انتقل إلى المحتوى

جامع الرسائل/رسالة في قنوت الأشياء كلها لله تعالى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



رسالة في قنوت الأشياء كلها لله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين وبه القوة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين وسلم تسليما

فصل

في قنوت الأشياء لله عز وجل وإسلامها وسجودها له وتسبحها له

القنوت في القرآن

فإن هذه الأربعة قد ذكرها الله تعالى في القرآن قال تعالى { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } [ سورة البقرة 116 117 ] وقال تعالى في سورة الروم { وله من في السموات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ سورة الروم 26 27 ]

الإسلام

وأما الإسلام فقال تعالى { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } [ سورة آل عمران 83 ]

السجود

وأما السجود فقال تعالى { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال } [ سورة الرعد 15 ] وقال { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل

سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون } [ سورة النحل 48 49 ] وقال تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب سورة الحج 18

التسبيح

وأما التسبيح فقال تعالى تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا سورة الإسراء 44 وقال تعالى سبح لله ما في السموات وما في الأرض سورة الصف 1 سورة الحشر 1 في موضعين وسبح لله ما في السموات والأرض سورة الحديد 1 ويسبح لله ما في السموات وما في الأرض سورة الجمعة 1 سورة التغابن 1 في موضعين فخمس سور افتتحت بذكر تسبح ما في السموات وما في الأرض له وقال ألم تر أن الله يسبح له من فى السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه سورة النور 41

فأما قوله تعالى وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه سورة البقرة 116 فهو نظير قوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا سورة مريم 88 95 وقد قال تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون سورة يونس 68

وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون إلى قوله وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 26 29

القنوت في اللغة

والقنوت في اللغة دوام الطاعة والمصلى إذا طال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت في ذلك كله قال تعالى أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه سورة الزمر 9 فجعله قانتا في حال السجود والقيام

وفي الحديث الصحيح سئل رسول الله أي الصلاة أفضل فقال طول القنوت ولم يرد به طول القيام فقط بل طول القيام والركوع والسجود كما كانت صلاة النبي كانت معتدلة إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود

وقال تعالى إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا سورة النحل 120 وقال تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حظف الله سورة النساء 34 وقال تعالى عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات سورة التحريم 5 وقال تعالى إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات سورة الأحزاب 35 وسمى إطالة القيام في الصلاة قنوتا لأنه يطيل فيه الطاعة ولو صلى قاعدا لقنت وهو قاعد وكذلك إذا صلى على جنب قنت وهو على جنب والقيام قبل الركوع يسمى أيضا قنوتا

قال ابن قتيبة لا أرى أصل القنوت إلا الطاعة لأن جميع الخلال من الصلاة والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها

وقال أبو الفرج قال الزجاج القنوت هو في اللغة بمعنيين أحدهما القيام والثاني الطاعة والمشهور في اللغة والإستعمال أن القنوت الدعاء في القيام فالقانت القائم بأمر الله ويجوز أن يقع في جميع الطاعات لأنه وإن لم يكن قياما على الرجلين فهو قيام بالنية

قلت هذا ضعيف لا يعرف في اللغة أن مجرد القيام يسمى قنوتا والرجل يقوم ماشيا وقائما في أمور ولا يسمى قانتا وهو في الصلاة يسمى قانتا لكونه مطيعا عابدا ولو قنت قاعدا ونائما سمي قانتا وقوله تعالى وقوموا لله قانتين سورة البقرة 238 يدل على أنه ليس هو القيام وإنما هو صفة في القيام يكون بها القائم قانتا وهذه الصفة تكون في السجود أيضا كما قال أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما

القنوت عند ابن تيمية هو الطاعة

فقول القائل إن المشهور في اللغة أنه الدعاء في القيام إنما اخذه من كون هذا المعنى شاع في اصطلاح الفقهاء إذا تكلموا في القنوت والصلاة وهذا عرف خاص ومع هذا فالفقهاء يذكرون القنوت سواء صلى قائما أو قاعدا أو مضطجعا لكن لما كان الفرض ليس يصح أن يصليه إلا قائما وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم صار القنوت في القيام أكثر وأشهر وإلا فلفظ القنوت في القرآن واللغة ليس مشهورا في هذا المعنى بل ولا أريد به هذا المعنى ولا هو أيضا مشتركا بل اللفظ بمعنى الطاعة أو الطاعة الدائمة ولهذا يفسره المفسرون بذلك

وقد روي في ذلك حديث مرفوع رواه ابن أبي حاتم من النسخة المصرية التي يروى منها الترمذي وغيره من حديث ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة

وفي تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس فالصالحات قانتات سورة النساء 34 مطيعات

قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وعكرمة وأبي مالك وعطاء وقتادة السدي مثل ذلك

وروى عن مقاتل بن حيان قال مطيعات لله ولأزواجهن في المعروف

وروى عن سعيد بن جبير في قوله والقانتين والقانتات قال يعني المطيعين والمطيعات

قال وروى عن قتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مثل ذلك وروى بإسناده عن أبي العالية في قوله يا مريم اقنتي لربك سورة آل عمران 43 قال اركدي لربك وعن الأوزاعي قال ركدت في محرابها قائمة وراكعة وساجدة حتى نزل ماء الأصفر في قدميها

وعن الحسن أنه سئل عن قوله اقنتي لربك واسجدي قال يقول اعبدي لربك

وعن ليث عن مجاهد قال كانت تقوم حتى تتورم قدماها

وقوله تعالى أمن هو قانت آناء الليل قال ابن أبي حاتم تقدم تفسير القانت في غير موضع القانت الذي يطيع الله ورسوله

وروى عن أحمد بن سنان عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال القانت الذي يطيع الله ورسوله

فهذا تفسير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم لألفاظ القنوت في القرآن

فصل

وكذلك فسروا القنوت في قوله بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون سورة البقرة 116 لكن تنوع كلامهم في طاعة المخلوقات كلها لما رأوا أن من الجن والإنس من يعصي أمر الله الذي بعث به رسله فذكر كل واحد نوعا من القنوت الذي يعم المخلوقات

رواية ابن أبي حاتم أوجه تفسير لفظ القنوت

قال ابن أبي حاتم اختلف في قوله كل له قانتون على أوجه وروى بإسناده الحديث المرفوع كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة

الوجه الأول الطاعة

وروى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قانتون قال مطيعون يقول طاعة الكافر في سجوده سجود ظله وهو كاره

وأيضا عن شريك عن خصيف عن مجاهد كل له قانتون قال مطيعون كن إنسانا فكان وقال كن حمارا فكان ففسرها مجاهد بالسجود طوعا وكرها وفسر الكره بسجوده ظله وفسرها أيضا بطاعة أمره الكوني وهو قوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82 وهذا الأمر الكوني لا يخرج عنه أحد

وقد ثبت عن النبي أنه كان يقول أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر

وهذان الوجهان ذكرهما ابن الأنباري مع ذكره وجها آخر أنها خاصة قال أبو الفرج فإن قيل كيف عم بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع ففيه ثلاثة أجوبه

أحدها أن يكون ظاهرها العموم ومعناها معنى الخصوص والمعنى كل أهل الطاعة له قانتون والثاني أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدو والآصال والعشيات فنسب القنوت إليهم بذلك والثالث أن كل مخلوق قانت له بأثر صنعه فيه وجرى أحكامه عليه فذلك دليل على إله كونه ذكرهن ابن الأنباري

الوجه الثاني الصلاة

قال ابن أبي حاتم الوجه الثاني حدثنا أبو سعيد الأشج ثنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال قانتون مصلون

قلت وهذا من جنس وصفها بالسجود له والتسبيح قال تعالى ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه سورة النور 41 لكن قد يقال فالصلاة صلاة المخلوقات والمؤمنين ولم يرد أن الكافرين يصلون فتكون الآية خاصة ولهذا حكى عن ابن عباس أنه قال هي خاصة

الوجه الثالث الإقرار بالعبودية

قال والوجه الثالث ثم روى بالإسناد المروي عن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة كل له قانتون قال مقرون بالعبودية قال وروى عن أبي مالك نحوه

قلت وهذا إخبار عما فطروا عليه من الإقرار بأن الله ربهم كما قال وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى الآية سورة الأعراف 172 فإن هذه الآية بينه في إقرارهم وشهادتهم على أنفسهم بالمعرفة التي فطروا عليها أن الله ربهم وقال كل مولولد مولد على الفطرة

وطائفة من العلماء جعلوا هذا الإقرار لما استخرجوا من صلب آدم وأنه أنطقهم وأشهدهم لكن هذا لم يثبت به خبر صحيح عن النبي والآية لا تدل عليه

وإنما الذي جاءت به الأحاديث المعروفة أنه استخرجهم وأراهم لآدم وميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم فعرفوا من يومئذ هذا فيه مأثور من حديث أبي هريرة رواه الترمذي وغيره بإسناد جيد وهو أيضا من حديث عمر بن الخطاب الذي رواه أهل السنن ومالك في الموطأ وهو يصلح للاعتضاد

وأما إنطاقهم وإشهادهم فروى عن بعض السلف وقد روى عن أبي وابن عباس وبعضهم رواه مرفوعا من طريق ابن عباس وغيره وروى ذلك الحاكم في صحيحه لكن هذا ضعيف وللحاكم مثل هذا يروى أحاديث موضوعة في صحيحه مثل حديث زريب بن برثملي وهامة بن الهيم وغير ذلك وبسط هذا له موضع آخر

لكن كون الخلق مفطورين على الإقرار بالخالق أمر دل عليه الكتاب والسنة وهو معروف بدلائل العقول كما قد بسط في مواضع وبين أن الإقرار بالخالق فطري ضروري في جبلات الناس لكن من الناس من فسدت فطرته فاحتاج إلى دواء بمنزلة السفسطة التي تعرض لكثير من الناس في كثير من المعارف الضرورية كما قد بسط في غير هذا الموضع

وهؤلاء يحتاجون إلى النظر وهذا الذي عليه جمهور الناس أن أصل المعرفة قد يقع ضروريا فطريا وقد يحتاج فيه إلى النظر والاستدلال

وكثير من أهل الكلام يقول إنه لا يجوز أن تقع المعرفة ضرورية بل لا تقع إلا بنظر وكسب قالوا لأنها لو وقعت ضرورة لارتفع التكليف والإمتحان ومنهم من ادعى انتفاء ذلك في الواقع وهذا ضعيف لأن الإمتحان والتكليف الذي جاءت به الرسل كان بأن يعبدوا الله وحده لا يشركون به إلى هذا دعا عامة الرسل ومن كان من الناس جاحدا دعوه إلى الاعتراف بالصانع كفرعون ونحوه مع أنه كان في الباطن عارفا وإنما جحد ظلما وعلوا كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا سورة النمل 14 وقال له موسى لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر سورة الإسراء 102

وخاتم الرسل دعا الناس إلى الشهادتين فقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وقال لمعاذ في الحديث الصحيح إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم

ولهذا قالت الرسل لقومهم ما أخبر الله تعالى به في قوله عز وجل ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم إلى قوله وعلى الله فليتوكل المؤمنون سورة إبراهيم 9 11

وأيضا فإن المعارف لا بد أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية وهم لا يؤمرون بتحصيل الحاصل بل يؤمرون بالعمل بموجبها وبعلوم أخرى يكتسبونها بها

وأيضا فإن أكثر الناس غافلون عما فطروا عليه من العلم فيذكرون بالعلم الذي فطروا عليه وأصل الإقرار من هذا الباب ولهذا توصف الرسل بأنهم يذكرون ويصف الله تعالى آياته بأنها تذكرة وتبصرة كما في قوله تبصرة وذكرى لكل عبد منيب سورة ق 8

فإذا كان من المعارف ما هو ضروري بالاتفاق ولم يكن ذلك مانعا من الأمر والنهي إما بتذكرة وإما بالاستدلال فيؤمر الناس تارة بالتذكرة وتارة بالتبصرة ثم يؤمر الناس أن يقروا بما علموه ويشهدوا به فلا يعاندوه ولا يجحدوه وأكثر الكفار جحدوا ما علموه

والاعتراف بالحق الذي يعلم والشهادة به والخضوع لصاحبه لا بد منه في الإيمان وإبليس وفرعون وغيرهما كفروا للعناد والإستكبار كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه

ولكن الجهمية لما ظنت أن مجرد معرفة القلب هي الإيمان أرادوا أن يجعلوا ذلك مكتسبا وزعموا أن من كفره الشرع كإبليس وفرعون لم يكن في قلبه من الإقرار شيء كما زعموا أنه يمكن أن يقوم بقلب العبد إيمان تام مع كونه يعادي الله ورسوله ويسب الله ورسوله في الظاهر من غير إكراه

ولهذا كفر وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة من قال بقولهم كما هو مبسوط في مواضعه

والمقصود هنا بيان قول من قال من السلف كعكرمة وأبي مالك كل له قانتون أي مقرون له بالعبودية

الوجه الرابع القيام يوم القيامة

قال ابن أبي حاتم والوجه الرابع ثم روى بإسناده المعروف عن الربيع بن أنس كل له قانتون قال كل له قائم يوم القيامة

الوجه الخامس قول الإخلاص

والخامس ثم روى بإسناده من حديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير كل له قانتون بقول الإخلاص

قلت وهذا إن أراد به اعترافهم بأنه ربهم وأنهم إذا اضطروا دعوا الله

مخلصين له الدين فهو من جنس قول عكرمة وإلا فالإخلاص الذي أمروا به وهو أن يعبدوا الله مخلصين له الدين إنما قام به المؤمنون وهذا إنما يكون على قول من يزعم أن الآية خاصة ولم يذكر ابن أبي حاتم هذا صريحا عن أحد من السلف إلا أن يتأول على ذلك قول ابن عباس أو قول سعيد

أقوال المفسرين

هذا ولم يذكر أبو الفرج هذا عن أحد من السلف لم يذكره إلا فيما تقدم عن ابن الأنباري بل قال وللمفسرين في المراد بالقنوت ههنا ثلاثة أقوال أحدها أنه الطاعة قاله ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة والثاني الإقرار بالعبادة قاله عكرمة والسدي والثالث القيام قاله الحسن والربيع

قال وفي معنى القيام قولان أحدهما أنه القيام له بالشهادة بالعبودية والثاني أنه القيام بين يديه يوم القيامة

لكن طائفة من المفسرين ذكروا عن المفسرين قولين كالثعلبي والبغوي وغيرهما قالوا واللفظ للبغوي كل له قانتون قال مجاهد وعطاء والسدي مطيعون وقال عكرمة ومقاتل مقرون بالعبودية وقال ابن كيسان قائمون بالشهادة وأصل القنوت القيام قال النبي أفضل الصلاة طول القنوت

هل القنوت خاص أم عام؟

قال واختلفوا في حكم الآية فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص قال مقاتل هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة وعن ابن عباس أنه قال هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس

قال وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق لأن لفظ الكل يقتضي الإحاطة بالشيء بحيث لا يشذمنه شيء ثم سلكوا في الكفار طريقين قال مجاهد تسجد ظلالهم لله عز وجل على كره منهم قال تعالى وظلالهم بالغدو

والآصال سورة الرعد 15 وقال السدي هذا يوم القيامة دليله وعنت الوجوه للحي القيوم سورة طه 111 وقيل قانتون مذللون مسخرون لما خلقوا له

تعليق ابن تيمية

قلت من قال بالخصوص فإنه قد ينظر إلى سبب الآية وهو أنهم قالوا اتخذ الله ولدا وهذا إنما قالوه في الملائكة والأنبياء كالمسيح والعزير فبين سبحانه أن الذين قيل فيهم إنه اتخذهم أولادا هم عباد قانتون له كما ذكر في الأنبياء وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 26 28 فإن الضمير في قوله وقالوا عائد على المشركين وهم إنما قالوا ذلك في الملائكة وأما المسيح وعزير فإنما قال ذلك فيهما أهل الكتاب وسياق الآية يبين ذلك فإنه قال وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق إلى قوله سبحانه بل عباد مكرمون سورة الأنبياء 16 26

وقوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين وقوله لهوا قد فسر بالولد والمرأة وفسر باللعب فإن هذه الآية نظير قوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق الآية الدخان 38 39 ونظير قوله وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا الآية سورة ص 27 ونظير قوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل سورة الحجر 85 ومثله قوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا الآية سورة المؤمنون 115

فقوله وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين سورة الأنبياء 16

فنزه نفسه أن يكون فعله كفعل اللاعب العابث الذي لا يقصد غاية محمودة يريد سوق الوسائل إليها فإن هذا فعل الجاد الذي يجيء بالحق كما قال إبراهيم لما آتاه الله رشده من قبل التوراة والقرآن إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين إلى قوله أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين سورة الأنبياء 52 56 فهو لما قال ما قال قالوا جئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين الآية 55 فالذي يأتي بالحق خلاف اللاعب فإنه يقصد أن يخبر بصدق ويأمر بما ينفع وهو العدل بخلاف اللاعب العابث فإنه ليس مقصوده هذا بل اللهو واللعب

ولهذا قد يشتم الإنسان على وجه اللعب ويفعل به أفعال منكرة فلا ينكر ذلك كما ينكره من الجاد المحق ولهذا كان عامة اللهو باطلا ليس له منفعة كما قال النبي كل لهو يلهو به الرجل لهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امرأته فإنه من الحق فالحق ضد الباطل واللهو باطل ولهذا تنزه سبحانه عن أن يخلقهما باطلا

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين فاللاعب صاحب باطل لا صاحب حق ولهذا لما دخل عمر على النبي وعنده الأسود بن سريع ينشده فأسكته مرتين أو ثلاثا قال من هذا الذي تسكتني له قال هذا رجل لا يحب الباطل فإن عمر كان لا يحبه ولا يصبر على صاحبه والنبي كان أحلم وأصبر من عمر فهو أيضا لا يحب الباطل لكنه يصبر ويحتمل منه ما لم يكن محرما ولكن هو لا منفعة فيه لفاعله فإذا فعله احتمله عليه فهذا بيان قول من فسر اللاعب بالعابث وله نظائر

والذين فسروا بالولد والزوجة قالوا ذلك لأن من المشركين من جعل لله ولدا وصاحبة وقالوا إنه ضاهى الحق وهم يسمون المرأة لهوا والولد لهوا وقال ابن قتيبة أصل اللهو الجماع وكنى عنه باللهو كما كنى عنه بالسر

والنبي قد يجعل ملاعبة الرجل امرأته من اللهو الذي ليس بباطل والرب تعالى منزه عن اللعب مطلقا فإن الذي يلاعب امرأته إنما يفعل ذلك لحاجته إلى المرأة وحكمة ذلك بقاء النسل والله تعالى منزه عن الولادة فتضمنت هذه الآية تنزيهه عن الخلق عبثا لا لحكمة فإن ذلك لعب وعبث وتضمنت تنزيهه عن أن يتخذ ما يلهى به كالمرأة والولد ولهذا بين بعد ذلك أنه إنما خلق ذلك بالحق وأنه منزه عن الأولاد وقال بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه واللهو كله باطل في حق الله تعالى وإن كان بعضه من الحق في حق العباد

وهو سبحانه وتعالى قال لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا فإن ما يلهو به اللاهي يكون عنده لا يكون بعيدا عنه ونحن خلقنا السماوات والأرض وما بينهما فكيف يكون هذا لعبا بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ثم قال وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون سورة الأنبياءي 19 20 ثم رد على من أشرك به ثم حكى قول المشركين الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدا قال سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين سورة الأنبياء 26 29 فهذه صفة الملائكة والمسيح والعزير ونحوهما أيضا هم بهذه الصفة فإنهم عباد مكرمون قال تعالى عن المسيح إن هو إلا عبد أنعمنا عليه سورة الزخرف 59 وقال لن يستنكف المسيح أن يكن عبدا لله ولا الملائكة المقربون سورة النساء 172

فلما قال تعالى في البقرة وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون والذين قالوا اتخذ الله ولدا جعله إما من الملائكة وإما من الآدميين كالمسيح والعزير فقوله تعالى كل له قانتون يبين أن هؤلاء الذين قيل فيهم إنهم أولاد هم عباد له مطيعون كما ذكر في الأنبياء وغيرها وكما قال قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا سورة الإسراء 56 57 فبين أن هؤلاء المعبودين هم يعبدون الله تعالى ومثله قوله قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سورة الإسراء 42 على أصح القولين

القنوت عند ابن تيمية عام

فهذا مأخذ من جعل الآية خاصة لكن يقال الآية لفظها عام والعموم مقصود منها كما هو مقصود من قوله سبحانه بل له ما في السموات والأرض ثم قال كل له قانتون فلما كان قوله ما في السموات وما في الأرض عاما تبين أن الجميع مملوك له والمملوك لا يكون ولدا وتبين أيضا أن كلهم له قانتون مطيعون عابدون والعابد المطيع لا يكون إلا مملوكا لا يكون ولدا

وأيضا فإنه قد ذكر القنوت في سورة الروم مجردا عن الولد فقال تعالى ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون سورة الروم 25 ثم قال وله من في السموات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم سورة الروم 26 27 فبين أن له ما في السماوات والأرض وأن كلا له قانتون وتخصيص هذا بمن قيل إنه ولد فاسد ظاهر الفساد وكذلك تخصيصه بالمؤمنين فإن هذا مذكور لبيان عموم الملك والاقتداء وخضوع المخلوقات كلها له فلو خص به المؤمنون لكان ذلك عكس المقصود

وهو مثل قوله أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها سورة آل عمران 83 فهو سبحانه يدعوهم إلى دين الإسلام ويبين أن كل ما في السماوات والأرض مسلم لله إما طوعا وإما كرها وإذا كان لا بد من أحدهما فالإسلام له طوعا هو الذي ينفع العبد فلا يجوز أن يتخذ غير هذا الدين دينا فإنه ذكر هذا في تقرير أن كل دين سوى الإسلام باطل فقال أفغير دين الله يبغون وذكر بعد ذلك ما يصير به العبد مسلما مؤمنا فقال قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين سورة آل عمران 84 85 ذكر عبادة الله وحده والإيمان برسله كلهم كما ذكر في سورة البقرة قال أبو العالية قوله فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون سورة الحجر 92 93 قال خصلتان يسأل عنهما كل أحد ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين وكذلك ذكر سجود من في السماوات والأرض له طوعا وكرها والسجود هو الخضوع وهو القنوت

وأيضا فإذا كانت الصيغة عامة لم يجز أن يراد بها الخصوص إلا مع ما يبين ذلك فأما إذا جردت عن المخصصات فإنها لا تكون إلا عامة والآية عامة عموما مجردا بل مؤكدا بما يدل على العموم وأما تخصيص المؤمنين فهذا يكون إذا مدحوا بذلك أو ذكر جزاء الآخرة وليس المقصود هنا مدح المؤمنين بطاعته وإنما المقصود بيان قدرته وملكه وخضوع كل شيء له وأنه مع هذا وهذا يمتنع أن يكون له ولد مع خضوع كل شيء له وقنوته له ويقال في الركوع من التسبيح المأثور فيه سبحان من تواضع كل شيء لعظمته سبحان من ذل كل شيء لعزته سبحان من استسلم كل شيء لقدرته

أنواع القنوت الذي يعم المخلوقات

وعلى هذا فالقنوت الذي يعم المخلوقات أنواع

الأول

أحدها طاعة كل شيء لمشيئته وقدرته وخلقه فإنه لا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته وملكه بل هو مدبر معبد مربوب مقهور ولو تخيل إليه في نفسه أنه لا رب له وأنه يقدر أن يخرج عن ملك الرب فهذا من جنس ما يتخيل للسكران والنائم المأسور المقهور والمجنون المربوط بالأقياد والسلاسل بل نفوذ مشيئته الرب وقدرته في المستكبرين عن عبادته أعظم من فوذ أمر الآسر في أسيره والسيد في مملوكه وقيم المارستان في المجنون بكثير كثير

وهذا متوجه على قول أهل السنة الذين يقولون لا يكون في ملكه إلا ما يشاء فليس لأحد خروج عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور بخلاف قول القدرية فإن العصاة على قولهم خرجوا عن مشيئة وقدرته وحكمه وسلطانه وخلقه فليسوا قانتين لا لأمره الشرعي ولا لأمره القدري الكوني وأما أهل السنة فيقولون إنهم قانتون لمشيئته وحكمه وأمره الكوني كما تقدم

وعلى هذا الوجه فالقانت قد لا يشعر بقنوته فإن المراد بقنوته كونه مدبرا مصرفا تحت مشيئة الرب من غير امتناع منه بوجه من الوجوه وهذا شامل للجمادات والحيوانات وكل شيء قال تعالى ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها سورة هود 56 وقال تعالى فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون سورة يس 83

الثاني

النوع الثاني من القنوت هو ما يشعر به القانت وهو اعترافهم كلهم بأنهم مخلوقون مربوبون وأنه ربهم كما تقدم

الثالث

الثالث أنهم يضطرون إليه وقت حوائجهم فيسألونه ويخضعون له وإن كانوا إذا أجابهم أعرضوا عنه قال الله تعالى وإذا مس الإنسان الضر

دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه صره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه سورة يونس 12 وقال تعالى وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا سورة الإسراء 67 وهو أخبر أنهم كلهم قانتون فإذا قنتوا له فدعوه وتضرعوا إليه عند حاجتهم كانوا قانتين له وإن كان إذا كشف الضر عنهم نسوا ما كانوا يدعون إليه وجعلوا له أندادا

الرابع

الرابع أنهم كلهم لا بد لهم من القنوت والطاعة في كثير من أوامره وإن عصوه في البعض وإن كانوا لا يقصدون بذلك طاعته بل يسلمون له ويسجدون طوعا وكرها وذلك أنه أرسل الرسل وأنزل الكتب بالعدل فلا صلاح لأهل الأرض في شيء من أمورهم إلا به ولا يستطيع أحد أن يعيش في العالم مع خروجه عن جميع أنواعه بل لا بد من دخوله في شيء من أنواع العدل حتى قطاع الطريق لا بد لهم فيما بينهم من قانون يتفقون عليه ولو أراد واحد منهم أن يأخذ المال كله لم يمكنوه وأظلم الناس وأقدرهم لا يمكنه فعل كل ما يريد بل لا بد من أعوان يريد أرضاءهم ومن أعداء يخاف تسلطهم ففي قلبه رغبة ورهبة تلجئه إلى أن يلتزم من العدل الذي أمر الله تعالى به ما لا يريده فيسلم لله ويقنت له وإن كان كارها وهو سبحانه قال كل له قانتون والقنوت العام يراد به الخضوع والإستسلام والإنقياد وإن كان في الابطن كارها كطاعة المنافقين هم خاضعون للمؤمنين مطيعون لهم في الظاهر وإن كانوا يكرهون هذه الطاعة

الخامس

الخامس خضوعهم لجزائه لهم في الدنيا والآخرة كما ذكر من ذكر أنهم قانتون يوم القيامة وهو سبحانه قد يجزي الناس في الدنيا فيهلكهم وينتقم منهم

كما أهلك قوم نوح وعادا وثمود وفرعون فكانوا خاضعين منقادين لجزائه وعقابه قانتين له كرها

والجزاء يكون في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة وهو سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت وهو قائم بالقسط والجميع مستسلمون لحكمه قانتون له في جزائهم على أعمالهم والمصائب التي يصيبهم في الدنيا جزاء لهم قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم سورة الشورى 30 وقال تعالى ما أصابك من حسن فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79

فهذه خمسة أنواع قنوتهم لخلقه وحكمه وأمره قدرا واعترافهم بربوبيته واضطراهم إلى مسألته والرغبة إليه ودخولهم فيما يأمر به وإن كانوا كارهين وجزاؤهم على أعماله ودخولهم فيما يأمر به مع الكراهة يدخل فيه المنافق والمعطي للجزية عن يد وهو ساغر والذي يسلم أولا رغبة ورهبة فالقنوت شامل داخل للجميع لكن المؤمن يقنت له طوعا وغيره يقنت له كرها قال الله تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها سورة الرعد 15

فصل

الكلام عن السجود

والسجود من جنس القنوت فإن السجود الشامل لجميع المخلوقات هو المتضمن لغاية الخضوع والذل وكل مخلوق فقد تواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته ولا يجب أن يكون سجود كل شيء مثل سجود الإنسان على سبعة أعضاء ووضع جبهة في رأس مدور على التراب فإن هذا سجود مخصوص من الإنسان ومن الأمم من يركع ولا يسجد وذلك سجودها

كما قال تعالى ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة سورة البقرة 58 وإنما قيل ادخلوه ركعا ومنهم من يسجد على جنب كاليهود فالسجود اسم جنس ولكن لما شاع سجود الآدميين المسلمين صار كثير من الناس يظن أن هذا هو سجود كل أحد كما في لفظ القنوت

وكذلك لفظ الصلاة لما كان المسلمون يصلون الصلاة المعروفة صار يظن من يظن أن كل من صلى فهكذا يصلي حتى صار بعض أهل الكتاب ينفرون من قولنا إن الله يصلي وينزهونه عن ذلك فإنهم لم يعرفوا من لفظ الصلاة إلا دعاء المصلي لغيره وخضوعه له ولا ريب أن الله منزه عن ذلك لكن ليست هذه صلاته سبحانه وقد قال الله تعالى ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه سورة النور 41

وهو سبحانه قد ذكر سجود الظل في غير موضع كقوله أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون سورة النحل 48 وقال تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال سورة الرعد 15 ومعلوم أن الظل إذا سجد لم يسجد على سبعة أعضاء يضع رأسه ويديه ثم يرفع رأسه ويديه بل سجوده ذله وخضوعه

تفسير قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا} الآية

وقد سمى الله تعالى المنحني ساجدا وإن لم يصل إلى الأرض في قوله وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين سورة البقرة 58 وفي الأعراف وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين سورة الأعراف 161 فهنا لما أمرهم بالسكنى وهي المقام قال وكلوا منها حيث شئتم ولم يحتج أن يقال رغدا فإن الساكن المقيم مطمئن وهناك قال ادخلوا هذه القرية قال فكلوا منها حيث شئتم رغدا فبين أنهم يأكلون رغدا فيتهنون لا يخافون الخروج وبسط الكلام في البقرة وذكر الدخول لأنه قبل السكنى ولهذا قال رغدا وقال وسنزيد وقال فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون سورة البقرة 59

وقدم السجود لأنه أهم وقد اختلفوا في هذا السجود فقيل هو الركوع كما روى ابن أبي حاتم من وجهين ثابتين عن سفيان الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ادخلوا الباب سجدا قال ركعا من باب صغير فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة وقيل بل هو السجود بالأرض ثم قيل ما رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال سجدا قال كان سجود أحدهم على خده وروى عن وهب بن منبه قال إذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله فكأن صاحب هذا القول جعل السجود بعد الدخول ومن قال بهذا أو قال بأنهم أمروا بالركوع فهو يقول دخولهم وهم سجد بالأرض فيه صعوبة وقد يؤذي أحدهم ولكن هو ممكن فإن الإنسان يمكنه حال السجود أن يزحف إذا كانت الأرض لا تؤذيه

وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي أنه قال لهم ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون حبة في شعرة

فهذا هو الثابت عن النبي وقد قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في ذلك أقوالا تخالف هذا فقال خصيف عن عكرمة عن ابن عباس فدخلوا على شق وروى السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود فدخلوا مقنعي رؤوسهم

قال ابن أبي حاتم اختلف التابعون فروى عن مجاهد نحو قول عكرمة عن ابن عباس وروى عن السدي نحو ما روى عن ابن مسعود وعن مقاتل أنهم دخلوا منكفئين وأما القول فقد ثبت عن النبي أنهم قالوا حبة في شعره وإذا ثقبت الحبة وأدخلت فيها الشعرة فإنه يقال حبة في شعرة ويقال شعرة في حبة وهذا معنى ما رواه السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال إنهم قالوا هطى سمقاثا أزبه مزبا وهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء فذلك قوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم وكذلك رواه السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وهذا موافق لما ثبت عن النبي لكن النبي إنما تكلم بالعربية وهذا اللفظ أخذه ابن مسعود عن أهل الكتاب وهذا أصح من قول ابن عباس أنهم قالوا حنطة مع أن هذا مروي عن غير واحد

قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والضحاك والحسن والربيع ويحيى بن رافع نحو ذلك لكن قد يقال الحبة هي الحنطة وهم لم يقولوا بالعربية بل بلسانهم وهم إذا قالوا بلسانهم ما معناه حبة حنطة جاز أن يقال حنطة وحديث ابن مسعود وقد ذكر أنهم قالوا حبة حنطة فلا يكون في القول خلاف

وأبو الفرج ذكر خمسة أقوال وهي ترجع إلى هذا ذكر الحديث المرفوع والثاني حنطة والثالث أنهم قالوا حبة حنطة حمراء فيها شعرة سوداء قاله ابن مسعود والرابع كذلك إلا أنهم قالوا مثقوبة قاله السدي عن أشياخه

قلت كلاهما رواه السدي عن ابن مسعود وهما قول واحد

قال والخامس أنهم قالوا استقلابا قاله أبو صالح

قلت هذا الذي ذكره ابن مسعود بلسانهم سمقاثا وقد فسره بذلك

قال الأقوال كلها واحدة بخلاف صفة الدخول فإن الثابت عن النبي أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم وفي لفظ على أوراكهم والمعنى واحد وما نقل خلاف هذا فإنما أخذ عن أهل الكتاب وقد كان يؤخذ عنهم الحق والباطل وقول ابن مسعود مقنعي رؤوسهم لا يناقض الزحف على أستاههم وابن عباس قال يزحفون على أستاههم كالمرفوع وقال قيل ادخلوا ركعا فلو جزمنا أن هذا مأخوذ عن النبي لجزمنا بأن الله أمرهم بالركوع لكن ظاهر القرآن هو السجود والسجود المطلق هو السجود المعروف وكون الباب جعل صغيرا إنما يكون لمن يكره على الدخول منه ليحتاج أن ينحني وهؤلاء قصدت طاعتهم فأمروا بالخضوع لله والاستغفار فدخولهم سجدا هو خضوع لله وقولهم حطه أي احطط عنا خطايانا هو استغفارهم كما أخبر الله تعالى أن داود خر راكعا وأناب وكما شرع للمسلمين أن يستغفروا في سجودهم

وفي الصحيح عن النبي أنه كان يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره علانيته وسره وكان أيضا يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك وكان يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن وثبت في الصحيح لمسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وفي الصحيح أيضا لمسلم عن ابن عباس قال كشف النبي الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم

ففي هذين الحديثن أنه خص السجود بالأمر بالدعاء فيه ولهذا كان من أهل العلم من يكره الدعا ءفي الركوع دون السجود

وحنيئذ فأمرهم بالاستغفار وقولهم حطة في السجود أشبه فلم يثبت لنا إلى الآن أن الركوع يسمى سجودا بخلاف العكس فإنه قال في حق داود وخر راكعا وأناب سورة ص 24 وقد ثبت بالنص الصحيح واتفاق الناس أن داود سجد كما قال النبي سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا وفي صحيح مسلم عنه عن ابن عباس قال نبيكم ممن أمر أن يقتدى به سجدها داود فسجدها رسول الله وفي صحيح مسلم عنه أيضا قال رأيت رسول الله يسجد فيها وفي الترمذي وغيره عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود فقرأ النبي سجدة ص ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل من قول الشجرة

والآثار عن السلف متواترة بأن داود سجد فكل ساجد راكع وليس كل راكع ساجد فإنه إذا سجد من قيام انحنى انحناء الراكع وزاد فإنه يصير ساجدا ولو صلى قاعدا أيضا انحنى انحناء الركوع وزاد فإنه يصير ساجدا فالساجد راكع وزيادة فلهذا جاز أن يسمى راكعا وأن يجعل الركوع نوعين ركوعا خفيفا وركوعا تاما فالقيام هو السجود بخلاف لفظ السجود فإنه إنما يستعمل في غاية الذل والخضوع وهذه حال الساجد لا الراكع

لكن ليس من شرط السجود مطلقا أن يصل إلى الأرض فقد ثبت في الأحاديث أن النبي كان يصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة

وقد اتفق المسلمون على أن المسافر الراكب يتطوع على راحلته ويجعل سجوده أخفض من ركوعه وإن كان لا يسجد على مستقر وكذلك الخائف قال تعالى وإن خفتم فرجالا أو ركبانا سورة البقرة 239 يصلي إلى القبلة وإلى غير القبلة ويومىء بالركوع والسجود ولا يصل إلى الأرض

فعلم أن الهيئة المأمور بها في السجود على الأرض وعلى سبعة أعضاء هي أكمل سجود ابن آدم وله سجود لا يسجد فيه على الأرض ولا على سبعة بل يخفض فيه رأسه أكثر من خفض الركوع ولهذا كان عند جمهور العلماء لو ركع في سجود التلاوة بدلا عن السجود لم يجزه ولكن إذا كانت السجدة في آخر السورة فله أن يفعل كما ذكره ابن مسعود أنه يكتفي بسجود الصلاة فإنه ليس بينه وبينه إلا الركوع وهذا ظاهر مذهب أحمد ومذهب أبي حنيفة وغيرهما لكن قيل إنه جعل الركوع مكان السجود والصحيح أنه إنما جعل سجود الصلاة هو المجزىء كما لو قرأ فإن الركوع عمل فيه فلم يجعل فصلا لا سيما وهو مقدمة للسجود ومن الناس من قال في قصة داود إنه خر ساجدا بعد ما كان راكعا وذكر أن الحسين بن الفضل قال لأبي عبد الله بن طاهر عن قوله وخر راكعا سورة ص 24 هل يقال للراكع خر قال لا ومعناه فخر بعد ما كان راكعا أي سجد

وهذا قول ضعيف والقرآن إنما فيه وخر راكعا لم يقل خر بعد ما كان راكعا ولا كان داود حين تحاكموا إليه راكعا بل كان قاعدا معتدلا أو قائما فخر ساجدا وسؤال ابن طاهر إنما يتوجه إذا أريد بالركوع انحناء القائم كركوع الصلاة وهذا لا يقال فيه خر

والمراد هنا السجود بالسنة واتفاق العلماء فالمراد خر ساجدا وسماه ركوعا لأن كل ساجد راكع لا سيما إذا كان قائما وسجود التلاوة من قيام أفضل ولعل داود سجد من قيام وقيل خر راكعا ليبين أن سجوده كان من قيام وهو أكمل ولفظ خر يدل على أنه وصل إلى الأرض فجمع له معنى السجود والركوع والسجود عبادة تفعل مجردة عن الصلاة وكسجود الشجرة وسجود داود وسجود التلاوة والشكر وسجود الآيات وغير ذلك وهل يشترط له شروط الصلاة على قولين كما قد بسط في غير هذا الموضع

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي ذر أنه قال كنت في المسجد حين وجبت الشمس فقال يا أبا ذر تدري أين تذهب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي الله عز وجل فتستأذن في الرجوع فليؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرها ثم قرأ والشمس تجري لمستقر لها سورة يس 38

فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح بسجود الشمس إذا غربت واستئذانها وكذلك قال أبو العالية وغيره قال أبو العالية ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حت يرجع إلى مطلعه ومعلوم أن الشمس لا تزال في الفلك كما اخبر الله تعالى بقوله وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون سورة الأنبياء 33 فهي لا تزال تسبح في الفلك وهي تسجد لله وتستأذنه كل ليلة كما أخبر النبي فهي تسجد سجودا يناسبها وتخضع له وتخشع كما يخضع ويخشع كل ساجد من الملائكة والجن والإنس

وكذلك قوله فما بكت عليهم السماء والأرض سورة الدخان 29 بكاء كل شيء بحسبه قد يكون خشية لله وقد يكون حزنا على فراق المؤمن

روى ابن أبي حاتم عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قال عمرو يعني ابن دينار إني ليلة أطوف بالبيت إذ سمعت حنين رجل بين الأستار والكعبة وبكاءه وتضرعه فوقفت لأعرفه فذهب ليل وجاء ليل وهو كذلك حتى كاد يسفر فانكشف الستور عنه فإذا هو طاووس رضي الله عنه فقال من هذا عمرو قلت نعم أمتع الله بك قال متى وقفت ههنا قال قلت منذ طويل قال ما أوقفك قلت سمعت بكاءك فقال أعجبك بكائي قلت نعم قال وطلع القمر في حرف أبي قبيس قال ورب هذه البنية إن هذا القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له ولا يسأل عما عمل ولا يجازى به فعجبت أن بكيت من خشية الله وأنا صاحب الذنوب وهذا القمر يبكي من خشية الله وقرأ ابن زيد ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب سورة الحج 18 قال فلم يستثن من هؤلاء أحدا حتى جاء ابن آدم استثناه فقال وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب سورة الحج 18 قال والذي كان هو أحق بالشكر هو أكفرهم ثم قرأ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء سورة فاطر 27 28 قال وكذلك اختلفوا في دينهم كما اختلف الأولون

السجود في اللغة

ولفظ السجود يتسعمل في اللغة لخضوع الجامدات وغيرها كالبيت المعروف

بجيش تضل البلق في حجراته... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

قال ابن قتيبة حجراته جوانبه يريد أن حوافر الخيل قد بلغت الأكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت

قال ابن عطية في قوله يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سورة النحل 48 وقالت فرقة منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظلال ودورانها بالسجود كما يقال للمشير برأسه نحو الأرض على وجه الخضوع ساجد ومنه قول الشاعر

وكلتاهما خرت وأسجد رأسها... كما سجدت نصرانة لم تحنف

فصل

وإذا كان كذلك فالله سبحانه ذكر في الرعد قوله ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها سورة الرعد 15 فعم في هذه الآية ولم يستثن وقسم السجود إلى طوع وكره وقال في الحج ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب سورة الحج 18

وفي هذا الكثير قولان أحدهما أنه لم يسجد فلهذا حق عليه العذاب كما تقدم عن طاووس وهو قول الفراء وغيره والثاني أنه سجد وحق عليه العذاب فإنه ليس هو السجود المأمور به

قال أبو الفرج وفي قوله وكثير حق عليه العذاب قولان أحدهما أنهم الكفار وهم يسجدون وسجودهم سجود ظلهم قاله مقاتل والثاني أنهم لا يسجدون والمعنى وكثير من الناس أبى السجود ويحق عليه العذاب لتركه السجود هذا قول الفراء

قلت ذا قول الأكثرين وقد ذكر البغوي في قوله ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض الآية قال قال مجاهد سجودها تحول ظلالها وقال أبو العالية ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه قال وقيل سجودها بمعنى الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع له مسبح له كما أخبر الله عز وجل عن السماوات والأرض قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11 وقال في وصف الحجارة وإن منها لما يهبط من خشية الله سورة البقرة 74 وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا يتفقهون تسبيحهم سورة الإسراء 44

قال وهذا مذهب حسن موافق لقول أهل السنة

قلت قد تقدم قول الطبري وغيره بهذا القول فإذا كان السجود في هذه الآية لس عاما وهو هناك عام كان السجود المطلق هو سجود الطوع فهذه المذكورات تسجد تطوعا هي وكثير من الناس والكثير الذي حق عليه العذاب إنما يسجد كرها وحينئذ فالكثير الذي حق عليه العذاب لم يقل فيه إنه يسجد ولا نفى عنه كل سجود بل تخصيص من سواه بالذكر يدل على أنه ليس مثله وحينئذ فإذا لم يسجد طائعا حصل فائدة التخصيص وهو مع ذلك يسجد كارها فكلا القولين صحيح وكذلك قال طائفة من المفسرين واللفظ للبغوي قالوا وكثير حق عليه العذاب بكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله تعالى

وقال في سورة النحل أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرن يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون سورة النحل 48 50 قال فلفظ دابة إن لم يتناول بني آدم فالإبل تسجد طوعا وإن تناول بني آدم فسجودهم طوعا وكرها

فصل

والذين فسروا السجود بالخضوع والإنقياد لهم في سجودها قولان أحدهما أنه كونها مصنوعة مخلوقة منقادة لمشيئة الله واختياره كما قالوا في تسبيحها مثل ذلك وأنه شهادتها ودلالتها على الخالق قال أبو الفرج في قوله ولله يسجد من في السموات والأرض سورة الرعد 15 الساجدون على ضربين أحدهما من يعقل فسجوده عبادة والثاني من لا يعقل فسجوده بيان أثر الصنعة فيه والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق هذا قول جماعة من العلماء واحتجوا بالبيت المتقدم

ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

قال وأما الشمس والقمر والكواكب فألحقها جماعة بمن يعقل قال أبو العالية سجودها حقيقة ما منها غارب إلا خر ساجدا بين يدي الله عز وجل ثم لا ينصرف حتى يؤذن له قال ويشهد لقول أبي العاليه حديث أبي ذر وذكره قال وأما النبات والشجر فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء أحدها أن يكون سجودا لا نعلمه وهذا إذا قلنا بردعه فيهما والثاني أنه تفيؤ ظلاله والثالث بيان الصنعة فيه والرابع الإنقياد لما سخر له

قلت الثالث والرابع من نمط واحد وهو كالمتقدم وأما السجود الذي لا نعلمه فهو كما ذكره البغوي وقال البغوي أيضا في قوله وإن منها لما يهبط من خشية الله سورة البقرة 74 فإن قيل الحجر لا يفهم فكيف يخشى قيل الله يفهمها ويلهمها فتخشى بإلهامه قال ومذهب أهل السنة أن لله علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره ولها صلاة وتسبيح وخشية كما قال عز وجل وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقال تعالى والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه وقال ألم ترأن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم الآية فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى وذكر الحديث الصحيح عن جابر بن سمرة عن النبي قال إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن وذكر حديث حنين الجذع وطرقه صحاح مشهورة وروى عن السدي عن أبي عباد بن أبي يزيد عن علي قال كنا مع رسول الله بمكة فخرجنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله وقال قال مجاهد لا ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله ويشهد لما قلنا قوله تعالى لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله سورة الحشر 21

قلت وأما تفسير سجودها وتسبيحها بنفوذ مشيئة الرب وقدرته فيهما ودلالتها على الصانع فقط فالإقتصار على هذا باطل فإن هذا وصف لازم دائم لها لا يكون في وقت دون وقت وهو مثل كونها مخلوقة محتاجة فقيرة إلى الله تعالى وعلى هذا فالمخلوقات كلها لا تزال ساجدة مسبحة وليس المراد هذا فإنه قال تعالى إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق سورة ص 18 وقال والطير محشورة كل له أواب سورة ص 19 وقال كل قد علم صلاته وتسبيحه سورة النور 41 فقد أخبر سبحانه وتعالى عنه أنه يعلم ذلك ودلالتها على الرب يعلمه عموم الناس

وأيضا فقد أخبر الله تعالى في القرآن من كلام الهدهد والنمل وأن سليمان علم منطق الطير بما يدل على الإختصاص وهذا في الحيوان

وأيضا فإنه جعل الجميع يسجد ثم قال وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب سورة الحج 18 وهذا المعنى يشترك فيه جميع المخلوقات دائما وهو وصف لازم لكل مخلوق لا يزال مفتقرا إلى الخالق ولا يزال دالا عليه ولا يزال منقادا لما يشاء الرب

وأيضا فإنه قسم السجود إلى طوع وكره وانفعالها لمشيئة الرب وقدرته لا ينقسم إلى طوع وكره ولا يوصف ذلك بطوع منها ولا كره فإن دليل فعل الرب فيها ليس هو فعل منها ألبتة

والقرآن يدل على أن السجود والتسبيح أفعال لهذه المخلوقات وكون الرب خالقا لها إنما هو كونها مخلوقة للرب ليس فيه نسبة أمر إليها يبين ذلك أنه خص الظل بالسجود بالغدو والآصال والظل متى كان وحيث كان مخلوق مربوب والله تعالى جعل الظلمات والنور والقول الذي ذكره البغوي أقرب من القول الذي ذكره أبو الفرج وهو سبحانه تارة يجعلها آيات له وتارة يجعلها ساجدة مسبحة وهذا نوع غير هذا

وعلى هذا القول الجميع واحد ليس في كونها ساجدة مسبحة إلا كونها آية دالة وشاهدة للخالق تعالى بصفاته لكونها مفعولة له وهذا معنى ثابت في المخلوقات كلها لازم لها وهي آيات للرب بهذا الإعتبار وهي شواهد ودلائل وآيات بهذا الإعتبار لكن ذاك معنى آخر كما يفرق بين كون الإنسان مخلوقا وبين كونه عابدا لله فهذا غير هذا هذا يتعلق بربوبية الرب له وهذا يتعلق بتألهه وعبادته للرب

والبيت الذي استشهدوا به وهو قوله

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

فإنما ذكر سجود الأكم للحوافر وذلك خضوعها وانخفاضها لها فهذا خضوع جماد لجماد ولا يلزم أن يكون سائر أنواع الخضوع مثل هذا وإنما يشترك في نوع الخضوع وليس خضوع المخلوقات للخالق مثل هذا وإن قيل هو انفعالها لمشيئته وقدرته بل ذاك نوع أبلغ من هذا فلا يجب أن يكون سجودها بغير خضوع منها وطاعة ولكن هذا البيت يقتضي أنه لا يجب أن يكون سجود كل شيء وضعه رأسه بالأرض وهذا حق بل هو خضوع للرب يناسب حاله وقد قيل لسهل بن عبد الله أيسجد القلب قال نعم سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا وأهل الجنة في الجنة قد ألهموا التسبيح كما ألهموا النفس في الدنيا وكما يلهم أهل الدنيا النفس وهم خاضعون للرب مطيعون له وليس هناك سجود بوضع رأس في الأرض فهذا أمر به في الدنيا لحاجة النفس إليه في خضوعها لله تعالى فلا تكون خاضعة إلا به بخلاف حالها في الجنة فإنها قد زكت وصلحت

(آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما)

جامع الرسائل لابن تيمية
رسالة في قنوت الأشياء كلها لله تعالى | رسالة في لفظ السنة في القرآن | رسالة في قصة شعيب عليه السلام | رسالة في المعاني المستنبطة من سورة الإنسان | رسالة في قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة | رسالة في تحقيق التوكل | رسالة في تحقيق الشكر | رسالة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلم | رسالة في دخول الجنة | رسالة في الجواب عمن يقول إن صفات الرب نسب وإضافات وغير ذلك | رسالة في تحقيق مسألة علم الله | رسالة في الجواب عن سؤال عن الحلاج هل كان صديقا أو زنديقا | رسالة في الرد على ابن عربي في دعوى إيمان فرعون | رسالة في التوبة | رسالة في الصفات الاختيارية | شرح كلمات من فتوح الغيب | قاعدة في المحبة