خصائص ابن جني - الجزء الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

باب في فرق بين البدل والعوض جماع ما في هذا أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه. وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه والعوض لا يلزم فيه ذلك ألا تراك تقول في الألف من قام: إنها بدل من الواو التي هي عين الفعل ولا تقول فيها: إنها عوض منها وكذلك يقال في واو جُوَن وياء مِيَر: إنها بدل للتخفيف من همزة جؤن ومئر ولا تقول: إنها عوض منها. وكذلك تقول في لام غاز وداع: إنها بدل من الواو ولا تقول: إنها عوض منها. وتقول في العوض: إن التاء في عدة وزنة عوض من فاء الفعل ولا تقول: إنها بدل من منها. فإن قلت: ذاك فما أقله! وهو تجوز في العبارة. وسنذكر لم ذلك. وتقول في ميم " اللهم ": إنها عوض من " يا " في أوله ولا تقول: بدل. وتقول في تاء زنادقة: إنها عوض من ياء زناديق ولا تقول: بدل. وتقول في ياء " أينق ": إنها عوض من عين " أنوق " فيمن جعلها أيفل ومن جعلها عيناً مقدمة مغيرة إلى الياء جعلها بدلاً من الواو. فالبدل أعم تصرفاً من العوض. فكل عوض بدل وليس كل بدل عوضاً. وينبغي أن تعلم أن العوض من لفظ " عَوضُ " - وهو الدهر - ومعناه قال الأعشى: والتقؤهما أن الدهر إنما هو مرور الليل والنهار وتصرم أجزائهما فكلما مضى جزء منه خلفه جزء آخر يكون عوضاً منه. فالوقت الكائن الثاني غير الوقت الماضي الأول. فلهذا كان العوض أشد مخالفة للمعوض منه من البدل. وقد ذكرت في موضع من كلامي مفرد اشتقاق أسماء الدهر والزمان وتقصيته هناك. وأتيت أيضاً في كتابي الموسوم ب " التعاقب " على كثير من هذا الباب ونهجت الطريق إلى ما أذكره بما نبهت به عليه.

باب في الاستغناء بالشيء عن الشيء 

قال سيبويه: واعلم أن العرب قد تستغني بالشيء عن الشيء حتى يصير المستغنى عنه مسقطاً من كلامهم البتة. فمن ذلك استغناؤهم بترك عن " ودع " و " وذر ". فأما قراءة بعضهم " ما ودَعك ربك وما قلى " وقول أبي الأسود " حتى وَدَعه " فلغة شاذة وقد تقدم القول عليها. ومن ذلك استغناؤهم بلمحة عن ملمحة وعليها كسرت ملامح وبشبه عن مشبه وعليه جاء مشابه وبليلة عن ليلاة وعليها جاءت ليال وعلى أن ابن الأعرابي قد أنشد: في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ راه يا ويحه من جمل ما أشقاه! وهذا شاذ لم يسمع إلا من هذه الجهة. وكذلك استغنوا بذكر عن مذكار أو مذكير وعليه جاء مذاكير. وكذلك استغنوا ب " أينق " عن أن يأتوا به والعين في موضعها فألزموه القلب أو الإبدال فلم يقولوا " أنوق " إلا في شيء شاذ حكاه الفراء. وكذلك استغنوا بقسي عن قووس فلم يأت إلا مقلوباً. ومن ذلك استغناؤهم بجمع القلة عن جمع الكثرة نحو قولهم أرجل لم يأتوا فيه بجمع الكثرة. وكذلك شسوع: لم يأتوا فيه بجمع القلة. وكذلك أيام: لم يستعملوا فيه جمع الكثرة. فأما جيران فقد أتوا فيه بمثال القلة أنشد الأصمعي: مذمة الأجوار والحقوق وذكره أيضاً ابن الأعرابي فيما أحسب. فأما دراهم ودنانير ونحو ذلك - من الرباعي وما ألحق به - فلا سبيل فيه إلى جمع القلة. وكذلك اليد التي هي العضو قالوا فيها أيد البتة. فأما أياد فتكسير أيد لا تكسير يد وعلى أن " أياد " أكثر ما تستعمل في النعم لا في الأعضاء. وقد جاءت أيضاً فيها أنشد أبو الخطاب: ساءها ما تأملت في أيادي نا وإشناقُها إلى الأعناق وأنشد أبو زيد: أما واحداً فكفاك مثلي فمن ليد تطاوحها الأيادي ومن أبيات المعاني في ذلك قوله: ومستامة تستام وهي رخيصة تباع بساحات الأيادي وتمسح " مستامة " يعني أرضاً تسوم فيها الإبل من السير لا من السوم الذي هو البيع و " تباع " أي تمد فيها الإبل أبواعها وأيديها و " تمسح " من المسح وهو القطع من قول الله تبارك وتعالى " فطفق مسحاً بالسوق والأعناق " وقال العجاج: وخطرت فيه الأيادي وخطر رايٌ إذا أورده الطعن صدر وقال الراجز: كأنه بالصحصحان الأنجل قطنٌ سخامٌ بأيادي غُزَّل ومن ذلك استغناؤهم بقولهم: ما أجود جوابه عن " هو أفعل منك " من الجواب. فأما قولهم: ما أشد سواده وبياضه وعوره وحوله فما لا بد منه. ومنه أيضاً استغناؤهم باشتد وافتقر عن قولهم: فقر وشد. وعليه جاء فقير. فأما شد فحكاها أبو زيد في المصادر ولم يحكها سيبويه. ومن ذلك استغناؤهم عن الأصل مجرداً من الزيادة بما استعمل منه حاملاً للزيادة وهو صدر صالح من اللغة. وذلك قولهم " حوشب " هذا لم يستعمل منه " حشب " عارية من الواو الزائدة ومثله " كوكب " ألا ترى أنك لا تعرف في الكلام " حشب " عارياً من الزيادة ولا " ككب " ومنه قولهم " دَودَرَّي " لأنا لا نعرف " ددر " ومثله كثير في ذوات الأربعة. وهو في الخمسة أكثر منه في الأربعة. فمن الأربعة فلنقس وصرنفح وسميدع وعميثل وسرومط وجحجبي وقسقبّ وقسحبّ وهرشفّ ومن ذوات الخمسة جعفليق وحنبريت ودردبيس وعضرفوط وقرطبوس وقرعبلانة وفنجليس. فأما عرطليل - وهو رباعي - فقد استعمل بغير زيادة قال أبو النجم: في سرطم هادٍ وعنقٍ عرطل وكذلك خنشليل ألا ترى إلى قولهم: خنشلت المرأة والفرس إذا أسنت وكذلك عنتريس ألا ترى أنه من العترسة وهي الشدة. فأما قِنفَخر فإن النون فيه زائدة. وقد حذفت - لعمري - في قولهم: امرأة قفاخرية إذا كانت فائقة في معناها غير أنك وإن كنت قد حذفت النون فإنك قد صرت إلى زيادة أخرى خلفتها وشغلت الأصل شغلها وهي الألف وياء الإضافة. فأما تاء التأنيث فغير معتدة. وأما حيزبون فرباعي لزمته زيادة الواو. فإن قلت: فهلا جعلته ثلاثياً من لفظ الحزب قيل يفسد هذا أن النون في موضع زاي عيضموز فيجب لذلك أن تكون أصلاً كجيم " خيسفوج " وأما " عريقصان " فتناوبته زيادتان وهما الياء في عريقصان والنون في " عرنقصان " كلاهما يقال بالنون والياء. فأما " عِزويت " فمن لفظ " عزوت " لأنه " فِعليت " والواو لام. وأما " قنديل " فكذلك أيضاً ألا ترى إلى قول العجلي: رُكب في ضخم الذفاري قندل وأما عَلَندى فتناهبته الزوائد. وذلك أنهم قد قالوا فيه: عِلوَدٌ وعُلادى وعُلَندًى وعَلَندًى ألا ولزوم الزيادة لما لزمته من الأصول يضعف تحقير الترخيم لأن فيه حذفاً للزوائد. وبإزاء ذلك ما حذف من الأصول كلام يد ودم وأب وأخ وعين سهٍ ومذ وفاء عدة وزنة وناس والله في أقوى قولي سيبويه. فإذا جاز حذف الأصول فيما أرينا وغيره كان حذف الزوائد التي ليست لها حرمة الأصول أحجى وأحرى. وأجاز أبو الحسن أظننت زيداً عمراً عاقلاً ونحو ذلك وامتنع منه أبو عثمان وقال: استغنت العرب عن ذلك بقولهم: جعلته يظنه عاقلاً. ومن ذلك استغناؤهم بواحد عن اثنٍ وباثنين عن واحدين وبستة عن ثلاثتين وبعشرة عن خمستين وبعشرين عن عشرتين ونحو ذلك.

باب في عكس التقدير 

هذا موضع من العربية غريب. وذلك أن تعتقد في أمر من الأمور حكماً ما وقتاماً ثم تحور في ذلك الشيء عينه في وقت آخر فتعتقد فيه حكماً آخر. من ذلك الحكاية عن أبي عبيدة. وهو قوله: ما رأيت أطرف من أمر النحويين يقولون: إن علامة التأنيث لا تدخل على علامة التأنيث وهم يقولون " علقاة " وقد قال العجاج: فكر في علقي وفي مكور يريد أبو عبيدة أنه قال " في علقي " فلم يصرف التأنيث ثم قالوا مع هذا " علقاة " أي فألحقوا تاء التأنيث ألفه. قال أبو عثمان: كان أبو عبيدة أجفى من أن يعرف هذا. وذلك أن من قال " علقاة " فالألف عنده للإلحاق بباب جعفر كألف " أرطى " فإذا نزع الهاء أحال اعتقاده الأول عما كان عليه وجعل الألف للتأنيث فيما بعد فيجعلها للإلحاق مع تاء التأنيث وللتأنيث إذا فقد التاء. ولهذا نظائر. هي قولهم: بُهمي وبُهماة وشكاعى وشكاعاة وباقلى وباقلاة ونقاوى ونقاواة وسمانى وسماناة. ومثل ذلك من الممدود قولهم: طرفاء وطرفاءة وقصباء وقصباءة وحلفاء وحلفاءة وباقلاء وباقلاءة. فمن قال: " طرفاء " فالهمزة عنده للتأنيث ومن قال: " طرفاءة " فالتاء عنده للتأنيث وأما الهمزة على قوله فزيادة لغير التأنيث. وأقوى القولين فيها عندي أن تكون همزة مرتجلة غير منقلبة لأنها إذا كانت منقلبة في هذا المثال فإنها عن ألف التأنيث لا غير نحو صحراء وصلفاء وخبراء والحرشاء. وقد يجوز أن تكون منقلبة عن حرف لغير الإلحاق فتكون - في الانقلاب لا في الإلحاق - كألف علباء وحرباء. وهذا مما يؤكد عندك حال الهاء ألا ترى أنها إذا لحقت اعتقدت فيما قبلها حكماً ما فإن لم تلحق حار الحكم إلى غيره. ونحو منه قولهم: الصفنة والصفن والرضاع والرضاعة وهو صفو الشيء وصفوته وله نظائر قد ذكرت ومنه البرك والبركة للصدر. ومن ذلك قولنا: كان يقوم زيد ونحن نعتقد رفع " زيد " ب " كان " ويكون " يقوم " خبراً مقدماً عليه. فإن قيل: ألا تعلم أن " كان " إنما تدخل على الكلام الذي كان قبلها مبتدأ وخبراً وأنت إذا قلت: يقوم زيد فإنما الكلام من فعل وفاعل فكيف ذلك فالجواب أنه لا يمتنع أن يعتقد مع " كان " في قولنا: كان يقوم زيد أن زيداً مرتفع ب " كان " وأن " يقوم " مقدم عن موضعه فإذا حذفت " كان " زال الاتساع وتأخر الخبر الذي هو " يقوم " فصار بعد " زيد " كما أن ألف " علقاة " للإلحاق فإذا حذفت الهاء استحال التقدير فصارت للتأنيث حتى قال: على ذا تأوله أبو عثمان ولم يحمله على أنهما لغتان. وأظنه إنما ذهب إلى ذلك لما رآه قد كثرت نظائره نحو سمانى وسماناة وشكاعى وشكاعاة وبهمى وبهماة. فألف " بهمى " للتأنيث وألف " بهماة " زيادة لغير الإلحاق كألف قبعثرى وضبغطرى. ويجوز أن تكون للإلحاق بجخدب على قياس قول أبي الحسن الأخفش إلا أنه إلحاق اختص مع التأنيث ألا ترى أن أحداً لا ينون " بهمى " فعلى ذلك يكون الحكم على قولنا: كان يقوم زيد ونحن نعتقد أن زيداً مرفوع بكان. ومن ذلك ما نعتقده في همزاء حمراء وصفراء ونحوهما أنهما للتأنيث فإن ركبت الاسم مع آخر قبله حرت عن ذلك الاستشعار والتقدير فيها واعتقدت غيره. وذلك أن تركب مع " حمراء " اسماً قبلها فتجعلهما جميعاً كاسم واحد فتصرف " حمراء " حينئذ. وذلك قولك: هذا دار حمراء ورأيت دار حمراء ومررت بدار حمراء وكذلك هذا كلبصفراء ورأيت كلبصفراء ومررت بكلبصفراء - فلا تصرف الاسم للتعريف والتركيب كحضرموت. فإن نكرت صرفت فقلت: رب كلبصفراءٍ مررت به - وكلبصفراء آخر. فتصرف في النكرة وتعتقد في هذه الهمزة مع التركيب أنها لغير التأنيث وقد كانت قبل التركيب له. ونحو من ذلك ما نعتقده في الألفات إذا كن في الحروف والأصوات أنها غير منقلبة وذلك نحو ألف لا وما وألف قاف وكاف ودال وأخواتها وألف على وإلى ولدى وإذا فإن نقلتها فجعلتها أسماء أو اشتققت منها فعلاً استحال ذلك التقدير واعتقدت فيها ما تعتقده في المنقلب. وذلك قولك: مويت إذا كتبت " ما " ولويت إذا كتبت " لا " وكوفت كافاً حسنة ودولت دالاً جيدة وزويت زاياً قوية. ولو سميت رجلاً ب " على " أو " إلى " أو " لدى " أو " ألا " أو " إذا " لقلت في التثنية: عَلَوان وإلَوان ولَدَوان وأَلَوان وإذَوَان فاعتقدت في هذه الألفات مع التسمية بها وعند الاشتقاق منها الانقلاب وقد كانت قبل ذلك عندك غير منقلبة. وأغرب من ذلك قولك: بأبي أنت!. فالباء في أول الاسم حرف جر بمنزلة اللام في قولك: لله أنت! فإذا اشتققت منه فعلاً اشتقاقاً صوتياً استحال ذلك التقدير فقلت: بأبأت به بئباء وقد أكثرت من البأبأة. فالباء الآن في لفظ الأصل وإن كنا قد أحطنا علماً بأنها فيما اشتقت منه زائدة للجر. ومثال البِئباء على هذا الفعلال كالزلزال والقلقال والبأبأة الفعللة كالقلقلة والزلزلة وعلى هذا اشتقوا منهما " البئب " فصار فعلاً من باب سلس وقلق قال: يا بأبي أنت ويا فوق البئب! فالبئب الآن بمنزلة الضلع والعنب والقمع والقرب. ومن ذلك قولهم: القرنوة للنبت وقالوا: قرنيت السقاء إذا دبغته بالقرنوة فالياء في قرنيت الآن للإلحاق بمنزلة ياء سلقيت وجعبيت وإنما هي بدل من واو " قرنوة " التي هي لغير الإلحاق. وسألني أبو علي - رحمه الله - عن ألف " يا " من قوله - فيما أنشده أبو زيد -: فخيرٌ نحن عند الناس منكم إذا الداعي المثوب قال يا لا فقال: أمنقلبة هي قلت: لا لأنها في حرف أعني " يا " فقال: بل هي منقلبة. فاستدللته على ذلك فاعتصم بأنها قد خلطت باللام بعدها ووقف عليها فصارت كأنها جزء منها فصارت " يال " بمنزلة قال والألف في موضع العين وهي مجهولة فينبغي أن يحكم عليها بالانقلاب عن الواو. هذا جمل ما قاله ولله هو وعليه رحمته فما كان أقوى قياسه وأشد بهذا العلم اللطيف الشريف أنسه. فكأنه إنما كان مخلوقاً له. وكيف كان لا يكون كذلك وقد أقام على هذه الطريقة مع جلة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة زائحة علله ساقطة عنه كلفه وجعله همه وسدمه لا يعتاقه عنه ولد ولا يعارضه فيه متجر ولا يسوم به مطلباً ولا يخدم به رئيساً إلا بأخرة وقد حط من أثقاله وألقى عصا ترحاله! ثم إني - ولا أقول إلا حقاً - لأعجب من نفسي في وقتي هذا كيف تطوع لي بمسئلة أم كيف تطمح بي إلى انتزاع علة! مع ما الحال عليه من علق الوقت وأشجانه وتذاؤبه وخلج أشطانه ولولا معازة الخاطر واعتناقه ومساورة الفكر واكتداده لكنت عن هذا الشأن بمعزل وبأمر سواه على شغل. وقال لي مرة رحمه الله بهذه الانتقالات: كما جاز إذا سميت ب " ضرب " أن تخرجه من البناء إلى الإعراب كذلك يجوز أيضاً أن تخرجه من جنس إلى جنس إذا أنت نقلته من موضعه إلى غيره. ومن طريف ما ألقاه - رضي الله تعالى عنه - علي أنه سألني يوماً عن قولهم هات لا هاتيت فقال " ما هاتيت " فقلت: فاعلت فهات من هاتيت كعاط من عاطيت فقال: أشيء آخر فلم يحضر إذ ذاك فقال أنا أرى فيه غير هذا. فسألته عنه فقال: يكون فعليت قلت: ممه قال: من الهوتة وهي المنخفض من الأرض - قال: وكذلك " هيت " لهذا البلد لأنه منخفض من الأرض - فأصله هوتيت ثم أبدلت الواو التي هي عين فعليت وإن كانت ساكنة كما أبدلت في ياجل وياحل فصار هاتيت وهذا لطيف حسن. على أن صاحب العين قد قال: إن الهاء فيه بدل من همزة كهرقت ونحوه. والذي يجمع بين هاتيت وبين الهوتة حتى دعا ذلك أبا علي إلى ما قال به أن الأرض المنخفضة تجذب إلى نفسها بانخفاضها. وكذلك قولك: هات إنما هو استدعاء منك للشيء واجتذابه إليك. وكذلك صاحب العين إنما حمله على اعتقاد بدل الهاء من الهمزة أنه أخذه من أتيت الشيء والإتيان ضرب من الانجذاب إلى الشيء. والذي ذهب إليه أبو علي في " هاتيت " غريب لطيف. ومما يستحيل فيه التقدير لانتقاله من صورة إلى أخرى قولهم " هلممت " إذا قلت: هلم. فهلممت الآن كصعررت وشمللت وأصله قبل غير هذا إنما هو أول " ها " للتنبيه لحقت مثال الأمر للمواجه توكيداً. وأصلها ها لُمَّ فكثر استعمالها وخلطت " ها " ب " لم " توكيداً للمعنى لشدة الاتصال فحذفت الألف لذلك ولأن لام " لم " في الأصل ساكنة ألا ترى أن تقديرها أول " المم " وكذلك يقولها أهل الحجاز ثم زال هذا كله بقولهم " هلممت " فصارت كأنها فعللت من لفظ " الهلمام " وتنوسيت حال التركيب. وكأن الذي صرفهما جميعاً عن ظاهر حاله حتى دعا أبا علي إلى أن جعله من " الهوتة " وغيره من لفظ أتيت عدم تركيب ظاهره ألا ترى أنه ليس في كلامهم تركيب " ه ت و " ولا " ه ت ي " فنزلا جميعاً عن بادي أمره إلى لفظ غيره. فهذه طريق اختلاف التقدير وهي واسعة غير أني قد نبهت عليها فأمض الرأي والصنعة فيما يأتي منها. ومن لفظ " الهوتة " ومعناها قولهم مضى هيتاء من الليل وهو فعلاء منه ألا تراهم قالوا: قد تهور الليل ولو كسرت " هيتاء " لقلت " هواتي " وقريب من لفظه ومعناه قول الله سبحانه {هَيْتَ لَكَ} إنما معناه هلم لك وهذا اجتذاب واستدعاء له قال: أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا

باب في الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى 

هذا الموضع كثيراً ما يستهوي من يضعف نظره إلى أن يقوده إلى إفساد الصنعة. وذلك كقولهم في تفسير قولنا " أهلَكَ والليلَ " معناه الحق أهلك قبل الليل فربما دعا ذاك من لا دربة له إلى أن يقول " أهلك والليل " فيجره وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليل. وكذلك قولنا زيد قام: ربما ظن بعضهم أن زيداً هنا فاعل في الصنعة كما أنه فاعل في المعنى. وكذلك تفسير معنى قولنا: سرني قيام هذا وقعود ذاك بأنه سرني أن قام هذا وأن قعد ذاك ربما اعتقد في هذا وذاك أنهما في موضع رفع لأنهما فاعلان في المعنى. ولا تستصغر هذا الموضع فإن العرب أيضاً قد مرت به وشمت روائحه وراعته. وذلك أن الأصمعي أنشد في جملة أراجيزه شعراً من مشطور السريع طويلاً ممدوداً مقيداً التزم الشاعر فيه أن جعل قوافيه كلها في موضع جر إلا بيتاً واحداً من الشعر: يستمسكون من حذار الإلقاء بتلعات كجذوع الصيصاء رِدِي رِدِي وِردَ قطاة صماء كدرية أعجبها برد الماء كأنها وقد رآها الرؤاء والذي سوغه ذاك - على ما التزمه في جميع القوافي - ما كنا على سمته من القول. وذلك أنه لما كان معناه: كأنها في وقت رؤية الرؤاء تصور معنى الجر من هذا الموضع فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات وكأنه لذلك لم يخالف. ونظير هذا عندي قول طرفة: في جفان تعتري نادينا وسديف حين هاج الصِنَّبِر يريد الصِنَّبر فاحتاج للقافية إلى تحريك الباء فتطرق إلى ذلك بنقل حركة الإعراب إليها تشبيهاً بباب قولهم: هذا بكر ومررت ببكر وكان يجب على هذا أن يضم الباء فيقول: الصَنَّبُر لأن الراء مضمومة إلا أنه تصور معنى إضافة الظرف إلى الفعل فصار إلى أنه كأنه قال: حين هيج الصنبر فلما احتاج إلى حركة الباء تصور معنى الجر فكسر الباء وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها. ولولا ما أوردته في هذا لكان الضم مكان الكسر. وهذا أقرب مأخذاً من أن تقول: إنه حرّف القافية للضرورة كما حرفها الآخر في قوله: هل عرفت الدار أم أنكرتها بين تبراك فشسَّى عبقُر وما دمية من دمى ميسنا ن معجبة نظراً واتصافا أراد - فيما قيل - ميسان فزاد النون ضرورة فهذا - لعمري - تحريف بتعجرف عار من الصنعة. والذي ذهبت أنا إليه هناك في " الصنبِر " ليس عارياً من الصنعة. فإن قلت: فإن الإضافة في قوله " حين هاج الصنبر " إنما هي إلى الفعل لا إلى الفاعل فكيف حرفت غير المضاف إليه قيل الفعل مع الفاعل كالجزء الواحد وأقوى الجزأين منهما هو الفاعل فكأن الإضافة إنما هي إليه لا إلى الفعل فلذلك جاز أن يتصور فيه معنى الجر. فإن قيل: فأنت إذا أضفت المصدر إلى الفاعل جررته في اللفظ واعتقدت مع هذا أنه في المعنى مرفوع فإذا كان في اللفظ أيضاً مرفوعاً فكيف يسوغ لك بعد حصوله في موضعه من استحقاقه الرفع لفظاً ومعنى أن تحور به فتتوهمه مجروراً قيل هذا الذي أردناه وتصورناه هو مؤكد للمعنى الأول لأنك كما تصورت في المجرور معنى الرفع كذلك تممت حال الشبه بينهما فتصورت في المرفوع معنى الجر. ألا ترى أن سيبويه لما شبه الضارب الرجل بالحسن الوجه وتمثل ذلك في نفسه ورسا في تصوره زاد في تمكين هذه الحال له وتثبيتها عليه بأن عاد فشبه الحسن الوجه بالضارب الرجل في الجر كل ذلك تفعله العرب وتعتقده العلماء في الأمرين ليقوى تشابههما وتعمر ذات بينهما ولا يكونا على حرد وتناظر غير مجد فاعرف هذا من ومن ذلك قولهم في قول العرب: كل رجل وصنعته وأنت وشأنك: معناه أنت مع شأنك وكل رجل مع صنعته فهذا يوهم من أمم أن الثاني خبر عن الأول كما أنه إذا قال أنت مع شأنك فإن قوله " مع شأنك " خبر عن أنت. وليس الأمر كذلك بل لعمري إن المعنى عليه غير أن تقدير الأعراب على غيره. وإنما " شأنك " معطوف على " أنت " والخبر محذوف للحمل على المعنى فكأنه قال: كل رجل وصنعته مقرونان وأنت وشأنك مصطحبان. وعليه جاء العطف بالنصب مع أن قال: أغار على معزاي لم يدر أنني وصفراء منها عبلة الصفوات ومن ذلك قولهم أنت ظالم إن فعلت ألا تراهم يقولون في معناه: إن فعلت فأنت ظالم فهذا ربما أوهم أن " أنت ظالم " جواب مقدم ومعاذ الله أن يقدم جواب الشرط عليه وإنما قوله " أنت ظالم " دال على الجواب وساد مسده فأما أن يكون هو الجواب فلا. ومن ذلك قولهم في عليك زيداً: إن معناه خذ زيداً وهو - لعمري - كذلك إلا أن " زيداً " الآن إنما هو منصوب بنفس " عليك " من حيث كان اسماً لفعل متعد لا أنه منصوب ب " خذ ". ألا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى فإذا مر بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه وإن كان تقدير الإعراب مخالفاً لتفسير المعنى تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه وصححت طريق تقدير الإعراب حتى لا يشذ شيء منها عليك وإياك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه ألا تراك تفسر نحو قولهم: ضربت زيداً سوطاً أن معناه ضربت زيداً ضربة بسوط. وهو - لا شك - كذلك ولكن طريق إعرابه أنه على حذف المضاف أي ضربته ضربة سوط ثم حذفت الضربة على عبرة حذف المضاف. ولو ذهبت تتأول ضربته سوطاً على أن تقدير إعرابه: ضربة بسوط كما أن معناه كذلك للزمك أن تقدر أنك حذفت الباء كما تحذف حرف الجر في نحو قوله: أمرتك الخير وأستغفر الله ذنباً فتحتاج إلى اعتذار من حذف حرف الجر وقد غنيت عن ذلك كله بقولك: إنه على حذف المضاف أي ضربة سوط ومعناه ضربة بسوط فهذا - لعمري - معناه فأما طريق إعرابه وتقديره فحذف المضاف.

باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به 

إلا أن يعترض هناك من صناعة اللفظ ما يمنع منه من ذلك أن ترى رجلاً قد سدد سهماً نحو الغرض ثم أرسله فتسمع صوتاً فتقول: القرطاس والله أي أصاب القرطاس. ف " أصاب " الآن في حكم الملفوظ به البتة وإن لم يوجد في اللفظ غير أن دلالة الحال عليه نابت مناب اللفظ به. وكذلك قولهم لرجل مهو بسيف في يده: زيداً أي اضرب زيداً. فصارت شهادة الحال بالفعل بدلاً من اللفظ به. وكذلك قولك للقادم من سفر: خير مقدم أي قدمت خير مقدم وقولك: قد مررت برجل إن زيداً وإن عمراً أي إن كان زيداً وإن كان عمراً وقولك للقادم من حجه: مبرور مأجور أي أنت مبرور مأجور ومبروراً مأجوراً أي قدمت مبروراً مأجوراً وكذلك قوله: رسم دار وقفت في طلله كدت أقضي الغداة من جلله أي رب رسم دار. وكان رؤبة إذا قيل له كيف أصبحت يقول: خير عافاك الله - أي بخير - يحذف الباء لدلالة الحال عليها بجري العادة والعرف بها. وكذلك قولهم: الذي ضربت زيد تريد الهاء وتحذفها لأن في الموضع دليلاً عليها. وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وهي قوله سبحانه " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ " ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخف وألطف وذلك أن لحمزة أن يقول لأبي العباس: إنني لم أحمل " الأرحام " على العطف على المجرور المضمر بل اعتقدت أن تكون فيه باء ثانية حتى كأني قلت: " وبالأرحام " ثم حذفت الباء لتقدم ذكرها كما حذفت لتقدم ذكرها في نحو قولك: بمن تمرر أمرر وعلى من تنزل أنزل ولم تقل: أمرر به ولا أنزل عليه لكن حذفت الحرفين لتقدم ذكرهما. وإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجر لدلالة ما قبله عليه " مع مخالفته له في الحكم " في قوله: وإني من قوم بهم يتقى العدا ورأب الثأى والجانب المتخوف أراد: وبهم رأب الثأى فحذف الباء في هذا الموضع لتقدمها في قوله: بهم يتقى العدا وإن كانت حالاهما مختلفتين. ألا ترى أن الباء في قوله " بهم يتقى العدا " منصوبة الموضع لتعلقها بالفعل الظاهر الذي هو يتقى كقولك: بالسيف يضرب زيد والباء في قوله: " وبهم رأب الثأى " مرفوعة الموضع عند قوم وعلى كل حال فهي متعلقة بمحذوف ورافعه الرأب - ونظائر هذا كثيرة - كان حذف الباء من قوله " والأرحام " لمشابهتها الباء في " به " موضعاً وحكماً أجدر وقد أجازوا تباً له وويل على تقدير وويل له فحذفوها وإن كانت اللام في " تباً له " لا ضمير فيها وهي متعلقة بنفس " تباً " مثلها في هلم لك وكانت اللام في " ويل له " خبراً ومتعلقة بمحذوف وفيها ضمير فهذا عروض بيت الفرزدق. فإن قلت: فإذا كان المحذوف للدلالة عليه عندك بمنزلة الظاهر فهل تجيز توكيد الهاء المحذوفة في نحو قولك: الذي ضربت زيد فتقول: الذي ضربت نفسه زيد كما تقول: الذي ضربته نفسه زيد قيل: هذا عندنا غير جائز وليس ذلك لأن المحذوف هنا ليس بمنزلة المثبت بل لأمر آخر وهو أن الحذف هنا إنما الغرض به التخفيف لطول الاسم فلو ذهبت تؤكده لنقضت الغرض. وذلك أن التوكيد والإسهاب ضد التخفيف والإيجاز فلما كان الأمر كذلك تدافع الحكمان فلم يجز أن يجتمعا كما لا يجوز ادغام الملحق لما فيه من نقض الغرض. وكذلك قولهم لمن سدد سهماً ثم أرسله نحو الغرض فسمعت صوتاً فقلت: القرطاس والله أي أصاب القرطاس: لا يجوز توكيد الفعل الذي نصب " القرطاس ". لو قلت: إصابةً القرطاس فجعلت " إصابة " مصدراً للفعل الناصب للقرطاس لم يجز من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب وجعلت الحال المشاهدة دالة عليه ونائبة عنه فلو أكدته لنقضت الغرض لأن في توكيده تثبيتاً للفظه المختزل ورجوعاً عن المعتزم من حذفه واطراحه والاكتفاء بغيره منه. وكذلك قولك للمهوي بالسيف في يده: زيداً أي اضرب زيداً لم يجز أن تؤكد ذلك الفعل الناصب لزيد ألا تراك لا تقول: ضرباً زيداً وأنت تجعل " ضرباً " توكيداً لاضرب المقدرة من قبل أن تلك اللفظة قد أنيبت عنها الحال الدالة عليها وحذفت هي اختصاراً فلو أكدتها لنقضت القضية التي كنت حكمت بها لها لكن لك أن تقول: ضرباً زيداً لا على أن تجعل ضرباً توكيداً للفعل الناصب لزيد بل على أن تبدله منه فتقيمه مقامه فتنصب به زيداً فأما على التوكيد به لفعله وأن يكون زيد منصوباً بالفعل الذي هذا توكيد له فلا. فهذه الأشياء لولا ما عرض من صناعة اللفظ - أعني الاقتصار على شيء دون شيء - لكان توكيدها جائزاً حسناً لكن " عارض ما منع " فلذلك لم يجز لا لأن المحذوف ليس في تقدير الملفوظ به. ومما يؤكد لك أن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به إنشادهم قول الشاعر: قاتلي القوم يا خزاع ولا يأخذكم من قتالهم فشل فتمام الوزن أن يقال: فقاتلي القوم فلولا أن المحذوف إذا دل الدليل عليه بمنزلة المثبت لكان هذا كسراً لا زخافاً. وهذا من أقوى وأعلى ما يحتج به لأن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به البتة فاعرفه واشدد يدك به. وعلى الجملة فكل ما حذف تخفيفاً فلا يجوز توكيده لتدافع حاليه به من حيث التوكيد للإسهاب والإطناب والحذف للاختصار والإيجاز. فاعرف ذلك مذهباً للعرب. ومما يدلك على صحة ذلك قول العرب - فيما رويناه عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى -: " راكب الناقة طليحان " كذا رويناه هكذا وهو يحتمل عندي وجهين: أحدهما ما نحن عليه من الحذف فكأنه قال: راكب الناقة والناقة طليحان فحذف المعطوف لأمرين: أحدهما تقدم ذكر الناقة والشيء إذا تقدم ذكره دل على ما هو مثله. ومثله من حذف المعطوف قول الله عز وجل {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} أي فضرب فانفجرت. فحذف " فضرب " لأنه معطوف على قوله: " فقلنا ". وكذلك قول التغلبي: إذا ما الماء خالطها سخينا أي شربنا فسخينا. فكذلك قوله: راكب الناقة طليحان أي راكب الناقة والناقة طليحان. فإن قلت: فهلا كان التقدير على حذف المعطوف عليه أي الناقة وراكب الناقة طليحان قيل يبعد ذلك من وجهين: أحدهما أن الحذف اتساع والاتساع بابه آخر الكلام وأوسطه لا صدره وأوله ألا ترى أن من اتسع بزيادة " كان " حشواً أو آخراً لا يجيز زيادتها أولاً وأن من اتسع بزيادة " ما " حشواً وغير أول لم يستجز زيادتها أولاً إلا في شاذ من القول نحو قوله: وقد ما هاجني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تجاوبان فيمن رواه " وقدما " بزيادة " ما " على أنه يريد: وقد هاجني لا فيمن رواه فقال: " وقدماً هاجني " أي وقديماً هاجني. والآخر أنه لو كان تقديره: الناقة وراكب الناقة طليحان لكان قد حذف حرف العطف وبقي المعطوف به وهذا شاذ إنما حكى منه أبو عثمان عن أبي زيد: أكلت لحماً سمكاً تمراً وأنشد أبو الحسن: كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم وأنشد ابن الأعرابي: وكيف لا أبكي على علاتي صبائحي غبائقي قيلاتي وهذا كله شاذ ولعله جميع ما جاء منه. وأما على القول الآخر فإنه - لعمري - قد حذف حرف العطف مع المعطوف به وهذا ما لا بد منه ألا ترى أنه إذا حذف المعطوف لم يجز أن قد وعدتني أم عمرو أن تا تدهن رأسي وتفليني وا وتمسح القنفاء حتى تنتا فإنما جاز هذا لضرورة الشعر ولأنه أيضاً قد أعاد الحرف في أول البيت الثاني فجاز تعليق الأول بعد أن دعمه بحرف الإطلاق وأعاده فعرف ما أراد بالأول فجرى مجرى قوله: عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال الشحم إنا قد مللناه بجل فكما علق حرف التعريف مدعوماً بألف الوصل وأعاده فيما بعد فكذلك علق حرف العطف مدعوماً بحرف الإطلاق وأعاده فيما بعد. فإن قلت: فألف قوله " وا " ملفوظ بها وألف الوصل في قوله " بذا ال " غير ملفوظ بها قيل: لو ابتدأت اللام لم يكن من الهمزة بد. فإن قلت: أفيجوز على هذا " قام زيد وه وعمرو " فتجري هاء بيان الحركة ألف الإطلاق فإنه أضعف القياسين. وذلك أن ألف الإطلاق أشبه بما صيغ في الكلمة من هاء بيان الحركة ألا ترى إلى ما جاء من قوله: ولاعب بالعشي بني بنينه كفعل الهر يحترش العظايا فأبعده الإله ولا يؤبى ولا يسقى من المرض الشفايا - وقرأته على أبي علي: ولا يشفى - ألا ترى أن أبا عثمان قال: شبه ألف الإطلاق بتاء التأنيث أي فصحح اللام لها كما يصححها للهاء وليست كذلك هاء بيان الحركة لأنها لم تقو قوة تاء التأنيث أولا ترى أن ياء الإطلاق في قوله: . كله لم أصنعي قد نابت عن الضمير العائد حتى كأنه قال: لم أصنعه فلذلك كان " وا " من قوله " وتفليني وا " كأنه لاتصاله بالألف غير معلق. فإذا كان في اللفظ كأنه غير معلق وعاد من بعد معطوفاً به لم يكن هناك كبير مكروه فيعتذر منه. فإن قلت: فإن هاء بيان الحركة قد عاقبت لام الفعل نحو ارمه واغزه واخشه فهذا يقويها فإنه موضع لا يجوز أن يسوى به بينها وبين ألف الإطلاق. والوجه الآخر الذي لأجله حسن حذف المعطوف أن الخبر جاء بلفظ التثنية فكان ذلك دليلاً على أن المخبر عنه اثنان. فدل الخبر على حال المخبر عنه. إذ كان الثاني هو الأول. فهذا أحد وجهي ما تحتمله الحكاية. والآخر أن يكون الكلام محمولاً على حذف المضاف أي راكب الناقة أحد طليحين كما يحتمل ذلك قوله سبحانه {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي من أحدهما وقد ذهب فيه إليه فيما حكاه أبو الحسن. فالوجه الأول وهو ما كنا عليه: من أن المحذوف من اللفظ إذا دلت الدلالة عليه كان بمنزلة الملفوظ به ألا ترى أن الخبر لما جاء مثنى دل على أن المخبر عنه مثنى نقض المراتب إذا عرض عارض باب في نقض المراتب إذا عرض هناك عارض من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل في نحو ضرب غلامه زيداً. فهذا لم يمتنع من حيث كان الفاعل ليس رتبته التقديم وإنما امتنع لقرينة انضمت إليه وهي إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول وفساد تقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى. فلهذا وجب إذا أردت تصحيح المسئلة أن تؤخر الفاعل فتقول: ضرب زيداً غلامه وعليه قول الله سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وأجمعوا على أن ليس بجائز ضرب غلامه زيداً لتقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى. وقالوا في قول النابغة: جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات وقد فعل إن الهاء عائدة على مذكور متقدم كل ذلك لئلا يتقدم ضمير المفعول عليه مضافاً " إلى الفاعل " فيكون مقدماً عليه لفظاً ومعنى. وأما أنا فأجيز أن تكون الهاء في قوله: جزى ربه عني عدي بن حاتم عائدة على عدي خلافاً على الجماعة. فإن قيل: ألا تعلم أن الفاعل رتبته التقدم والمفعول رتبته التأخر فقد وقع كل منهما الموقع الذي هو أولى به فليس لك أن تعتقد في الفاعل وقد وقع مقدماً أن موضعه التأخير وإنما المأخوذ به في ذلك أن يعتقد في الفاعل إذا وقع مؤخراً أن موضعه التقديم فإذا وقع مقدماً فقد أخذ مأخذه ورست به قدمه. وإذا كان كذلك فقد وقع المضمر قبل مظهره لفظاً ومعنى. وهذا ما لا يجوزه القياس. قيل: الأمر وإن كان ظاهره ما تقوله فإن هنا طريقاً آخر يسوغك غيره وذلك أن المفعول قد شاع عنهم واطرد من مذاهبهم كثرة تقدمه على الفاعل حتى دعا ذاك أبا علي إلى أن قال: إن تقدم المفعول على الفاعل قسم أيضاً قائم برأسه وإن كان تقديم الفاعل أكثر وقد جاء به الاستعمال مجيئاً واسعاً نحو قول الله عز وجل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وقول ذي الرمة: أستحدث الركب من أشياعهم خبراً أم عاود القلب من أطرابه طرب وقول معقر بن حمار البارقي: أجد الركب بعد غد خفوف وأمست من لبانتك الألوف وقول دُرنى بنت عبعبة: وقول لبيد: فمدافع الريان عُرِّيَ رسمها خلقاً كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها ومن أبيات الكتاب: اعتاد قلبك من سلمى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل فقدم المفعول في المصراعين جميعاً وللبيد أيضاً: رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعد جودها فرهامها وله أيضاً: لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها وقال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وقال الآخر: أبعدك الله من قلب نصحت له في حب جمل ويأبى غير عصياني وقال المرقش الأكبر: لم يشج قلبي مِلحوادث إل لا صاحبي المتروك في تغلم وفيها: في باذخات من عماية أو يرفعه دون السماء خيم والأمر في كثرة تقديم المفعول على الفاعل في القرآن وفصيح الكلام متعالم غير مستنكر فلما كثر وشاع تقديم المفعول على الفاعل كان الموضع له حتى إنه إذا أخر فموضعه التقديم فعلى ذلك كأنه قال: جزى عديَّ بن حاتم ربُّه ثم قدم الفاعل على أنه قد قدره مقدماً عليه مفعوله فجاز ذلك ولا تستنكر هذا الذي صورته لك ولا يجف عليك فإنه مما تقبله هذه اللغة ولا تعافه ولا تتبشعه ألا ترى أن سيبويه أجاز في جر الوجه من قولك: هذا الحسن الوجهِ أن يكون من موضعين: أحدهما بإضافة الحسن إليه والآخر تشبيه له بالضارب الرجل هذا مع أنا قد أحطنا علماً بأن الجر في الرجل من قولك: هذا الضارب الرجل إنما جاءه وأتاه من جهة تشبيههم إياه بالحسن الوجه لكن لما اطرد الجر في نحو هذا الضارب الرجل والشاتم الغلام صار كأنه أصل في بابه حتى دع ذاك سيبويه إلى أن عاد " فشبه الحسن الوجه " بالضارب الرجل - من الجهة التي إنما صحت للضارب الرجل تشبيهاً بالحسن الوجه - وهذا يدلك على تمكن الفروع عندهم حتى إن أصولها التي أعطتها حكماً من أحكامها قد حارت فاستعادت من فروعها ما كانت هي أدته إليها وجعلته عطية منها لها فكذلك أيضاً يصير تقديم المفعول لما استمر وكثر كأنه هو الأصل وتأخير الفاعل كأنه أيضاً هو الأصل. فإن قلت إن هذا ليس مرفوعاً إلى العرب ولا محكياً عنها أنها رأته مذهباً وإنما هو شيء رآه سيبويه واعتقده قولاً ولسنا نقلد سيبويه ولا غيره في هذه العلة ولا غيرها فإن الجواب عن هذا حاضر عتيد والخطب فيه أيسر وسنذكره في باب يلي هذا بإذن الله. ويؤكد أن الهاء في " ربه " لعدي بن حاتم من جهة المعنى عادة العرب في الدعاء ألا تراك لا تكاد تقول: جزى رب زيد عمراً وإنما يقال: جزاك ربك خيراً أو شراً. وذلك أوفق لأنه إذا كان مجازيه ربه كان أقدر على جزائه وأملأ به. ولذلك جرى العرف بذلك فاعرفه. ومما نقضت مرتبته المفعول في الاستفهام والشرط فإنهما يجيئان مقدمين على الفعلين الناصبين لهما وإن كانت رتبة المعمول أن يكون بعد العامل فيه. وذلك قوله سبحانه وتعالى {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ف " أي منقلب " منصوب على المصدر ب " ينقلبون " لا ب " سيعلم " وكذلك قوله تعالى " أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي " وقال {أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} فهذا ونحوه لم يلزم تقديمه من حيث كان مفعولاً. وكيف يكون ذلك وقد قال عز اسمه {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} وقال تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} وقال {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} وقال {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وهو ملء الدنيا كثرة وسعة لكن إنما وجب تقديمه لقرينة انضمت إلى ذلك وهي وجوب تقدم الأسماء المستفهم بها والأسماء المشروط بها. فهذا من النقض العارض. ومن ذلك وجوب تأخير المبتدأ إذا كان نكرة وكان الخبر عنه ظرفاً نحو قولهم: عندك مال وعليك دين وتحتك بساطان ومعك ألفان. فهذه الأسماء كلها مرفوعة بالابتداء ومواضعها التقديم على الظروف قبلها التي هي أخبار عنها إلا أن مانعاً منع من ذلك حتى لا تقدمها عليها ألا ترى أنك لو قلت: غلام لك أو بساطان تحتك ونحو ذلك لم يحسن لا لأن المبتدأ ليس موضعه التقديم لكن لأمر حدث وهو كون المبتدأ هنا نكرة ألا تراه لو كان معرفة لاستمر وتوجه تقديمه فتقول: البساطان تحتك والغلام لك. أفلا ترى أن ذلك إنما فسد تقديمه لما ذكرناه: من قبح تقديم المبتدأ نكرة في الواجب ولكن لو أزلت الكلام إلى غير الواجب لجاز تقديم النكرة كقولك: هل غلام عندك وما بساط تحتك فجنيت الفائدة من حيث كنت قد أفدت بنفيك عنه كون البساط تحته واستفهامك عن الغلام: أهو عنده أم لا إذ كان هذا معنى جلياً مفهوماً. ولو أخبرت عن النكرة في الإيجاب مقدمة فقلت: رجل عندك كنت قد أخبرت عن منكور لا يعرف وإنما ينبغي أن تقدم المعرفة ثم تخبر عنها بخبر يستفاد منه معنى منكور نحو زيد عندك ومحمد منطلق وهذا واضح. فإن قلت: فلم وجب مع هذا تأخير النكرة في الإخبار عنها بالواجب قيل لما قبح ابتداؤها نكرة لما ذكرناه رأوا تأخيرها وإيقاعها في موقع الخبر الذي بابه أن يكون نكرة فكان ذلك إصلاحاً للفظ كما أخروا اللام لام الابتداء مع " إن " في قولهم: إن زيداً لقائم لإصلاح اللفظ. وسترى ذلك في بابه بعون الله وقدرته. فاعلم إذاً أنه لا تنقض مرتبة إلا لأمر حادث فتأمله وابحث عنه.

باب من غلبة الفروع على الأصول 

هذا فصل من فصول العربية طريف تجده في معاني العرب كما تجده في معاني الإعراب. ولا تكاد تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة. فمما جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة: ورمل كأوراك العذارى قطعته إذا ألبسته المظلمات الحنادس أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً. وذلك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء ألا ترى إلى قوله: ليلى قضيب تحته كثيب وفي القلاد رَشَأٌ ربيب وإلى قول ذي الرمة أيضاً - وهو من أبيات الكتاب -: ترى خلفها نصفاً قناة قويمة ونصفاً نقاً يرتج أو يتمرمر وإلى قول الآخر: خلقت غير خلقة النسوان إن قمت فالأعلى قضيب بان وإلى قوله: كدِعص النقا يمشي الوليدان فوقه بما احتسبا من لين مس وتسهال وما أحسن ما ساق الصنعة فيه الطائي الكبير: كم أحرزت قضب الهندي مصلتةً تهتز من قضب تهتز في كثب ولله البحتري فما أعذب وأظرف وأدمث قوله: أين الغزال المستعير من التقا كفلاً ومن نور الأقاحي مبسما فقلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء. وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء وصار كأنه الأصل فيه حتى شبه به كثبان الأنقاء. ومثله للطائي الصغير: في طلعة البدر شيء من ملاحتها وللقضيب نصيب من تثنيها وآخر من جاء به شاعرنا فقال: نحن ركب مِلجِنِّ في زي ناس فوق طير لها شخوص الجمال فجعل كونهم جناً أصلاً وجعل كونهم ناساً فرعاً وجعل كون مطاياه طيراً أصلاً وكونها جمالاً فرعاً فشبه الحقيقة بالمجاز في المعنى الذي منه أفاد المجاز من الحقيقة ما أفاد. وعلى نحو جمالية تغتلي بالردف إذا كذب الآثمات الهجيرا وقال الراعي: على جمالية كالفحل هملاج وهو كثير. فلما شاع ذلك واطرد صار كأنه أصل في بابه حتى عادوا فشبهوا الجمل بالناقة في ذلك فقال: وقربوا كل جُمالي عَضِه قريبةٍ ندوتُه من مَحمَضِه فهذا من حملهم الأصل على الفرع فيما كان الفرع أفاده من الأصل ونظائره في هذه اللغة كثيرة. وهذا المعنى عينه قد استعمله النحويون في صناعتهم فشبهوا الأصل بالفرع في المعنى الذي أفاده ذلك الفرع من ذلك الأصل ألا ترى أن سيبويه أجاز في قولك: هذا الحسن الوجه أن يكون الجر في الوجه من موضعين أحدهما الإضافة والآخر تشبيهه بالضارب الرجل الذي إنما جاز فيه الجر تشبيهاً له بالحسن الوجه على ما تقدم في الباب قبل هذا. فإن قيل: وما الذي سوغ سيبويه هذا وليس مما يرويه عن العرب رواية وإنما هو شيء رآه واعتقده لنفسه وعلل به قيل يدل على صحة ما رآه من هذا وذهب إليه ما عرفه وعرفناه معه: من أن العرب إذا شبهت شيئاً بشيء مكنت ذلك الشبه لهما وعمرت به الحال بينهما ألا تراهم لما شبهوا الفعل المضارع بالاسم فأعربوه تمموا ذلك المعنى بينهما بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه. وكذلك لما شبهوا الوقف بالوصل في نحو قولهم " عليه السلام والرحمت " وقوله: بل جوزتيهاء كظهر الحجفت وقوله: آلله نجاك بكفي مَسلمت من بعدما وبعدما وبعدمت صارت نفوس القوم عند الغلصمت وكادت الحرة أن تدعى أمت كذلك شبهوا أيضاً الوصل بالوقف في قولهم: ثلاثهَ اربعه يريد ثلاثه أربعه ثم تخفف الهمزة فتقول: ثلاثهَ اربَعَه وفي قولهم: " سبسبَّا وكلكلاّ ". وكما أجروا غير اللازم مجرى اللازم في قولهم: " لَحمر ورُيا " وقولهم: وَهْوَ الله وَهْيَ التي فعلتْ وقوله: فقمت للطيف مرتاعاً وأرقني فقلت أهي سرت أم عادني حلم وقولهم ها الله ذا أجروه مجرى دابة وقوله: ومن يتق فإن الله معه ورزق الله مؤتابٌ وغادي أجرى " تق ف " مجرى علم حتى صار " تقف " كعلم كذلك أيضاً أجروا اللازم مجرى غير اللازم في قول الله سبحانه {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فأجرى النصب مجرى الرفع الذي لا تلزم فيه الحركة ومجرى الجزم الذي لا يلزم فيه الحرف أصلاً وكما حمل النصب على الجر في التثنية والجمع الذي على حد التثينة كذلك حمل الجر على النصب فيما لا ينصرف وكما شبهت الياء بالألف في قوله: كأن أيديهن بالقاع القَرِق وقوله: يا دار هند عفت إلا أثافيها كذلك حملت الألف على الياء في قوله - فيما أنشد أبو زيد -: إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضّاها ولا تملَّق وكما وضع الضمير المنفصل موضع المتصل في قوله: إليك حتى بلغت إياكا ومنه قول أمية: بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ألا يجاورنا إلاك ديار وكما قلبت الواو ياء استحساناً لا عن قوة علة في نحو غديان وعشيان وأبيض لياح كذلك أيضاً قلبت الياء واواً في نحو الفتوى والرعوى والتقوى والبقوى والثنوى والشروى - وقد ذكر ذلك - وقولهم عوى الكلب عوة. وكما أتبعوا الثاني الأول في نحو شد وفر وعض ومنذ كذلك أتبعوا الأول الثاني في نحو: اقتل اخرج ادخل وأشباه هذا كثير فلما رأى سيبويه العرب إذا شبهت شيئاً بشيء فحملته على حكمه عادت أيضاً فحملت الآخر على حكم صاحبه تثبيتاً لهما وتتميماً لمعنى الشبه بينهما حكم أيضاً لجر الوجه من قوله " هذا الحسن الوجه " أن يكون محمولاً على جر الرجل في قولهم " هذا الضارب الرجل " كما أجازوا أيضاً النصب في قولهم " هذا الحسن الوجهَ " حملاً له منهم على " هذا الضارب الرجل " ونظيره قولهم: يا أميمة ألا تراهم حذفوا الهاء فقالوا: أميم فلما أعادوا الهاء أقروا الفتحة بحالها اعتياداً للفتحة في الميم وإن كان الحذف فرعاً. وكذلك قولهم " اجتمعت أهل اليمامة " أصله " اجتمع أهل اليمامة " ثم حذف المضاف فأنث الفعل فصار " اجتمعت اليمامة " ثم أعيد المحذوف فأقر التأنيث الذي هو الفرع بحاله فقيل اجتمعت أهل اليمامة " نعم " وأيد ذلك ما قدمنا ذكره: من عكسهم التشبيه وجعلهم فيه الأصول محمولة على ولما كان النحويون بالعرب لاحقين وعلى سمتهم آخذين وبألفاظهم متحلين ولمعانيهم وقصودهم آمين جاز لصاحب هذا العلم الذي جمع شعاعه وشرع أوضاعه ورسم أشكاله ووسم أغفاله وخلج أشطانه وبعج أحضانه وزم شوارده وأفاء فوارده أن يرى فيه نحواً مما رأوا ويحذوه على أمثلتهم التي حذوا وأن يعتقد في هذا الموضع نحواً مما اعتقدوا في أمثاله لا سيما والقياس إليه مصغ وله قابل وعنه غير متثاقل. فاعرف إذاً ما نحن عليه للعرب مذهباً ولمن شرح لغاتها مضطرباً وأن سيبويه لاحق بهم وغير بعيد فيه عنهم. ولذلك عندنا لم يتعقب هذا الموضع عليه أحد من أصحابه ولا غيرهم ولا أضافوه إلى ما نعوه عليه وإن كان بحمد الله ساقطاً عنه وحرىً بالاعتذار هم منه. وأجاز سيبويه أيضاً نحو هذا وهو قوله " زيداً إذا يأتيني أضرب " فنصبه ب " أضرب " ونوى تقديمه حتى كأنه قال " زيداً أضرب إذا يأتيني " ألا ترى إلى نيته بما يكون جواباً ل " إذا " - وقد وقع في موقعه - أن يكون التقدير فيه تقديمه عن موضعه. ومن غلبة الفروع للأصول إعرابهم في الآحاد بالحركات نحو زيدٌ وزيداً وزيدٍ وهو يقوم وإذا تجووزت رتبة الآحاد أعربوا بالحروف نحو الزيدان والزيدين والزيدون والعمرين وهما يقومان وهم ينطلقون. فأما ما جاء في الواحد من ذلك نحو أخوك وأباك وهنيك فإن أبا بكر ذهب فيه إلى أن العرب قدمت منه هذا القدر توطئة لما أجمعوه من الإعراب في التثنية والجمع بالحروف. وهذا أيضاً نحو آخر من حمل الأصل على الفرع ألا تراهم أعربوا بعض الآحاد بالحروف حملاً لهم على ذلك في التثنية والجمع. فأما قولهم " أنت تفعلين " فإنهم إنما أعربوه بالحرف وإن كان في رتبة الآحاد - وهي الأول - من حيث كان قد صار بالتأنيث إلى حكم الفرعية ومعلوم أن الحرف أقوى من الحركة فقد ترى إلى علم إعراب الواحد أضعف لفظاً من إعراب ما فوقه فصار - لذلك - الأقوى كأنه الأصل والأضعف كأنه الفرع. ومن ذلك حذفهم الأصل لشبهه عندهم بالفرع ألا تراهم لما حذفوا الحركات - ونحن نعلم أنها زوائد في نحو لم يذهب ولم ينطلق - تجاوزوا ذلك إلى أن حذفوا للجزم أيضاً الحروف الأصول فقالوا: لم يخش ولم ير ولم يغز. ومن ذلك أيضاً أنهم حذفوا ألف مغزىً ومدعىً في الإضافة فأجازوا مغزِيّ ومرمِيّ ومَدعِيّ فحملوا الألف هنا - وهي لام - على الألف الزائدة في نحو حبلىّ وسكرىّ. ومن ذلك حذفهم ياء تحية وإن كانت أصلاً حملاً لها على ياء شقية وإن كانت زائدة فلذلك قالوا تحويّ كما قالوا سقويّ وغنويّ في شقية وغنية. وحذفوا أيضاً النون الأصلية في قوله: ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل كأنهما ملآن لم يتغيرا وقوله: أبلغ أبا دختنوس مألكةً غير الذي قد يقال مِلكذب كما حذفوا الزائدة في قوله: وحاتم الطائي وهاب المئى وقوله: ولا ذاكراً الله إلا قليلا ومن ذلك حملهم التثنية - وهي أقرب إلى الواحد - على الجمع وهو أنأى عنه ألا تراهم قلبوا همزة التأنيث فيها فقالوا: حمراوان وأربعاوان كما قلبوها فيه واواً فقالوا: حمراوات علماً وصحراوات وأربعاوات. ومن ذلك حملهم الاسم - وهو الأصل - على الفعل - وهو الفرع - في باب ما لا ينصرف " نعم " وتجاوزوا بالاسم رتبة الفعل إلى أن شبهوه بما ورءاه - وهو الحرف - فبنوه نحو أمس وأين وكيف وكم وإذا. وعلى ذلك ذهب بعضهم في ترك تصرف " ليس " إلى أنها ألحقت ب " ما " فيه كما ألحقت " ما " بها في العمل في اللغة الحجازية. وكذلك قال أيضاً في " عسى ": إنها منعت التصرف لحملهم إياها على لعل. فهذا ونحوه يدلك على قوة تداخل هذه اللغة وتلامحها واتصال أجزائها وتلاحقها وتناسب أوضاعها وأنها لم تقتعث اقتعاثاً ولا هيلت هيلاً وأن واضعها عني بها وأحسن جوارها وأمد بالإصابة والأصالة فيها. باب في إصلاح اللفظ اعلم أنه لما كانت الألفاظ للمعاني أزمة وعليها أدلة وإليها موصلة وعلى المراد منها محصلة عنيت العرب بها فأولتها صدراً صالحاً من تثقيفها وإصلاحها. فمن ذلك قولهم: أما زيد فمنطلق ألا ترى أن تحرير هذا القول إذا صرحت بلفظ الشرط فيه صرت إلى أنك كأنك قلت: مهما يكن من شيء فزيد منطلق قتجد الفاء في جواب الشرط في صدر الجزأين مقدمة عليهما. وأنت في قولك: أما زيد فمنطلق إنما تجد الفاء واسطة بين الجزأين ولا تقول: أما فزيد منطلق كما تقول فيما هو في معناه: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. وإنما فعل ذلك لإصلاح اللفظ. ووجه إصلاحه أن هذه الفاء وإن كانت جواباً ولم تكن عاطفة فإنها على مذهب لفظ العاطفة وبصورتها فلو قالوا: أما فزيد منطلق كما يقولون: مهما يكن من شيء فزيد منطلق لوقعت الفاء الجارية مجرى فاء العطف بعدها اسم وليس قبلها اسم إنما قبلها في اللفظ حرف وهو أما. فتنكبوا ذلك لما ذكرنا ووسطوها بين الحرفين ليكون قبلها اسم وبعدها آخر فتأتي على صورة العاطفة فقالوا: أما زيد فمنطلق كما تأتي عاطفة بين الاسمين في نحو قام زيد فعمرو. وهذا تفسير أبي علي رحمه الله تعالى. وهو الصواب. ومثله امتناعهم أن يقولوا: انتظرتك وطلوع الشمس أي مع طلوع الشمس فينصبوه على أنه مفعول معه كما ينصبون نحو قمت وزيداً أي مع زيد. قال أبو الحسن: وإنما ذلك لأن الواو التي بمعنى مع لا تستعمل إلا في الموضع الذي لو استعملت فيه عاطفة لجاز. ولو قلت: انتظرتك وطلوع الشمس أي و " انتظرتك طلوع الشمس " لم يجز. أفلا ترى إلى إجرائهم الواو غير العاطفة في هذا مجرى العاطفة فكذلك أيضاً تجري الفاء غير العاطفة في نحو أما زيد فمنطلق مجرى العاطفة فلا يؤتى بعدها بما لا شبيه له في جواز العطف عليه قبلها. ومن ذلك قولهم في جمع تمرة وبسرة ونحو ذلك: تمرات وبسرات فكرهوا إقرار التاء تناكراً لاجتماع علامتي تأنيث في لفظ اسم واحد فحذفت وهي في النية - مرادة البتة - لا لشيء إلا لإصلاح اللفظ لأنها في المعنى مقدرة منوية لا غير ألا تراك إذا قلت " تمرات " لم يعترض شك في أن الواحدة منها تمرة وهذا واضح. " والعناية " إذاً في الحذف إنما هي بإصلاح اللفظ إذ المعنى ناطق بالتاء مقتض لها حاكم بموضعها. ومن ذلك قولهم: إن زيداً لقائم فهذه لام الابتداء وموضعها أول الجملة وصدرها لا آخرها وعجزها فتقديرها أول: لَئنّ زيداً منطلق فلما كره تلاقي حرفين لمعنى واحد - وهو التوكيد - أخرت اللام إلى الخبر فصار إن زيداً لمنطلق. فإن قيل: هلا أخرت " إن " وقدمت اللام قيل: لفساد ذلك من أوجه: أحدها أن اللام لو تقدمت وتأخرت " إن " لم يجز أن تنصب " إن " اسمها الذي من عادتها نصبه من قبل أن لام الابتداء إذا لقيت الاسم المبتدأ قوت سببه وحمت من العوامل جانبه فكان يلزمك أن ترفعه فتقول: لَزيدٌ إنَّ قائم ولم يكن إلى نصب " زيد " - وفيه لام الابتداء - سبيل. ومنها أنك لو تكلفت نصب زيد - وقد أخرت عنه " إن " - لأعملت " إن " فيما قبلها وإن لا تعمل أبداً إلا فيما بعدها. ومنها أن " إن " عاملة واللام غير عاملة والمبتدأ لا يكون إلا اسماً وخبره قد يكون جملة وفعلاً وظرفاً وحرفاً فجعلت اللام فيه لأنها غير عاملة ومنعت منه " إن " لأنها لا تعمل في الفعل ولا في الجملة كلها النصب إنما تعمله في أحد جزأيها ولا تعمل أيضاً في الظرف ولا في حرف الجر. ويدل على أن موضع اللام في خبر " إن " أول الجملة قبل " إن " أن العرب لما جفا عليها اجتماع هذين الحرفين قبلوا الهمزة هاء ليزول لفظ " إن " فيزول أيضاً ما كان مستكرهاً من ذلك فقالوا " لهِنّك قائم " أي لئنك قائم. وعليه قوله - فيما رويناه عن محمد بن سلمة عن أبي العباس -: فإن قلت: فما تصنع بقول الآخر: ثمانين حولاً لا أرى منك راحة لهنك في الدنيا لباقية العمر وما هاتان اللامان قيل: أما الأولى فلام الابتداء على ما تقدم. وأما الثانية في قوله: " لباقية العمر " فزائدة كزيادتها في قراءة سعيد بن جبير {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} ونحوه ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر: ألم تكن حلفت بالله العلي أن مطاياك لمن خير المطي بفتح أن في الآية وفي البيت. وروينا عن أحمد بن يحيى - وأنشدناه أبو علي رحمه الله تعالى -: مروا عجالاً وقالوا: كيف صاحبكم! قال الذي سألوا: أمسى لمجهودا فزاد اللام. وكذلك اللام عندنا في لعل زائدة ألا ترى أن العرب قد تحذفها قال: عل صروف الدهر أو دولاتها يدلننا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها وكذلك ما أنشده ابن الأعرابي من قول الراجز: ثمت يغدو لكأن لم يشعر رخو الإزار زمح التبختر لهنك في الدنيا لباقية العمر زائدة. فإن قلت: فلم لا تكون الأولى هي الزائدة والأخرى غير زائدة قيل: يفسد ذلك من جهتين: إحداهما أنها قد ثبتت في قوله " لهنك من برق علي كريم " هي لام الابتداء لا زائدة فكذلك ينبغي أن تكون في هذا الموضع أيضاً هي لام الابتداء. والأخرى أنك لو جعلت الأولى هي الزائدة لكنت قد قدمت الحرف الزائد والحروف إنما تزاد لضرب من ضروب الاتساع فإذا كانت للاتساع كان آخر الكلام أولى بها من أوله ألا تراك لا تزيد " كان " مبتدأة وإنما تزيدها حشواً أو آخراً وقد تقدم ذكر ذلك. فأما قول من قال: إن قولهم " لهنك " إن أصله " لله إنك " فقد تقدم ذكرنا ذلك مع ما عليه فيه في موضع آخر وعلى أن أبا علي قد كان قواه بأَخَرةٍ وفيه تعسف. ومن إصلاح اللفظ قولهم: كأن زيداً عمرو. اعلم أن أصل هذا الكلام: زيد كعمرو ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه " إن " فقالوا: إن زيداً كعمرو ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه فقدموا حرفه إلى أول الكلام عناية به وإعلاماً أن عقد الكلام عليه فلما تقدمت الكاف وهي جارّة لم يجز أن تباشر " إن " لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل فوجب لذلك فتحها فقالوا: كأن ومن ذلك أيضاً قولهم: لك مال وعليك دين فالمال والدين هنا مبتدآن وما قبلهما خبر عنهما إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدر لهما لم يجز لقبح الابتداء بالنكرة في الواجب فلما جفا ذلك في اللفظ أخروا المبتدأ وقدموا الخبر وكان ذلك سهلاً عليهم ومصلحاً لما فسد عندهم. وإنما كان تأخره مستحسناً من قبل أنه لما تأخر وقع موقع الخبر ومن شرط الخبر أن يكون نكرة فلذلك صلح به اللفظ وإن كنا قد أحطنا علماً بأنه في المعنى مبتدأ. فأما من رفع الاسم في نحو هذا بالظرفية فقد كفي مئونة هذا الاعتذار لأنه ليس مبتدأ عنده. فإن قلت: فقد حكى عن العرب " أمتٌ في حجر لا فيك " وقولهم: " شرٌ أهرَّ ذا ناب " وقولهم: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} قال الله سبحانه وتعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} وقال: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} ونحو ذلك. والمبتدأ في جميع هذا نكرة مقدمة. قيل: أما قوله سلام عليك وويل له وأمت في حجر لا فيك فإنه جاز لأنه ليس في المعنى خبراً إنما هو دعاء ومسألة أي ليسلم الله عليك وليلزمه الويل وليكن الأمت في الحجارة لا فيك. والأمت: الانخفاض والارتفاع والاختلاف قال الله عز وجل: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} أي اختلافاً. ومعناه: أبقاك الله بعد فناء الحجارة وهي مما توصف بالخلود والبقاء ألا تراه كيف قال: وقال: بقاء الوحي في الصم الصلاب وأما قولهم " شر أهر ذا ناب " فإنما جاز الابتداء فيه بالنكرة من حيث كان الكلام عائداً إلى معنى النفي أي ما أهر ذا ناب إلا شر وإنما كان المعنى هذا لأن الخبرية عليه أقوى ألا ترى أنك لو قلت: أهر ذا ناب شر لكنت على طرف من الإخبار غير مؤكد فإذا قلت: ما أهر ذا ناب إلا شر كان ذلك أوكد ألا ترى أن قولك: ما قام إلا زيد أوكد من قولك: قام زيد. وإنما احتيج إلى التوكيد في هذا الموضع من حيث كان أمراً عانياً مهماً. وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق لاستماعه أن يكون لطارق شر فقال: شر أهر ذا ناب أي ما أهر ذا ناب إلا شر تعظيماً عند نفسه أو عند مستمعه. وليس هذا في نفسه كأن يطرق بابه ضيف أو يلم به مسترشد. " فلما عناه وأهمه وكد الإخبار عنه " وأخرج القول مخرج الإغلاظ به والتأهيب لما دعا إليه. ومن ذلك امتناعهم من الإلحاق بالألف إلا أن تقع آخراً نحو أرطىً ومعزىً وحبنطىً وسرندىً وزبعرىً وصلخدىً وذلك أنها إذا وقعت طرفاً وقعت موقع حرف متحرك فدل ذلك على قوتها عندهم وإذا وقعت حشواً وقعت موقع الساكن فضعفت لذلك فلم تقو فيعلم بذلك إلحاقها بما هي على سمت متحركه ألا ترى أنك لو ألحقت بها ثانية فقلت: خاتم ملحق بجعفر لكانت مقابلة لعينه وهي ساكنة فاحتاطوا للفظ بأن قابلوا بالألف فيه الحرف المتحرك ليكون أقوى لها وأدل على شدة تمكنها وليعلم بتنوينها أيضاً وكون ما هي في على وزن أصل من الأصول له أنها للإلحاق به. وليست كذلك ألف قبعثرى وضبغطرى لأنها وإن كانت طرفاً ومنونة فإن المثال الذي فيه لا مصعد للأصول إليه فيلحق هذا به لأنه لا أصل لها سداسياً فإنما ألف قبعثرى قسم من الألفات الزوائد في أواخر الكلم ثالث لا للتأنيث ولا للإلحاق. فاعرف ذلك. ومن ذلك أنهم لما أجمعوا الزيادة في آخر بنات الخمسة - كما زادوا في آخر بنات الأربعة - خصوا بالزيادة فيه الألف استخفافاً لها ورغبة فيها هناك دون أختيها: الياء والواو. وذلك أن بنات الخمسة لطولها لا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت فلما تحملوا الزيادة في آخرها طلبوا أخف الثلاث - وهي الألف - فخصوها بها وجعلوا الواو والياء حشواً في نحو عضرفوط وجعفليق لأنهم لو جاءوا بهما طرفاً وسداسيين مع ثقلهما لظهرت الكلفة في تجشمهما وكدت في احتمال النطق بهما كل ذلك لإصلاح اللفظ. ومن ذلك باب الادغام في المتقارب نحو ود في وتد ومن الناس " ميقول " في " من يقول " ومنه ومن ذلك تسكينهم لام الفعل إذا اتصل بها علم الضمير المرفوع نحو ضربت وضربن وضربنا. وذلك أنهم أجروا الفاعل هنا مجرى جزء من الفعل فكره اجتماع الحركات " الذي لا يوجد " في الواحد. فأسكنوا اللام إصلاحاً للفظ فقالوا: ضربت ودخلنا وخرجتم. نعم وقد كان يجتمع فيه أيضاً خمس متحركات نحو: خرجتما فالإسكان إذاً أشد وجوباً. وطريق إصلاح اللفظ كثير واسع فتفطن له. ومن ذلك أنهم لما أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة كما وصفوا بها النكرة " ولم " يجز أن يجروها عليها لكونها نكرة أصلحوا اللفظ بإدخال " الذي " لتباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة فقالوا: مررت بزيد الذي قام أخوه ونحوه.

باب في تلاقي اللغة 

هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئاً إلا لأبي علي رحمه الله. وذلك أنه كان يقول في باب أجمع وجمعاء وما يتبع ذلك من أكتع وكتعاء وبقيته: إن هذا اتفاق وتوارد وقع في اللغة على غير ما كان في وزنه منها. قال: لأن باب أفعل وفعلاء إنما هو للصفات وجميعها تجيء على هذا الوضع نكرات نحو أحمر وحمراء وأصفر وصفراء وأسود وسوداء وأبلق وبلقاء وأخرق وخرقاء. هذا كله صفات نكرات فأما أجمع وجمعاء فاسمان معرفتان وليسا بصفتين فإنما ذلك اتفاق وقع بين هذه الكلم المؤكد بها. قال: ومثله ليلة طلقة وليال طوالق قال: فليس طوالق تكسير طلقة لأن فعلة لا تكسر على فواعل وإنما طوالق جمع طالقة وقعت موقع جمع طلقة. وهذا الذي قاله وجه صحيح. وأبين منه عندي وأوضح قولهم في العلم: سلمان وسلمى فليس سلمان إذاً من سلمى كسكران من سكرى. ألا ترى أن فعلان الذي يقاوده فعلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى وخزيان وخزيا وصديان وصديا وليس سلمان ولا سلمى بصفتين ولا نكرتين وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عرض اللغة من غير قصد لجمعهما ولا إيثار لتقاودهما. ألا تراك لا تقول: هذا رجل سلمان ولا امرأة سلمى كما تقول: هذا سكران وهذه سكرى وهذا غضبان وهذه غضبى. وكذلك لو جاء في العلم " ليلان " لكان ليلان من ليلى كسلمان من سلمى. وكذلك لو وجد في العلم " قحطى " لكان من قحطان كسلمى من سلمان. وأقرب إلى ذلك من سلمان وسلمى قولهم في العلم: عدوان والعدوى مصدر أعداه الجرب ونحوه. ومن ذلك قولهم: " أسعد " لبطن من العرب ليس هذا من سعدى كالأكبر من الكبرى والأصغر من الصغرى. وذلك أن هذا إنما هو تقاود الصفة وأنت لا تقول: مررت بالمرأة السعدى ولا بالرجل الأسعد. فينبغي - على هذا - أن يكون أسعد من سعدى كأسلم من بشرى. وذهب بعضهم إلى أن أسعد تذكير سعدى ولو كان كذلك لكان حرىً أن يجيء به سماع ولم نسمعهم قط وصفوا بسعدى وإنما هذا تلاق وقع بين هذين الحرفين المتفقي اللفظ كما يقع هذان المثالان في المختلفية نحو أسلم وبشرى. وكذلك أيهم ويهماء ليسا كأدهم ودهماء لأمرين: أحدهما أن الأيهم الجمل الهائج " أو السيل " واليهماء الفلاة فهما مختلفان. والآخر أن أيهم لو كان مذكر يهماء لوجب أن يأتي فيهما " يهم " كدهم ولم نسمع ذلك فعلمت بذلك أن هذا تلاق بين اللغة وأن أيهم لا مؤنث له ويهماء لا مذكر لها. ومن التلاقي قولهم في العلم: أسلم وسلمى. وليس هذا كالأكبر والكبرى لأنه ليس وصفاً. فتأمل أمثاله في اللغة. ومثله شتان وشتى إنما هما كسرعان وسكرى. وإنما وضعت من هذا الحديث رسماً لتتنبه على ما يجيء من مثله فتعلم به أنه توارد وتلاق وقع في أثناء هذه اللغة عن غير قصد له ولا مراسلة بين بعضه وبعض. وليس من هذا الباب سعد وسعدة من قبل أن هاتين صفتان مسوقتان على منهاج واستمرار. فسعد من سعدة كجلد من جلدة وندب من ندبة. ألا تراك تقول: هذا يوم سعد وهذه ليلة سعدة كما تقول: هذا شعر جعد وهذه جمة جعدة. فاعرف ذلك إلى ما يليه وقسه بما قررته عليه بإذن الله تعالى.

باب في هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو لا 

سألت أبا علي رحمه الله عن هذا فقال: كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا وما حظرته عليهم حظرته علينا. وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم فليكن من أحسن ضروراتنا وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا. وما بين ذلك بين ذلك. فإن قيل: هلا لم يجز لنا متابعتهم على الضرورة من حيث كان القوم لا يترسلون في عمل أشعارهم ترسل المولدين ولا يتأنون فيه ولا يتلومون على حوكه وعمله وإنما كان أكثره ارتجالاً قصيداً كان أو رجزاً أو رملاً. فضرورتهم إذاً أقوى من ضرورة المحدثين. فعلى هذا ينبغي أن يكون عذرهم فيه أوسع وعذر المولدين أضيق. قيل: يسقط هذا من أوجه: أحدها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلاً بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه والملاطفة له والتلوم على رياضته وإحكام صنعته نحو من مما يعرض لكثير من المولدين. ألا ترى إلى ما يروى عن زهير: من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين فكانت تسمى حوليات زهير لأنه كان يحوك القصيدة في سنة. والحكاية في ذلك عن ابن أبي حفصة أنه قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر وأحككها في أربعة أشهر وأعرضها في أربعة أشهر ثم أخرج بها إلى الناس. فقيل له: فهذا هو الحولي المنقح. وكذلك الحكاية عن ذي الرمة: أنه قال: لما قال: بيضاء في نعج صفراء في برج أجبل حولاً لا يدري ما يقول إلى أن مرت به صينية فضية قد أشربت ذهباً فقال: كأنها فضة قد مسها ذهب وقد وردت أيضاً بذلك أشعارهم قال ذو الرمة: أجنبه المساند والمحالا ألا تراه كيف اعترف بتأنيه فيه وصنعته إياه. وقال عدي بن الرقاع العاملي: وقصيدة قد بت أجمع بينها حتى أقوم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافه منآدها وقال سويد بن كراع: وإنما يبيت عليها لخلوه بها ومراجعته النظر فيها. وقال: أعددت للحرب التي أعنى بها قوافياً لم أعي باجتلابها حتى إذا أذللت من صعابها واستوسقت لي صحت في أعقابها فهذا - كما ترى - مزاولة ومطالبة واغتصاب لها ومعاناة كلفة بها. ومن ذلك الحكاية عن الكميت وقد افتتح قصيدته التي أولها: ألا حييت عنا يا مدينا ثم أقام برهة لا يدري بماذا يعجز على هذا الصدر إلى أن دخل حماماً وسمع إنساناً دخله فسلم على آخر فيه فأنكر ذلك عليه فانتصر بعض الحاضرين له فقال: وهل بأس بقول المسلّمين فاهتبلها الكميت فقال: وهل بأس بقول مسلّمينا ومثل هذا أشعارهم الدالة على الاهتمام بها والتعب في إحكامها كثير معروف. فهذا وجه. وثان: أن من المحدثين أيضاً من يسرع العمل ولا يعتاقه بطء ولا يستوقف فكره ولا يتعتع خاطره. فمن ذلك ما حدثني به من شاهد المتنبي وقد حضر عند أبي علي الأوارجي وقد وصف له طرداً كان فيه وأراده على وصفه فأخذ الكاغد والدواة واستند إلى جانب المجلس ومنزل ليس لنا بمنزل وهي طويلة مشهورة في شعره. وحضرت أنا مجلساً لبعض الرؤساء ليلة وقد جرى ذكر السرعة وتقدم البديهة وهنالك حدث من غير شعراء بغداد فتكفل أن يعمل في ليلته تلك مائتي بيت في ثلاث قصائد على أوزان اخترناها عليه ومعان حددناها له فلما كان الغد في آخر النهار أنشدنا القصائد الثلاث على الشرط والاقتراح وقد صنعها وظاهر إحكامها وأكثر من البديع المستحسن فيها. وثالث: كثرة ما ورد في أشعار المحدثين من الضرورات كقصر الممدود وصرف ما لا ينصرف وتذكير المؤنث ونحوه. وقد حضر ذلك وشاهده جلة أصحابنا من أبي عمرو إلى آخر وقت والشعراء من بشار إلى فلان وفلان ولم نر أحداً من هؤلاء العلماء أنكر على أحد من المولدين ما ورد في شعره من هذه الضرورات التي ذكرناها وما كان نحوها فدل ذلك على رضاهم به وترك تناكرهم إياه. فإن قلت: فقد عيب بعضهم كأبي نواس وغيره في أحرف أخذت عليهم قيل: هذا كما عيب الفرزدق وغيره في أشياء استنكرها أصحابنا. فإذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك في أشعار المولدين أحرى بالجواز. فإذا كانوا قد عابوا بعض ما جاء به القدماء في غير الشعر بل في حال السعة وموقف الدعة كان يرد من المولدين في الشعر - وهو موقف فسحة وعذر - أولى بجواز مثله. فمن ذلك استنكارهم همز مصائب وقالوا: منارة ومنائر ومزادة ومزائد فهمزوا ذلك في الشعر وغيره وعليه قال الطرماح: مزائد خرقاء اليدين مسيفة يخب بها مستخلف غير آئن وإنما الصواب مزاود ومصاوب ومناور قال: يصاحب الشيطان من يصاحبه فهو أذيٌ جمةٌ مصاوبه ومن ذلك قولهم في غير الضرورة: ضبب البلد: كثرة ضبابه. وألل السقاء: تغيرت ريحه. ولححت عينه: التصقت ومششت الدابة. وقالوا: إن الفكاهة مقودة إلى الأذى. وقرأ بعضهم {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ} وقالوا: كثرة الشراب مبولة وكثرة الأكل منومة وهذا شيء مطيبة للنفس وهذا طريق مهيع إلى غير ذلك مما جاء في السعة ومع غير الضرورة. وإنما صوابه: لحت عينه وضب البلد وألَّ السقاء ومشَّت الدابة ومقادة إلى الأذى ومثابة ومبالة ومنامة ومطابة ومهاع. فإذا جاز هذا للعرب عن غير حصر ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة في الشعر فأما ما يأتي عن العرب لحناً فلا نعذر في مثله مولداً. فمن ذلك بيت الكتاب: وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حي أبوه يقاربه ومراده فيه معروف وهو فيه غير معذور. ومثله في الفصل قول الآخر - فيما أنشده ابن الأعرابي -: فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفراً رسومها قلما أراد: فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلماً خط رسومها فأوقع من الفصل والتقديم والتأخير ما تراه. وأنشدنا أيضاً: فقد والشك بين لي عناءٌ بوشك فراقهم صرد يصيح أراد: فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم والشك عناء. فقد ترى إلى ما فيه من الفصول التي لا وجه لها ولا لشيء منها. وأغرب من ذلك وأفحش وأذهب في القبح قول الآخر: لها مقلتا حوراء طل خميلة من الوحش ما تنفك ترعى عرارها أراد: لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفك ترعى خميلة طل عرارها. فمثل هذا لا نجيزه للعربي أصلاً فضلاً عن أن نتخذه للمولدين رسماً. وأما قول الآخر: معاوى لم ترع الأمانة فارعها وكن حافظاً لله والدين شاكر فحسن جميل وذلك أن " شاكر " هذه قبيلة وتقديره: معاوى لم ترع الأمانة شاكر فارعها أنت وكن حافظاً لله والدين. فأكثر ما في هذا الاعتراض بين الفعل والفاعل والاعتراض للتسديد قد جاء بين الفعل والفاعل وبين المبتدأ والخبر وبين الموصول والصلة وغير ذلك مجيئاً كثيراً في القرآن وفصيح الكلام. ومثله من الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله: وقد أدركتني - والحوادث جمة - أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل والاعتراض في ههذ اللغة كثير حسن. ونحن نفرد له باباً يلي هذا الباب. بإذن الله سبحانه وتعالى. ومن طريف الضرورات وغريبها ووحشيها وعجيبها ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: هل تعرف الدار ببيدا إنه دار لخود قد تعفت إنَّه فانهلت العينان تسفحنه مثل الجمان جال في سلكنَّه وهذه الأبيات قد شرحها أبو علي رحمه الله في البغداديات فلا وجه لإعادة ذلك هنا. فإذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها. وكذلك ما أنشده أيضاً أبو زيد للزفيان السعدي: يا إبلي ما ذامه فتأبَيَه ماء رواء ونصيٌ حولَيَه هذا بأفواهك حتى تأبَيَه حتى تروحي أصلاً تباريه تباري العانة فوق الزازيه هكذا روينا عن أبي زيد وأما الكوفيون فرووه على خلاف هذا يقولون: فتأبَيْه ونصي حولَيْه وحتى تأبَيْه وفوق الزازيْه. فينشدونه من السريع لا من الرجز كما أنشده أبو زيد. وقد ذكرت هذه الأبيات بما يجب فيها في كتابي " في النوادر الممتعة " ومقداره ألف ورقة. وفيه من كلتا الروايتين صنعة طريفة. وأخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى - أحسبه عن ابن الأعرابي - يقول الشاعر: وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم من الناس ذنباً جاءه وهو مسلما وقال في تفسيره معناه: ما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم مسلماً ذنباً جاءه وهو ولو وكد الضمير في جاء فقال: جاءه هو وهو لكان أحسن. وغير التوكيد أيضاً جائز. وأبيات الإعراب كثيرة وليس على ذكرها وضعنا هذا الباب. ولكن اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران: زيغ الإعراب وقبح الزحاف فإن الجفاة الفصحاء لا يحفلون بقبح الزحاف إذا أدى إلى صحة الإعراب. كذلك قال أبو عثمان وهو كما ذكر. وإذا كان الأمر كذلك فلو قال في قوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي " ألم يأتك والأنباء تنمي " لكان أقوى قياساً على ما رتبه أبو عثمان ألا ترى أن الجزء كان يصير منقوصا لأنه يرجع إلى مفاعيل: ألم يأت مفاعيل. وكذلك بيت الأخطل: كلمع أيدي مثاكيل مسلبة يندبن ضرس بنات الدهر والخطب أقوى القياسين على ما مضى أن ينشد " مثاكيل " غير مصروف لأنه يصير الجزء فيه من مستفعلن إلى مفتعلن وهو مطوي والذي روى " مثاكيل " بالصرف. وكذلك بقية هذا. فإن كان ترك زيغ الإعراب يكسر البيت كسراً لا يزاحفه زحافاً فإنه لا بد من ضعف زيغ الإعراب واحتمال ضرورته وذلك كقوله: سماء الإله فوق سبع سمائيا فهذا لا بد من التزام ضرورته لأنه لو قال: سمايا لصار من الضرب الثاني إلى الثالث وإنما مبنى هذا الشعر على الضرب الثاني لا الثالث. وليس كذلك قوله: لأنه لو قال: معار لما كسر الوزن لأنه يصير من مفاعلتن إلى مفاعيلن وهو العصب. لكن مما لا بد من التزام ضرورته مخافة كسر وزنه قول الآخر: خريع دوادي في ملعب تأزر طوراً وترخي الإزارا فهذا لا بد من تصحيح معتله ألا ترى أنه لو أعل اللام وحذفها فقال دواد لكسر البيت البتة. فاعرف إذاً حال ضعف الإعراب الذي لا بد من التزامه مخافة كسر البيت من الزحاف الذي يرتكبه الجفاة الفصحاء إذا أمنوا كسر البيت ويدعه من حافظ على صحة الوزن من غير زحاف وهو كثير. فإن أمنت كسر البيت اجتنبت ضعف الإعراب وإن أشفقت من كسرة ألبتة دخلت تحت كسر الإعراب.

باب في الاعتراض 

اعلم أن هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء في القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام. وهو جار عند العرب مجرى التأكيد فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض به بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره وغير ذلك مما لا يجوز الفصل فيه بغيره إلا شاذاً أو متأولاً. قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} فهذا فيه اعتراضان: أحدهما قوله {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لأنه اعترض به بين القسم الذي هو قوله {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وبين جوابه الذي هو قوله {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو " قسم " وبين صفته التي هي " عظيم " وهو قوله " لو تعلمون ". فذانك اعتراضان كما ترى. ولو جاء الكلام غير معترض فيه لوجب أن يكون: فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم {لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}. ومن ذلك قول امريء القيس: ألا هل أتاها - والحوادث جمةٌ - بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا ألا هل أتاها والحوادث كالحصى وأنشدنا أبو علي: وقد أدركتني - والحوادث جمة - أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل فهذا كله اعتراض بين الفعل وفاعله. وأنشدنا أيضاً: ذاك الذي - وأبيك - تعرف مالك والحق يدفع ترهات الباطل فقوله: " وأبيك " اعتراض بين الموصول والصلة. وروينا لعبيد الله بن الحر: تعلم ولو كاتمته الناس أنني عليك - ولم أظلم - بذلك عاتب فقوله: " ولو كاتمته الناس " اعتراض بين الفعل ومفعوله وقوله: " ولم أظلم بذلك " اعتراض بين اسم أن وخبرها. ومن ذلك قول أبي النجم - أنشدناه -: وبدلت - والدهر ذو تبدل - هيفاً دبوراً بالصبا والشمأل فقوله: " والدهر ذو تبدل " اعتراض بين المفعول الأول والثاني. ومن الاعتراض قوله: ألم يأتك - والأنباء تنمي - بما لاقت لبون بني زياد فقوله: " والأنباء تنمي " اعتراض بين الفعل وفاعله. وهذا أحسن مأخذاً في الشعر من أن يكون في " يأتيك " ضمير من متقدم مذكور. فأما ما أنشده أبو علي من قول الشاعر: أتنسى - لا هداك الله - ليلى وعهد شبابها الحسن الجميل! كأن - وقد أتى حول جديد - أثافيها حمامات مثول فإنه لا اعتراض فيه. وذلك أن الاعتراض لا موضع له من الإعراب ولا يعمل فيه شيء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض على ما تقدم. فأما قوله: " وقد أتى حول جديد " فذو موضع من الإعراب وموضعه النصب بما في " كأن " من معنى التشبيه ألا ترى أن معناه: أشبهت وقد أتى حول جديد حمامات مثولاً أو أشبهها وقد مضى حول جديد بحمامات مثول أي أشبهها في هذا الوقت وعلى هذه الحال بكذا. وأنشدنا: أراني - ولا كفران لله أية لنفسي - لقد طالبت غير منيل ففي هذا اعتراضان: أحدهما - " ولا كفران لله ". والآخر - قوله: " أية " أي أوَيت لنفسي أيَّة معناه رحمتها ورققت لها. فقوله: أويت لها لا موضع له من الإعراب. وسألنا الشجري أبا عبد الله يوماً عن فرس كانت له فقال: هي بالبادية. قلنا لم قال: إنها وجية فأنا آوي لها أي أرحمها وأرق لها. وكذلك قول الآخر: أراني ولا كفران لله إنما أواخي من الأقوام كل بخيل ومن الاعتراض قولهم: زيد - ولا أقول إلا حقاً - كريم. وعلى ذلك مسئلة الكتاب: إنه - المسكين - أحمق ألا ترى أن تقديره: إنه أحمق وقوله " المسكين " أي هو المسكين وذلك اعتراض بين اسم إن وخبرها. ومن ذلك مسئلته: " لا أخا - فاعلم - لك ". فقوله: " فاعلم " اعتراض بين المضاف والمضاف إليه كذا الظاهر. وأجاز أبو علي رحمه الله أن يكون " لك " خبراً ويكون " أخا " اسماً مقصوراً تاماً غير مضاف كقولك: لا عصا لك. ويدل على صحة هذا القول أنهم قد كسروه على أفعال وفاؤه مفتوحة فهو إذاً فعل وذلك قولهم: أخ وآخاء فيما حكاه يونس. وقال بعض آل المهلب: وجدتم بنيكم دوننا إذ نسبتم وأي بني الآخاء تنبو مناسبه! فغير منكر أن يخرج واحدها أصله كما خرج واحد الآباء على أصله وذلك قولهم: هذا أباً ورأيت أباً ومررت بأباً. وروينا عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: يقال هذا أبوك وهذا أباك وهذا أبُك فمن قال: هذا أبوك أو أباك فتثنيته أبوان ومن قال هذا أبك فتثنيته أبان وأبوان. وأنشد: سوى أبك الأدنى وإن محمداً على كل عال يابن عم محمد وأنشد أبو علي عن أبي الحسن: تقول ابنتي لما رأتني شاحباً كأنك فينا يا أبات غريب قال: فهذا تأنيث أبا وإذا كان كذلك جاز جوازاً حسناً أن يكون قولهم: لا أبا لك " أبا " منه اسم مقصور كما كان ذلك في " أخالك " ويحسنه أنك إذا حملت الكلام عليه جعلت له خبراً ولم يكن في الكلام فصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر غير أنه يؤنس بمعنى إرادة الإضافة قول الفرزدق: ظلمت ولكن لا يدى لك بالظلم فلهذا جوزناها جميعاً. وروينا لمعن بن أوس: وفيهن - والأيام يعثرن بالفتى - نوادب لا يمللنه ونوائح ففصل بقوله: " والأيام يعثرن بالفتى " بين المبتدأ وخبره. وأنشدنا: وسألته عن بيت كثير: وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت مما بيننا وتخلت فأجاز أن يكون قوله: " وتهيامي بعزة " جملة من مبتدأ وخبر اعترض بها بين اسم إن وخبرها الذي هو قوله: لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت فقلت له: أيجوز أن يكون " وتهيامي " بعزة قسماً فأجاز ذلك ولم يدفعه. وقال الله عز وجل: " هذا فليذوقوه حميم وغساق ". فقوله تعالى: " فليذوقوه " اعتراض بين المبتدأ وخبره. وقال رؤبة: إني وأسطار سطرن سطرا لقائل يا نصر نصرٌ نصرا فاعترض بالقسم بين اسم إن وخبرها. والاعتراض في شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ودال على فصاحة المتكلم وقوة نفسه وامتداد نفسه وقد رأيته في أشعار المحدثين وهو في شعر إبراهيم بن المهدي أكثر منه في شعر غيره من المولدين.

باب في التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين 

هذا في كلام العرب كثير فاش والقياس له قابل مسوغ. فمن ذلك قولهم: مررت بزيد وما كان نحوه مما يلحق من حروف الجر معونة لتعدي الفعل. فمن وجه يعتقد في الباء أنها بعض الفعل من حيث كانت معدية وموصلة له. كما أن همزة النقل في " أفعلت " وتكرير العين في " فعلت " يأتيان لنقل الفعل وتعديته نحو قام وأقمته وقومته وسار وأسرته وسيرته. فلما كان حرف الجر الموصل للفعل معاقباً لأحد شيئين كل واحد منهما مصوغ في نفس المثال جرى مجراهما في كونه جزءاً من الفعل أو كالجزء منه. فهذا وجه اعتداده كبعض الفعل. وأما وجه اعتداده كجزء من الاسم فمن حيث كان مع ما جره في موضع نصب وهذا يقضي له بكونه جزءاً مما بعده أو كالجزء منه ألا تراك تعطف على مجموعهما بالنصب كما تعطف على الجزء الواحد في نحو قولك: ضربت زيداً وعمراً وذلك قولك: مررت بزيد وعمراً ورغبت فيك وجعفراً ونظرت إليك وسعيداً أفلا ترى إلى حرف الجر الموصل للفعل كيف ووجه جوازه من قبل القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين لمعنيين متفقين وذلك كأن تروم أن تدل على قوة اتصال حرف الجر بالفعل فتعتده تارة كالبعض له والأخرى كالبعض للاسم. فهذا ما لا يجوز مثله لأنه لا يكون كونه كبعض الاسم دليلاً على شدة امتزاجه بالفعل لكن لما اختلف المعنيان جاز أن يختلف التقديران فاعرف ذلك فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه. ومثل ذلك قولهم: " لا أبا لك " فههنا تقديران مختلفان لمعنيين مختلفين. وذلك أن ثبات الألف في " أبا " من " لا أبا لك " دليل الإضافة فهذا وجه. ووجه آخر أن ثبات اللام وعمل " لا " في هذا الاسم يوجب التنكير والفصل. فثبات الألف دليل الإضافة والتعريف ووجود اللام دليل الفصل والتنكير. وليس هذا في الفساد والاستحالة بمنزلة فساد تحقير مثال الكثرة الذي جاء فساده من قبل تدافع حاليه. وذلك أن وجود ياء التحقير يقتضي كونه دليلاً على القلة وكونه مثالاً موضوعاً للكثرة دليل على الكثرة وهذا يجب منه أن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً. وهذا ما لا يجوز لأحد اعتقاده. وليس كذلك تقديرك الباء في نحو: مررت بزيد تارة كبعض الاسم وأخرى كبعض الفعل من قبل أن هذه إنما هي صناعة لفظية يسوغ معها تنقل الحال وتغيرها فأما المعاني فأمر ضيق ومذهب مستصعب ألا تراك إذا سئلت عن زيد من قولنا: قام زيد سميته فاعلاً وإن سئلت عن زيد من قولنا: زيد قام سميته مبتدأ لا فاعلاً وإن كان فاعلاً في المعنى. وذلك أنك سلكت طريق صنعة اللفظ فاختلفت السمة فأما المعنى فواحد. فقد ترى إلى سعة طريق اللفظ وضيق طريق المعنى. فإن قلت: فأنت إذا قلت في " لا أبا لك " إن الألف تؤذن بالإضافة والتعريف واللام تؤذن بالفصل والتنكير فقد جمعت على الشيء الواحد في الوقت الواحد معنيين ضدين وهما التعريف والتنكير وهذان - كما ترى - متدافعان. قيل: الفرق بين الموضعين واضح وذلك أن قولهم: " لا أبا لك " كلام جرى مجرى المثل وذلك أنك إذا قلت هذا فإنك لا تنفي في الحقيقة أباه وإنما تخرجه مخرج الدعاء أي أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أبيه. كذا فسره أبو علي وكذلك هو لمتأمله ألاترى أنه قد أنشد توكيداً لما رآه من هذا المعنى فيه قوله: وتترك أخرى فردة لا أخا لها ولم يقل: لا أخت لها ولكن لما جرى هذا الكلام على أفواههم " لا أبا لك " " ولا أخا لك " قيل مع المؤنث على حد ما يكون عليه مع المذكر فجرى هذا نحواً من قولهم لكل أحد من ذكر وأنثى واثنين وجماعة " الصيف ضيعت اللبن " على التأنيث لأنه كذا جرى أوله وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولهم " لا أبا لك " إنما فيه تعادي ظاهره " واجتماع " صورتي الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظاً لا معنى. وإذا آل الأمر إلى ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه من تنافر قضيتي اللفظ في نحو: مررت بزيد وإذا أردت بذلك أن تدل على شدة اتصال حرف الجر بالفعل وحده دون الاسم ونحن إنما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً. وهذا ما لايدعيه مدع ولا يرضاه - مذهباً لنفسه - راض. ويؤكد عندك خروج هذا الكلام مخرج المثل كثرته في الشعر وأنه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب. فهذا الكلام دعاء في المعنى لا محالة وإن كان في اللفظ خبراً. ولو كان دعاء مصرحاً وأمراً معنياً لما جاز أن يقال لمن لا أب له لأنه إذا كان لا أب له لم يجز أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة ألا ترى أنك لا تقول للأعمى: أعماه الله ولا للفقير: أفقره الله وهذا ظاهر باد. وقد مر به الطائي الكبير فقال: نعمة الله فيك لا أسال الل ه إليها نعمى سوى أن تدوما ولو اني فعلت كنت كمن يس أله وهو قائم أن يقوما فكما لا تقول لمن لا أب له: أفقدك الله أباك كذلك يعلم أن قولهم لمن لا أب له: " لا أبا لك " لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه وإنما هي خارجة مخرج المثل على ما فسره أبو علي. قال عنترة: فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل وقال: ألق الصحيفة لا أبا لك إنه يخشى عليك من الحباء النقرس وقال: أبالموت الذي لا بد أني ملاق لا أباك تخوفيني أراد: لا أبا لك فحذف اللام من جاري عرف الكلام. وقال جرير: يا تيم تيم عدي لا أبا لكم لا يلقينكم في سوأة عمر وهذا أقوى دليل على كون هذا القول مثلاً لا حقيقة ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتيم كلها أب واحد ولكن معناه: كلكم أهل للدعاء عليه والإغلاظ له. وقال الحطيئة: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا فإن قلت: فقد أثبت الحطيئة في هذا البيت ما نفيته أنت في البيت الذي قبله وذلك أنه قال " لأبيكم " فجعل للجماعة أباً واحداً وأنت قلت هناك: إنه لا يكون لجماعة تيم أب واحد فالجواب عن هذا من موضعين: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يريد حقيقة الأب وإنما غرضه الدعاء مرسلاً ففحش بذكر الأب على ما مضى. والآخر أنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله " لأبيكم " الجمع أي لا أبا لآبائكم. يريد الدعاء على آبائهم من حيث ذكرها فجاء به جمعاً مصححاً على قولك: أب وأبون وأبين قال: فلما تبيَّنَّ أصواتنا بكين وفدَّيننا بالأبينا وعليه قول الآخر - أنشدناه -: فمن يك سائلاً عني فإني بمكة مولدي وبها ربيت وقد شنئت بها الآباء قبلي فما شنئت أبي ولا شنيت أي ما شنئت آبائي. فهذا شيء عرض ولنعد. ومن ذلك قولهم: مختار ومعتاد ونحو ذلك فهذا يحمل تقديرين مختلفين لمعنيين مختلفين. وذلك أنه إن كان اسم الفاعل فأصله مختير ومعتوِد كمقتطع بكسر العين. وإن كان مفعولاً فأصله مختيَر ومعتوَد كمقتطَع. ف " مختار " من قولك: أنت مختار للثياب أي مستجيد لها أصله مختير. ومختار من قولك: هذا ثوب مختار أصله مختير. فهذان تقديران مختلفان لمعنيين. وإنما كان يكون هذا منكراً لو كان تقدير فتح العين وكسرها لمعنى واحد فأما وهما لمعنيين فسائغ حسن. وكذلك ما كان من المضعف في هذا الشرج من الكلام نحو قولك: هذا رجل معتد للمجد ونحوه فهذا هو اسم الفاعل وأصله معتدد بكسر العين وهذا رجل معتد أي منظور إليه فهذا مفتعل بفتح العين وأصله معتدد كقولك: هذا معنىً معنىٌ معتبر أي ليس بصغير متحقر. وكذلك هذا جوز معتد فهذا أيضاً اسم المفعول وأصله معتدد كمقتسم ومقتطع. ونظائر هذا وما قبله كثيرة فاشية. ومن ذلك قولهم: كساء وقضاء ونحوه أعللت اللام لأنك لم تعتد بالألف حاجزاً لسكونها وقلبتها أيضاً لسكونها وسكون الألف قبلها فاعتددتها من وجه ولم تعتددها من آخر. ومن ذلك أيضاً قولهم: أيهم تضرب يقم زيد. ف " أيهم " من حيث كانت جازمة ل " تضرب " يجب أن تكون مقدمة عليها ومن حيث كانت منصوبة ب " تضرب " يجب أن تكون في الرتبة مؤخرة عنها فلم يمتنع أن يقع هذان التقديران على اختلافهما من حيث كان هذا إنما هو عمل صناعي لفظي. لو كان التعادي والتخالف في المعنى لفسد " ولم " يجز. وأيضاً فإن حقيقة الجزم إنما هو لحرف الجزاء المقدر المراد لا ل " أي " " فإذا " كان كذلك كان الأمر أقرب مأخذاً وألين ملمساً.

باب في تدريج اللغة 

وذلك أن يشبه شيء شيئاً من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره. فمن ذلك قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين " ولو " جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً وإن كانت " أو " إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين. وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس " أو " بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى " أو ". وذلك لإنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسه في ذلك من الحظ وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً وكأنه قال: جالس هذا الضرب من الناس. وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وكأنه - والله أعلم - قال: لا تطع هذا الضرب من الناس. ثم إنه لما رأى " أو " في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال " أو " في معنى الواو ألا تراه كيف قال: وسواء وسيان لا يستعمل إلا بالواو. وعليه قول الآخر: فسيَّان حرب أو تبوءوا بمثله وقد يقبل الضيم الذليل المسير أي فسيَّان حرب وبواؤكم بمثله كما أن معنى الأول: فكان سيان ألا يسرحوا نعما وأن يسرحوه بها. وهذا واضح. ومن ذلك قولهم: صبية وصبيان قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير - لأنه من صبوت - لانكسار الصاد قبلها وضعف الباء أن تعتد حاجزاً لسكونها. وقد ذكرنا ذلك. فلما ألف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن أقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة وذلك قولهم أيضاً: صبيان وصبية " وقد " كان يجب - لما زالت الكسرة - أن تعود الياء واواً إلى أصلها لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى صارت كأنها كانت أصلاً. وحسن ذلك لهم شيء آخر وهو أن القلب في صبية وصبيان إنما كان استحساناً وإيثاراً لا عن وجوب علة ولا قوة قياس فلما لم تتمكن علة القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قوياً ولا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثراً. ومن ذلك قولهم في الاستثبات عمن قال ضربت رجلاً: منا ومررت برجل مني وعندي رجل: منو فلما شاع هذا ونحوه عنهم تدرجوا منه إلى أن قالوا: ضرب منٌ منا كقولك: ومن ذلك قولهم: أبيض لياح وهو من الواو لأنه ببياضه ما يلوح للناظر. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وليس ذلك عن قوة علة إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب وهو التطرق إليها بالكسرة طلباً للاستخفاف لا عن وجوب قياس ألا ترى أن هذا الضرب من الأسماء التي ليست جمعاً كرباض وحياض ولا مصدراً جارياً على فعل معتل كقيام وصيام إنما يأتي مصححاً نحو: خوان وصوان غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم في لياح في قلبهم إياه إلى الياء بتلك الكسرة قبلها وإن كانت ليس مما يؤثر حقيقة التأثير مثلها ولأنهم شبهوه لفظاً إما بالمصدر كحيال وصيال وإما بالجمع كسوط وسياط ونوط ونياط. نعم وقد فعلوا مثل هذا سواء في موضع آخر. وذلك قول بعضهم في صوان: صيان وفي صوار: صيار فلما ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح ثم أقروا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها وذلك قولهم فيه: لياح. وشجعه على ذلك شيئاً أن قلب الواو ياء في لياح لم يكن عن قوة ولا استحكام علة وإنما هو لإيثار الأخف على الأثقل فاستمر على ذلك وتدرج منه إلى أن أقر الياء بحالها مع الفتح إذ كان قلبها مع الكسر أيضاً ليس بحقيقة موجب. قال: وكما أن القلب مع الكسر لم يكن عن صحة عمل وإنما هو لتخفيف مؤثر فكذلك أقلب أيضاً مع الفتح وإن لم يكن موجباً غير أن الكسر هنا على ضعفه أدعى إلى القلب من الفتح فلذلك جعلنا ذاك تدرجاً عنه إليه ولم نسو بينهما فيه. فاعرف ذلك. وقريب من ذلك قول الشاعر: ولقد رأيتك بالقوادم مرة وعلي من سدف العشي رياح قياسه رواح لأنه فعال من راح يروح لكنه لما كثر قلب هذه الواو في تصريف هذه الكلمة ياء - نحو ريح ورياح ومريح ومستريح - وكانت الياء أيضاً عليهم أخف وإليهم أحب تدرجوا من ذلك إلى أن قلبوها في رياح وإن زالت الكسرة التي كانت قلبتها في تلك الأماكن. ومن ذلك قلبهم الذال دالاً في " ادكر " وما تصرف منه نحو يدكر ومدكر وادكار وغير ذلك: تدرجوا من هذا إلى غيره بأن قلبوها دالاً في غير بناء افتعل فقال ابن مقبل: من بعض ما يعتري قلبي من الدكر ومن ذلك قولهم: الطنة - بالطاء - في الظنة وذلك في اعتيادهم اطن ومطن واطنان كما جاءت الدكر على الأكثر. ومن ذلك حذفهم الفاء - على القياس - من ضغة وقحة كما حذفت من عدة وزنة ثم إنهم عدلوا بها عن فِعلة إلى فَعلة فأقروا الحذف بحاله وإن زالت الكسرة التي كانت موجبة له فقالوا: الضعة والقحة فتدرجوا بالضعة والقحة إلى الضعة والقحة وهي عندنا فعلة كقصعة وجفنة " لا أن " فتحت لأجل الحرف الحلقي فيما ذهب إليه محمد بن يزيد. ومن ذلك قولهم: بأيهم تمرر أمرر فقدموا حرف الجر على الشرط فأعملوه فيه وإن كان الشرط لا يعمل فيه ما قبله لكنهم لما لم يجدوا طريقاً إلى تعليق حرف الجر استجازوا إعماله في الشرط. فلما ساغ لهم ذلك تدرجوا منه إلى أن أضافوا إليه الاسم فقالوا: غلام من تضرب أضربه وجارية من تلق ألقها. فالاسم في هذا إنما جاز عمله في الشرط من حيث كان محمولاً في ذلك على حرف الجر. وجميع هذا حكمه في الاستفهام حكمه في الشرط من حيث كان الاستفهام له صدر الكلام كما أن الشرط كذلك. فعلى هذه جاز بأيهم تمر وغلام من تضرب فأما قولهم: أتذكر إذ من يأتنا نأته فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما يجوز على تقدير حذف المبتدأ أي أتذكر إذ الناس من يأتنا نأته فلما باشر المضاف غير المضاف إليه في اللفظ أشبه الفصل بين المضاف والمضاف إليه فلذلك أجازوه في الضرورة. فإن قيل: فما الذي يمنع من إضافته إلى الشرط وهو ضرب من الخبر قيل: لأن الشرط له صدر الكلام فلو أضفت إليه لعلقته بما قبله وتانك حالتان متدافعتان. فأما بأيهم تمرر أمرر ونحوه فإن حرف الجر متعلق بالفعل بعد الاسم والظرف في قولك: أتذكر إذ من يأتنا نأته متعلق بقولك أتذكر وإذا خرج ما يتعلق به حرف الجر من حيز الاستفهام لم يعمل في الاسم المستفهم به ولا المشروط به. ومن التدريج في اللغة أن يكتسي المضاف من المضاف إليه كثيراً من أحكامه: من التعريف والتنكير والاستفهام والشياع وغيره ألا ترى أن ما لا يستعمل من الأسماء في الواجب إذا أضيف إليه شيء منها صار في ذلك إلى حكمه. وذلك قولك: ما قرعت حلقة باب دار أحد قط فسرى ما في " أحد " من العموم والشياع إلى " الحلقة ". ولو قلت: قرعت حلقة باب دار أحد أو نحو ذلك لم يجز. ومن التدريج في اللغة: إجراؤهم الهمزة المنقلبة عن حرفي العلة عينا مجرى الهمزة الأصلية. وذلك نحو قولهم في تحقير قائم وبائع: قويئم وبويئع فألحقوا الهمزة المنقلبة بالهمزة الأصلية في سائل وثائر من سأل وثأر إذا قلت: سويئل وثويئر. وليست كذلك اللام إذا انقلبت همزة عن أحد الحرفين نحو كساء وقضاء ألا تراك تقول في التحقير: كسيٌ وقضيّ فترد حرف العلة وتحذفه لاجتماع الياءات. وليست كذلك الهمزة الأصلية ألا تراك تقول في تحقير سلاء وخلاء بإقرار الهمزة لكونها أصلية وذلك سُليِّء وخُليِّء. وتقول أيضاً في تكسير كساء وقضاء بترك الهمزة البتة وذلك قولك: أكسية وأقضية. وتقول في سلاء وخلاء: أسلئة وأخلئة فاعرف ذلك. لكنك لو بنيت من قائم وبائع شيئاً مرتجلاً أعدت الحرفين البتة. وذلك كأن تبني منهما مثل جعفر فتقول: قومم وبيعع. ولم تقل: قأمم ولا بأعع لأنك إنما تبني من أصل المثال لا من حروفه المغيرة ألا تراك لو بنيت من قيل وديمة مثال " فعل " لقلت: دوم وقول لا غير. فإن قلت: ولم لم تقرر الهمزة في قائم وبائع فيما تبنيه منهما كما أقررتها في تحقيرهما قيل: البناء من الشيء أن تعمد لأصوله فتصوغ منها زوائده فلا تحفل بها. وليس كذلك التحقير. وذلك أن صورة المحقر معك ومعنى التكبير والتحقير في أن كل واحد منهما واحد واحد وإنما بينهما أن أحدهما كبير والآخر صغير فأما الإفراد والتوحيد فيهما كليهما فلا نظر فيه. قال أبو علي - رحمه الله - في ضحة الواو في نحو أسيود وجديول: مما أعان على ذلك وسوغه أنه في معنى جدول صغير فكما تصح الواو في جدول صغير فكذلك أنس بصحة الواو في جديول. وليس كذلك الجمع لأنه رتبة غير رتبة الآحاد فهو شيء آخر فلذلك سقطت في الجمع حرمة الواحد ألا تراك تقول في تكسير قائم: قوام وقوم فتطرح الهمزة وتراجع لفظ وسألت مرة أبا علي - رحمه الله - عن رد سيبويه كثيراً من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحمله إياها عليها ألا تراه قال تقول: سريحين لقولك: سراحين ولا تقول: عثيمين لأنك لا تقول: عثامين ونحو ذلك. فقال: إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيداً عن رتبة الآحاد. فاعتد ما يعرض فيه لاعتداده بمعناه والمحقر هو المكبر والتحقير فيه جار مجرى الصفة فكأن لم يحدث بالتحقير أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد: هذا معقد معناه وما أحسنه وأعلاه! ومن التدريج قولهم: هذا حضرُموت بالإضافة على منهاج اقتران الاسمين أحدهما بصاحبه. ثم تدرجوا من هذا إلى التركيب فقالوا: هذا حضرَموت. ثم تدرجوا من هذا إلى أن صاغوهما جميعاً صياغة المفرد فقالوا: هذا حضرَمُوت فجرى لذلك مجرى عضرفوط ويستعور. ومن التدريج في اللغة قولهم: ديمة وديم واستمرار القلب في العين للكسرة قبلها ثم تجاوزوا ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا: ديمت السماء ودومت فأما دومت فعلى القياس وأما ديمت فلاستمرار القلب في ديمة وديم. أنشد أبو زيد: هو الجواد ابن الجواد ابن سبل إن دوموا جاد وإن جادوا وبل ورواه أيضاً " ديموا " بالياء. نعم ثم قالوا: دامت السماء تديم فظاهر هذا أنه أجري مجرى باع يبيع وإن كان من الواو. فإن قلت: فلعله فعل يفعل من الواو كما ذهب الخليل في طاح يطيح وتاه يتيه قيل: حمله على الإبدال أقوى ألا ترى أنه قد حكي في مصدره ديماً فهذا مجتذب إلى الياء مدرج إليها مأخوذ به نحوها. فإن قلت: فلعل الياء لغة في هذا الأصل كالواو بمنزلة ضاره يضيره ضيراً وضاره يضوره ضوراً. قيل: يبعد ذلك هنا ألا ترى إلى اجتماع الكافة على قولهم: الدوام وليس أحد يقول: الديام فعلمت بذلك أن العارض في هذا الموضع إنما هو من جهة الصنعة لا من جهة اللغة. ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: " ما هت الركية تميه ميهاً " مع إجماعهم على أمواه وأنه لا أحد يقول: أمياه. ونحو من ذلك ما يحكى عن عمارة بن عقيل من أنه قال في جمع ريح: أرياح حتى نبه عليه فعاد إلى أرواح. وكأن أرياحاً أسهل قليلاً لأنه قد جاء عنهم قوله: وعلي من سدف العشي رياح فهو بالياء لهذا آنس. وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها فهم لا يزالون تسبباً إليها ونجشاً عنها واستثارة لها وتقرباً ما استطاعوا منها. ونحو هذه الطريق في التدريج: حملهم علباوان على حمراوان ثم حملهم رداوان على علباوان ثم حملهم قراوان على رداوان وقد تقدم ذكره. وفي هذا كاف مما يرد في معناه بإذن الله تعالى. ومن ذلك أنه لما اطردت إضافة أسماء الزمان إلى الفعل نحو: قمت يوم قمت وأجلس حين تجلس شبهوا ظرف المكان في " حيث " فتدرجوا من " حين " إلى " حيث " فقالوا: قمت حيث قمت. ونظائره كثيرة.

باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب 

هذا موضع شريف. وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه. والمنفعة به عامة والتساند إليه مقو مجد. وقد نص أبو عثمان عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره. فإذا سمعت " قام زيد " أجزت ظرف بشر وكرم خالد. قال أبو علي: إذا قلت: " طاب الخشكنان " فهذا من كلام العرب لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب. ويؤكد هذا عندك أن ما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها ألا تراهم يصرفون في العلم نحو آجر وإبريسيم وفِرِند وفيروزج وجميع ما تدخله لام التعريف. وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو الديباج والفرند والسهريز والآجر أشبه أصول كلام العرب أعني النكرات. فجرى في الصرف ومنعه مجراها. قال أبو علي: ويؤكد ذلك أن العرب اشتقت من الأعجمي النكرة كما تشتق من أصول كلامها هل ينجيني حلف سختيت أو فضة أو ذهب كبريت قال: ف " سختيت " من السخت ك " زحليل " من الزحل. وحكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي أظنه قال: يقال درهمت الخبازى أي صارت كالدراهم فاشتق من الدرهم وهو اسم أعجمي. وحكى أبو زيد: رجل مدرهم. قال ولم يقولوا منه: دُرهِم إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل في الكف. ولهذا أشباه. وقال أبو عثمان في الإلحاق المطرد: إن موضعه من جهة اللام نحو قُعدُد ورِمدِد وشَملَل وصَعرَر. وجعل الإلحاق بغير اللام شاذاً لا يقاس عليه. وذلك نحو جوهر وبيطر وجدول وحذيم ورهوك وأرطىً ومعزىً وسلقىً وجعبى. قال أبو علي وقت القراءة عليه كتاب أبي عثمان: لو شاء شاعر أو ساجع أو متسع أن يبنى بإلحاق اللام اسماً وفعلاً وصفة لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب. وذلك نحو قولك: خرججٌ أكرم من دخللٍ وضربب زيد عمراً ومررت برجل ضرببٍ وكرممٍ ونحو ذلك. قلت له: أفترتجل اللغة ارتجالاً قال: ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم فهو إذاً من كلامهم. قال: ألا ترى أنك تقول: طاب الخشكنان فتجعله من كلام العرب وإن لم تكن العرب تكلمت به. هكذا قال فبرفعك إياه كرفعها ما صار لذلك محمولاً على كلامها ومنسوباً إلى لغتها. هل تعرف الدار لأم الخزرج منها فظلت اليوم كالمزرج أي الذي شرب الزرجون وهي الخمر. فاشتق المزرج من الزرجون وكان قياسه: كالمزرجن من حيث كانت النون في زرجون قياسها أن تكون أصلاً إذ كانت بمنزلة السين من قربوس. قال أبو علي: ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه. قال: والصحيح من نحو هذا الاشتقاق قول رؤبة: في خدر مياس الدمى معرجن وأنشدناه " المعرجن " باللام. فقوله " المعرجن " يشهد بكون النون من عرجون أصلاً وإن كان من معنى الانعراج ألا تراهم فسروا قول الله تعالى " حتى عاد كالعرجون القديم " فقالوا: هي الكباسة إذا قدمت فانحنت فقد " كان على هذا القياس يجب " أن يكون نون " عرجون " زائدة كزيادتها في " زيتون " غير أن بيت رؤبة الذي يقول فيه " المعرجن " منع هذا وأعلمنا أنه أصل رباعي قريب من لفظ الثلاثي كسبطر من سبط ودمثر من دمث ألا ترى أنه ليس في الأفعال " فعلن " وإنما ذلك في الأسماء نحو علجن وخلبن. ومما يدل على أن ما قيس على كلام العرب فإنه من كلامها أنك لو مررت على قوم " يتلاقون بينهم مسائل " أبنية التصريف نحو قولهم في مثال " صمحمح " من الضرب: " ضربرب " ومن القتل " قتلتل " ومن الأكل " أكلكل " ومن الشرب " شربرب " ومن الخروج " خرجرج " ومن الدخول " دخلخل ". وفي مثل " سفرجل " من جعفر: " جعفرر " ومن صقعب " صقعبب " ومن زبرج " زبرجج " ومن ثرتم " ثرتمم " ونحو ذلك. فقال لك قائل: بأي لغة كان هؤلاء يتكلمون لم تجد بداً من أن تقول: بالعربية وإن كانت العرب لم تنطق بواحد من هذه الحروف. فإن قلت: فما تصنع بما حدثكم به أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال: قرأت على الأصمعي هذه الأرجوزة للعجاج: يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا فلما بلغت: تقاعس العز بنا فاقعنسسا قال لي الأصمعي: قال لي الخليل: أنشدنا رجل: ترافع العز بنا فارفنععا فقلت: هذا لا يكون. فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول: فهذا يدل على امتناع القوم من أن يقيسوا على كلامهم ما كان من هذا النحو من الأبنية على أنه من كلامهم ألا ترى إلى قول الخليل وهو سيد قومه وكاشف قناع القياس في علمه كيف منع من هذا ولو كان ما قاله أبو عثمان صحيحاً ومذهباً مرضياً لما أباه الخليل ولا منع منه! فالجواب عن هذا من أوجه عدة: أحدها - أن الأصمعي لم يحك عن الخليل أنه انقطع هنا ولا أنه تكلم بشيء بعده فقد يجوز أن يكون الخليل لما احتج عليه منشده ذلك البيت ببيت العجاج عرف الخليل حجته فترك مراجعته وقطع الحكاية على هذا الموضع يكاد يقطع بانقطاع الخليل عنده ولا ينكر أن يسبق الخليل إلى القول بشيء فيكون فيه تعقب له فينبه عليه فينتبه. وقد يجوز أيضاً أن يكون الأصمعي سمع من الخليل في هذا من قبوله أورده على المحتج به ما لم يحكه للخليل بن أسد لا سيما والأصمعي ليس ممن ينشط للمقاييس ولا لحكاية التعليل. نعم وقد يجوز أن يكون الخليل أيضاً أمسك عن شرح الحال في ذلك وما قاله لمنشده البيت من تصحيح قوله أو إفساده للأصمعي لمعرفته بقلة انبعاثه في النظر وتوفره على ما يروى ويحفظ. وتؤكد هذا عندك الحكاية عنه وعن الأصمعي وقد كان أراده الأصمعي على أن يعلمه العروض فتعذر ذلك على الأصمعي وبعد عنه فيئس الخليل منه فقال له يوماً: يا أبا سعيد كيف تقطع قول الشاعر: قال: فعلم الأصمعي أن الخليل قد تأذى ببعده عن علم العروض فلم يعاوده فيه. ووجه غير هذا وهو ألطف من جميع ما جرى وأصنعه وأغمضه وذلك أن يكون الخليل إنما أنكر ذلك لأنه بناه " مما " لامه حرف حلقي والعرب لم تبن هذا المثال مما لامه أحد حروف الحلق إنما هو مما لامه حرف فموي وذلك نحو اقعنسس واسحنكك واكلندد واعفنجج. فلما قال الرجل للخليل " فارفنععا " أنكر ذلك من حيث أرينا. فإن قيل: وليس ترك العرب أن تبني هذا المثال مما لامه حرف حلقي بمانع أحداً من بنائه من ذلك ألا ترى أنه ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع فإذا حذا إنسان على مثلهم وأم مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعاً ولا أن يرويه رواية. قيل: إذا تركت العرب أمراً من الأمور لعلة داعية إلى تركه وجب اتباعها عليه ولم يسع أحداً بعد ذلك العدول عنه. وعلة امتناع ذلك عندي ما أذكره لتتأمله فتعجب منه وتأنق لحسن الصنعة فيه. وذلك أن العرب زادت هذه النون الثالثة الساكنة في موضع حروف اللين أحق به وأكثر من النون فيه ألا ترى أنك إذا وجدت النون ثالثة ساكنة فيما عدته خمسة أحرف قطعت بزيادتها نحو نون جحنفل وعبنقس وجرنفس وفلنقس وعرندس عرفت الاشتقاق أو لم تعرفه حتى قال أصحابنا: وإنما كان ذلك لأن هذا الموضع إنما هو للحروف الثلاثة الزوائد نحو واو فدوكس وسرومط وياء سميدع وعميثل وألف جرافس وعذافر. والنون حرف من حروف الزيادة أغن ومضارع لحروف اللين وبينه وبينها من القرب والمشابهات ما قد شاع وذاع. فألحقوا النون في ذلك بالحروف اللينة الزائدة. وإذا كان كذلك فيجب أن تكون هذه النون - إذا وقعت ثالثة في هذه المواضع - قوية الشبه بحروف المد وإنما يقوى شبهها بها متى كانت ذات غنة لتضارع بها حروف المد للينها وإنما تكون فيها الغنة متى كانت من الأنف وإنما تكون من الأنف متى وقعت ساكنة وبعدها حرف فموي لا حلقي نحو جحنفل وبابه. وكذلك أيضاً طريقها وحديثها في الفعل ألا ترى أن النون في باب احرنجم وادلنظى إنما هي محمولة من حيث كانت ثالثة ساكنة على الألف نحو اشهاببت وادهاممت وابياضضت واسواددت والواو في نحو اغدودن واعشوشب واخلولق واعروريت واذلوليت واقطوطيت واحلوليت. وإذا كانت النون في باب احرنجم واقعنسس إنما هي أيضاً محمولة على الواو والألف في هذه الألفاظ التي ذكرناها وغيرها وجب أن تضارعها وهي أقوى شبهاً بها. وإنما يقوى شبهها بها إذا كانت غناء وإنما تكون كذلك إذا وقعت قبل حروف الفم نحوها في اسحنكك واقعنسس واحرنجم واخرنطم. وإذا كان كذلك لم يجز أن يقع بعدها حرف حلقي لأنها إذا كانت كذلك كانت من الفم وإذا كانت من الفم سقطت غنتها وإذا سقطت غنتها زال شبهها بحرفي المد: الواو والألف. فلذلك أنكره الخليل وقال: هذا لا يكون. وذلك أنه رأى نون " ارفنعع " في موضع لا تستعملها العرب فيه إلا غناء غير مبنية فأنكره وليست كذلك في اقعنسس لأنها قبل السين وهذا موضع تكون فيه مغنة مشابهة لحرفي اللين ولهذا ما كانت النون في " عجنس " و " هجنع " كباء " عدبس " ولامي " شلعلع " ولم يقطع على أن الأولى منهما الزائدة كما قطع على نون " جحنفل " بذلك من حيث كانت مدعمة وادغامها يخرجها من الألف لأنها تصير إلى لفظ المتحركة بعدها وهي من الفم. وهذا أقوى ما يمكن أن يحتج به في هذا الموضع. وعلى ما نحن عليه فلو قال لك قائل: كيف تبني من ضرب مثل " حبنطىً " لقلت فيه: " ضربنىً ". ولو قال: كيف تبني مثله من قرأ لقلت: هذا لا يجوز لأنه يلزمني أن أقول: " قرنأى " فأبين النون لوقوعها قبل الهمزة وإذا بانت ذهبت عنها غنتها وإذا ذهبت غنتها زال شبهها بحروف اللين في نحو عثوثل وخفيدد وسرومط وفدوكس وزرارق وسلالم وعذافر وقراقر - على ما تقدم - ولا يجوز أن تذهب عنها الغنة في هذا الموضع الذي هي محمولة فيه على حروف اللين بما فيها من الغنة التي ضارعتها بها وكذلك جميع حروف الحلق. فلا يجوز أيضاً أن تبنى من صرع ولا من جبه ولا من سنح ولا من سلخ ولا من فرغ لأنه كان يلزمك أن تقول: صرنعى وجبنهى وسننحى وسلنخى وفرنغى فتبين النون في هذا الموضع. وهذا لا يجوز لما قدمنا ذكره. ولكن من أخفى النون عند الخاء والغين في نحو منخل ومنغل يجوز على مذهبه أن يبني نحو حبنطى من سلخ وفرغ لأنه قد يكون هناك في لغته من الغنة ما يكون مع حروف الفم. وقلت مرة لأبي على - رحمه الله - قد حضرني شيء في علة الإتباع في " نقيذ " وإن عري أن تكون عينه حلقية وهو قرب القاف من الخاء والغين فكما جاء عنهم النخير والرغيف كذلك جاء عنهم " النقيذ " فجاز أن تشبه القاف لقربها من حروف الحلق بها كما شبه من أخفى النون عند الخاء والغين إياهما بحروف الفم فالنقيذ في الإتباع كالمنخل والمنغل فيمن أخفى النون فرضيه وتقبله. ثم رأيته وقد أثبته فيما بعد بخطه في تذكرته ولم أر أحداً من أصحابنا ذكر " امتناع فعنلى " وبابه فيما لامه حرف حلقي لما يعقب ذلك من ظهور النون وزوال شبهها بحروف اللين والقياس يوجبه فلنكن عليه. ويؤكده عنك أنك لا تجد شيئاً من باب فعنلى ولا فعنلل ولا فعنعل بعد نونه حرف حلقي. وقد يجوز أن يكون إنكار الخليل قوله " فارفنععا " إنما هو لتكرر الحرف الحلقي مع استنكارهم ذلك. ألا ترى إلى قلة التضعيف في باب المهه والرخخ والبعاع والبحح والضغيغة والرغيغة هذا مع ما قدمناه من ظهور النون في هذا الموضع. ومن ذلك قول أصحابنا: إن اسم المكان والمصدر على وزن المفعول في الرباعي قليل إلا أن تقيسه. وذلك نحو المدحرج تقول: دحرجته مدحرجاً وهذا مدحرجنا وقلقلته مقلقلاً وهذا مقلقلنا وكذلك أكرمته مكرماً وهذا مكرمك أي موضع إكرامك وعليه قول الله تعالى: {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي تمزيق وهذا ممزق الثياب أي الموضع الذي تمزق فيه. قال أبو حاتم: قرأت على الأصمعي في جيمية العجاج: جأباً ترى بليته مسحجاً فقال: تليله فقلت: بليته فقال: هذا لا يكون فقلت: أخبرني به من سمعه من فِلق في رؤبة أعني أبا زيد الأنصاري فقال: هذا لا يكون فقلت: جعله مصدراً أي تسحيجاً فقال: هذا لا يكون فقلت: فقد قال جرير: ألم تعلم مسرحي القوافي فلا عياً بهن ولا اجتلابا أي تسريحي. فكأنه أراد أن يدفعه فقلت له: فقد قال الله عز وجل: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فأمسك. وتقول على ما مضى: تألفته متألفاً وهذا متألفنا وتدهورت متدهوراً وهذا متدهورك وتقاضيتك متقاضىً وهذا متقاضانا. وتقول: اخروَّط مخروَّطاً وهذا مخروَّطنا واغدودن مغدودنا وهذا مغدودننا وتقول: اذلوليت مذلولىً وهذا مذلولانا ومذلولاكن يا نسوة وتقول: اكوهدَّ مكوهداً وهذا مكوهدكما. فهذا كله من كلام العرب ولم يسمع منهم ولكنك سمعت ما هو مثله وقياسه قياسه ألا ترى إلى قوله: أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا غم الجبان من الكرب وقوله: أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس وقوله: كأن صوت الصنج في مصلصله فقوله " مصلصله " يجوز أن يكون مصدراً أي في صلصلته ويجوز أن يكون موضعاً للصلصله. وأما قوله: . . . حتى لا أرى لي مقاتلا فمصدر ويبعد أن يكون موضعاً أي حتى لا أرى لي موضعاً للقتال: المصدر هنا أقوى تراد على دمن الحياض فإن تعف فإن المندَّى رحلة فركوب أي مكان تنديتنا إياها أن نرحلها فنركبها. وهذا كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع أي ليست هناك تحية بل مكان التحية ضرب. فهذا كقول الله سبحانه {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. وقال رؤبة: جدب المندى شئِز المُعَوَّهِ فهذا اسم لموضع التندية أي جدب هذا المكان. وكذلك " المعوه " مكان أيضاً والقول فيهما واحد. وهذا باب مطرد متقاود. وقد كنت ذكرت طرفاً منه في كتابي " شرح تصريف أبي عثمان " غير أن الطريق ما ذكرت لك. فكل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم. ولهذا قال من قال في العجاج ورؤبة: إنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما. وقد كان الفرزدق يلغز بالأبيات ويأمر بإلقائها على ابن أبي إسحاق. وحكى الكسائي أنه سأل بعض العرب عن أحد مطايب الجزور فقال: مطيب وضحك الأعرابي من نفسه كيف تكلف لهم ذلك من كلامه. فهذا ضرب من القياس ركبه الأعرابي وذكر أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها فإذا رأى الاشتقاق قابلاً لها أنس بها وزال استيحاشه منها. فهل هذا إلا اعتماد في تثبيت اللغة على القياس. ومع هذا أنك لو سمعت ظرف ولم تسمع يظرف هل كنت تتوقف عن أن تقول يظرف راكباً له غير مستحيٍ منه. وكذلك لو سمعت سلم ولم تسمع مضارعه أكنت ترع أو ترتدع أن تقول يسلم قياساً أقوى من كثير من سماع غيره. ونظائر ذلك فاشية كثيرة.

باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدا 

من ذلك قول لبيد: سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال وقال: أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها وقال: فظلت لدى البيت العتيق أُخيلُهو ومطواي مشتاقان لهْ أرقان فهاتان لغتان: أعني إثبات الواو في " أخيلهو " وتسكين الهاء في قوله " له " لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة وإذا كان كذلك فهما لغتان. وليس إسكان الهاء في " له " عن حذف لحق بالصنعة الكلمة لكن ذاك لغة. ومثله ما رويناه عن قطرب: وأشرب الماء ما بي نحوهو عطش إلا لأن عيونهْ سيل واديها وأما قول الشماخ: له زجل كأنه صوت حا إذا طلب الوسيقة أو زمير فليس هذا لغتين لأنا لا نعلم رواية حذف هذه الواو وإبقاء الضمة قبلها لغة فينبغي أن يكون ذلك ضرورة " وصنعة " لا مذهباً ولغة. وكذلك يجب عندي وينبغي ألا يكون لغة لضعفه في القياس. ووجه ضعفه أنه ليس على مذهب الوصل ولا مذهب الوقف. أما الوصل فيوجب إثبات واوه كلقيتهو أمس. وأما الوقف فيوجب الإسكان كلقيته وكلمته فيجب أن يكون ذلك ضرورة للوزن لا لغة. وأنشدني الشجري لنفسه: وإنا ليرعى في المخوف سوامنا كأنه لم يشعر به من يحاربه فاختلس ما بعد هاء " كأنه " ومطل ما بعد هاء " بِهىِ " واختلاس ذلك ضرورة وصنعة على ما تقدم به القول. ومن ذلك قولهم: بغداد وبغدان. وقالوا أيضاً: مغدان وطبرزل وطبرزن. وقالوا للحية: أيم وأين. وأعصر ويعصر: أبو باهلة. والطِنفِسة والطُنفُسة. وما اجتمعت فيه لغتان أو ثلاث أكثر من أن يحاط به. فإذا ورد شيء من ذلك - كأن يجتمع في لغة رجل واحد لغتان فصيحتان - فينبغي أن تتأمل حال كلامه فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال كثرتهما واحدة فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على ذينك اللفظين لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها. وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها عهده وكثر استعماله لها فلحقت - لطول المدة واتصال استعمالها - بلغته الأولى. وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة والكثيرته هي الأولى الأصلية. نعم وقد يمكن في هذا أيضاً أن تكون القلي منهما إنما قلت في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه وإن كانتا جميعاً لغتين له ولقبيلته. وذلك أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى في القياس منه ألا ترى إلى حكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بنصب النهار وأن أبا العباس قال له: ما أردت فقال: أردت " سابقٌ النهار " قال أبو العباس فقلت له: فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى. فهذا يدلك على أنهم قد يتكلمون بما غيره عندهم أقوى منه وذلك لاستخفافهم الأضعف إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة إذ لولا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المسامحة. وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد فإن أخرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفاً منها من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله. هذا غالب الأمر وإن كان الآخر في وجه من القياس جائزاً. وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد نحو قولهم: هي رَغوة اللبن ورُغوته ورِغوته ورُغاوته ورِغاوته ورُغايته. وكقولهم: الذَرُوح والذُرُّوح والذِّرِّيح والذُرَّاح والذُرَّح والذُرنوح والذُرحرح والذُرَّحرح روينا ذلك كله. وكقولهم: جئته من علُ ومن عِل ومن علا ومن عَلوُ ومن عَلوَ ومن عَلو ومن عُلُوّ ومن عال ومن معال. فإذا أرادوا النكرة قالوا: من علٍ. وههنا من هذا ونحوه أشباه له كثيرة. وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هَنَّا ومن هَنَّا. ورويت عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر فقال أحدهما: الصقر " بالصاد " وقال الآخر: السقر " بالسين " فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه. فقال: لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر. أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة كيف أفاد في هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها. وهكذا تتداخل اللغات. وسنفرد لذلك باباً بإذن فقد وضح ما أوردنا بيانه من حال اجتماع الللغتين أو اللغات في كلام الواحد من العرب.

باب في تركب اللغات 

اعلم أن هذا موضع قد دعا أقواماً ضعف نظرهم وخفت إلى تلقي ظاهر هذه اللغة أفهامهم أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم وادعوا أنها موضوعة في أصل اللغة على ما سمعوه بأخرة من أصحابها وأنسوا ما كان ينبغي أن يذكروه وأضاعوا ما كان واجباً أن يحفظوه. ألا تراهم كيف ذكروا في الشذوذ ما جاء على فعل يفعل نعم ينعم ودمت تدوم ومت تموت. وقالوا أيضاً فيما جاء من فعل يفعل وليس عينه ولا لامه حرفاً حلقياً نحو قلى يقلى وسلا يسلى وجبى يجبى وركن يركن وقنط يقنط. ومما عدوه شاذاً ما ذكروه من فعل فهو فاعل نحو طهر فهو طاهر وشعر فهو شاعر وحمض فهو حامض وعقرت المرأة فهي عاقر ولذلك نظائر كثيرة. واعلم أن أكثر ذلك وعامته إنما هو لغات تداخلت فتركبت على ما قدمناه في الباب الذي هذا الباب يليه. هكذا ينبغي أن يعتقد وهو أشبه بحكمة العرب. وذلك أنه قد دلت الدلالة على وجوب مخالفة صيغة الماضي لصيغة المضارع إذ الغرض في صيغ هذه المثل إنما هو لإفادة الأزمنة فجعل لكل زمان مثال مخالف لصاحبه وكلما ازداد الخلاف كانت في ذلك قوة الدلالة على الزمان. فمن ذلك أن جعلوا بإزاء حركة فاء الماضي سكون فاء المضارع وخالفوا بين عينيهما فقالوا: ضرب يضرب وقتل يقتل وعلم يعلم. فإن قلت: فقد قالوا: دحرج يدحرج فحركوا فاء المضارع والماضي جميعاً وسكنوا عينيهما أيضاً قيل: لما فعلوا ذلك في الثلاثي الذي هو أكثر استعمالاً وأعم تصرفاً وهو كالأصل للرباعي لم يبالوا ما فوق ذلك مما جاوز الثلاثة. وكذلك أيضاً قالوا: تقطع يتقطع وتقاعس يتقاعس وتدهور يتدهور ونحو ذلك لأنهم أحكموا الأصل الأول الذي هو الثلاثي. فقل حفلهم بما وراءه كما أنهم لما أحكموا أمر المذكر في التثنية فصاغوها على ألفها لم يحفلوا بما عرض في المؤنث من اعتراض علم التأنيث بين الاسم وبين ما هو مصوغ عليه من علمها نحو قائمتان وقاعدتان. فإن قلت: فقد نجد في الثلاثي ما تكون حركة عينيه في الماضي والمضارع سواء وهو باب فعل نحو كرم يكرم وظرف يظرف. قيل: على كل حال فاؤه في المضارع ساكنة وأما موافقة حركة عينيه فلأنه ضرب قائم في الثلاثي برأسه ألا تراه غير متعد البتة وأكثر باب فعَل وفعِل متعد. فلما جاء هذا مخالفاً لهما - وهما أقوى وأكثر منه - خولف بينهما وبينه فووفق بين حركتي عينيه وخولف بين حركتي عينيهما. وإذا ثبت وجوب خلاف صيغة الماضي صيغة المضارع وجب أن يكون ما جاء من نحو سلا يسلى وقلى يقلى ونحو ذلك مما التقت فيه حركتا عينيه منظوراً في أمره ومحكوماً عليه بواجبه. فنقول: إنهم قد قالوا: قليت الرجل وقليته. فمن قال: قلَيته فإنه يقول أقليه ومن قال قلِيته قال: أقلاه. وكذلك من قال: سلوته قال: أسلوه ومن قال سليته قال: أسلاه ثم تلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا وهذا لغة هذا فأخذ كل واحد منهما من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة كأن من يقول سلا أخذ مضارع من يقول سلى فصار في لغته سلا يسلى. فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يأخذ من يقول سلِى مضارع من يقول سلا فيجيء من هذا أن يقال: سلى يسلو. قيل: منع من ذلك أن الفعل إذا أزيل ماضيه عن أصله سرى ذلك في مضارعه وإذا اعتل مضارعه سرى ذلك في ماضيه إذ كانت هذه المثل تجري عندهم مجرى المثال الواحد ألا تراهم لما أعلوا " شقي " أعلوا أيضاً مضارعه فقالوا يشقيان: ولما أعلوا " يغزي " أعلوا أيضاً أغزيت ولما أعلوا " قام " أعلوا أيضاً يقوم. فلذلك لم يقولوا: سليت تسلو فيعلوا الماضي ويصححوا المضارع. فإن قيل: فقد قالوا: محوت تمحى وبأوت تبأى وسعيت تسعى ونأيت تنأى فصححوا الماضي وأعلوا المستقبل. قيل: إعلال الحرفين إلى الألف لا يخرجهما كل الإخراج عن أصلهما ألا ترى أن الألف حرف ينصرف إليه عن الياء والواو جميعاً فليس للألف خصوص بأحد حرفي العلة فإذا قلب واحد منهما إليه فكأنه مقر على بابه ألا ترى أن الألف لا تكون أصلاً في الأسماء ولا الأفعال وإنما هي مؤذنة بما هي بدل منه وكأنها هي هو وليست كذلك الواو والياء لأن كل واحدة منهما قد تكون أصلاً كما تكون بدلاً. فإذا أخرجت الواو إلى الياء اعتد بذلك لأنك أخرجتها إلى صورة تكون الأصول عليها والألف لا تكون أصلاً أبداً فيهما فكأنها هي ما قلبت عنه البتة فاعرف ذلك فإن أحداً من أصحابنا لم يذكره. ومما يدلك على صحة الحال في ذلك أنهم قالوا: غزا يغزو ورمى يرمي فأعلوا الماضي بالقلب ولم يقلبوا المضارع لما كان اعتلال لام الماضي إنما هو بقلبها ألفاً والألف لدلالتها على ما قلبت ويدلك على استنكارهم أن يقولوا: سليت تسلو لئلا يقلبوا في الماضي ولا يقلبوا في المضارع أنهم قد جاءوا في الصحيح بذلك لما لم يكن فيه من قلب الحرف في الماضي وترك قلبه في المضارع ما جفا عليهم وهو قولهم: نعِم ينعُم وفضِل يفضُل. وقالوا في المعتل: مِت تموت ودِمت تدوم وحكي في الصحيح أيضاً حضِر القاضي يحضُره. فنعِم في الأصل ينعَم وينعم في الأصل مضارع نعُم ثم تداخلت اللغتان فاستضاف من يقول نعِم لغة من يقول ينعُم فحدثت هناك لغة ثالثة. فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يستضيف من يقول: نعُم مضارع من يقول نعِم فتركب من هذا أيضاً لغة ثالثة وهي نعُم ينعَم. قيل: منع من هذا أن فعُل لا يختلف مضارعه أبداً وليس كذلك نعِم لأن نعِم قد يأتي فيه ينعِم وينعَم جميعاً فاحتمل خلاف مضارعه وفعُل لا يحتمل مضارعه الخلاف ألا تراك كيف تحذف فاء وعد في يعد لوقوعها بين ياء وكسرة وأنت مع ذلك تصحح نحو وضؤ ووطؤ إذا قلت: يوضؤ ويوطؤ وإن وقعت الواو بين ياء وضمة ومعلوم أن الضمة أثقل من الكسرة لكنه لما كان مضارع فعُل لا يجيء مختلفاً لم يحذفوا فاء وضؤ ولا وطؤ ولا وضع لئلا يختلف باب ليس من عادته أن يجيء مختلفاً. فإن قلت: فما بالهم كسروا عين ينعِم وليس في ماضيه إلا نعِم ونعُم وكل واحد من فعِل وفعُل ليس له حظ من باب يفعِل. قيل: هذا طريقه غير طريق ما قبله. فإما أن يكون ينعم - بكسر العين - جاء على ماض وزنه فعَل غير أنهم لم ينطقوا به استغناء عنه بنعِم ونعُم كما استغنوا بتَرك عن وَذر وودع وكما استغنوا بملامح عن تكسير لمحة وغير ذلك. أو يكون فعِل في هذا داخلاً على فعُل فكما أن فعُل بابه يفعل كذلك شبهوا بعض فعِل به فكسروا عين مضارعه كما ضموا في ظرف عين ماضيه ومضارعه. فنعِم ينعِم في هذا محمول على كرم يكرم كما دخل يفعل فيما ماضيه فعَل نحو قتل يقتل على باب يشرف ويظرف. وكأن باب يفعل إنما هو لما ماضيه فعُل ثم دخلت يفعُل في فعَل على يفعِل لأن ضرب يضرب أقيس من قتل يقتل. ألا ترى أن ما ماضيه فعِل إنما بابه فتح عين مضارعه نحو ركب يركب وشرب يشرب. فكما فتح المضارع لكسر الماضي فكذلك أيضاً ينبغي أن يكسر المضارع لفتح الماضي. وإنما دخلت يفعُل في باب فعَل على يفعِل من حيث كانت كل واحدة من الضمة والكسرة مخالفة للفتحة ولما آثروا خلاف حركة عين المضارع لحركة عين الماضي ووجدوا الضمة مخالفة للفتحة خلاف الكسرة لها عدلوا في بعض ذاك إليها فقالوا: قتل يقتل ودخل يدخل وخرج يخرج. وأنا أرى أن يفعل فيما ماضيه فَعَل في غير المتعدي أقيس من يفعِل فضرب يضرب إذاً أقيس من قتل يقتل وقعد يقعد أقيس من جلس يجلس. وذلك أن يفعل إنما هي في الأصل لما لا يتعدى نحو كرم يكرم على ما شرحنا من حالها. فإذا كان كذلك كان أن يكون في غير المتعدي فيما ماضيه فعَل أولى وأقيس. فإن قيل: فكيف ذلك ونحن نعلم أن يفعُل في المضاعف المتعدي أكثر من يفعِل نحو شده يُشدُّه ومده يمده وقده يقده وجزه يجزه وعزه يعزه وأزه يؤزه وعمه يعمه وأمه يؤمه وضمه يضمه وحله يحله وسله يسله وتله يتله. ويفعِل في المضاعف قليل محفوظ هره يهِره وعله يعِله وأحرف قليلة. وجميعها يجوز فيه " أفعُله " نحو عله يعله وهره يهره إلا حبه يحبه فإنه مكسور المضارع لا غير. قيل: إنما جاز هذا في المضاعف لاعتلاله والمعتل كثيراً ما يأتي مخالفاً للصحيح نحو سيد وميت وقضاة وغزاة ودام ديمومة وسار سيرورة. فهذا شيء عرض قلنا فيه ولنعد. وكذلك حال قولهم قنط يقنط إنما هو لغتان تداخلتا. وذلك أن قنَط يقنِط لغة وقنِط يقنَط أخرى ثم تداخلتا فتركبت لغة ثالثة. فقال من قال قنَط: يقنَط ولم يقولوا: قنِط يقنِط لأن آخذاً إلى لغته لغة غيره قد يجوز أن يقتصر على بعض اللغة التي أضافها إلى لغته دون بعض. وأما حسب يحسب ويئس ييئس ويبس ييبس فمشبه بباب كرم يكرم على ما قلنا في نعِم ينعِم. وكذلك مِت تموت ودِمت تدوم وإنما تدوم وتموت على من قال مُت ودُمت وأما مِت ودِمت فمضارعهما تمات وتدام قال: يا ميّ لاغرو ولا ملاما في الحب إن الحب لن يداما وقال: بنيَّ يا سيدة البنات عيشي ولا يؤمن أن تماتي ثم تلاقى صاحبا اللغتين فاستضاف هذا بعض لغة هذا وهذا بعض لغة هذا فتركبت لغة ثالثة. قال الكسائي: سمعت من أخوين من بني سليم: نما ينمو ثم سألت بني سليم عنه فلم يعرفوه. وأنشد أبو زيد لرجل من بني عقيل: ألم تعلمي ما ظلت بالقوم واقفا على طلل أضحت معارفه قفرا فكسروا الظاء في إنشادهم وليس من لغتهم. وكذلك القول فيمن قال: شعر فهو شاعر وحمض فهو حامض وخثر فهو خاثر: إنما هي على نحو من هذا. وذلك أنه يقال: خَثُر وخَثَر وحمُض وحمَض وشعُر وشعَر وطهُر وطهَر فجاء شاعر وحامض وخاثر وطاهر على حمَض وشعَر وخثَر وطهَر ثم استغني بفاعل عن " فعيل " وهو في أنفسهم وعلى بال من تصورهم. يدل على ذلك تكسيرهم لشاعر: شعراء لما كان فاعل هنا واقعاً موقع " فعيل " كسر تكسيره ليكون ذلك أمارة ودليلاً على إرادته وأنه مغن عنه وبدل منه كما صحح العواور ليكون دليلاً على إرادة الياء في العواوير ونحو ذلك. وعلى ذلك قالوا: عالم وعلماء - قال سيبويه: يقولها من لا يقول عليم - لكنه لما كان العلم إنما يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة ولم يكن على أول دخوله فيه ولو كان كذلك لكان متعلماً لا عالماً فلما خرج بالغريزة إلى باب فعُل صار عالم في المعنى كعليم فكسر تكسيره ثم حملوا عليه ضده فقالوا: جهلاء كعلماء وصار علماء كحلماء لأنه العلم محلمة لصاحبه وعلى ذلك جاء عنهم فاحش وفحشاء لما كان الفحش ضرباً من ضروب الجهل ونقيضاً للحلم أنشد الأصمعي - فيما روينا عنه -: وهل علمت فحشاء جهله وأما غسا يغسى وجبى يجبى فإنه كأبى يأبى. وذلك أنهم شبهوا الألف في آخره بالهمزة في قرأ يقرأ وهدأ يهدأ. وقد قالوا غسى يغسى فقد يجوز أن يكون غسا يغسى من التركيب الذي تقدم ذكره. وقالوا أيضاً جبى يجبى وقد أنشد أبو زيد: يا إبلي ماذا مه فتأبيَه فجاء به على وجه القياس كأتى يأتي. كذا رويناه عنه وقد تقدم ذكره وأنني قد شرحت حال هذا الرجز في كتابي " في النوادر الممتعة ". واعلم أن العرب تختلف أحوالها في تلقي الواحد منها لغة غيره فمنهم من يخف ويسرع قبول ما يسمعه ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتة ومنهم من إذا طال تكرر لغة غيره عليه لصقت به ووجدت في كلامه ألا ترى إلى قول رسول الله وقد قيل: يا نبيء الله فقال: ( لست بنبيء الله ولكنني نبيّ الله ) وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز في اسمه فرده على قائله لأنه لم يدر بم سماه فأشفق أن يمسك على ذلك وفيه شيء يتعلق بالشرع فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور أو حاظر مباح. وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحي قال: اجتمع أبو عبد الله ابن الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد فسأل أبو زياد أبا عبد الله عن قول النابغة الذبياني: على ظهر مبناةٍ. . . فقال أبو عبد الله: النَّطع فقال أبو زياد: لا أعرفه فقال: النِطع فقال أبو زياد: نعم أفلا ترى كيف أنكر غير لغته على قرب بينهما. وحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد عن أبي بكر محمد بن هرون الروياني عن أبي حاتم قال: قرأ علي أعرابي بالحرم: " طيبى لهم وحسن مآب " فقلت: طوبى فقال طيبى قلت طوبى قال طيبى. فلما طال علي الوقت قلت: طوطو فقال طي طي. أفلا ترى إلى استعصام هذا الأعرابي بلغته وتركه متابعة أبي حاتم. والخبر المرفوع في ذلك وهو سؤال أبي عمرو أبا خيرة عن قولهم: استأصل الله عرقاتهم فنصب أبو خيرة التاء من " عِرقاتهم " فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جلدك. وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب بعد ما كان سمعها منه بالجر قال: ثم رواها فيما بعد أبو عمرو بالنصب والجر فإما أن يكون سمع النصب من غير أبي خيرة ممن يرضى عربيته وإما أن يكون قوي في نفسه ما سمعه من أبي خيرة من نصبها. ويجوز أيضاً أن يكون قد أقام الضعف في نفسه فحكى النصب على اعتقاده ضعفه وذلك أن الأعرابي قد ينطق بالكلمة يعتقد أن غيرها أقوى في نفسه منها ألا ترى أن أبا العباس حكى عن عمارة أنه كان يقرأ { وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ} بالنصب قال أبو العباس: فقلت له ما أردت فقال: سابقٌ النهارَ فقلت له فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى. وقد ذكرنا هذه الحكاية للحاجة إليها في موضع آخر ولا تستنكر إعادة الحكاية فربما كان في الواحدة عدة أماكن مختلفة يحتاج فيها إليها. فأما قولهم: عقرت فهي عاقر فليس " عاقر " عندنا بجار على الفعل جريان قائم وقاعد عليه وكذلك قولهم: طلقت فهي طالق فليس عاقر من عقرت بمنزلة حامض من حمض ولا خاثر من خثر ولا طاهر من طهر ولا شاعر من شعر لأن كل واحد من هذه هو اسم الفاعل وهو جار على فَعَل " فاستغني به عما يجري على فعُل وهو " فعيل على ما قدمناه. وسألت أبا علي - رحمه الله - فقلت: قولهم حائض بالهمزة يحكم بأنه جار على حاضت لاعتلال عين فعلت. فقال: هذا لا يدل. وذلك أن صورة فاعل مما عينه معتلة لا يجيء إلا مهموزاً جرى على الفعل أو لم يجر لأن بابه أن يجري عليه فحملوا ما ليس جارياً عليه على حكم الجاري عليه لغلبته إياه فيه. وقد ذكرت هذا فيما مضى. فاعرف ما رسمت لك واحمل - ما يجيء منه عليه - فإنه كثير وهذا طريق قياسه. باب فيما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور إذا اتفق شيء من ذلك نظر في حال ذلك العربي وفيما جاء به. فإن كان الإنسان فصيحاً في جميع ما عدا ذلك القدر الذي انفرد به وكان ما أورده مما يقبله القياس إلا أنه لم يرد به استعمال إلا من جهة ذلك الإنسان فإن الأولى في ذلك أن يحسن الظن به ولا يحمل على فساده. فإن قيل: فمن أين ذلك له وليس مسوغاً أن يرتجل لغة لنفسه قيل: قد يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها وتأبدت معالمها. أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال ابن عون عن ابن سيرين قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ولهيت عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من وحدثنا أبو بكر أيضاً عن أبي خليفة قال قال يونس بن حبيب: قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير. فهذا ما تراه وقد روي في معناه كثير. وبعد فلسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابني نزار فقد يمكن أن يقع شيء من تلك اللغة في لغتهم فيساء الظن فيه بمن سمع منه وإنما هو منقول من تلك اللغة. ودخلت يوماً على أبي علي - رحمه الله - خالياً في آخر النهار فحين رآني قال لي: أين أنت أنا أطلبك. قلت: وما ذلك قال: ما تقول فيما جاء عنهم من حَوريت فخضنا معاً فيه فلم نحل بطائل منه فقال: هو من لغة اليمن ومخالف للغة ابني نزار فلا ينكر أن يجيء مخالفاً لأمثلتهم. وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثني محمد بن يزيد بن ربان قال أخبرني رجل عن حماد الراوية قال: أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب في الطنوج - قال: وهي الكراريس - ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد قيل له: إن تحت القصر كنزاً فاحتفره فأخرج تلك الأشعار. فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة. وهذا ونحوه مما يدلك على تنقل الأحوال بهذه اللغة واعتراض الأحداث عليها وكثرة تغولها وتغيرها. فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ وما وجد طريق إلى تقبل ما يورده إذا كان القياس يعاضده فإن لم يكن القياس مسوغاً له كرفع المفعول وجر الفاعل ورفع المضاف إليه فينبغي أن يرد. وذلك لأنه جاء مخالفاً للقياس والسماع جميعاً فلم يبق له عصمة تضيفه ولا مسكة تجمع شعاعه. فأما قول الشاعر - فيما أنشده أبو الحسن -: يوم الصليفاء لم يوفون بالجار فإن شبه للضرورة لم ب " لا " فقد يشبه حروف النفي بعضها ببعض وذلك لاشتراك الجميع في دلالته عليه ألا ترى إلى قوله - أنشدناه -: أجِدَّك لم تغتمض ليلة فترقدها مع رقادها فاستعمل " لم " في موضع الحال وإنما ذلك من مواضع ما النافية للحال. وأنشدنا أيضاً: أجِدّك لن ترى بثعيلباتٍ ولا بيدان ناحية ذَمولا استعمل أيضاً " لن " في موضع " ما ". أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي فخضنا فيه واستقر الأمر فيه على أنه حذف النون من تبيتين كما حذف الحركة للضرورة في قوله: فاليوم أشرب غير مستحقب كذا وجهته معه فقال لي: فكيف تصنع بقوله " تدلكي " قلت: نجعله بدلاً من " تبيتي " أو حالاً فنحذف النون كما حذفها من الأول في الموضعين فاطمأن الأمر على هذا. وقد يجوز أن يكون " تبيتي " في موضع النصب بإضمار " أن " في غير الجواب كما جاء بيت الأعشى: لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها ويأوي إليها المستجير فيعصما وأنشد أبو زيد - وقرأته عليه -: بياض بالأصل فجاء به على إضمار " أن " كبيت الأعشى. فأما قول الآخر: إن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح فيجوز أن تكون " أن " هي الناصبة للاسم مخففة غير أنه أولاها الفعل بلا فصل كما قال إن تحملا حاجة لي خف محملها تستوجبا نعمة عندي بها ويدا أن تقرآن على أسماء - ويحكما - مني السلام وألا تعلما أحدا سألت عنه أبا علي رحمه الله فقال: هي مخففة من الثقيلة كأنه قال: أنكما تقرآن إلا أنه خفف من غير تعويض. وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: شبه " أن " ب " ما " فلم يعملها كما لم يعمل ما. فأما ما حكاه الكسائي عن قضاعة من قولها: مررت به والمال له فإن هذا فاش في لغتها كلها لا في واحد من القبيلة وهذا غير الأول. فإذا كان الرجل الذي سمعت منه تلك اللغة المخالفة للغات الجماعة مضعوفاً في قوله مألوفاً منه لحنه وفساد كلامه حكم عليه ولم يسمع ذلك منه. هذا هو الوجه وعليه ينبغي أن يكون العمل. وإن كان قد يمكن أن يكون مصيباً في ذلك لغة قديمة مع ما في كلامه من الفساد في غيره إلا أن هذا أضعف القياسين. والصواب أن يرد ذلك عليه ولا يتقبل منه. فعلى هذا مقاد هذا الباب فاعمل عليه.

باب في امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس 

وإنما يقع ذلك في كلامهم إذا استغنت بلفظ عن لفظ كاستغنائهم بقولهم: ما أجود جوابه عن قولهم: ما أجوبه أو لأن قياساً آخر عارضه فعاق عن استعمالهم إياه وكاستغنائهم ب " كاد زيد يقوم " عن قولهم: كاد زيد قائماً أو قياماً. وربما خرج ذلك في كلامهم قال تأبط شراً: فأبت إلى فهم وما كدت آئبا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر هكذا صحة رواية هذا البيت وكذلك هو في شعره. فأما رواية من لا يضبطه: وما كنت آئبا ولم أك آئبا فلبعده عن ضبطه. ويؤكد ما رويناه نحن مع وجوده في الديوان أن المعنى عليه ألا ترى أن معناه: فأبت وما كدت أءوب فأما " كنت " فلا وجه لها في هذا الموضع. ومثل ذلك استغناؤهم بالفعل عن اسم الفاعل في خبر " ما " في التعجب نحو قولهم: ما أحسن زيداً ولم يستعملوا هنا اسم الفاعل " وإن " كان الموضع في خبر المبتدأ إنما هو للمفرد دون الجملة. ومما رفضوه استعمالاً وإن كان مسوغاً قياساً وذر وودع استغني عنهما بترك. ومما يجوز في القياس - وإن لم يرد به استعمال - الأفعال التي وردت مصادرها ورفضت هي نحو قولهم: فاظ الميت يفيظ فيظاً وفوظاً. ولم يستعملوا من فوظ فِعلاً. وكذلك الأين للإعياء لم يستعملوا منه فِعلاً قال أبو زيد وقالوا: رجل مدرهم ولم يقولوا دُرهم. وحدثنا أبو علي - أظنه عن ابن الأعرابي - أنهم يقولون: درهمت الخبازى فهذا غير الأول. وقالوا: رجل مفئود ولم يصرفوا فِعله ومفعولٌ الصفة إنما يأتي على الفعل نحو مضروب من ضرب ومقتول من قتل. فأما امتناعهم من استعمال أفعال الويح والويل والويس والويب فليس للاستغناء بل لأن القياس نفاه ومنع منه. وذلك أنه لو صرف الفعل من ذلك لوجب اعتلال فائه كوعد وعينه كباع فتحاموا استعماله لما كان يعقب من اجتماع إعلالين. فإن قيل: فهلا صرفت هذه الأفعال واقتصر في الإعلال لها على إعلال أحد حرفيها كراهية لتوالي الإعلالين كما أن شويت ورويت ونحو ذلك لما وقعت عينها ولامها حرفي علة صححوا العين لاعتلال اللام تحامياً لاجتماع الإعلالين فقالوا: شوى يشوي كقوله: رمى يرمي قيل: لو فعل ذلك في فعل ويح وويل لوجب أن تعل العين وتصحح الفاء كما أنه لما وجب إعلال أحد حرفي شويت وطويت وتصحيح صاحبه أعلوا اللام وصححوا العين ومحل الفاء من العين محل العين من اللام فالفاء أقوى من العين كما أن العين أقوى من اللام فلو أعلوا العين في الفعل من الويل ونحوه لقالوا وال يويل وواح يويح وواس يويس وواب يويب فكانت الواو تثبت هنا مكسورة وذلك أثقل منها في باب وعد ألا تراها هناك إنما كرهت مجاورة للكسرة فحذفت وأصلها يوعد والواو ساكنة والكسرة في العين بعدها. ولو قالوا يويل لأثبتوها والكسرة فيها نفسها وذلك أثقل من يوعد لو أخرجوه على أصله وليس كذلك يشوي ويطوي لأن أكثر ما في ذلك أن أخرجوه والحركة فيه. وهكذا كانت حاله أيضاً فيما صحت لامه ألا ترى أن يقوم أصله يقوُم فالعين في الصحيح اللام إنما غاية أصليتها أن تقع متحركة ثم سكنت فقيل يقوم فأما ما صحت عينه وفاؤه واو نحو وعد ووجد فإن أصل بنائه إنما هو سكون فائه وكسرة عينه نحو يوعد ويوزن ويوجد والواو كما ترى ساكنة فلو أنك تجشمت تصحيحها في يويل ويويح لتجاوزت بالفاء حدها المقدر لها فيما صحت عينه. فإن أحللت الكسرة فيها نفسها فكان ذلك يكون - لو تكلف - أثقل من باب يوعد ويوجد لو خرج على الصحة. فاعرف ذلك فرقاً لطيفاً بين الموضعين. ومما يجيزه القياس - غير أن لم يرد به الاستعمال - خبر " العَمْر والايمُن " من قولهم: لعمرك لأقومن ولايمن الله لأنطلقن. فهذان مبتدآن محذوفا الخبرين وأصلهما - لو خرج خبراهما - لعمرك ما أقسم به لأقومن ولايمن الله ما أحلف به لأنطلقن فحذف الخبران وصار طول الكلام بجواب القسم عوضاً من الخبر. ومن ذلك قولهم: لا أدري أي الجراد عاره أي ذهب به ولا يكادون ينطقون بمضارعه والقياس مقتض له وبعضهم يقول: يعوره وكأنهم إنما لم يكادوا يستعملون مضارع هذا الفعل لما كان مثلاً جارياً في الأمر المتقضي الفائت وإذا كان كذلك فلا وجه لذكر المضارع هنا لأنه ليس بمتقضٍّ. ومن ذلك امتناعهم من استعمال استحوذ معتلاً وإن كان القياس داعياً إلى ذلك ومؤذناً به لكن عارض فيه إجماعهم على إخراجه مصححاً ليكون دليلاً على أصول ما غير من نحوه كاستقام واستعان. ومن ذلك امتناعهم من إظهار الحرف الذي تعرف به " أمسِ " حتى اضطروا - لذلك - إلى بنائه لتضمنه معناه فلو أظهروا ذلك الحرف فقالوا مضى الأمس بما فيه لما كان خلفاً ولا خطأ. فأما قوله: وإني وقفت اليوم والأمس قبله ببابك حتى كادت الشمس تغرب فرواه ابن الأعرابي: والأمسِ والأمسَ جراً ونصباً. فمن جره فعلى الباب فيه وجعل اللام مع الجر زائدة حتى كأنه قال: وإني وقفت اليوم وأمس كما أن اللام في قوله تعالى {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} زائدة واللام المعرفة له مرادة فيه وهو نائب عنها ومتضمن لها فلذلك كسر فقال: والأمسِ فهذه اللام فيه زائدة والمعرفة له مرادة فيه ومحذوفة منه. يدل على ذلك بناؤه على الكسر وهو في موضع نصب كما يكون مبنياً إذا لم تظهر إلى لفظه. وأما من قال: والأمسَ فنصب فإنه لم يضمنه معنى اللام فيبنيه ولكنه عرفه بها كما عرف اليوم بها فليست هذه اللام في قول من قال: والأمسَ فنصب هي تلك اللام التي " هي في قول من قال " والأمسِ فجر. تلك لا تظهر أبداً لأنها في تلك اللغة لم تستعمل مظهرة ألا ترى أن من ينصب غير من يجر فلكل منهما لغته وقياسها على ما نطق به منها لا تداخل أختها ولا نسبة في ذلك بينها وبينها كما أن اللام في قولهم " الآن حد الزمانين " غير اللام في قوله سبحانه {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} لأن الآن من قولهم " الآن حد الزمانين " بمنزلة " الرجل أفضل من المرأة والملك أفضل من الإنسان " أي هذا الجنس أفضل من هذا الجنس فكذلك " الآن " إذا رفعه جعله جنس هذا المستعمل في قولك " كنت الآن عنده وسمعت الآن كلامه " فمعنى هذا: كنت في هذا الوقت الحاضر بعضه وقد تصرمت أجزاء منه. فهذا معنى غير المعنى في قولهم الآنُ ونظير ذلك أن الرجل من نحو قولهم: نعم الرجل زيد غير الرجل المضمر في " نِعم " إذا قلت: نعم رجلاً زيد لأن المضمر على شريطة التفسير لا يظهر ولا يستعمل ملفوظاً به ولذلك قال سيبويه: هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمراً أي إذا فسر بالنكرة في نحو نعم رجلاً زيد فإنه لا يظهر أبداً. وإذا كان كذلك علمت زيادة الزاد في قول جرير: تزود مثل زاد أبيك فينا فنعم الزاد زاد أبيك زادا وذلك أن فاعل " نعم " مظهر فلا حاجة به إلى أن يفسر فهذا يسقط اعتراض محمد بن يزيد عن صاحب الكتاب في هذا الموضع. واعلم أن الشاعر إذا اضطر جاز له أن ينطق بما يبيحه القياس وإن لم يرد به سماع. ألا ترى إلى قول أبي الأسود: ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى وَدَعه وعلى ذلك قراءة بعضهم {ما وَدَعك ربك وما قلى} بالتخفيف أي ما تركك. دل عليه قوله " وما قلى " لأن الترك ضرب من القلي فهذا أحسن من أن يعل باب استحوذ واستنوق الجمل لأن استعمال " ودع " مراجعة أصل وإعلال استحوذ واستنوق ونحوهما من المصحح ترك واعلم أن استعمال ما رفضته العرب لاستغنائها بغيره جار في حكم العربية مجرى اجتماع الضدين على المحل الواحد في حكم النظر. وذلك أنهما إذا كانا يعتقبان في اللغة على الاستعمال جريا مجرى الضدين اللذين يتناوبان المحل الواحد. فكما لا يجوز اجتماعهما عليه فكذلك لا ينبغي أن يستعمل هذان وأن يكتفي بأحدهما عن صاحبه كما يحتمل المحل الواحد الضد الواحد دون مراسلة. ونظير ذلك في إقامة غير المحل مقام المحل ما يعتقدونه في مضادة الفناء للأجسام. فتضادهما إنما هو على الوجود لا على المحل ألا ترى أن الجوهر لا يحل الجوهر بل يتضمنه في حال التضاد الوجود لا المحل. فاللغة في هذه القضية كالوجود واللفظان المقام أحدهما مقام صاحبه كالجوهر وفنائه فهما يتعاقبان على الوجود لا على المحل كذلك الكلمتان تتعاقبان على اللغة والاستعمال. فاعرف هذا إلى ما قبله. وأجاز أبو الحسن ضُرِب الضربُ الشديدُ زيداً ودُفع الدفع الذي تعرف إلى محمد ديناراً وقتل القتل يوم الجمعة أخاك ونحو هذه المسائل. ثم قال: هو جائز في القياس وإن لم يرد به الاستعمال. فإن قلت فقد قال: فأقام حرف الجر ومجروره مقام الفاعل وهناك مفعول به صحيح قيل هذا من أقبح الضرورة ومثله لا يعتد أصلاً بل لا يثبت إلا محتقراً شاذاً. وأما قراءة من قرأ {وكذلك نُجِّي المؤمنين} فليس على إقامة المصدر مقام الفاعل ونصب المفعول الصريح لأنه عندنا على حذف إحدى نوني " ننجي " كما حذف ما بعد حرف المضارعة في قول الله سبحانه " تذكّرون " أي تتذكرون. ويشهد أيضاً لذلك سكون لام " نجي " ولو كان ماضياً لانفتحت اللام إلا في الضرورة. وعليه قول المثقب العبدي: لمن ظعن تطالع من ضبيب فما خرجت من الوادي لحين أي تتطالع فحذف الثانية على ما مضى. وما يحتمله القياس ولم يرد به السماع كثير. منه القراءات التي تؤثر رواية ولا تتجاوز لأنها لم يسمع فيها ذلك كقوله - عز اسمه - {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ} فالسنة المأخوذ بها في ذلك إتباع الصفتين إعراب اسم الله سبحانه والقياس يبيح أشياء فيها وإن لم يكن سبيل إلى استعمال شيء منها. نعم وهناك من قوة غير هذا المقروء به ما لا يشك أحد من أهل هذه الصناعة في حسنه كأن يقرأ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ} برفع الصفتين جميعاً على المدح. ويجوز {الرَّحْمنَ الرَّحِيمَ} بنصبهما جميعاً عليه. ويجوز { الرحمنُ الرحيمَ } برفع الأول ونصب الثاني. ويجوز { الرحمنَ الرحيمُ } بنصب الأول ورفع الثاني. كل ذلك على وجه المدح وما أحسنه ههنا! وذلك أن الله تعالى إذا وصف فليس الغرض في ذلك تعريفه بما يتبعه من صفته لأن هذا الاسم لا يعترض شك فيه فيحتاج إلى وصفه لتخليصه لأنه الاسم الذي لا يشارك فيه على وجه وبقية أسمائه - عز وعلا - كالأوصاف التابعة لهذا الاسم. وإذا لم يعترض شك فيه لم تجيء صفته لتخليصه بل للثناء على الله تعالى. وإذا كان ثناء فالعدول عن إعراب الأول أولى به. وذلك أن إتباعه إعرابه جار في اللفظ مجرى ما يتبع للتخليص والتخصيص. فإذا هو عدل به عن إعرابه علم أنه للمدح أو الذم في غير هذا عز الله تعالى فلم يبق فيه هنا إلا المدح. فلذلك قوي عندنا اختلاف الإعراب في الرحمن الرحيم بتلك الأوجه التي ذكرناها. ولهذا في القرآن والشعر نظائر كثيرة.

 الجزء الثاني 

• باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر • باب اختلاف اللغات وكلها حجة • باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه • باب في العربي يسمع لغة غيره أيراعيها ويعتمدها ام يلغيها ويطرح حكمها • باب في الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع • باب في الشيء يسمع من العربي الفصيح لا يسمع من غيره • باب في اللغة المأخوذة قياساً • باب في تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية • باب في الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير • باب في الحرفين المتقاربين يستعمل أحدهما مكان صاحبه • باب في قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة والتلطف لا بالإقدام والتعجرف • باب في اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين في الحروف والحركات والسكون • باب في اتفاق المصاير على اختلاف المصادر • باب في ترافع الأحكام • باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني • باب في الاشتقاق الأكبر • باب في الإدغام الأصغر • باب في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني • باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني • باب في مشابهة معاني الإعراب معاني الشعر • باب في خلع الأدلة • باب في تعليق الأعلام على المعاني دون الأعيان • باب في الشيء يرد مع نظيره مورده مع نقيضه • باب في ورود الوفاق مع وجود الخلاف • باب في نقض العادة المعتاد المألوف في اللغة • باب في تدافع الظاهر • باب في التطوع بما لا يلزم • باب في التام يزاد عليه فيعود ناقصا • باب في زيادة الحروف وحذفها • باب في زيادة الحرف عوضاً من آخر محذوف • باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض • باب في مضارعة الحروف للحركات والحركات للحروف • باب محل الحركات من الحروف أمعها أم قبلها أم بعدها • باب الساكن والمتحرك • باب في مراجعة أصل واستئناف فرع • باب فيما يراجع من الأصول مما لا يراجع • باب في مراعاتهم الأصول للضرورة تارة وإهمالهم إياها أخرى • باب في حمل الأصول على الفروع • باب في الحكم يقف بين الحكمين • باب في شجاعة العربية • فصل في التقديم والتأخير. • فصل في التحريف • باب في فرق بين الحقيقة والمجاز • باب في أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة • باب في إقرار الألفاظ على أوضاعها • باب في إيراد المعنى المراد بغير اللفظ المعتاد • باب في ملاطفة الصنعة • باب في التجريد • باب في غلبة الزائد للأصلي • باب في أن ما لا يكون للأمر وحده • باب في أضعف المعتلين وهو اللام لأنها أضعف من العين. • باب في الغرض في مسائل التصريف • باب في اللفظ يرد محتملاً • باب فيما يحكم به القياس مما لا يسوغ به النطق

 الجزء الثاني 
باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر 

علّة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل. ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر. وكذلك أيضاً لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها. وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدوياً فصيحا. وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه. وقد كان طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية ويتباعد عن الضعفة الحضرية فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له وميزناه تمييزاً حسن في النفوس موقعه إلى أن أنشدني يوماً شعرا لنفسه يقول في بعض قوافيه: أشئؤها وادأؤها بوزن أشععها وأدععها فجمع بين الهمزتين كما ترى واستأنف من ذلك ما لا أصل له ولا قياس يسوغه. نعم وأبدل إلى الهمز حرفا لا حظ في الهمز له بضد ما يجب لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما فكيف أن يقلب إلى الهمز قلباً ساذجاً عن غير صنعة ما لا حظ له في الهمز ثم يحقق الهمزتين جميعاً! هذا ما لا يتيحه قياس ولا ورد بمثله سماع. فإن قلت: فقد جاء عنهم خطائئ ورزائئ ودريئة ودرائئ ولفيئة ولفائئ وأنشدوا قوله: فإنك لا تدري متى الموت جائئ إليك ولا ما يحدث الله في غد قيل: أجل قد جاء هذا لكن الهمز الذي فيه عرض عن صحة صنعة ألا ترى أن عين فاعل مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلا مهموزة نحو قائم وبائع فاجتمعت همزة فاعل وهمزة لامه فصححها بعضهم في بعض الاستعمال. وكذلك خطائئ وبابها: عرضت همزة فعائل عن وجوب كهمزة سفائن ورسائل واللام مهموزة فصحت في بعض الأحوال بعد وجوب اجتماع الهمزتين. فأما أشئؤها وأدأؤها فليست الهمزتان فيهما بأصلين. وكيف تكونان أصلين وليس لنا أصل عينه ولامه همزتان ولا كلاهما أيضاً عن وجوب. فالناطق بذلك بصورة من جر الفاعل أو رفع المضاف إليه في أنه لا أصل يسوغه ولا قياس يحتمله ولا سماع ورد به. وما كانت هذه سبيله وجب اطراحه والتوقف عن لغة من أورده. وأنشدني أيضاً شعراً لنفسه يقول فيه: كأن فاي. . . فقوى في نفسي بذلك بعده عن الفصاحة وضعفه عن القياس الذي ركبه. وذلك أن ياء المتكلم تكسر أبداً ما قبلها. ونظير كسرة الصحيح كون هذه الأسماء الستة بالياء نحو مررت بأخيك وفيك. فكان قياسه أن يقول كأن في بالياء كما يقول كأن غلامي. ومثله سواء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: كسرت في ولم يقل فاي وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} ولم يقل: إن أباي. وكيف يجوز إن أباي بالألف وأنت لا تقول: إن غلامي قائم وإنما تقول: كأن غلامي بالكسر. فكذلك تقول كأن في بالياء. وهذا واضح. ولكن هذا الإنسان حمل بضعف قياسه قوله كأن فاي على قوله: كأن فاه وكأن فاك وأنسى ما توجبه ياء المتكلم: من كسر ما قبلها وجعله ياء. فإن قلت: فكان يجب على هذا أن تقول: هذان غلامى فتبدل ألف التثنية ياء لأنك تقول هذا غلامي فتكسر الميم قيل هذا قياس لعمري غير أنه عارضه قياس أقوى منه فترك إليه. وذلك أن التثنية ضرب من الكلام قائم برأسه مخالف للواحد والجميع ألا تراك تقول: هذا وهؤلاء فتبني فيهما فإذا صرت إلى التثنية جاء مجيء المعرب فقلت: هذان وهذين. وعلى أن هذا الرجل الذي أومأت إليه من أمثل من رأيناه ممن رأيناه ممن جاءنا مجئه وتحلى عندنا حليته. فأما ما تحت ذلك من مرذول أقوال هذه الطوائف فأصغر حجماً وأنزل قدراً أن يحكى في جملة ما يثنى. ومع هذا فإذا كانوا قد رووا أن النبي سمع رجلا يلحن في كلامه فقال: ( أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل ) ورووا أيضاً أن أحد ولاة عمر رضي الله تعالى عنه كتب إليه كتاباً لحن فيه فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطاً وروى من حديث علي رضي الله عنه مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} حتى قال الأعرابي: برئت من رسول الله فأنكر ذلك علي عليه السلام ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه: مالا يجهل موضعه فكان ما يروى من أغلاط الناس منذ ذاك إلى أن شاع واستمر فساد هذا الشأن مشهوراً ظاهراً فينبغي أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلا أن تقوى لغته وتشيع فصاحته. وقد قال الفراء في بعض كلامه: إلا أن تسمع شيئاً من بدوي فصيح فتقوله. وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحقي في نحو يعدو وهو محموم ولم أسمعها من غيره من عقيل فقد كان يرد علينا منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغته. وما أظن الشجري إلا استهواه كثرة ما جاء عنهم من تحريك الحرف الحلقي بالفتح إذا انفتح ما قبله في له نعل لا تطبي الكلب ريحها وإن جعلت وسط المجالس شمت وقول أبي النجم: وجبلا طال معدا فاشمخر أشم لا يسطيعه الناس الدهر وهذا قد قاسه الكوفيون وإن كنا نحن لا نراه قياساً لكن مثل يعدو وهو محموم لم يرو عنهم فيما علمت. فإياك أن تخلد إلى كل ما تسمعه بل تأمل حال مورده وكيف موقعه من الفصاحة فاحكم عليه وله.

باب اختلاف اللغات وكلها حجة 

اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال ما يقبلها القياس ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله. وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسابها. فأما رد إحداهما بالأخرى فلا. أولا ترى إلى قول النبي : ( نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف ). هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين. فأما أن تقل إحداهما جدا وتكثر الأخرى جدا فإنك تأخذ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسا ألا تراك لا تقول: مررت بك ولا المال لك قياساً على قول قضاعة: المال له ومررت به ولا تقول أكرمتكش ولا أكرمتكس قياساً على لغة من قال: مررت بكش وعجبت منكس. حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس وعجرفية ضبة وتلتلة بهراء. فأما عنعنة تميم فإن تميماً تقول في موضع أن: عن تقول: عن عبد الله قائم وأنشد ذو الرمة عبد الملك: أعن ترسمت من خرقاء منزلة قال الأصمعي: سمعت ابن هرمة ينشد هارون الرشيد: أعن تغنت على ساق مطوقة ورقاء تدعو هديلا فوق أعواد وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون: تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون بكسر أوائل الحروف. وأما كشكشة ربيعة فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث: إنكش ورأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقف فإذا وصلت أسقطت الشين. وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضاً: أعطيتكس ومنكس وعنكس. وهذا في الوقف دون الوصل. فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها إلا أن إنسانا لو استعملها لم يكن مخطئا لكلام العرب لكنه كان يكون مخطئاً لأجود اللغتين. فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه غير منعي عليه. وكذلك إن قال: يقول علي قياس من لغته كذا كذا ويقول على مذهب من قال كذا كذا. وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء به خيراً منه.

باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه 

اعلم أن المعمول عليه في نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه. فإن كان إنما انتقل من لغته إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ بلغته التي انتقل إليها كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها حتى كأنه إنما حضر غائب من أهل اللغة التي صار إليها أو نطق ساكت من أهلها. فإن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها ويؤخذ بالأولى حتى كأنه لم يزل من أهلها. وهذا واضح. فإن قلت: فما يؤمنك أن تكون كما وجدت في لغته فساداً بعد أن لم يكن فيها فيما علمت أن يكون فيها فساد آخر فيما لم تعلمه. فإن أخذت به كنت آخذا بفاسد عروض ما حدث فيها من الفساد فيما علمت قيل هذا يوحشك من كل لغة صحيحة لأنه يتوجه منه أن تتوقف عن الأخذ بها مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن ويجوز أن تعلمه بعد زمان كما علمت من حال غيرها فساداً حادثاً لم يكن فيما قبل فيها. وإن اتجه هذا انخرط عليك منه ألا تطيب نفساً بلغة وإن كانت فصيحة مستحكمة. فإذا كان أخذك بهذا مؤدياً إلى هذا رفضته ولم تأخذ به وعملت على تلقي كل لغة قوية معربة بقبولها واعتقاد صحتها. وألا توجه ظنة إليها ولا تسوء رأيا في المشهود تظاهره من اعتدال أمرها. وذلك كما يحكى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال: كيف تقول استأصل الله عرقاتهم ففتح أبو خيرة التاء فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لأن جلدك! فليس لأحد أن يقول: كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره لما حذرناه قبل ووصفنا. فهذا هو القياس وعليه يجب أن يكون العمل.

باب في العربي يسمع لغة غيره أيراعيها ويعتمدها ام يلغيها ويطرح حكمها 

أخبرنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان عن أبي زيد قال: سألت خليلاً عن الذين قالوا: مررت بأخواك وضربت أخواك فقال: هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا في ييأس: ياءس أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها. قال يعني الخليل: ومثله قول العرب من أهل الحجاز: يا تزن وهم ياتعدون فروا من يوتزن ويوتعدون. فقوله: أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون يريد: أبدلوا الياء في ييأس والآخر: أبدلوا الياء في أخويك ألفاً. وكلاهما يحتمله القياس ههنا ألا ترى أنه يجوز أن يريد أنهم أبدلوا ياء أخويك في لغة غيرهم ممن يقولها بالياء وهم أكثر العرب فجعلوا مكانها ألفا في لغتهم استخفافاً للألف فأما في لغتهم هم فلا. وذلك أنهم هم لم ينطقوا قط بالياء في لغتهم فيبدلوها ألفاً ولا غيرها. ويؤكد ذلك عندك أن أكثر العرب يجعلونها في النصب والجرياء. فلما كان الأكثر هذا شاع على أسماع بلحرث فراعوه وصنعوا لغتهم فيه ولم تكن الياء في التثنية شاذة ولا دخيلة في كلام العرب فيقل الحفل بها ولا ينسب بلحرث إلى راعوها أو تخيروا للغتهم عليها. فإن قلت: فلعل الخليل يريد أن من قال: مررت بأخواك قد كان مرة يقول: مررت بأخويك كالجماعة ثم رأى فيما بعد أن قلب هذه الياء ألفاً للخفة أسهل عليه وأخف كما قد تجد العربي ينتقل لسانه من لغته إلى لغة أخرى قيل: إن الخليل إنما أخرج كلامه على ذلك مخرج التعليل للغة من نطق بالألف في موضع جر التثنية ونصبها لا على الانتقال من لغة إلى أخرى. وإذا كان قولهم: مررت بأخواك معللاً عندهم بالقياس فكان ينبغي أن يكونوا قد سبقوا إلى ذلك منذ أول أمرهم لأنهم لم يكونوا قبلها على ضعف قياس ثم تداركوا أمرهم فيما بعد فقوي قياسهم. وكيف كانوا يكونون في ذلك على ضعف من القياس والجماعة عليه! أفتجمع كافة اللغات على ضعف ونقص حتى ينبغ نابغ منهم فيرد لسانه إلى قوة القياس دونهم! نعم ونحن أيضاً نعلم أن القياس مقتض لصحة لغة الكافة وهي الياء في موضع الجر والنصب ألا ترى أن في ذلك فرقاً بين المرفوع وبينهما وهذا هو القياس في التثنية كما كان موجوداً في الواحد. ويؤكده لك أنا نعتذر لهم من مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية على لفظ المجرور. وكيف يكون القياس أن تجتمع أوجه الإعراب الثلاثة على صورة واحدة! وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في فقد علمت بهذا أن صاحب لغة قد راعى لغة غيره. وذلك لأن العرب وإن كانوا كثيراً منتشرين وخلقاً عظيماً في أرض الله غير متحجرين ولا متضاغطين فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة. فبعضهم يلاحظ صاحبه ويراعي أمر لغته كما يراعي ذلك من مهم أمره. فهذا هذا. وإن كان الخليل أراد بقوله: تقلب الياء ألفاً: أي في ييأس فالأمر أيضاً عائد إلى ما قدمنا ألا ترى أنه إذا شبه مررت بأخواك بقولهم: ييأس وياءس فقد راعى أيضاً في مررت بأخواك لغة من قال: مررت بأخويك. فالأمران إذاً صائران إلى موضع واحد. ولهذا نظائر في كلامهم وإنما أضع منه رسماً ليرى به غيره بإذن الله. وأجاز أبو الحسن أن يكون كانت العرب قدماً تقول: مررت بأخويك وأخواك جميعاً إلا أن الياء كانت أقيس للفرق فكثر استعمالها وأقام الآخرون على الألف أو أن يكون الأصل قبله الياء في الجر والنصب ثم قلبت للفتحة فيها ألفاً في لغة بلحرث بن كعب. وهذا تصريح بظاهر قول الخليل الذي قدمناه. ولغتهم عند أبي الحسن أضعف من هذا جحر ضب خرب قال: لأنه قد كثر عنهم الإتباع نحو شد وشروبابه فشبه هذا به. ومن هذا حذف بني تميم ألف ها من قولهم هلم لسكون اللام في لغة أهل الحجاز إذا قالوا المم وإن لم يقل ذلك بنو تميم أو أن يكونوا حذفوا الألف لأن أهل الحجاز حذفوها. وأيا ما كان فقد نظر فيه بنو تميم إلى أهل الحجاز. ومن ذلك قول بعضهم في الوقف رأيت رجلاً بالهمزة. فهذه الهمزة بدل من الألف في الوقف في لغة من وقف بالألف لا في لغته هو لأن من لغته هو أن يقف بالهمزة. أفلا تراه كيف راعى لغة غيره فأبدل من الألف همزة.

باب في الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع 

سألت أبا علي رحمه الله فقلت: من أجرى المضمر مجرى المظهر في قوله أعطيتكمه فأسكن الميم مستخفاً كما أسكنها في قوله: أعطيتكم درهما كيف قياس قوله على قول الجماعة: أعطيته درهماً إذا اضمر الدرهم على قول الشاعر: له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير إذا وقع ذلك قافية فقال: لا يجوز ذلك في هذه المسألة وإن جاز في غيرها لا لشيء يرجع إلى نفس حذف الواو من قوله: كأنه صوت حاد لأن هذا أمر قد شاع عنهم وتعولمت فيه لغتهم بل لقرينة انضمت إليه ليست مع ذلك ألا ترى أنه كان يلزمك على ذلك أن تقول: أعطيتهه خلافاً على قول الجماعة: أعطيتهوه. فإن جعل الهاء الأولى روياً والأخرى وصلا لم يجز ذلك لأن الأولى ضمير والتاء متحركة قبلها وهاء الضمير لا تكون روياً إذا تحرك ما قبلها. فإن قلت: أجعل الثانية رويا فكذلك أيضاً لأن الأولى قبلها متحركة. فإن قلت: أجعل التاء روياً والهاء الأولى وصلا قيل: فما تصنع بالهاء الثانية أتجعلها خروجاً هذا محال لأن الخروج لا يكون إلا أحد الأحرف الثلاثة: الألف والياء والواو. فإذا أداك تركيب هذه المسئلة في القافية إلى هذا الفساد وجب ألا يجوز ذلك أصلاً. فأما في غير القافية فتتابعة جائز. هذا محصول معنى أبي علي فأما نفس لفظه فلا يحضرني الآن حقيقة صورته. وإذا كان كذلك وجب إذا وقع نحو هذا قافية أن تراجع فيه اللغة الكبرى فيقال: أعطيتهوه البتة فتكون الواو ردفاً والهاء بعدها روياً وجاز أن يكون بعد الواو روياً لسكون ما قبلها. ومثل ذلك في الامتناع أن تضمر زيداً من قولك: هذه عصا زيد على قول من قال: وأشرب الماء ما بي نحوه عطشٌ إلا لأن عيونه سيل واديها لأنه كان يلزمك على هذا أن تقول: هذه عصاه فتجمع بين ساكنين في الوصل فحينئذ ما تضطر إلى مراجعة لغة من حرك الهاء في نحو هذا بالضمة وحدها أو بالضمة والواو بعدها فتقول: هذه عصاه فاعلم أو عصا هو فاعلم على قراءة من قرأ خذوهو فغلوهو وفألقى عصاهو ونحوه. ونحو من ذلك أن يقال لك: كيف تضمر زيداً من قولك: مررت بزيد وعمرو فلا يمكنك أن تضمره هنا والكلام على هذا النضد حتى تغيره فتقول: مررت به وبعمرو فتزيد حرف الجر لما أعقب الإضمار من العطف على المضمر المجرور بغير إعادة الجار. وكذلك لو قيل لك: كيف تضمر اسم الله تعالى في قولك: والله لأقومن ونحوه لم يجز لك حتى تأتي بالباء التي هي الأصل فتقول: به لأقومن كما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي وكإنشاده أيضاً: رأى برقاً فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما وكذلك لو قيل لك: أضمر ضارباً وحده من قولك: هذا ضارب زيداً لم يجز لأنه كان يلزمك عليه أن تقول: هذا هو زيداً فتعمل المضمر وهذا مستحيل. فإن قلت فقد تقول: قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح فتعمل في اليوم هو قيل: في هذا أجوبة: أحدها أن الظرف يعمل فيه الوهم مثلا كذا عهد إلي أبو علي رحمه الله في هذا. وهذا لفظه لي فيه البتة. والآخر أنه يجوز في المعطوف مالا يجوز في المعطوف عليه. ولا تقول على هذا: ضربك زيداً حسن وهو عمرا قبيح لأن الظرف يجوز فيه من الاتساع ما لا يجوز في غيره. وثالث: وهو أنه قد يجوز أن يكون اليوم من قولك: قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح ظرفا لنفس قبيح يتناوله فيعمل فيه. نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً للضمير الذي في قبيح فيتعلق حينئذ بمحذوف. نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً للضمير الذي في قبيح فيتعلق حينئذ بمحذوف. نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً من هو وإن تعلق بما العامل فيه قبيح لأنه قد يكون العامل في الحال غير العامل في ذي الحال. نحو قول الله تعالى {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} فالحال ههنا من الحق والعامل فيه " هو " وحده أو " هو " والابتداء الرافع له. وكلاذينك لا ينصب الحال. وإنما جاز أن يعمل في الحال غير العامل في صاحبها من حيث كانت ضرباً من الخبر والخبر العامل فيه غير العامل في المخبر عنه. فقد عرفت بذلك فرق ما بين المسئلتين. وكذلك لو قيل لك: أضمر رجلاً من قولك: رب رجل مررت به لم يحز لأنك تصير إلى أن تقول: ربه مررت به فتعمل رب في المعرفة. فأما قولهم: ربه رجلاً وربها امرأة فإنما جاز ذلك لمضارعة هذا المضمر للنكرة إذ كان إضماراً على غير تقدم ذكر ومحتاجاً إلى التفسير فجرى تفسيره مجرى الوصف له. فلما كان المضمر لا يوصف ولحق هذا المضمر من التفسير ما يضارع الوصف خرج بذلك عن حكم الضمير. وهذا واضح. نعم ولو قلت: ربه مررت به لوصفت المضمر والمضمر لا يوصف. وأيضاً فإنك كنت تصفه بالجملة وهي نكرة والمعرفة لا توصف بالنكرة. أفلا ترى إلى ما كان يحدث هناك من خبال الكلام وانتقاض الأوضاع. فالزم هذه المحجة. فمتى كان التصرف في الموضع ينقض عليك أصلاً أو يخالف بك مسموعاً مقيساً فالغه ولا يسمع من العربي الفصيح

باب في الشيء يسمع من العربي الفصيح لا يسمع من غيره 

وذلك ما جاء به ابن أحمر في تلك الأحرف المحفوظة عنه. قال أحمد بن يحيى: حدثني بعض أصحابي عن الأصمعي أنه ذكر حروفاً من الغريب فقال: لا أعلم أحداً أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي. منها الجبر وهو الملك. وإنما سمى بذلك أظن لأنه يجبر بجوده. وهو قوله: اسلم براووق حبيت به وانعم صباحا أيها الجبر ومنها قوله: كأس رنوناة أي دائمة وذلك قوله: بنت عليه الملك أطنابها كأس رنوناةٌ وطرف طمر ومنها الديدبون وهو قوله: خلوا طريق الديدبون وقد فات الصبا وتنوزع الفخر ومنها مارية أي لؤلؤية لونها لون اللؤلؤ. ومنها قوله البابوس وهو أعجمي يعني ولد ناقته. وذلك قوله: حنت قلوصي إلى بابوسها جزعا فما حنينك أم ما أنت والذكر وإنما العيش بربانه وأنت من أفنانه مقتفر ومنها المأنوسة وهي النار وذلك قوله: كما تطاير عن مأنوسة الشرر قال أبو العباس أحمد بن يحيى أيضاً: وأخبرنا أبو نصر عن الأصمعي قال: من قول ابن أحمر الحيرم وهو البقر ما جاء به غيره. انتهت الحكاية. وقد أنشد أبو زيد: كأنها بنقا العزاف طاوية لما انطوى بطنها واخروط السفر مارية لؤلؤان اللون أودها طل وبنس عنها فرقد خصر وقال: المارية: البقرة الوحشية. وقوله. بنس عنها هو من النوم غير أنه إنما يقال للبقر. ولم سيند أبو زيد هذين البيتين إلى ابن أحمر ولا هما أيضاً في ديوانه ولا أنشدهما الأصمعي فيما أنشده من الأبيات التي أورد فيها كلماته. وينبغي أن يكون ذلك شيئاً جاء به غير ابن أحمر تابعاً له فيه ومتقيلاً أثره. هذا أوفق لقول الأصمعي: إنه لم يأت به غيره من أن يكون قد جاء به غير متبع أثره. والظاهر أن يكون ما أنشده أبو زيد لم يصل إلى الأصمعي لا من متبع فيه ابن أحمر ولا غير متبع. وجاء في شعر أمية الثغرور ولم يأت به غيره. والقول في هذه الكلم المقدم ذكرها وجوب قبولها. وذلك لما ثبتت به الشهادة من فصاحة ابن أحمر. فإما أن يكون شيئاً أخذه عمن ينطق بلغة قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حد ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح كقوله في الذرحرح: الذرحرح ونحو ذلك وإما أن يكون شيئاً ارتجله ابن أحمر فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به فقد حكى عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظاً لم يسمعاها ولا سبقا إليها. وعلى نحو من هذا قال أبو عثمان: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. وقد تقدم نحو ذلك. وفي هذا الضرب غار أبو علي في إجازته أن تبنى اسماً وفعلاً وصفة ونحو ذلك من ضرب فتقول: ضربب زيد عمرا وهذا رجل ضربب وضرنبي ومررت برجل خرجج وهذا رجل خرجج ودخلخل وخرجج أفضل من ضربب ونحو ذلك. وقد سبق القول على مراجعتي إياه في هذا المعنى وقولي له: أفترتجل اللغة ارتجالاً وما كان من جوابه في ذلك. وكذلك إن جاء نحو هذا الذي رويناه عن ابن أحمر عن فصيح آخر غيره كانت حاله فيه حاله. لكن لو جاء شيء من لك عن ظنين أو متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته كان مردوداً غير متقبل. فإن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها فإنه لا يقنع في قبوله أن تسمعه من الواحد ولا من العدة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم. فإن كثر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوجه في القياس فإن ذلك مجازه وجهان: أحدهما أن يكون من نطق به لم يحكم قياسه على لغة آبائهم وإما أن تكون أنت قصرت عن استدراك وجه صحته. ولا أدفع أيضاً مع هذا أن يسمع الفصيح لغة غيره مما ليس فصيحاً وقد طالت عليه وكثر لها استماعه فسرت في كلامه ثم تسمعها أنت منه وقد قويت عندك في كل شيء من كلامه غيرها فصاحته فيستهويك ذلك إلى أن تقبلها منه على فساد أصلها الذي وصل إليه منه. وهذا موضع متعب مؤذ يشوب النفس ويشرى اللبس إلا أن هذا كأنه متعدر ولا يكاد يقع مثله. وذلك أن الأعرابي الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يبهأ بها. سألت مرة الشجري أبا عبد الله ومعه ابن عم له دونه في فصاحته وكان اسمع غصنا فقلت لهما: كيف تحقران حمراء فقالا: حميراء. قلت: فسوداء قالا: سويداء. وواليت من ذلك أحرفا وهما يجيئان بالصواب. ثم دسست في ذلك علباء فقال غصن: عليباء وتبعه الشجري. فلما هم بفتح الباء تراجع كالمذعور ثم قال: آه! عليبي ورام الضمة في الياء. فكانت تلك عادة له إلا أنهم أشد استنكاراً لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة لأن بعضهم قد ينطق بحضرته بكثير من اللغات فلا ينكرها. إلا أن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيع الإعراب ألا ترى أن أبا مهدية سمع رجلاً من العجم يقول لصاحبه زوذ فسأل أبو مهدية عنها فقيل له: يقول له: اعجل فقال أبو مهدية: فهلا قال له: حيهلك. فقيل له: ما كان الله ليجمع لهم إلى العجمية العربية. وحدثني المتنبي أنه حضرته جماعة من العرب منصرفه من مصر وأحدهم يصف بلدة واسعة فقال في كلامه: تحير فيها العيون قال: وآخر من الجماعة يحي إليه سراً ويقول له: تحار تحار. والحكايات في هذا المعنى كثيرة منبسطة. ومن بعد فأقوى القياسين أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ويحمل أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يكون من غيره. وذلك كقبول القاضي شهادة من ظهرت عدالته وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به ألا تراه يمضي الشهادة ويقطع بها وإن لم يقع العلم بصحتها لأنه لم يؤخذ بالعمل بما عند الله إنما أمر بحمل الأمور على ما تبدو وإن كان في المغيب غيره. فإن لم تأخذ بها دخل عليك الشك في لغة من تستفصحه ولا تنكر شيئاً من لغته مخافة أن يكون فيها بعض ما يخفى عليك فيعترض الشك على يقينك وتسقط بكل اللغات ثقتك. ويكفي من هذا ما تعلمه من بعد لغة حمير من لغة ابني نزار. روينا عن الأصمعي أن رجلاً من العرب دخل على ملك ظفار وهي مدينة لهم يجيء منها الجزع الظفاري فقال له الملك: ثب وثب بالحميرة: اجلس فوثب الرجل فانتدقت رجلاه فضحك الملك وقال لست عندنا عربيت من دخل ظفار حمر أي تكلم بكلام حمير. فإذا كان كذلك جاز جوازاً قريباً كثيراً أن يدخل من هذه اللغة في لغتنا وإن لم يكن لها فصاحتنا غير أنها لغة عربية قديمة. أوضعت هذه اللغة في وقت واحد باب في هذه اللغة: أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أم إلهام. وحكينا وجوزنا فيها الأمرين جميعاً. وكيف تصرفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها فإنها لا بد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه فزيد فيها شيئاً فشيئاً إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليفه وإعرابه المبين عن معانيه لا يخالف الثاني الأول ولا الثالث الثاني كذلك متصلاً متتابعاً. وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكى كلام أبيه وسلفه ويتوارثونه آخر عن أول وتابع عن متبع. وليس كذلك أهل الحضر لأنهم يتظاهرون بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة. غير أن كلام أهل الحضر مضاه لكلام فصحاء العرب في حروفهم وتأليفهم إلا أنهم أخلوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح. وهذا رأي أبي الحسن وهو الصواب. وذهب إلى أن اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف وإن كان كله مسوقاً على صحة وقياس ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفاً وإن كان كل واحد آخذا من صحة القياس حظاً. ويجوز أيضاً أن يكون الموضوع الأول ضرباً واحداً ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأول إلى قياس ثان جار في الصحة مجرى الأول. ولا يبعد عندي ما قال من موضعين: أحدهما سعة القياس وإذا كان كذلك جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان. والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأول بالقياس الذي عدل إليه الثاني فلا عليك أيهما تقدم وأيهما تأخر. فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به. فأما أي الأجناس الثلاثة تقدم أعني الأسماء والأفعال والحروف فليس مما نحن عليه في شيء وإنما كلامنا هنا: هل وقع جميعها في وقت واحد أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة وشيئاً بعد شيء وصدراً بعد صدر. وإذ قد وصلنا من القول في هذا إلى ها هنا فلنذكر ما عندنا في مراتب الأسماء والأفعال والحروف فإنه من أماكنه وأوقاته. اعلم أن أبا علي رحمه الله كان يذهب إلى أن هذه اللغة أعني ما سبق منها ثم لحق به ما بعده إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل وإن كانت رتبة الاسم في النفس من حصة القوة والضعف أن يكون قبل الفعل والفعل قبل الحرف. وإنما يعني القوم بقولهم: إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس وأسبق في الاعتقاد من الفعل لا في الزمان. فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل. ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم وكذلك الحرف. وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف فلا عليهم بأيها بدءوا أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جمع إذا المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي وبه كان يأخذ ويفتي. وهذا يضيق الطريق على أبي إسحاق وأبي بكر في اختلافهما في رتبة الحاضر والمستقبل. وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدءوا بتغييره علماً بأن لا بد من كثرته الداعية إلى تغييره. وهذا في المعنى كقوله: وقد كان أيضاً أجاز أن يكون قد كانت قديماً معربة فلما كثرت غيرت فيما بعد. والقول عندي هو الأول لأنه أدل على حكمتها واشهد لها بعلمها بمصاير أمرها فتركوا بعض الكلام مبنياً غير معرب نحو أمس وهؤلاء وأين وكيف وكم وإذ واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو كلمتين فكان ذلك أخف عليهم من تجشمهم اختلاف الإعراب واتقائهم الزيغ والزلل فيه ألا ترى أن من لا يعرب فيقول: ضرب أخوك لأبوك قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من المفعول ولا يتجشم خلاف الإعراب ليفاد منه المعنى فإن تخلل الإعراب من ضرب إلى ضرب يجري مجرى مناقلة الفرس ولا يقوى على ذلك من الخيل إلا الناهض الرجيل دون الكودن الثقيل قال جرير: من كل مشترف وإن بعد المدى ضرم الرفاق مناقل الأجرال ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا: اقتل فضموا الأول توقعاً للضمة تأتي من بعد. وكذلك قالوا: عظاءة وصلاءة وعباءة فهمزوا مع الهاء توقعاً لما سيصيرون إليه من طرح الهاء ووجوب الهمز عند العظاء والصلاء والعباء. وعلى ذلك قالوا: الشيء منتن فكسروا أوله لآخره وهو منحدر من الجبل فضموا الدال لضمة الراء. وعليه قالوا: هو يجوءك وينبؤك فأثر المتوقع لأنه كأنه حاضر. وعلى ذلك قالوا: امرأة شمباء وقالوا: العمبر ونساء شمب فأبدلوا النون ميماً مما يتوقع من مجيء الباء بعدها. وعليه أيضاً أبدلوا الأول للآخر في الإدغام نحو مرأيت واذهفى ذلك واصحمطرا. فهذا كله وما يجري مجراه مما يطول ذكره يشهد لأن كل ما يتوقع إذا ثبت في النفس كونه كان كأنه حاضر مشاهد. فعلى ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم وكيف وحيث وقبل وبعد علماً بأنهم سيستكثرون فيما بعد منها فيجب لذلك تغييرها. فإن قلت: هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء لأنها عبارات عن الأشياء ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني والأحوال ثم جاءوا فيما بعد بالحروف لأنك تراها لواحق بالجمل بعد تركبها واستقلالها بأنفسها نحو إن زيداً أخوك وليت عمرا عندك وبحسبك أن تكون كذا قيل يمنع من هذا أشياء: منها وجودك أسماء مشتقة من الأفعال نحو قائم من قام ومنطلق من انطلق ألا تراه يصح لصحته ويعتل لاعتلاله نحو ضرب فهو ضارب وقام فهو قائم وناوم فهو مناوم. فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقاً من الفعل فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان وقد رأيت الاسم مشتقاً منه ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه. وأيضاً فإن المصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت وكالاستحجار من الحجر وكلاهما اسم. وأيضاً فإن المضارع يعتل لاعتلال الماضي وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي. وأيضاً فإن كثيراً من الأفعال مشتق من الحروف نحو قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي أي قلت لي: لولا وسألتك حاجة فلاليت لي أي قلت لي: لا. واشتقوا أيضاً المصدر وهو اسم من الحرف فقالوا: اللالاة واللولاة وإن كان الحرف متأخراً في الرتبة عن الأصلين قبله: الاسم والفعل. وكذلك قالوا: سوفت الرجل أي قلت له: سوف وهذا فعل كما ترى مأخوذ من الحرفز ومن أبيات الكتاب: لو ساوفتنا بسوفٍ من تحيتها سوف العيوف لراح الركب قد قنع انتصب سوف العيوف على المصدر المحذوف الزيادة أي مساوفة العيوف. وأنا أرى أن جميع تصرف " ن ع م " إنما هو من قولنا في الجواب: نعم. من ذلك النعمة والنعمة والنعيم والتنعيم ونعمت به بالا وتنعم القوم والنعمى والنعماء وأنعمت به له وكذلك البقية. وذلك أن نعم أشرف الجوابين وأسرهما للنفس وأجلبهما للحمد ولا بضدها ألا ترى إلى قوله: وإذا قلت نعم فاصبر لها بنجاح الوعد إن الخلف ذم وقال الآخر أنشدناه أبو علي: أبي جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله يروى بنصب البخل وجره. فمن نصبه فعلى ضربين: أحدهما أن يكون بدلاً من لا لأن لا موضوعة للبخل فكأنه قال: أبي جوده البخل والآخر أن تكون لا زائدة حتى كأنه قال أبي جوده البخل لا على البدل لكن على زيادة لا. والوجه هو الأول لأنه قد ذكر بعدها نعم ونعم لا تزاد فكذلك ينبغي أن تكون لا ههنا غير زائدة. والوجه الآخر على الزيادة صحيح أيضاً لجرى ذكر لا في مقابلة نعم. وإذا جازا للا أن تعمل وهي زائدة فيما أنشده أبو الحسن من قوله: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إلي لامت ذوو أحسابها عمراً كان الاكتفاء بلغظها من غير عمل له أولى بالجواز. ومن جره فقال لا البخل فبإضافة لا إليه لأن لا كما تكون للبخل قد تكون للجود أيضاً ألا ترى أنه لو قال لك إنسان: لا تطعم الناس ولا تقر الضيف ولا تتحمل المكارم فقلت أنت: لا لكانت هذه اللفظة هنا للجود لا للبخل فلما كانت لا قد تصلح للأمرين جميعاً أضيفت إلى البخل لما في ذلك من التخصيص الفاصل بين المعنيين الضدين. فإن قلت: فكيف تضيفها وهي مبنية ألا تراها على حرفين الثاني حرف لين وهذا أدل شيء على البناء قيل: الإضافة لا تنافي البناء بل لو جعلها جاعل سبباً له لكان أعذر من أن يجعلها نافية له ألا ترى أن المضاف بعض الاسم وبعض الاسم صوت والصوت واجب بناؤه. فهذا من طريق القياس وأما من طريق السماع فلأنهم قد قالوا: كم رجل قد رأيت فكم مبنية وهي مضافة. وقالوا أيضاً: لأضربن أيهم أفضل وهي مبنية عند سيبويه. فهذا شيء عرض قلنا فيه. ثم لنعد إلى ما كنا عليه من أن جميع باب " ن ع م " إنما هو مأخوذ من نعم لما فيها من المحبة للشيء والسرور به. فنعمت الرجل أي قلت له نعم فنعم بذلك بالا كما قالوا: بجلته أي قلت له بجل أي حسبك حيث انتهيت فلا غاية من بعدك ثم اشتقوا منه الشيخ البجال والرجل البجيل. فنعم وبجل كما ترى حرفان وقد اشتق منهما أحرف كثيرة. فإن قلت: فهلا كان نعم وبجل مشتقين من النعمة والنعيم والبجال والبجيل ونحو ذلك دون أن يكون كل ذلك مشتقاً منهما قيل: الحروف يشتق منها ولا تشتق هي أبداً. وذلك أنها لما جمدت فلم تتصرف شابهت بذلك أصول الكلام الأول التي لا تكون مشتقة من شيء لأنه ليس قبلها ما تكون فرعاً له ومشتقة منه يؤكد ذلك عندك قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي أي قلت لي لولا فاشتقوا الفعل من الحرف المركب من لو و لا فلا يخلو هذا أن يكون لو هو الأصل أو لولا لا يجوز أن يكون لولا لأنه لو كان لولا هو الأصل كان لو محذوفاً منه والأفعال لا تحذف إنما تحذف الأسماء نحو يدٍ ودمٍ وأخٍ وأب وما جرى مجراه وليس الفعل كذلك. فأما خذ وكل ومر فلا يعتد إن شئت لقلته وإن شئت لأنه حذف تخفيفا في موضع وهو ثابت في تصريف الفعل نحو أخذ يأخذ وأخذ وآخذ. فإن قلت: فكذلك أيضاً يدٌ ودمٌ وأخٌ وأبٌ وغدٌ وفمٌ ونحو ذلك ألا ترى أن الجميع تجده متصرفاً وفيه ما حذف منه وذلك نحو أيدٍ وأيادٍ ويدي ودماءٍ ودمي وأدماءٍ والدما في قوله فإذا هي بعظام ودما وإخوة وأخوة وآخاء وأخوان وآباء وأبوة وأبوان وغدواً بلاقع وأفواه وفويه وأفوه وفوهاء وفوه قيل: هذا كله إن كان قد عاد في كل تصرف منه ما حذف من الكلمة التي هي من أصله فدل ذلك على محذوفه فليست الحال فيه كحال خذ من أخذ ويأخذ. وذلك أن أمثلة الفعل وإن اختلفت في أزمنتها وصيغها فإنها تجري مجرى المثال الواحد حتى إنه إذا حذف من بعضها شيء عوض منه في مثال آخر من أمثلته ألا ترى أنهم لما حذفوا همزة يكرم ونحوه عوضوه منها أن أوجدوها في مصدره فقالوا: إكراماً. وكذلك بقية الباب. وليس كذلك الجمع والواحد ولا التكبير والتصغير من الواحد لأنه ليس كل واحد من هذه المثل جارياً مجرى صاحبه فيكون إذا حذف من بعضها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه كان كأنه فيه وأمثلة الفعل إذا حذف من أحدها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه فإن قلت: فقد نجد بعض ما حذف في الأسماء موجوداً في الأفعال من معناها ولفظها. وذلك نحو قولهم في الخبر: أخوت عشرة وأبوت عشرة وأنشدنا أبو علي عن الرياشي: وبشرة يأبونا كأن خباءنا جناح سماني في السماء تطير وقالوا أيضاً: يديت إليه يداً وأيديت ودميت تدمى دمى وغدوت عليه وفهت بالشيء وتفوهت به. فقد استعملت الأفعال من هذه الكلم كما استملت فيما أوردته. قيل: وهذا أيضاً ساقط عنا وذلك أنا إنما قلنا: إن هذه المثل من الأفعال تجري مجرى المثال الواحد لقيام بعضها قيام بعض واشتراكها في اللفظ. وليس كذلك أب وأخ ونحوهما ألا ترى أن أب ليس بمثال من أمثلة الفعل ولا باسم فاعل ولا مصدر ولا مفعول فيكون رجوع المحذوف منه في أبوت كأنه موجود في أب وإنما أب من أبوت كمدق ومكحلة من دققت وكحلت. وكذلك القول في أخٍ ويدٍ ودمٍ وبقية تلك الأسماء. فهذا فرق. فقد علمت بما قدمناه وهضبنا فيه قوة تداخل الأصول الثلاثة: الاسم والفعل والحرف وتمازجها وتقدم بعضها على بعض تارة وتأخرها عنه أخرى. فلهذا ذهب أبو علي رحمه الله إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة كالرقم تضعه على المرقوم والميسم يباشر به صفحة الموسوم لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان وإن اختلفت بما فيه من الصنعة القوة والضعف في الأحوال. وقد كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف نحو هاهيت وحاحيت وعاعيت وجأجأت وحأحأت وسأسأت وشأشأت. وهذا كثير في الزجر. وقد كانت حضرتني وقتاً فيه نشطة فكتبت تفسير كثير من هذه الحروف في كتاب ثابت في الزجر فاطلبها في جملة ما أثبته عن نفسي في هذا وغيره.

باب في اللغة المأخوذة قياساً 

هذا موضع كأن في ظاهره تعجرفاً وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلاً عن صدور الأشياخ. وهو أكثر من أن أحصيه في هذا الموضع لك لكني أنبهك على كثير من ذلك لتكثر التعجب ممن تعجب منه أو يستبعد الأخذ به. وذلك أنك لا تجد مختصراً من العربية إلا وهذا المعنى منه في عدة مواضع ألا ترى أنهم يقولون في وصايا الجمع: إن ما كان من الكلام على فعل فتكسيره على أفعل ككلب وأكلب وكعب وأكعب وفرخ وأفرخ. وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثي فتكسيره في القلة على أفعال نحو جبل وأجبال وعنق وأعناق وإبل وآبال وعجز وأعجاز وربع وأرباع وضلع وأضلاع وكبد وأكباد وقفل وأقفال وحمل وأحمال. فليت شعري هل قالوا هذا ليعرف وحده أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة بل سمعته منفرداً أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره. لا بل كنت تحمله عليه للوصية التي تقدمت لك في بابه. وذلك كأن يحتاج إلى تكسير الرجز الذي هو العذاب فكنت قائلاً لا محالة: أرجاز قياساً على أحمال وإن لم تسمع أرجازا في هذا المعنى. وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر من قولهم: وظيف عجر لقلت: أعجار قياساً على يقظ وأيقاظ وإن لم تسمع أعجارا. وكذلك لو احتجت إلى تكسير شبع بأن توقعه على النوع لقلت: أشباع وإن لم تسمع ذلك لكنك سمعت نطع وأنطاع وضلع وأضلاع. وكذلك لو احتجت إلى تكسير دمثر لقلت: دماثر قياساً على سبطر وسباطر. وكذلك قولهم: إن كان الماضي على فعل فالمضارع منه على يفعل فلو أنك على هذا سمعت ماضياً على فعل لقلت في مضارعه: يفعل وإن لم تسمع ذلك كأن يسمع سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه: يضؤل وإن لم يسمع ذلك ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه لأنه لو كان محتاجاً إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون وتقبلوها وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ولا عرض ينتحيه الاعتماد ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة والآحاد والتثاني والجموع والتكابير والتصاغير ولما أقنعهم أن يقولوا: إذا كان الماضي كذا وجب أن يكون مضارعه كذا واسم فاعله كذا واسم مفعوله كذا واسم مكانه كذا واسم زمانه كذا ولا قالوا: إذا كان المكبر كذا فتصغيره كذا وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا دون أن يستوفوا كل شيء من ذلك فيوردوه لفظاً منصوصاً معيناً لا مقيساً ولا مستنبطاً كغيره من اللغة التي لا تؤخذ قياساً ولا تنبيهاً نحو دار وباب وبستان وحجر وضبع وثعلب وخزز لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على ضربين: أحدهما ما لا بد من تقبله كهيئته لا بوصية فيه ولا تنبيه عليه نحو حجر ودار وما تقدم ومنه ما وجدوه يتدارك بالقياس وتخف الكلفة في علمه على الناس فقننوه وفصلوه إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب المغنى عن المذهب الحزن البعيد. وعلى ذلك قدم الناس في أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات ثم أتلوه ما لا بدله من السماع والروايات فقالوا: المقصور من حاله كذا ومن صفته كذا والممدود من أمره كذا ومن سببه كذا وقالوا في المذكر والمؤنث: علامات التأنيث كذا وأوصافها كذا ثم لما أنجزوا ذلك قالوا: ومن المؤنث الذي روى رواية كذا وكذا. فهذا من الوضوح على ما لا خفاء به. فلما رأى القوم كثيراً من اللغة مقيساً منقاداً وسموه بمواسمه وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز. ثم لما تجاوزوا ذلك إلى ما لا بد من إيراده ونص ألفاظه التزموا وألزموا كلفته إذ لم يجدوا منها بداً ولا عنها منصرفاً. ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة قياساً لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به ونبهنا عليه كما فعله من قبلنا ممن نحن له متبعون وعلى مثله وأوضاعه حاذون فأما هجنة الطبع وكدورة الفكر وخمود النفس وخيس الخاطر وضيق المضطرب فنحمد الله على أن حماناه ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه ويستعملنا به فيما يدني منه ويوجب الزلفة لديه بمنه. فهذا مذهب العلماء بلغة العرب وما ينبغي أن يعمل عليه ويؤخذ به فأمضه على ما أريناه وحددناه غير هائب له ولا مرتاب به. وهو كثير وفيما جئنا به منه كاف. باب في تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية ولنبدأ من ذلك بذكر الثلاثي منفرداً بنفسه ثم مداخلاً لما فوقه. اعلم أن الثلاثي على ضربين: أحدهما ما يصفو ذوقه ويسقط عنك التشكك في حروف أصله كضرب وقتل وما تصرف منهما. فهذا ما لا يرتاب به في جميع تصرفه نحو ضارب ويضرب ومضروب وقاتل وقتال واقتتل القوم واقتل ونحو ذلك. فما كان هكذا مجرداً واضح الحال من الأصول فإنه يحمي نفسه وينفي الظنة عنه. والآخر أن تجد الثلاثي على أصلين متقاربين والمعنى واحد فههنا يتداخلان ويوهم كل واحد منهما كثيراً من الناس أنه من أصل صاحبه وهو في الحقيقة من أصل غيره وذلك كقولهم: شيء رخو ورخود. فهما كما ترى شديدا التداخل لفظاً وكذلك هما معنى. وإنما تركيب رخو من رخ و وتركيب رخود من رخ د وواو رخود زائدة وهو فعول كعلود وعسود والفاء والعين من رخو ورخود متفقتان لكن لاماهما مختلفتان. فلو قال لك قائل: كيف تحقر رخوداً على حذف الزيادة لقلت: رخيد بحذف الواو وإحدى الدالين. ولو قال لك: كيف تبني من رخو مثل جعفر لقلت رخوى ومن رخود: رخدد أفلا ترى إلى ازدحام اللفظين مع تماس المعنيين وذلك أن الرخو الضعيف والرخود المتثني والتثني عائد إلى معنى الضعف فلما كانا كذلك أوقعا الشك لمن ضعف نظره وقل من هذا الأمر ذات يده. ومن ذلك قولهم: رجل ضياط وضيطار. فقد ترى تشابه الحروف والمعنى مع ذلك واحد فهو أشد لإلباسه. وإنما ضياط من تركيب " ض ي ط " وضيطار من تركيب " ض ط ر ". ومنه قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى! لو لا الكمى المقنعا فضياط يحتمل مثاله ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون فعالاً كخياط ورباط والآخر أن يكون فيعالاً كخيتام وغيداق والثالث أن يكون فوعالاً كتوراب. فإن قلت: إن فوعالا لم يأت صفة قيل اللفظ يحتمله وإن كانت اللغة تمنعه. ومن ذلك لوقة وألوقة وصوص وأصوص وينجوج وألنجوج ويلنجوج وضيف وضيفن في قول أبي زيد. ومن ذلك حية وحواء فليس حواء من لفظ حية كعطار من العطر وقطان من القطن بل حية من لفظ " ح ي ي " من مضاعف الياء وحواء من تركيب " ح و ى " كشواء وطواء. ويدل على أن الحية من مضاعف الياء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم في الإضافة إلى حية بن بهدلة: حيوى. فظهور الياء عيناً في حيوى قد علمنا منه كون العين ياء وإذا كانت العين ياء واللام معتلة فالكلمة من مضاعف الياء البتة ألا ترى أنه ليس في كلامهم نحو حيوت. وهذا واضح. ولولا هذه الحكاية لوجب أن تكون الحية والحواء من لفظ واحد لضربين من القياس: أما أحدهما فلأن فعالا في المعاناة إنما يأتي من لفظ المعاني نحو عطار من العطر وعصاب من العصب. وأما الآخر فلأن ما عينه واو ولامه ياء أكثر مما عينه ولامه ياءان ألا ترى أن باب طويب وشويت أكثر من باب حييت وعييت. وإذ كان الأمر كذلك علمت قوة السماع وغلبته للقياس ألا ترى أن سماعاً واحداً غلب قياسين اثنين. نعم وقد يعرض هذا التداخل في صنعة الشاعر فيرى أو يرى أنه قد جنس وليس في الحقيقة تجنيساً وذلك كقول القطامي: مستحقبين فؤادا ما له فاد ففؤاد من لفظ " ف أ د " وفاد من تركيب " ف د ى " لكنهما لما تقاربا هذا التقارب دنوا من التجنيس. وعليه قول الحمصي: وتسويف العدات من السوافي فظاهر هذا يكاد لا يشك أكثر الناس أنه مجنس وليس هو كذلك. وذلك أن تركيب تسويف من " س و ف " وتركيب السوافي من " س ف ي " لكن لما وجد في كل واحد من الكلمتين سين وفاء وواو جرى في بادي السمع مجرى الجنس الواحد وعليه قال الطائي الكبير: ألحد حوى حية الملحدين! ولدن ثرى حال دون الثراء! فيمن رواه هكذا حوى حية الملحدين أي قاتل المشركين وكذلك قال في آخر البيت أيضاً: ولدن ثرى حال دون الثراء فجاء به مجيء التجنيس وليس على الحقيقة تجنيساً صحيحاً. وذلك أن التجنيس عندهم أن يتفق اللفظان ويختلف أو يتقارب المعنيان كالعقل والمعقل والعقلة والعقيلة ومعقلة. وعلى ذلك وضع أهل اللغة كتب الأجناس. وليس الثرى من لفظ الثراء على الحقيقة وذلك أن الثرى وهو الندى من تركيب " ث ر و " لقولهم: التقى الثريان. وأما الثراء لكثرة المال فمن تركيب " ث ر و " لأنه من الثروة ومنه الثريا لأنها من الثروة لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحل. ومنه قولهم: ثرونا بني فلان تثروهم ثروة إذا كنا أكثر منهم. فاللفظان - كما ترى - مختلفان فلا تجنيس إذاً إلا للظاهر. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح المقصور والممدود عن ابن السكيت وأن الفراء تسمح في ذكر مثل هذا على اختلاف أصوله وأن عذره في ذلك تشابه اللفظين بعد القلب. ومن ذلك قولهم: عدد طيس وطيسل. فالياء في طيس أصل وتركيبه من " ط ي س " وهي في طيسل زائدة وهو من تركيب " ط س ل ". ومثله الفيشة والفيشلة: حالهما في ذلك سواء. وذهب سيبويه في عنسل إلى زيادة النون وأخذها من قوله: عسلان الذئب أمسى قارباً برد الليل عليه فنسل وذهب محمد بن حبيب في ذلك إلى أنه من لفظ العنس وأن اللام زائدة وذهب بها مذهب زيادتها في ذلك وأولالك وعبدل وبابه. وقياس قول محمد ابن حبيب هذا أن تكون اللام في فيشلة وطيسل زائدة. وما أراه إلا أضعف القولين لأن زيادة النون ثانية أكثر من زيادة اللام في كل موضع فكيف بزيادة النون غير ثانية. وهو أكثر من أن أحصره لك. فهذه طريق تداخل الثلاثي بعضه في بعض. فأما تداخل الثلاثي والرباعي لتشابههما في أكثر الحروف فكثير منه قولهم: سبط وسبطر. فهذان أصلان لا محالة ألا ترى أن أحداً لا يدعى زيادة الراء. ومثله سواء دمث ودمثر وحبج وحبجر. وذهب أحمد بن يحيى في قوله: يرد قلخاً وهديراً زغدبا إلى أن الباء زائدة وأخذه من زغد البعير يزغد زغداً في هديره. وقوله: إن الباء زائدة كلام تمجه الآذان وتضيق عن احتماله المعاذير. وأقوى ما يذهب إليه فيه أن يكون أراد أنهما أصلان مقتربان كسبط وسبطر. وإن أراد ذلك أيضاً فإنه قد تعجرف. ولكن قوله في أسكفة الباب: إنها من استكف الشيء أي انقبض أمر لا ينادي وليده روينا ذلك عنه. وروينا عنه أيضاً أنه قال في تنور: إنه تفعول من النار. وروينا عنه أيضاً أنه قال: الطيخ: الفساد قال: فهو من تواطخ القوم. وسنذكر ذلك في باب سقطات العلماء بإذن الله. ولكن من الأصلين المتداخلين: الثلاثي والرباعي قولهم: زرم وازرأم وخضل واخضأل وأزهر وازهأر وضفد واضفأد وزلم القوم وازلأموا وزغب الفرخ وازلغب. ومنه قولهم: مبلع وبلعوم وحلق وحلقوم وشيء صلد وصلادم وسرطم وسرواط. وقالوا للأسد: هرماس وحدثنا أبو علي عن الأصمعي أنه قال في هرماس: إنه من الهرس. وحدثنا أيضاً أنهم يقولون: لبن ممارص. وقالوا دلاص ودلامص ودمالص. وأنشد ابن الأعرابي: فباتت تشتوي والليل داج ضماريط استها في غير نار ومن هذا أيضاً قولهم: بعير أشدق وشدقم. وينبغي أن يكون جميع هذا من أصلين ثلاثي ورباعي. وهو قياس قول أبي عثمان ألا تراه قال في دلامص: إنه رباعي وافق أكثره حروف الثلاثي كسبط وسبطر ولؤلؤ ولآل. فلؤلؤ رباعي ولآل ثلاثي. وقياس مذهب الخليل بزيادة الميم في دلامص أن تكون الميم في هذا كله زائدة وتكون على مذهب أبي عثمان أصلاً وتكون الكلم التي اعتقبت هذه الحروف عليها أصلين لا أصلاً واحداً. نعم وإذا جاز للخليل أن يدعي زيادة الميم حشوا وهو موضع عزيز عليها فزيادتها آخرا أقرب مأخذاً لأنها لما تأخرت شابهت بتطرفها أول الكلمة الذي هو معان لها ومظنة منها. فقياس قوله في دلامص: إنه فعامل أن يقول في دمالص: فماعل وكذلك في فمارص وأن يقول في بلعوم وحلقوم: إنه فعلوم لأن زيادة الميم آخراً أكثر منها أولاً ألا ترى إلى تلفيهم كل واحد من دلقم ودردم ودقعم وفسحم وزرقم وستهم ونحو ذلك بزيادة الميم في آخره. ولم نر أبا عثمان خالف في هذا خلافه في دلامص. وينبغي أن يكون ذلك لأن آخر الكلمة مشابه لأولها فكانت زيادة الميم فيه أمثل من زيادتها حشوا. فأما ازرأم واضفاد ونحو ذلك فلا تكون همزته إلا أصلاً ولا تحملها على باب شأمل وشمأل لقلة ذلك. وكذلك لام ازلغب هي أحرى أن تكون أصلاً. ومن الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين قولهم: قاع قرق وقرقر وقرقوس وقولهم: سلس وسلسل وقلق وقلقل. وذهب أبو إسحاق في نحو قلقل وصلصل وجرجر وقرقر إلى أنه فعفل وأن الكلمة لذلك ثلاثية حتى كأن أبا إسحاق لم يسمع في هذه اللغة الفاشية المتشرة بزغد وزغدب وسبط وسبطر ودمث ودمثر وإلى قول العجاج: هذا مع قولهم وتر حبجر للقوى الممتلئ. نعم وذهب إلى مذهب شاذ غريب في أصل منقاد عجيب ألا ترى إلى كثرته في نحو زلز وزلزل ومن أمثالهم توقرى يا زلزه فهذا قريب من قولهم: قد تزلزلت أقدامهم إذا قلقت فلم تثبت. ومنه قلق وقلقل وهوة وهوهاءة وغوغاءٌ وغوغاءُ لأنه مصروفاً رباعي وغير مصروف ثلاثي. ومنه رجل أدرد وقالوا: عض على دردره ودردوره. ومنه صل وصلصل وعج وعجعج. ومنه عين ثرة وثرثارة. وقالوا: تكمكم من الكمة وحثحثت وحثثت ورقرقت ورققت قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} وهذا باب واسع جداً ونظائره كثيرة: فارتكب أبو إسحاق مركباً وعزا وسحب فيه عدداً جماً وفي هذا إقدام وتعجرف. ولو قال ذلك في حرف أو حرفين كما قال الخليل في دلامص بزيادة الميلم لكان أسهل لأن هذا شيء إنما احتمل القول به في كلمة عنده شاذة أو عزيزة النظير. فأما الاقتحام بباب منقاد في مذهب متعاد ففيه ما قدمناه ألا ترى أن تكرير الفاء لم يأت به ثبت إلا في مرمريس وحكى غير صاحب الكتاب أيضاً مرمريت وليس بالبعيد أن تكون التاء بدلاً من السين كما أبدلت منها في ست وفيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: يا قاتل الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات فأبدل السين تاء. فإن قلت: فإنا نجد للمرمريت أصلاً يحتازه إليه وهو المرت قيل: هذا هو الذي دعانا إلى أن قلنا: إنه قد يجوز أن تكون التاء في مرمريت بدلاً من سين مرمريس. ولولا أن معنا مرتا لقلنا فيه: إن التاء بدل من السين البتة كما قلنا ذلك في ست والنات وأكيات. فإن قال قائل منتصراً لأبى إسحاق: لا ينكر أن يأتي في المعتل من الأمثلة ما لا يأتي في الصحيح نحو سيد وميت وقضاة ودعاة وقيدودة وصيرورة وكينونة وكذلك يجيء في المضاعف ما لا يأتي في غيره من تكرير الفاء. بل إذا كانوا قد كرروها في مرمريت ومرمريس ولم نر في الصحيح فيعلا ولا فعلة في جمع فاعل ولا فيعلولا مصدراً كان ما ذهب إليه أبو إسحاق من تكرير الفاء في المضاعف أولى بالجواز وأجدر بالتقبل فهو قول غير أن الأول أقوى ألا ترى أن المضاعف لا ينتهي في الاعتلال إلى غاية الياء والواو وأن ما أعل منه في نحو ظلت ومست وظنت في ظننت وتقصيت تقضيت وتفضيت من الفضة وتسريت من السرية ليس شيء من إعلال ذلك ونحوه بواجب بل جميعه لو شئت لصححته وليس كذلك حديث الياء والواو والألف في الاعتلال بل ذلك فيها في عام أحوالها التي اعتلت فيها أمر واجب أو مستحسن في حكم الواجب أعني باب حاري وطائي وياجل وياءس وآية في قول سيبويه. فإن قلت فقد قرأ الأعمش بعذاب بيئس فإنما ذاك لأن الهمزة وإن لم تكن حرف علة فإنها معرضة للعلة وكثيرة الانقلاب عن حروف العلة فأجريت بيئس عنده مجرى سيد وهين كما أجريت التجزئة مجرى التعزية في باب الحذف والتعويض وتابع أبو بكر البغداديين في أن الحاء الثانية في حثحثت بدل من ثاء وان أصل حثثت. وكذلك قال في نحو ثرة وثرثارة: إن الأصل فيها ثرارة فأبدل من الراء الثانية ثاء فقالوا ثرثارة. وكذلك طرد هذا الطرد. وهذا وإن كان عندنا غلطا لإبدال الحرف مما ليس من مخرجه ولا مقارباً في المخرج له فإنه شق آخر من القول. ولم يدع أبو بكر فيه تكرير الفاء وإنما هي عين أبدلت إلى لفظ الفاء فأما أن يدعى أنها فاء مكررة فلا. فهذا طريق تزاحم الرباعي مع الثلاثي. وهو كثير جداً فاعرفه وتوق حمله عليه أو خلطه به ومز كل واحد منهما عن صاحبه وواله دونه فإن فيه إشكالاً. وأنشدني الشجري لنفسه: أناف على باقي الجمال ودففت بأنوار عشب مخضئل عوازبه وأما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل. وسبب ذلك قلة الأصلين جميعاً فلما قلاَّقلَّ ما يعرض من هذا الضرب فيهما إلا أن منه قولهم: ضبغطى وضبغطرى وقوله أيضاً: قد دردبت والشيخ دردبيس فدردبت رباعي ودردبيس خماسي. ولا أدفع أن يكون استكره نفسه على أن بنى من كيف حال المثلين في الأصلية والزيادة باب في المثلين: كيف حالهما في الأصلية والزيادة وإذا كان أحدهما زائداً فأيهما هو اعلم أنه متى اجتمع معك في الأسماء والأفعال حرف أصل ومعه حرفان مثلان لا غير فهما أصلان متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو الحفف والصدد والقصص وصببت وحللت وشددت وددن ويين. وأما المنفصلان فنحو دعد وتوت وطوط وقلق وسلس. وكذلك إن كان هناك زائد فالحال واحدة نحو حمام وسمام وثالث وسالس روينا عن الفراء قول الراجز: ممكورة غرثي الوشاح السالس تضحك عن ذي أشر غضارس وكذلك كوكب ودودح. وليس من ذلك دؤادم لأنه مهموز. وكذلك إن كان هناك حرفان تسقطهما الصنعة جريا في ذلك مجرى الحرف الواحد كألف حمام وسمام وواو كوكب ودودح وذلك ألندد ويلندد يوضح ذلك الاشتقاق في ألندد لأنه هو الألد. وأما ألنجج فإن عدة حروفه خمسة وثالثه نون ساكنة فيجب أن يحكم بزيادتها فتبقى أربعة فلا يخلو حينئذ أن يكون مكرر اللام كباب قعدد وشربب وأو مزيدة في أوله الهمزة كأحمر وأصفر وإثمد. وزيادة الهمزة أولاً أكثر من تكرير اللام آخراً. فعلى ذلك ينبغي أن يكون العمل. فتبقى الكلمة من تركيب " ل ج ج " فمثلاها إذن أصلان وكذلك يلنجج لأن الياء في ذلك كالهمزة كما قدمناه. فمثلاً ألنجج ويلنجج أصلان كمثلي ألندد ويلندد. فهذه أحكام المثلين إذا كان معهما أصل واحد في أنهما أصلان لا محالة. فأما إذا كان معك أصلان ومعهما حرفان مثلان فعلى أضرب: منها أن يكون هناك تكرير على تساوي حال الحرفين. فإذا كانا كذلك كانت الكلمة كلها أصولاً وذلك نحو قلقل وصعصع وقرقر. فالكلمة إذاً لذلك رباعية. وكذلك إن اتفق الأول والثالث واختلف الثاني والرابع فالمثلان أيضاً أصلان. وذلك نحو فرفخ وقرقل وزهزق وجرجم. وكذلك إن اتفق الثاني والرابع واختلف الأول والثالث نحو كربر وقسطاس وهزنبزان وشعلع فالمثلان أيضاً أصلان. وكل ذلك أصل رباعي. وكذلك إن اتفق الأول والرابع واختتلف الثاني والثالث فالمثلان أصلان والكلمة أيضاً من بنات الأربعة. وذلك نحو قربق وصعفصة وسلعوس. وكذلك إن اتفق الأول والثاني واختلف الثالث والرابع فالمثلان أصلان والكلمة أيضاً رباعية. وذلك نحو ديدبون وزيزفون: هما رباعيان كباب ددن وكوكب في الثلاثة. ومثالهما فيعلول كخيسفوج وعيضموز. فهذه حال الرباعي. وكذلك أيضاً إن حصل معك ثلاثة أحرف أصول ومعها مثلان غير ملتقيين فهما أيضاً أصلان وذلك كقولهم زبعبق وشمشليق وشفشليق. فهذه هي الأصول التي يكون فيها المثلان أصلين. وما علمنا أن وراء ما حضرنا وأحضرناه منها مطلوباً فيتعب بالتماسه وتطلبه. فأما متى يكون أحد المثلين زائداً فهو أن يكون معك حرفان أصلان من بعدهما حرفان مثلان فأحدهما زائد. وسنذكر أيهما هو الزائد عقيب الفراغ من تقسيم ذلك. وذلك كمهدد وسردد وجلبب وشملل وصعرر واسحنكك واقعنسس. وكذلك إن كان معك حرفان أصلان بينهما حرفان مثلان فأحد المثلين أيضاً زائد. وذلك نحو سلمن وقلفٍ وكسرَّ وقطع. وكذلك إن فصل بين المثلين المتأخرين عن الأصلين المتقدمين أو المتوسطين بينهما زائد فالحال واحدة. وذلك نحو قردود وسحتيت وصهميم. وقرطاط وصفنات وعثوثل واعشوشب واخلولق. فهذا حكم المثلين بجيئان مع الأصلين. وكذلك إن جاءا بعد الثلاثة الأصول وذلك نحو قفعدد وسهلل وسبحلل وهرشف وعربد وقسحب وقسقب وطرطب. وكذلك إن التقى المثلان حشوا وذلك نحو علكد وهلقس ودبخس وشمخر وضمخر وهمقع وزملق وشعلع وهملع وعدبس وعجنس. وكذلك إن حجز بين المثلين زائد. وذلك نحو جلفزيز وهلبسيس وخربصيص وحندقوق. فهذه الكلم كلها رباعية الأصل وأحد مثليها زائد. فأما همرش فخماسي وميمه الأولى نون وأدغمت في الميم لما لم يخف هناك لبس ألا ترى أنه ليس في بنات الأربعة مثال جعفر فيلتبس به همرش. ولو حقرت همرشاً لقلت هنيمر فأظهرت نونها لحركتها. وكذلك لو استكرهت على تكسيرها لقلت هنامر. ونظير إدغام هذه النون إذا لم يخافوا لبساً قولهم امحي واماز واماع. ولما لم يكن في الكلام افعل علم أن هذا انفعل قال أبو الحسن: ولو أردت مثال انفعل من رأيت ولحزت لقلت: ارأى والحز. فإن قلت: فما تقول في مثل عذور وسنور واعلوط واخروط وهبيخ وهبيغ وجبروة وسمعنة ونظرنة وزونك فيمن أخذه من زاك يزوك وعليه حمله أبو زيد لأنه صرف فعله عقيبه معه فإن هذا سؤال ساقط عنا وذلك أنا إنما كلامنا على ما أحد مثليه زائد ليذكر فإن قيل: فهذا ولكن ما تقول في صمحمح ودمكمك وبابهما قيل: هذا في جملة ما عقدناه ألا ترى أن معك في أول المثال الصاد والميم وهما لفظ أصلين ثم تكرر كل واجد من الثاني والثالث فصار عود الثالث فصار عود الثاني ملحقاً له بباب فعل وعود الثالث ملحقاً له بباب فعلل فقد ثبت أن كل واحد من الحرفين الثاني والثالث قد عاد عليه نفس لفظه كما عاد على طاء قطع لفظها وعلى دال قعدد أيضاً لفظها. فباب فعلعل ونحوه أيضاً ثلاثي كما أن كل واحد من سلم وقطع وقعدد وشملل ثلاثي. وهذا أيضاً جواب من سأل عن مرمريس ومرمريت سؤاله عن صمحمح ودمكمك لأن هذين أولا كذينك آخرا. الآن قد أتينا على أحكام المثلين: متى يكونان أصلين ومتى يكون أحدهما زائداً بما لا تجده متقصي متحجراً في غير كلامنا هذا. وهذا أوان القول على الزائد منهما إذا اتفق ذلك أيهما هو. فمذهب الخليل في ذلك أن الأول منهما هو الزائد ومذهب يونس وإياه كان يعتمد أبو بكر أن الثاني منهما هو الزائد. وقد وجدنا لكل من القولين مذهباً واستوسعنا له بحمد الله مضطرباً. فجعل الخليل الطاء الأولى من قطع ونحوه كواو حوقل وياء بيطر وجعل يونس الثانية منه كواو جهور ودهور. وجعل الخليل باء جلبب الأولى كواو جهور ودهور وجعل يونس الثانية كياء سلقيت وجعبيت. وهذا قدر من الحجاج مختصر وليس بقاطع وإنما فيه الأنس بالنظير لا القطع باليقين. ولكن من أحسن ما يقال في ذلك ما كان أبو علي رحمه الله يحتج به لكون الثاني هو الزائد قولهم: اقعنسس واسحنكك قال: ووجه الدلالة من ذلك أن نون افعنلل بابها إذا وقعت في ذوات الأربعة أن تكون بين أصلين نحو احرنجم واخرنطم. واقعنسس ملحق بذلك فيجب أن يحتذي به طريق ما ألحق بمثاله. فلتكن السين الأولى أصلاكما أن الطاء المقابلة لها من اخرنطم أصل. وإذا كانت السين الأولى من اقعنسس أصلاً كانت الثانية الزائدة من غير ارتياب ولا شبهة. وهذا في معناه سديد حسن جار على أحكام هذه الصناعة. ووجدت أنا أشياء في هذا المعنى يشهد بعضها لهذا المذهب وبعضها لهذا المذهب. فمما يشهد لقول يونس قول الراجز: بني عقيل ماذه الخنافق! المال هدى والنساء طالق فالخنافق جمع خنفقيق وهي الداهية. ولن تخلو القاف المحذوفة أن تكون الأولى أو الثانية فيبعد أن تكون الأولى لأنه لو حذفها لصار التقدير به في الواحد إلى خنفيق ولو وصل إلى ذاك لوقعت الياء رابعة فيما عدته خمسة وهذا موضع يثبت فيه حرف اللين بل يجتلب إليه تعويضاً أو إشباعاً. فكان يجب على هذا خنافيق. فلما لم يكن كذلك علمت أنه إنما حذف القاف الثانية فبقى خنفقي فلما وقعت الياء خامسة حذفت فبقي خنفق فقيل في تكسيره خنافق. فإن قلت: ما أنكرت أن يكون حذف القاف الأولى فبقي خنفيق وكان قياس تكسيره خنافيق غير أنه اضطر إلى حذف الياء كضرورته إلى حذفها في قوله: والبكرات الفسج العطامسا قيل: الظاهر غير هذا وإنما العمل على الظاهر لا على المحتمل. فإذا صح أنه إنما حذف الثانية علمت أنها هي الزائدة دون الأولى. ففي هذا بيان وتقوية لقول يونس. ويقوى قوله أيضاً أنهم لما ألحقوا الثلاثة بالأربعة فقالوا مهدد وجلبب وبدأوا باستعمال الأصلين وهما الميم والهاء والجيم واللام فهذان أصلان لا محالة. فكما تبعت الهاء الميم والهاء أصل كما أن الميم أصل فكذلك يجب أن تكون الدال الأولى أصلاً لتتبع الهاء التي هي أصل. فكما لا يشك أن الهاء أصل تبع أصلاً فكذلك ينبغي أن تكون الدال الأولى أصلاً تبعت أصلاً من حيث تساوت أحوال الأصول الثلاثة وهي الفاء والعين واللام. فلما استوفيت الأصول الثلاثة المقابل بها من جعفر الأصول الأول الثلاثة وبقيت هناك بقية من الأصل الممثل وهي اللام الثانية التي هي الراء استؤنفت لها لام ثانية مكررة وهي الدال الثانية. نعم وإذا كانت اللام الثانية من الرباعي مشابهة بتجاوزها الثلاثة للزائد كان الحرف المكرر الذي هو أجد فهذا كله كما ترى شاهد بقوة قول يونس. فأما ما يشهد للخليل فأشياء. منها ما جاء من نحو فعوعل وفعيعل وفعنلل وفعاعل وفعاعيل نحو غدودن وخفيدد وعقنقل وزرارق وسخاخين. وذلك أنك قد علمت أن هذه المثل التي تكررت فيها العينان إنما يتقدم على الثانية منهما الزائد لا محالة أعني واو فعوعل وياء فعيعل ونون فعنلل وألف فعاعل وفعاعيل. فكما أنهما لما اجتمعا في هذه المثل ما قبل الثانية زائد لا محالة فكذلك ينبغي أن يكونا إذا التقيا غير مفصول بينهما في نحو فَعَّل وفُعّل وفَعَّال وفُعَّال وفٍعِّل وما كان نحو ذلك: الزائدة منهما أيضاً هي الأولى لوقوعها موقع الزوائد مع التكرير فيهما لا محالة. فكما لا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية في فعوعل وبابه فكذلك ينبغي ألا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية مما التقت عيناه نحو فَعَّل وفُعّل وبقية الباب. وهذا واضح. فإن عكس عاكس هذا فقال: إن كان هذا شاهداً لقول الخليل عندك كان هو أيضاً نفسه شاهدا لقول يونس عند غيرك. وذلك أن له أن يقول: قد رأينا العينين في بعض المثل إذا التقتا مفصولة إحداهما من الأخرى فإن ما بعد الأولى منهما زائد لا محالة ويورد هذه المثل عينها نحو عثوثل وخفيدد وعقنقل وبقية الباب فيقول لك: فكما أن ما بعد العين الأولى منها زائد فالجواب أن هذه الأحرف الزوائد في فعوعل وفعيعل وفعنلل وبقية الباب أشبه بالعين الأولى منها بالعين الآخرة وذلك لسكونها كما أن العينين إذا التقتا فالأولى منهما ساكنة لا غير نحو فَعّل وفُعّل وفِعِّيل وبقية الباب ولا نعرف في الكلام عينين التقتا والأولى منهما متحركة ألا ترى أنك لا تجد في الكلام نحو فِعِعْل ولا فُعُعْل ولا فُعُعْل ولا شيئاً من هذا الضرب لم نذكره. فإذا كان كذلك علمت أن واو فعوعل لسكونها أشبه بعين فعل الأولى لسكونها أيضاً منها بعينها الثانية لحركتها فاعرف ذلك فرقاً ظاهراً. ومنها أن أهل الحجاز يقولون للصواغ: الصياغ فيما رويناه عن الفراء وفي ذلك دلالة على ما نحن بسبيله. ووجه الاستدلال منه أنهم كرهوا التقاء الواوين لا سيما فيما كثر استعماله فأبدلوا الأولى من العينين ياء كما قالوا في أما: أيما ونحو ذلك فصار تقديره: الصيواغ فلما التقت الواو والياء على هذا أبدلوا الواو للياء قبلها فقالوا الصياغ. فإبدالهم العين الأولى من الصواغ دليل على أنها هي الزائدة لأن الإعلال بالزائد أولى منه بالأصل. فإن قلت: فقد قلبت العين الثانية أيضاً فقلت صياغ فلسنا نراك إلا وقد أعللت العينين جميعاً فمن جعلك بأن تجعل الأولى هي الزائدة دون الآخرة وقد انقلبتا جميعاً قيل قلب الثانية لا يستنكر لأنه كان عن وجوب وذلك لوقوع الياء ساكنة قبلها فهذا غير بعيد ولا معتذر منه لكن قلب الأولى وليس هناك علة تضطر إلى إبدالها أكثر من الاستخفاف مجرداً هو المعتد المستنكر المعول عليه المحتج به فلذلك اعتمدناه وأنشأنا الاحتجاج للخليل عنه إذ كان تلعباً بالحرف من غير قوة سبب ولا وجوب علة. فأما ما يقوي سببه ويتمكن حال الداعي إليه فلا عجب منه ولا عصمة للحرف وإن كان أصلياً دونه. وإذا كان الحرف زائداً كان بالتلعب به قمنا. واذكر قول الخليل وسيبويه في باب مقول ومبيع وأن الزائد عندهما هو المحذوف أعني واو مفعول من حيث كان الزائد أولى بالإعلال من الأصل. فإن قلت: فما أنكرت أن يكونوا إنما أبدلوا العين الثانية في صواغ دون الأولى فصار التقدير به إلى صوياغ ثم وقع التغيير فيما بعد قيل: يمنع من ذلك أن العرب إذا غيرت كلمة عن صورة إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم. وذلك أنك تحتاج إلى أن تنيب شيئاً عن شيء فأولى أحوال الثاني بالصواب أن يشابه الأول. ومن مشابهته له أن يوافق أمثلة القوم كما كان المناب عنه مثالاً من مثلهم أيضاً ألا ترى أن الخليل لما رتب أمر أجزاء العروض المزاحفة فأوقع للزحاف مثالاً مكان مثال عدل عن الأول المألوف الوزن إلى آخر مثله في كونه مألوفاً وهجر ما وذلك أنه لما طوى " مُسْ تَفْ عِلُنْ " فصار إلى مُسْ تَعِلُن " ثناه إلى مثال معروف وهو مفتعلن لما كره مُسْتَعِلُنْ إذ كان غير مألوف ولا مستعمل. وكذلك لما ثرم فَعُولُنْ فصار إلى عُولُ وهو مثال غير معروف عدله إلى فَعْلُ. وكذلك لما خبل مُسْتَفْعِلُنْ فصار إلى مُتَعِلُنْ فاستنكر ما بقي منه جعل خالفة الجزء فَعَلَتُنْ ليكون ما صير إليه مثالاً مألوفاً كما كان ما انصرف عنه مثالاً مألوفاً. ويؤكد ذلك عندك أن الزحاف إذا عرض في موضع فكان ما يبقى بعد إيقاعه مثالاً معروفاً لم يستبدل به غيره. وذلك كقبضه مفاعلين إذا صار إلى مفاعلن وككفه أيضاً لما صار إلى مفاعيل فلما كان ما بقي عليه الجزء بعد زحافه مثالاً غير مستنكر أقره على صورته ولم يتجشم تصوير مثال آخر غيره عوضاً منه وإنما أخذ الخليل بهذا لأنه أحزم وبالصنعة أشبه. فكذلك لما أريد التخفيف في صواغ أبدل الحرف الأول فصار من صيواغ إلى لفظ فيعال كفيداق وخيتام. ولو أبدل الثاني لصار صوياغ إلى لفظ فيعال وفعْيال مثال مرفوض. فإن قلت كان يصير من صوياغ إلى لفظ فوعال قيل قد ثبت أن عين هذه الكلمة واو فصوياغ إذاً لو صير إليه لكان فعيالا لا محالة فلذلك قلنا: إنهم أبدلوا العين الأولى ياء ثم إنهم أبدلوا لها العين الثانية وإذا كان المبدل هو الأول لزم أن يكون هو الزائد لأن حرمة الزائد أضعف من حرمة فهذا أيضاً أحد ما يشهد بصحة قول الخليل. ومنها قولهم: صَمَحْمَح ودَمَكْمَك فالحاء الأولى هي الزائدة وكذلك الكاف الأولى وذلك أنها فاصلة بين العينين والعينان متى اجتمعتا في كلمة واحدة مفصولاً بينهما فلا يكون الحرف الفاصل بينهما إلا زائداً نحو عثوثل وعقنقل وسلالم وخفيفد. وقد ثبت أيضاً بما قدمناه قبيل أن العين الأولى هي الزائدة. فثبت إذاً أن الميم والحاء الأوليين في صمحمح هما الزائدتان وأن الميم والحاء الأخريين هما الأصلان. فاعرف ذلك فإنه مما يحقق مذهب الخليل. ومنها أن التاء في تفعيل عوض من عين فعال الأولى والتاء زائدة فينبغي أن تكون عوضاً من زائد أيضاً من حيث كان الزائد بالزائد أشبه منه بالأصلي. فالعين الأولى إذاً من قطاع هي الزائدة لأن تاء تقطيع عوض منها كما أن هاء تفعلة في المصدر عوض من ياء تفعيل وكلتاهما زائدة. فليس واحد من المذهبين إلا وله داع إليه وحامل عليه. وهذا مما يستوقفك عن القطع على أحد المذهبين إلا بعد تأمله وإنعام الفحص عنه. والتوفيق بالله عز وجل.