقله عنه

والحسن البصري أعلى التابعين بالبصرة

وما ذكروه عن مجاهد ثابت عنه رواه الناس كابن أبي حاتم وغيره من تفسير ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله هذا صراط علي مستقيم الحق يرجع الى الله وعليه طريقة لا يعرج على شيء

وذكر عن قتادة أنه فسرها على قراءته وهو يقرأ علي فقال أي رفيع مستقيم

وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن السلف أنهم فسروا آية النحل فروى من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله قصد السبيل قال طريق الحق على الله قال وروى السدي أنه قال الإسلام وعطاء قال هي طريق الجنة

فهذه الأقوال قول مجاهد والسدي وعطاء في هذه الآية هي مثل قول مجاهد والحسن في تلك الآية

وذكر ابن أبي الحاتم من تفسير العوفي عن ابن عباس في قوله وعلى الله قصد السبيل يقول على الله البيان أن يبين الهدى والضلالة

وذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية قولين ولم يذكر في آية الحجر إلا قول مجاهد فقط

وابن الجوزي لم يذكر في آية النحل إلا هذا القول الثاني وذكره عن الزجاح فقال: وعلى الله قصد السبيل القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا قصد بك إلى ما تريد قال الزجاج المعنى وعلى الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين

وكذلك الثعلبي والبغوي ونحوهما لم يذكروا إلا هذا القول لكن ذكروه باللفظين

قال البغوي يعني بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل بيان الحق بالآيات والبراهين

قال والقصد الصراط المستقيم وومنها جائر يعني ومن السبيل ما هو جائر عن الاستقامة معوج فالقصد من السبيل دين الإسلام والجائر منها اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر قال جابر بن عبدالله قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع ودليله قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله الأنعام 6 153

ولكن البغوي ذكر فيها القول الآخر ذكره في تفسير قوله تعالى إن علينا للهدى الليل عن القراء كما سيأتي فقد ذكر القولين في الآيات الثلاث تبعا لمن قبله كالثعلبي وغيره

والمهدوي ذكر في الآية الأولى قولين من الثلاثة وذكر في الثانية ما رواه العوفي وقولا آخر فقال: قوله هذا صراط علي مستقيم أي على أمري وارادتي وقيل هو على التهديد كما يقال على طريقك وإلى مصيرك

وقال في قوله وعلى الله قصد السبيل قال ابن عباس أي بيان الهدى من الضلال وقيل السبيل الإسلام ومنها جائر أي ومن السبل جائر أي عادل عن الحق وقيل المعنى وعنها جائر أي عن السبيل ف"من" بمعنى عن

وقيل معنى قصد السبيل سيركم ووجوعكم والسبيل واحدة بمعنى الجمع

قلت هذا قول بعض المتأخرين جعل القصد بمعنى الارادة أي عليه قصدكم للسبيل في ذهابكم ورجوعكم وهو كلام من لم يفهم الآية فإن السبيل القصد هي السبيل العادلة أي عليه السبيل القصد والسبيل اسم جنس ولهذا قال ومنها جائر أي عليه القصد من السبيل ومن السبيل جائر فاضافة إلى اسم الجنس إضافة النوع إلى الجنس أي القصد من السبيل كما تقول ثوب خز ولهذا قال ومنها جائر

وأما من ظن أن التقدير قصدكم السبيل فهذا لا يطابق لفظ الآية ونظمها من وجود متعددة

وابن عطية لم يذكر في آية الحجر إلا قول الكسائي وهو أضعف الأقوال وذكر المعنى الصحيح تفسير للقراءة الأخرى فذكر أن جماعة من السلف قرأوا على مستقيم من العلو والرفعة قال والاشارة بهذا على هذه القراءة إلى الاخلاص لما استثنى ابليس من أخلص قال الله له هذا الاخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت باغوائك أهله

قال وقرأ جمهور الناس على مستقيم والاشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص لما قسم ابليس هذين القسمين قال الله هذا طريق علي أي هذا أمر إلى مصيره والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي اليه يصير النظر في أمرك وهذا نحو قوله إن ربك لبالمرصاد قال والآية على هذه القراءة خبر يتضمن وعيدا

قلت هذا قول لم ينقل عن أحد من علماء التفسير لا في هذه الآية ولا في نظيرها وإنما قاله الكسائي لما أشكل عليه معنى الآية الذي فهمه السلف ودل عليه السياق والنظائر

وكلام العرب لا يدل على هذا القول فإن الرجل وإن كان يقول لمن يتهدده ويتوعده على طريقك فإنه لا يقول إن طريقك مستقيم

وأيضا فالوعيد إنم يكون للمسيء لا يكون للمخلصين فكيف يكون قوله هذا إشارة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص وطريق هؤلاء غير طريق هؤلاء هؤلاء سلكوا الطريق المستقيم التي تدل على الله وهؤلاء سلكوا السبيل الجائرة

وأيضا فإنما يقول لغيره في التهديد طريقك علي من لا يقدر عليه في الحال لكن ذاك يمر بنفسه عليه وهو متمكن منه كما كان أهل المدينة يتوعدون أهل مكة بأن طريقكم علينا لما تهددوهم بأنكم آويتم محمدا وأصحابه كما قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما ذهب سعد إلى مكة إلا أراك تطوف بالبيت أمنا وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم فقال لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة أو نحو هذا

فذكر أن طريقهم في متجرهم إلى الشام عليهم فيتمكنون حينئذ من جزائهم

ومثل هذا المعنى لا يقال في حق الله تعالى فإن الله قادر على العباد حيث كانوا كما قالت الجن وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا الجن 72 13 وقال وما أنتم بمعجزين في الأرض العنكبوت 29 22

فلان أي إليه يصير أمرك فهذا يطابق تفسير مجاهد وغيره من السلف كما قال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء فطريق الحق على الله وهو الصراط المستقيم الذي قال الله فيه هذا صراط على مستقيم كما فسرت به القراءة الأخرى

فالصراط في القرائتين هذا الصراط المستقيم الذي أمر الله المؤمنين أن يسألوه اياه في صلاتهم فيقولوا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهو الذي وصى به في قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعو السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون الأنعام 6 153

وقوله هذا إشارة إلى ما تقدم ذكره وهو قوله الا عبادك منهم المخلصين الحجر 15 40 فتعبد العباد له باخلاص الدين له طريق يدل عليه وهو طريق مستقيم ولهذا قال بعده ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الحجر 15 42

وابن عطية ذكر أن هذا معنى الآية في تفسير الآية الأخرى مستشهدا به مع أنه لم يذكره في تفسيرها فهو بفطرته عرف أن هذا معنى الآية ولكنه لما فسرها ذكر ذلك القول كأنه هو الذي اتفق أن رأى غيره قد قاله هناك فقال رحمه الله

فصل في معنى السبيل[عدل]

وقوله وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر وهذه أيضا من أجل نعم الله تعالى أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه وذلك نصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون

قال ويحتمل أن يكون المعنى أن من سلك السبيل القاصد فعلى الله طريقه وإلى ذلك مصيره فيكون هذا مثل قوله هذا صراط علي مستقيم وضد قول النبي والشر ليس إليك أي لا يفضي إلى رحمتك وطريق قاصد معناه بين مستقيم قريب ومنه قول الراجز

قصد عن نهج الطريق القاصد

قال والألف واللام في السبيل للعهد وهي سبيل الشرع وليست للجنس ولو كانت للجنس لم يكن منها جائر وقوله ومنها جائر يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعباد الاصنام والضمير في منها يعود على السبيل التي يتضمنها معنى الآية كأنه قال ومن السبيل جائر فأعاد عليها وان كان لم يجر لها ذكر لتضمن لفظة السبيل بالمعنى لها

قال ويحتمل أن يكون الضمير في منها على سبيل الشرع المذكورة ويكون من للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد كأنه قال ومن بينات الطرق من هذه السبيل ومن شعبها جائر

قلت سبيل أهل البدع جائرة خارجة عن الصراط المستقيم فيما ابتدعوا فيه ولا يقال ان ذلك من السبيل المشروعة

وأما قوله إن قوله قصد السبيل هي سبيل الشرع وهي سبيل الهدى والصراط المستقيم وأنها لو كانت للجنس لم يكن منها جائر فهذا أحد الوجهين في دلالة الآية وهو مرجوح والصحيح الوجه الآخر أن السبيل اسم جنس ولكن الذي على الله هو القصد منها وهي سبيل واحد ولماكان جنسا قال ومنها جائر والضمير يعود على ما ذكر بلا تكلف

وقوله لو كان للجنس لم يكن منها جائر ليس كذلك فإنها ليست كلها عليه بل إنما عليه القصد منها وهي سبيل الهدى والجائر ليس من القصد وكأنه ظن أنه إذا كانت للجنس يكون عليه قصد كل سبيل وليس كذلك بل إنما عليه سبيل واحدة وهي الصراط المستقيم وهي التي تدل عليه وسائرها سبيل الشيطان كما قال وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

وقد أحسن رحمه الله في هذا الاحتمال وفي تمثيله ذلك بقوله هذا صراط علي مستقيم

وأما آية الليل قوله إن علينا للهدى فابن عطية مثلها بهذه الآية لكنه فسرها بالوجه الأول فقال

ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا أي تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك كما قال وعلى الله قصد السبيل ثم كل أحد يتكسب ما قدر له وليست هذه الهداية بالارشاد إلى الإيمان ولو كان كذلك لم يوجد كافر

قلت وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي وذكره عن الزجاج قال الزجاج ان علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال

وهذا التفسير ثابت عن قتادة رواه عبد بن حميد قال حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة إن علينا للهدى علينا بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته وكذلك رواه ابن أبي حاتم في تفسير سعيد عن قتادة في قوله إن علينا للهدى يقول على الله البيان بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته

لكن قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فتبين به حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته

وأما الثعلبي والواحدي والبغوي وغيرهم فذكروا القولين وزادوا أقوالا آخر فقالوا واللفظ للبغوي: إن علينا للهدى يعني البيان قال الزجاج علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة وهو قول قتادة قال على الله بيان حلاله وحرامه

وقال القراء يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى وعلى الله قصد السبيل يقول من أراد الله فهو على السبيل القاصد

قال وقيل معناه إن علينا للهدى والاضلال كقوله بيدك الخير

قلت هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن السلف وكذلك ما اشبهه فإنهم قالوا معناه بيدك الخير والشر والنبي في الحديث الصحيح يقول والخير بيديك والشر ليس اليك

والله تعالى خالق كل شيء لا يكون في ملكه إلا ما يشاء والقدر حق لكن فهم القرآن ووضع كل شيء موضعه وبيان حكمة الرب وعدله مع الايمان بالقدر هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان

ذكر المهدوي ثلاثة أقوال

وقد ذكر المهدوي الأقوال الثلاثة فقال إن علينا للهدى والضلال فحذف قتادة المعنى إن علينا بيان الحلال والحرام

وقيل المعنى إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى

قلت هذا هو قول القراء لكن عبارة القراء أبين في معرفة هذا القول

فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل إلا على الله ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم والمعنى الأول متفق عليه بين المسلمين

وأما الثاني فقد يقول طائفة ليس على الله شيء لا بيان هذا ولا هذا فإنهم متنازعون هل أوجب على نفسه كما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة الأنعام 6 54 وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين الروم 20 47 وقوله وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها هود 11 6

وإذا كان عليه بيان الهدى من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فهذا يوافق قول من يقول إن عليه ارسال الرسل وإن ذلك واجب عليه فإن البيان لا يحصل إلا بهذا

وهذا يتعلق بأصل آخر وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه أوجبته مشيئته وحكمته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاءه رجب وجوده وما لم يشأه امتنع وجوده وبسط هذا له موضع آخر

ودلالة الآيات على هذا فيها نظر

وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعا وأنه أرشد بها إلى الطريق المستقيم وهي الطريق القصد وهي الهدى إنما تدل عليه وهو الحق طريقه على الله لا يعرج عنه

لكن نشأت الشبهة من كونه قال علينا بحرف الاستعلاء ولم يقل الينا والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال هذه الطريق إلى فلان وطن يمر به ويجتاز عليه أن يقول طريقنا على فلان

وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء

فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا كما قال تعالى يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه الانشقاق 84 6 وقال وإلى الله المصير آل عمران 3 28 النور 24 42 فاطر 35 18 ان الينا ايابهم الغاشية 88 25 أي الينا مرجعهم وقال وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنت تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا على الله مولاهم الحق الانعام 6 60 62 وقال أم لم ينبأ بما في ضعف موسى وابراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزيه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى النجم 53 36 42 وقال واما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فالينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون يونس 10 46 فأي سبيل سلكها العبد فالى الله مرجعه ومنتهاه لا بد له من لقاء الله ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى النجم 53 31

وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدى وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد أصحابه وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان وهذه سبيل من عبدالله وحده وأطاع رسله فلهذا قال إن علينا للهدى وعلى الله قصد السبيل قال هذا صراط علي مستقيم فالهدى وقصد السبيل والصراط المستقيم إنما يدل على عبادته وطاعته يدل على معصيته وطاعة الشيطان

فالكلام تضمن معنى الدلالة إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة فإن الجزاء يعم الخلق كلهم بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله ما الذي يدل على ذلك فكأنه قيل الصراط المستقيم يدل على الله على عبادته وطاعته

وذلك يبين أن من لغة العرب أنهم يقولون هذه الطريق على فلان إذا كانت تدل عليه وكان هو الغاية المقصودة بها وهذا غير كونها عليه بمعنى أن صاحبها يمر عليه وقد قيل

هن المنايا أي واد سلكته... عليها طريقي أو على طريقها

وهو كما قال الفراء من سلك الهدى فعلى الله سبيله

فالمقصود بالسبيل هو الذي يدل ويوقع عليه كما يقال ان سلكت هذه السبيل وقعت على المقصود ونحو ذلك وكما يقال على الخبير سقطت فإن الغاية المطلوبه إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها

وأيضا فسالك طريق الله متوكل عليه فلا بد له من عبادته ومن التوكل عليه

فإذا قيل عليه الطريق المستقيم تضمن أن سالكه عليه يتوكل وعليه تدله الطريق وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط لا يعدل عن ذلك إلى نحو ذلك من المعاني التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية

وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم فعليه الصراط المستقيم وهو على صراط مستقيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا والله أعلم آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يتعلق بهذه السورة

سورة التين. فصل قوله في أسفل سافلين[عدل]

وفي قوله أسفل سافلين قولان قيل الهرم وقيل العذاب بعد الموت وهذا هو الذي دلت عليه الآية قطعا فإنه جعله في أسفل سافلين إلا المؤمنين والناس نوعان فالكافر بعد الموت يعذب في أسفل سافلين والمؤمن في عليين

وأما القول الأول ففيه نظر فإنه ليس كل من سوى المؤمنين يهرم فيرد إلى أسفل سافلين بل كثير من الكفار يموتون قبل الهرم وكثير من المؤمنين يهرم وإن كان حال المؤمن في الهرم أحسن حالا من الكافر فكذلك في الشباب حال المؤمن أحسن من حال الكافر فجعل الرد إلى أسفل سافلين في آخر العمر وتخصيصه بالكفار ضعيف

ولهذا قال بعضهم إن الاستثناء منقطع على هذا القول وهو أيضا ضعيف فإن المنقطع لا يكون في الموجب ولو جاز هذا لجاز لكل أحد أن يدعى في أي استثناء شاء أنه منقطع وأيضا فالمنقطع لا يكون الثاني منه بعض الأول والمؤمنون بعض نوع الانسان

وقد فسر ذلك بعضهم على القول الأول بأن المؤمن يكتب له ما كان يعمله إذا عجز قال ابراهيم النخعي إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب الله له ما كان يعمل وهو قوله فلهم أجر غير ممنون وقال ابن قتيبة المعنى الا الذين آمنوا في وقت القوة والقدرة فإنهم في حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات فإن الله يعلم لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير فهو يجري لهم أجر ذلك

فيقال وهذا أيضا ثابت في حال الشباب إذا عجز الشاب لمرض أو سفر كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي قال إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم

وفسره بعضهم بما روي عن ابن عباس أنه قال من قرأ القرآن فإنه لا يرد إلى ارذل العمر فيقال هذا مخصوص بقارىء القرآن والآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء قرأوا القرآن أو لم يقرأوه وقد قال النبي في الحديث الصحيح مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها

وأيضا فيقال هرم الحيوان ليس مخصوصا بالانسان بل غيره من الحيوان إذا كبر هرم

وأيضا فالشيخ وان ضعف بدنه فعقله أقوى من عقل الشاب ولو قدر أنه ينقص بعض قواه فليس هذا ردا إلى أسفل سافلين فإنه سبحانه إنما يصف الهرم بالضعف كقوله ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الروم 30 54 وقوله ومن نعمره ننكسه في الخلق يس 36 68 فهو يعيده إلى حال الضعف ومعلوم أن الطفل ليس هو في أسفل سافلين فالشيخ كذلك أولى

وإنما في أسفل سافلين من يكون في سجين لا في عليين كما قال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار النساء 4 145

ومما يبين ذلك قوله فيما يكذبك بعد بالدين التين 95 7 فإنه يقتضي ارتباط هذا بما قبله لذكره بحرف الفاء ولو كان المذكور إنما هو رده إلى الهرم دون ما بعد الموت لم يكن هناك تعرض الدين والجزاء بخلاف ما إذا كان المذكور أنه بعد الموت يرد إلى أسفل سافلين غير المؤمن المصلح فإن هذا يتضمن الخبر بأن الله يدين العباد بعد الموت فيكرم المؤمنين ويهيمن الكافرين

وأيضا فإنه سبحانه أقسم على ذلك بأقسام عظيمة بالتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين وهي المواضع التي جاء منها محمد والمسيح وموسى وأرسل الله بها هؤلاء الرسل مبشرين ومنذرين

وهذا الاقسام لا يكون على مجرد الهرم الذي يعرفه كل واحد بل على الأمور الغائبة التي تؤكد بالأقسام فان اقسام الله وهو على أنباء الغيب

وفي نفس المقسم به وهو ارسال هؤلاء الرسل تحقيق للمقسم عليه وهو الثواب والعقاب بعد الموت لأن الرسل أخبروا ب

وهو يتضمن أيضا الجزاء في الدنيا كاهلاك من أهلكهم من الكفار فانه ردهم إلى أسفل سافلين بهلاكهم في الدنيا وهو تنبيه على زوال النعم إذا حصلت المعاصي كمن رد في الدنيا إلى أسفل جزاء على ذنوبه

وقوله فما يكذبك بعد الدين أي بالجزاء يتناول جزاءه على الأعمال في الدنيا والرزخ والآخرة إذا كان قد أقسم بأماكن هؤلاء المرسلين الذين أرسلوا بالآيات البينات الدالة على أمر الله ونهيه ووعده ووعيده مبشرين لأهل الايمان منذرين لأهل الكفر وقد أقسم بذلك على أن الانسان بعد أن جعل في أحسن تقويم ان آمن وعمل صالحا كان له أجر غير ممنون والا كان في أسفل سافلين

فتضمن السورة بيان ما بعث به هؤلاء الرسل الذين أقسم بأماكنهم والاقسام بمواضع محنهم تعظيم لهم فإن موضع الانسان إذا عظم لأجله كان هو أحق التعظيم ولهذا يقال في الكاتبات إلى المجلس والمقر ونحو ذلك السامي والعالي ويذكر بخضوع له وتعظيم والمراد صاحبه

فلما قال فما يكذبك بعد بالدين دل على أن ما تقدم قد بين فيه ما يمنع التكذيب بالدين

وفي قوله يكذبك قولان قيل هو خطاب للإنسان كما قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ولم يذكر البغوي غيره قال عكرمة يقول فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك وعن مقاتل فما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء وزعم أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة

والثاني أنه خطاب للرسول وهذا أظهر فإن الانسان إنما ذكر مخبرا عنه لم يخاطب والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن والخطاب في هذه السور له كقوله وما ودعك ربك وما قلى وقوله ألم نشرح لك صدرك وقوله اقرأ باسم ربك

والانسان إذا خوطب قيل له يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا

وأيضا فبتقدير أن يكون خطابا للانسان يجب أن يكون خطابا للجنس كقوله يا أيها الانسان أنك كادح وعلى قول هؤلاء أنما هو خطاب للكافر خاصة المكذب بالدين

وأيضا فان قوله يكذبك بالدين أي يجعلك كاذبا هذا هو المعروف من لغة العرب فإن استعمال كذب غيره أي نسبه إلى الكذب وجعله كاذبا مشهور والقرآن مملوء من هذا وحيث ذكر الله تكذيب المكذبين للرسل أو التكذيب بالحق ونحو ذلك فهذا مراده

لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال يكذبك بالدين فذكر المكذب بالدين فذكر المكذب والمكذب به جميعا وهذا قليل جاء نظيره في قوله فقد كذبوكم بما تقولون الفرقان 25 19 فأما أكثر المواضع فإنما يذكر أحدهما اما المكذب كقوله كذبت قوم نوح المرسلين وأما المكذب به كقوله بل كذبوا بالساعة وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل

ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للانسان وفسر معنى قوله فما يكذبك فما يجعلك مكذبا

وعبارة آخرين فما يجعلك كذابا قال ابن عطية وقال جمهور من المفسرين المخاطب الانسان الكافر أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين تجعل لله أندادا وتزعم أنه لا بعث بعد هذه الدلائل

قلت وكلا القولين غير معروف في لغة العرب أن يقول كذبك أي جعلك مكذبا بل كذبك جعلك كذابا

وما قيل جعلك كاذبا أي كاذبا فيما يخبر به كما جعل الكفار الرسل كاذبين فيما أخبروا به فكذبوهم وهذا يقول جعلك كاذبا بالدين فجعل كذبه أنه أشرك وأنه أنكر المعاد وهذا ضد الذي ينكر ذاك جعله مكذبا بالدين وهذا جعله كاذبا بالدين والأول فاسد من جهة العربية والثاني فاسد من جهة المعنى فان الدين هو الجزاء الذي كذب به الكافر والكافر كذب به لم يكذب هو به

وأيضا فلا يعرف في الخبر أن يقال كذبت به بل يقال كذبته

وأيضا فالمعروف في كذبه أي نسبه إلى الكذب لا أنه جعل الكذب فيه فهذا كله تكلف لا يعرف في اللغة بل المعروف خلافه وهو لم يقل فما يكذبك ولا قال فما كذبك

ولهذا كان علماء العربية على القول الثاني قال ابن عطية واختلف في المخاطب بقوله فما يكذبك فقال قتادة والفراء والأخفش هو محمد قال الله له فما الذي يكذبك فيما تخبربه من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت

قال ويحتمل أن يكون على هذا التأويل جميع شرعه ودينه

قلت وعلى أن المخاطب محمد في المعنى قولان أحدهما قول قتادة قال فما يكذبك بعد بالدين أي استيقن فقد جاءك البيان من الله وهكذا رواه عنه ابن أبي حاتم باسناد ثابت

وكذلك ذكره المهدوي فما يكذبك بعد بالدين أي استيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين فالخطاب للنبي وقال معناه عن قتادة قال وقيل المعنى فما يكذبك أيها الشاك يعني الكفار في قدرة الله أي شيء يحملك على ذلك بعد ما تبين لك من قدرته قال وقال الفراء فمن يكذبك بالثواب والعقاب وهو اختيار الطبري

قلت هذا القول المنقول عن قتادة هو الذي أوجب نفور مجاهد عن أن يكون الخطاب للنبي كما روى الناس ومنهم ابن أبي حاتم عن الثوري عن منصور قال قلت لمجاهد فما يكذبك بعد بالدين عنى به النبي قال معاذ الله عني به الانسان

وقد أحسن مجاهد في تنزيه النبي أن يقال له فما يكذبك أي استيقن ولا تكذب فإنه لو قيل له لا تكذب لكان هذا من جنس أمره بالايمان والتقوى ونهيه عما نهى الله عنه وأما إذا قيل فما يكذبك بعد بالدين فهو لم يكذب بالدين بل هو الذي أخبر بالدين وصدق به لهو الذي جاء بالصدق وصدق به الزمر 39 33 فكيف يقال له ما يكذبك بعد بالدين فهذا القول فاسد لفظا ومعنى

واللفظ الذي رأيته مقولا بالاسناد عن قتادة ليس صريحا فيه بل يحتمل أن يكون أراد به خطاب الانسان فإنه قال فما يكذبك بعد بالدين قال استيقن فقد جاءك البيان وكل انسان مخاطب بهذا فإن كان قتادة أراد هذا فالمعنى صحيح

لكن هم حكوا عنه أن هذا خطاب للرسول وعلى هذا فهذا المعنى باطل فلا يقال للرسول فأي شيء يجعلك مكذبا بالدين وان ارتأت به النفس لأن هذا فيه دلائل تدل على فساده ولهذا استعاذ منه مجاهد

والصواب ما قاله الفراء والأخفش وغيرهما وهو الذي اختاره أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري وغيره من العلماء كما تقدم

وكذلك ذكره أبو الفرج بن الجوزي عن الفراء فقال انه خطاب للنبي والمعنى فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الانسان على ما وصفنا قاله الفراء

قال وأما الدين فهو الجزاء قلت وكذلك قل غير واحد كما روى ابن أبي حاتم عن النضر بن عربي فما يكذبك بعد بالدين أي بالحساب

ومن تفسير العوفي عن ابن عباس أي بحكم الله قلت قال بحكم الله لقوله أليس الله بأحكم الحاكمين وهو سبحانه يحكم بين المصدق بالدين والمكذب به

وعلى هذا قوله فما وصف للأشخاص ولم يقل فمن لأن ما يراد به الصفات دون الأعيان وهو المقصود كقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله لا أعبد ما تعبدون وقوله ونفس ما سواها كأنه قيل فما المكذب بالدين بعد هذا أي من هذه صفته ونعته هو جاهل ظالم لنفسه والله يحكم بين عباده فيما يختلفون فيه من هذا النبأ العظيم

وقوله بعد قد قيل انه بعد ما ذكر من دلائل الدين

وقد يقال لم يذكر الا الاخبار به وأن الناس نوعان في أسفل سافلين ونوع لهم أجر غير ممنون فقد ذكر البشارة والنذارة والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين

فمن كذبك بعد هذا فحكمة إلى الله أحكم الحاكمين وأنت قد بلغت ما وجب عليك تبليغه

وقوله فما يكذبك ليس نفيا للتكذيب فقد وقع بل قد يقال انه تعجب منه كما قال وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد الرعد 13 5

وقد يقال ان هذا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه كما يقال من فلان ومن يقول هذا الا جاهل لكنه ذكر بصيغة ما فإنها تدل على صفته وهي المقصودة اذ لا غرض في عينه كأنه قيل فأبي صنف وأي جاهل يكذبك بعد بالدين فإنه من الذين يردون إلى أسفل سافلين

وقوله أليس الله بأحكم الحاكمين يدل على أنه الحاكم بين المكذب بالدين والمؤمن به والأمر في ذلك له سبحانه وتعالى

والقرآن لا تنقضي عجائبه والله سبحانه بين مراده بيانا أحكمه لكن الاشتباه يقع على من لم يرسخ في علم الدلائل الدالة فان هذه السورة وغيرها فيها عجائب لا تنقضي

ومنها أن قوله فما يكذبك بعد بالدين ذكر فيه الرسول المكذب والدين المكذب به جميعا فإن السورة تضمنت الأمرين تضمنت الاقسام بأماكن الرسل المبينة لعظمتهم وما أتوا به من الآيات الدالة على دقهم الموجبة للايمان وهم قد أخبروا بالمعاد المذكور في هذه السورة

وقد أقسم الله عليه كما يقسم عليه في غير موضع وكما أمر نبيه أن يقسم عليه في مثل قوله زعم الذين كفروا أن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن التغابن 64 7 وقوله وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم سبأ 34 3

فلما تضمنت هذا وهذا ذكر نوعي التكذيب فقال فما يكذبك بعد بالدين والله سبحانه أعلم

وأيضا فإنه لا ذنب له في ذلك والقرآن مراده أن يبين أن هذا الرد جزاء على ذنوبه ولهذا قال إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات كما قال ان الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر العصر 103 2 و3

لكن هنا ذكر الخسر فقط فوصف المستثنين بأنه تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع الايمان والصلاح وهناك ذكر أسفل سافلين وهو العذاب والمؤمن المصلح لا يعذب وان كان قد ضيع أمورا خسرها لو حفظها لكان رابحا غير خاسر وبسط له موضع آخر

والمقصود هنا أنه سبحانه يذكر خلق الانسان مجملا ومفصلا

وتارة يذكر احياءه كقوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم اليه ترجعون البقرة 2 28 وهو كقول الخليل عليه السلام ربي الذي يحيى ويميت البقرة 2 258

فان خلق الحيوة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على القدرة والنعمة والحكمة. آخر كلام الشيخ على سورة والتين