انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة ق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } * { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } * { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } * { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } * { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } * { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } * { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } * { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } * { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } * { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } * { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ } * { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ } * { وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } * { وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } * { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } * { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } * { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } * { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } * { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } * { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } * { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } * { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } * { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } * { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } * { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } * { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } * { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } * { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } * { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } * { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } * { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } * { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } * { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } * { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } * { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } * { وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } * { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } * { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } * { يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } * { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } بسقت النخلة بسوقاً: طالت، قال الشاعر:

لنا خمر وليست خمر كرم     ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا

وبسق فلان على أصحابه: أي علاهم، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة:

يا ابن الذين بمجدهم     بسقت على قيس فزاره

ويقال: بسقت الشاة: ولدت، وأبسقت الناقة: وقع في ضرعهااللبأ قبل النتاج فهي مبسق، ونوق مباسق. حاد عن الشيء: مال عنه، حيوداً وحيدة وحيدودة. الوريد: عرق كبير في العنق،يقال: إنهما وريدان عن يمين وشمال. وقال الفراء: هو ما بين الحلقوم والعلباوين. وقال الأثرم: هو نهر الجسد، هو فيالقلب: الوتين، وفي الظهر: الأبهر، وفي الذراع والفخذ: الأكحل والنسا، وفي الخنصر: الأسلم. وقال الزمخشري: والوريدان عرقان مكتنفان بصحفتي العنقفي مقدمها متصلان بالوتين، يردان من الرأس إليه، سمي وريداً لأن الروح ترده. قال:

كـان وريـديـه رشـا صـلب    

{قوَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ * مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُبَعِيدٌ * قَدْ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلاْرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْفِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَٱلاْرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَافِيهَا رَوٰسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء مُّبَـٰرَكاًفَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ * وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـٰبُ ٱلرَّسّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوٰنُ لُوطٍ * وَأَصْحَـٰبُ ٱلاْيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ }. هذه السورة مكية، قال ابن عطية: بإجماع من المتأولين. وقال صاحب التحرير:قال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا آية، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } الآية. ومناسبتها لآخر ماقبلها، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا، لم يكن إيمانهم حقاً، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول، فقال: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ }. وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث، فلذلك أعقبهبه. وق حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولاً متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها،فأطرحت نقلها في كتابي هذا. {وَٱلْقُرْءانِ } مقسم به و{ٱلْمَجِيدِ } صفته، وهو الشريف على غيره من الكتب، والجوابمحذوف يدل عليه ما بعده، وتقديره: أنك جئتهم منذراً بالبعث، فلم يقبلوا. {بَلْ عَجِبُواْ }، وقيل: ما ردوا أمرك بحجة.وقال الأخفش، والمبرد، والزجاج: تقديره لتبعثن. وقيل: الجواب مذكور، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم؛ وعن ابن كيسان،والأخفش: ما يلفظ من قول؛ وعن نحاة الكوفة: بل عجبوا، والمعنى: لقد عجبوا. وقيل: إن في ذلك لذكرى، وهو اختيارمحمد بن علي الترمذي. وقيل: ما يبدل القول لديّ، وهذه كلها أقوال ضعيفة. وقرأ الجمهور: قاف بسكون الفاء، ويفتحها عيسى،ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال؛ وبالضم: هارون وابن السميفع والحسن أيضاً؛ فيما نقل ابن خالويه. والأصل في حروفالمعجم، إذا لم تركب مع عامل، أن تكون موقوفة. فمن فتح قاف، عدل إلى الحركات؛ ومن كسر، فعلى أصل التقاءالساكنين؛ ومن ضم، فكما ضم قط ومنذ وحيث. {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ }: إنكار لتعجبهم مما ليسبعجب، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه، فكان المناسب أن لا يعجبوا، وهذا مع اعترافهمبقدرة الله تعالى، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء. والضمير في{بَلْ عَجِبُواْ } عائد على الكفار، ويكون قوله: {فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } تنبيهاً على القلة الموجبة للعجب، وهو أنهم قد جبلواعلى الكفر، فلذلك عجبوا. وقيل: الضمير عائد على الناس، قيل: لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولاً من الله،لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن، ومن خذل ضل وكفر؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم: {هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ }، الظاهرأنها إلى مجيء منذر من البشر. وقيل: إلى ما تضمنه الإنذار، وهو الإخبار بالبعث. وقال الزمخشري: وهذا إشارة إلى المرجع.انتهى، وفيه بعد. وقرأ الجمهور: {*أئذأ} بالاستفهام، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما. وقرأ الأعرج، وشيبة،وأبو جعفر، وابن وثاب، والأعمش، وابن عتبة عن ابن عامر: إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر، فجاز أن يكون استفهاماًحذفت منه الهمزة، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا. وأجاز صاحباللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملةاسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة. وأما في قراءة الاستفهام، فالظرف منصوب بمضمر، أي: أنبعث إذا متنا؟ وإليه الإشارةبقوله ذلك، أي البعث. {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ }، أي مستبعد في الأوهام والفكر. وقال الزمخشري: وإذا منصوب بمضمر معناه:أحين نموت ونبلى نرجع؟ انتهى. وأخذه من قول ابن جني، قال ابن جني: ويحتمل أن يكون المعنى: أئذا متنا بعدرجعنا، فدل رجع بعيد على هذا الفعل، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع،وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف قبله على هذا التفسير حسن.فإن قلت: فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت: ما دل عليه المنذر من المنذر به، وهو البعث.انتهى. وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع، وأنه من كلام الله تعالى، لا من كلامهم، على ما شرحه مفهوم عجيبينبو عن إدراكه فهم العرب. {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلاْرْضَ مِنْهُمْ }: أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم، قاله ابنعباس ومجاهد والجمهور، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع، لأن من كان عالماً بذلك، كان قادراً على رجعهم. وقال السدي: أيما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، وهذا يتضمن الوعيد. {وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌ }: أي حافظ لما فيه جامع، لايفوت منه شيء، أو محفوظ من البلى والتغير. وقيل: هو عبارة عن العلم والإحصاء. وفي الخبر الثابت أن الارض تأكلابن آدم الأعجب الذنب، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم. {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ }: وقدروا قبلهذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها، أي ما أجادوا والنظر، بل كذبوا. وقيل: لم يكذبوا المنذر، بل كذبوا، والغالب أنالإضراب يكون بعد جملة منفية. وقال الزمخشري: بل كذبوا: إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظعمن تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات. انتهى. وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول، وكلاهما بعدذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم: ما أجادوا النظر، {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ}، والحق: القرآن، أو البعث، أو الرسول ، أو الإسلام، أقوال. وقرأ الجمهور: {لَمَّا جَاءهُمْ }: أيلم يفكروا فيه، بل بأول ما جاءهم كذبوا؛ والجحدري: لما جاءهم، بكسر اللام وتخفيف الميم، وما مصدرية، واللام لام الجر،كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه. {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ }، قال الضحاك، وابن زيد: مختلط:مرة ساحر، ومرة شاعر، ومرة كاهن. قال قتادة: مختلف. وقال الحسن: ملتبس. وقال أبو هريرة: فاسد. ومرجت أمانات الناس: فسدت،ومرج الدين: اختلط. قال أبو واقد:

ومرج الدين فأعددت له     مسرف الحارك محبوك الكند

وقال ابن عباس: المريج: الأمر المنكر، وعنه أيضاً مختلط، وقال الشاعر:

فجالت والتمست لها حشاها     فخر كأنه خوط مريج

والأصل فيه الاضطراب والقلق. مرج الخاتم في أصبعي، إذا قلق من الهزال. ويجوزأن يكون الأمر المريج، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلاً عدم قبولهم أول إنذاره إياهم، ثم العجب منهم،ثم استعباد البعث الذي أنذر به، ثم التكذيب لما جاء به. {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ } حين كفروا بالبعث وبما جاء بهالرسول إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي، {كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا } مرتفعة من غيرعمد، {وَزَيَّنَّـٰهَا } بالنيرين وبالنجوم، {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ }: أي من فتوق وسقوف، بل هي سليمة من كل خلل.{وَٱلاْرْضَ مَدَدْنَـٰهَا }: بسطناها، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِيَ }، أي جبالاً ثوابت تمنعها من التكفؤ، {مِن كُلّ زَوْجٍ }: أينوع، {بَهِيجٍ }: أي حسن المنظر بهيج، أي يسر من نظر إليه. وقرأ الجمهور: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ } بالنصب، وهما منصوبانبفعل مضمر من لفظهما، أي بصر وذكر. وقيل: مفعول من أجله. وقرأ زيد بن علي: تبصرة بالرفع، وذكر معطوف عليه،أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة، والمعنى: يتبصر بذلك ويتذكر، {كُلٌّ * عَبْدٍ مُّنِيبٍ }: أي راجع إلى ربهمفكر في بدائع صنعه. {مَاء مُّبَـٰرَكاً }: أي كثير المنفعة، {وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ }: أي الحب الحصيد، فهو من حذف الموصوفوإقامة الصفة مقامه، كما يقوله البصريون، والحصيد: كل ما يحصد مما له حب، كالبر والشعير. {بَـٰسِقَـٰتٍ }: أي طوالاً فيالعلو، وهو منصوب على الحال، وهي حال مقدرة، لأنها حالة الإنبات، لم تكن طوالاً. وباسقات جمع. {وَٱلنَّخْلَ } اسم جنس،فيجوز أن يذكر، نحو قوله: { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } ، وأن يؤنث نحو قوله تعالى: { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } ، وأن يجمع باعتبار إفراده، ومنه باسقات،وقوله: { وَيُنْشِىء ٱلسَّحَابَ ٱلثّقَالَ } . والجمهور: باسقات بالسين. وروى قطبة بن مالك، عن النبي ، أنه قرأ:باصقات بالصاد، وهي لغة لبني العنبر، يبدلون من السين صاداً إذا وليتها، أو فصل بحرف أو حرفين، خاء أو عينأو قاف أو طاء. {لَّهَا طَلْعٌ }: تقدم شرحه عند { مِن طَلْعِهَا قِنْوٰنٌ دَانِيَةٌ } . {نَّضِيدٌ }: أي منضودبعضه فوق بعض، بريد كثرة الطلع وتراكمه، أي كثرة ما فيه من الثمر. وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيضينضد كحب الرمان، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد. و{رِزْقاً } نصبعلى المصدر، لأن معنى: وأنبتنا رزقنا، أو على أنه مفعول له. وقرأ الجمهور: {مَيْتًا } بالتخفيف؛ وأبو جعفر، وخالد: بالتثقيل،والإشارة في ذلك إلى الإحياء، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت، وهذه كلها أمثلةوأدلة على البعث. وذكر تعالى في السماء ثلاثة: البناء والتزين ونفي الفروج، وفي الأرض ثلاثة: المد وإلقاء الرواسي والإنبات.قابل المد بالبناء، لأن المد وضع والبناء رفع. وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب، لارتكاز كل واحد منهما. والإنبات المترتب على الشقبانتفاء الفروج، فلا شق فيها. ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقي أصله، وما يزرع كلسنة أو سنتين ويقطف كل سنة، وعلى ما اختلط من جنسين، فبعض الثمار فاكهة لا قوت، وأكثر الزرع قوت والثمرفاكهة وقوت. ولما ذكر تعالى قوله: {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ }، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،تسلية لرسوله ، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية هذه الآية وقصص من ذكر فيها. وقرأ أبوجعفر، وشيبة، وطلحة، ونافع: الأيكة بلام التعريف؛ والجمهور: ليكة. {كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ }: أي كلهم، أي جميعهم كذب؛ وحمل علىلفظ كل، فأفرد الضمير في كذب. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد به كل واحد منهم. انتهى. والتنوين في كل تنوينعوض من المضاف إليه المحذوف. وأجاز محمد بن الوليد، وهو من قدماء نحاة مصر، أن يحذف التنوين من كل جعلهغاية، ويبنى على الضم، كما يبنى قبل وبعد، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير،وهو علي بن سليمان. {فَحَقَّ وَعِيدِ }: أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم، وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليهوسلم، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول. قوله عز وجل: {أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ* وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَاكُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ٱلْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ }. {أَفَعَيِينَابِٱلْخَلْقِ ٱلاْوَّلِ }: وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج، وتقدم تفسير عيي في قوله تعالى: { وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ } . وقرأالجمهور: أفعيينا، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة، ماضي عيي، كرضي. وقرأ ابن أبي عبلة، والوليد بن مسلم، والقورصبي عن أبيجعفر، والسمسار عن شيبة، وأبو بحر عن نافع: بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية، هكذا قال أبو القاسم الهذليفي كتاب الكامل. وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراآت له: أفعينا بتشديد الياء. ابن أبي عبلة، وفكرت في توجيههذه القراءة، إذ لم يذكر أحد توجيهها، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي، فقال: عي فيعيـي، وحي في حيـي. فلما أدغم، ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه، ولم يفك الإدغام فقال: عيناً، وهي لغة لبعض بكربن وائل، يقولون في رددت ورددنا: ردت وردنا، فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشدّدة مفتوحة. فلو كان ناضمير نصب، لاجتمعت العرب على الإدغام، نحو: ردّنا زيد. وقال الحسن: الخلق الأول آدم عليه السلام، والمعنى: أعجزنا عن الخلقالأول، فنعجز عن الخلق الثاني، وهذا توقيف للكفار، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم. {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ }: أي خلطوشبهة وحيرة، ومنه قول علي: يا جار إنه لملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله. {مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }: أي منالبعث من القبور. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ }: هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث، والإنسان إسمجنس. وقيل: آدم. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ }: قرب علم به وبأحواله، لا يخفى عليه شيء من خفياته، فكأن ذاته قريبة منه،كما يقال: الله في كل مكان، أي بعلمه، وهو منزه عن الأمكنة. و{حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ }: مثل في فرط القرب، كقولالعرب: هو مني مقعد القابلة، ومقعد الإزار. قال ذو الرمة:

والمـوت أدنـى لـي مـن الوريـد    

والحبل: العرق الذي شبه بواحدالحبال، وإضافته إلى الوريد للبيان، كقولهم: بعير سانية. أو يراد حبل العاتق، فيضاف إلى الوريد، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهمافي عضو واحد، والعامل في إذ أقرب. وقيل: اذكر، قيل: ويحسن تقدير اذكر، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطراتالأنفس، والقرب بالقدرة والملك. فلما تم الإخبار، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر، وتعين وروده عند السامع. فمنها: {إِذْيَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ }، ومنها مجيء سكرة الموت، ومنها: النفخ في الصور، ومنها: مجيء كل نفس معها سائق وشهيد. والمتلقيان: الملكانالموكلان بكل إنسان؛ ملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئآت. وقال الحسن: الحفظة أربعة، اثنان بالنهار واثنان بالليل. وقعيدة:مفرد، فاحتمل أن يكون معناه: مقاعد، كما تقول: جليس وخليط: أي مجالس ومخالط، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيلللمبالغة، كعليم. قال الكوفيون: مفرد أقيم مقام اثنين، والاجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، أي عن اليمينقعيد، كما قال الشاعر:

رماني بأمر كنت منه ووالدي     بريئاً ومن أجل الطوى رماني

على أحسن الوجهين فيه، أي كنت منه برياً، ووالدي برياً. ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد، وعن الشمال، فأخرقعيد عن موضعه. ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع، فلا يحتاج إلى تقدير. وقرأ الجمهور: {مَّا يَلْفِظُمِن قَوْلٍ }، وظاهر ما يلفظ العموم. قال مجاهد، وأبو الحوراء: يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقالالحسن، وقتادة: يكتبان جميع الكلام، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير ذلك. وقيل: هو مخصوص، أي منقول خير أو شر. وقال: معناه عكرمة، وما خرج عن هذا لا يكتب. واختلفوا في تعيين قعود الملكين، ولا يصحفيه شيء. {رَقِيبٌ }: ملك يرقب. {عَتِيدٌ }: حاضر، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد، فأحرى على العمل. وقال الحسن:فإذا مات، طويت صحيفته. وقيل: له يوم القيامة اقرأ كتابك. {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ }: هو معطوف على {إِذْ يَتَلَقَّى}، وسكرة الموت: ما يعتري الإنسان عند نزاعه، والباء في {بِٱلْحَقّ } للتعدية، أي جاءت سكرة الموت الحق، وهو الأمرالذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله، من سعادة الميت أو شقاوته، أو للحال، أي ملتبسه بالحق. وقرأ ابنمسعود: سكران جمعاً. {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }: أي تميل. تقول: أعيش كذا وأعيش كذا، فمتى فكر في قربالموت، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن. ومن الحيد: الحذر من الموت، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسانالذي جاءته سكرة الموت. وقال الزمخشري: الخطاب للفاجر. تحيد: تنفر وتهرب. {ذَلِكَ يَوْمَ ٱلْوَعِيدِ }، هو على حذف: أي وقتذلك يوم الوعيد. والإشارة إلى مصدر نفخ، وأضاف اليوم إلى الوعيد، وإن كان يوم الوعد والوعيد معاً على سبيل التخويف.وقرأ الجمهور: معها؛ وطلحة: بالحاء مثقلة، أدغم العين في الهاء، فانقلبتا حاء؛ كما قالوا: ذهب محم، يريد معهم، {سَائِقٌ}: جاث على السير، {وَشَهِيدٌ }: يشهد عليه. قال عثمان بن عفان، ومجاهد وغيره: ملكان موكلان بكل إنسان، أحدهما يسوقه،والآخر من حفظه يشهد عليه. وقال أبو هريرة: السائق ملك، والشهيد النبي. وقيل: الشهيد: الكتاب الذي يلقاه منشوراً، والظاهر أنقوله: {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } اسما جنس، فالسائق: ملائكة موكلون بذلك، والشهيد: الحفظة وكل من يشهد. وقال ابن عباس، والضحاك: السائقملك، والشهيد: جوارح الإنسان. قال ابن عطية: وهذا يبعد عن ابن عباس، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله: كل نفسيعم الصالحين، فإنما معناه: وشهيد بخيره وشره. ويقوى في شهيد اسم الجنس، فشهد بالخير الملائكة والبقاع، ومنه قوله صلى اللهعليه وسلم: لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة . وقال أبو هريرة:السائق ملك، والشهيد العمل. وقال أبو مسلم: السائق شيطان، وهو قول ضعيف. وقال الزمخشري: ملكان، أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخريشهد عليه بعمله؛ أو ملك واحد جامع بين الأمرين، كأنه قيل: كأنه قيل: ملك يسوقه ويشهد عليه ويحل معها سائقالنصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىءفي النحو، لأنه لو نعت كل نفس، لما نعت إلا بالنكرة، فهو نكرة على كل حال، فلا يمكن أن يتعرفكل، وهو مضاف إلى نكرة. قوله عز وجل: {لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَحَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّـٰعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ* ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَـٰهُ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ * قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِىضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ * قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ* يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَلِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ٱدْخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ * لَهُم مَّايَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }. قرأ الجمهور: {لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ }، بفتح التاء، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك؛والجحدري: بكسرها على مخاطبة النفس. وقرأ الجمهور: {عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ }، بفتح التاء والكاف، حملاً على لفظ كل من التذكير؛والجحدري، وطلحة بن مصرّف: عنك غطاءك فبصرك، بالكسر مراعاة للنفس أيضاً، ولم ينقل الكسر في الكاف صاحب اللوامح إلا عنطلحة وحده. قال صاحب اللوامح: ولم أجد عنه في {لَّقَدْ كُنتَ }. فإن كسر، فإن الجميع شرع واحد؛ وإن فتح{لَّقَدْ كُنتَ }، فحمل على كل أنه مذكر. ويجوز تأنيث كل في هذا الباب لإضافته إلى نفس، وهو مؤنث، وإنكان كان كذلك، فإنه حمل بعضه على اللفظ وبعضه على المعنى، مثل قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ }، ثم قال: { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . انتهى. قال ابن عباس، وصالح بن كيسان، والضحاك: يقال للكافر الغافل من ذوي النفسالتي معها السائق والشهيد، إذا حصل بين يدي الرحمن، وعاين الحقائق التي لا يصدق بها في الدنيا، ويتغافل عن النظرفيها: {لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـٰذَا }: أي من عاقبة الكفر. فلما كشف الغطاء عنك، احتدّ بصرك: أي بصيرتك؛وهذا كما تقول: فلان حديد الذهن. وقال مجاهد: هو بصر العين، أي احتدّ التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوالالقيامة. وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله، وهو في كتاب ابن عطية. وكنى بالغطاء عن الغفلة،كأنها غطت جميعه أو عينيه، فهو لا يبصر. فإذا كان في القيامة، زالت عنه الغفلة، فأبصر ما كان لم يبصرهمن الحق. {وَقَالَ قَرِينُهُ }: أي من زبانية جهنم، {هَـٰذَا }: العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر، {عَتِيدٌ }:حاضر، ويحسن هذا القول إطلاق ما على ما لا يعقل. وقال قتادة: قرينه: الملك الموكل بسوقه، أي هذا الكافر الذيأسوقه لديّ حاضر. وقال الزهراوي: وقيل قرينه: شيطانه، وهذا ضعيف، وإنما وقع فيه أن القرين في قوله: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف. ولفظ القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبه من الزبانية قرين، ومماشي الإنسانفي طريقة قرين. وقيل: قرينه هنا: عمله قلباً وجوارحاً. وقال الزمخشري: وقال قرينه: هو الشيطان الذي قيض له في قوله { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } ، يشهد له قوله تعالى: {قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ }، {هَـٰذَا مَا لَدَىَّعَتِيدٌ }، هذا شيء لدي، وفي ملكتي عتيد لجهنم. والمعنى: أن ملكاً يسوقه، وآخر يشهد عليه، وشيطاناً مقروناً به يقول:قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغواي وإضلالي. انتهى، وهذا قول مجاهد. وقال الحسن، وقتادة أيضاً: الملك الشهيد عليه. وقال الحسنأيضاً: هو كاتب سيئاته، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة، والظرف صلتها. وعتيد، قال الزمخشري: بدل أو خير بعد خبر،أو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. وقرأ الجمهور: عتيد بالرفع؛ وعبد الله: بالنصب على الحال، والأولى إذ ذاك أن تكون ماموصولة. {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ }: الخطاب من الله للملكين: السائق والشهيد. وقيل: للملكين من ملائكة العذاب، فعلى هذا الألفضمير الاثنين. وقال مجاهد وجماعة: هو قول إما للسائق، وإما للذي هو من الزبانية، وعلى أنه خطاب للواحد. وقال المبردمعناه: ألق ألق، فثنى. وقال الفراء: هو من خطاب الواحد بخطاب الاثنين. وقيل: الألف بدل من النون الخفيفة، أجرى الوصلمجرى الوقف، وهذه أقوال مرغوب عنها، ولا ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ لقول مجاهد. وقرأ الحسن: ألقين بنونالتوكيد الخفيفة، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف. {كُلَّ كَفَّارٍ }: أي يكفر النعمة والمنعم؛ {عَتِيدٌ }، قال قتادة: منحرفعن الطاعة. وقال الحسن: جاحد متمرد. وقال السدي: المساق من العند، وهو عظم يعرض في الحلق. وقال ابن بحر: المعجببما فيه. {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ }، قال قتادة ومجاهد وعكرمة: يعني الزكاة. وقيل: بخيل. وقيل: مانع بني أخيه من الإيمان،كالوليد بن المغيرة، كان يقول لهم: من دخل منكم فيه لم أنفعه بشيء ما عشت، والأحسن عموم الخير في المالوغيره. {مُرِيبٍ }، قال الحسن: شاك في الله أو في البعث. وقيل: متهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوباً بدلاًمن كل كفار، وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار، وأن يكون مرفوعاً بالابتداء مضمناً معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء فيخبره، وهو فألقياه. والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل، ويكون فألقياه توكيداً. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون صفةمن حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة، فجاز وصفه بهذه المعرفة. انتهى. وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لميجز أن توصف بالمعرفة. {قَالَ قرِينُهُ }: لم تأت هذه الجملة بالواو، بخلاف {وَقَالَ قَرِينُهُ } قبله، لأن هذهاستؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه، فكأن الكافر قال ربيهو أطغاني، {قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ }. وأما {وَقَالَ قَرِينُهُ } فعطف لدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ماقبلها في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين. وقول قرينه: ما قال له، ومعنى ما أطغيته: تنزيه لنفسه منأنه أثر فيه، {وَلَـٰكِن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ }: أي من نفسه لا مني، فهو الذي استحب العمى على الهدى،كقوله: { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى } ، وكذب القرين، قد أطغاه بوسوسته وتزيينه. {قَالَلاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ }: استئناف أيضاً مثل قال قرينه، كأن قائلاً قال: ما قال الله تعالى؟ فقيل: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} أي في دار الجزاء وموقف الحساب. {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } لمن عصاني، فلم أترك لكم حجة. {مَايُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ }: أي عندي، فما أمضيته لا يمكن تبديله. وقال الفراء: ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور. وقدمت:يجوز أن يكون بمعنى تقدمت، أي قد تقدم قولي لكم ملتبساً بالوعيد، أو يكون قدم المتعدية، وبالوعيد هو المفعول، والباءزائدة، والتقديم كان في الدنيا، ونهيهم عن الاختصام في الآخرة، فاختلف الزمانان. فلا تكون الجملة من قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ }حالاً إلا على تأويل، أي وقد صح عندكم أني قدمت، وصحة ذلك في الآخرة، فاتفق زمان النهي عن الاختصام، وصحةالتقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة. {وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ }: تقدم شرح مثله في أواخر آل عمران، والمعنى: لاأعذب من لا يستحق العذاب. وقرأ يوم يقول، بياء الغيبة الأعرج، وشيبة، ونافع، وأبو بكر، والحسن، وأبو رجاء، وأبوجعفر، والأعمش، وباقي السبعة: بالنون؛ وعبد الله، والحسن، والأعمش أيضاً: يقال مبنياً للمفعول وانتصاب يوم بظلام، أو بأذكر، أو بأنذركذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب بنفخ، كأنه قيل: ونفخ في الصور يوم نقول، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوميقول. انتهى، وهذا بعيد جداً، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة، فلا يناسب هذا القول فصاحةالقرآن وبلاغته. و{هَلِ ٱمْتَلاَتِ }: تقرير وتوقيف، لا سؤال استفهام حقيقة، لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم. قيل: وهذا السؤال والجوابمنها حقيقة. وقيل: هو على حذف مضاف، أي نقول لخزنة جهنم، قاله الرماني. وقيل: السؤال والجواب من باب التصوير الذييثبت المعنى، أي حالها حال من لو نطق بالجواب لسائله لقال كذا، وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكنملأى. فقولها: {مِن مَّزِيدٍ }، سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فيها. وقال الحسن، وعمرو، وواصل: كانت ملأى وقتالسؤال، فلا تزداد على امتلائها، كما جاء في الحديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما تركه ومزيد يحتملأن يكون مصدر أو اسم مفعول. {غَيْرَ بَعِيدٍ }: مكاناً غير بعيد، وهو تأكيد لأزلفت، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار.فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان، فأعربت بإعرابه. وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة.قال: وتذكيره يعني بعيد، لأنه على زنة المصدر، كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. انتهى. وكونه علىوزن المصدر، لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث. وقال الزمخشري أيضاً: أو على حذف الموصوف، أي شيئاً غير بعيد.انتهى. وكأنه يعني إزلافاً غير بعيد، هذا إشارة للثواب. وقرأ الجمهور: {مَّا تُوعَدُونَ }؛ خطاب للمؤمنين؛ وابن كثير، وأبوعمرو: بياء الغيبة، أي هذا القول هو الذي وقع الوعد به، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل. و{لِكُلّ أَوَّابٍ}: هو البدل من المتقين. {مَّنْ خَشِىَ }: بدل بعد بدل تابع {لِكُلّ }، قاله الزمخشري. وإنما جعله تابعاً {لِكُلّ}، لا بدلاً من {لّلْمُتَّقِينَ }، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد. قال: ويجوز أن يكون بدلاً منموصوف أواب وحفيظ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ، لأن من لا يوصف به، ولا يوصف من بينسائر الموصولات إلا بالذي. انتهى. يعني بقوله: في حكم أو أب: أن يجعل من صفته، وهذا حكم صحيح. وأما قوله:ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي، فالحصر ليس بصحيح، قد وصفت العرب بما فيه أل، وهو موصول، نحو القائموالمضروب، ووصفت بذو الطائية، وذات في المؤنث. ومن كلامهم: بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامة ذات أكرمك الله به، يريدبالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغاتذلك. وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف، تقديره: يقال لهم ادخلوها، لأن من في معنى الجمع، وأنتكون شرطية، والجواب الفعل المحذوف، أي فيقال: وأن يكون منادى، كقولهم: من لا يزال محسناً أحسن إليّ، وحذف حرف النداءللتقريب. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون من نعتاً. انتهى، وهذا لا يجوز، لأن من لا ينعت بها، وبالغيب حالمن المفعول، أي وهو غائب عنه، وإنما أدركه بالعلم الضروري، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع. ويجوز أنتكون صفة لمصدر خشي، أي خشية خشيه ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعدهبه من عذابه. وقيل: في الخلوة حيث لا يراه أحد، فيكون حالاً من الفاعل. وقرن بالخشية الرحمن بناء على الخاشي،حيث علم أنه واسع الرحمة، وهو مع ذلك يخشاه. {ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ }: أي سالمين من العذاب، أو مسلماً عليكممن الله وملائكته. {ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ }: كقوله: { فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ } : أي مقدرين الخلود، وهو معادل لقوله في الكفار: {ذَلِكَيَوْمَ ٱلْوَعِيدِ }. {لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا }: أي ما تعلقت به مشيئاتهم من أنواع الملاذ والكرمات، كقوله تعالى: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } . {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }: زيادة، أو شيء مزيد على ما تشاءون، ونحوه: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، وكما جاء في الحديث: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما اطلعتهم عليه ، ومزيد مبهم، فقيل: مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها. وقيل: أزواج من حور الجنة. وقيل:تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه. قوله عز وجل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْفِى ٱلْبِلَـٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ *وَلَقَدْ خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَوَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ * وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ * وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِنمَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُٱلاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُوَعِيدِ }. أي كثيراً. {أَهْلَكْنَا }: أي قبل قريش. {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً }، لكثرة قوتهم وأموالهم. وقرأ الجمهور:{فَنَقَّبُواْ }، بفتح القاف مشددة، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم، أي دخلوا البلاد من أنقابها. والمعنى: طافوافي البلاد. وقيل: نقروا وبحثوا، والتنقيب: التنقير والبحث. قال امرؤ القيس في معنى التطواف:

وقد نقبت في الآفاق حتى     رضيت من الغنيمة بالإياب

وروي: وقد طوفت. وقال الحارث بن خالدة:

نقبوا في البلاد من الموت     وجالوا في الأرض كل مجال

وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه. ويجوز أنيعود الضمير في فنقبوا على قريش، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم؟ ويدلعلى عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس، وابن يعمر، وأبي العالية، ونصر بن يسار، وأبي حيوة، والأصمعي عنأبي عمرو: بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا. وقرىء: بكسر القاف خفيفة، أي نقبتأقدامهم وأخفاف إبلهم، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى. ويحتمل أن يكون {هَلْمِن مَّحِيصٍ } على إضمار القول، أي يقولون هل من محيص من الهلاك؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول، أيلا محيص من الموت، فيكون توفيقاً وتقريراً. {إِنَّ فِى ذَلِكَ }: أي في إهلاك تلك القرون، {لِذِكْرِى }: لتذكرةواتعاظاً، {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }: أي واع، والمعنى: لمن له عقل وعبر عنه بمحله، ومن له قلب لا يعي،كمن لا قلب له. وقرأ الجمهور: {أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ }، مبنياً للفاعل، والسمع نصب به، أي أو أصغى سمعه مفكراًفيه، و{شَهِيدٌ }: من الشهادة، وهو الحضور. وقال قتادة: لمن كان له، قيل: من أهل الكتاب، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمهبذلك من التوراة، فشهيد من الشهادة. وقرأ السلمي، وطلحة، والسدي، وأبو البر هثيم: أو ألقى مبنياً، للمفعول، السمع: رفع به،أي السمع منه، أي من الذي له قلب. وقيل: المعنى: أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضرذهنه، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن. وذكر لعاصم أنها قراءة السدي، فمقته وقال: أليس يقوليلقون السمع؟ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }: نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم: إنه تعالى استراح منخلق السموات والأرض، {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }: يوم السبت، واستلقى على العرش، وقيل: التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنماأخذ من اليهود. {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }: احتمل أن تكون جملة حالية، واحتمل أن تكون استئنافاً؛ واللغوب: الإعياء. وقرأالجمهور: بضم اللام، وعلي، والسلمي، وطلحة، ويعقوب، بفتحها، وهما مصدران، الأول مقيس وهو الضم، وأما الفتح فغير مقيس، كالقبول والولوع،وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة. {فَٱصْبِرْ }، قيل: منسوخ بآيةالسيف، {عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }: أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم، {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ }، أي فصلّ، {قَبْلَ طُلُوعِٱلشَّمْسِ }، هي صلاة الصبح، {وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ }: هي صلاة العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور. وقال ابن عباس: قبلالغروب: الظهر والعصر. {وَمِنَ ٱلَّيْلِ }: صلاة العشاءين، {وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ }: ركعتان قبل المغرب. وفي صحيح مسلم، عن أنس مامعناه: أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب. وقال قتادة: ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي. وقال بعضالتابعين: كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة. وقال ابن زيد: هي العشاء فقط. وقال مجاهد: هي صلاة الليل.{وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ }، قال أبو الأحوص: هو التسبيح في أدبار الصلوات. وقال عمر، وعليّ، وأبو هريرة، والحسن، والشعبي، وإبراهيم، ومجاهد،والأوزاعي: هما ركعتان بعد المغرب. وقال ابن عباس: هو الوتر بعد العشاء. وقال ابن عباس، ومجاهد أيضاً، وابن زيد: النوافلبعد الفرائض. وقال مقاتل: ركعتان بعد العشاء، يقرأ في الأولى: { قُلْ يٰأَهْلَ * أَيُّهَا * ٱلْكَـٰفِرُونَ } ، وفي الثانية: { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } . وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، والأعمش، وطلحة، وشبل، وحمزة، والحرميان: وإدبار بكسر الهمزة، وهومصدر، تقول: أدبرت الصلاة، انقضت ونمت. وقال الزمخشري وغيره: معناه ووقت انقضاء السجود، كقولهم: آتيك خفوق النجم. وقرأ الحسن والأعرجوباقي السبعة: بفتحها، جمع دبر، كطنب وأطناب، أي وفي أدبار السجود: أي أعقابه. قال أوس بن حجر:

على دبر الشهر الحرام فأرضنا     وما حولها جدب سنون تلمع

{وَٱسْتَمِعْ }: أمر بالاستماع، والظاهر أنه أريدبه حقيقة الاستماع، والمستمع له محذوف تقديره: واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأنالمخبر به، كما قال رسول الله لمعاذ: يا معاذ اسمع ما أقول لك ، ثم حدثه بعدذلك. وانتصب {يَوْمٍ } بما دل عليه ذلك. {يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ }: أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. وقيل: مفعولاستمع محذوف تقديره: نداء المنادي. وقيل تقديره: نداء الكافر بالويل والثبور. وقيل: لا يحتاج إلى مفعول، إذ حذف اقتصاراً، والمعنى:كن مستمعاً، ولا تكن غافلاً معرضاً. وقيل معنى واستمع: وانتظر، والخطاب لكل سامع. وقيل: للرسول، أي ارتقبه، فإن فيه تبينصحة ما قلته، كما تقول لمن تعده بورود فتح: استمع كذا وكذا، أي كن منتظراً له مستمعاً، فيوم منتصب علىأنه مفعول به. وقرأ ابن كثير: المنادى بالياء وصلاً ووقفاً، ونافع، وأبو عمرو؛ بحذف الياء وقفاً، وعيسى، وطلحة، والأعمش، وباقيالسبعة: بحذفها وصلاً ووقفاً اتباعاً لخط المصحف، ومن أثبتها فعلى الأصل، ومن حذفها وقفاً فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوينألفاً نصباً، والتاء هاء، ويشدّد المخفف، ويحذف الحرف في القوافي. والمنادي في الحديث: أن ملكاً ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى . {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ }: وصفه بالقرب منحيث يسمع جميع الخلق. قيل: والمنادي إسرافيل، ينفخ في الصور وينادي. وقيل: المنادي جبريل. وقال كعب، وقتادة وغيرهما: المكان صخرةبيت المقدس، قال كعب: قربها من السماء بثمانية عشر ميلاً، كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب الزمخشري: باثني عشرميلاً، وهي وسط الأرض. انتهى، ولا يصح ذلك إلا بوحي. {يَوْمَ يَسْمَعُونَ }: بدل من {يَوْمٍ * يُنَادِى }،و{ٱلصَّيْحَةَ }: صيحة المنادي. قيل: يسمعون من تحت أقدامهم. وقيل: من تحت شعورهم، وهي النفخة الثانية، و{بِٱلْحَقّ } متعلق بالصيحة،والمراد به البعث والحشر. {ذٰلِكَ }: أي يوم النداء والسماع، {يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } من القبور، وقيل: الإشارة بذلك إلى النداء،واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر، أو يكون على حذف، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج، أو وقت النداءيوم الخروج. وقرأ نافع، وابن عامر: تشقق بشدّ الشين؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. وقرىء: تشقق بضم التاء، مضارع شققت على البناءللمفعول، وتنشق مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي: تشقق بفك الإدغام، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّمن تأليفه، ويوم بدل من يوم الثاني. وقيل: منصوب بالمصدر، وهو الخروج. وقيل: المصير، وانتصب {سِرَاعاً } على الحال منالضمير في عنهم، والعامل تشقق. وقيل: محذوف تقديره يخرجون، فهو حال من الواو في يخرجون، قاله الحوفي. ويجوز أن يكونهذا المقدر عاملاً في {يَوْمَ تَشَقَّقُ }. {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ }: فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة، وهو علينا،أي يسير علينا، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة. وقال الزمخشري: {عَلَيْنَا يَسِيرٌ }، تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعني لايتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وٰحِدَةٍ } . انتهى، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص،وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ }: هذا وعيد محضللكفار وتهديد لهم، وتسلية للرسول . {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ }: بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان، قالهالطبري. وقيل: التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم. {فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }: لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غيرمصدّق بوقوعه لا يذكر، إذ لا تنفع فيه الذكرى، كما قال: { وَذَكّرْ فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، وختمت بقوله: {فَذَكّرْبِٱلْقُرْءانِ }، افتتحت بـ{ق وَٱلْقُرْءانِ }.