حرب في الكنائس/الفصل الخامس: الأسرة العمورية وإبطال الأيقونات ٨١٣ - ٨٤٣

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الخامس
الأسرة العمورية وإبطال الأيقونات
٨١٣ - ٨٤٣


سقوط إيرينة: واستمسك البطريرك القسطنطيني باللقب «البطريرك المسكوني». وظلت الأبرشيات التي سلخها الفسيلفس المحطم لاوون الأيسوري عن كنيسة رومة خاضعة لسلطة بطريرك القسطنطينية. وتعاظم شأن الإفرنج في الغرب ولمع كارلوس الكبير وعلت مكانته. ولم تسفر سياسة التقارب بين إيرينة وبين كارلوس وفسخت الخطبة بين قسطنطين السادس ابن إيرينة وبين روترودة بنت كارلوس. وتزوج قسطنطين السادس من مریم الأرمنية. فغضب كارلوس لكرامته ومصلحته ودعا إلى مجمع فرانكفورت (٧٩٤) وشجب أعمال المجمع المسكوني السابع. وسكت أدريانوس بابا رومة عن هذا الشجب على الرغم من اشتراكه في المجمع المسكوني!

وكثرت الدسائس والمناورات في بلاط الروم. وطمعت إيرينة في السلطة، وجافاها ابنها قسطنطين. ثم عبث بقوانين الكنيسة وطلق مريم الأرمنية وتزوج ثانية فضجت الأوساط الإكليريكية الأرثوذكسية بالاحتجاج واللوم، وطغا قسطنطين وتجبر فأبعدته إيرينة عن الحكم (۷۹۷) وسملت عينيه. واستأثرت بالسلطة فخرجت بذلك على العرف والتقليد. واستغل کارلوس هذا الظرف فاعتبر عرش الإمبراطورية شاغراً. وماشاه في ذلك لاوون الثالث بابا رومة. فتوج كارلوس في عيد الميلاد من السنة ٨٠٠ إمبراطوراً. فرأى الروم في ذلك خروجاً وتوقعوا زحف كارلوس إلى الشرق، وفاوض كارلوس إيرينة في الزواج ونظرت إيرينة إلى هذا الاقتراح بعين الرضى فأثارت مخاوف بعض الهيئات الدينية والزمنية. ثم حاولت استرضاء بعض الأوساط فخفضت الضرائب فقل دخل الخزينة. وتغاضت عن مطامع هارون الرشيد في قيليقية. واستقدم هذا الخليفة عناصر من الجند خراسانية وأقامهم في طرسوس وضواحيها فهددوا الأمن في حدود الروم الجنوبية. فاشتدت المعارضة لحكم إيرينة وتآمرت بعض عناصر البلاط فخلعت إيرينة في السنة ٨٠٢ وأبعدت إلى جزيرة الأمراء ثم إلى لسبوس وتوفيت بعد حين1.

نيقيفوروس ونيقوفوروس: واستطاع نيقيفوروس السامي أو العربي أن يُبعد إيرينة عن الحكم فجاهد في سبيل الخزينة وفرض ضرائب جديدة خصَّ بها الأغنياء لتعبئة الجيش وتسليحه. وأخمد الثورات التي أشعلها الضباط الساخطون ولكنه لم يوفق في حروبه الخارجية.

واعتدل نيقيفوروس في سياسته الدينية. فقال بإكرام الأيقونات ولكنه لم يندفع في تنفيذ مقررات المجمع المسكوني اندفاع إيرينة. فالمحطمون كانوا لا يزالون كثراً أقوياء في الثيمات الشرقية، وكان لا يزال بينهم عدد غير قليل من الأساقفة والرهبان2. وكان الرهبان وفي طليعتهم جماعة الأستوديون، قد اجتمعوا على إكرام الأيقونات وأجمعوا على إصلاح الكنيسة والدولة واستقاموا على تطبيق القانون. وقالت فئة ثالثة من رجال الدين والدولة بتهدئة الأحوال وإعادة النظام والوئام إلى صفوف الدولة والكنيسة. وعلى الرغم من تمسك هذه الفئة بإكرام الأيقونات فإنها اعتدات في أعمالها وتحاشت كل ما كان من شانه أن يثير العاطفة والشقاق. وتزعم هذه الفئة المعتدلة الفسيلفس نيقيفوروس والبطريرك طراسيوس وعدد من كبار رجال البلاط3.

وتوفي البطريرك طراسيوس في الثامن عشر من شباط سنة ٨٠٦. فرأى الفسيلفس أن المصلحة تقضي بوصول شخص إلى الكرسي القسطنطيني يجمع بين التقوى والعلم واستقامة الرأي والاعتدال في آن واحد. واستعرض الرجال فلم ير أليق من نيقيفوروس معاون السكرتير الأول في البلاط. وكان نيقيفوروس هذا قد أبصر النور في العاصمة في حوالي السنة ٧٥٨ في4 بيت عريق في الشرف، وكان والده ثيودوروس من رجال البلاط سكرتيراً في عهد قسطنطين الخامس. وكان قويم الرأي يقول بإكرام الأيقونات فحاول قسطنطين ردعه فلم يفلح فأمر بنفيه إلى قلعة بيموليسة في البونط في آسية الصغرى فتوفي فيها5. ونكاد لا نعلم شيئاً عن والدته أفذوكية، وجل ما تبقى من أخبارها أنها شاطرت زوجها مشقات المنفى وأنها شاهدت عظمة ابنها ولجأت إلى أحد الأديار6. ونشأ نيقيفوروس في ظل القصر فدرس في مدرسته وأتقن اللغة اليونانية وآدابها ثم العلوم كما الفلك والهندسة ثم الفلسفة. ولا نعلم متى شرع في درس اللاهوت ولكن مصنفاته تظهر تضلعه ورسوخ قدمه في هذا العلم أيضاً. والتحق نيقيفوروس بالمعية السنية فخدم برتبة سكرتير معاون يأتمر بإرشادات طراسيوس السكرتير الأول الذي أصبح بطريركاً مسكونياً فيها بعد7. وكان معتدلاً مترناً فتمكن من التوفيق بین استقامة رأيه في العقيدة وبين سياسة البلاط. وتدل أعمال المجمع المسكوني السابع أن نيقيفوروس قام بمهات معينة لدى الآباء المجتمعين في نيقية فهو الذي قدم غريغوريوس أسقف قيصرية إلى المجمع باسم الفسيلفس وهو الذي قرأ رسالة البابا أدريانوس إلى الفسيلفس أمام المجمع ولعله هو الذي نظم هاجياً المحطمين لدى الانتهاء من أعمال المجمع8. ثم كان ما كان من أمر المشادة بين إيرينة وابنها قسطنطين السادس. فسنم نيقيفوروس السياسة والإدارة وانعزل عن الناس (٧٩٧) ولجأ إلى كهف في جبل مقفر يطل على بحر مرمرا. وجاء في إحدى رسائل نيقيفوروس نفسه أنه رأى أن لاخلاص بدون انعزال فابتعد وتقشف وعكف على الابتهال والتأمل9. ولا يجوز القول أنه تحلى بالإسكيم في هذه الآونة لأن المراجع تذكر ترهبه قبيل ارتقائه إلى السدة البطريركية المسكونية10. وفي حوالي السنة ٨٠٢ وعلى إثر سقوط إيرينة أكره نيقيفوروس على الخروج من عزلته ليتولى إدارة بيت الفقراء في القسطنطينية. فتولى نيقيفوروس إدارة هذه المؤسسة الخيرية وظل يدبر شؤونها حتى تم انتخابه خلفاً لطراسيوس البطريرك المسكوني11.

ورقد طراسيوس بالرب في الثامن عشر من شباط سنة ٨٠٦. فشاور الفسيلفس نيقيفوروس الأعيان وكبار رجال الإكليروس في أمر الخلف مؤكداً أنه يؤيد مرشح الأكثرية الملهمة من الله12. فكتب ثيودوروس الإستوديتي الشهير إلى الفسيلفس يأسف أن ليس هنالك مرشح كامل الصفات، وأضاف أنه يجب التفتيش عن شخص تدرج في الكهنوت تدرجاً طبيعياً. فإما أن يكون أسقفاً وإما أن يكون رئيس دير أو عمودي أو حبيس أو إكليريكي يستطيع معاونة الذين يقعون في التجربة13. ولم يرشح ثيودوروس نيتيفوروس ولم يرض عن ترشيحه. وماشى تيودوروس في هذا كله نسيبه بلاطون السكوذيوني. وأومأ إلى ثيودوروس مرتئياً ترشيحه14. ولم يجمع الآباء والأعيان على مرشح واحد. ولم يفز أحد بأكثرية ملموسة فرشح الفسيلفس سميه نيقيفوروس رئيس المؤسسة الخيرية. ووافق جمهور الأعيان والآباء على اقتراح الفسيلفس فتم انتخاب نيقيفوروس بطريركياً مسكونياً في أوائل نيسان. ومانع نيقيفوروس كثيراً ثم خضع لإرادة الرب وعاهد الله والكنيسة أن يكون الراعي الصالح والأسقف الأمين. وقدم النذر ولبس الإسكيم في الخامس من نيسان في دير القديسين سرجيوس وباخوس. وفي التاسع من الشهر نفسه سيم شماساً في المقر البطريركي ثم كاهناً في العاشر منه في يوم الجمعة العظيمة. وأعلن البطريرك المنتخب إيمانه فجاء أرثوذكسياً. وفي يوم عيد الفصح سيم أسقفاً ثم نضب بطريركاً في كنيسة الحكمة الإلهية15. وحور نيقيفوروس رسائل الجلوس وبعث بها إلى بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأورشليم. ولكنه امتنع عن إعلام بابا رومة نزولاً عند رغبة سميه الفسيلفس. فالبابا لاوون الثالث كان قد أرسل الفيكسيلوم vexillum علم رومة إلى كارلوس لمناسبة ارتقائه السدة الرومانية في السنة ٧٩٥ بدلاً من إرساله إلى القسطنطينية. وكان قد لجأ إلى الإفرنج أيضاً عند تأزم الحالة في رومة سنة ٧٩٩. وفي السنة ۸۰۰ كان هذا البابا نفسه قد توج كارلوس إمبراطوراً. وكان قد ماشی کارلوس والبابا أدريانوس فاعتبر المجمع المسكوني السابع مجمعاً محلياً لا مسكونياً. وفي السنة ٨٠٦ عندما رقي نيقيفوروس السدة القسطنطينية كان نيقيفوروس الفسيلفس في حالة حرب مع كارلوس فامتنع البطريرك عن إرسال رسالة الجلوس إلى البابا لأن الفسيلفس نهاه عن ذلك. فلما سقط الفسيلفس في ميدان القتال في السنة ٨١١ عمل نيقيفوروس البطريرك بالتقليد الكنسي وأعلم أخاه حبر رومة بارتقائه الكرسي القسطنطيني16. ويلاحظ هنا أن السيد ميخائيل متروبوليت عمان وشرق الأردن على الروم الكاثوليك قد تسرع فقال في السنكسار تحت الثاني من حزيران: «إن أول عمل أتاه نيقيفوروس كانت تلك الرسالة التي بعث بها إلى الحبر الأعظم البابا لاوون الثالث».

الفسيلفس وابنه وصهره: ومع أن نيتيفوروس أخمد ثورات داخلية عدة فإنه لم يوفق في حروبه الخارجية، فالرشيد احتل في السنة ٨٠٦ تيانة وجعلها قاعدة لأعماله الحربية وغزا رودوس في السنة ٨٠٧. وفي السنة ٨١١ سقط نيقيفوروس في ميدان القتال ضد البلغاريين فقطعوا رأسه واتخذوا جمجمته كأساً وجرح ابنه ستوراقيوس وتوفي. فتولى العرش بعده صهره ميخائيل الأول رنغابيس زوج بروكوبية بنت نيقيفوروس، وكان هذا لطيف المعشر معجباً بالرهبان فأبعد عن الوظائف جميع أعداء الأيقونات فأثار غضبهم ودفع بهم وبمن قال قولهم إلى التآمر. وكان المهاجرون الشرقيون الذين نقلوا من الولايات المتاخمة لحدود العرب إلى العاصمة وتراقية لا يزالون يقولون أقوالاً لم تقرها المجامع المسكونية. فشن البطريرك نيقيفوروس حرباً على هؤلاء وتمادى في القسوة فعادت المشادة الدينية إلى ما كانت عليه من قبل.

لاوون الخامس الأرمني: (۸۱۳ - ۸۲۰) وكانت الحرب البلغارية لا تزال ناشبة. ووصلت طلائع البلغار إلى أسوار أدريانوبل. فأعد ميخائيل الأول جيشاً وزحف به إلى الجبهة في أيار السنة ٨١٣ فدارت الدائرة عليه وانهزم فنادى الجند بلاوون الأرمني، أحد كبار القادة فيهم، فسيلفساً. فتنازل ميخائيل وترهب.

وأقسم لاوون يمين الولاء للكنيسة. وقطع وعداً بأن يحافظ على عقائدها ومصالحها، ولكن جنوده كانوا آسيويين لا يحترمون الأيقونات وكان هو وصولياً في سياسته. فلما استب له الأمر وتخلص من خطر البلغار نكث يمينه ونبذ عهد الولاء للكنيسة. وكان مراوغاً مداوراً فبث بادئ ذي بدء أن ما حل بالدولة من ضعف وما أحدق بها من خطر إنما نشأ عن العودة إلى تكريم الأيقونات. ثم عين لجنة لجمع ما جاء من أقوال الثقات في تأييد التحطيم. وتألفت هذه اللجنة من شيخين من مجلس الشيوخ ومن أنطونيوس أسقف سيلايوم ومن القارئ يوحنا الكاتب ومن الراهبين لاونديوس وزوسيماس17. وأهم هؤلاء وأكثرهم نشاطاً القارئ يوحنا الكاتب18. وعملت هذه اللجنة بجد ونشاط فأعدت مجموعة عرفت بالأنثولوغيون وجاء معظمها من أعمال مجمع التحطيم مجمع هيرية19.

دفاع نيقيفوروس ونفيه: (٨١٤) وفي حوالي منتصف كانون الأول من السنه ٨١٤ استدعى الفسيلفس لاوون البطريرك نيقيفوروس إلى القصر وقال له أن الشعب يرى أن ما حل بنا من ضعف إنما نشأ عن تكريم الأيقونات. فهل لك أن تتدبر هذا الأمر فترفع الأيقونات القريبة من متناول المؤمنين20؟ فامتنع البطريرك ورفض الدخول في بحث لاهوتي مع لجنة لاوون. وعاد إلى مقره وجمع عدداً من رجال الإكليروس والشعب ونقل إليهم رغبة الفسيلفس ورجا الله أن يخيب أمل الفسيلفس ويحبط مسعاه فغضب الفسيلفس وأنفذ جماعة من الجند فرجموا أيقونة السيد فوق باب خالكي ثم تدخل هو فأمر برفع هذه الأيقونة لصيانتها. فأقضَّ هذا العمل مضجع الآباء فتجمعوا في دار البطريركية في الرابع والعشرين من كانون الأول سنة ٨١٤. وقام البطريرك فيهم خطيباً فقرأ على مسامعهم الأنثولوغيون الذي أعدته لجنة الفسيلفس وفنده تفنيداً. ووافق المجتمعون على موقف البطريرك ووقعوا عهدا على أنفسهم ألا يفترقوا وأن يتحملوا عذاب الموت دفاعاً عن الأيقونات21. وكان بين هؤلاء أفتيميوس رئيس أساقفة ساردس وإميليانوس متروبوليت كيزيكوس ويوسف تسالونيكية وأفذوكسيوس العمورية وميخائيل سينادة وثيوفيلاكتوس نيقوميدية.

وفي صباح عيد الميلاد توجه البطريرك وأعوانه إلى القصر بناء على دعوة الفسيلفس. فاستدعى الفسيلفس البطريرك أولاً ووجه إليه أسئلة لاهوتية أمام أعضاء اللجنة الملكية تتعلق بموقفه من الأيقونات. فأجاب عنها كلها22. وظلت المشكلة قائمة. ثم استدعى الفسيلفس جماعة البطريرك وأدخل إلى الردهة عدداً من رجال البلاط ببزاتهم الرسمية وسيوفهم. فاتخذت الجلسة شكل نزاع بين الدولة والكنيسة. وعاد الفسيلفس فذكر جماعة البطريرك بموقف الشعب من الأيقونات وأكد احترامه لها ولكنه رجا الآباء أن يبحثوا مع زملائهم قضية الأيقونات لعلهم يتوصلون إلى حل يرضي الجميع. فقال إميليانوس متروبوليت كيزيكوس: «نبحث أمور الكنيسة بالكنيسة». فذكره الفسيلفس أنه هو أيضاً ابن الكنيسة وأنه سيصغي إلى أقوال الطرفين ثم يحكم بالحق. فقال ميخائيل سيناذة: «إذا كنت وسيطاً فلماذا تحمي أحد الخصمين في قصرك؟» وأضاف بطرس نيقية: «وكيف نجـادل هؤلاء وأنت معهم؟ فإنك لو حميت المانويين لتغلبوا علينا!» وأخيراً قال ثيودوروس الإستوديتي قوله المأثور: «لا تعكر صفاء الكنيسة فالرسول قال: «وهو الذي أعطى بعضاً أن يكونوا رسلاً وبعضاً أنبياء وبعضاً مبشرين وبعضاً رعاة ومعلمين منظماً هكذا القديسين لأجل عمل الخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح». ولكنه لم يذكر الأباطرة! وقد سلم الله تعالى إليك مقاليد الدولة والجيش. فاعتن بها واترك الكنيسة لرعاتها ومعلميها. وإذا كنت لا ترضى فإننا لا نصغي إلى ما تقول ولو نقله إلينا ملاك من السماء»23.

فغضب لاوون ولكنه أمسك وتربص. فامتنع أولاً عن إكرام الأيقونات يوم عيد الظهور. ثم استقال عدداً من كبار رجال الإكليروس الذين كانوا قد قطعوا العهد على أنفسهم ليلة عيد الميلاد ألا يفترقوا وأن يتحملوا عذاب الموت دفاعاً عن الأيقونات محاولاً بذلك عزل البطريرك وتجريده من أعوانه24. فكتب البطريرك إلى الفسيلسة راجياً تدخلها لدفع الأذى. وكتب بالمعنى نفسه إلى أحد كبار رجال البلاط، فأوفد الفسيلفس عدداً من الأساقفة المحطمين إلى البطريرك ليخيروا البطريرك بين البقاء على السدة وبين رفع الأيقونات القريبة من متناول المؤمنين. فأبى البطريرك. فكتب الفسيلفس إليه يقول: «استقل لأن الكنيسة ليست في حاجة إليك». فأجاب البطريرك: «أيها الفسيلفس إني لا أستقيل من تلقاء نفسي لأني لم أفعل شيئاً يوجب الاستقالة. ولكن إذا أكرهتني على التنازل لأني قويم الرأي تقي أو أرسلت من يكرهني على ذلك فإني أتنازل»25. فعين الفسيلفس توما البطريق سكيفوفيلاكساً وأوعز إلى الأساقفة المعلمين أن يلتئموا مجمعاً وينظروا في قضية البطريرك وينزلوه تنزيلاً. فتجمعوا وذهبوا إلى دار البطريركية وقرأوا قرارهم أمام البطريرك. فاعتبر البطريرك عملهم غير قانوني وأكد أن إدانته لا تجوز إلا على يد أنداده كبابا رومة أو أحد البطاركة الآخرين. فخرج الأساقفة من الدار البطريركية وهتفت الجماهير بسقوط جرمانوس وطراسيوس ونيقيفوروس. وحاول بعضهم قتل البطريرك فلم يفلحوا. فاستقال البطريرك وخرج من الدار البطريركية في اليوم الأول من الصوم الكبير سنة ٨١٥. فنفي عبر البوسفور إلى خريسوبوليس26.

مجمع الحكمة الإلهية: (۸۱٥) وفي غد اليوم الذي أنزل فيه نيقيفوروس دعا الفسيلفس السيلانتيون إلى جلسة في قصره. وبعد أن أعلن استقالة نيقيفوروس طلب إلى أعضاء السيلانتيون أن ينتخبوا يوحنا الكاتب خلفاً لنيقيفوروس. فاعترض البطارقة مبينين صغر سنه ودَخل أصله. فرشح الفسيلفس ثيودوتوس ابن البطريق ميخائيل ميليسِّينوس. وكان لطيفاً فاضلاً27.

وفي نيسان هذه السنة نفسها عقد الفسيلفس مجمعاً محلياً في كنيسة الحكمة الإلهية. فترأس الجلسات البطريرك الجديد ثيودوتوس وناب عن الفسيلفس ابنه سيمباتيوس. وتألف المجمع من الأساقفة المحطمين ومن زملائهم الذين انحازوا إليهم بعد المشاورة بين لاوون ونيقيفوروس. وقرئ الأنثولوغيون في الجلسة الأولى ثم ثبتت مقررات مجمع هيرية (٧٥٤)، وبحث الآباء في الجلسة الثانية نقاط الخلاف بينهم وبين زملائهم الأرثوذكسيين. ثم أدخلوا بعض هؤلاء إلى قاعة الجلوس وحاولوا إقناعهم بوجوب التحطيم، فلم يذعنوا فضربوا ضرباً ورفسوا رفساً. وفي الجلسة الثانية قرئ الأوروس بحضور الفسيلفس نفسه ووقع28.

تشويق وضغط واضطهاد: وشوَّق الفسيلفس والبطريرك تشويقاً. فلم يطلبا بادئ ذي بدء سوى الاعتراف ببطريركية ثيودوتوس والاشتراك معه في الخدمة. فقد جاء في بعض المراجع أن البطريرك الجديد ناول الرهبان في كنيسة حافلة بالأيقونات ولعن كل من لا يكرم أيقونة السيد29. وأكد يوحنا الكاتب إلى أحد رؤساء الأديار أن الفسيلفس يكرم الأيقونات وأنه هو أيضاً يحترمها!30

واكتفى لاوون الخامس، فيا يظهر، بنفي الأساقفة والرهبان وبحبسهم. فنفى البطريرك إلى دير الأغاثون بالقرب من خريسوبوليس ثم نقله إلى دير القديس ثيودوروس31. وبقي البطريرك في هذا الدير حتى وفاته في السنة ٨٢٩. وليس لدينا من المراجع ما ينبئنا بأخبار البطريرك في منفاه. وقد يجوز القول أن طعامه كان كافياً وأن كتبه كانت متنوعة وإنه كتب وصنف32. ونفي لاوون ثيودوروس إلى قلعة في بيثينية ومنع الاتصال به. ثم نقله في السنة ٨١٩ إلى إزمير. فبقي مسجوناً فيها حتى وفاته في السنة ٨٢٦. وكتب من سجنه يشدد عزائم الرهبان واستغاث ببابا رومة وبغيره من البطاركة33، ولجأت السلطات إلى الجلد والتسخير في بعض الأحيان. ولم يستشهد من الإستوديين أشد الرهبان مقاومة للسلطات سوى القديس تادايوس34. ولولا حماس القديس ثيودوروس واندفاعه في التبشير بالأرثوذكسية والتنديد بالتحطيم لما أقدم لاوون على التضييق والضغط35.

ويلاحظ أن التشديد في التحريم والتحطيم لم ينحصر في هذه الدورة الثانية في عاصمة الدولة كما ارتأى العلامة البريطاني بيوري وغيره من رجال البحث36. فرسائل القديس ثيودوروس والقديس نيقيفوروس تبين أن التشديد حل في طول الدولة وعرضها37. ويلاحظ أيضاً أن القول بالتحريم والتحطيم لم ينحصر في أوساط الأساقفة في هذه الدورة بل تعداها إلى الأديرة فقال به هذه المرة أصحاب الأموفوري وحاملو الإسكيم38.

الأسرة العمورية: (۸۲۰) وأشرك لاوون الخامس ابنه في الحكم. ولكن رفاقه في السلاح الذين أوصلوه الى العرش، وفي طليعتهم ميخائيل العموري، لم يرضوا عن سياسته ومسلكه فتآمروا عليه. واكتشف لاوون هذه المؤامرة وقذف بميخائيل إلى السجن ولكنه ترك شركاءه أحراراً. فأسرع هؤلاء وضربوا ضربتهم فهجموا على لاوون وهو في كنيسته الخاصة يصلي صلاة التوبة. فذبحوه على مقربة من المذبح وأخرجوا ميخائيل العموري من سجنه وتوجوه فسيلفساً. فصار ميخائيل الثاني الألثغ (۸۲۰ - ۸۲۹).
ميخائيل الألثغ والأيقونات: وأصدر ميخائيل أمراً منع فيه كل مشادة حول الأيقونات. واستدعى من المنفى جميع المبعدين بسبب ذلك. واستقبل ثيودوروس الأستوديتي في قصره وأكد له حرية العبادة. وقال لنيقيفوروس البطريرك: ليس لي أن ابتدع في الإيمان ولا أن أجادل في التقاليد الموروثة أو أن أنقضها39. ولكنه قبل أن يتسنى له شيء من هذا اضطر أن يجابه ثورة مخيفة تطورت فأيدها بعض المكرمين. فإن توما أحد رفاقه في السلاح طمحت نفسه إلى الملك فسعى في أرمينية والبونط منذ أواخر عهد لاوون، فلما قتل لاوون ادعى توما أنه قسطنطين السادس ابن إيرينة فالتف حوله مكرمو الأيقونات. ورأى المستضعفون من سكان آسية الصغرى في توما محرراً فدخلوا في حزبه «فرفع الخادم يده في وجه سيده والجندي في وجه قائده والقائد في وجه أميره»40. وتفاهم توما والمأمون فأمده هذا بجيش قوي وأمر أيوب البطريرك الأنطاكي أن يرسم توما فسيلفساً ففعل41.

ونهض توما بجيشه إلى بر الأناضول وانتصر على جيش الفسيلفس. فأسرع ميخائيل الألثغ فاستدعى إليه زعماء القائلين بتكريم الأيقونات وحاول إقرار السلام الديني بمؤتمر في القصر. ولكن ثيودوروس الراهب رفض الاجتماع مع المحطمين. وقصد توما القسطنطينية في أواخر السنة ٨٢١ وبدأ حصارها براً وبحراً. وكان قد أحاط نفسه بالمسلمين وجاء منهم بعدد كبير فضعفت الحماسة له في أوساط المكرمين. ورفع ميخائيل علم الحرب على كنيسة سيدة بلاخونة وترأس ابنه ثيوفيلوس موكباً رافعاً الصليب ورداء العذراء فالتف حوله المحطمون والمكرمون! ثم اتفق ميخائيل وأمورتاج خاقان البلغار فأصبح توما أمام عدوين. وانحاز قسم من جيشه إلى الفسيلفس فارتد إلى أركاذيوبوليس. فحصره ميخائيل فسلم إليه في خريف السنة ٨٢٣ فقتله42.

ونزل المسلمون في جزيرة كريت (٨٢٦-٨٢٧) وثار يوفيميوس الصقلي وفاوض الأغالبة في شمال أفريقية. وحاول ميخائيل الألثغ انتزاع جزيرة كريت من يد المسلمين فأنفذ إليها حملة في السنة ٨٢٨ وأردفها بحملة أخرى في السنة ٨٢٩ ولكن جهوده لم تثمر.
ثيوفيلوس الأول: (۸۲۹-٨٤٢) وتوفي ميخائيل وفاة هادثة، فتولى الحكم بعده ابنه ثيوفيلوس. وكان هذا الفسيلفس رجل حرب فقاد جيوشه بنفسه وأحرز بعض الانتصارات. وفي الوقت نفسه كان رجل إدارة وتدبير فترك في الخزينة عند وفاته ما يعادل مليون ليرة ذهبية، ويختلف المؤرخون في موقفه من الأيقونات. فبعض يرى فيه عدواً وبعض يراه معتدلاً مقتصراً في إجراءاته على العاصمة وضواحيها43. والواقع أنه رغم تعلقه بالسيدة العذراء وبالقديسين فإنه اتخذ له مستشاراً عدواً للأيقونات وهو العالم الشهير يوحنا الكاتب. ثم جعل من صديقه هذا بطريركاً مسكونياً44. وكوى كفّي العازر الراهب «المصور» بالحديد الحامي. وجلد ثيوفانس وأخاه ثيودوروس الراهبين الفلسطينيين ووسم جبينهما بأبيات من الشعر نظمها هو نفسه45.

إشارة ثيودورة وعصا القوة: (٨٤٣) ومرض ثيوفيلوس بداء الزحار وحضرته الوفاة. فحزنت ثيودورة الفسيلسة وتألمت جداً. ثم رأت زوجها في منامها يجلد في حضرة السيدة والدة الإله والملائكة، فاستيقظت فسمعت ثيوفيلوس يصرخ: «ويحي أنا الشقي فإني أجلد من أجل الأيقونات» . فوضعت ثيودورة فوقه أيقونة السيدة وتوسلت إليها. ورأى ثيوفيلوس إنساناً حاملاً حجاباً عليه صورة المسيح فأخذه وصافحه فهدأ حاله وشفي حلقه وفمه. فاستيقظ معترفاً بإكرام الأيقونات. (التريوذيون – أحد مستقيمي الرأي).

وتوفي ثيوفيلوس في العشرين من كانون الثاني سنة ٨٤٢. وخلف خمس بنات وابنا ذكراً هو ميخائيل الثالث (٨٤٢-٨٦٧). وإذ كان ميخائيل هذا لا يزال في السادسة فإن المليك الراحل جعل زوجته ثيودورة وصية على الملك القاصر. وعاونها في الوصاية مجلس تألف من كبار رجال الدولة.

وكانت ثيودورة من محبي الأيقونات. وكانت موجة التحطيم قد خفت وتضاءلت. فدعت ثيودورة الآباء الأرثوذكسيين إلى مجمع ليحل ثيوفيلوس زوجها من خطيئته في اضطهاد من كرم الأيقونات. وطلبت إلى البطريرك يوحنا الكاتب أن يشترك في أعمال هذا المجمع فأبى. فعزله مجلس الوصاية وأقام مثوذيوس المعترف بطريركاً محله. وصدق المجمع أعمال المجمع السابع المسكوني. وفي الأحد الأول من الصوم الكبير في الحادي عشر من شباط (لا آذار) سنة ٨٤٣ دعا البطريرك الشعب والإكليروس إلى كنيسة الحكمة الإلهية. وحضرت ثیودورة مع ابنها. ورفعت الأيقونات المقدسة والصلبان الموقرة والإنجيل الشريف وخرج الجميع إلى المكان الذي كان يدعى ميليون صارخين: «يا رب إرحم». ثم عادوا إلى الكنيسة وأكملوا القداس الإلهي وعلقت الأيقونات وفرز الأضداد. وأصبح هذا اليوم وما زال عيداً سنوياً لرفعها وانتصار الرأي الأرثوذكسي. وأصدر البطاركة الثلاثة خريستيفوروس الإسكندري وأيوب الأنطاكي وباسيليوس الأوروشليمي بياناً مشتركاً أوجبوا به حماية الأيقونات وتكريمها46.

ولا نزال نصلي ونرتل لهذه المناسة فنقول: «أيها السيد الغير المحصور بطبيعتك الإلهية لقد تنازلت أن تتجسد في آخر الأزمان وأن تكون محصوراً لأنك باتخاذك البشرة اقتبلت أيضاً جميع خواصها. فلذلك نرسم شكل تمثالك وتصافحه بالنظر إلى الأصل متسامين نحو محبتك مسترفين منها نعمة الأشفية تابعين لتقليد الرسل الإلهي». تريوذيون: أحد استقامة الرأي.


  1. THEOPHANES, Chron., a. 6290-6295; BREHIER, L., Byzance, 88-94; OSTROGORSKY, G., The Byz. State, 161-162.
  2. DVORNIK, F., Les Slaves, Byzance et Rome, 119-121.
  3. BREHIER, L., Byzance, 96.
  4. DELEHAYE, H., Synaxarium Constantinopolotanum, Col. 725.
  5. IGNATIUS DIAGONUS, Vita Nicephori, 143.
  6. Theodorus Studita, P.G., Vol. 99, Col. 1174.
  7. Vita Tarasii, (Heikel), 397.
  8. Mansi, XII, Col. 1055, XIII, Col. 459; Vita Nicephori, 147; ALEXANDER, PJ.., Patriarch Nicephorus, 60-61.
  9. Epist. ad Leonem, P.G., Vol. 100, Col. 173 f; Vita Nicephori, 148.
  10. ALEXANDER, P.J., op. cit., 62-63.
  11. Vita Nicephori, 152; JANIN, R., La Geog. Ecc. de l'Empire Byzantin, III, 581 f.
  12. Vita Nicephori, 153 f.
  13. THEODORUS, P.G., vol. 99, col. 960-961
  14. ALEXANDER, P.J., op. cit., 67.
  15. Vita Nicephori, 157; COTLIARCUIC, N., Die Besetzungsweise des Partiarchalstuhles von Konstantinopel; ALEXANDER, P.J., op. cit., 68-70.
  16. Epist. ad Leonem, P.G., vol. 100, Col. 196-197; GRUMEL.Reg., 382; ALEXANDER,P.J., op. cit., 101-110.
  17. Theosterictus, Vita Nicetas, Acta Sanctorum, Aprilis 1, App. col. 29 ff.
  18. ALEXANDER, P.J., Nicephorus, 235 f.
  19. Scriptor Incertus de Leone Armeno, P.G., vol. 108, col. 1025.
  20. GRUMEL, Reg., 390; BREHIER, L.,Sur un texte relatif au début de la querelle Iconoclaste, Echos d'Orient, 1938; MARTIN, E.J., op. cit., 31, 165.
  21. GRUMEL, Reg., 391
  22. Vita Nicephori, 167 ff.
  23. Vita Nicephori, 187; Vita Nicetae, op. cit., App. col. 29 f.;METROPHANES, Life of Euthymios of Sardis, Chalki, fols. 226-251; EHRHARD, A., Uberlieferung und Bestand, I, 909-512; ALEXANDER, P.J., op. cit., 130-132.
  24. Vita Nicephori, 189.
  25. GRUMEL, Reg., 399; Vita Nicetae, col. 30.
  26. ALEXANDER, P.J., op. cit., 134-135.
  27. Scriptor Incertus, P.G., vol. 108, col. 1036.
  28. ALEXANDER, P.J., op. cit., 137-140.;SERRUYS, D.,Les Actes du Concile Iconoclaste de l'An 816, Mélanges d'Arch. et d'Hist., Écloe Franc. de Rome, 1903, 345-351.
  29. Vita Nicitae, Col. 31.
  30. Sabas, Vita Macarii, Anal, Boll., 1897, 155.
  31. PARGOIRE, J., A Propos de Boradion, Byz.Zeit., 1903, 496 f.; JANIN,R., l'Eglise Byz., Rev. Etudes Byz., 1954, 69-99.
  32. PHOTIUS, Ep st., P.G., vol. 102, col. 768.
  33. Vie de Saint Georges d'Amastris, 110-136; Theodorus Situdita, Epist., II, 15.
  34. VORST. CHR. VAN DE, S. Thaddée Studite, Anal. Boli., 1912, 157-160.
  35. ALEXANDER, P.J., op. cit., 145-146.
  36. BURY, ş.B., East Rom. Empire, 141; MARTIN, E.J., op. cit., 174.
  37. ALEXANDER, P.J., op. cit., 142-144.
  38. Theodorus Studita, Epist., II, 14.
  39. GELZER, H., Abriss der Byz. Kaisergeschichte, 967; TERNOVSKY, F.A., Graeco-Eastern Church, 487; DOBROKLONSKY, A., Theodore the Confessor, I, 849.
  40. THEOPHANES, Cont., 53.
  41. MICHEL LE SYRIEN, III, 57.
  42. THEOPHANES, Cont., 50 ff.; VASILIEV, A.A., Byzance et les Arabes, I, 49 ff.; OSTRA- GORSKY, G., Byz. State, 180-183.
  43. BURY, J.B., East Rom. Emp.
  44. ALEXANDER, P.J., op. cit., 235-236.
  45. VASILIEV, A.A., Byz. Emp. 286; OSTROGORSKY, G., Byz. State, 186.
  46. VASILIEV, A.A., Byz. Emp., 287; BooR, C. de, Der Angriff der Rhos auf Byzanz, Byz. Zeit., 1895, 449-453; LOPAREV, C., Hagiography, Rev. Byz., 1916, 172.