تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة النساء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } * { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } * { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ } * { وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } * { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } * { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } * { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } * { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } * { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }[عدل]

الرقيب: فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً، أحد النظر إلى أمرليتحققه على ما هو عليه. ويقترن به الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم: رقيب. وقال أبو داود:كمقاعد الرقباء للضـــضرباء أيديهم نواهد     

والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. والرقيب: ضرب من الحيات، والمرقب: المكانالعالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب. والارتقاب: الانتظار. الحوب: ازثم. يقال: حاب يحوب حوباً وحوباً وحاباً وحؤوباً وحيابه. قال:المخبل السعدي.فلا يدخلني الدهر قبرك حوب      فإنك تلقاه عليك حسيب

وقال آخر:وإن تهاجرين تكففاه      غرايته لقد خطيا وحابا

وقيل: الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوَّب الرجل ألقى الحوبعن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج. وفلان يتحوب من كذا يتوقع. وأصل الحوب: الزجر للإبل، فسمى الإثم حوباً لأنه يزجر عنه،وبه الحوبة الحاجة، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي. ويقال: الحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة. مثنى وثلاثورباع: معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلىغاية المعدود. كقوله: ونفروا بعيراً بعيراً، وفصلت الحساب لك باباً باباً، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل. والوصف على مذهب سيبويهوالخليل وأبي عمرو، وأجاز الفرّاء أن تصرف، ومنع الصرف عنده أولى. وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام، وامتنععنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام. وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة، وقد ذكرنا الردّ عليه فيكتاب التكميل من تأليفنا. وقال الزمخشري: إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكريرها.وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه. وما ذهب إليه من امتناع الصرف لمافيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكرّرها، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك، بل المذاهب في علة منعالصرف المنقولة أربعة: أحدها: ما نقلناه عن سيبويه. والثاني: ما نقلناه عن الفراء. والثالث: ما نقل عن الزجاج وهو لأنهامعدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وأنه عدل عن التأنيث. والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويينأن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه. وذلك أنه لايستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبلهجمع، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل. فإذا قال: جاءني القوم مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين.فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الأخبار عن مقدار المعدودون غيره. فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلكجاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب. وقد ردّ الناس علىالزجاج قوله: أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة،فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته. وأما قوله: يعرفن بلام التعريف،يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، فهو معترض من وجهين: أحدهما: زعمه أنها تعرف بلام التعريف، وهذا لم يذهب إليهأحد، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات. والثاني: أنه مثل بها، وقد وليت العوامل في قوله: فلان ينكحالمثنى، ولا يلي العوامل، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل، ولا تقع إلا خبراً كما جاء: {صَـلَوٰةِ * ٱلَّيْلَ * مَثْنَىٰ}. أو حالاً نحو:

{ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ }

أو صفه نحو:

{ أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ }

وقوله:ذئـاب يبغى النـاس مثنـى وموحـدا     

وقد تجيء مضافة قليلاً نحو، قول الآخر:بمثـنى الزقـاق المتـرعـات وبـالجـزر     

وقد ذكر بعضهم أنها تليالعوامل عل قلة، وقد يستدل له بقول الشاعر:ضربت خماس ضربة عبشمي      أدار سداس أن لا يستقيما

ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث، فلا تقول: مثناة، ولا ثلاثة، ولا رباعة، بل يجري بغيرتاء على المذكر والمؤنث. عال: يعول عولاً وعيالة، مال. وميزان فلان عائل. وعال الحاكم في حكمه جار، وقال أبو طالبفي النبي :له شاهد من نفسه غير عائل     

وحكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول: عال الرجليعول كثر عياله. ويقال: عال يعيل افتقر وصار عالة. وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه: «ابدأ بنفسك ثم بمنتعول» والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة. وجماع القول في عال: أنها تكون لازمة ومتعدية. فاللازمة بمعنى: مال، وجار،وكثر عياله، وتفاقم، وهذا مضارعه يعول. وعال الرجل افتقر، وعال في الأرض ذهب فيها، وهذا مضارعه يعيل. والمتعدية بمعنى أثقل،ومان من المؤنة. وغلب منه أعيل صبري وأعجز. وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء، تقول: عالني الشيء يعيلنيعيلاً ومعيلاً أعجزني، وباقي المتعدّي من ذوات الواو. الصدقة على وزن سمرة المهر، وقد تسكن الدال، وضمها وفتح الصادلغة أهل الحجاز. ويقال: صدقة بوزن غرفة. وتضم داله فيقال: صدقة وأصدقها أمهرها. النحلة: العطية عن طيب نفس. والنحلةالشرعة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينحل بكذا أي يدين به. هنيئاً مريئاً: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذاكان سائغاً لا تنغيص فيه. ويقال: هنا يهنا بغير همز، وهنأني الطعام ومرّأني، فإذا لم تذكر هنأني قلت: أمرأني رباعياً،واستعمل مع هنأني ثلاثياً للاتباع. قال سيبويه: هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل،للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى. وقال كثير:هنيئاً مريئاً غير داء مخامر      لعزة من أعراضنا ما استحلت

قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلىبه من الجرب، ويوضع في عقره. ومنه قوله:متبذل تبدو محاسنه      يضع الهناء مواضع النقب

والمريء ما يساغ في الحلق، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة: المريء. آنس كذاأحس به وشعر. قال:آنست شاة وأفزعها القنـــاص عصراً وقددنا الامساء     

وقال الفراء: وجد. وقال الزجاج: علم. وقال عطاء:أبصر. وقال ابن عباس: عرف. وهي أقوال متقاربة. السديد من القول هو الموافق للحق منه.أعلمه الرماية كل يوم      فلما اشتدّ ساعده رماني

المعنى: لما وافق الأغراض التي يرمي إليها. صلى بالنار تسخن بها،وصليته أدنيته منها. التسعير: الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها، ومنه مسعر حرب. {تُفْلِحُونَ يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىخَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلاقوله تعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلاحمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا }

. وقال النحاس: مكية. وقال النقاش: نزلت عند الهجرة منمكة إلى المدينة انتهى. ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة. وفي البخاري: آخر آية نزلت

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ }

. ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أوليالألباب، ونبه تعالى بقوله:

{ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ }

على المجازاة.و أخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصلالتوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدمالاختلاف، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى، طائعاً له، فكذلك ينبغي أن تكونفروعه التي نشأت منه. فنادى تعالى: دعاء عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالىإياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة. ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفعوالضر فهو جدير بأنْ يتقي. ونبه بقوله: من نفس واحدة، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناسإلى بعض، وألف له دون غيره، ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس: العموم، لأن الألف واللام فيه تفيده،وللأمر بالتقوى وللعلة، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان. وقيل: المراد بالناس أهل مكة، كان صاحب هذا القول ينظر إلىقوله:

{ تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلاْرْحَامَ }

لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك. يقول: أنشدك بالله وبالرحم. وقيل: المراد المؤمنون نظراً إلىقوله:

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }

وقوله: «المسلم أخو المسلم» والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرةفقط، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية، لأنهم غير عارفين بالله، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوانحو:

{ يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }

وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكرالنعم لمعرفتهم بالربوبية. قيل: وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين: إحداهما: هذه وهي الرابعة من النصف الأول. والثانية: سورة الحج،وهي الرابعة من النصف الثاني. وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد.وبدأ بالمبدأ بأنه الأول، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب، ولذلك فسر باجتناب ماجاء فيه الوعيد. وقيل: يجوز أن يكون أراد بالتقوى خاصة، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعواما يجب عليهم وصله. فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكمعلى بعض ولبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة. وقال ابن عباس: المراد بالتقوى الطاعة.وقال مقاتل: الخشية. وقيل: اجتناب الكبائر والصغائر. والمراد بقوله: من نفس واحدة آدم. وقرأ الجمهور: واحدة بالتاء على تأنيث لفظالنفس. وقرأ ابن أبي عبلة: واحد على مراعاة المعنى، إذ المراد به آدم، أو على أن النفس تذكر وتؤنث، فجاءتقراءته على تذكير النفس. ومعنى الخلق هنا: الاختراع بطريق التفريع، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر:إلى عرق الثرى وشجت عروقي      وهذا الموت يسلبني شبابي

قال: في ري الظمآن، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصلالذي يرجع إليه، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع. وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية، وإلالقال: أخرجكم من نفس واحدة، فأضاف خلقنا إلى آدم، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلتبمن اتصل به من أولاده، ولكنه الأصل انتهى. وقال الأصم: لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة،بل السمع. ولما كان أميّاً ما قرأ كتاباً، كان معنى خلقكم دليلاً على التوحيد، ومن نفسواحدة دليلاً على النبوّة انتهى. وفي قوله: من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر، لتعريفه إياهم بأنهم منأصل واحد ودلالة على المعاد، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى. وزوجها:هي حواء. وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه، وبه قال: ابن عباس،ومجاهد، والسدّي. وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشاً في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعهالقصرى من شماله. وقيل: من يمينه، فحلق منها حواء. قال ابن عطية: ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليهالسلام: إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها . انتهى. ويحتمل أن يكون ذلك على جهةالتمثيل لاضطراب أخلاقهن، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة، أي: صعبات المراس، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان منعجل. ويؤيد هذا التأويل قوله: إن المرأة، فأتى بالجنس ولم يقل: إن حوّاء. وقيل: هو على حذف مضاف، التقدير: وخلقمن جنسها زوجها قاله: ابن بحر وأبو مسلم لقوله:

{ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً }

{ وَرَسُولاً * مِنْهُمْ }

. قال القاضي: الأولأقوى، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة. ويمكن أن يجاب عنهبأن كلمة من لابتداء الغاية، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة. ولما كانقادراً على خلق آدم من التراب كان قادراً على خلق حواء أيضاً كذلك. وقيل: لا حذف، والضمير في منها، ليسعائداً على نفس، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم. وخلقت منها حواء أي: أنها خلقت مماخلق منه آدم. وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم: أنها خلقت وآدم في الجنة، وبه قال: ابن مسعود. وقيل:قبل دخوله الجنة وبه قال: كعب الأحبار ووهب، وابن إسحاق. وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها، منأنَّ خلق حواء كان قبل خلق الناس. إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية، وإنماتقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس، وإن كان مدلولها واقعاً بعد خلق حواء، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم. فكانذكر ما تعلق بهم أولاً آكد، ونظيره:

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }

ومعلوم أنّ خلقهمتأخر عن خلق من قبلهم. ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولاً، ثمذكر إنشاء من كان قبلهم. وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخراً عن ما عطف عليه، فقدر معطوفاًعليه محذوفاً متقدماً على المعطوف في الزمان، فقال: يعطف على محذوف كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلقمنها زوجها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلقمنها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها. ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على مااقتضته العربية. وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال: يعطف على خلقكم. ويكون الخطاب في: يا أيها الناس الذين بعث إليهمرسول الله . والمعنى: خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكمحوّاء انتهى. ويجوز أن يكون قوله: وخلق منها زوجها معطوفاً على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت،أي انفردت. وخلق منها زوجها، فيكون نظير

{ صَــٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ }

وتقول العرب: وحد يحد وحدا ووحدة، بمعنى انفرد. ومنغريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام: إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة وعنى بزوجها البدن، وعنى بالخلق التركيب. وإلى نحوه أشار بقوله تعالى:

{ وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }

وقوله:

{ سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى خَلَق ٱلاْزْوٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلاْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ }

ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنىالتركيب. وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالىانتهى. وهذا مخالف لكلام المتقدمين، قال بعضهم: ونبه بقوله: وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها، لكونها بعضه. وبث منهما أيمن تلك النفس، وزوجها أي: نشر وفرق في الوجود. ويقال: أبث الله الخلق رباعياً، وبث ثلاثياً، وهو الوارد في القرآنرجالاً كثيراً ونساء. قيل: نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم علىالنساء، وخص رجالاً بذكر الوصف بالكثرة، فقيل: حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه، والتقدير: ونساء كثيرة. وقيل: لا يقدرالوصف وإن كان المعنى فيه صحيحاً، لأنّه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة، على أن اللائف بحالهم الاشتهار والخروج والبروز، واللائقبحال النساء الخمول والاختفاء. وفي تنويع ما خلق من آدم وحوّاء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى، إذ حصرما خلق في هذين النوعين، فإنْ وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين. وقرىء: وخالق منهازوجها، وبات على اسم الفاعل وهو: خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق. {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلاْرْحَامَ }كرر الأمر بالتقوى تأكيداً للأول. وقيل: لاختلاف التعليل وذكر أولاً: الرب الذي يدل على الإحسان والتربية، وثانياً: الله الذي يدلعلى القهر والهيبة. بنى أولاً على الترغيب، وثانياً على الترهيب. كقوله:

{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً }

و

{ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً }

كأنه قال: إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب. وقرأ الجمهور منالسبعة: تساءلون. وقرأ الكوفيون: بتخفيف السين، وأصله تتساءلون. قال ابن عطية: وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً، وهذه تاءتتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة. قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال،كما قالوا: طست فابدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس. قال العجاج:لو عرضت لأسقفي قسأشعث في هيكله مندسحن إليها كحنين الطس     

انتهى. أما قول ابن عطية: حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة. وذهب هشام بن معاوية الضريرالكوفي: إلى أنّ المحذوفة هي الأولى، وهي تاء المضارعة، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله: وهذهتاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل، والإدغاموهو قريب من الأصل، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم. والحذف. أما الإدغام فلايختص به، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاءمن المضارع، فقوله: لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه، أو تعليل الحذف والإدغام، وليس كذلك. أما إن كانتعليلاً فليس كذلك، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة. وأما إن كان تعليلاً لهما فيصح الإدغام لا الحذف كماذكرنا. وأما قول أبي علي: إذا اجتمعت المتقاربة فكذا، فلا يعني أن ذلك حكم لازم، إنما معناه: أنه قديكون التخفيف بكذا، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل. وأما تمثيله بطست فيطس فليس البدل هنا لاجتماع، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت. ومعنى يتساءلون به: أي يتعاطونبه السؤال، فيسأل بعضكم بعضاً. أو يقول: أسألك بالله أن تفعل، وظاهر تفاعل الاشتراك أي: تسأله بالله، ويسألك بالله. وقالتطائفة: معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظماً لها. وقرأ عبد الله: تسألون به مضارع سأل الثلاثي. وقرى: تسلون بحذف الهمزةونقل حركتها إلى السين. قال ابن عباس: معنى تساءلون به أي تتعاطفون. وقال الضحاك والربيع: تتعاقدون وتتعاهدون. وقال الزجاج:تتطلبون به حقوقكم والأرحام. قرأ جمهور: السبعة بنصب الميم. وقرأ حمزة: بجرها، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش. وقرأعبد الله بن يزيد: بضمها، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفاً على لفظ الجلالة، ويكون ذلك على حذف مضاف، التقدير:واتقوا الله، وقطع الأرحام. وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم. والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحامهذا القدر المشترك، وإن اختلف معنى التقويين، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطعفيما يفضل بالبر والإحسان، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي: كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة؟ ونقول أيضاً أنهفي الحقيقة من باب عطف الخاص على العام، لأن المعنى: واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله. وفي عطف الأرحام علىاسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم، وانظر إلى قوله:

{ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ }

كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق. وفي الحديث: من أبرّ؟ قال: أمّك وفيه: أنت ومالك لأبيك وقالتعالى في ذم من أضله: من الفاسقين

{ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ }

. وقيل: النصب عطفاً على موضع به كما تقول: مررت بزيد وعمراً. لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبععلى موضعه. ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله: تساءلون به وبالأرحام. أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدرهابن عطية: والأرحام أهل أن توصل. وقدره الزمخشري: والأرحام مما يتقي، أو مما يتساءل به، وتقديره أحسن من تقدير ابنعطية، إذا قدر ما يدل عليه اللفظ السابق، وابن عطية قدر من المعنى. وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمرالمجرور من غير إعادة الجار، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد. ويؤيده قراءة عبد الله: وبالأرحام. وكانوا يتناشدون بذكر اللهوالرحم. قال الزمخشري: وليس بسديد يعني: الجر عطفاً على الضمير. قال: لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيءواحد، فكانا في قولك: مررت به وزيد، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعضالكلمة فلم يجر، ووجب تكرير العامل كقولك: مررت به وبزيد، وهذا غلامه وغلام زيد. ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً،ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار،ونظير هذا قول الشاعر:فما بك والأيام من عجب     

وقال ابن عطية: وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لاتجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض. قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان،يحل كل واحدمنهما محل صاحبه. فكما لا يجوز مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عندهقبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال:فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا     فاذهب فما بك والأيام من عجب

وكما قال:تعلق في مثل السواري سيوفنا      وما بينها والكف غوط تعانف

واستسهلها بعض النحويينانتهى كلام ابن عطية. وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول: رأيتك وزيداً، ولا يجوز رأيت زيداوك، فكان القياس رأيتكوزيداً، أن لا يجوز. وقال ابن عطية أيضاً: المضمر المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف.ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما: أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحضعلى تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفريق في معنى الكلام. وغضمن فصاحته، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني: أن في ذكرها على ذلك تقديرالتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله : من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت انتهى كلامه. وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف، والمتلقى به القسم هي الجملةبعده. ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى،وذهبوا إلى تخريج ذلك فراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاًعلى صلتها وتعظيماً لشأنها، وأنها من الله تعالى بمكان. قال ابن عطية: وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى. وماذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية: من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهملذلك غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز. وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى:

{ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }

. وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرنا ونظمها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وأما قولابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه. إذ عمدإلى قراءة متواترة عن رسول الله قرأ بها سلف الأمة، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقواالقرآن من في رسول الله بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت. وأقرأ الصحابةأُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيراًما يطعن في نقل القراء وقراءتهم، وحمزة رضي الله عنه: أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمدان بن أعين،ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر.وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة،وأم الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم: سفيان الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهمإمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربيةأبو الحسن الكسائي. وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيـى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. وإنما ذكرت هذا وأطلتفيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها، فيقارب أن يقع فيالكفر بالطعن في ذلك. ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلامالعرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علمالعربية، لا صحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى، وإن كان موضوع كانذلك، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا، والرقيب تقدم شرحه في المفردات. وقال بعضهم: هناهو العليم، والمعنى: أنه مراع لكم لايخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه {وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ } قال مقاتل والكلبي: نزلتفي رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه. ومناسبتها لما قبلهاأنه لما وصل الأرحام أتبع بالأيتام، لأنهم صاروا بحيث لا كافل لهم، ففارق حالهم حال مَن له رحم ماسه. وظاهرهالأمر بإعطاء اليتامى أموالهم. واليتم في بني آدم: فقد الأب، وهو جمع يشمل الذكور والإناث. وينقطع هذا الاسم شرعاًبالبلوغ، فلا بد من مجاز، ما في اليتامى لإطلاقه على البالغين اعتباراً وتسمية بما كانوا عليه شرعاً قبل البلوغ مناسم اليتم، فيكون الأولياء قد أمروا بأن لا تؤخر الأموال عن حد البلوغ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد. وأمّاأن يكون المجاز في أوتوا، ويكون معنى إيتاؤهم الأموال: الإنفاق عليهم منها شيئاً فشيئاً، وأن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء،ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة. وعلى كلا المعنيين الخطاب لمن له وضع اليد على مال اليتيم شرعاً. وقال ابن زيد: الخطابلمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيهاالكبار حظوظكم حلالاً طيباً حراماً خبيثاً، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً. وقيل: كان الولي يربح على يتيمه فتستنفد تلك الأرباح مالاليتيم، فنهوا عن ذلك. واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على السفيه لا يحجر عليه بلوغه خمساً وعشرين سنة. قال:لأن وآتوا اليتامى مطلق يتناول سفيهاً وغيره، أونس منه الرشد أولاً، ترك العمل به قبل السن المذكور بالإنفاق على أنإيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال إليه، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجبإجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهره. وأجيب بأنّ هذه الآية عامة وخصصت بقوله: وابتلوا اليتامى ولا تؤتوا السفهاء،ولا شك أن الخاص مقدم على العام {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيّبِ } قال ابن المسيب والنخعي والزهر والضحاك والسدي: كانبعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزيف من ماله. وقال مجاهد وأبو صالح: المعنىولا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله. وقيل: المعنى ولا تأكلوا أموالهم خبيثاً وتدعواأموالكم طيباً. وقيل: المعنى لا تأخذوا مال اليتيم وهو خبيث ليؤخذ منكم المال الذي لكم وهو طيب. وقيل: لا تأكلواأموالهم في الدنيا فتكون هي نار تأكلونها وتتركون الموعود لكم في الآخرة بسبب إبقاء الخبائث والمحرمات، وقيل: لا تستبدلوا الأمرالخبيث وهو: اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو: حفظها والتورع منها. وتفعل هنا بمعنى استفعل كتعجل، وتأخر بمعنى استعجل واستأخر.وظاهره أن الخبيث والطيب وصفان في الأجرام المتبدلة والمتبدل به، فإما أن يكون ذلك باعتبار اللغة فيكونان بمعنى الكريه المتناولواللذيذ، وإما أن يكون باعتبار الشرع فيكونان بمعنى الحرام والجلال. أما أن يكونا وصفين لاختزال الأموال وحفظها ففيه بعد ظاهر،وإن كان له تعلق ما بقوله: وآتوا اليتامى أموالهم. وقرأ ابن محيصن: ولا تبدلوا بإدغام التاء الأولى في الثانية.{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ } لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى، ارتقى فيالنهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال وهو: أكل أموال اليتامى فنهوا عنه. ومعنى إلى أموالكم: قيل مع أموالكم، وقيل:إلى في موضع الحال التقدير: مضمومة إلى أموالكم. وقيل: تتعلق بتأكلوا على معنى التضمين أي: ولا تضموا أموالهم في الأكلإلى موالكم. وحكمة: إلى أموالكم، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق، أنه تنبيه على غنى الأولياء. كأنهقيل: ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال أي: مع غناكم، لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيراً أن يأكلبالمعروف. وهذا نص على النهي عن الأكل، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه. وقال مجاهد: الآية ناهية عن الخلطفي الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى:

{ وإن تخالطوهم فإخوانكم }

. وقال الحسن قريباً من هذا. قال: تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط، فاجتنبوه من قبل أنفسهم،فخفف عنهم في آية البقرة. وحسَّ هذا القول الزمخشري بقوله: وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بينأموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. قال: (فإن قلت) قد حرم عليهم أكل مالاليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ (قلت): لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهمالله من مال حلال، وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق. ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فتعي عليهمفعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم انتهى كلامه. وملخصه أن قوله: إلى أموالكم ليس قيداً للاحتراز، إنما جيء به لتقبيحفعلهم، ولأن يكون نهياً عن الواقع، فيكون نظير قوله:

{ أَضْعَـٰفاً مُّضَـٰعَفَةً }

وإن كان الربا على سائر أحواله منهياً عنه.وما قدمناه نحن يكون ذلك قيداً للاحتراز، فإنه إذا كان الولي فقيراً جاز أن يأكل بالمعروف، فيكون النهي منسحباً علىأكل مال اليتيم لمن كان غنياً كقوله:

{ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ }

. {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } قرأ الجمهوربضم الحاء، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم، وبعض القراء: إنه كان حاباً كبيراً، وكلها مصادر. قال ابن عباسوالحسن وغيرهما: الحوب الإثم. وقيل: الظلم. وقيل: الوحشة. والضمير في إنه عائد على الأكل. وقيل: على لتبدل. وعوده على الأكلأقرب لقربه منه، ويجوز أن يعود عليهما. كأنه قيل: إن ذلك كما قال:فيها خطوط من سواد وبلق      كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان ذلك {وَإِنْ خِفْتُمْ * أَن لا *تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰفَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ } ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت: {نزلت فيأولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن. قيل لهم: أقسطوا في مهورهن،فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الاجنبيات اللواتي بما كسن في حقوقهن. وقاله أيضاً ربيعة. وقالعكرمة: نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه، فقيلله: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا. وقال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والسدي: كانت العرب تتخرجفي أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، يتزوجون العشرة فأكثر، فنزلت في ذلك: كما تخافون أن لا تقسطوافي اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الحور عنه. وقال مجاهد: إنما الآية تحذير منالزنا وزجر عنه، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا على ما حد لكم. وعلى هذه الأقوالغير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصاً بالإناث كأنه قيل في يتامىالنساء. والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير: وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ماطاب لكم من غيرهن، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم، ونهوا عن الاستبدال المذكور، وعن أكل أموال اليتامى، كان فيذلك مزيداً اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى:

{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً }

فحوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي: في نكاح يتامى النساء،فانكحوا غيرهن، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى. فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلقعلى الصغيرات اللاتي لم يبلغن. وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال: أما بعدالبلوغ فليست يتيمة، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها. خلافاً لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا:لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي، فيندرج فيه البالغات، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيتُ، فأي معنىللعدول إلى نكاح غيرها؟ والجواب: أن العدول إنما كان لأن الوليّ يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته،وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ. ومعنى:خفتم حذرتم، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر. وقال أبو عبيدة: معنى خفتم هنا أيقنتم، وخافتكون بمعنى أيقن، ودليله قول الشاعر:فقلـت لهـم خـافوا بـألفي مـدحـج     

وما قاله لا يصح، لا يثبت منكلام العرب خاف بمعنى أيقن، وإنما خاف من أفعال التوقع، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين. وقد روى ذلكالبيت: فقلت لهم: ظنوا بألفي مدحج. هذه الرواية أشهر من خافوا. قال الراغب: الخوف يقال فيما فيه رجاء مّا، ولهذالا يقال: خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء، أو نسف الجبال انتهى. ومعنى أن لا تقسطوا أي: أنلا تعدلوا. أي: وإن خفتم الجوز وأقسط: بمعنى عدل. وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط، والمشهور فيقسط أنه بمعنى جار. وقال الزجاج: ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل. فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانتلا زائدة، أي: وإن خفتم أن تقسطوا أي: إن تجوروا، والآن لا يتم إلا باعتقاد زيادتها. وإن حملت على أنتقسطوا بمعنى تقسطوا، كانت للنفي كما في تقسطوا. وقرأ ابن أبي عبلة من طاب. وقرأ الجمهور: ما طاب. فقيل:ما بمعنى من، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء، وهو مذهب مرجوح. وقيل: عبر بما عن النساء،لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقيل: ما واقعة على النوع، أي: فانكحوا النوع الذي طاب لكممن النساء، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل. وقال أبو العباس: ما لتعميم الجنس على المبالغة،وكان هذا القول هو القول الذي قبله. وقيل: ما مصدرية، والمصدر مقدّر باسم الفاعل. والمعنى: فانحوا النكاح الذي طاب لكم.وقيل: ما نكرة موصوفة، أي: فانكحوا جنساً أو عدداً يطيب لكم. وقيل: ما ظرفية مصدرية، أي: مدة طيب النكاح لكم.والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله: فانكحوا، وأنّ من النساء معناه: من البالغات. ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي فيما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي: كائناً من النساء، ويكون في موضع الحال.وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية، فمفعول فانكحوا هو من النساء، كما تقول: أكلتُ من الرغيف، والتقدير فيه: شيئاًمن الرغيف. ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر فيالمفردات. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالامالة. وفي مصحف أبي طيب بالياء، وهو دليل الإمالة. وظاهر فانكحواالوجوب، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره. وقال غيرهم: هو ندب لقوم، وإباحة الآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاحفي الجملة مندوب إليه. ومعنى ما طاب: أي ما حل، لأن المحرمات من النساء كثير قاله: الحسن وابن جبير وأبومالك. وقيل: ما استطابته النفس ومال إليه القلب. قالوا: ولا يتناول قوله فانكحوا الجيد. ولما كان قوله: ما طابلكم من النساء عامًّا في الأعداد كلها، خص ذلك بقوله: مثنى وثلاث ورباع. فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أنَّلنا أن أن نتزوج اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة، ولا ما بعدذلك من الأعداد. وذلك كما تقول: أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فمعنى ذلك أن تقعالقسمة على هذا التفصيل دون غيره. فلا يجوز لنا أن نعطى أحداً من المقسوم عليهم خمسة خمسة، ولا يسوغ دخولأو هنا مكان الواو، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور، وليس لهمأن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء. والواو تدل علىمطلق الجمع، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع إن شاؤا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤا متفقين فيهامحظوراً عليهم ما زاد. وذهب بعض الشيعة: إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد، كما يجوز التسري بلا عدد. وليست الآيةتدل على توقيت في العدد، بل تدل على الإباحة كقولك: تناول ما أحببت واحداً واثنين وثلاثاً. وذكر بعض مقتضى العمومجاء على طريق التبيين، ولا يقتضي الاقتصار عليه. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع، لأن الواو تقتضي الجمع. فمعنى:مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثاً وأربعاً وذلك تسع، وأكد ذلك بأن النبي مات عن تسع. وذهببعضهم إلى أنَّ هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدلّ على نكاح جواز ثمانية عشر، لأن كل عدد منها معدول عنمكرر مرتين، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر. والكلام على هذه الأقوال استدلالاً وإبطالاً مذكور في كتب الفقه الخلافية.وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع. والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أورباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه، أما مَن لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لايجوز له ذلك، والإجماع على خلاف ما دلّ عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور. أجمع المسلمون على أنَّمَن لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثاً وأربعاً كمن خاف. فدلعلى أن الآية جواب لمن خاف ذلك، وحكمها أعم. وقرأ النخعي وابن وثاب: وربع ساقطة الألف، كما حذفت فيقوله: وحلياناً برداً يريد بارداً. وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعوله وتكون موصولة، فانتصاب مثنى وما بعده على الحالمنها، وقال أبو البقاء: حال من النساء. وقال ابن عطية: موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب، وهينكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفه انتهى. وهما إعرابان ضعيفان. أمّا الأوّل فلأن المحدث عنه هو ما طاب، ومن النساءجاء على سبيل التبيين وليس محدثاً عنه، فلا يكون الحال منه، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات. وأماالثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل. وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرهاالعامل. وأيضاً فإنه قال: إنها نكرة وصفة، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعاً لنكرة كان صفة لها كقولهتعالى:

{ أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ }

وما وقع صفة للنكرة وقع حالاً للمعرفة. وما طاب معرفة فلزم أن يكونمثنى حالاً. {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } أي أن لا تعدلوا بين ثنتين إننكحتموهما، أو بين ثلاث أو أربع إن نكحتموهن في القسم أو النفقة أو الكسوة، فاختاروا واحدة. أو ما ملكتأيمانكم هذا إن حملنا فانكحوا على تزوجوا، وإن حملناه على الوطء قدرنا الفعل الناصب لقوله: فواحدة. فانكحوا واحدة أو ماملكت أيمانكم. ويحتمل أن يكون من باب علفتها تبناً وماء بارداً على أحد التخريجين فيه، والتقدير: فانكحوا أي تزوجوا واحدة،أوطئوا ما ملكت أيمانكم. ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهنلا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز: فواحدة بالرفع. ووجه ذلكابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء، والخبر مقدر أي: فواحدة كافية. ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي: فالمقنع،أو فحسبكم واحدة، أو ما ملكت أيمانكم. وأو هنا لأحد الشيئين: إما على التخيير، وإما على الإباحة. وروي عنأبي عمرو: فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء، والمعنى: على هذا أن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فماملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: أو من ملكت أيمانكم، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن.ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد، والمأمورفي تناول المأكول بالأكل بها، والمنهي عن الاستنجاء بها. وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل، فأول الشرطين: وإنختفم أن لا تقسطوا، وجوابه: فانكحوا. صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهنوذكر تلك الأعداد. وثاني الشرطين قوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه: فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خافمن الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة، أو تسرّ بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلفوالرفق به، والتعطف على النساء والنظر لهن. وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد، وجملةاعتراض. فالشرط: وإن خفتم أن لا تقسطوا، وجوابه: فواحدة. وجملة الاعتراض قوله: فانكحوا ما طاب لكمك من النساء مثنى وثلاثورباع، وكرر الشرط بقوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا. لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه: كما جاء في فلما جاءهمما عرفوا بعد قوله، ولما جاءهم كتاب من عند الله إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت. وكذلك

{ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ }

بعد قوله:

{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ }

إذ طال الفصل بما بعده بين: لا تحسبن، وبين بمفازة، فأعيدتالجملة، وصار المعنى على هذا التقدير، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة. قال: وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدلبقوله:

{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ }

انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي. ولعله لايصح عنه، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي، وبطلان للأحكام الشرعية:لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله: ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غيرواحدة، أو يتسرّى بما ملكت يمينه. ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغواً لا فائدة له على زعمه.والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان، وهذاعدل في القسم والنفقة. ولذلك نفيت هناك استطاعته، وعلق هنا على خوف انتفائه، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالباً. وانتزعالشافعي من قوله: فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، خلافاً لأبي حنيفة، إذعكس. ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما فيالحكمة المطلوبة، والحكمة سكون النفس بالأزواج، وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضلمن التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح، لأن الزائد على المتساويين يكون زائداً على المساوي الثاني لا محالة.{ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن * لا * تَعْدِلُواْ } الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة. أدنى من الدنو أي: أقرب أنلا تعولوا، أي: أن لا تميلوا عن الحق. قاله: ابن عباس، وقتادة، والربيع بن أنس، وأبو مالك، والسدّي. وقال مجاهد:لا تضلوا. وقال النخعي: لا تخونوا. وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي: معناه لا يكثر عيالكم.وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكربن داود والرازي ما معناه: غلط الشافعي، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج. وقال الزجاج: إن الله قد أباحكثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا؟ وقال صاحب النظم: قال: أولاً أن لاتعدلوا فيجب أن يكون ضد العدل هو الجور، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضاً الرد من جهة المعنى، فتفسير الشافعيتعولوا بتعيلوا. وقالوا: يقال أعال يعيل إذا كثر عياله، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو، فقد اختلفا فيالمادة، فليس معنى تعولوا تعيلوا. وقال الرازي أيضاً عن الشافعي: أنه خالف المفسرين. وما قاله ليس بصحيح، بل قد قالبمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم. وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أنتعولوا وتعيلوا من مادة واحدة، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد،نحو قولهم: دمت ودشير، وسبط وسبطة، فكذلك هذا. وقد نقل عال الرجل يعول، أي كثر عياله ابن الأعرابي، كماذكرناه في المفردات. ونقله أيضاً الكسائي قال: وهي لغة فصيحة. قال الكسائي: العرب تقول: عال يعول، وأعال يعيل كثر عياله،ونقلها أيضاً أبو عمرو الدوري المقري وكان إماماً في اللغة غير مدافع قال: هي لغة حمير. وأنشد أبو عمروحجة لها:وإن الموت يأخذ كل حي      بلا شك وأن أمشي وعالا

أمشي كثرت ماشيته، وعال كثر عياله.وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك: عال الرجل عياله يعولهم. وقال: لا يظنبه أنه حول تعيلوا إلى تعولوا، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في كلام العرب من أنيخفى عليه مثل هذا. قال: ولكن للعلماء طرقاً وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. وأما ما ردبه ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية: هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح، لأن السراري إنما هيمال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وقال الزمخشري: الغرض بالتزوج التوالد والتناسل، بخلاف التسري.ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع.وقال القفال: إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً، وتقل العيال. أما إذا كانتحرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى. وروي عن الشافعي أيضاً أنه فسر قوله تعالى: أن لا تعولوا بمعنى أن لاتفتقروا، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر، إنما يريد أيضاً الكناية، لأن كثرة العياليتسبب عنها الفقر. والظاهر أن المعنى: أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور، إذا هو المحذور المعلقعلى خوفه الاختيار المذكور. أي: عبر عن قوله: أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم، فإنه عبر عن المسبب بالسبب،لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور. وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله:

{ وَإِنْ خِفْتُمْ عيلة }

وقال الشاعر:فما يدري الفقير متى غناه      ولا يدري الغني متى يعيل

وقرأ طاوس: أنلا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده. وأن تتعلقبأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف، إذ التقدير: أدنى إلى أن لا تعولوا. وافعل التفضيل إذا كانالفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه. تقول: دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا. ويجوز أنيكون الحرف المحذوف لام الجر، لأنك تقول: دنوت لكذا. {تَعُولُواْ وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً } الظاهر: أن الخطاب للأزواج،لأن الخطاب قبله لهم، قاله: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج. قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول: أرثكوترثيني فتقول: نعم. فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور. وقيل: الخطاب لأولياء النساء، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأةمهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام. قاله: أبو صالح، واختاره: الفراء وابن قتيبة. وقيل: المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرونمن تزويج امرأة بأخرى، وأمروا بضرب المهور قاله: حضرمي، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها. والصدقاتالمهور. قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة: نحلة فريضة. وقيل: عطية تمليك قاله الكلبي والفراء. وقيل: شرعة وديناًقاله: ابن الأعرابي. قال الراغب: والنحلة أخص من الهبة، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس، وسمي الصداق نحلة من حيثلا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي. ومن قال: النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية، لا إلىموضوع اللفظ والاشتقاق، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى. ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمرفي:

{ وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ }

، وأنهما متساويان في التحريم. ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانواعليه من سنن الجاهلية. وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة، على وزن سمرة. وقرأ قتادة وغيره: بإسكان الدال وضم الصاد.وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم: بضمها. وقرأ النخعي وابن وثاب: صدقتهن بضمها والافراد،وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر، لأن معنى: وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل: بانحلوهن مضمرة. وقيل: مصدرفي موضع الحال، إما عن الفاعلين أي ناحلين، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي: منحولات. وقيل: انتصب على إضمارفعل بمعنى شرع، أي: أنحل الله ذلك نحلة، أي شرعه شرعة وديناً. وقيل: إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه علىأنه مفعول من أجله، أو حال من الصدقات. وفي قوله: وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمععليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق: أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق، وليس فيالآية تعرض لمقدار الصداق، ولا لشيء من أحكامه. وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا، ومحل الكلام في ذلك هوكتب الفقه. {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } الخطاب فيه الخلاف: أهو للأزواج؟ أوللأولياء؟ وهو مبني على الخلاف في: وآتوا النساء. وقال حضرمي: سبب نزولها أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مادفعوا إلى الزوجات، والضمير في: منه، عائد على الصداق قاله: عكرمة. إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزاً وصار شبيهاًبقولهم: هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية، هو أحسن فتى. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد،فيكون متناولاً بعضه. فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعداً انتهى. وأقول: حسن تذكيرالضمير، لأن معنى: فإن طبن، فإن طابت كل واحدة، فلذلك قال منه أي: من صداقها، وهو نظير:

{ واعتدت لهن متكأً }

أي لكل واحدة، ولذلك أفرد متكأ. وقيل: يعود على صدقاتهن مسلوكاً به مسلك اسم الإشارة، كأنه قيل عن شيء منذلك. واسم الإشارة وإن كان مفرداً قد يشار به إلى مجموع كقوله:

{ قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذٰلِكُمْ }

. وقد تقدّمتعليه أشياء كثيرة. وقيل: لرؤبة كيف قلت: كأنه في الجلد توليع البهق، وقد تقدم، فيها خطوط من سواد وبلق. فقال:أردت كان ذاك. وقيل: يعود على المال، وهو غير مذكور، ولكن يدل عليه صدقاتهن. وقيل: يعود على الإيتاء وهو المصدرالدال عليه: وآتوا، قاله الراغب، وذكره ابن عطية. ويتعلق المجروران بقوله: طبن، ومنه في موضع الصفة لشيء، فيتعلق بمحذوف، وظاهرمن التبعيض. وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضاً من الصداق، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لايجوز تبرعها له إلا باليسير. وقال ابن عطية: ومن تتضمن الجنس هاهنا. وكذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقعتعلى التبعيض لما جاز ذلك. وانتصب نفساً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من الفاعل. وإذا جاء التمييز بعدجمع وكان منتصباً عن تمام الجملة، فإما أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى، أو مخالفاً فإن كان موافقاً طابقهفي الجمعية نحو: كرم الزيدون رجالاً، كما يطابق لو كان خبراً، وإن كان مخالفاً، فإما أن يكون مفرداً لمدلول أومختلفة، إن كان مفرداً لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد: كرم بنو فلان أصلاً وأباً. وكقولك:زكاة الأتقياء، وجاد الأذكياء وعياً. وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله. وإن كان مختلف المدلول، فإما أنيلبس أفراده لو أفرد، أو لا يلبس. فإن ألبس وجبت المطابقة نحو: كرم الزيدون آباء، أي: كرم آباء الزيدين. ولوقلت: كرم الزيدون أباً، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم. وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع. والإفراد أولى، كقوله: فإنطبن لكم عن شيء منه نفساً إذ معلوم أن لكل نفساً، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة. وقرّ الزيدون عيناً،ويجوز أنفساً وأعيناً. وحسن الإفراد أيضاً في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده، وهو أن المعنى: فإنطابت كل واحدة عن شيء منه نفساً. وقال بعض البصريين: أراد بالنفس الهوى. والهوى مصدر، والمصادر لا تثني ولاتجمع. وجواب الشرط: فكلوه، وهو أمر إباحة. والمعنى: فانتفعوا به. وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع. وهنيئاً مريئاً أي: شافياًسائغاً. وقال أبو حمزة: هنيئاً لا إثم فيه، مريئاً لأداء فيه. وقيل: هنيئاً لذيذاً، مريئاً محمود العاقبة. وقيل: هنيئاً مريئاًأي ما لا تنغيص فيه. وقيل: ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه. وقيل: هنيئاً مريئاً أي: حلالاًطيباً. وقرأ الحسن والزهري: هنياً مرياً دون همزة، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء، وأدغموا فيها ياء المدّ. وانتصابهنيئاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فكلوه أكلاً هنيئاً، أو على أنه حال من ضمير المفعول، هكذا أعربه الزمخشريوغيره. وهو قول مخالف لقول أئمة العربية، لأنه عند سيبويه وغيره: منصوب بإضمارفعل لا يجوز إظهاره. وقد ذكرنا في المفرداتنص سيبويه على ذلك. فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئاً مريئاً من جملة أخرى غير قوله: فكلوه هنيئاً مريئاً،ولا تعلق له به من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. وجماع القول في هنيئاً: أنها حال قائمة مقام الفاعلالناصب لها. فإذا قيل: إن فلاناً أصاب خيراً فقلت هنيئاً له، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئاً فحذف ثبت، وأقيمهنيئاً مقامه. واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك. فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت،وهنيئاً حال من ذلك، وفي هنيئاً ضمير يعود على ذلك. وإذا قلت: هنيئاً ولم تقل له ذلك، بل اقتصرت علىقولك: هنيئاً، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة. وذهب الفارسي إلىأن ذلك إذا قلت: هنيئاً له، ذلك مرفوع بهنيئاً القائم مقام الفعل المحذوف، لأنه صار عوضاً منه، فعمل عمله. كماأنك إذا قلت: زيد في الدار، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر، لأنه عوض منه. ولا يكون في هنيئاًضمير، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة. وإذا قلت: هنيئاً ففيه ضمير فاعل بها، وهو الضمير فاعلاً لثبت،ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرعاً من الفعل. وإذا قلت: هنيئاً مريئاً، فاختلفوا في نصب مريء. فذهب بعضهم:إلى أنه صفة لقولك هنيئاً، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي. وذهب الفارسي: إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئاً، فالتقدير عنده:ثبت مريئاً، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئاً، من جهة أنَّ هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمهحكم الفعل الذي ناب منابه، والفعل لا يوصف، فكذلك لا يوصف هو. وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله النحاة فيهنيئاً لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر، أو حال من الضمير في فكلوه أي:كلوه وهو هنيء مريء. قال: وقد يوقف على فكلوه، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر،كأنه قيل: هنئاً مرئاً انتهى. وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر، ولذلك قال: كأنه قيلهنأ مرأ، فصار كقولك: سقياً ورعياً، أي: هناءة ومراءة. والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناهمن الخلاف. إما على الحال، وإما على الوصف. ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرةبعد هنيئاً مريئاً، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر. والمراد بها: الدعاء. أجاز ذلك فيها تقول: سقياً لك ورعياً، ولا يجوزسقياً الله لك، ولا رعياً الله لك، وإن كان ذلك جائزاً في فعله فتقول: سقاك الله ورعاك. والدليل على جوازرفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر:هنيئاً مريئاً غيرداء مخامر      لعزة من أعراضنا ما استحلت

فما: مرفوع بما تقدّم من هنيء أو مريء. أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي عليّ على طريق الأعمال.وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف، لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لهنيئاً، فصارا كأنهمامرتبطان لذلك. ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت: قام خرج زيد، لم يصح أن يكون من الأعمالإلا على نية حرف العطف. وذهب بعضهم: إلى أنّ مريئاً يستعمل وحده غير تابع لهنيئاً، ولا يحفظ ذلك من كلامالعرب، وهنيئاً مريئاً اسما فاعل للمبالغة. وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءآ على وزن فعيل، كالصهيل والهدير، وليسا منباب ما يطرد فيه فعيل في المصدر. وظاهر الآية يدل على أنّ المرأة إذا وهبت لزوجها شيئاً من صداقهاطيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق، أو سوء معاشرة، فيجوز له أن يأخذ ذلك منهاويتملكه وينتفع به. ولم يوقت هذا التبرع بوقت، ولا استثناء فيه رجوع. وذهب الأوزاعي: إلى أنه لا يجوز تبرعها مالم تلد، أو تقم في بيت زوجها سنة، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان: لها أنترجع. وروى مثله عن عمر. كتب عمر إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادتأن ترجع فلها ذلك. قال شريح: لو طابت نفسها لما رجعت. وقال عبد الملك: قال تعالى:

{ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً }

وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية. وفي تعليق القبول على طيب النفس ذون لفظة الهبة أو الإسماح، دلالةعلى وجوب الاحتياط في الأخذ، وإعلام أنّ المراعى هو طيب نفسها بالموهوب. وفي قوله: هنيئاً مريئاً مبالغة في الإباحة والقبولوزوال التبعة. {وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰماً } قال ابن مسعود والحسن والضحاك والسدي وغيرهم:نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته. وقال ابن جبير: في المحجورين. وقال مجاهد: في النساء خاصة. وقال أبو موسى الأشعريوالطبري وغيرهما: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائناً من كان. ويضعف قول مجاهد أنهافي النساء، كونها جمع سفيهة، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات قاله: ابن عطية. ونقلوا أنّ العرب جمعتشفيهة على سفهاء، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث، فلا يضعف قول مجاهد. وإن كان جمع فعيلة الصفة للمؤنث نادراًلكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصاً. وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد، لأنه يطرد فيهفعال كظريفة وظراف، وكريمة وكرام، ويوافق في ذلك المذكر. وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة نحو:قتيلة، ليس بجيد، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل. وقيل: عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهونفي استعمال ما تناله أيديهم، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء. والسفهاء: هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي،ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرّف فيها. والظاهر في قوله: أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله: ولا تؤتوا. قالأبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره، وإذا وقع النهي عنهذا فإن لا يؤتى شيئاً من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي، وعلى هذا القول: وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال.قيل: يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة، وهو قول عامة أهل العلم. وأوصى عمر إلى حفصة. ورويعن عطاء: أنها لا تكون وصياً. قال: ولو فعل حولت إلى رجل من قومه. قيل: ويندرج تحتها الجاهل بأحكامالبيع. وروي عن عمر أنه قال: «من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا، والكفار». وكره العلماء أن يوكلَالمسلم ذمياً بالبيع والشراء، أو يدفع إليه يضاربه. وقال ابن جبير: يريد أموال السفهاء، وإضافها إلى المخاطبين تغبيط بالأموال، أي:هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أغراضكم وتصونكم وتعظم أقذاركم. ومن مثل هذا:

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }

وما جرىمجراه. وهذا القول ذكره الزمخشري أولاً قال: والخطاب للأولياء، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معائشهم.كما قال: ولا تقتلوا أنفسكم،

{ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ }

، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموالاليتامى قوله:

{ وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ }

. وقرأ الحسن والنخعي: اللاتي. وقرأ الجمهور: التي. قال ابن عطية: والأموال جمع لايعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى. واللاتي جمع في المعنى للتي، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفردهبالتي، والمذكر لا يوصف بالتي سواء كان عاقلاً أو غير عاقل، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي الذيهو اللاتي. والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث. فإذا كان لنا جمع لا يعقلفيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات فتقول: عنديجذوع منكسرة، كما تقول: امرأة طويلة، وجذوع منكسرات. كما تقول: نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل. والأولى فيالكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة. فإذا كان جمع فلة، فالأولىعكس هذا الحكم: فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة، وهذا فيما وجد له الجمعان: جمع القلة، وجمع الكثرة. أمّا مالا يجمع إلا على أحدهما، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة. وإذا تقرر هذانتج أنَّ التي أولى من اللاتي، لأنه تابع لجمع لا يعقل. ولم يجمع مال على غيره، ولا يراد به القلةلجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب. وقال الفراء: تقول العرب فيالنساء: اللاتي، أكثر مما تقول التي. وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي، وكلاهما في كليهما جائز. وقرىء شاذاللواتي، وهو أيضاً في المعنى جمع التي ومعنى قياماً تقومون بها وتنتعشون بها، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم. قال الضحاك: جعلهاالله قياماً لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار، وكان السلف تقول: المالسلاح المؤمن، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعةيقلبها: لولاها لتمندل أي: بنو العباس. وكانوا يقولون: اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل كلدينه. وقرأ نافع وابن عامر: قيماً، وجمهور السبعة: قياماً، وعبد الله بن عمر: قواماً بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر:قواماً بفتحها. ورويت عن أبي عمرو. وقرىء شاذاً: قوماً. فأما فيما فمقدر كالقيام، والقيام قاله: الكسائي والفراء والأخفش، وليس مقصوراًمن قيام. وقيل: هو مقصور منه. قالوا: وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام، أو جمع قيمة كديم جمعقاله: البصريون غير الأخفش. ورده أبو علي: بأنه وصف به في قوله:

{ دِينًا قِيَمًا }

والقيم لا يوصف به، وإنماهو مصدر بمعن القيام الذي يراد به الثبات والدوام. ورد هذا بأنه لو كان مصدراً لما أعلّ كما لم يعلواحولاً وعوضاً، لأنه على غير مثال الفعل، لا سيما الثلاثية المجردة. وأجيب: بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل، لأنه مصدربمعنى القيام، فكما أعل القيام أعل هو. وحكى الأخفش: قيماً وقوماً، قال: والقياس تصحيح الواو، وإنما اعتلت على وجه الشذوذكقولهم: تيره، وقول بني ضبة: طيال في جمع طويل، وقول الجميع: جياد في جمع جواد. وإذا أعلوا ديماً لاعتلال ديمة،فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى. ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش، ومقامة ومقاوم، ولميصححوا مصدراً أعلوا فعله. وقيل: يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة، وإن كان لا يحتمله ديناً قيماً. وأما قيام فظاهرفيه المصدر، وأما قوام فقيل: مصدر قاوم. وقيل: هو اسم غير مصدر، وهو ما يقام به كقولك: هو ملاك الأمرلما يملك به. وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم. وقال: القوام امتداد القامة، وجوزه الكسائي. وقال: هو في معنى القوام،يعني أنه مصدر. وقيل: اسم للمصدر. وقيل: القوام القامة، والمعنى: التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم. {وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ} أي: اطعموهم واجعلوا لهم نصيباً. قيل: معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار. قال ابن عباس: لاتعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، وأمسكذلك وأصلحه، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم. وقيل: في المحجورين، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبينبقوله: وآتوا من هم. والمعنى على هذا القول: اجعلوها مكاناً لزرقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباحلا من صلب المال، فلا يأكلها الإنفاق. قيل: وقال فيها: ولم يقل منها تنبيهاً على ما قاله عليه السلام: «ابتغوافي أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة» والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة. وقيل في: بمعنى من، أيمنها. {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } المعروف: ما تألفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين،فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم قاله: ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل، وابن جريج. وقالعطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإذا غنمت في غزاتي، جعلت لك حظاً. وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب، فتدعولهم: بارك الله فيكم، وحاطكم، وشبهه قاله: ابن زيد. وقال الضحاك: الرد الجميل. ولما أمرالله تعالى أولاً بإيتاء اليتامى بقوله:

{ وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ }

وأمر ثانياً بإيتاء أموال النساء بقوله:

{ وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ }

وكان ذلك عاماً من غير تخصيصبين في هذه الآية. إنَّ ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه، وخص ذلك العموم، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء.{وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ } قيل: توفي رفاعة وترك ابنهثابتاً صغيراً فسأل: إنَّ ابن أخي في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت. وقيل: توفيأوس بن ثابت، ويقال: أوس بن سويد عن زوجته أم كجه وثلاث بنات وابني عم سويد. وقيل: قتادة وعرفجة فأخذاماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئاً. وقيل: المانع ارثهن هو عم بنيها واسمه: ثعلبة. وكانوا في الجاهلية لا يورثونالنساء ولا البنات ولا الابن الصغير الذكر، فشكتهما أم كجه إلى رسول الله فدعاهما، فقال: لايا رسول الله، ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلا، ولا ينكى عدواً فقال: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت. وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم قاله: ابن عباس والسدي، ومقاتل، وسفيان. أو في عقولهم ودينهم وحفظهم لأموالهم وحسنتصرفهم فيها. ذكره: الثعلبي. وكيفية اختبار الصغير أن يدفع إليه نزر يسيرمن المال يتصرف فيه، والوصي يراعي حاله فيه لئلايتلفه. واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعاً وأجرة واستيفاء. واختلاف كل منهما بحال ما يلقبه وبما يعانيه من الأشغال والصنائع، فإذا أنس منه الرشد بعد البلوغ والاختبار دفع إليه ماله، وأشهد عليه هذا ظاهرالآية، وهو يعقب الدفع. والإشهاد الإيناس المشروط. وقال ابن سيرين: لا يدفع إليه بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضي عليهسنة وتداولة الفصول الأربع، ولم تتعرض الآية لسن البلوغ، ولا بماذا يكون. وتكلم فيها هنا بعض المفسرين. والكلام في البلوغمذكور في كتب الفقه. وظاهر الآية أنه إن لم يؤنس منه رشد بقي محجوراً عليه دائماً، ولا يدفع إليه المال،وبه قال الجمهور. وقال النخعي وأبو حنيفة: ينتظر به خمس وعشرون سنة، ويدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لميؤنس. وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به. وقالت طائفة: يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان ويثبت عندهرشده، أو يكون ممن يأمنه الحاكم. وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك.فقيل: يعتبر رشدها، وإن لم تتزوج بالبلوغ. وقيل: المدة بعد الدخول خمسة أعوام. وقيل: سنة. وقيل: سبعة في ذاب الأب،وعام واحد في اليتيمة التي لا وصي لها. وحتى هنا غاية للابتلاء، ودخلت على الشرط وهو: إذاً، وجوابه: فإنآنستم، وجوابه وجواب إن آنستم: فادفعوا. وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح، فيلزم أن يكون بعده. وحتى إذا دخلت علىالشرط لا تكون عاملة، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله:وحتى الجيـاد مـا يقـدن بأرسـان     

وقوله:وحتـى مـاء دجــلــة أشــكــل      

على أن في هذه المسألة خلافاً ذهب الزّجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر، وذهب الجمهور إلىأنها غير عاملة البتة. وفي قوله: بلغوا النكاح تقدير محذوف وهو: بلغوا حد النكاح أو وقته. وقال ابن عباس: معنىآنستم عرفتم. وقال عطاء: رأيتم. وقال الفراء: وجدتم. وقال الزجاج: علمتم. وهذه الأقوال متقاربة. وقرأ ابن مسعود: فإن أحستم،يريد أحسستم. فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة. وحكى غير سيبويه: أنها لغة سليم،وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن وأبو السمالوعيسى الثقفي: رَشَداً بفتحتين. وقرىء شاذاً: رُشُداً بضمتين، ونكر رشداً لأن معناه نوع من الرشد، وطرف ومخيلة من مخيلته، ولاينتظر به تمام الرشد. قال ابن عطية ومالك: يرى الشرطين: البلوغ والرشد، وحيئنذ يدفع المال. وأبو حنيفة: يرى أن يدفعالمال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد. وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول، وخوفالعنت. والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح، وذلك أنّ البلوغ لم تسقه الآية سبباً في الشرط، ولكنهاحالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه. فقال: إذابلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو: الرشد حينئذ. وفصاحة الكلام تدل على ذلك لأن التوقيت بالبلوغ جاء بإذا، والمشروطجاء بإن التي هي قاعدة حروف الشرط. وإذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها فيالشعر. وقال: فعلوا ذلك مضطرين، وإنما جوزى بها لأنها تحتاج إلى جواب، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً. واحتج الخليلعلى منع شرطيتها بحصول ما بعدها. ألا ترى أنك تقول: أجيئك إذا احمرّ البسر، ولا تقول: إن احمرّ البسر انتهىكلامه. ودل كلامه على أنّ إذا ظرف مجرّد من معنى الشرط، وهذا مخالف لكلام النحويين. بل النحويون كالمجمعين على أنّإذا ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالباً، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لاتجزم كأدوات الشرط، لا نفي كونها تأتي للشرط. وكيف تقول ذلك، والغالب عليها أنها تكون شرطاً؟ ولم تتعرّض الآية إلىحكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ، ودفع إليه ماله، ثم عاد إلى السفه، أيعود الحجر عليه أم لا؟ وفيهقولان: قال مالك: يعود. وقال أبو حنيفة: لا يعود، والقولان عن الشافعي. {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ }تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ، لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ. وهذه الجملة مستقلة. نهاهم تعالى عن أكل أموالاليتامى وإتلافها بسوء التصرف، وليست معطوفة على جواب الشرط، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح. وهو معارض لقوله: وبداراً أنيكبروا، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه، وذلك ممتنع. وبهذا الذي قرّرناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفاًعلى فادفعوا، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما، فيكون من باب دليل الخطاب.والإسراف: الإفراط في الإنفاق، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق. قال:أعطوا هنيدة تجدوها ثمانية      ما في عطائهم منّ ولا سرف

أي: ليس يخطئون مواضع العطاء. قال ابن عباس وغيره: ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنممال محجوره فيأكل ويقول: أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله. وانتصب إسرافاً وبداراً على أنهما مصدران في موضعالحال، أي: مسرفين ومبادرين. والبدار مصدر بادر، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين. لأن اليتيم مبادر إلى الكبر،والولي مبادر إلى خذ ماله، فكأنهما مستبقان. ويجوز أن يكون من واحد، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله، أي:لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يكبروا مفعول بالمصدر، أي: كبركم كقوله:

{ أَوْ إِطْعَامٌ * يَتِيماً }

وفي إعمال المصدر المنوّن خلاف. وقيل:التقدير مخافة أن يكبروا، فيكون أن يكبروا مفعولاً من أجله، ومفعول بداراً محذوف. {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَفَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم، فأمره تعالى بالاستعفاف عن مالهإن كان غنياً، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيراً،بحيث يأخذ قوتاً محتاطاً في تقديره. وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه، ولا يترتب في ذمته ما أخذمما يسد جوعته بما لا يكون رفيعاً من الثياب، ولا يقضي إذا أيسر قاله: ابراهيم، وعطاء، والحسن، وقتادة، وعلى هذاالقول الفقهاء. وقال عمرو، ابن عباس، وعبيدة، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، وابن جبير: يقضي إذا أيسر، ولا يستلف أكثر منحاجته. وبه قال الأوزاعي. وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية، والحسن، والشعبي: إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن، وأكلمن التمر، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض، ويجد التمر وما أشبهه. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها. وقالتطائفة: المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته، وهذه رواية عن الإمام أحمد. وفصل الحسن بن حي فقال: إنكان وصي أب فله الأكل بالمعروف، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وأجرته على بيت المال. وفصلأبو حنيفة وصاحباه فقالوا: إن كان وصي اليتيم مقيماً فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئاً، وإن كان مسافراًفله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئاً. وفصل الشعبي فقال: إن كان مضطراً بحال من يجوز له أكلالميتة أكل بقدر حاجته وردّ إذا وجد، وإلاّ فلا يأكل لا سفراً ولا حضراً. وقال مجاهد: هذه الإباحة منسوخة بقوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً }

. وقال أبو يوسف: لعلها منسوخة بقوله:

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ }

فليسله أن يأخذ قرضاً ولا غيره. وقال ابن عباس والنخعي أيضاً: هذا الأمر ليس متعلقاً بمال اليتيم، والمعنى: أنّ الغنييستعفف بغناه، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. واختارهذا القول من الشافعية الكيا الطبري. وقيل: إن كان مال اليتيم كثيراً يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الوليعن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئاً، غيرأنه يستحب له شرب قليل اللبن، وأكل قليل الطعام والسمن، غير مضربه ولا مستكثر منه على ما جرت به العادةوالمسامحة. وقالت طائفة منهم ربيعة ويحيـى بن سعيد: هذا تقسيم لحال اليتيم، لا لحال الوصي. والمعنى: من كان منهم غنياًفليعف بماله، ومن كان منهم فقيراً فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد. ويكون من خطاب العين، ويراد به الغير. خوطب اليتامى بالاستعفافوالأكل بالمعروف، والمراد الأولياء. لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب، فكأنه قال للأولياء والأوصياء: إن كان اليتيم غنياً فانفقوا عليهنفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته، وإن كان فقيراً فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلامضعفاً. فهذه أقوال ملخصها: هل تقسيم في الولي أو الصبي قولان: فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلىمال نفسه، أو مال الصبي؟ قولان. وإذا كان متوجهاً إلى مال الصبي، هل ذلك منسوخ أم لا؟ قولان. وإذا لميكن منسوخاً، فهل يكون تفصيلاً بالنسبة إلى الأكل أو المأكول؟ قولان. فإذا كان بالنسبة إلى الأكل، فهل يختص بولي الأب،أو بالمسافر، أو بالمضطر، أو بالمشتغل بذلك عن مهمات نفسه؟ أقوال. وإذا كان بالنسبة للمأكول، فهل يختص بالتافه أم يتعدّىإلى غيره؟ قولان. وإذا تعدّى إلى غيره، فهل يكون أجرة أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن أجرة فأخذ، فهل يترتبديناً في ذمته يجب قضاؤه إذا أيسر أم لا؟ قولان. ودلائل هذه الأقوال مذكورة في مسائل الخلاف. ولفظه فليستعفف أبلغمن فليعف، لأن فيه طلب زيادة العفة. {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أمر تعالى بالإشهاد لحسم مادةالنزاع، وسوء الظن بهم، والسلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم، وطيب خاطر اليتيم بفك الحجر عنه، وانتظامه فيسلك من يعامل ويعامل. وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع يمينه عند أبي حنيفة وأصحابه، وعند مالك. والشافعي: لايصدق إلا بالبينة. فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة، أو من وجوب الضمان إذ لم يقمالبينة. وظاهر الأمر أنه واجب. وقال قوم: هو ندب. وظاهر الآية الأمر بالإشهاد عليهم إذا دفع إليهم أموالهم، وهيالمأمور بدفعها في قوله:

{ فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم }

وقال عمرو بن جبير: هذا الإشهاد إنما هو علىدفع الولي ما استقرضه من مال اليتيم حالة فقره إذا أيسر. وقيل: فيها دليل على وجوب القضاء على من أكلمن مال اليتيم، المعنى: أقرضتم أو أكلتم فأشهدوا هذا غرمتم. وقيل: المعنى إذا أنفقتم شيئاً على المولى عليه فاشهدوا، حتىلو وقع خلاف أمكن إقامة البينة، فإن مالاً قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه.{وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } أي كافياً في الشهادة عليكم. ومعناه: محسباً من أحسبني كذا، أي كفاني، قاله: الأعمش والطبري.فيكون فعيلاً بمعنى مفعل، أو محاسباً، أو حاسباً لأعمالكم يجازيكم بها، فعليكم بالصدق، وإياكم والكذب. فيكون في ذلك وعيد لجاحدالحق. وحسيب فعيل بمعنى مفاعل، كجليس وخليط، أو بمعنى فاعل، حول للمبالغة في الحسبان. وقال ابن عباس والسدي ومقاتل:معنى حسيباً شهيداً. وفي كفى خلاف: أهي اسم فعل، أم فعل؟ والصحيح أنها فعل، وفاعله اسم الله، والباء زائدة. وقيل:الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء، أي: كفى هو، أي الاكتفاء بالله، والباء ليست بزائدة، فيكون بالله في موضع نصب، ويتعلقإذ ذاك بالفاعل. وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين، حيث يجيزون أعمال ضمير المصدر كأعمال ظاهره. وإن عنىبالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز، أعني: حذف الفاعل وحذف المصدر. وانتصبحسيباً على التمييز لصلاحية دخول مَن عليه. وقيل: على الحال. وكفى هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف، التقدير: وكفاكم اللهحسيباً. وتأتي بغير هذا المعنى، فتعديه إلى اثنين كقوله:

{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ }

{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌمّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } قيل: سبب نزولها هو خير أم كجه وقدتقدم، قاله: عكرمة وقتادة وابن زيد. قال المروزي: كان اليونان يعطون جميع المال للبنات، لأن الرّجل لا يعجز عن الكسب،والمرأة تعجز. وكانت العرب لا يعطون البنات، فردَّ الله على الفريقين. والمعنيّ: بالرجال الذكور، وبالنساء الإناث كقوله:

{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء }

. وأبهم في قوله: نصيب، ومما ترك في موضع الصفة لنصيب. وقيل: يتعلق بلفظ نصيب فهو منتمامه. والوالدان: يعني والدي الرجال والنساء، وهما أبواهم، وسمى الأب والد، لأن الولد منه، ومن الوالدة. وللاشتراك جاء الفرق بينهمابالتاء كقوله:

{ لاَ تُضَارَّ وٰلِدَةٌ بِوَلَدِهَا }

وجمع بالألف والتاء قياساً كقوله:

{ وَٱلْوٰلِدٰتُ }

قال ابن عطية: كما قال الشاعر:بحيث يعتـشّ الغــراب البــائــض      

لأن البيض من الأنثى والذكر انتهى. ولا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر، لأن لفظ الغرابينطلق على الذكر والأنثى، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء. فهو كالّرعوب ينطلق على الذكر والأنثى، ولا يرجح كونهذكراً وصفه بالبائض، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر حملاً على اللفظ، ولا يرجح كونه ذكراً وصفه بالبائض، وهووصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر جملاً على اللفظ، إذ لم تظهر فيه علامة تأنيث كما أنث المذكر حملاً علىلفظ التأنيث في قوله: وعنترة الفلحاء. وفي قوله: أبوك حليفة ولدته أخرى. والأقربون: هم المتوارثون من ذوي القرابات. وقدأبهم في لفظ الأقربون كما أبهم في النصيب، وعين الوارث والمقدار في الآيات بعدها. وقوله: مما قلّ منه، هو بدلمن قوله: مما ترك إلا خيراً، أعيد معه حرف الجر، والضمير في منه عائد على من قوله: مما ترك إلاخير. واكتفى بذكره في هذه الجملة، وهو مراد في الجملة الأولى، ولم يضطرّ إلى ذكره لأن البدل جاء على سبيلالتوكيد، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله: مما ترك العموم في المتروك. وهذا البدل فيه ذكر توعى المتروكمن القلة أو الكثرة. وقال أبو البقاء: مما قلّ يجوز أن يكون حالاً من الضمير المحذوف في ترك، أي:مما تركه مستقراً مما قلّ. ومعنى نصيباً مفروضاً: أي حظاً مقطوعاً به لا بد لهم من أن يحوزوه. وقالالزجاج ومكي: نصيباً منصوب على الحال، المعنى: لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض. وقال الفراء: نصب لأنهأخرجه مخرج المصدر، ولذلك وحده كقولك له: عليّ كذا حقاً لازماً، ونحوه:

{ فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ }

ولو كان اسماً صحيحاًلم ينصب، لا تقول: لك عليّ حق درهماً انتهى. وقال الزمخشري قريباً من هذا القول قال: ويجوز أن ينتصب انتصابالمصدر المؤكد لقوله: فريضة من الله، كأنه قسمة مفروضة. وقال ابن عطية نحواً من كلام الزجاج قال: إنما هو اسمنصب كما ينصب المصدر في موضع الحال تقديره: فرضاً. ولذلك جاز نصبه كما تقول له: عليّ كذا وكذا حقاً واجباً،ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في اسم الذي ليس بمصدر هذا النصب، ولكنّ حقه الرفع انتهى كلامه. وهومركب من كلام الزجاج والفراء، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له. وقال الزمخشري:ونصيباً مفروضاً نصب على الاختصاص بمعنى أعني: نصيباً مفروضاً مقطوعاً واجباً انتهى. فإن عني بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهومردود بكونه نكرة، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة. وقيل: انتصب نصب المصدر الصريح، لأنه مصدر أينصيبه نصيباً. وقيل: حال من النكرة، لأنها قد وصفت. وقيل: بفعل محذوف تقديره: جعلته أو، أوجبت لهم نصيباً. وقيل: حالمن الفاعل في قلّ أو كثر. واستدلّ بظاهر هذه الآية على وجوب القسمة في الحقوق المتميزة إذا أمكنت وطلبذلك كل واحد من الشريكين بلا خلاف. واختلفوا في قسمة المتروك على الفرائض، إذا كانت القسمة بغيره على حاله كالحماموالرحا والبثر والدار التي تبطل منافعها بافتراق السهام. فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: تقسم. وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور:لا تقسم. قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. واستدل بها أيضاً على وجوب توريث الأخ للميت مع البنت، فإذا أخذتالنصف أخذ الباقي. واختلف في ابني عم أحدهما أخ لام، فقال عليّ وزيد: للأخ من الأم السدس، وما بقي بينهمانصفان، وهو قول فقهاء الأمصار. وقال عمر وعبد الله وشريح والحسن: المال للأخ من الأم. {وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قيل: نزلت في أرباب الأموال يقسمونها عندما يحضر الموت فيوصية، وجهات يختارونها، ويحضرهم من القرابات محجوب عن الإرث، فيوصون للأجانب ويتركون المحجوبين فيحرمون الإرث والوصية قاله: ابن عباس وابنالمسيب وابن زيد وأبو جعفر. وقيل: نزلت في أرباب الفرائض يحضرهم أيضاً محجوب، فأمروا أن يرضخوا لهم مما أعطاهم الله.روي عن ابن عباس وابن المسيب: أنها منسوخة، وبه قال: عكرمة والضحاك قالوا: كانت قسمة جعلها الله ثلاثة أصناف، ثمنسخ ذلك بآية الميراث، وأعطى كل ذي حظ حظه، وجعل الوصية للذين يحرمون ولا يرثون. وقيل: هي محكمة أمر اللهمن استحق إرثاً، وحضر القسمة قريب أو يتيم أو مسكين لا يرث، أن لا يحرموا إن كان المال كثيراً، وأنيعتذر إليهم إن كان قليلاً، وأمر به أبو موسى الأشعري. وقال الحسن والنخعي: كان المؤمنون يفعلون ذلك يقسمون لهم منالعين الورق والفضة، فإذا قسموا الأرضين والرقيق قالوا لهم قولاً معروفاً: بورك فيكم. وفعله عبد الله بن عبد الرحمن بنأبي بكر وتلا هذه الآية. وإذا كان الوارث صغيراً لا يتصرف، هل يفعل ذلك الولي أولاً؟ قولان. والظاهر من سياقهذه الآية عقيب ما قبلها أنها في الوارثين لا في المحتضرين الموضين، والذي يظهر من القسمة أنها مصدر بمعنى القسمقال تعالى:

{ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ }

. وقيل: المراد بالقسمة المقسوم. وقيل: القسمة الإسم من الاقتسام لا من القسم،كالخيرة من الاختيار. ولا يكاد الفصحاء يقولون قسمت بينهم قسمة، وروى ذلك الكسائي. وقسمتك ما أخذته من الإقسام، والجمع قسم.وقال الخليل: القسم الحظ والنصيب من الجزء، ويقال: قاسمت فلاناً المال وتقاسمناه واقتسمناه، والقسم الذي يقاسمك. وظاهر قوله: فارزقوهم،الوجوب. وبه قال جماعة منهم: مجاهد، وعطاء، والزهري. وقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن: هو ندب. وفي قوله: فارزقوهم إضافةالرزق إلى غير الله تعالى، كما قال:

{ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرزِقِينَ }

وقيل: كان ذلك في الورثة واجباً فنسخته آية الميراث،والضمير في: منه عائد على المال المقسوم، ودل عليه القسمة، لأن القسمة وهي المصدر تدل على متعلقها وهو المال. وقيل:يعود إلى ما من قوله: ما ترك الوالدان والأقربون. ومن قال: القسمة المقسوم، أعاد الضمير إلى القسمة على معنى التذكير،إذ المراد المقسوم. وقدّم اليتامى على المساكين لأنّ ضعفهم أكثر، وحاجتهم أشد، فوضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم للأجر. والظاهر أنهميرزقون من عين المال المقسوم، ورأى عبيدة وابن سيرين: أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعام يأكلونه، وفعلاًذلك وذبحاشاة من التركة، وقسم عند عبيدة مال ليتيم فاشترى منه شاة وذبحها، وقال عبيدة: لولا هذه لكانت من مالي.وقوله: منه يدل على التبعيض، ولا تقدير فيه بالإجماع، وهذا مما يدل على الندب. إذ لو كان لهؤلاء حق معينلبين الله قدر ذلك الحق، كما بين في سائر الحقوق. وعلى هذا فقهاء الأمصار إذا كان الورثة كبار، وإن كانواصغاراً فليس إلا القول المعروف. والضمير في قوله: وقولوا لهم، عائد على ما عاد عليه الضمير في: فارزقوهم، وهم:أولو القربى واليتامى والمساكين. وقال ابن جرير: الآية محكمة في الوصية، والضمير في فارزقوهم عائد على أولي القربى الموصي لهم،وفي لهم عائد على اليتامى والمساكين. أمر أن يقال لهم قول معروف. وقيل أيضاً بتفريق الضمير، ويكون المراد من أوليالقربى الذين يرثون، والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون. فقوله: فارزقوهم راجع إلى أولي القربى. وقوله: لهم، راجع إلىاليتامى والمساكين. وما قيل من تفريق الضمير تحكم لا دليل عليه. والمقول المعروف فسره هنا ابن جبير أن يقوللهم: هذا المال لقوم غيب أو ليتامى صغار، وليس لكم فيه حق. وقيل: الدعاء لهم بالرزق والغنى. وقيل: هو القولالدال على استقلال ما أرضخوهم به، وروي عن ابن جبير. وقيل: العدة الحسنة بأن يقال: هؤلاء أيتام صغار، فإذا بلغواأمرناهم أن يعرفوا حقكم قاله، عطاء بن يسار، عن ابن جبير. وقيل: المعروف ما يؤنس به من دعاء وغيره. وظاهرالكلام أن الأصناف الثلاثة يجمع لهم بين الرزق والقول المعروف. وقيل: إما أن يعطوا وإما أن يقال لهم قول معروف.{وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } ظاهر هذه الجملةأنه أمر بخشية الله واتقائه. والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على ذلك بكونه هو يترك ذريةضعافاً، فيدخل في ذلك ولاة الأيتام، وبه فسر ابن عباس. والذي ينهى المحتضر عن الوصية لذوي القربى، ومن يستحق ويحسنله الإمساك على قرابته وأولاده. وبه فسر مقسم وحضرمي، والذي يأمر المحتضر بالوصية لفلان وفلان ويذكره بأن يقدم لنفسه، وقصدهإيذاء ورثته بذلك. وبه فسر ابن عباس أيضاً وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. وقالت فرقة: المراد جميع الناس أمرواباتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجرهم. وأن يسددو لهم القول كما يحبون أن يفعل بأولادهم.قال الزمخشري: ويجوز أن يتصل بما قبله، وأن يكون آمراً للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامىوالمساكين، وأن يتصور أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخشية؟ انتهى كلامه. وهوممكن أن يكون مراداً. قال القاضي: الأليق بما تقدم وما تأخر أن يكون من الآيات الواردة في الأيتام، فجعل تعالىآخر ما دعاهم به إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أن هذامن أقوى البواعث في هذا المقصود على الاحتياط فيه. وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر: بكسر لامالأمر في: وليخش، وفي: فليتقوا، وليقولوا. وقرأ الجمهور: بالإسكان. ومفعول وليخش محذوف، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة أي الله، ويحتملأن يكون هذا الحذف على طريق الأعمال، أعمل فليتقوا. وحذف معمول الأول، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصاراً، فكانحذفه اختصاراً أجوز، ويصير نحو قولك: أكرمت فبررت زيداً. وصلة الذين الجملة من لو وجوابها. قال ابن عطية: تقديره لوتركوا لخانوا. ويجوز حذف اللام في جواب لو تقول: لو قام زيد لقام عمرو، ولو قام زيد قام عمرو، انتهىكلامه. وقال الزمخشري: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم، خافواعليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل:لقد زاد الحياة إليّ حبا     بناتي إنهنّ من الضعاف أحاذر أن يرثن البؤس بعدي

انتهىكلامه. وقال غيرهما: لو تركوا، لو يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، وخافوا جواب لو انتهى. فظاهر هذه النصوص أنّلو هنا التي تكون تعليقاً في الماضي، وهي التي يعبر عنها سيبويه: بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره. ويعبرغيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره. وذهب صاحب التسهيل: إلى أنَّ لو هنا شرطية بمعنى أنفتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وليخش الذين إن تركوا من خلفهم. قال: ولو وقع بعد لو هذه مضارع لكانمستقبل المعنى كما يكون بعد أن قال الشاعر:لا يلفك الراجيك إلا مظهرا      خلق الكريم ولو تكون عديماً

وكان قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية، والأمر مستقبل، ومتعلق الأمر هو موصول، لم يصلحأن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر. وحسن مكان لو لفظ أن فقال: إنهاتعليق في المستقبل، وأنها بمعنى إن. وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم، فلذلك قال: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهملو شارفوا أن يتركوا، فلم تدخل لو على مستقبل، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر.وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى، واقعة بالفعل. إذ معنى: لو تركوامن خلفهم، أي ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى: أن إذ لايجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل. أما إذا كان ماضياً على تقدير يصح أن يقع صلة، وأن يكون العاملفي الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه. وأصل لو أن تكون تعليقاً في الماضي، ولايذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى: إن، إلا إذ دلّ على ذلك قرينة كالبيت المتقدّم. لأن جواب لو فيهمحذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله: لا يلفك. وكذلك قوله:قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم      دون النساء ولو بانت بإطهار

لدخول ما بعدها في حيز إذا، وإذا للمستقبل. ولو قال قائل: لوقام زيد قام عمر، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وأجاز أبو البقاءأن يكون في موضع الحال من ذرية. وقرأ الجمهور ضعافاً جمع ضعيف، كظريف وظراف. وأمال فتحة العين حمزة، وجمعهعلى فعال قياس. وقرأ ابن محيصن: ضعفاً بضمتين، وتنوين الفاء. وقرأت عائشة والسلمي والزهري وأبو حيوة وابن محيصن أيضاً: ضعفاءبضم الضاد والمد، كظريف وظرفاء، وهو أيضاً قياس. وقرىء ضعافى وضعافى بقالإمالة، نحو سكارى وسكارى. وأمال حمزة خافوا للكسرة التيتعرض له في نحو: خفت. وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولاً بالخشية التي محلها القلب وهي الاحترازمن الشيء بمقتضى العلم، وهي الحاملة على التقوى، ثم أمر بالتقوى ثانياً وهي متسببة عن الخشية، إذ هي جعل المرءنفسه في وقاية مما يخشاه. ثم أمر بالقول السديد، وهو ما يظهر من الفعل الناشىء عن التقوى الناشئة عن الخشية.ولا يراد تخصيص القول السديد فقط، بل المعنى على الفعل والقول السديدين. وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك علىالإنسان، كأنه قيل: أقل ما يسلك هو القول السديد. قال مجاهد: يقولون للذين يفرقون المال زد فلاناً وأعط فلاناً. وقيل:هو الأمر بإخراج الثلث فقط. وقيل: هو تلقين المحتضر الشهادة. وقيل: الصدق في الشهادة. وقيل: الموافق للحق. وقيل: للعدل. وقيل:للقصد. وكلها متقاربة. والسداد: الاستواء في القول والفعل. وأصل السد إزالة الاختلال. والسديد يقال في معنى الفاعل، وفي معنىالمفعول. ورجل سديد متردد بين المعنيين، فإنه يسدّد من قبل متبوعه، ويسدّد لتابعه. {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماًإِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء، قاله:ابن زيد. وقيل: في حنظلة بن الشمردل، ولي يتيماً فأكل ماله. وقيل: في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابنأخيه فأكله، قاله: مقاتل. وقال الأكثرون: نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم، وهي تتناولكل أكل بظلم لم يكن وصياً وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله، وخبران هيالجملة من قوله: إنما يأكلون. وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً، لأن وفي ذلك خلاف. وحسنذلك هنا تباعدهما بكون اسم إنّ موصولاً، فطال الكلام بذكر صلته. وفي بطونهم: معناه ملء بطونهم يقال: أكل في بطنه،وفي بعض بطنه. كما قال:كلوا في بعض بطنكم تعفوا      فإن زمانكم زمن خميص

والظاهر: تعلق في بطونهم بيأكلون، وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من قوله: ناراً. ونبّه بقوله: فيبطونهم على نقصهم، ووصفهم بالشره في الأكل، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن. وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر؟تـراه خميـص البطـن والـزاد حـاضر     

وقول الشنفري:وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن     بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وظاهر قوله: ناراً أنهم يأكلون ناراً حقيقة. وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: رأيت قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحراً من نار يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ويأكلهم النار حقيقة قالت طائفة: وقيل: هو مجاز، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب، بها عبر عن ذلك بالأكل فيالبطن، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها، إذ مآل مايوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان. ولذلك قال: {أَمَّا * مَلأٌ * ٱلإِنسَـٰنَ * وِعَاء * شَرّاً *مِنْ * بَطْنِهِ }. وقرأ الجمهور: وسيصلون مبنياً للفاعل من الثلاثي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر: بضم الياء وفتحاللام مبنياً للمفعول من الثلاثي. وابن أبي عبلة: بضم الياء وفتح الصاد واللام مشدّدة مبنياً للمفعول. والصلامن: التسخن بقرب النار،والإحراق إتلاف الشيء بالنار. وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية، بل كما قال:

{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ }

وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية. وجاء يأكلون بالمضارع دون سينالاستقبال، وسيصلون بالسين، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه. وإن كان مجازاًفليس بمستقبل، إذ المعنى: يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سبباً إلى العذاب بها. ولما كان لفظ نار مطلقاً فيقوله: إنما يأكلون في بطونهم ناراً، قيد في قوله سعيراً، إذ هو الجمر المتقد. وتضمنت هذه الآيات من ضروبالبيان والفصاحة. الطباق في: واحدة وزوجها، وفي غنياً وفقيراً، وفي: قل أو كثر. والتكرار في: اتقوا، وفي: خلق، وفي: خفتم،وأن لا تقسطوا، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى، وفي اليتامى، وفي النساء، وفي فادفعوا إليهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهمأموالهم، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وفي قوله: وليخش، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين، وإطلاقاسم المسبب على السبب في: ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل. وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في: وآتوااليتامى، سماهم يتامى بعد البلوغ. والتأكيد بالاتباع في: هنيئاً مريئاً وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في: نصيب مما ترك،وفي ناراً على قول من زعم أنها حقيقة. والتجنيس المماثل في: فادفعوا فإذا دفعتم، والمغاير في: وقولوا لهم قولاً. والزيادةللزيادة في المعنى في: فليستعفف. وإطلاق كل على بعض في: الأقربون، إذ المراد أرباب الفرائض. وإقامة الظرف المكاني مقام الزمانيفي: خلفهم، أي من بعد وفاتهم. والاختصاص في: بطونهم، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات. والتعريض في: في بطونهم، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها      واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله: في بطونهم. رفع المجاز العارض في قوله:

{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً }

وهذا على قول من حمله على الحقيقة، ومن حمله على المجاز فيكون عندهمن ترشيخ المجاز، ونظير كونه رافعاً للمجاز قوله:

{ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ }

وقوله:

{ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ }

والحذف في عدة مواضع.

{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } * { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }[عدل]

{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ } لما أبهم في قوله:

{ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ }

في المقدار والأقربين، بيّن في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين، وبدأ بالأولادوارثهم من والديهم، كما بدأ في قوله: للرّجال نصيب مما ترك الوالدان بهم. وفي قوله: يوصيكم الله في أولادكم إجمالأيضاً بينه بعد. وبدأ بقوله: للذكر، وتبين ما له دلالة على فضله. وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكربيان نقص الأنثى عنه، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فكفاهم إن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن إذ هنيدلين بما يدلون به من الولدية. وقد اختلف القول في سبب النزول، ومضمن أكثر تلك الأقاويل: أنهم كانوا لايورّثون البنات كما تقدم، فنزلت تبييناً لذلك ولغيره. وقيل: نزلت في جابر إذ مرض، فعاده الرسول فقال: كيف أصنع فيمالي؟ وقيل: كان الإرث للولد والوصية للوالدين، فنسخ بهذه الآيات. قيل: معنى يوصيكم يأمركم. كقوله:

{ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ }

وعدلإلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام، وطلب حصوله سرعة، وقيل: يعهد إليكم كقوله:

{ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً }

وقيل: يبين لكم في أولادكم مقادير ما أثبت لهم من الحق مطلقاً بقوله

{ لّلرّجَالِ * وَأَلَّوِ * ٱلاْرْحَامِ }

وقيل:يفرض لكم. وهذه أقوال متقاربة. والخطاب في: يوصيكم، للمؤمنين، وفي أولادكم: هو على حذف مضاف. أي: في أولاد موتاكم،لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ويفرض عليه ذلك، وإن كان المعنى بيوصيكم يبين جاز أنيخاطب الحي، ولا يحتاج إلى حذف مضاف. والأولاد يشمل الذكور والإناث، إلا أنه خص من هذا العموم من قام بهمانع الإرث، فأما الرّق فمانع بالإجماع، وأما الكفر فكذلك، إلا ما ذهب إليه معاذ من: أن المسلم يرث الكافر. وأماالقتل فإن قتل أباه لم يرث، وكذا إذا قتل جده وأخاه أو عمه، لا يرث من الدية، هذا مذهب ابنالمسيب، وعطاء، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد: لايرث من المال، ولا من الدية شيئاً. واستثنى النخعي من عموم أولادكم الأسير، فقال: لا يرث. وقال الجمهور: إذاعلمت حياته يرث، فإن جهلت فحكمه حكم المفقود. واستثنى من العموم الميراث من النبي ، وأما الجنينفإن خرج ميتاً لم يرث، وإن خرج حياً فقال القاسم، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والزهري، ومالك، والشافعي: يستهل صارخاً، ولوعطس أو تحرك أو صاح أو رضع أو كان فيه نفس. وقال الأوزاعي وسفيان والشافعي: إذا عرفت حياته بشيء منهذه، وإن لم يستهل فحكمه حكم الحي في الإرث. وأما الجنين في بطن أمه فلا خلاف في أنه يرث، وإنماالخلاف في قسمة المال الذي له فيه سهم. وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما الخنثى فداخل في عموم أولادكم، ولاخلاف في توريثه، والخلاف فيما يرث وفيما يعرف به أنه خنثى، وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما المفقود فقال أبوحنيفة: لا يرث في حال فقده من أحد شيئاً. وقال الشافعي: يوقف نصيبه حتى يتحقق موته، وهو ظاهر قولمالك: وأما المجنون والمعتوه والسفيه فيرثون إجماعاً، والولد حقيقة في ولد الصلب ويستعمل في ولد الابن، والظاهر أنه مجاز. إذلو كان حقيقة بطريق الاشتراك أو التواطىء لشارك ولد الصلب مطلقاً، والحكم أنه لا يرث إلا عند عدم ولد الصلب،أو عند وجود من لا يأخذ جميع الميراث منهم. وهذا البحث جار في الأب والجد والأم والجدة، والأظهر أنهليس على سبيل الحقيقة لاتفاق الصحابة على أنَّ الجد ليس له حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناولهحقيقة لما صح هذا الاتفاق. ولو أوصى لولد فلان فعند الشافعي لا يدخل ولد الولد، وعند مالك يدخل، وعند أبيحنيفة يدخل إن لم يكن لفلان ولد صلب. وللذكر: إما أن يقدّر محذوف أي: للذكر منهم، أو تنوب الألفواللام عن الضمير على رأي من يرى ذلك التقدير لذكرهم. ومثل: صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل. قال الفراء:ولم يعمل يوصيكم في مثل إجراء له مجرى القبول في حكاية الجمل، فالجملة في موضع نصب بيوصيكم. وقال الكسائي: ارتفعمثل على حذف أن تقديره: أنّ للذكر. وبه قرأ ابن أبي عبلة وأريد بقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعالذكر والأنثيين فله سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما إذا انفرد الابن فيأخذ المال أو البنتان، فسيأتي حكم ذلك. ولمتتعر الآية للنص على هاتين المسألتين. وقال أبو مسلم الأصبهاني: نصيب الذكر هنا هو الثلثان، فوجب أن يكون نصيبالانثيين. وقال أبو بكر الرازي: إذا كان نصيبها مع الذكر الثلث، فلا أن يكون نصيبها مع أنثى الثلث أولى، لأنالذكر أقوى من الأنثى. وقيل: حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى، وإلا لزم حظ الذكر مثل حظ الأنثى، وهو خلافالنص، فوجب أن يكون حظهما الثلثين، لأنه لا قائل بالفرق. فهذه وجوه ثلاثة مستنبطة من الآية تدل على أن فرضالبنتين الثلثان. ووجه رابع من القياس الجلي وهو أنه لم يذكر هنا حكم الثنتين، وذكر حكم الواحدة وما فوق الثنتين.وفي آخر السورة ذكر حكم الأخت الواحدة، وحكم الأختين، ولم يذكر حكم الأخوات، فصارت الآيتان مجملتين من وجه، مبينتين منوجه. فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين، كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب إلى الميت. ولما كان نصيب البناتالكثيرة لا يزاد على الثلثين، وجب أن لا يزاد نصيب الأخوات على ذلك، لأن البنت لما كانت أشدّ اتصالاً بالميتامتنع جعل الأضعف زائداً على الأقوى. وقال الماتريدي: في الآية دليل على أن المال كله للذكر إذا لم كن معهأنثى، لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين. وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله:

{ وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنّصْفُ }

فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ومثلاً النصف، هو الكل انتهى. وقرأ الحسن وابنأبي عبلة: يوصيكم بالتشديد. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة والأعرج: ثلثاً والثلث والربع والسدس والثمن بإسكان الوسط، والجمهور بالضم، وهيلغة الحجاز وبني أسد، قاله: النحاس من الثلث إلى العشر. وقال الزجاج هي لغة واحدة، والسكون تخفيف، وتقدير الآية: يوصيكمالله في شأن أولادكم الوارثين للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعهم مما ترك المورثون أن انفرد بالإرب، فإنكان معهما ذو فرض كان ما يبقى من المال لهما، والفروض هي المذكورة في القرآن وهي ستة: النصف، والربع، والثمن،والثلثان، والثلث، والسدس. {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } ظاهر هذا التقسيم أنّ ما زادعلى الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك موروثهما، وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن. ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكوروالإناث، وقصد هنا بيان حكم الإناث، أخلص الضمير للتأنيث. إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد، فعاد الضمير علىأحد القسمين، وكأن قوله تعالى:

{ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ }

في قوة قوله: {فِى أَوْلَـٰدِكُمْ} الذكور والإناث. وإذا كان الضمير قد عادعلى جمع التكسير العاقل المذكر بالنون في نحو قوله: ورب الشياطين ومن أضللن كما يعود على الإناث كقوله:

{ وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ }

فلأن يعود على جمع التكسير العاقل الجامع للمذكر والمؤنث، باعتبار أحد القسمين الذي هو المؤنث أولى، واسم كان الضميرالعائد على أحد قسمي الأولاد، والخبر نساء بصفته الذي هو فوق اثنتين، لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله: نساء وحده،وهي صفة للتأكيد ترفع أن يراد بالجمع قبلهما طريق المجاز، إذ قد يطلق الجمع ويراد به التشبيه وأجاز الزمخشري نساءخبراً ثانياً، لكان، وليس بشيء، لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد. ولو سكت على قوله فإن كننساء لكان نظير، أن كان الزيدون رجالاً، وهذا ليس بكلام. وقال بعض البصريين: التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين.وقدره الزمخشري: البنات أو المولودات. وقال الزمخشري: (فإن قلت): هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين، ويكوننساء وواحدة تفسيراً لهما على أن كان تامّة؟ (قلت): لا أبعد ذلك انتهى. ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسرمتقدّم، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما، وهذا الذي لم يبعده الزمخمشري هو بعيد، أو ممنوع ألبتة. لأن كان ليستمن الأفعال التي يكون فاعلها مضمراً يفسره ما بعده، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما، وفيباب التنازع على ما قرر في النحو. ومعنى فوق اثنتين: أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد، فليس لهنإلا الثلثان. ومن زعم أن معنى قوله: نساء فوق اثنتين، اثنتان فما فوقهما، وأنّ قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية،أو أنّ فوق زائدة مستدلاً بأن فوق قد زيدت في قوله:

{ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ }

فلا يحتاج في ردّ مازعم إلى حجة لوضوح فساده. وذكروا أنّ حكم الثنتين في الميراث الثلثان كالبنات. قالوا: ولم يخالف في ذلك إلا ابنعباس، فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر، وما احتجوا به تقدّم ذكره. وورد في الحديثفي قصة أوس بن ثابت: «أنه أعطى البنتين الثلثين» وبنات الابن أو الأخوات الأشقاء أو لأبكبنات الصلب في الثلثين إذا انفردن عن من يحجبهن. {وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنّصْفُ } قرأ الجمهور واحدة بالنصبعلى أنه خبر كان، أي: وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى. وقرأ نافع واحدة بالرفع على إنكان تامة وواحدة الفاعل. وقرأ السلمي: النصف بضم النون، وهي قراءة عليّ وزيد في جميع القرآن. وتقدّم الخلاف في ضمالنون وكسرها في

{ فنصف ما فرضتم }

في البقرة. وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب، والأخت الشقيقة أو لأب، والزوجإذا لم يكن للزوجة ولد، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف. {*} في البقرة. وبنت الابن إذالم تكن بنت صلب، والأخت الشقيقة أو لأب، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكلمنهم النصف. {وَلاِبَوَيْهِ لِكُلّ وٰحِدٍ مّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } لما ذكر الفروع ومقدار مايرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون، فذكر أنّ الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميتولد، وأبواه هما: أبوه وأمه. وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل: القمران، فغلب القمر لتذكيره على الشمس، وهي تثنيةلا تقاس. وشمل قوله: وله ولد الذكر والأنثى، والواحد والجماعة. وظاهر الآية أن فرض الأب السدس إذا كان للميتولد أي ولد كان، وباقي المال للولد ذكراً كان أو أنثى. والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد أنثى أخذالسدس فرضاً، والباقي تعصيباً. وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا: السدس لكل واحد من أبويه، والباقي للبنت أو الابن، إذالولد يقع على: الذكر، والأنثى، والجد، وبنات الابن مع البنت، والأخوات لأب مع أخت لأب وأم، والواحدة من ولد الأم،والجدات كالأب مع البنت في السدس. وقال مالك: لا ترث جدة أبي الأب. وقال ابن سيرين: لا ترث أم الأم.والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك، وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه.ولكل واحد منهما بدل من أبويه، ويفيد معنى التفصيل. وتبيين أن السدس لكل واحد، إذ لولا هذا البدل لكان الظاهراشتراكهما في السدس، وهو أبلغ وآكد من قولك: لكل واحد من أبويه السدس، إذ تكرر ذكرهما مرتين: مرة بالإظهار، ومرةبالضمير العائد عليهما. قال الزمخشري: والسدس مبتدأ، وخبره لأبويه، والبدل متوسط بينهما انتهى. وقال أبو البقاء: السدس رفع بالابتداء، ولكلواحد منهما الخبر، ولكل بدل من الأبوين، ومنهما نعت لواحد. وهذا البدل هو بدل بعض من كل، ولذلك أتى بالضمير،ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعانكذا. بل تقول: يصنع كذا. وفي قول الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظر، لأنّ البدل هو الذي يكون الخبر لهدون المبدل منه، كما مثلناه في قولك: أبواك كل واحد منهما يصنع كذا، إذا أعربنا كلا بدلاً. وكما تقول: إنّزيداً عينه حسنه، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغنى عن جعلالمبدل منه خبراً بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل. ولو كان التركيب:ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة، وظاهرقوله: ولأبويه، أنهما اللذان ولدا الميت قريباً لا جداه، ولا مَن علا من الأجداد. وزعموا أن قوله: أولادكم، يتناول منسفل من الأبناء. قالوا: لأنّ الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع، بخلاف قوله: في أولادكم. وفيما قالوه: نظروهماعندي سواء في الدلالة، إن نظر إلى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريباً، لامن سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريباً، لا من علا. أو إلى حمل اللفظ على مجازه، فيشترك اللفظانفي ذلك، فينطلق الأبوان على من ولداه قريباً. ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريباً. ومن سفل يبينحمله على الحقيقة في الموضعين أنَّ ابن الابن لا يرث الابن، وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع، فلم ينزلابن الابن منزلة الابن مع وجوده، ولا الحدة منزلة الأم. {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ ٱلثُّلُثُ} قوله: فإن لم يكن له ولد قسيم لقوله:

{ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ }

وورثه أبواه دليل عل أنهما انفردابميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام، لا ولد ولا غيره، فيكون قوله: وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال. فإذاخلص للأم الثلث كان الثاني وهو الثلثان للأب، فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول: هذا المال لزيد وعمرو،لزيد منه الثلث، فيعلم قطعاً أن باقيه وهو الثلثان لعمرو. فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو: الثلث بالإضافةإلى الأب. وقال ابن عباس وشريح: للأم الثلث من جميع المال مع الروح، والنصف للزوج، وما بقي للأب، فيكون معنى:وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد، وهذا مخالف لظاهر قوله: وورثه أبواه. إذ يدل على أنهما انفرد بالإرث، فيتقاسمانللذكر مثل حظ الأنثيين. ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم، إذ يضعف نصيبه على نصيبها إذ انفردبالإرث، ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما. وفي قول ابن عباس وشريح: يكون لها مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين، فتصير أقوىمن الأب، وتصير الأنثى لها مثلاً حظ الذكر، ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس. وفي إقامة الجدمقام الأب خلاف. فمن قال: أنه أب وحجب به الإخوة جماعة منهم: أبو بكر رضي الله عنه، ولم يخالفه أحدمن الصحابة في أيام حياته. وقال بمقالته بعد وفاته: أبي ومعاذ، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن الزبير عبد الله، وعائشة،وعطاء، وطاووس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور. وذهب علي، وزيد، وابن مسعود: إلى توريث الجد مع الأخوة، ولاينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأم أو للأب، إلا مع ذوي الفروض، فإنه لا ينقص معهم منالسدس شيئاً في قول: زيد، وهو قول: مالك، والأوزاعي، والشافعي، ومحمد، وأبي يوسف. كان عليّ يشرك بين الجد والإخوة فيالسدس، ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى. وذهب الجمهور: إلى أنَّ الجديسقط بني الإخوة من الميراث، إلا ما روي عن الشعبي عن علي: أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة.وأما أم الأم فتسمى أما مجاز، لكن لا يفرض لها الثلث إجماعاً، وأجمعوا على أن للجدة السدس إذا لميكن للميت أم، وعلى أن الأم تحجب أمها وأم الأب، وعلى أن الأب لا يحجب أم الأم. واختلفوا في توريثالجدة وابنتها. فروي عن عثمان وعلي وزيد: أنها لا ترث وابنتها حية، وبه قال: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو ثور، وأصحابالرأي. وروي عن عثمان وعلي أيضاً، وعمروابن مسعود وأبي موسى وجابر: أنها ترث معها. وقال به: شريك، وعبيد الله بنالحسن، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر. وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب، كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم. وقرأالإخوان: فلامه هنا موضعين، وفي القصص

{ فِى أُمّهَا }

وفي الزخرف: في

{ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ }

بكسر الهمزة، لمناسبة الكسرة والياء.وكذا قرأ من

{ بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ }

في النحل والزمر والنجم، أو

{ بُيُوتِ أُمَّهَـٰتِكُمْ }

في النور. وزاد حمزة: في هذهكسر الميم اتباعاً لكسرة الهمزة وهذا في الدرج. فإذا ابتدأ بضم الهمزة، وهي قراءة الجماعة درجاً وابتداء. وذكر سيبويه أنكسر الهمزة من أم بعد الياء، والكسر لغة. وذكر الكسائي والفراء: أنها لغة هوازن وهذيل. {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌفَلاِمِهِ ٱلسُّدُسُ }، وصار الأب يأخذ خمسة الأسداس. وذهب ابن عباس إلى أن الأخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهوالسدس، ولا يأخذه الأب. وروي عنه: أن الأب يأخذه لا الأخوة، لقول الجماعة من العلماء. قال قتادة: وإنما أخذه الأبدونهم لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وظاهر لفظ إخوة اختصاصه بالجمع المذكر، لأن إخوة جمع أخ. وقد ذهب إلىذلك طائفة فقالوا: الأخوة تحجب الأم عن الثلث دون الأخوات، وعندنا يتناول الجمعين على سبيل التعليب. فإذن يصير المراد بقوله:أخوة، مطلق الأخوة، أي: أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكوراً أو إناثاً، أو الصنفين. وظاهر لفظ أخوة، الجمع. وأن الذينيحطون الأم إلى السدس ثلاثة فصاعداً، وهو قول: ابن عباس: الأخوات عنده في حكم الواحد لا يحطان كما لا يحط،فالجمهور على أن الأخوين حكمهما في الحط حكم الثلاث فصاعداً. ومنشأ الخلاف: هل الجمع أقله اثنان أو ثلاثة؟ وهيمسألة يبحث فيها في أصول الفقه، والبحث فيها في علم النحو أليق. وقال الزمخشري: الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغيركمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالأخوة عليه انتهى. ولا نسلم لهدعوى أن الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة، بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية، فيحتاجفي إثبات دعواه إلى دليل. وظاهر أخوة الإطلاق، فيتناول الأخوة من الأم فيحجبون كما قلنا قبل. وذهب الروافض: إلى أنّالأخوة من الأم لا يحجبون الأم، لأنهم يدلون بها، فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوه لغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها.واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله: فإن كان له أخوة، لأنها إذاحرمت الثلث بالأخوة وانتقلت إلى السدس فلان تحرم بالبنت أولى. {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } المعنى:أنَّ قسمة المال بين من ذكر إنما تكون بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية، أو بدين. وليس تعلق الدين والوصيةبالتركة سواء، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعاً، ويبقى الباقي بينهم بالشركة،ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة. وتفصيل الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنهلا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال. ويبينأيضاً ذلك قوله:

{ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ }

، الآية. إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخاً لهذه الآية، وقددل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث. وقد استحبوا النقصان عنه هذاإذا كان له وارث، فإن لم يكن له وارث، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح: لا تجوز الوصية إلا فيالثلث. وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه: يجوز بجميع ماله، لأنّ الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة، فإذالم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره. وقد استدلبقوله: من بعد وصية يوصي بها أو دين، على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية، يكون جميع مالهلورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك. وفيهذا الاستدلال نظر. والوصية مندوب إليها، وقد كانت واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت. وادعى قوم وجوبها. وتتعلق من بمحذوف أي:يستحقون ذلك، كما فصل من بعد وصية، ويوصي في موضع الصفة، وبها متعلق بيوصي، وهو مضارع وقع موقع الماضي. والمعنى:من بعد وصية أوصى بها. ومعنى: أو دين، لزمه. وقدم الوصية على الدين، وإن كان أداء الدين هو المقدم علىالوصية بإجماع اهتماماً بها وبعثاً على إخراجها، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقاً على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها،بخلاف الدين. فإنّ نفس الوارث موطنة على أدائه، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ: أو، في الوجوب. أو لأنّ الوصيةمندوب إليها في الشرع محضوض عليها، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له. والدين لا يلزم أن يوجد، إذ قد يكون علىالميت دين وقد لا يكون، فبدىء بما كان وقوعه كاللازم، وأخر ما لا يلزم وجوده. ولهذه الحكمة كان العطف بأو،إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له، لكان العطف بالواو، أو لأن الوصية حظ مساكينوضعاف، والدين حظ غريم يطلبه بقوة. وله فيه مقال. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى أو؟ (قلت): معناها الإباحة، وأنهإن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك: جالس الحسن، أو ابن سيرين انتهى. ودلت الآية علىأن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين، فدل على أنّ إخراج ما وجب بها سابقعلى الميراث، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينهوحمله ووضعه في قبره، أو ما يحتاج إليه من ذلك. وقرأ الابنان وأبو بكر: يوصي فيهما مبنياً للمفعول، وتابعهم حفصعلى الثاني فقط، وقرأهما الباقون: مبنياً للفاعل. {وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً } قال ابن عباسوالحسن: هو في الآخرة لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ليشفع في ولده، وكذا الولد في والديه. وقالمجاهد وابن سيرين والسدي: معناه في الدّنيا، أي: إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة. ونحا إليه الزجاج، وقد ينفقون دون اضطرار.وقال ابن زيد: في الدنيا والآخرة، واللفظ يقتضي ذلك. وروى عن مجاهد: أقرب لكم نفعاً في الميراث والشفاعة. وقال ابنبحر: أسرع موتاً فيرثه الآخر. وقال ابن عيسى: أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة، فإنكملا تدرون أنتم ذلك، وقريب منه قول الزجاج. قال: معنى الكلام أنه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عندهحكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة، ولهذا أتبعه بقوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }

أي عليم بما يصلح لخلقه، حكيم فيما فرض. قال ابن عطية: وهذا تعريض للحكمة في ذلك،وتأنيس للعرب الذين كانوا يورّثون على غير هذه الصفة. وقيل: تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث. وقيل:المعنى في أقرب لكم نفعاً الأب بالحفظ والتربية، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة. وقريب من هذا قول أبي يعلى، قال:معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباءينتفعون في كبرهم بالابناء. وقال الزمخشري معلقاً هذه الجملة: بالوصية، وأنها جاءت ترغيباً فيها وتأكيداً. قال: لا تدرون من أنفعلكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني: أن من أوصى ببعض ماله فعرضكملثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعاً، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا، وجعل ثواب الآخرةأقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنهفانِ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهىكلامه. وهو خطابه. والوصية في الآية لم يأتِ ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها، وإنما جاء ذكرها ليبين أنّ القسمة تكونبعد إخراجها وإخراج الدين، فليست مما يحدث عنها، وتفسر هذه الجملة بها. ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث،فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى، أن يرث مثل حظ الأنثيين، وكان حكم الأبوين إذا مات الابنعنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن،إذ ذاك لماله على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته، مع ما أمر به الابنفي حياته من بر أبيه. أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث،بين تعالى أنّ قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندرينحن أيهم أقرب نفعاً، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته. فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن،فإذا كان علم ذلك عازباً عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللهاولا ندركها، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله. وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريثسواء. قالوا: وارتفع أيهم على الابتداء، وخبره أقرب، والجملة في موضع نصب لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم استفهامتعلق عن العمل في لفظه، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علمالنحو، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه، وهو: أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم،وهي مفعول ببتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب، فيكون نظير قوله تعالى:

{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ }

وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظاً محذوف صدر صلتها {فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ } انتصب فريضةانتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم. وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأنالفريضة ليست مصدراً. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي عليماً بمصالح العباد، حكيماً فيما فرض، وقسم من المواريث وغيرها.وتقدّم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى، ومن زعم أنها التامة وانتصب عليماً على الحال فقوله:ضعيف، أو أنهار زائدة فقوله: خطأ. {وَلَـٰكِنِ * نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوٰجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَلَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ } لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول، وميراث الأصول من الفروع،أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا بالنسب وهو للزوجية هنا، ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء. والتوارث المستقرفي الشرع هو بالنسب، والسبب الشامل للزوجية والولاء. وكان في صدر الإسلام يتوارث بالموالاة والخلف والهجرة، فنسخ ذلك. وقدّم ذكرميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب، لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما، واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه دونعشرة الكلاله، وبدىء بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء. ولما كان الذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثلحظ الأنثيين، جعل في سبب التزوج الذكر له مثلاً حظ الأنثى. ومعنى: كان لهن ولد أي: منكم أيها الوارثون، أومن غيركم. والولد: هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو أكثر، وحكم بني الذكورمنها وإن سفلوا حكم الولد للبطن، في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع. {وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْإِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ } الولد هنا كالولد فيتلك الآية. والربع والثمن يشترك فيه الزوجات إن وجدن، وتنفرد به الواحدة. وظاهر الآية: أنهما يعطيان فرضهما المذكور في الآيتينمن غير عول، وإلى ذلك ذهب ابن عباس. وذهب الجمهور إلى أنّ العول يلحق فرض الزوج والزوجة، كما يلحق سائرالفرائض المسماة. {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـٰلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وٰحِدٍ مّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ } الكلالة:خلو الميت عن الوالد ولولد قاله: أبو بكر، وعمر، وعلي، وسليم بن عبيد، وقتادة، والحكم، وابن زيد، والسبيعي. وقالت طائفة:هي الخلوّ من الولد فقط. وروي عن أبي بكر وعمر ثم رجعا عنه إلى القول الأوّل. وروى أيضاً عن ابنعباس، وذلك مستقر من قوله في الأخوة مع الوالدين: إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونه. ويلزم على قوله: إذ ورثهمبأن الفريضة كلالة أن يعطيهم الثلث بالنص. وقالت طائفة منهم: الحكم بن عيينة، هي الخلو من الولد. قال ابن عطية:وهذا إن القولان ضعيفان، لأنّ من بقي والده أو ولده فهو موروث بنسب لا بتكلل. وأجمعت الأمة الآن على أنَّالأخوة لا يرثون مع ابن ولا أرب، وعلى هذا مضت الأعصار والأمصار انتهى. واختلف في اشتقاقها. فقيل: من الكلالوهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بعد إعياء. قال الأعشى:

فا ليت لا أرثي لها من كلالة     ولا من وجى حتى نلاقي محمدا

وقال الزمخشري: والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهوذهاب القوة من الإعياء. فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتها كالة ضعيفة. انتهى. وقيل: هيمشتقة من تكلله النسب أحاط به. وإذا لم يترك والداً ولا ولداً فقد انقطع طرفاه، وهما عمودا نسبه، وبقي موروثهلمن يتكلله نسبه أي: يحيط به من نواحيه كالإكليل. ومنه روض مكلل بالزهر. وقال الفرزدق:

ورثتم قناة المجد لا عن كلاله     عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

وقال الأخفش: الكلالة من لا يرثه أب ولا أم.والذي عليه الجمهور أنَّ الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا مولود، وهو قول جمهور أهل اللغة صاحب العين، وأبيمنصور اللغوي، وابن عرفة، وابن الأنباري، والعتبي، وأبي عبيدة. وغلط أبو عبيدة في ذكر الأخ مع الأب والولد. وقطرب فيقوله: الكلالة اسم اسم لمن عدا الأبوين والأخ، وسمى ما عدا الأب والولد كلالة، لأنه بذهاب طرفيه تكلله الورثة وطافوابه من جوانبه. ويرجح هذا القول نزول الآية في جابر ولم يكن له يوم نزولها ابن ولا أب، لأنّ أباهقتل يوم أحد فصارت قصة جابر بياناً لمراد الآية. وأما الكلالة في الآية فقال عطاء: هو المال. وقالت طائفة: الكلالةالورثة، وهو قول الراغب قال: الكلالة اسم لكل وارث. قال الشاعر:

والمرء يجمع للغنى     وللكلالة ما يسيم

وقال عمرو بن عباس: الكلالة الميت الموروث. وقالت طائفة: الورثة بجملتها كلهم كلالة. وقرأالجمهور: يورث بفتح الراء مبنياً للمفعول، من أورث مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن: كسرها مبنياً للفاعل من أورث أيضاً. وقرأ أبورجاء والحسن والأعمش: بكسر الراء وتشديدها. من ورّث. فأما على قراءة الجمهور ومعنى الكلالة أنه الميت أو الوارث، فانتصاب الكلالةعلى الحال من الضمير المستكن في يورث. وإذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير: ذا كلالة، لأن الكلالة إذ ذاكليست نفس الضمير في يورث. وإن كان معنى الكلالة القرابة، فانتصابها على أنها مفعول من أجله أي: يورث لأجل الكلالة.وأما على قراءة الحسن وأبي رجاء، فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال، والمفعولان محذوفان، التقدير: يورث وارثه مالهفي حال كونه كلالة. وإن كان المعنى بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بيورث، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره:يورث كلالة ماله أو القرابة، فعلى المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضاً، ويجوز في كان أن تكون ناقصة، فيكون يورثفي موضع نصب على الخبر. وتامة فتكون في موضع رفع على الصفة. ويجوز إذا كانت ناقصة والكلالة بمعنى الميت، أنيكون يورث صفة، وينتصب كلالة على خبر كان، أو بمعنى الوارث. فيجوز ذلك على حذف مضاف أي: وإن كان رجلموروث ذا كلالة. وقال عطاء: الكلالة المال، فينتصب كلالة على أنه مفعول ثان، سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول. وقالابن زيد: الكلالة الوراثة، وينتصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره: وراثة كلاله. وقد كثر الاختلاف فيالكلالة، وملخص ما قيل فيها: أنها الوارث، أو الميت الموروث، أو المال الموروث، أو الوراثة، أو القرابة. وظاهر قوله: يورثأي: يورث منه، فيكون هو الموروث لا الوارث. ويوضحه قراءة من كسر الراء. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فإن جعلت يورثعلى البناء للمفعول من أورث فما وجهه؟ (قلت): الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. (فإن قلت): فالضمير في قوله: فلكلواحد منهما إلى من يرجع حينئذ؟ (قلت): إلى الرجل وإلى أخيه وأخته، وعلى الأول إليهما (فإن قلت): إذا رجع الضميرإليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر والأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت:نعم، لأنك إذا قلت: السدس له، أو لواحدٍ من الأخ أو الأخت على التخيير، فقد سويت بين الذكر والأنثى انتهىكلامه. وملخص ما قال: أن يكون المعنى: إن كان أحد اللذين يورثهما غيرهما من رجل أو امرأة له أحد هذينمن أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس. وعطف وامرأة على رجل، وحذف منها ما قيد به الرجل لدلالة المعنى،والتقدير: أو امرأة تورث كلالة. وإن كان مجرد العطف لا يقتضي تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه. والضمير في: وله، عائدعلى الرجل نظير:

{ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها }

في كونه عاد على المعطوف عليه. وإن كان يجوز أنيعاد الضمير على المعطوف تقول: زيد أو هند قامت، نقل ذلك الأخفش والفراء. وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم. وزادالفراء وجهاً ثالثاً وهو: أن يسند الضمير إليهما. قال الفراء: عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو، وأن تعيد الضميرإليهما جميعاً، وإلى حدهما أيهما شئت. تقول: مَن كان له أخ أو أخت فليصله. وإن شئت فليصلها انتهى. وعلى هذاالوجه ظاهر قوله: {*} في كونه عاد على المعطوف عليه. وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول: زيدأو هند قامت، نقل ذلك الأخفش والفراء. وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم. وزاد الفراء وجهاً ثالثاً وهو: أن يسندالضمير إليهما. قال الفراء: عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو، وأن تعيد الضمير إليهما جميعاً، وإلى حدهما أيهما شئت.تقول: مَن كان له أخ أو أخت فليصله. وإن شئت فليصلها انتهى. وعلى هذا الوجه ظاهر قوله:

{ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا }

وقد تأوله من منع الوجه. وأصل أخت أخوة على وزن شررة، كما أن بنتاًأصله بنية على أحد القولين في ابن، أهو المحذوف منه واو أو ياء؟ قيل: فلما حذفت لام الكلمة وتاء التأنيث،وألحقوا الكلمة بقفل وجذع بزيادة التاء آخرهما قال الفراء: ضم أول أخت ليدل على أن المحذوف واو، وكسر أول بنتليدل على أن المحذوف ياء انتهى. ودلت هذه التاء التي للإلحاق على ما دلت عليه تاء التأنيث من التأنيث. وظاهرقوله: وله أخ أو أخت الإطلاق، إذ الأخوة تكون بين الأحقاف والأعيان وأولاده العلات، وأحمعوا على أنّ المراد في هذهالآية الأخوة للأم. ويوضح ذلك قراءة أبيّ وله أخ أو أخت من الأم. وقراءة سعد بن أبي وقاص: وله أخأو أخت من أم، واختلاف الحكمين هنا، وفي آخر السورة يدل على اختلاف المحكوم له، إذ هنا الإبنان أو الأخوةيشتركون في الثلث فقط ذكوراً أو إناثاً بالسوية بينهم. وهناك يحوزون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، والبنتان لهما الثلثان، والضميرفي منهما الظاهر أنه يعود على أخ أو أخت. وعلى ما جوزه الزمخشري يعود على أحد رجل وامرأة واحد أخوأخت، ولو ماتت عن زوج وأم وأشقاء فله النصف ولهما السدس، ولهم الباقي أولاً فلهم الثلث. أو أخوين لأم أشقاءفهذه الحمادية. فهل يشترك الجميع في الثلث، أم ينفرد به الأخوان لأم؟ قولان، قال بالتشريك عمر في آخر قضائه، وابنمسعود وزيد بن ثابت وأبو حنيفة وأصحابه. وقال بالانفراد: علي وأبو موسى، وأبي، وابن عباس. {فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِنذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِى ٱلثُّلُثِ } الإشارة بذلك إلى أخ أو أخت، أي أكثر من واحد. لأنّ المحكوم عليه بأنله السدس هو كل واحد من الأخ والأخت فهو واحد، ولم يحكم على الاثنين بأن لهما جميعاً السدس، فتصح الأكثريةفيما أشير إليه وهو ذلك، بل المعنى هنا بأكثر يعني: فإن كان من يرث زائداً على ذلك أي: على الواحد،لأنه لا يصح أن يقول هذا أكثر من واحد إلا بهذا المعنى، لتنافي معنى كثير وواحد، إذ الواحد لا كثرةفيه. وفي قوله: فإن كانوا، وفهم شركاء غلب ضمير المذكر، ولذلك جاء بالواو وبلفظ، فهم هذا كله على ما قررتفيه الأحكام. وظاهر الآية: أنه إذا ترك أخاً أو أختاً، أي أحد هذين، فلكل واحد منهما السدس أو أكثر اشتركوافي الثلث، أما إذا ترك اثنين من أخ أو أخت، فلا يدل على ذلك ظاهر الآية. {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍيُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ * غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ ٱللَّهِ } الضمير في يوصي عائد على رجل، كما عاد عليهفي: وله أخ. ويقوي عود الضمير عليه أنه هو الموروث لا الوارث، لأن الذي يوصي أو يكون عليه الدين هوالموروث لا الوارث. ومن فسر قوله:

{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ }

أنه هو الوارث لا الموروث، جعل الفاعل في يوصي عائداًعلى ما دل عليه المعنى من الوارث. كما دل المعنى على الفاعل في قوله:

{ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ }

لأنهعلم أن الموصي والتارك لا يكون إلا الموروث، لا الوارث. والمراد: غير مضار، ورثته بوصيته أو دينه. ووجوه المضارة كثيرة:كان يوصي بأكثر من الثلث، أو لوارثه، أو بالثلث، أو يحابى به، أو يهبه، أو يصرفه إلى وجوه القرب منعتق وشبهه فراراً عن وارث محتاج، أو يقر بدين ليس عليه. ومشهور مذهب مالك أنه ما دام في الثلث لابعد مضاراً، وينبغي اعتبار هذا القيد وهو انتفاء الضرر فيما تقدم من ذكر قوله:

{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا }

{ وتوصون ويوصين }

ويكون قد حذف مما سبق لدلالة ما بعده عليه، فلا يختص من حيث المعنى انتفاء الضرر بهذه الآيةالمتأخرة. قال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي . وعنه صلى الله عليهوسلم من حديث أبي هريرة: من ضار في وصيته ألقاه الله في وادي جهنم . وقال قتادة: نهى الله عن الضرارفي الحياة وعند الممات. قالوا: وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصي، والعامل فيهما يوصي. ولايجوز ما قالوه، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي منهما وهو قوله: أو دين. لأن قوله: أو دين، معطوفعلى وصية الموصوفة بالعامل في الحال. ولو كان على ما قالوه من الأعراب لكان التركيب من بعد وصية يوصي بهاغير مضار أو دين. وعلى قراءة من قرأ: يوصَى بفتح الصاد مبنياً للمفعول، لا يصح أن يكون حالاً لما ذكرناه،ولأنّ المضار لم يذكر لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف.لو قلت: تُرسل الرياح مبشراً بها بكسر الشين، لم يجز وإن كان المعنى يرسل الله الرياح مبشراً بها. والذي يظهرأنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى، ويكون عاماً لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين،وتقديره: يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب. وقيل: يضمر يوصي لدلالة يوصي عليه،كقراءة يسبح بفتح الباء. وقال رجال: أي يسبحه رجال. وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد أي: يوصيكم اللهبذلك وصية، كما انتصب

{ فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ }

. وقال ابن عطية: هو مصدر في موضع الحال، والعامل يوصيكم. وقيل:هو نصب على لخروج من قوله:

{ فَلِكُلّ وٰحِدٍ مّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ }

أو من قوله:

{ فَهُمْ شُرَكَاء فِى ٱلثُّلُثِ }

وجوزهو والزمخشري نصب وصية بمضار على سبيل التجوز، لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية، لكنه ما كانالورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية. ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن غير مضاروصية، فخفض وصية بإضافة مضار إليه، وهو نظير يا سارق الليلة المعنى: يا سارقي في الليلة، لكنه اتسع في الفعلفعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به، وكذلك التقدير في هذا غير مضار في: وصية من الله، فاتسع وعدي اسم الفاعلإلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به. {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } عليم بمن جار أو عدل، حليمعن الجائر لا يعاجله بالعقوبة قاله: الزمخشري. وفيه دسيسة الاعتزال أي: أنّ الجائر وإن لم يعاجله الله بالعقوبة فلا بدله منها. والذي يدل عليه لفظ حليم هو أن لا يؤاخذ بالذنب كما يقوله أهل السنة. وعلى قولهم يكون هذاالوصف يدل على الصفح عنه البتة. وحسن ذلك هنا لأنه لما وصف نفسه بقوله: عليم، ودل على اطلاعه على مايفعله الموروث في مضارته بورثته في وصيته ودينه، وأنّ ذكر علمه بذلك دليل على مجازاته على مضارته، أعقب ذلك بالصفةالدالة على الصفح عمن شاء، وذلك على عادة أكثر القرآن بأنه لا يذكر ما يدل على العقاب، إلا ويردف بمادل على العفو. وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث، وسبب الميراث هو الاتصال بالميت، فإن كان بغير واسطة فهوالنسب أو الزوجية، أو بواسطة فهو الكلالة. فتقدّم الأول على الثاني لأنه ذاتي، والثاني عرض، وأخّر الكلالة عنهما لأن الاثنينلا يعرض لهما سقوط بالكلية، ولكون اتصالهما بغير واسطة، ولأكثرية المخالطة. انتهى ملخصاً من كلام الرازي في تفسيره. {تِلْكَحُدُودُ ٱللَّهِ } قيل: الإشارة بتلك إلى القسمة المتقدّمة في المواريث. والأولى أن تكون إشارة إلى الأحكام السابقة في أحوالاليتامى والزوجات والوصايا والمواريث، وجعل هذه الشرائع حدوداً، لأنها مؤقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها. وقال ابنعباس: حدود الله طاعته. وقال السدّي: شروطه. وقيل: فرائضه. وقيل: سننه. وهذه أقوال متقاربة. {وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُجَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } لما أشار تعالى إلى حدوده التي حدَّها قسَّم الناسإلى عامل بها مطيع، وإلى غير عامل بها عاص. وبدأ بالمطبع لأن الغالب على من كان مؤمناً بالله تعالى الطاعة،إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامّة، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث، ولأن قسم الخير ينبغي أنيبتدأ به وأن يعتني بتقديمه. وحمل أولاً على لفظ من في قوله: يطع، ويدخله، فأفرد ثم حمل على المعنى فيقوله: خالدين. وانتصاب خالدين على الحال المقدرة، والعامل فيه يدخله، وصاحب الحال هو ضمير المفعول في يدخله. قال ابنعطية: وجمع خالدين على معنى من بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ من، وعكس هذا لا يجوز انتهى. وما ذكرأنه لا يجوز من تقدم الحمل على المعنى ثم على اللفظ جائز عند النحويين، وفي مراعاة الحملين تفصيل وخلاف مذكورفي كتب النحو المطولة. وقال الزمخشري: وانتصب خالدين وخالداً على الحال. (فإن قلت): هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات وناراً؟(قلت): لا، لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بد من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالداً هو:فيها انتهى. وما ذكره ليس مجمعاً عليه، بل فرع على مذهب البصريين. وأما عند الكوفيين فيجوز ذلك، ولا يحتاج إلىإبراز الضمير إذا لم يلبس على تفصيل لهم في ذلك ذكر في النحو. وقد جوز ذلك في الآية الزجاج والتبريزيأخذ بمذهب الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر: ندخله هنا، وفي: ندخله ناراً بنون العظمة. وقرأ الباقون: بالياء عائداً على اللهتعالى. قال الراغب: ووصف الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدّنيا الموصوف بقوله:

{ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ }

والصغير والقليل في وصفهمامتقاربان. {وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } لما ذكر ثواب مراعي الحدودذكر عقاب من يتعداها، وغلظ في قسم المعاصي، ولم يكتف بالعصيان بل أكد ذلك بقوله: ويتعدّ حدوده، وناسب الختم بالعذابالمهين، لأن العاصي المتعدّي للحدود برز في صورة من اغتر وتجاسر على معصية الله. وقد تقل المبالاة بالشدائد ما لم ينضم إليها الهوان، ولهذا قالوا: المنية ولا الدنية. قيل: وأفرد خالداً هنا، وجمع في خالدين فيها، لأنّ أهل الطاعة أهلالشفاعة، وإذا شفع في غير دخلها، والعاصي لا يدخل النار به غيره، فبقي وحيداً انتهى. وتضمنت هذه الآيات من أصناف البديع: التفصيل في: الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله: للرجال نصيب الآية. والعدول من صيغة: يأمركم الله إلى يوصيكم، لما في الوصية من التأكيد والحرص على اتباعها. والطباق في: للذكر مثل حظ الأنثيين، وفي: من يطع ومن يعص، وإعادة الضمير إلى غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله: مما ترك أي: ترك الموروث. والتكرار في: لفظ كان، وفيفريضة من الله، أن الله، وفي: ولداً، وأبواه، وفي: من يعد وصية يوصي بها أو دين، وفي: وصية من اللهأن الله، وفي: حدود الله، وفي: الله ورسوله. وتلوين الخطاب في: من قرأ ندخله بالنون. والحذف في مواضع.

{ وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } * { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } * { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } * { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } * { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } * { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } * { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَاتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } * { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً }[عدل]

العشرة: الصحبة والمخالطة. يقال: عاشروا، وتعاشروا، واعتشروا. وكان ذلك من أعشار الجذور، لأنهامقاسمة ومخالطة. الإفضاء إلى الشيء: الوصول إلى فضاء منه، أي سعة غير محصورة. وفي مثل الناس فوضى فضى أي: مختلطون،يباشر بعضهم بعضاً. ويقال: فضاً يفضو فضاًء إذا اتسع، فألف أفضى منقلبة عن ياء أصلها واو. المقت: البغض المقرون باستحقارحصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. العمة: أخت الأب. الخالة: أخت الأم، وألفها منقلبة عن واو، دليل ذلك قولهم: أخوالفي جمع الخال، ورجل مخول كريم الأخوال. الربيبة: بنت زوج الرجل من غيره. الحَجر بفتح الحاء وكسرها: مقدّم ثوب الإنسانوما بين يديه منه في حال اللبس، ثم استعملت اللفظة في السير والحفظ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلاً، وما أشبههفي ذلك الموضع من الثوب، وجمعه حجور. الحليلة: الزوجة، والحليل الزوج قال:

أغشى فتاة الحي عند حليلها     وإذا غزا في الجيش لا أغشاها

سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل، فهي فعيلة بمعنىفاعلة. وذهب الزجاج وغيره إلى أنها من لفظ الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.الصلب: الظهر، وصلب صلابة قوي واشتدّ. وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن له: أن الصلب وهو الظهر، على وزن قفلهو لغة أهل الحجاز ويقول فيه تميم وأسد: الصلب بفتح الصاد واللام. قال: وأنشدني بعضهم:

وصلب مثـل العنـان المـؤدم قال وأنشدني بعض بني أسد إذا أقـوم أتشكي صلبـي    

المحصنة: المرأة العفيفة. يقال: أحصنت فهي محصن، وحصنت فهي حصان عفت عنالرّيبة ومنعت نفسها منها. وقال شمر: يقال امرأة حصان، وحاصن. قال:

وحاصن من حاصنات ملس     من الأذى ومن فراق الوقس

ومصدر حصنت حصن. قال سيبويه: وقال أبو عبيدة والكسائي: حصانة. ويقال في اسم الفاعلمن أحصن وأسهب وأبعج، مفعل بفتح عين الكلمة، وهو شذوذ نقله ثعلب عن ابن الأعرابي. وأصل الإحصان المنع، ومنه قيلللدرع وللمدينة: حصينة والحصن وفرس حصان. المسافحة والسفاح: الزنا، وأصله من السفح وهو الصب، يسفح كل من الزانيين نطفته. الخدنوالخدين: الصاحب. الطول: الفضل، يقال منه: طال عليه يطول طولاً فضل عليه. وقال الليث والزجاج: الطول القدرة. انتهى. ويقال له:عليه طول أي زيادة وفضل، وقد طاله طولاً فهو طائل. قال الشاعر:

لقد زادني حباً لنفسي أنني     بغيض إلى كل امرىء غير طائل

ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان.الفتاة الحديثة السن والفتاء الحداثة. قال: فقد ذهب المروءة والفتاء. وقال ابن منصور الجواليقي: المتفتية والفتاة المراهقة، والفتى الرفيق، ومنه:

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَـٰهُ }

والفتى: العبد. ومنه: {لا * يَقُلْ * أَحَدَكُمُ }. الميل: العدول عن طريق الاستواء. {يُدْخِلْهُنَاراً خَـٰلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ } قال مجاهد واختاره أبومسلم بن بحر الأصبهاني: هذه الآية نزلت في النساء. والمراد بالفاحشة هنا: المساحقة، جعل حدّهن الحبس إلى أن يمتن أويتزوجن. قال: ونزلت

{ وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ }

في أهل اللواط. والتي في النور: في

{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى }

وخالف جمهور المفسرين.وبناه أبو مسلم على أصل له: وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ. ومناسبة هذه الآية لماقبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن، وقد كن لا يورثن في الجاهلية، ذكر التغليظعليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن، إذ هو نظر في أمر آخرتهن، ولئلا يتوهم أنّ منالإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد. ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشاربتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج، وإباحة ما أباحمن نكاح أربع لمن باح ذلك، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح منالزواني، وأفردهن بالذكر أولاً، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال، ثم ذكرهن ثانياً مع الرجال الزانينفي قوله: {وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ } فصار ذكر النساء الزواني مرّتين: مرة بالإفراد، ومرّة بالشمول. واللاتي جمع من حيثالمعنى للتي، ولها جموع كثيرة أغربها: اللاآت، وإعرابها إعراب الهندات. ومعنى يأتين الفاحشة: يجئن ويغشين. والفاحشة هنا الزنا بإجماعمن المفسرين، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة، ويأتي الكلام معه في ذلك،وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. قيل: فإن قيل: القتل والكفر أكبر من الزنا،قيل: القوى المدبرة للبدن ثلاث: الناطقة وفسادها بالكفر والبدعة وشبههما، والغضبية وفسادها بالقتل والغضب وشبههما، وشهوانية وفسادها بالزنا واللواط والسحروهي: أخس هذه القوى، ففسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا خص هذا العمل بالفاحشة. وحجة أبي مسلم في أن الفاحشة هيالسحاق قوله: {وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ * وَمِنْ * نِسَائِكُمْ } وفي الرجال: {وَٱللَّذَانَ } ومنكم وظاهره التخصيص، وبأن ذلك لا يكونفيه نسخ، وبأنه لا يلزم فيه التكرار. ولأن تفسير السبيل بالرجم أو الجلد والتغريب عند القائلين بأنها نزلت في الزنا،يكون عليهن لا لهن، وعلى قولنا: يكون السبيل تيسر الشهوة لهن بطريق النكاح. وردوا على أبي مسلم بأن ما قالهلم يقله أحد من المفسرين، فكان باطلاً. وأجاب: بأنه قاله مجاهد، فلم يكن إجماعاً وتفسير السبيل بالحديث الثابت: {قَدْ جَعَلَٱللَّهُ * لَهُنَّ سَبِيلاً } الثيب ترجم والبكر تجلد فدل على أن ذلك في الزناة. وأجاب بأنه يقتضي نسخ القرآنبخبر الواحد، وأنه غير جائز. وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللوطية ولم يتمسك أحد منهم بقوله: واللذان يأتيانها منكم، فدلعلى أنها ليست فيهم. وأجاب بأن مطلوب الصحابة: هل يقام الحد على اللوطي وليس فيها دلالة على ذلك لا بالنفيولا بالإثبات؟ فلهذا لم يرجعوا إليه. انتهى. ما احتج به أبو مسلم، وما ردّ به عليه، وما أجاب به. والذييقتضيه ظاهر اللفظ هو قول مجاهد وغيره: أن اللاتي مختص بالنساء، وهو عام أحصنت أو لم تحصن. وإن واللذان مختصبالذكور، وهو عام في المحصن وغير المحصن. فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى. ويكون هاتان الآيتان وآية النور قد استوفتأصناف الزناة، ويؤيد هذا الظاهر قوله: من نسائكم وقوله: منكم، لا يقال: إن السحاق واللواط لم يكونا معروفين في العربولا في الجاهلية، لأن ذلك كان موجوداً فيهم، لكنه كان قليلاً. ومن ذلك قول طرفة بن العبد:

ملك النهار وأنت الليل مومسة     ماء الرجال على فخذيك كالقرس

وقال الراجز:

يا عجباً لساحقات الورس     الجاعلات المكس فوق المكس

وقرأ عبد الله: واللاتي يأتين بالفاحشة، وقوله: من نسائكم اختلف، هل المراد الزوجاتأو الحرائر أو المؤمنات أو الثيبات دون الأبكار؟ لأن لفظ النساء مختص في العرف بالثيب، أقوال. الأول: قاله قتادة والسديوغيرهما. قال ابن عطية: قوله من نسائكم إضافة في معنى الإسلام، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين ينسب ولايلحقها هذا الحكم انتهى. وظاهر استعمال النساء مضافة للمؤمنين في الزوجات كقوله تعالى:

{ لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ }

{ وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ }

وكون المراد الزوجات وأن الآية فيهم، هو قول أكثر المفسرين. وأمر تعالى باستشهاد أربعة تغليظاً على المدعي،وستراً لهذه المعصية. وقيل: يترتب على كل واحد شاهدان. وقوله: عليهن، أي على إتيانهن الفاحشة. والظاهر أنه يختص بالذكور المؤمنين لقوله: أربعة منكم، وأنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا. وإن تعمد النظر إلى الفرح لا يقدح في العدالة إذا كان ذلكلأجل الزنا. وإعراب اللاتي مبتدأ، وخبره فاستشهدوا. وجاز دخول الفاء في الخبر، وإن كان لا يجوز فاضربه على الابتداءوالخبر، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره، فأجرى الموصول لذلك مجرىاسم الشرط. وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا، فيكون من باب الاشتغال،لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط، فلا يصح أن يفسر هكذا. قال بعضهم: وأجاز قومالنصب بفعل محذوف تقديره: اقصدوا اللاتي. وقيل: خير اللاتي محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين، كقول سيبويه فيقوله:

{ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ }

وفي قوله:

{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى }

وعلى ذلك جملة سيبويه. ويتعلق من نسائكم بمحذوف، لأنه في موضع الحال من الفاعل في: يأتين، تقديره: كائنات من نسائكم. ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله: فاستشهدوا، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة،أي: كائنين منكم. {فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } أي: فإنشهد أربعة منكم عليهن. والمخاطب بهذا الأمر: أهم الأزواج أمروا بذلك إذا بدت من الزوجة فاحشة الزنا، ولا تقربوهن عقوبةلهن وكانت من جنس جريمتهن؟ أم الأولياء إذا بدت ممن لهم عليهن ولاية ونظر يحبسن حتى يمتن؟ أو أولو الأمرمن الولاة والقضاة إذ هم الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغايةالمذكورة كان على سبيل الحدِّ لهن، وأنَّ حدهن كان ذلك حتى نسخ، وهو الصحيح، قاله: ابن عباس، والحسن. والحبس فيالبيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي، لأن ألمالحبس مستمر، وألم الضرب يذهب. قال ابن زيد: منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غيروجهه. وقال قوم: ليس بحدٍ بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهنّ الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ماجرى لهن بسبب الخروج من البيوت، وعلى هذا لا يكون الإمساك حداً. وإذا كان يتوفى بمعنى يميت، فيكون التقدير حتىيتوفاهن ملك الموت. وقد صرح بهذا المضاف المحذوف، وهنا في قوله: قل يتوفاكم ملك الموت. وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ،فلا يحتاج إلى حذف مضاف، إذ يصير التقدير: حتى يأخذهن الموت. والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المرادبالآية. فقيل: هو النكاح المحصن لهن المغنى عن السفاح، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة، دونالأزواج. وقيل: السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد، وهو {*البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب}رمى بالحجارة. وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي ،فوجب المصير إليه. وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية، ولا لأنه الجلد، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذغيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً، وهو مخصص لعموم آية الجلد. وعلى هذا لا يصح طعن أبيبكر الرازي على الشافعي في قوله: إن السنة لا تنسخ القرآن، بدعواه أنَّ آية الحبس منسوخة، بحديث عبادة، وحديث عبادةمنسوخ بآية الجلد، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن، خلاف قول الشافعي، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاءنسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث، وأن الحديث منسوخبآية الجلد، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم. {حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَـئَاذُوهُمَا} تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة، ويؤيده ظاهر التثنية. وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هوللذكور، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث. واللذان أريد به الزاني والزانية، وغلب المذكر على المؤنث، وترتب الأذى علىإتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها. وبين ذلك في الآية السابقة وهو: شهادة أربعة. والأمر بالأذى بدل على مطلقالأذى بقول أو فعل أو بهما. فقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد، وضرب النعال وما أشبهه. وقال قتادةوالسدي: هو التعبير والتوبيخ. وقال قوم: بالفعل دون القول. وقالت فرقة: هو السب والجفا دون تعيير. وقيل: الأذى المأمور بههو الجمع بين الحدين: الجلد والرجم، وهو قول علي، وفعله في الهمدانية: جلدها ثم رجمها. وظاهر قوله: واللذان يأتيانهاالعموم. وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم: هي في الرجل والمرأة البكرين، وأما الأولى ففي النساء المزوجات، ويدخل معهن فيذلك من أحصن من الرجال بالمعنى. ورجح هذا القول الطبري. وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد، إلا فيتفسير على الأذى فلا نسخ، وإلا في قول من قال: إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده، إذلا تعارض، بل يجمعان على شخص واحد. وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني، والثانيةعلى إيذائها وإيذائه، فيكون الإيذاء مشتركاً بينهما، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء، هذا ظاهر اللفظ. وقيل: جعلت عقوبةالمرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية، وعقوبة الرجل الإيذاء، ولم يجعل الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب. وأما على قول قتادةوالسدي: من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء، فقد اختلف متعلق العقوبتين، فليس الإيذاء مشتركاً. وذهبالحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة، ثم نزل

{ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ }

يعني إن لم يتبن وأصررن فامسكوهنإلى إيضاح حالهن، وهذا قول يوجب فساد الترتيب، فهو بعيد. وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد. وعلى قول قتادة والسدي:لا تكرار، وكذلك لا تكرار على قول: مجاهد وأبي مسلم. وإعراب واللذان كإعراب واللاتي. وقرأ الجمهور: واللذان بتخفيف المنون.وقرأ ابن كثير: بالتشديد. وذكر المفسرون علة حذف الياء، وعلة تشديد النون، وموضوع ذلك علم النحو. وقرأ عبد الله: والذينيفعلونه منكم، وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإمام، ومتدافعة مع ما بعدها. إذ هذا جمع، وضمير جمع وما بعدهما ضميرتثنية، لكنه يتكلف له تأويل: بأن الذين جمع تحته صنفا الذكور والإناث، فعاد الضمير بعده مثنى باعتبار الصنفين، كما عادالضمير مجموعاً على المثنى باعتبار أن المثنى تحتهما أفراد كثيرة هي في معنى الجمع في قوله:

{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ }

{ هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ }

والأولى اعتقاد قراءة عبد الله أنها على جهة التفسير، وأن المراد بالتثنية العموم فيالزناة. وقرىء واللذأن بالهمزة وتشديد النون، وتوجيه هذه القراءة أنه لما شدد النون التقى ساكنان، ففر القارىء من التقائهما إلىإبدال الألف همزة تشبيهاً لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه، كما قرىء:

{ وَلاَ ٱلضَّالّينَ }

{ وَلاَ جَانٌّ }

وقدتقدم لنا الكلام في ذلك مشبعاً في قوله: ولا الضالين في الفاتحة. {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } أي:إن تابا عن الفاحشة وأصلحا عملهما فاتركوا أذاهما. والمعنى: أعرضوا عن أذاهما. وقيل: الأمر بكف الأذى عنهما منسوخ بآية الجلد.قال ابن عطية: وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا، لأنّ تركهم إنما هو إعراض. ألا ترى إلى قولهتعالى:

{ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ }

وليس هذا الإعراض في الآيتين أمراً بهجرةٍ، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسببالمعصية المتقدمة. انتهى كلامه. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } أي رجاعاً بعباده عن معصيته إلى طاعته، رحيماً لهمبترك أذاهم إذا تابوا. {إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُعَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } تقدم الكلام في إنما وفي دلالتها على الحصر، أهو من حيث الوضع، أو الاستعمال؟ أمدلالة لها عليه؟ وتقدم الكلام في التوبة وشروطها، فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله: إنما التوبة على الله هو على حذفمضاف من المبتدأ والخبر، والتقدير: إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله، فتكون على باقية على بابها. وقال الزمخشري: يعنيإنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء انتهى. وهذا الذي قاله هو على طريق المعتزلة، والذي نعتقده أن اللهلا يجب عليه تعالى شيء من جهة العقل، فأما ما ظاهره الوجوب من جهة السمع على نفسه كتخليد الكفار وقبولالإيمان من الكافر بشرطه فذلك واقع قطعاً، وأما قبول التوبة فلا يحب على الله عقلاً وأما من جهة السمع فتظافرتظواهر الآي والسنة على قبول الله التوبة، وأفادت القطع بذلك. وقد ذهب أبو المعالي الجويني وغيره: إلى أن هذه الظواهرإنما تفيد غلبة الظن لا القطع بقبول التوبة، والتوبة فرض بإجماع الأمة، وتصح وإن نقضها في ثاني حال بمعاودة الذنبومن ذنب، وإن أقام على ذنب غيره خلافاً للمعتزلة ومن نحا نحوهم ممن ينتمي إلى السنة، إذ ذهبوا إلى أنهلا يكون تائباً من أقام على ذنب. وقيل: على بمعنى عند. وقال الحسن: بمعنى من، والسوء يعم الكفر والمعاصي غيرهسمي بذلك لأنه تسوء عاقبته. وموضع بجهالة حال، أي: جاهلين ذوي سفه وقلة تحصيل، إذ ارتكاب السوء، لا يكونإلا عن غلبة الهوى للعقل، والعقل يدعو إلى الطاعة، والهوى والشهوة يدعوان إلى المخالفة، فكل عاص جاهل بهذا التفسير. ولاتكون الجهالة هنا التعمد، كما ذهب إليه الضحاك. وروي عن مجاهد لإجماع المسلمين: على أنَّ من تعمد الذنب وتاب، تابالله عليه. وأجمع أصحاب رسول الله على أن كل معصية هي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً.وقال الكلبي: بجهالة أي لا يجهل كونها معصية، ولكن لا يعلم كنه العقوبة. وقال عكرمة: أمور الدّنيا كلها جهالة، يعنيما اختص بها وخرج عن طاعته الله. وقال الزجاج: جهالته من حيث آثر اللذة الفانية على اللذة الباقية، والحظ العاجلعلى الآجل. وقيل: الجهالة الإصرار على المعصية، ولذلك عقبه بقوله: ثم يتوبون من قريب. وقيل: معناه فعله غير مصرّ عليه،فأشبه الجاهل الذي لا يتعمد الشيء. وقال الترمذي: جهل الفعل الوقوع فيه من غير قصد، فيكون المراد منه العفو عنالخطأ، ويحتمل قصد الفعل والجهل بموقعه أي: حرام، أو في الحرمة: أي: قدر هي فيرتكبه مع الجهالة بحاله، لا قصدالاستخفاف به والتهاون به. والعمل بالجهالة قد يكون عن غلبة شهوة، فيعمل لغرض اقتضاء الشهوة على طمع أنه سيتوب منبعد ويصير صالحاً، وقد يكون على طمع المغفرة والاتكال على رحمته وكرمه. وقد تكون الجهالة جهالة عقوبة عليه. ومعنىمن قريب: أي من زمان قريب. والقرب هنا بالنسبة إلى زمان المعصية، وهي بقية مدة حياته إلى أن يغرغر، أوبالنسبة إلى زمان مفارقة الرّوح. فإذا كانت توبته تقبل في هذا الوقت فقبولها قبله أجدر، وقد بين غاية منع قبولالتوبة في الآية بعدها بحضور الموت. وقيل: قبل أن يحيط السوء بحسناته، أي قبل أن تكثر سيئاته وتزيد على حسناته،فيبقى كأنه بلا حسنات. وقيل: قبل أن تتراكم ظلمات قلبه بكثرة ذنوبه، ويؤديه ذلك إلى الكفر المحيط. وقال عكرمة والضحاكومحمد بن قيس وأبو مجلز وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق. وقال ابن عباس والسدي: قبل المرض والموت. فذكرابن عباس أحسن أوقات التوبة، وذكر من قبله آخر وقتها. وقال ابن عباس أيضاً: قبل أن ينزل به سلطان الموت،وروى أبو أيوب عن النبي أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وعن الحسن أنإبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده، فقال: وعزتي لا أغلقعليه باب التوبة ما لم يغرغر. قيل: وسميت هذه المدة قريبة لأن الأجل آتِ، وكل ما هو آت قريب. وتنبيهاًعلى أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة، ولأنّ الإنسان يتوقع كل لحظة نزول الموت به، وما هذهحاله فإنه يوصف بالقرب. وارتفاع التوبة على الابتداء، والخبر هو على الله، وللذين متعلق بما يتعلق به على الله،والتقدير: إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين. وقال أبو البقاء: في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالاًمن الضمير في قوله: على الله، والعامل فيها الظرف، والاستقرار أي ثابتة للذين انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف. وأجازأبو البقاء أن يكون الخبر للذين، ويتعلق على الله بمحذوف، ويكون حالاً من محذوف أيضاً والتقدير: إنما التوبة إذا كنت،أو إذ كانت على الله. فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما للذين، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه. وكانتامة، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان. قال: ولا يجوز أن يكون على الله حالاً يعمل فيها للذين، لأنه عامل معنوي،والحال لا يتقدم على المعنوي. ونظير هذه المسألة قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطباً انتهى. وهو وجه متكلف في الإعراب،غير متضح في المعنى، وبجهالة في موضع الحال أي: مصحوبين بجهالة. ويجوز عندي أن تكون باء السبب أي الحامل لهمعلى عمل السوء هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوهاكقوله {لا * ٱلاْخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً. ومن في قوله:من قريب، تتعلق بيتوبون، وفيها وجهان: أحدهما: أنها للتبعيض، أي بعض زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمانأتى بالتوبة فهو تائب من قريب. والثاني: أن تكون لابتداء الغاية، أي يبتدىء التوبة من زمان قريب من المعصية لئلايقع في الإصرار. ومفهوم ابتداء الغاية: أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خصّ بكرامة ختم قبولالتوبة على الله المذكورة في الآية بعلى، في قوله: على الله. وقوله: يتوب الله عليهم، ويكون من جملة الموعودين بكلمةعسى في قوله: فأولئك

{ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }

. ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون، وحذفالموصوف هنا وهو زمان، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه، ليس مقيساً. لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفاتالتي يجوز حذفها بقياس، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح، والأبرق، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو:مررت بمهندس، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو: اسقني ماء ولو بارداً، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسماًوحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس. فأولئك يتوب الله عليهم، لما ذكر تعالى أنَّ قبول التوبة علىالله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم، ولذلك اختلف متعلقاً التوبة باختلاف المجرور. لأن الأول على الله، والثانيعليهم، ففسر كل بما يناسبه. ولما ضمَّن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى، كأنه قال: يعطف عليهم. وفي علىالأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله:إنما التوبة على الله لهم؟ (قلت): قوله: إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه، كما يجب على العبد بعض الطاعات.وقوله: فأولئك يتوب الله عليهم، عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة، كما بعد العبدالوفاء بالواجب. انتهى كلامه. وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم: إنَّ الله يجب عليه، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك.وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه: إن قوله: إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لااستحقاق، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم.وكان الله عليماً حكيماً. أي عليماً بمن يطيع ويعصى، حكيماً أي: يضع الأشياء مواضعها، فيقبل توبة من أناب إليه.{وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلاْنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ }نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة، ولا للذي وافى على الكفر. فالأول: كفرعون إذلم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق، وكالذين قال تعالى فيهم:

{ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا }

وحضور الموت أول أحوال الآخرة، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة، فكذلك هذا الذيحضره الموت. قال الزمخشري: سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبةلهم، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة. فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلىحضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما. أوانَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه. وهو على طريق الاعتزال. زعمت المعتزلة أن العلم باللهفي دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً، فإذا صار العلم بالله ضرورياً سقط التكليف. وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفونالله بالضرورة، فلذلك سقط التكليف. وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار. والذي قاله المحققون: إن القربمن الموت لا يمنع من قبول التوبة، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم الله، ثم أحياهم وكلفهم، فدل على أنّمشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليسشيء من هذه يمنع من بقاء التكليف، فكذلك تلك. ولأنّه عند القرب يصير مضطراً فيكون ذلك سبباً للقبول، ولكنه تعالىيفعل ما يشاء. وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعلالمقبول مردود، والمردود مقبولاً،

{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ }

وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلمبالله إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار. وقال الربيع: نزلتوليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }

فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته. وطعن على ابن زيد: بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وأجيب:بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّمن لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.وظاهر قوله: ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله: الذين يعملون السيئات، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين،وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول: هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمر،وفينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحدمنهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما. وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله: (فإن قلت): من المرادبالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة، أم الكفار؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الكفار لظاهر قوله:وهم كفار، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: وهم كفاروارداً على سبيل التغليظ كقوله:

{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

وقوله: {فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً}،من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، لأنّ من كان مصدقاً ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حالالكافر، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى لامه. وهو في غاية الاضطراب، لأنه قبل ذلك حمل الآيةعلى أنها دالة على قسمين: أحدهما: الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت، والثاني: الذين ماتوا على الكفر. وفي هذا الجوابحمل الآية على أنها أريد بها أحد القسمين. أما الكفار فقط وهم الذين وصفوا عنده بأنهم يعملون السيئات ويموتون علىالكفر، وعلل هذا الوجه بقوله: لظاهر قوله: وهم كفار، فجعل هذه الحالة دالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات همالكفار، وأما الفساق من المؤمنين فيكون قوله: وهم كفار لا يراد به الكفر حقيقة، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة،وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده: فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره الآية، أولاً وكل ذلك انتصارلمذهبه حتى يرتب العذاب: إما للكافر، وإما للفاسق، فخرج بذلك عن قوانين النحو، والحمل على الظاهر. لأن قوله: وهم كفار،ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله: ولا الذين يموتون، وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة. وكما أنه شرط في انتفاءقبول توبة الذين يعملون السيئات إيقاعها في حال حضور الموت، كذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت، وظاهر العطف التغايروالزمخشري كما قيل في المثل: حبك الشيء يعمي ويصم. وجاء يعملون بصيغة المضارع لا بصيغة الماضي إشعاراً بأنهم مصرون علىعمل السيئات إلى أن يحضرهم الموت. وظاهر قوله: قال إني تبت الآن، وهو توبتهم عند معاينة الموت فلم تقبل تفسيره،فلا تقبل توبتهم لأنها توبة دفع. وقيل: قوله تبت الآن توبة شريطية فلم تقبل، لأنه لم يقطع بها. وقوله: وليستالتوبة ظاهرة النفي لوجودها، والمعنى على نفي القبول أي: أن توبتهم وإن وجدت فليست بمقبولة. وظاهر قوله: ولا الذين يموتونوهم كفار، وقوع الموت حقيقة. فالمعنى: أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا،لأنهم ماتوا ملتبسين بالكفر. قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: يموتون، يقربون من الموت كما في قوله:

{ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ }

أي علاماته. فكما أنّ التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عندالقرب من الموت. {أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين، ويكونان قد شركا فيإعداد العذاب لهما، وإن كان عذاب أحدهما منقطعاً والآخر خالداً. ويكون ذلك وعيداً للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينةالموت حيث شرّك بينه وبين الذي وافى على الكفر، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقربمذكور. واسم الإشارة يجري مجرى الضمير، فيشار به إلى أقرب مذكور، كما يعود الضمير على أقرب مذكور، ويكون إعداد العذابمرتباً على الموافاة على الكفر، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى.وظاهر الإعداد أنّ النار مخلوقة وسبق الكلامعلى ذلك. وقال الزمخشري: أولئك أعتدنا لهم في الوعيد، نظير قوله:

{ أُوْلَـٰئِكَ * يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ }

في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى. وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامهبأنّ من نفى عنهم التوبة صنفان، ثم ذكر هذا عقيبه، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين، كائن لامحالة، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور، قبل هذه الآية واقع لا محالة، فدل على أنّ العصاةالذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار، وهذا هو مذهب المعتزلة. ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلىالذين يوافون على الكفر، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعاً بهللفاسق. وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له، فلا يلزم وقوع ما دل عليه، إذ يجوز العقابويجوز العفو. وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق. وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }

وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها.وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري: إلى أن قوله:

{ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ }

في حق المنافقين، واختاره المروزي. قال: فرقبالعطف، ودل على أنَّ المراد بالأول المنافقون. كما فرق بينهم في قوله:

{ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }

لأن المنافق كان مخالفاً للكافر بظاهره في الدنيا. والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأسمن الحياة، لأن المنافقين مندرجون في قوله:

{ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ }

فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم.وقيل: إنما التوبة على الله في الصغائر، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر، ولا الذين يموتون وهم كفار فيالكفر. {أَلِيماً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً } قال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وأبومجلز: كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، أو زوجوها غيرهم، أو منعوها. وكان ابنه منغيرها يتزوجها، وكان ذلك في الأنصار لازماً، وفي قريش مباحاً. وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه، إذا لميكن ولدها. وقال السدي: إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها،فأذهب الله ذلك بهذه الآية. والخطاب على هذا للأولياء نهو أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال.والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالآية، فخرج هذا الكره مخرج الغالب، لأنغالب أحوالهن أن يكنّ مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها. وقيل: هو إمساكهن دون تزويجحتى يمتن فيرثون أموالهن، أو في حجرة يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة على مالها، فيتزوجها كرهاً لأجله.أو تحته عجوز ذات مال، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها، أو تموت فيرثمالها. والخطاب للأزواج، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن، لا هن. وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضعالحال من النساء، فيقدر باسم فاعل أي: كإرهاب، أو باسم مفعول أي: مكرهات. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وبفتح الكاف، حيثوقع وحمزة والكسائي بضمها، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين، وهما لغتان:كالصمت والصمت قاله: الكسائي والأخفش وأبو علي. وقال الفراء: الفتح بمعنى الإكراه، والضم من فعلك تفعله كارهاً له من غيرمكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب، وقاله: أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضاً. وتقدّم الكلام عليه في قوله:

{ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ }

في البقرة. وقرىء: لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا نحل لكم الوراثة، كقراءة من قرأ:

{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ }

أي إلا مقالتهم، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إمّا لكونهن هن أنفسهنالموروثات، وإما على حذف مضاف أي: أموال النساء. {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } أي لا تحبسوهن ولاتضيقوا عليهن. وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج لقوله: ببعض ما آتيتموهن، لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق. وكان يكره صحبةزوجته ولها عليه مهر، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله: ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. أو ينكح الشريفة فلا توافقه،فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد على ذلك، فإذا خطبت وأرضته أذن لها، وإلا عضلها قاله: ابن زيد.أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثاً فنهوا عن ذلك. وقيل: هو خطاب للأولياء كما بين في قوله:

{ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً }

ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله:

{ يا أيها الذين آمنوا }

فلقوافي هذا الخطاب، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه، فخوطب الأولياء بقوله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً،وخوطب الأزواج بقوله: ولا تعضلوهن، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه. وتقدّم تفسير العضل في البقرة في قوله:

{ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ }

والباء في ببعض ما آتيتموهن للتعدية، أي: لتذهبوا بعض ما آتيتموهن. ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي: لتذهبوا مصحوبينببعض ما آتيتموهن. {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } هذا استثناء متصل، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كماذهب إليه بعضهم. وهو استثناء من ظرف زمان عام، أو من علة. كأنه قيل: ولا تعضلوهن في وقت من الأوقاتإلا وقت أن يأتين. أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين. والظاهر أن الخطاب بقوله: ولا تعضلوهن للأزواجإذ ليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما تبين. والفاحشة هنا الزناقاله: أبو قلابة والحسن. قال الحسن: إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة، وردت إلى زوجها ما أخذت منه. وقالأبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلكفخذوا مهورهن. وقال عطاء: كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود. وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل الخلع حتى يوجدرجل على بطنها. وقال قتادة: لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه، يعني: وإن زنت. وقال ابن عباسوعائشة والضحاك وغيرهم: الفاحشة هنا النشوز، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها، وهذا مذهب مالك وقال قوم: الفاحشة البدءباللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً وهذا في معنى النشوز. والمعنى: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتين، فيجوز أخذ مالهنعلى سبيل الخلع. ويدل على هذا المعنى قراءة أبي: إلا أن يفحشن عليكم، وقراءة ابن مسعود: إلا أن يفحشن وعاشروهن،وهما قراءتان مخالفتان لمصحف الإمام، وكذا ذكر الداني عن ابن عباس وعكرمة. والذي ينبغي أن يحمل عليه أن ذلك علىسبيل التفسير والإيضاح، لا على أن ذلك قرآن. ورأى بعضهم أن لا يتجاوز ما أعطاها ركوناً لقوله:

{ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ }

وقال مالك: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملكه. وظاهر الاستثناء يقتضي إباحة العضل له ليذهب ببعضما أعطاها لأكله، ولا ما لم يعطها من ماله إذا أتت بالفاحشة المبينة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر: مبينة هنا،وفي الأحزاب، والطلاق بفتح الياء، أي أي يبينها من يدعيها ويوضحها. وقرأ الباقون: بالكسر أي: بينة في نفسها ظاهرة. وهياسم فاعل من بين، وهوفعل لازم بمعنى بان أي ظهر، وظاهر قوله: ولا تعضلوهن، أن لا نهى، فالفعل مجزوم بها،والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية. فإن قلنا: شرط عطف الجمل المناسبة، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهيكأنه قال: لا ترثوا النساء كرهاً فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن. وإن قلنا: لا يشترط في العطف المناسبة وهومذهب سيبويه، فظاهر. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصباً عطفاً على ترثوا، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلاً علىفعل. وقرأ ابن مسعود: ولا أن تعضلوهن، فهذه القراء تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يحلّ بالنصّ. وعلى تأويلالجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة، واحتمال النصب أقوى انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه،وهو لا يجوز. وذلك أنك إذا عطفت فعلاً منفياً بلا على مثبت وكانا منصوبين، فإنّ الناصب لا يقدر إلا بعدحرف العطف، لا بعد لا. فإذا قلت: أريد أن أتوب ولا أدخل النار، فالتقدير: أريد أن أتوب وأن لا أدخلالنار، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت، والثاني على سبيل النفي. فالمعنى: أريد التوبة وانتفاء دخولي النار. فلو كانالفعل المتسلط على المتعاطفين منفياً، فكذلك ولو قدّرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت: لا يحل لكم أنلا تعضلوهن لم يصح، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية، وهو خلاف الظاهر. وأما أن تقدر أن بعد لاالنافية فلا يصح. وإذا قدرت أنّ بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر، لا من بابعطف الفعل على الفعل، فالتبس على ابن عطية العطفان، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعلعلى الفعل، وفرق بين قولك: لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج، وقولك: لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج،ففي الأول: نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه، فقد أراد خروجه. وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه، ووجود خروجه،فلا يريد لا القيام ولا الخروج. وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية.. {وَعَاشِرُوهُنَّبِٱلْمَعْرُوفِ } هذا أمر بحسن المعاشرة، والظاهر أنه أمر للأزواج، لأن التلبس بالمعاشرة غالباً إنما هو للأزواج، وكانوا يسيئون معاشرةالنساء، وبالمعروف هو النصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول. ويقال: المرأة تسمن من أذنها. {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنتَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } أدب تعالى عباده بهذا. والمعنى: أنه لا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة،فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه، كما قال تعالى:

{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }

ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في العاقبة، وما أحبته يكون بضد ذلك. ولما كانت عسىفعلاً جامداً دخلت عليه فاء الجواب، وعسى هنا تامّة، فلا تحتاج إلى اسم وخبر. والضمير في فيه عائد على شيءأي: ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه. (وقيل): عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل. (وقيل): عائد على الصبر.وفسر ابن عباس والسدي: الخير بالولد الصالح، وهو على سبيل التمثيل لا الحصر. وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئاً،حيث علّق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل، ولم يعلق الكراهة بضميرهن، فكان يكون فعسى أن تكرهوهن. وسياق الآية يدلعلى أن المعنى الحث على إمساكهن وعلى صحبتهن، وإن كره الإنسان منهن شيئاً من أخلاقهن. ولذلك جاء بعده: وإن أردتماستبدال زوج مكان زوج. (وقيل): معنى الآية: ويجعل الله في فراقكم لهنّ خيراً كثيراً لكم ولهن، كقوله:

{ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ }

قاله الأصم: وهذا القول بعيد من سياق الآية، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها.وقلّ أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر، ويقال: ما تعاشر إثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر.وفي صحيح مسلم: لا يفزك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر . وأنشدوا في هذا المعنى:

ومن لا يغمض عينه عن صديقه     وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهداً كل عثرةيجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً }لمّا أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاها، بنى تحريم ذلك في غير حال الفاحشة، وأقام الإرادةمقام الفعل. فكأنه قال: وإن استبدلتم. أو حذف معطوف أي: واستبدلتم. وظاهر قوله: وآتيتم أن الواو للحال، أي: وقد آتيتم.وقيل: هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر. والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء والمعنى: أنه إذا كان الفراق من اختياركمفلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً. واستدل بقوله: وآتيتم إحداهن قنطاراً على جواز المغالاة في الصدقات، وقد استدلت بذلك المرأة التيخاطبت عمر حين خطب وقال: {إِلاَّ لاِجَلٍ * مّنَ ٱلرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَائِكُمْ }. وقال قوم: لا تدل على المغالاة، لأنهتمثيل على جهة المبالغة في الكثرة كأنه: قيل وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا شبيه بقوله صلىالله عليه وسلم: من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ومعلوم أن مسجداً لايكون كمفحص قطاة، وإنما هو تمثيل للمبالغة في الصغر. وقد قال لمن أمهر مائتين وجاء يستعينفي مهره وغضب كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة وقال محمد بن عمر الرازي: لادلالة فيها على المغالاة لأن قوله: وآتيتم لا يدل على جواز إيتاء القنطار، ولا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيءآخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كقوله: {مَن قَتَلَ * لَهُ } انتهى. ولما كان قوله: وإن أردتماستبدال زوج مكان زوج، خطاباً لجماعة كان متعلق الاستبدال أزواجاً مكان أزواج، واكتفى بالمفرد عن الجمع لدلالة جمع المستبدلين، إذلا يوهم اشتراط المخاطبين في زوج واحدة مكان زوج واحدة، ولا إرادة معنى الجماع عاد الضمير في قوله: إحداهن جمعاًوالتي نهى أن نأخذ منها هي المستبدل مكانها، إلا المستبدلة. إذ تلك هي التي أعطاها المال، لا التي أراد استحداثهابدليل قوله:

{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ }

وقال: وآتيتم إحداهن قنطاراً ليدل على أن قوله: وآتيتم المرادمنه، وأتى كل واحد منكم إحداهن، أي إحدى الأزواج قنطاراً، ولم يقل: وآتيتموهن قنطاراً، لئلا يتوهم أن الجميع المخاطبين أتواالأزواج قنطاراً. والمراد: آتى كل واحد زوجته قنطاراً. فدل لفظ إحداهن على أن الضمير في: آتيتم، المراد منه كل واحدواحد، كما دل لفظ: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن المراد استبدال أزواج مكان أزواج، فأريد بالمفرد هناالجمع لدلالة: وإن أردتم. وأريد بقوله: وآتيتم كل واحد واحد لدلالة إحداهن، وهي مفردة على ذلك. وهذا من لطيف البلاغة،ولا يدل على هذا المعنى بأوجز من هذا ولا أفصح. وتقدّم الكلام في قنطار في أول آل عمران والضمير فيمنه عائد على قنطار. وقرأ ابن محيصن: بوصل ألف إحداهن، كما قرىء: أنها لإحدى الكبقر بوصل الألف، حذفت على جهةالتحقيق كما قال:

وتسمع من تحت العجاج لها ازملا    

وقال:

إن لـم أقـاتـل فـألبسوني برقعــا    

وظاهر قوله: فلا تأخذوا منهشيئاً تحريم أخذ شيء مما آتاها إذا كان استبدال مكانها بإرادته. قالوا: وهذا مقيد بقوله:

{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ }

قالوا: وانعقد عليه الإجماع. ويجري هذا المجرى المختلعة لأنها طابت نفسها أن تدفع للزوج ما افتدتبه. وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تأخذ من المختلعة شيئاً لقوله: فلا تأخذوا منه شيئاً وآية البقرة منسوخةبهذا، وتقدّم الكلام في ذلك في سورة البقرة. وظاهر قوله: وآتيتم إحداهن قنطاراً، والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها،سواء كان مهراً أو غيره. أفضى بعضكم إلى بعض لأن هذا لا يقتضي أن يكون الذي آتاها مهراً فقط،بل المعنى: أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئاً مما آتاها، سواء كان مهراًأو غيره. وقال أبو بكر الرازي: لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموماً في جميع ما تضمنه الاسم، ويكون المعطوفعليه بحكم خاص فيه، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأوّل انتهى كلامه. وهو منه تسليم أن المراد بقوله: وكيف تأخذونه،أي المهر. وبينا أنه لا يلزم ذلك. قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل على أن من أسلف امرأته نفقتهالمدة ثم ماتت قبل انقضاء المدة، لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز، أن يريد أنيتزوج أخرى بعد موتها مستبدلاً بها مكان الأولى. وظاهر الأمر قد تناول هذه الحالة انتهى. وليس بظاهرٍ لأنّ الاستبدال يقتضيوجود البدل والمبدل منه، أما إذا كان قد عدم فلا يصح ذلك، لأن المستبدل يترك هذا ويأخذ آخر بدلاً منه،فإذا كان معدوماً فكيف يتركه ويأخذ بدله آخر؟ وظاهر الآية يدل على تحريم أخذ شيء مما أعطاها إن أراد الاستبدال،وآخر الآية يدل بتعليله بالإفضاء على العموم، في حالة الاستبدال وغيرها. ومفهوم الشرط غير مراد، وإنما خص بالذكر لأنها حالةقد يتوهم فيها أنه لمكان الاستبدال وقيام غيرها مقامها، له أن يأخذ مهرها ويعطيه الثانية، وهي أولى به من المفارقة.فبيّن الله أنه لا يأخذ منها شيئاً. وإذا كانت هذه التي استبدل مكانها لم يبح له أحد شيء مما آتاها،مع سقوط حقه عن بضعها، فأحرى أن لا يباح له ذلك مع بقاء حقه واستباحة بضعها، وكونه أبلغ في الانتفاعبها منها بنفسه. وقرأ أبو السمال وأبو جعفر: شيا بفتح الياء وتنوينها، حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء. {أَتَأْخُذُونَهُبُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أصل البهتان: الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على جهة المكابرة فيبهت المكذوب عليه. أي: يتحيرثم سمى كل باطل يتحير من بطلانه بهتاناً. وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار، أي: أتفعلون هذا مع ظهور قبحه؟ وسميبهتاناً لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتفتدي منه مهرها، فجاءت الآية على الأمر الغالب. وقيل:سمي بهتاناً لأنه كان فرض لها المهر، واسترداده يدل على أنه يقول: لم أفرضه، وهذا بهتان. وانتصب بهتاناً وإثماً علىأنهما مصدران في موضع الحال من الفاعل، التقدير: باهتين وآثمين. أو من المفعول التقدير: مبهتاً محيراً لشنعته وقبح الأحدونة، أومفعولين من أجلهما أي: أتأخذونه لبهتانكم وإثمكم؟ قال ذلك الزمخشري قال: وإن لم يكن غرضاً كقولك: قعد عن القتال جبناً.{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } وهذا استفهام إنكار أيضاً، أنكر أولاً الأخذ، ونبه على امتناع الأخذبكونه بهتاناً وإثماً. وأنكر ثانياً حاله الأخذ، وأنها ليست مما يمكن أن يجامع حال الإفضاء، لأن الإفضاء وهو المباشرة والدنوّالذي ما بعده دنو، يقتضي أن لا يؤخذ معه شيء مما أعطاه الزوج، ثم عطف على الإفضاء أخذ النساء الميثاقالغليظ من الأزواج. والإفضاء: الجماع قاله، ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي. وقال عمر، وعلي، وناس من الصحابة، والكلبي، والفراء:هي الخلوة والميثاق، هو قوله تعالى:

{ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ }

قاله: ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن سيرين، والسدي،وقتادة. قال قتادة: وكان يقال للنكاح في صدر الإسلام: عليكم لتمسكنَّ بمعروف، أو لتسرحنَّ بإحسان. وقال مجاهد وابن زيد: الميثاقكلمة الله التي استحللتم بها فروجهن، وهي قول الرجل: نكحت وملكت النكاح ونحوه. وقال عكرمة: هو قوله صلى الله عليهوسلم: استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله وقال قوم: الميثاق الولد، إذ بهتتأكد أسباب الحرمة وتقوى دواعي الألفة. وقيل: ما شرط في العقد من أنّ على كل واحد منهما تقوى الله، وحسنالصحبة والمعاشرة بالمعروف، وما جرى مجرى ذلك. وقال الزمخشري: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقاًغليظاً، أي بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبه عشرين يوماً قرابة، فكيف بما يجري بينالزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ انتهى كلامه. {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } تقدمذكر شيء من سبب نزول هذه الآية في قوله:

{ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً }

وقد ذكروا قصصاًمضمونها: أنّ من العرب مَن كان يتزوج امرأة أبيه، وسموا جماعة تزوجوا زوجات آبائهم بعد موت آبائهم، فأنزل الله تحريمذلك. وتقدّم الخلاف في النكاح: أهو حقيقة في الوطء، أم في العقد، أم مشترك؟ قالوا: ولم يأت النكاح بمعنى العقدإلا في

{ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ }

وهذا الحصر منقوض بقوله:

{ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ }

.واختلف في ما من قوله: ما نكح. فالمتبادر إلى الذهن أنها مفعوله، وأنها واقعة على النوع كهي في قوله تعالى:

{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء }

أي: ولا تنكحوا النوع الذي نكح آباؤكم. وقد تقرر في علم العربية أنّما تقع على أنواع من يعقل، وهذا على مذهب من يمنع وقوعها على آحاد من يعقل. أمّا مَن يجيز ذلكفإنه يتضح حمل ما في اةية عليه، وقد زعم أنه مذهب سيبويه. وعلى هذا المفهوم من إطلاق ما على منكوحاتالآباء تلقت الصحابة الآية واستدلوا بها على تحريم نكاح الأبناء حلائل الآباء. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون مايحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين فنزلت هذه الآية في ذلك. وقال ابن عباس: كل امرأة تزوجها أبوك دخلبها أو لم يدخل، فهي عليك حرام. وقال قوم: ما مصدرية. والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي: مثل نكاحآبائكم الفاسد، أو الحرام الذي كانوا يتعاطونه في الجاهلية كالشغار وغيره، كما تقول: ضربت ضرب الأمير أي: مثل ضرب الأمير.ويبين كونه حراماً أو فاسداً قوله:

{ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً }

واختار هذا القول محمد بن جرير قال: ولو كان معناهولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم، لوجب أن يكون موضع ما من. وحمل ابن عباس وعكرمة وقتادة وعطاء النكاح هناعلى الوطء، لأنهم كانوا يرثون نكاح نسائهم. وقال ابن زيد في جماعة: المراد به العقد الصحيح، لا ما كان منهمبالزنا انتهى. والاستثناء في قوله: إلا ما قد سلف منقطع، إذ لا يجامع الاستقبال الماضي، والمعنى: أنه لما حرمعليهم أن ينكحوا ما نكح آباؤهم، دلّ على أن متعاطي ذلك بعد التحريم آثم، وتطرق الوهم إلى ما صدر منهمقبل النهي ما حكمه. فقيل: إلا ما قد سلف أي: لكن ما قد سلف، فلم يكن يتعلق به النهي فلاإثم فيه. ولما حمل ابن زيد النكاح على العقد الصحيح، حمل قوله: إلا ما قد سلف، على ما كان يتعاطاهبعضهم من الزنا، فقال: إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء، فذلك جائز لكم زواجهم فيالإسلام، أنه كان فاحشة ومقتاً وكأنه قيل: ولا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم إلا ما قد سلف من زناهم،فإنه يجوز لكم أن تتزوجوهم، ويكون على هذا استثناء منقطعاً. وقيل عن ابن زيد: إن معنى الآية النهي أن يطأالرجل امرأة وطنها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة، فإنه يجوز للابن تزوجها، فعلىهذا يكون إلا ما قد سلف استثناء متصلاً، إذ ما قد سلف مندرج تحت قوله: ما نكح، إذ المراد: ماوطىء آباؤكم. وما وطىء يشمل الموطوءة بزنا وغيره، والتقدير: ما وطىء آباؤكم إلا التي تقدم هو أي: وطؤها بزنا منآبائكم فانكحوهن. ومن جعل ما في قوله: ما نكح مصدرية كما قررناه، قال: المعنى إلا ما تقدم منكم من تلكالعقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذ كان مما تقرر الإسلام عليه. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف استثنىما قد سلف من ما نكح آباؤكم؟ (قلت): كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله: ولا عيب فيهم. يعني: إنأمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريقإلى إباحته، كما يعلق بالمجال في التأبيد في نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في اسم الخياط. انتهىكلامه. وقال الأخفش المعنى: تعذبون به إلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم. وقيل: في الآية تقديم وتأخير،تقديره: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف، وهذا جهلبعلم النحو، وعلم المعاني. أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها، وكذلك المستثنى لايتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه. وأما منحيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى هوفاحشة في الزمان الماضي، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة، وهذا معنى لا يمكن أن يقع فيالقرآن، ولا في كلام عربي لتهافته. والذي يظهر من الآية أن كل امرأة نكحها أبو الرجل بعقد أو ملك فإنهيحرم عليه أن ينكحها بعقد أو ملك، لأن النكاح ينطلق على الموطوءة بعقد أو ملك، لأنه ليس الإنكاح أو سفاح،والسفاح هو الزنا، والنكاح هو المباح، وأشار إلى تحريم ذلك بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَـٰحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً } أيأن نكاح الأبناء نساء آبائهم هو فاحشة أي: بالغة في القبح. ومقت: أي يمقت الله فاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي.أو تمقته العرب أي: مبغض محتقر عندهم، وكان ناس من ذوي المروآت في الجاهلية يمقتونه. قال أبو عبيدة وغيره: كانتالعرب تسمي الولد الذي يجىء من زوج الوالد المقتي، نسبة إلى المقت. ومن فسر الا ما قد سلف بالزنا جعلالضمير في أنه عائد عليه أي: انَّ ما قد سلف من زنا الآباء كان فاحشة، وكان يستعمل كثيراً بمعنى لميزل، فالمعنى: أنَّ ذلك لم يزل فاحشة، بل هو متصف بالفحش في الماضي والحال والمستقبل، فالفحش وصف لازم له.وقال المبرد: هي زائدة. ورد عليه بوجود الخبر، إذ الزائدة لا خبر لها. وينبغي أن يتأول كلامه على أنَّ كانلا يراد بها تقييد الخبر بالزمن الماضي فقط، فجعلها زائدة بهذا الاعتبار. وساء سبيلاً هذه مبالغة في الذم، كمايبالغ ببئس. فان كان فيها ضمير يعود على ما عاد عليه ضمير إنّه، فانها لا تجري عليها أحكام بئس. وإنْكان الضمير فيها مبهماً كما يزعم أهل البصرة فتفسيره سبيلاً، ويكون المخصوص بالذم اذ ذاك محذوفاً التقدير: وبئس سبيلاً سبيلهذا النكاح، كما جاء بئس الشراب أي: ذلك الماء الذي كالمهل. وبالغ في ذم هذه السبيل، إذ هي سبيل موصلةإلى عذاب الله. وقال البراء بن عازب: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلى اللهعليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ان أضرب عنقه. {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ } لما تقدمتحريم نكاح امرأة الأب على ابنه وليست أمه، كان تحريم أمه أولى بالتحريم. وليس هذا من المجمل، بل هذا مماحذف منه المضاف الدلالة المعنى عليه. لأنه إذا قيل: حرم عليك الخمر، إنما يفهم منه شربها. وحرمت عليك الميتة أي:أكلها. وهذا من هذا القبيل، فالمعنى: نكاح أمهاتكم. ولأنه قد تقدم ما يدل عليه وهو قوله:

{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء }

. وقال محمد بن عمر الرازي: فيها عندي بحث من وجوه: أحدها: أنَّ بناء الفعل للمفعوللا تصريح فيه بأن المحرّم هو الله. وثانيها: أنّ حرمت لا يدل على التأبيد، إذ يمكن تقسيمه إلى المؤبد والمؤقت.وثالثها: أنّ عليكم خطاب مشافهة، فيختصّ بالحاضرين. ورابعها: أنّ حرمت ماض، فلا يتناول الحال والمستقبل. وخامسها: أنه يقتضي أنه يحرمعلى كل أحد جميع أمهاتهم. وسادسها: أنَّ حرمت يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان حراماً لما قيل: حرمت. وثبتبهذه الوجوه أنّ ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب انتهى ملخصاً. وهذه البحوث التي ذكرها لا تختصبهذا الموضع ولا طائل فيها، إذ من البواعث على حذف الفاعل العلم به، ومعلوم أنّ المحرّم هو الله تعالى. ألاترى إلى آخر الآية وهو قوله:

{ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقال بعد:

{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ }

على قراءة من بناه للفاعل. ومتى جاء التحريم من الله فلا يفهممنه إلا التأبيد، فإن كان له حالة إباحة نصّ عليها كقوله:

{ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ }

وأما أنهصيغة ماض فيخصه فالأفعال التي جاءت يستفاد منها الأحكام الشرعية، وإن كانت بصيغة الماضي فإنها لا تخصه، فإنها نظير أقسمتلأضربن زيداً لا يراد بها أنه صدر منه إقسام في زمان ماض. فإن كان الحكم ثابتاً قبل ورود الفعل ففائدتهتقرير ذلك الحكم الثابت، وإن لم كن ثابتاً ففائدته إنشاء ذلك الحكم وتجديده. وأمّا أن الظاهر أنه يحرم على كلّأحد جميع أمهاتهم فليس بظاهر، ولا مفهوم من اللفظ. لأنّ عليكم أمهاتكم عام يقابله عام، ومدلول العموم أن تقابل كلواحد بكلّ واحد واحد. أما أن يأخذ ذلك على طريق الجمعية فلا، لأنها ليست دلالة العام. فإنما المفهوم: حرم علىكل واحد واحد منكم كلّ واحدة، واحدة من أم نفسه. والمعنى: حرم على هذا أمة. وعلى هذا أمّة والأمّ المحرّمةشرعاً هي كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك، أو من جهة أمك. ولفظ الأم حقيقة في التيولدتك نفسه. ودلالة لفظ الأم على الجدّة إن كان بالتواطىء أو بالاشتراك، وجاز حمله على المشتركين، كان حقيقة، وتناولها النص.وإن كان بالمجاز وجاز حمله على الحقيقة والمجاز، فكذلك وإلا فيستفاد تحريم الجدّات من الإجماع أو من نصّ آخر.وحرمة الأمهات والبنات كانت من زمان آدم عليه السلام إلى زماننا هذا، وذكروا أنّ سبب هذا التحريم: أنّ الوطء إذلالوامتهان، فصينت الأمهات عنه، إذ إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الأنعام. والبنت المحرّمة كل أنثى رجع نسبها إليكبالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور، وبنت البنت هل تسمى بنتاً حقيقة، أو مجاز الكلام فيها كالكلام في الجدة،وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجس، ذكر ذلك: النضر بن شميل في كتاب المثالب.{وَأَخَوٰتُكُمْ } الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن. {وَعَمَّـٰتُكُمْ وَخَـٰلَـٰتُكُمْ } العمة: أخت الأب، والخالة:أخت الأم. وخص تحريم العمات والخالات دون أولادهن. وتحرم عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها، وعمة العمة. وأم خالة العمةفإن كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم، فلا تحل خالة العمة لأنها أخت الجدة. وإن كانت العمة إنماهي أخت أب لأب فقط، فخالتها أجنبية من بني أخيها تحلّ للرجال، ويجمع بينها وبين النساء. وأما عمة الخالة فإنكانت الخالة أخت أم لأب فلا تحل عمة الخالة، لأنها أخت جد. وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتهاأجنبية من بني أختها. {وَبَنَاتُ ٱلاْخِ وَبَنَاتُ ٱلاْخْتِ } تحرم بناتهما وإن سفلن. وأفرد الأخ والأخت ولم يأت جمعاً،لأنه أضيف إليه الجمع، فكان لفظ الإفراد أخف، وأريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحدة وغيره. فهؤلاء سبع من النسبتحريمهن مؤبد. وأما اللواتي صرن محرمات بسبب طارىء فذكرهن في القرآن سبعاً وهن في قوله تعالى: {وَأُمَّهَـٰتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْوَأَخَوٰتُكُم مّنَ ٱلرَّضَاعَةِ } وسمى المرضعات أمهات لأجل الحرمة، كما سمى أزواج رسول الله أمهات المؤمنين.ولما سمى المرضعة أماً والمرضعة مع الراضع أختاً، نبّه بذلك على إجراء الرضاع مجرى النسب. وذلك لأنه حرم بسبب النسبسبع: اثنتان هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما: الأم والبنت. وخمس بطريق الأخوة وهن: الأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت.ولما ذكر الرضاع ذكر من كل قسم من هذين القسمين صورة تنبيهاً على الباقي، فذكر من قسم قرابة الأولاد الأمهات،ومن قسم قرابة الأخوة والأخوات، ونبه بهذين المثالين على أنّ الحال في باب الرضاع كالحال في باب النسب. ثم إنه أكد هذا بصريح قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فصار صريح الحديث مطابقاً لماأشارت إليه الآية. فزوج المرضعة أبوه، وأبواه جداه، وأخته عمته. وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعدهفهو أخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته. وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم أخوته وأخوانه لأبيهوأمه. وأما ولدها من غيره فهم أخوته وأخواته لأمه. وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما أنهلا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب، ويجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع. لأن المعنى فيالنسب وطؤه أمها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع. والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز فيالرضاع. لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع، وظاهر الكلام إطلاق الرضاع. ولم تتعرضالآية إلى سن الراضع، ولا عدد الرضعات. ولا للبن الفحل، ولا لإرضاع الرجل لبن نقسه للصبي، أو إيجاره به، أوتسعيطه بحيث يصل إلى الجوف. وفي هذا كله خلاف مذكور في كتب الفقه. وقرأ الجمهور: اللاتي أرضعنكم. وقرأ عبد الله:اللاي بالياء. وقرأ ابن هرمز: التي. وقرأ أبو حيوة: من الرضاعة بكسر الراء. {وَأُمَّهَـٰتُ نِسَائِكُمْ } الجمهور على أنهاعلى العموم. فسواء عقد عليها ولم يدخل، أم دخل بها. وروي عن علي ومجاهد وغيرهما: أنه إذا طلقها قبل الدخول،فله أن يتزوج أمها. وأنها في ذلك بمنزلة الربيبة. {وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ } ظاهره أنه يشترط في تحريمهاأن تكون في حجره، وإلى هذا ذهب علي، وبه أخذ داود وأهل الظاهر. فلو لم تكن في حجره وفارق أمهابعد الدخول جاز له أن يتزوجها. قالوا: حرم الله الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون في حجر الزوج. الثاني: الدخول بالأم.فإذا فقد أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واحتجوا بقوله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة فشرط الحجر. وقال الطحاوي وغيره: إضافتهن إلى الحجور حملاً على أغلب ما يكونالربائب، وهي محرمة وإن لم تكن في الحجر. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة قوله: في حجوركم؟ (قلت) فائدته التعليلللتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن، أو لكونهن بصدد احتضانكم. وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن، وتمكن حكم الزواج بدخولكمجرت أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم انتهى. وفيه بعض اختصار. {مّن نِّسَائِكُمُ ٱللَّـٰتِىدَخَلْتُمْ بِهِنَّ } ظاهر هذا أنه متعلق بقوله: وربائبكم فقط. واللاتي: صفة لنسائكم المجرور بمن، ولا جائز أن يكون اللاتيوصفاً لنسائكم من قوله: وأمهات نسائكم، ونسائكم المجرور بمن، لأن العامل في المنعوتين قد اختلف: هذا مجرور بمن، وذاك مجروربالإضافة. ولا جائز أن يكون من نسائكم متعلقاً بمحذوف ينتظم أمهات نسائكم وربائبكم، لاختلاف مدلول حرف الجر إذ ذاك، لأنهبالنسبة إلى قوله: وأمهات نسائكم يكون من نسائكم لبيان النساء، وتمييز المدخول بها من غير المدخول بهن. وبالنسبة إلى قوله:وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، يكون من نسائكم لبيان ابتداء الغاية كما تقول: هذا ابني منفلانة. قال الزمخشري: إلا أنّ أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل من للاتصال كقوله تعالى:

{ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ }

، فإنيلست منك ولست مني، ما أنا من دد ولا الدد مني. وأمهات النساء متصلات بالنساء، لأنهن أمهاتهن. كما أن الربائبمتصلات بأمهاتهن، لأنهن بناتهن انتهى. ولا نعلم أحداً ذهب إلى أنَّ من معاني من الاتصال. وأما ما شبه به منالآية والشعر والحديث، فمتأول: وإذا جعلنا من نسائكم متعلقاً بالنساء، والربائب كما زعم الزمخشري. فلا بد من صلاحيته لكل منالنساء والربائب. فأما تركيبه مع لربائب ففي غاية الفصاحة والحسن، وهو نظم الآية. وأما تركيبه مع قوله: وأمهات نسائكم، فإنهيصير: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام فصيح،لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله: من نسائكم. والدخول هنا كناية عن الجماع لقولهم: بني عليها، وضرب عليهاالحجاب. والباء: للتعدية، والمعنى: اللاتي أدخلتموهن الستر قاله: ابن عباس، وطاوس، وابن دينار. فلو طلقها بعد البناء وقبل الجماع،جاز أن يتزوج ابنتها. وقال عطاء، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث: إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، وحرمتعلى الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر إليها بشهوة، فقال ابن أبي ليلى: لا يحرم النظر حتىتلمس، وهو قول الشافعي. وقال مالك: يحرم النظر إلى شعرها، أو شيء من محاسنها بلذة. وقال الكوفيون: يحرم النظر إلىفرجها بشهوة. وقال الثوري: يحرم إذا كان تعمد النظر إلى فرجها، ولم يذكر الشهوة. وقال عطاء، وحماد بن أبي سليمان:إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمها ولا ابنتها، وعدوا هذا الحكم إلى الإماء. وقال الحسن: إذا ملك الأمةوغمزها بشهوة، أو كشفها، أو قبلها، لا تحل لولده بحال. وأمر مسروق أن تباع جاريته بعد موته وقال: أما أنيلم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من اللمس والنظر. وجرد عمر أمة خلا بها فاستوهبها ابن له فقال:لا تحل لك. {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي: في نكاح الربائب. وليس جواز نكاحالربائب موقوفاً على انتفاء مطلق الدخول، بل لا بد من محذوف مقدر تقديره: فإن لم تكونوا دخلتم بهن، وفارقتموهن بطلاقمنكم إياهن، أو موت منهن. {وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ } أجمعوا على تحريم ما عقد عليه الآباء علىالأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء كان مع العقد وطء، أو لم يكن. والحليلة: اسم يختص بالزوجة دون ملكاليمين، ولذلك جاء في أزواج أدعيائهم. ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون الوطء، اقتضى تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء. وجاءالذين من أصلابكم وهو وصف لقوله: أبنائكم، برفع المجاز الذي يحتمله لفظ أبنائكم إذ كانوا يطلقون على من اتخذته العربابناً من غيرهم، وتبنته ابناً، كما كانوا يقولون: زيد بن محمد، إلى أن نزل:

{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ }

الآية وكما قالت امرأة أبي حذيفة في سالم: إنا كنا نراه ابناً. وقد تزوج رسول الله صلى اللهعليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمته، أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة، وأجمعوا علىأن حليلة الابن من الرضاع في التحريم كحليلة الابن من الصلب، استناداً إلى قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وظاهر قوله: وحلائل أبنائكم اختصاص ذلك بالزوجات كما ذكرناه، واتفقوا على أنَّ مطلق عقد الشراءللجارية لا يحرمها على أبيه ولا ابنه، فلو لمسها أو قبلها حرمت على أبيه وابنه، لا يختلف في تحريم ذلك.واختلفوا في مجرد النظر بشهوة. {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاْخْتَيْنِ } أن تجمعوا في موضع رفع لعطفه على مرفوع، والمعنى:وإن تجمعوا بين الأختين في النكاح، لأن سياق الآية إنما هو في النكاح، وإن كان الجمع بين الأختين أعم منأن يكون في زوجين، أو بملك اليمين. فأما إذا كان على سبيل التزويج، فأجمعت الأمة على تحريم العقد على ذلكسواء وقع العقدان معاً، أم مرتباً. واختلفوا في تزويج المرأة في عدة أختها: فروي عن زيد، وابن عباس، وعبيدة، وعطاء،وابن سيرين، ومجاهد في آخرين من التابعين: أن ذلك لا يجوز فبعضهم أطلق العدة، وبعضهم قال: إذا كانت من الثلاثوهو قول: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والحسن بن صالح. وروي عن عروة، والقاسم، وخلاس: أنه يجوز لهذلك إذا كانت من طلاق بائن، وهو قول: مالك والأوزاعي والليث والشافعي. واختلف عن سعيد والحسن وعطاء. والجواز ظاهر الآية،إذا لم يكن الطلاق رجعياً. وأما الجمع بينهما بملك اليمين فلا خلاف في شرائهما ودخولهما في ملكه، وأما الجمع بينهمافي الوطء: فذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، والزبير، وابن عمر، وعمار وزيد: إلى أنه لا يجوز ذلك. وهل ذلك علىسبيل الكراهة أو التحريم؟ فذكر ابن المنذر عن جمهور أهل العلم: الكراهة. وذكر عن إسحاق: التحريم وكان المستنصر بالله أبوعبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص ملك أفريقية قد سأل أحد شيوخنا الذينلقيناهم بتونس، وهو الشيخ العابد المنقطع أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الإشبيلي: ألا ترى عن الجمع بين الأختينبملك اليمين في الوطء؟ فأجابه بالمنع، وكان غيره قد أفتاه بالجواز. واستدل شيخنا على منع ذلك بظاهر قوله: وأن تجمعوابين الأختين. وروي عن عثمان، وابن عباس: إباحة ذلك. وإذا اندرج أيضاً الجمع بينهما بأن يجمع بينهما في الوطء بتزوجوملك يمين، فيكون قد تزوج واحدة، وملك أختها. وقد أكثر المفسرون من الفروع هنا، وموضع ذلك كتب الفقه. {إَلاَّمَا قَدْ سَلَفَ } إستثناء منقطع يتعلق بالأخير، وهو: أن تجمعوا بين الأختين. والمعنى: لكن ما سلف من ذلك، ووقع.وأزالت شريعة الإسلام حكمه، فإن الله يغفره والإسلام يجبه ويدل على عدم المؤاخذة به قوله. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراًرَّحِيماً } وقد يكون معنى قوله: إلا ما قد سلف، فلا ينفسخ به العقد على أختين، بل يخير بين منشاء منهما، فيطلق الواحدة، ويمسك الأخرى كما جاء في حديث فيروز الديلمي: أنه أسلم وتحته أختان فقال له رسول اللهطلق إحداهما وأمسك الأخرى وظاهر حديث فيروز: التخيير من غير نظر إلى وقت العقد، وهو مذهبمالك، ومحمد، والليث، وذهب: أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثوري إلى أنه يختار من سبق نكاحها، فإن كانا في عقد واحدفرق بينه وبينهما. وقال عطاء، والسدي: هذا الاستثناء يدل على أن ما تقدّم قبل ورود النهي كان مباحاً، هذا يعقوبعليه السلام جمع بين أم يوسف وأختها. ويضعف هذا لبعد صحة إسناد قصة يعقوب في ذلك، وكون هذا التحريم متعلقاًبشرعنا نحن، لا يظهر منه ذكر عفو عنه فيما فعل غيرنا. {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ }الإحصان: التزوج، أو الحرية، أو الإسلام، أو العفة. وعلى هذه المعاني تصرفت هذه اللفظة في القرآن، ويفسر كل مكان بمايناسبه منها. وروى أبو سعيد أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله بعث جيشاً إلى أوطاس،فلقوا عدوًّا وأصابوا سبباً لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت. فالمحصنات هنا المزوجات. والمستثنى هو السبايا، فإذاوقعت في سهمه من لها زوج فهي حلال له، وإلى هذا ذهب: أبو سعيد، وابن عباس، وأبو قلابة، ومكحول، والزهري،وابن زيد، وهذا كما قال الفرزدق:

وذات حليل أنكحتها رماحنا     حلال لمن يبنى بها لم تطلق

وقيل: المحصنات المزوجات، والمستثنى هن الإماء، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهن بشراء، أو هبة، أو صدقة، أوإرث. فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج، وبيعها، وهبتها، والصدقة بها وارثها طلاق لها. وإلى هذا ذهب عبد الله، وأبيجابر، وابن عباس أيضاً، وسعيد، والحسن. وذهب عمرو بن عباس أيضاً، وأبو العالية، وعبيدة، وطاووس، وابن جبير، وعطاء: إلى أنالمحصنات هن العفائف، وأريد به كل النساء حرام، والشرائع كلها تقتضي ذلك. والمستثنى معناه: إلا ما ملكت أيمانكم بنكاح أوبملك، فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين. وبهذا التأويل يكون المعنى تحريم الزنا. وروي عن عمر في المحصنات أنهن الحرائر؟فعلى هذا يكون قوله: إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح إن كان الاستثناء متصلاً، وإن كان أريد به الإماء كانمنقطعاً. قيل: والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن تعلق بالقدر المشترك بين معانية الأربعة، وإن اختلفت جهات الإحصان، ويحمل قوله: إلاما ملكت أيمانكم على ظاهر استعماله في القرآن وفي السنة. وعرف العلماء من أن المراد به الإماء، ويعود الاستثناء إلىما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان. وكل ما صح ملكها ملك يمين حلت لمالكها من مسبية أو مملوكةمزوجة. ولم يختلف القراء السبعة في فتح الصاد من قوله: والمحصنات من النساء، واختلفوا في سوى هذا فقرأ الكسائي:بكسر الصاد، سواء كان معرفاً بالألف واللام، أم نكرة. وقرأ باقيهم وعلقمة: بالفتح، كهذا المتفق عليه. وقرأ يزيد بن قطيب:والمحصنات بضم الصاد اتباعاً لضمة الميم، كما قالوا: منتن، ولم يعتدّوا بالحاجز لأنه ساكن، فهو حاجز غير حصين. وقال مكي:فائدة قوله: من النساء، أنّ المحصنات تقع على الأنفس فقوله:

{ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ }

لو أريد به النساء خاصة، لماحدّ مَن قذف رجلاً بنص القرآن، وأجمعوا على أن حده بهذا النص. {كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } انتصب بإضمار فعلوهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت عليكم. وكأنه قيل: كتب الله عليكم تحريم ذلك كتاباً. ومن جعلذلك متعلقاً بقوله:

{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ }

كما ذهب إليه عبيدة السلماني، فقد أبعدوما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلاً بهذه الآية، إذ تقدير ذلكعنده: عليكم كتاب الله أي: الزموا كتاب الله. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدراً مؤكداً كما ذكرناه. ويؤكد هذاالتأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع اليماني: كتب الله عليكم، جعله فعلاً ماضياً رافعاً ما بعده، أي: كتب اللهعليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميقع أيضاً أنه قرأ: كتب الله عليكم جمعاً ورفعاً أي: هذه كتب الله عليكمأي: فرائضه ولازماته. {وَأُحِلَّ لَكُمْ وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ } لما نص على المحرمات فيالنكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر، وظاهر ذلك العموم. وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعةعلى جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، والجمع بينهما. وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جفعر الطاوسي أحد علماءالشيعة الاثنى عشرية في كتابه في التفسير، وملخص ما قال: أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد. وهو ما روي أنه قال: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها بل إذا ورد حديث عن رسول الله عرض على القرآن، فإن وافقه قبل، وإلا ردّ. وما ذهبوا إليه ليس بصحيح، لأن الحديث لميعارض القرآن، غاية ما فيه تخصيص عموم، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات، وليس الحديثخبر آحاد بل هو مستفيض، روي عن جماعة من الصحابة رواه: عليّ، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو موسى، وأبوسعيد، وأبو هريرة، وعائشة. حتى ذكر بعض العلماء أنه متوتر موجب للعلم والعمل. وذكر ابن عطية: إجماع الأمة على تحريمالجمع، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه، ولا يعدّ هذا التخصيص نسخاً للعموم خلافاً لبعضهم. وقد خصص بعضهم هذاالعموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم، فهي حلال لكم تزويجهن، وإلىهذا ذهب عطاء والسدي، وخصة قتادة بالإماء: أي: وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء. وأبعد عبيدة والسدي في ردّذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى: وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. وقال السدي أيضاًفي قوله: ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج. والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من تحريم الجمعبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبينها وبين بنت عمتها، وبينهاوبين بنت خالها، أو بنت خالتها. وقد روى المنع من ذلك عن: إسحاق بن طلحة، وعكرمة، وقتادة، وعطاء. وقد نكححسن بن حسين بن عليّ في ليلة واحدة بنت محمد بن عليّ، وبنت عمر بن عليّ، فجمع بين ابنتي عمّ.وقد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده. قال ابن المنذر: لا أعلم أحد، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان فيجملة ما أبيح بالنكاح، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة، ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة انتهى.واندرج تحت هذا العموم أيضاً أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها، وكذلك لا تحرم عليهامرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها. ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك، وعلىهذا أكثر أهل العلم. وروي عن عمران بن حصين والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان، وأحمد، وإسحاق، أنهما يحرمان عليه، وبه قال:أبو حنيفة. ويندرج أيضاً تحت هذا العموم: أنه لو عبت رجل برجل لم تحرم عليه أمّه ولا ابنته، وبه قال:مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه قالوا: لا يحرم النكاح العبث بالرجال. وقال الثوري، وعبيد الله بن الحسن: هو مثل وطءالمرأة سواء في تحريم الأم والبنت، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال. وقال الأوزاعي في غلامين: يعبث أحدهمابالآخر فتولد للمفعول به جارية قال: لا يتزوجها الفاعل. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: وأحل مبنياً للمفعول، وهو معطوف علىقوله:

{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ }

. وقرأ باقي السبعة: وأحل مبنياً للفاعل، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى، وهو أيضاً معطوف علىقوله: حرمت. ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنياً للفاعل، أو للمفعول. ولا يشترط المناسبة ولا يختار، وإناختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل، فكيف إذا اتحد كهذا، لأنه معلوم أنالفاعل المحذوف في حرمت: هو الله تعالى، وهو الفاعل المضمير في: أحلّ المبني للفاعل. وقال الزمخشري: (فإن قلت): علامعطف قوله: وأحل لكم؟ (قلت): على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله: أي كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحل لكمما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: كتب الله عليكم، وأحل لكم. ثم قال: ومن قرأ {وَأُحِلَّ لَكُمْ } علىالبناء للمفعول، فقد عطفه على: حرّمت عليكم انتهى كلامه. ففرق في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار.لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت، فالعامل فيه وهو كتب،إنما هو تأكيد لقوله: حرمت، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم، إنما التأسيس حاصل بقوله: حرمت، وهذه جيءبها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم، إنمايناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها، لا سيما والجملتان متقابلتان: إذا حداهما للتحريم، والأخرى للتحليل، فناسب أن يعطف هذهعلى هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ: وأحل مبنياً للمفعول، فكذلك يجوز فيه مبنياً للفاعل، ومفعول أحلّهو: ما وراء ذلكم. قال ابن عطية: والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرّمات، فهو وراءأولئك بهذا الوجه. وقال الفراء: ما وراء ذلكم أي: ما سوى ذلكم. وقال الزجاج: ما دون ذلكم، أي: ما بعدهذه الأشياء التي حرمت. وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض. وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال منما وراء ذلكم، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء. وقيل: الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح. وقال الزمخشري: أن تبتغوا مفعولله، بمعنى: بين لكم ما يحل مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياماً في حالكونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم ممايجمع بين الخسرانين انتهى كلامه. وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه، وتفسير الواضحالجلي باللفظ المعقد، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دساً خفياً إذ فسر قوله: وأحل لكم بمعنى بينلكم ما يحل. وجعل قوله: أن تبتغوا على حذف مضافين: أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم، أي: إرادة كون ابتغائكم بأموالكم.وفسر الأموال بعد بالمهور، وما يخرج في المناكح، فتضمن تفسيره: أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور،فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح. وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري. إذ الظاهر أنه تعالى أحلّلنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان، لا حالة السفاح. وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب:أن تبتغوا مفعولاً له، كما ذهب إليه الزمخشري، لأنه فات شرط من شروط المفعول له، وهو اتحاد الفاعل في العاملوالمفعول له. لأن الفاعل بقوله: وأحل، هو الله تعالى. والفاعل في: أن تبتغوا، هو ضمير المخاطبين، فقد اختلفا. ولما أحسالزمخشري أن كان أحس بهذا، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله: وأحلّ، وفي المفعول له،ولم يجعل أن تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلىذلك. ومفعول تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك.ومفعول تبتغوا محذوف اختصاراً، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله: ما وراء ذلكم، وتقديره: أن تبتغوه. وقالالزمخشري: (فإن قلت): أين مفعول تبتغوا؟ (قلت): يجوز أن يكون مقدراً وهو. النساء، وأجود أن لا يقدر. وكأنه قيل: أنتخرجوا أموالكم انتهى كلامه. فأما تقديره: إذا كان مقدراً بالنساء فإنه لما جعله مفعولاً له غاير بين متعلق المفعول لهوبين متعلق المعلول. وأما قوله: وأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم، فهو مخالف للظاهر، لأن مدلول تبتغواليس مدلول تخرجوا، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح، كما هو في تخرجوا، وهذاكله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه. وظاهر قوله: بأموالكم، أنه يطلق على ما يسمى مالاً وإن قلَّوهو قول: أبي سعيد، والحسن، وابن المسيب، وعطاء، والليث، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، والشافعي، وربيعة قالوا: يجوزالنكاح على قليل المال وكثيره. وقيل: لا مهر أقل من عشرة دراهم، وروي عن عليّ، والشعبي، والنخعي، في آخرين منالتابعين. وهو قول: أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، والحسن، ومحمد بن زياد. وقال مالك: أقلّ المهر ربع دينار أو ثلاثةدراهم. وقال أبو بكر الرازي: من كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده مال، وظاهر قوله: بأموالكم يدلّ علىأنه لا يجوز أن يكون المهر منفعة، لا تعليم قرآن ولا غيره، وقد أجاز أن يكون المهر خدمتها مدة معلومةجماعة من العلماء، ولهم في ذلك تفصيل. وأجاز أن يكون تعليم سورة من القرآن الشافعي، ومنع من ذلك: مالك والليث،وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وحججهم في كتب الفقه وفي كتب أحكام القرآن. والاحصان: الفقه، وتحصين النفس عن الوقوع فيالحرام. وانتصب محصنين على الحال، وغير مسافحين حال مؤكدة، لأن الإحصان لا يجامع السفاح وكذلك قوله:

{ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ }

والمسافحون هم الزانون المبتذلون، وكذلك المسافحات هن الزواني المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا. ومتخذوا الأخدان هم الزناة المتسترون الذين يصحبونواحدة واحدة، وكذلك متخذات الأخدان هن الزواني المتسترات اللواتي يصحبن واحداً واحداً، ويزنين خفية. وهذان نوعان كانا في زمن الجاهليةقاله: ابن عباس، والشعبي، والضحاك، وغيرهم. وأصل المسافح من السفح، وهو الصب للمني. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحيني وماذيني منالمذي. {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن زيد، وغيرهم: المعنى فإذااستمتعتم بالزوجة ووقع الوطء، ولو مرة، فقد وجب إعطاء الأجر وهو المهر، ولفظة ما تدل على أن يسيرالوطء يوجب إيتاءالأجرة. وقال الزمخشر: فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة، أو عقد عليهن، فآتوهن أجورهن عليه انتهى.وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة، إذ هو مذهبه. وقد فسر ابن عباس وغيره الاستمتاع هنا بالوطء،لأن إيتاء الأجر كاملاً لا يترتب إلا عليه، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك. وقال ابن عباس أيضاًومجاهد، والسدي، وغيرهم: الآية في نكاح المتعة. وقرأ أبي، وابن عباس، وابن جبير: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمىفآتوهن أجورهن. وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله. وروي عن عليّ أنه قال: لولا أنّ عمر نهى عنالمتعة ما زنى إلا شقي. وروي عن ابن عباس: جواز نكاح المتعة مطلقاً. وقيل عنه: بجوازها عند الضرورة، والأصح عنهالرجوع إلى تحريمها. واتفق على تحريمها فقهاء الأمصار. وقال عمران بن حصين: أمرنا رسول الله بالمتعة،ومات بعدما أمرنا بها، ولم ينهنا عنه قال رجل بعده برأيه ما شاء. وعلى هذا جماعة من أهل البيت والتابعين.وقد ثبت تحريمها عن رسول الله من حديث عليّ وغيره. وقد اختلفوا في ناسخ نكاح المتعة،وفي كيفيته، وفي شروطه، وفيما يترتب عليه من لحاق ولد أو حدّ بما هو مذكور في كتب الفقه، وكتب أحكامالقرآن، وما من قوله: فما استمتعتم به منهن، مبتدأ. ويجوز أن تكون شرطية، والخبر الفعل الذي يليها، والجواب: فآتوهن، ولابد إذ ذاك من راجع يعود على اسم الشرط. فإن كانت ما واقعة على الاستمتاع فالراجع محذوف تقديره: فأتوهن أجورهنمن أجله أي: من أجل ما استمتعتم به. وإن كانت ما واقعة على النوع المستمتع به من الأزواج، فالراجع هوالمفعول بآتوهن وهو الضمير، ويكون أعاد أولاً في به على لفظ ما، وأعاد على المعنى في: فآتوهن، ومن في: منهنعلى هذا يحتمل أن يكون تبعيضاً. وقيل: يحتمل أن يكون للبيان. ويجوز أن تكون ما موصولة، وخبرها إذ ذاك هو:فآتوهن، والعائد الضمير المنصب في: فآتوهن إن كانت واقعة على النساء، أو محذوف إن كانت واقعة على الاستمتاع على مابين قبل. والأجور: هي المهور. وهذا نص على أنّ المهر يسمى أجراً، إذ هو مقابل لما يستمتع به. وقداختلف في المعقود عليه بالنكاح ما هو؟ أهو بدن المرأة، أو منفعة العضو، أو الكل؟ وقال القرطبي: الظاهر المجموع، فإنالعقد يقتضي كل هذا. وإن كان الاستمتاع هنا المتعة، فالأجر هنا لا يراد به المهر بل العوض كقوله:

{ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا }

وقوله:

{ لَوْ شِئْتَ * لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }

وظاهر الآية: أنه يجب المسمى في النكاح الفاسدلصدق قوله: فما استمتعتم به منهن عليه جمهور العلماء، على أنه لا يجب فيه إلا مهر المثل، ولا يجب المسمى.والحجة لهم: {أَيَّمَا * ٱمْرَأَتُ * ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وانتصب فريضة على الحال من أجورهن، أو مصدر على غير الصدر. أي: فآتوهن أجورهن إيتاء، لأن الإيتاء مفروض. أومصدر مؤكد أي: فرض ذلك فريضة. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ } لما أمروا بإيتاءأجور النساء المستمتع بهن، كان ذلك يقتضي الوجوب، فأخبره تعالى أنه لا حرج ولا إثم في نقص ما تراضوا عليه،أو رده، أو تأخره. أعني: الرجال والنساء من بعد الفريضة. فلها إن ترده عليه، وإن تنقص، وإن تؤخر، هذا مايدل عليه سياق الكلام. وهو نظير

{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }

وإلى هذا ذهبالحسن وابن زيد. وقال السدي: هو في المتعة. والمعنى: فيما تراضيتم به من بعد الفريضة زيادة في الأجل، وزيادة فيالمهر قبل استبراء الرحم. وقال ابن عباس: في رد ما أعطيتموهن إليكم. وقال ابن المعتمر: فيما تراضيتم به من النقصانفي الصداق إذا أعسرتم. وقيل: معناه إبراء المرأة عن المهر، أو توفيته، جو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبلالدخول. وقيل: فيما تراضيتم به من بعد فرقة، أو إقامة بعد أداء الفريضة، وروي عن ابن عباس وقد استدل علىالزيادة في المهر بقوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ }، قيل: لأن ما عموم في الزيادةوالنقصان والتأخير والحظ والإبراء، وعموم اللفظ يقتضي جواز الجميع، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها مما ذكرناه، لأن المرأة والحظ والتأجيللا يحتاج في وقوعه إلى رضا الرجل، والاقتصار على ما ذكر دون الزيادة يسقط فائدة ذكر تراضيهما. وذهب أبو حنيفة،وأبو يوسف، ومحمد: إلى أن الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها. وإنطلقها قبل الدخول بطلت الزيادة. وقال مالك: تصح الزيادة، فإن طلقها قبل الدخول رجع ما زادها إليه، وإن مات عنهاقبل أن يقبض فلا شيء لها. وقال الشافعي وزفر: الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إن أقبضها جازت، وإلا بطلت. {إِنَّٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } بما يصلح أمر عباده. {حَكِيماً } في تقديره وتدبيره وتشريعه. {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْطَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } الطول: السعة في المال قاله: ابن عباس، ومجاهد،وابن جبير، والسدي، وابن زيد، ومالك في المدونة. وقال ابن مسعود، وجابر، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وربيعة: الطول هنا الجلد والصبرلمن أحب أمة وهو بها حتى صار لا يستطيع أن يتزوج غيرها فله أن يتزوجها، وإن كان يجد سعة فيالمال لنكاح حرة. والمحصنات هنا الحرائر، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء. وقالت فرقة: معناه العفائف، وهو ضعيف.واختلفوا في جواز نكاح الأمة لواجد طول الحرة. وظاهر الآية يدل على أنّ من لم يستطع ما يتزوج به الحرةالمؤمنة وخاف العنت، فيجوز له أن يتزوج الأمة المؤمنة، ويكون هذا تخصيصاً العموم قوله:

{ وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ }

فيكون تخصيصاً في الناكح بشرط أن لا يجد طول الحرة ويخاف العنت، وتخصيصاً في إمائكم بقوله: من فتيانكمالمؤمنات، وتخصيص جواز نكاح الإماء بالمؤمنات لغير واجد طول الحرة، هو مذهب أهل الحجاز. فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية،وبه قال: الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي. وذهب العراقيون أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والثوري ومن التابعينالحسن ومجاهد إلى جواز ذلك. ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب. واستدلوا على أنّ الإيمان ليسبشرط بكونه وصف به الحرائر في قوله: أن ينكح المحصنات المؤمنات، وليس بشرط فيهن اتفاقاً، لكنه أفضل. وقال ابنعباس: وسع الله على هذه الأمة بنكاح الأمة، واليهودية، والنصرانية. وقد اختلف السلف في ذلك اختلافاً كثيراً: روي عن ابنعباس، وجابر، وابن جبير، والشعبي، ومكحول: لا يتزوج الأمة إلا من لا يجد طولاً للحرة، وهذا هو ظاهر القرآن. ورويعن مسروق، والشعبي: أن نكاحها بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير، يعني: أنه يباح عند الضرورة. وروي عن علي، وأبي جعفر،ومجاهد، وابن المسيب، وابراهيم، والحسن، والزهري: أن له نكاحها، وإن كان موسراً. وروي عن عطاء، وجابر بن زيد: أنه يتزوجهاإن خشي أن يزني بها، ولو كان تحته حرة. فال عطاء: يتزوج الأمة على الحرة. وقال ابن مسعود: لا يتزوجهاعليها إلا المملوك. وقال عمر، وعلي، وابن المسيب، ومكحول في آخرين: لا يتزوجها عليها. وهذا الذي يقتضيه النظر، لأن القرآندل على أنه لا ينكح الأمة إلا مَن لا يجد طولاً للحرة. فإذا كانت تحته حرة، فبالأولى أن لا يجوزله نكاح الأمة، لأن وجدان الطول للحرة إنما هو سبب لتحصيلها، فإذا كانت حاصلة كان أولى بالمنع. وقال ابراهيم: يتزوجالأمة على الحرة إن كان له من الأمة ولد. وقال ابن المسيب: لا ينكحها عليها إلا أن تشاء الحرة، ويقسمللحرة يومين، وللأمة يوماً وظاهر قوله: فمما ملكت أيمانكم، جواز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة أربعاً من الإماء إن شاء.وروي عن ابن عباس: أنه لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة، وإذا لم يكن شرطاً في الأمة الإيمان فظاهرقوله: فمما ملكت أيمانكم من فتيانكم، أنه لو كانت الكتابية مولاها كافر لم يجز نكاحها، لأنه خاطب بقوله: فمما ملكتأيمانكم من فتيانكم المؤمنات، فاختص بفتيات المؤمنين، وروي عن أبي يوسف: جواز ذلك على كراهة. وإذا لم يكن الإيمان شرطاًفي نكاح الأمة، فالظاهر جواز نكاح الأمة الكافرة مطلقاً، سواء كانت كتابية، أو مجوسية، أو وثنية، أم غير ذلك منأنواع الكفار. وأجمعوا على تحريم نكاح الأمة الكافرة غير الكتابية: كالمجوسية، والوثنية، وغيرهما. وأما وطء المجوسية بملك اليمين فأجازه:طاوس، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار. ودلت على هذا القول ظواهر القرآن في عموم: ما ملكت أيمانكم، وعموم

{ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ }

قالوا: وهذا قول شاذ مهجور، لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار. وقالوا: لايحل له أن يطأها حتى تسلم. وقالوا: إنما كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة لما فيه من اتباع الولدلأمه في الرق، ولثبوت حق سيدها فيها، وفي استخدامها، ولتبذلها بالولوج والخروج، وفي ذلك نقصان نكاحها ومهانته إذ رضي بهذاكله، والعزة من صفات المؤمنين. ومن مبتدأ، وظاهره أنه شرط. والفاء في: فمما ملكت فاء الجواب، ومن تتعلق بمحذوفتقديره: فلينكح من ما ملكت. ويجوز أن يكون مَن موصولة، ويكون العامل المحذوف الذي يتعلق به قوله: مما ملكت جملةفي موضع الخبر. ومسوغات دخول الفاء في خبر المبتدأ موجودة هنا. والظاهر أنَّ مفعول يستطع هو طولاً، وأن ينكح علىهذا أجازوا، فيه أن يكون أصله بحرف جر، فمنهم من قدره بإلى، ومنهم من قدره باللام أي: طولاً إلى أنينكح، أو لأن ينكح، ثم حذف حرف الجر، فإذا قدر إلى، كان المعنى: ومَن لم يستطع منكم وصلة إلى أنينكح. وإذا قدر باللام، كان في موضع الصفة القدير: طولاً أي: مهراً كائناً لنكاح المحصنات. وقيل: اللام المقدرة لام المفعولله أي: طولاً لأجل نكاح المحصنات، وأجازوا أن يكون: أن ينكح في موضع نصب على المفعول به، وناصبة طول. إذجعلوه مصدر طلت الشيء أي نلته، قالوا: ومنه قول الفرزدق:

إن الفرزدق صخرة عادية     طالت فليس تنالها الأوعالا

أي وطالت إلا وعال أي: ويكون التقدير ومَن لم يستطع منكم أن ينال نكاح المحصنات. ويكونقد أعمل المصدر المنون في المفعول به كقوله:

يضرب بالسيوف رؤوس قوم     أزلناها مهن عن المقيل

وهذا على مذهب البصريين إذ أجازوا إعمال المصدر المنون. وإلى أنَّ طولاً مفعول لـ يستطيع، وإن ينكح فيموضع مفعول بقوله: طولاً، إذ هو مصدر. ذهب أبو علي في التذكرة، وأجازوا أيضاً أن يكون أن ينكح بدلاً منطول، قالوا: بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد، لأن الطول هو القدرة والنكاح قدرة. وأجازوا أن يكون مفعول يستطعقوله: أن ينكح. وفي نصب قوله: طولاً وجهان: أحدهما: أن يكون مفعولاً من أجله على حذف مضاف، أي: ومن لميستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات. والثاني: قاله: ابن عطية. قال: ويصح أن يكون طولاً نصب على المصدر، والعامل فيهالاستطاعة، لأنها بمعنى يتقارب. وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة، أو بالمصدر انتهى كلامه. وكأنه يعني أنَّ الطول هو استطاعة،فيكون التقدير: ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح. وما من قوله: فمما ملكت، موصولة اسمية أي: فلينكح منالنوع الذي ملكته أيمانكم. ومن فتياتكم: في موضع الحال من الضمير المحذوف في ما ملكت، العائد على ما. ومفعول الفعلالمحذوف الذي هو فلينكح محذوف، التقدير: فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم. ومِن للتبعيض، نحو: أكلت من الرغيف. وقيل: مِن فيمن ما زائدة، ومفعول ذلك الفعل هو ما من قوله: ما ملكت أيمانكم. وقيل: مفعوله فتياتكم على زيادة من. وقيل:مفعوله المؤمنات، والتقدير: فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم الفتيات المؤمنات. والأظهر أن المؤمنات صفة لفتياتكم. وقيل: ما مصدرية التقدير،من ملك إيمانكم. وعلى هذا يتعلق من فتياتكم بقوله: ملكت. ومن أغرب ما سطروه في كتب التفسير ونقلوه عنقول الطبري: أنّ فاعل ذلك الفعل المحذوف هو قوله:

{ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ }

وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: وَمَنْ لميستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضهم من بعض الفتيات، وهذا قول ينزه حمل كتاب الله عليه، لأنهقول جمع الجهل بعلم النحو وعلم المعاني، وتفكيك نظم القرآن عن أسلوبه الفصيح، فلا ينبغي أن يسطر ولا يلتفت إليه.ومنكم: خطاب للناكحين، وفي: أيمانكم من فتياتكم خطاب للمالكين، وليس المعنى أن الرجل ينكح فتاة نفسه، وهذا التوسع في اللغةكثير. {وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِكُمْ } لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمةالمؤمنة، نبّه على أنّ الإيمان هو وصف باطن، وأنّ المطلع عليه هو الله. فالمعنى: أنه لا يشترط في إيمان الفتياتأن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين، لأن ذلك إنما هو لله تعالى، فيكفي من الإيمان منهن إظهاره. فمن كانت مظهرةللإيمان فنكاحها صحيح، وربما كانت خرساء، أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان، فيكتفي بذلك منها. والخطاب في بإيمانكم للمؤمنينذكورهم وإناثهم، حرهم ورقهم، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب، ولم يفردن بذلك فلم يأت ـ والله أعلم ـ بإيمانهن، لئلايخرج غيرهن عن هذا الخطاب. والمقصود: عموم الخطاب، إذ كلهم محكوم عليه بذلك. وكم أمة تفوق حرة في الإيمان وفعلالخير، وامرأة تفوق رجلاً في ذلك، وفي ذلك تأنيس لنكاح الإماء، وأن المؤمن لا يعتبر الأفضل الإيمان، لا فضل الأحسابوالأنساب {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ * لا * فَضَّلَ * صَلَّىٰ * أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ * أَوْأَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ }. {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } هذه جملة من مبتدأ وخبر، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاعبعضكم على الفاعلية بالفعل المحذوف، ومعنى هذه الجملة الابتدائية: التأنيس أيضاً بنكاح الإماء، وأن الأحرار والأرقاء كلهم متواصلون متناسبون يرجعونإلى أصل واحد، وقد اشتركوا في الإيمان، فليس بضائر نكاح الإماء. وفيه توطئة العرب، إذ كانت في الجاهلية تستهجن ولدالأمة، وكانوا يسمونه الهجين، فلما جاء الشرع أزال ذلك. وما أحسن ما روي عن عليّ من قوله:

الناس من جهة التمثيل أكفاء     أبوهم آدم والأم حواء

{فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } هذا أمر إباحة، والمعنى:بولاية ملاكهن. والمراد بالنكاح هنا: العقد، ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر. وسمي ملاك الإماء أهلاً لهن، لأنهم كالأهل،إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام. وقد قال : {لاَ تُحِلُّواْ * بِٱللَّهِ حَسِيباً* مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ }. وقال : {مَوَالِىَ * ٱلْقَوْمَ * مِنْهُمْ }. وقيل: هو علىحذف مضاف بإذن أهل ولايتهن، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك. ومقتضى هذا الخطاب أنّ الأدب شرط في صحة النكاح، فلوتزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح، ولو أجازه السيد بخلاف العبد. فإنه لو تزوج بغير إذن سيده فإن مذهبالحسن وعطاء، وابن المسيب، وشريح، والشعبي، ومالك، وأبي حنيفة: أنّ تزوجه موقوف على إذن السيد، فإن أجازه جاز، وإن ردَّهبطل. وقال الأوزاعي، والشافعي، وداود: لا يجوز، أجازه المولى أو لم يجزه. وأجمعوا على أنه لا يجوز نكاح العبدبغير إذن سيده، وكان ابن عمر يعده زانياً ويحدّه، وهو قول: أبي ثور. وقال عطاء: لا حد عليه، وليسبزنا، ولكنه أخطأ السنة. وهو قول أكثر السلف. وظاهر قوله: بإذن أهلهن أنه يشمل الملاك ذكوراً وإناثاً، فيشترط إذن المرأةفي تزويج أمتها، وإذا كان المراد بالإذن هو العقد فيجوز للمرأة أن تزوج أمتها وتباشر العقد، كما يجوز للذكر. وقالالشافعي: لا يجوز، بل توكل غيرها في التزويج. وقال الزمخشري: بإذن أهلهن، اشترط الإذن للموالي في نكاحهن، ويحتج به لقولأبي حنيفة: إنَّ لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم. {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } الأجورهنا المهور. وفيه دليل على وجوب إيتاء الأمة مهرها لها، وأنها أحق بمهرها من سيدها، وهذا مذهب مالك، قال: ليسللسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وجمهور العلماء: على أنه يجب دفعه للسيد دونها. قيل: الإماء وما فيأيديهن مال الموالي، فكان أداؤه إليهن أداء إلى الموالي. وقيل: على حذف مضاف أي: وآتوا مواليهن. وقيل: حذف بإذن أهلهنبعد قوله:

{ وآتوهن أجورهن }

لدلالة قوله:

{ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ }

عليه وصار نظيراً

{ لَحَـٰفِظِينَ * فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَـٰفِـظَـٰتِ }

أي فروجهن،

{ وَٱلذكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذكِرٰتِ }

أي الله كثيراً. وقال بعضهم: أجورهن نفقاتهن. وكون الأجور يراد بها المهور هو الوجه،لأن النفقة تتعلق بالتمكين لا بالعقد. وظاهر قوله: بالمعروف، أنه متعلق بقوله: وآتوهن أجورهن. قيل: ومعناه بغير مطل وضرار، وإخراجإلى اقتضاء ولز. وقيل: معناه بالشرع والسنة أي: المعروف من مهور أمثالهن اللاتي ساوينهن في المال والحسب. وقيل: بالمعروف، متعلقبقوله: فانكحوهن، أي: فانكحوهن بالمعروف بإذن أهلهن، ومهر مثلهن، والإشهاد على ذلك. فإن ذلك هو المعروف في غالب الأنكحة.{مُحْصَنَـٰت } أي عفائف، ويحتمل مسلمات. {غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ } أي غير معلنات بالزنا. {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ } أي: ولامتسترات بالزنا مع أخدانهن. وهذا تقسيم الواقع لأن الزانية إما أن تكون لا ترديد لامس، وإما أن تقتصر على واحد،وعلى هذين النوعين كان زنا الجاهلية. قال ابن عباس: كان قوم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه.والخدن: هو الصديق للمرأة يزني بها سراً، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وانتصاب محصنات علىالحال، والظاهر أنّ العامل فيه: وآتوهن، ويجوز على هذا الوجه أن يكون معنى محصنات مزوجات أي: وآتوهن أجورهن في حالتزويجهن، لا في حال سفاح، ولا اتخاذ خدن. قيل: ويجوز أن يكون العامل في محصنات فانكحوهن محصنات أي: عفائف أومسلمات، غير زوان. {أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } قال الجمهورومنهم ابن مسعود: الإحصان هنا الإسلام. والمعنى: أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة. وقد ضعف هذا القول، بأنالصفة لهن بالإيمان قد تقدّمت في قوله:

{ مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ }

فكيف يقال في المؤمنات: فإذا أسلمن؟ قاله: إسماعيل القاضي.وقال ابن عطية: ذلك غير لازم، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد، فإذا كنّ على هذه الصفة المتقدمة منالإيمان فإن أتين فعليهن، وذلك سائغ صحيح انتهى. وليس كلامه بظاهر، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط، فهو مستقبلمفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام، لأن الإسلام متقدم سابق لهن. ثم إنه شرطجا بعد قوله تعالى:

{ فَٱنكِحُوهُنَّ }

فكأنه قيل: فإذا أحصن بالنكاح، فإن أتين. ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعلهشرطاً في وجوب الحد، فلو زنت الكافر لم تحد، وهذا قول: الشعبي، والزهري، وغيرهما، وقد روي عن الشافعي. وقالت فرقة:هو التزويج، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها قاله: ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة. وقالتفرقة: هو التزوج. وتحد الأمة المسلمة بالسنة تزوجت أو لم تتزوج، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم، وهو أنه قيل:يا رسول الله، الأمة، إذا زنت ولم تحصن، فأوجب عليها الحد. قال الزهري: فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودةبالحديث. وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أنّ معنى: فإذا أحصن، تزوجن. وجواب الرسول: يقتضي تقرير ذلك، ولا مفهوملشرط الإحسان الذي هو التزوج، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هوالتزوج، لئلا يتوهم أنّ حدها إذا تزوجت كخد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم، فزال هذا التوهم بالإخبار: أنه ليس عليهاإلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج، وهو الجلد خمسين. والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى:

{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

ولا يمكن أن يراد الرجم، لأنّ الرجم لا يتنصف. والمراد بفاحشة هنا: الزنا، بدليلإلزام الحد. والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام، فحد الأمة خمسونوتغريب ستة أشهر. وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين، واختاره الطبري. وذهب ابن عباس والجمهور: إلى أنه ليس عليها إلاجلد خمسين فقط، ولا تغرب. فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط، وإنكانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب. والظاهر وجوب الحد من قوله: فعليهن، فلا يجوزالعفو عن الأمة من السيد إذا زنت، وهو مذهب الجمهور. وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو، ولم تتعرض الآيةلمن يقيم الحد عليها. قال ابن شهاب: مضت السنة أن يحدّ الأمة والعبد في الزنا أهلوهم، إلا أن يرفعأمرهم إلى السلطان، فليس لأحد أن يفتات عليه. وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذازنت في مجالسهم. وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر، وأنس. وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله: إِذَا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال مالك والليث: يحد السيد إلا في القطع، فلا يقطع إلاالإمام. وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد والإماء إلا السلطان دون المواليْ وظاهر الآية يدل على وجوب الحدعليها في حال كونها أمة، فلو عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة، وهذا مجمع عليه. والمحصناتهنا الإبكار الحرائر، لأنّ الثيب عليها الرجم. وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحدّ. وذهب أهل الظاهر منهم داود:إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة. وقرأ حمزة والكسائي: أحصن مبنياً للفاعل، وباقي السبعة: مبنياً للمفعول إلاعاصماً، فاختلف عنه. ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدًّا في أنه أريد به التزوج، ويقوى حمله مبنياً للفاعل على هذاالمعنى أي: أحصن أنفسهن بالتزويج. وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله: فإن أتين بفاحشة فعليهن، فالفاء في: فإن أتين هيفاء الجواب، لا فاء العطف، ولذلك ترتب الثاني، وجوابه على وجود الأول، لأنّ الجواب مترتب على الشرط في الوجود، وهونظير: إن دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت طالق، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيداًثانياً. ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا، وتفصيل ذكر في النحو. ومن العذاب في موضعالحال من الضمير المستكن في صلة ما. {مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } ذلكإشارة إلى نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة. والعنت: هو الزنا. قاله: ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والضحاك، وعطية العوفي، وعبدالرحمن بن زيد. والعنت: أصله المشقة، وسمي الزنا عنتاً باسم ما يعقبه من المشقة في الدنيا والآخرة. قال المبرد: أصلالعنت أن يحمله العشق والشبق على الزنا، فيلقى العذاب في الآخرة، والحدّ في الدنيا. وقال أبو عبيدة والزجاج: العنت الهلاك.وقالت طائفة: الحد. وقالت طائفة: الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وظاهر هذا أنه إذا لم يخش العنت لا يجوزله نكاح الأمة. والذي دلّ عليه ظاهر القرآن: أنه لا يجوز نكاح الحرّ الأمة إلا بثلاثة شروط: {ٱثْنَانِ * فِى} وهما: عدم طول الحرّة المؤمنة، وخوف العنت. وواحد في الأمة وهو الإيمان. {مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }ظاهره الإخبار عن صبر خاص، وهو غير نكاح الإماء، وقاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير والسدي: وجهة الخيرية كونه لايرق ولده، وأن لا يبتذل هو، وينتقص في العادة بنكاح الأمة. وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال: سمعترسول الله يقول: من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر وجاء في الحديث: انكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم . وقيل: المراد وإن تصبروا عن الزنا بنكاح لإماء خير لكم، وعلى هذا فالخيرية ظاهرة. ويكون على هذاالقول في الآية إيناس لنكاح الإماء، وتقريب منه، إذ كانت العرب تنفر عنه. وإذا جعل: وإن تصبروا عاماً، اندرج فيهالصبر المقيد وهو: عن نكاح الإماء، وعن الزنا. إذ الصبر خير، من عدمه، لأنه يدل على شجاعة النفس وقوة عزمها،وعظم إبائها، وشدة حفاظها. وهذا كله يستحسنه العقل، ويندب إليه الشرع، وربما أوجبه في بعض المواضع. وجعل الله تعالى أجرالصابر موفاة بغير حساب، وقد قال بعض أهل العلم: إنّ سائر العبادات لا بد لها من الصبر. قال تعالى:

{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ }

. {وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما ندب بقوله: وأن تصبروا إلى الصبر عن نكاح الإماء، صار كأنهفي حيز الكراهة، فجاء بصفة الغفران المؤذنة بأنَّ ذلك مما سامح فيه تعالى، وبصفة الرحمة حيث رخص في نكاحهن وأباحه.{يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } مفعول يتوب محذوف وتقديره: يريد الله هذاهو مذهب سيبويه فيما نقل ابن عطية، أي: تحليل ما حلل، وتحريم ما حرم، وتشريع ما تقدّم ذكره. والمعنى: يريدالله تكليف ما كلف به عباده مما ذكر لأجل التبيين لهم بهدايتهم، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه، هذامذهب البصريين. ولا يجوز عندهم أن يكون متعلف الإرادة التبيين، لأنه يؤدي إلى تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر بوساطة اللام،وإلى إضمار أنّ بعد لام ليست لام الجحود، ولا لام كي، وكلاهما لا يجوز عندهم. ومذهب الكوفيين: أنّ متعلق الإرادةهو التبيين، واللام هي الناصبة بنفسها لا أن مضمرة بعدها. وقال بعض البصريين: إذا جا مثل هذا قدر الفعل الذيقبل اللام بالمصدر فالتقدير: إرادة الله لما يريد ليبين، وكذلك أريد لا ينسى ذكرها، أي: إرادتي لا ينسى ذكرها. وكذلكقوله تعالى:

{ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

أي: أمرنا بما أمرنا لنسلم انتهى. وهذا القول نسبه ابن عيسى لسيبويه والبصريين،وهذا يبحث في علم النحو. وقال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كمازيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضلأعمالكم انتهى كلامه وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين. وأما كونه خارجاً عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقويةلتعدي يريد، والمفعول متأخر، وأضمر أن بعد هذه اللام. وأما كونه خارجاً عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام، لابأن، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام. وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله: ليبين لكم، لام العاقبة،قال: كما في قوله:

{ ليكون لهم عدواً وحزناً }

ولم يذكر مفعول يبين. قال عطاء: يبين لكم ما يقربكم. وقالالكلبي: يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير. وقيل: ما فصل من المحرمات والمحللات. وقيل: شرائع دينكم، ومصالح أموركم.وقيل: طريق من قبلكم إلى الجنة. ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال، فيكون مفعول ليبين ضميراً محذوفاً يفسره مفعولويهديكم، نحو: ضربت وأهنت زيداً، التقدير: ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم.والسنن: جمع سنة، وهي الطريقة. واختلفوا في قوله: سنن الذين من قبلكم، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم؟أو على التشبيه؟ أي: سنناً مثل سنن الذين الذين من قبلكم. فمن قال بالأول أراد أنّ السنن هي ما حرمعلينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة. وقيل: المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى:

{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا }

وقيل: المراد بها ما ذكره في قوله تعالى:

{ شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً }

وقيل:طرق من قبلكم إلى الجنة. وقيل: مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم،وهذا قريب مما قبله. وعلى هذا الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء وأهل الخير. وقيل: المراد بقوله سننطرق أهل الخير والرشد والغي، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل، وتتبعوا الحق. والذين قالوا: إنّذلك على التشبيه قالوا: إن المعنى أنّ طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الأحكام، وكذلكجعل طريقكم أنتم. فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين.وقيل: الهداية في أحد أمرين: أما أنا خوطبنا في كل قصة نهياً أو أمراً كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم،وشرع لنا كما شرع لهم، فهدايتنا سننهم في الإرشاد، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم. والأمر الثاني: أنّ هدايتنا سننهم في أنّسمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة. والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح، ولا يتوجه غير ذلكبقرينة السنن، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة. وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبيالفضل المرسي: قوله تعالى: يريد الله ليبين لكم، أي: يريد أن يبين، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم. وقوله تعالى:ويهديكم، قال المفسرون: معناهما واحد، والتكرار لأجل التأكيد، وهذا ضعيف. والحق أنَّ المراد من الأول تبيين التكاليف، ثم قال: ويهديكم.وفيه قولان: أحدهما: أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة، فقدكان الحكم كذلك أيضاً في جميع الشرائع، وإن كانت مختلفة في نفسها، متفقة في باب المصالح انتهى. وتقدم معنى هذهالأقوال التي ذكرها. وقوله: أي يريد أن يبين، موافق لقول الزمخشري. {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي يردكم من عصيانه إلىطاعته، ويوفقكم لها. {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسبالحكمة والإتقان. {وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } تعلق الإرادة أولاًبالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على العلة، فهو علة. ونعلقها هناعلى سبيل المفعولية، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار. وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادةالسبب دون الفعل. ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله: والله يريد أن يتوب عليكم تكراراًلقوله: ويتوب عليكم، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على مفعول، فهو مفعول به. قال ابن عطية: وتكرار إرادة الله للتوبةعلى عباده تقوية للأخبار الأول، وليس المقصد في الآية إلا الأخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئةمظهرة لفساد متبعي الشهوات. انتهى كلامه. فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله: ليبين، في معنى أن يبين، فيكون مفعولاًليريد، وعطف عليه: ويتوب، فهو مفعول مثله، ولذلك قال: وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه. وكان قدحكى قول الكوفيين وقال: وهذا ضعيف، فرجع أخيراً إلى ما ضعفه، وكان قد قدم أنَّ مذهب سيبويه: أنَّ مفعول: يريد،محذوف، والتقدير: يريد الله هذا التبيين. والشهوات جمع شهوة، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه. ولما كانت التكاليفالشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها، كان اتباع شهواتها سبباً لكل مذمّة، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كماقال تعالى:

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }

واتباع الشهوة في كل حال مذموم،لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه. أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلكهو اتباع لهما لا للشهوة. ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله: مجاهد. أو اليهود والنصارى قاله: السدي. أو اليهود خاصةلأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، أو المجو كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب، ونكاح بناتالأخ، وبنات الأخت، فلما حرّمهنّ الله قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، أومتبعو كل شهوة قاله: ابن زيد، ورجحه الطبري. وظاهره العموم والميل، وإن كان مطلقاً فالمراد هنا الميل عن الحق، وهوالجور والخروج عن قصد السبيل. ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات، وشتان ما بين الإرادتين. وأكد فعل الميل بالمصدرعلى سبيل المبالغة، لم يكتف حتى وصفه بالعظم. وذلك أن الميول قد تختلف، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغلأو لكسل أو لفسق يستلذ به، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد. ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء، فبعضها أسهلمن بعض، فوصف مثل هؤلاء بالعظم، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر. كما قال تعالى:

{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ }

{ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ }

. وقرأ الجمهور: أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء: بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعودعلى الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور: ميلاً بسكون الياء. وقرأ الحسن: بفتحها، وجاءت الجملة الأولى اسمية، والثانية فعلية لإظهار تأكيدالجملة الأولى، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعليةمشعرة بالتجدد، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله: ويريد للعطف على ما قررناه. وأجاز الراغب أن تكونالواو للحال لا للعطف،قال: تنبيهاً على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا، فخالف بين الإخبارين فيتقديم المخبر عنه في الجمل الأولى، وتأخيره في الجملة الثانية، ليبين أنَّ الثاني ليس على العطف انتهى. وهذا ليس بجيد،لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل، ولأنّ المضارع باشرته الواو، وذلك لا يجوز، وقد جاء منهشيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيحفصيح، فحمله على النادر تعسف لا يجوز. {يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } لم يذكر متعلق التخفيف، وفي ذلكأقوال: أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص. الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكممما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز. الثالث: في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا، وبمجيء هذه الملة الحنيفيةسهلة سمحة. الرابع: بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف. الخامس: أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثملجهلكم. وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله: والله يريد أن يتوب عليكم، والعامل في الحال يريد، التقدير: والله يريدأن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم، وهذا الإعراب ضعيف، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملةالتي في ضمنها العامل، وهي جملة أجنبية من العامل والحال، فلا ينبغي أن يتجوز إلا بسماع من العرب. ولأنه رفعالفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره، فصار نظير: زيد يخرج يضرب زيد عمراً. والذي سمعمن ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية، أو في شيء من نواسخها. أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك. وجوازذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر. أما جملة الحالأو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة، فلا موضع لها من الإعراب.أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا، كما جاء

{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }

. {وَخُلِقَٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً } قال مجاهد وطاووس وابن زيد: الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمناضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء. قال طاووس: ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء. وقال ابن المسيب:ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأناأعشق بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. قال الزمخشري: ضعيفاً لا يصبر عن الشهوات، وعلى مشاق الطاعات.قال ابن عطية: ثم بعد هذا المقصد أي: تخفيف الله بإباحة الإماء، يخرج الآية مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ماخفف الله عن عباده وجعله الدين يسراً، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواهفي الأغلب. قال الراغب: ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفاً، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو:

{ أأنتم أشد خلقاً أم السماء }

أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته، أو اعتباراً بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتباراًبمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى:

{ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ }

فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التييتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى، فهو أقوى ما في هذا العالم.ولهذا قال تعالى:

{ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }

. وقال الحسن: ضعيفاً لأنه خلق من ماء مهين. قال اللهتعالى: الذي خلقكم من ضعف. وقرأ ابن عباس ومجاهد: وخلق الإنسان مبنياً للفاعل مسنداً إلى ضمير اسم الله، وانتصابضعيفاً على الحال. وقيل: انتصب على التمييز. لأنه يجوز أن يقدر بمن، وهذا ليس بشيء. وقيل: انتصب على إسقاط حرفالجر، والتقدير: من شيء ضعيف، أي من طين، أو من نطفة وعلقة ومضغة. ولما حذف الموصوف والجابر انتصبت الصفة بالفعلنفسه. قال ابن عطية: ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله: ضعيفاً مفعولاًثانياً انتهى. وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل، لا أعلم أحداً من النحويينذهب إلى ذلك، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق، فيتعدّى إلى مفعول واحد، كقولهتعالى:

{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ }

أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لميذكروا ذلك. وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من البيان والبديع. منها: التجوّز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله: يأتينالفاحشة، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيماً لقبحه وفحشه، فإنكان العرف في الفاحشة الزنا، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد. والتجوّز بالمراد من المطلق بعض مدلولهفي قوله: فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال، أو الجمع بينهما، وبقوله: سبيلاً والمراد الحد، أو رجم المحصن. وبقوله:فأعرضوا عنهما أي اتركوهما. وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: حتى يتوفاهنّ الموت، وفي قوله: حتى إذا حضر أحدهمالموت. والتجنيس المغاير في: إن تابا إن الله كان توّاباً، وفي: أرضعنكم ومن الرضاعة، وفي: محصنات فإذا أحصنّ. والتجنيس المماثلفي: فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا، وفي: ولا تنكحوا ما نكح. والتكرار في: اسم الله في مواضع، وفي: إنما التوبةوليست التوبة، وفي: زوج مكان زوج، وفي: أمّهاتكم وأمّهاتكم اللاتي، وفي: إلا ما قد سلف، وفي: المؤمنات في قوله: المحصناتالمؤمنات، وفي: فتياتكم المؤمنات، وفي: فريضة ومن بعد الفريضة، وفي: المحصنات من النساء والمحصنات، ونصف ما على المحصنات، وفي: بعضكممن بعض، وفي: يريد في أربعة مواضع، وفي: يتوب وأن يتوب، وفي: إطلاق المستقبل على الماضي، في: واللاتي يأتين الفاحشةوفي: واللذان يأتيانها منكم، وفي: يعملون السوء وفي: ثم يتوبون، وفي: يريد وفي: ليبين، لأن إرادة الله وبيانه قديمان، إذتبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة. والإشارة والإيماء في قوله؛ كرهاً، فإن تحريم الإرث كرهاًيومىء إلى جوازه طوعاً، وقد صرح بذلك في قوله: فإن طين، وفي قوله: ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ، فلهأن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها، أو بمالها، وفي: أنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناءفي الجاهلية نساء الآباء، وفي: أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات، ذلك لمن خشي العنتإشارة إلى تزويج الإماء. والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله: وآتيتم إحداهنّ قنطاراً عظم الأمر حتى ينتهي عنه. والاستعارةفي قوله: وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة، وفي:كتاب الله عليكم أي فرض الله، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول. وفي: محصنين،استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيونبتدفق وسرعة، وكذلك: فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور، والأجر هو ما يدل على عمل، فجعل تمكين المرأة من الانتفاعبها كأنه عمل تعمله. وفي قوله: طولاً استعارة للمهر يتوصل به للغرض، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور.وفي قوله: يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق.وفي قوله: أن يخفف، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس، وذلك من المعاني.وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: أن ترثوا النساء كرهاً، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثاً، لأن ذلكسبب الإرث في الجاهلية. وفي قوله: وخلق الإنسان ضعيفاً جعله ضعيفاً باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله. والطباق المعنويفي قوله: وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب. وفي قوله:والمحصنات من النساء، أي حرام عليكم ثم قال: وأحل لكم. والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي، لأن صدر الآية حرمتعليكم أمهاتكم، ثم نسق المحرمات، ثم قال: وأحل لكم، فهذا هو الطباق. وفي قوله: محصنين غير مسافحين، والمحصن الذي يمنعفرجه، والمسافح الذي يبذله. والاحتراس في قوله: اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن، وفي وربائبكم اللاتي فيجحوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور. وفي قوله: والمحصنات من النساء إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات، فيدخلتحتها الرجال، فاحترز بقوله: من النساء. والاعتراض بقوله: والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض. والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها.

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } * { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } * { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } * { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبْنَ وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } * { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } * { ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَٱلصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } * { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } * { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } * { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } * { وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً }[عدل]

الجار: القريب المسكن منك، وألفه منقلبة عن واو لقولهم: جاورت، ويجمع على جيرانوجيرة. والجنب: البعيد. والجنابة البعد قال:

فلا تحرمني نائلاً عن جنابة     فإني امرؤ وسط القباب غريب

وهو من الاجتناب، وهو أن يترك الرجل جانباً. وقال تعالى:

{ وَٱجْنُبْنِى }

أي بعدني، وهو وصف على فعلكناقة سرح. المختال: المتكبر، وهو اسم فاعل من اختال، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم: الخيلاء والمخيلة. ويقال: خال الرجليخول خولاً إذا تكبر وأعجب بنفسه، فتكون هذه مادة أخرى، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل، وهذه مادةمن خ و ل. الفخور: فعول من فخر، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول. القرين: فعيل بمعنى مفاعل،من قارنه إذا لازمه وخالطه، ومنه سميت الزوجة قرينة. ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر: قرينان، وللحبل الذي يشدان بهقرن قال الشاعر:

وابن اللبون إذا ما لزفى قرن     لم يستطع صوله البزل القناعيس

وقال:

كمدخل رأسه لم يدنه أحد     من القرينين حتى لزه القرن

{ضَعِيفاً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله:

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ }

ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح، بيّن كيفية التصرف في الأموالالموصلة إلى النكاح، وإلى ملك اليمين، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل، والباطل هو كلطريق لم تبحه الشريعة، فيدخل فيه: السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا، وأثمان البياعات الفاسدة، فيدخل فيه بيع العربان وهو:أن يأخذ منك السلعة ويكرى الدابة ويعطى درهماً مثلاً عرباناً، فإن اشترى، أو ركب، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء،وإلا فهو للبائع. فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء، لأنه من باب أكل المال بالباطل. وأجاز قوم منهم:ابن سيرين، ومجاهد، ونافع بن عبيد، وزيد بن أسلم: بيع العربان على ما وصفناه، والحجج في كتب الفقه. وقداختلف السلف في تفسير قوله: بالباطل. فقال ابن عباس والحسن: هو أن يأكله بغير عوض. وعلى هذا التفسير قال ابنعباس: هي منسوخة، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكاً أو وارثاً، أو نحوذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض. وقال السدي: هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وغير ذلك مما لميبح الله تعالى أكل المال به. وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود والجمهور. وقال بعضهم: الآية مجملة،لأن معنى قوله: بالباطل، بطريق غير مشروع. ولمّا لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل، صارت الآية مجملة.وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه: أموال بعضكم. كما قال تعالى:

{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ }

وقوله:

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }

وقيل:يشمل قوله: أموالكم، مال الغير ومال نفسه. فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع، ونهى أن يأكل مال نفسهبالباطل، وهو: إنفاقه في معاصي الله تعالى. وعبر هنا عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها.{إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } هذا استثناء منقطع لوجهين: أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولةبالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال: ابن عباس، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره.والثاني: أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال. ومن ذهب إلى أنه استثناءمتصل فغير مصيب لما ذكرناه. وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارةفقط، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو: التجارة، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها. وفي قوله:عن تراض دلالة على أنّ ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي، وهو من اثنين: الباذل للثمن، والبائع للعين. ولميذكر في الآية غير التراضي، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذاتراضيا على ذلك، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم. وقالت فرقة: إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث،ردّ البيع. وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما، وإن لم يتفرقا. وبه قال:أبو حنيفة، ومالك، وروى نحوه عن عمر. وقال الثوري، والليث، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي: إذا عقدا فهما على الخيارما لم يتفرّقا، واستثنوا صوراً لا يشترط فيها التفرق، واختلفوا في التفرق. فقيل: بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه. وقالالليث: بقيام كل منهما من المجلس. وكل من أوجب الخيار يقول: إذا خيره في المجلس فاختار، فقد وجب البيع. وروىخيار المجلس عن عمر أيضاً. وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب، وموضوع ذلك كتب الفقه. والتجارة اسميقع على عقود المعاوضات المقصود منها طلب الأرباح. وأن تكون في موضع نصب أي: لكن كون تجارة عن تراض غيرمنهي عنه. وقرأ الكوفيون: تجارة بالنصب، على أن تكون ناقصة على قدير مضمر فيها يعود على الأموال، أو يفسره التجارة،والتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم. كما قال: إذاكان يوماً ذا كوكب أشنعا. أي إذا كان هواي اليوم يوماً ذا كوكب. واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد، وقرأ باقيالسبعة: تجارة بالرفع، على أنّ كان تامة. وقال مكي بن أبي طالب: الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أنتكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد. وقال ابن عطية: تمامكان يترجح عند بعض لأنها صلة، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي،ولكنه حسن انتهى ما ذكره. ويحتاج هذا الكلام إلى فكر، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذيأراده. وعن تراض: صفة للتجارة أي: تجارة صادرة عن تراض. {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } ظاهره النهي عن قتل الإنساننفسه كما يفعله بعض الجهلة بقصد منه، أو بحملها على غرر يموت بسببه، كما يصنع بعض الفتاك بالملوك، فإنهم يقتلونالملك ويقتلون بلا شك. وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد، وأقر رسول الله احتجاجه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردّة والزنابعد الإحصان. قال ابن عطية: وأجمع المتأوّلون أنّ القصد النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً. وقال الزمخشري عن الحسن:إن المعنى لا تقتلوا أخوانكم انتهى. وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم لأنهم كنفس واحدة، أو من جنس واحد،أو من جوهر واحد. ولأنه إذا قتل قتلَ على سبيل القصاص، وكأنه هو الذي قتل نفسه. وما ذكره ابن عطيةمن إجماع المتأوّلين ذكر غيره فيه الخلاف. قال ما ملخصه: يحتمل أن يراد حقيقة القتل، فيحتمل أن يكون المعنى: لايقتل بعضكم بعضاً. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يقتل أحد نفسه لضر نزل به، أو ظلم أصابه، أو جرح أخرجهعن حد الاستقامة. ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي: يأكل المال بالباطل، أو بطلب المال والانهماك فيه، أو يحمل نفسهعلى الغرر المؤدي إلى الهلاك، أو يفعل هذه المعاص والاستمرار عليها. فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازاً كما جاء:شاهد قتل ثلاثاً نفسه، والمشهود له، والمشهود عليه أي: أهلك. وقرأ علي والحسن: ولا تقتلوا بالتشديد. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَبِكُمْ رَحِيماً } حيث نهاكم عن إتلاف النفوس، وعن أكل الحرام، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوامالأنفس. وحياتها بما يكتسب منها، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها. ألا ترى إلى ما ورد مَن حجّبمال حرام أنه إذا قال: لبيك قال الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. وألا ترى إلى الداعيربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدماً على النهي عنقتل أنفسهم، لأنه أكثر وقوعاً، وأفشى في الناس من القتل، لا سيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهىأن يقتل الإنسان نفسه، فإن هذه الحالة نادرة. وقيل: رحيماً حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بنيإسرائيل قتلهم أنفسهم، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم. {وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } الإشارةبذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل، وقتل الأنفس. لأن النهي عنهما جاء متسقاًمسروداً، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وذهب إلى هذا القول جماعة. وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القولليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلماً، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه.وقيل: إنما قال: عدواناً وظلماً ليخرج منه السهو والغلط، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. وأما تقييد قتل الأنفس علىتفسير قتل بعضنا بعضاً بقوله: عدواناً وظلماً، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك، ويقع خطأ واقتصاصاً. وقيل الإشارة بذلك إلىأقرب مذكور وهو: قتل الأنفس، وهو قول عطاء، واختيار الزمخشري. قال: ذلك إشارة إلى القتل أي: ومن يقدم على قتلالأنفس عدواناً وظلماً لا خطأ ولا اقتصاصاً انتهى. ويكون نظير قوله:

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ }

وذهب الطبري:إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله:

{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ }

إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم، فأما ماقبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد. وما ذهب إليه الطبري بعيد جداً لأن كل جملة قد استقلت بنفسها،ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة، ولا تعلق اضطرار المعنى. وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليهجماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله:ومن يفعل ذلك. وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل، قال: وذلك يرجع إلى ما سبق منأكل المال بالباطل، أو قتل النفس بغير حق، أو إليهما جميعاً انتهى. فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلكخمسة أقوال. وانتصاب عدواناً وظلماً على المفعول من أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين.وقرىء عدواناً بالكسر. وقرأ الجمهور: نصليه بضم النون. وقرأ النخعي والأعمش: بفتحها من صلاة، ومنه شاة مصلية. وقرىء أيضاً: نصليهمشدداً. وقرىء: يصليه بالياء، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي: فسوف يصليه هو أي: الله تعالى. وأجازالزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال: لكونه سبباً للمصلي، وفيه بعد. ومدلول ناراً مطلق، والمراد ـ والله أعلم ـتقييدها بوصف الشدّة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس. {وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِيَسِيراً } ذلك إشارة إلى إصلائه النار، ويسره عليه تعالى سهولته، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له. وقال الزمخشري:لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه، وفيه دسيسة الاعتزال. {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَعَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } مناسبة هذه الآية ظاهره، لأنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعضالكبائر، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر. والظاهر أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر.وقد اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك ممايقع عليه اسم التحريم، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، وأبو المعالي، وأبونصر عبد الرحيم القشيري: إلى أن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كمايقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كلذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر. وحملوا قوله تعالى: كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر قالوا:ويؤيده قراءة كبير على التوحيد، وقوله : من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل: يا رسول الله وإن كان يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك فقدجاء الوعيد على اليسير، كما جا على الكثير. وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال: كل ما نهى اللهعنه فهو كبيرة. والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاهظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله في صحيح مسلم من قوله: ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله وفي صحيح مسلم: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر .واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود: هي ثلاث، القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله.وروي عنه أيضاً أنها أربع: فزاد الإشراك بالله. وقال علي: هي سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنة، وأكل مالاليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول عليّ في كل واحدةمنها آية في كتاب الله، وجعل الآية في التعرب:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى }

الآية وفي البخاري: {ٱتَّقَوْاْ * ٱلسَّبُعُ } فذكر هذه إلا التعرب، فجاء بدله السحر. وقد ذهب قوم إلى أنهذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري. وقال ابن عمر: فذكر هذه إلا السحر، وزاد الإلحاد في المسجدالحرام. والذي يستسخر بالوالدين من العقوق. وقال ابن مسعود أيضاً والنخعي: هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساءإلى ثلاثين آية منها، وهي:

{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ }

وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه: هيإلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال ابن عباس أيضاً: الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار، أو عذاب، أولعنة، أو ما أشبه ذلك. وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسيالقرطبي، قال: قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصحّ لي أن كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو منالكبائر، ووجدناه عليه السلام قد أحل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث ـ يعني الذي فيالبخاري ـ فمنها، قول الزور، وعقوق الوالدين، والكذب عليه ، وتعريض المرء أبويه للسبّ بأن يسبّ آباءالناس، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلقالشعر فيها، وخرق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل مايحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها، وعلى لسان الإزار على سبيل التجوه، وعلى المنان بما يفعل من الخير،وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى المانع فضل مائه من الشارب، وعلى الغلول، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منهاوفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم، وعلى المقطتع بيمينه حق امرىء مسلم، وعلى الإمام الغاش لرعيته، ومنادعى إلى غير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، ومن ادعى ما ليس له، وعلى لاعن من لا يستحقاللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض عليّ رضي الله عنه، ووجدنا الوعيد الشديد فينص القرآن قد جاء على الزناة، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه. عني قولههي: إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرةمع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، هل التكفير قطعي؟ أو غالبظن؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعيّ كما دلت عليه الآية والأحاديث، والأصوليون قالوا: هو على غلبةالظن، وقالوا: لو كان ذلك قطعياً لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه، ووصف مدخلاً بقوله: كريماًومعنى كرمه: فضيلته، ونفى العيوب عنه كما تقول: ثوب كريم، وفلان كريم المحتد. ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليهامن العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر. وقرأ ابن عباس وابن جبير: أن تجتنبوا كبيرعلى الافراد، وقد ذكرنا من احتج به على أنه أريد الكفر. وأمّا من لم يقل ذلك فهو عنده جنس.وقرأ المفضل عن عاصم: يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة. وقرأ ابن عباس: من سيئاتكم بزيادة من. وقرأ نافع:مدخلاً هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورويت عن أبي بكر. وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إمّا على المصدرأي: إدخالاً، والمدخل فيه محذوف أي: ويدخلكم الجنة إدخالاً كريماً. وإمّا على أنه مكان الدخول، فيجيء الخلاف الذي في دخل،أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول؟ أم على سبيل الظرف؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف. وأما انتصاب المفتوحالميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل، التقدير: ويدخلكم فتدخلون دخولاً كريماً، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه، ولدلالة مصدرهأيضاً. ويحتمل أن يراد به المكان، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف، أهو مفعول به أوظرف. {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } قال قتادة والسدي: لما نزل

{ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ }

قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات كالميراث. وقال النساء: إنا لنرجو أن يكونالوزر علينا نصف ما على الرجال كالميراث. وقال عكرمة: قال النساء: وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجرمثل ما يصيب الرجال. وزاد مجاهد: أن ذلك عن أم سلمة. وأنها قالت: وإنما لنا نصف الميراث فنزلت. وروي عنهاأنها قالت: ليتنا كنا رجالاً فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل،وعن قتل الأنفس، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها وتحصيل حطامها، نهاهم عن تمني مافضل الله به بعضهم على بعض، إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا وشوق النفس إليها بكل طريق، فلميكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل وقتل الأنفس، حتى نهى عن السبب المحرّض على ذلك، وكانت المبادرة إلى النهي عنالمسبب آكد لفظاعته ومشقته فبدىء به، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسماً لمادة المسبب، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي فيستويالباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة. وظاهر الآية يدل على النهي أن يتمنى الإنسان لنفسه ما فضل به عليهغيره، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له. وتمني ذلك هو أن يكون له مثل ما لذلك المفضل.وقال ابن عباس وعطاء: هو أن يتمنى مال غيره. وقال الزمخشري: نهوا عن الحسد، وعن تمني ما فضل الله بهبعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوالالعباد، وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض انتهى. وهو كلام حسن. وظاهر النهي إنما يتناول مافضل الله به بعضهم على بعض. أما تمني أشياء من أحوال صالحة له في الدنيا وأعمال يرجو بها الثواب فيالآخرة فهو حسن لم يدخل في الآية. وقد جاء في الحديث: {وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِىأَقْتُلْ } وفي آخر الآية:

{ وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ }

فدل على جواز ذلك. وإذا كان مطلق تمني ما فضلالله به بعضهم على بعض منهياً عنه، فإن يكون ذلك بقيد. زوال نعمة من فضل عليه عنه بجهة الأحرى. والأولىإذ هو الحسد المنهى عنه في الشرع، والمستعاذ بالله منه في نص القرآن. وقد اختلفوا إذا تمنى حصول مثل نعمةالمفضل عليه له من غير أن تذهب عن المفضل، فظاهر الآية المنع، وبه قال المحققون، لأن تلك النعمة ربما كانتمفسدة في حقه في الدين، ومضرة عليه في الدنيا، فلا يجوز أن يقول: اللهم أعطني. داراً مثل دار فلان، ولازوجاً مثل زوجه، بل يسأل الله ما شاء من غير تعرض لمن فضل عليه. وقد أجازه بعض الناس. {لّلرّجَالِنَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبْنَ } قال ابن عباس وقتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورثالنساء. وضعف هذا القول لأن لفظ الاكتساب ينبو عنه، لأن الاكتساب يدل على الاعتمال والتطلب للمكسوب، وهذا لا يكون فيالإرث، لأنه مال يأخذه الوارث عفواً بغير اكتساب فيه، وتفسير قتادة هذا متركب على ما قاله في سبب نزول الآية.وقيل: يعبر بالكسب عن الإصابة، كما روي أنّ بعض العرب أصاب كنزاً فقال له ابنه: بالله يا أبه أعطني منكسبك نصيباً، أي مما أصبت. ومنه قول خديجة رضي الله عنها: وتكسب المعدوم. قالوا: ومنه قول الشاعر:

فإن أكسبوني نزر مال فإنني     كسبتهم حمداً يدوم مع الدهر

وقالت فرقة: المعنى أن الله تعالى جعللكل من الصنفين مكاسب تختص به، فلا يتمنى أحد منها ما جعل للآخر. فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة، وحملالتكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك. وجعل للنساء الحمل ومشقته، وحسن التبعل، وحفظ غيب الزوج، وخدمة البيوت. وقيل: المعنىمما اكتسب من نعيم الدنيا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا. وقالتفرقة: المعنى نصيب من الأجر والحسنات. وقال الزمخشري: جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف اللهمن حاله الموجبة للبسط والقبض كسباً له انتهى. وفي قوله: عرف الله نظره، فإنه لا يقال في الله عارف، نصالأئمة على ذلك، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلاً بالمعروف، وذلك بخلاف العلم، فإنه لا يستدعي جهلاً قبله. وتسميةما قسم الله كسباً له فيه نظر أيضاً، فإنّ الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه، إلا إن قلنا أنَّ أكثرما قسم له يستدعي اكتساباً من الشخص، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليباً للأكثر. وفي تعليق النصيب بالاكتسابحض على العمل، وتنبيه على كسب الخير. {وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ } أي من زيادة إحسانه ونعمه. لما نهاهمعن تمني ما فضل به بعضهم، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى. وظاهر قوله: من فضله، العموم فيمايتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة، لأن ظاهر قوله:

{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ }

ما فضل العموم أيضاً، وهو قول الجمهور. وقال ابنجبير وليث بن أبي سليم: هذا في العبادات والدين وأعمال البر، وليس في فضل الدنيا. وفي قوله: من فضله، دلالةعلى عدم تعيين المطلوب، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق، كما قالتعالى:

{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلاْخِرَةِ حَسَنَةً }

. وقرأ ابن كثير والكسائي: وسلوا بحذفالهمزة وإلقاء حركتها على السين، وذلك إذا كان أمراً للمخاطب، وقبل السين واو أو فاء نحو:

{ فسل الذين يقرؤن }

و

{ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ }

. وقرأ باقي السبعة بالهمز. قال ابن عطية: إلا في قوله:

{ واسألوا ما أنفقتم }

فإنهم أجمعوا على الهمزفيه انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم، بل نصوص المقرئين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملةالمختلف فيه. بيَّن ابن كثير والكسائي، وبين الجماعة، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار، ولعل الوهم وقعله في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له، ولم يختلفوا في قوله:

{ وليسألوا ما أنفقوا }

أنهمهموز لأنه لغائب انتهى. وروى الكسائي عن اسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة: أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل،مثل قراءة الكسائي، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز، وإثباتها لغة لبعض تميم. وروى اليزيدي عن أبي عمرو: أن لغةقريش سل. فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا، وسأل يقتضي مفعولين، والثاني لقوله: واسألوا الله هو قوله: من فضله. كما تقول:أطعمت زيداً من اللحم، وكسوته من الحرير، والتقدير: شيئاً من فضله، وشيئاً من اللحم، وشيئاً من الحرير. وقال بعض النحويين:من زائدة، والتقدير: وسلوا الله فضله، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش. وقال ابن عطية: ويحسن عندي أن يقدرالمفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً } أي علمه محيط بجميعالأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكلّ منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمنأو غيره وهو عالم أيضاً بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـٰنُكُمْفَـئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } لمّا نهى عن التمني المذكور، وأمر بسؤال الله من فضله، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث، وأنّفي شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه، ولم يتعنّ بطلبه، فرب ساع لقاعد. وكلّ لاتستعمل إلا مضافة، إما الظاهر، وإما المقدر، واختلفوا في تعيين المقدّر هنا، فقيل: المحذوف إنسان، وقيل: المحذوف مال. والمولى: لفظمشترك بين معان كثيرة، منها: الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال، وبذلكفسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم: أن الموالي العصبة والورثة، فإذا فرّ عنا على أنّ المعنى: ولكلّ إنسان، احتمل وجوهاً:أحدها: أن يكون لكلّ متعلقاً بجعلنا، والضمير في ترك عائد على كل المضاف لإنسان، والتقدير: وجعل لكل إنسان وارثاًمما ترك، فيتعلق مما بما في معنى موالي من معنى الفعل، أو بمضمر يفسره المعنى، التقدير: يرثون مما ترك، وتكونالجملة قد تمت عند قوله: مما ترك، ويرتفع الولدان على إضمار كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون ورّاثاً،والكلام جملتان. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي، أي ورّاثاً. ثم أضمر فعل أي: يرث المواليمما ترك الوالدان، فيكون الفاعل بترك الوالدان. وكأنه لما أبهم في قوله: وجعلنا لكل إنسان موالي، بيَّن أن ذلك الإنسانالذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم، ويكون الوالدان والأقربون موروثين. وعلى هذينالوجهين لا يكون في: جعلنا، مضمر محذوف، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي. والكلام جملتان. الوجه الثالث: أن يكون التقدير:ولكل قوم جعلناهم موالي أي: ورّاثاً نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، فيكون جعلنا صفة لكلَ، والضمير من الجملة الواقعة صفةمحذوف، وهو مفعول جعلنا. وموالي منصوب على الحال، وفاعل ترك الوالدان. والكلام منعقد من مبتدأ وخبر، فيتعلق لكل بمحذوف، إذهو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور، إذ قدر نصيب مما ترك. والكلام إذ ذاك جملة واحدةكما تقول: لكل من خلقه الله إنساناً من رزق الله، أي حظ من رزقه الله. وإذا فرعنا على أن المعنى:ولكل مال، فقالوا: التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون، جعلنا موالي أي ورّاثاً يلونه ويحرزونه. وعلى هذا التقدير يكونمما ترك في موضع الصفة لكل، والوالدان واوقربون فاعل بترك ويكونون موروثين، ولكل متعلق بجعلنا. إلا أن في هذا التقديرالفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك: بكل رجل مررت تميمي، وفي جواز ذلكنظر. واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا. فقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن، وقتادة وغيرهم: هي الحلف. فإنّ العرب كانتتتوار بالحلف، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله:

{ وَأُوْلُواْ ٱلارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ }

وعنه أيضاًهي: الحلف، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر، والوفاء بالكلف، لا الميراث. وقال ابن عباس أيضاً: هي المؤاخاة، كانوا يتوارثونبها حتى نسخ. وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم، وبقي اثنان: النصيب من النصروالمعونة، ومن المال على جهة الندب في الوصية. وقال ابن المسيب: هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه، هو الوصية لاالميراث، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول: عاقدتهم أيمانكم وما سحتموهم. وقيل: كانوا يتوارثون بالتبني لقوم يموتون قبل الوصية ووجوبها،فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصي له. وقيل: المعاقدة هنا الزواج، والنكاح يسمى عقداً، فذكر الوالدين والأقربين، وذكر معهمالزوج والزوجة. وقيل: المعاقدة هنا الولاء. وقيل: هي حلف أبي بكر الصديق أن لا يورث عبد الرحمن شيئاً، فلما أسلمأمره الله أن يؤتيه نصيبه من المال، قال أبو روق: وفيهما نزلت. فتلخص من هذه الأقوال في المعاقدة أهيالحلف أن لا يورث الحالف؟ أم المؤاخاة؟ أم التبني؟ أم الوصية المشروحة؟ أم الزواج؟ أم الموالاة؟ سبعة أقوال. قال ابنعطية: ولفظة المعاقدة والإيمان ترجح أنّ المراد الأحلاف، لأنّ ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمانانتهى. وكيفية الحلف في الجاهلية: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وناري نارك، وحربي حربك، وسلميسلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف التسدس من ميراث الحليف، فنسخ الله ذلك.وعلى الأقوال السابقة جاء الخلاف في قوله: {وَٱلَّذِينَ * فِى أَيْمَـٰنِكُمْ } أهو منسوخ أم لا؟ وقد استدل بها علىميراث مولى الموالاة وبه قال: أبو يوسف، وأبو حنيفة، وزفر، ومحمد، قالوا: من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثممات ولا وارث له غيره، فميراثه له. وروى نحوه عن يحيـى بن سعيد، وربيعة، وابن المسيب، والزهري، وابراهيم، والحسن، وعمر،وابن مسعود. وقال مالك، وابن شبرمة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي: ميراثه للمسلمين. وقد أطال الكلام في هذه المسألة أبو بكر الرازيناصراً مذهب أبي حنيفة. وقرأ الكوفيون: عقدت بتخفيف القاف من غير ألف، وشدّد القاف حمزة من رواية عليّ بنكبشة، والباقون عاقدت بألف، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً. أحدها: أن يكون مبتدأ والخبر فآتوهم. والثاني: أن يكون منصوباً منباب الاشتغال نحو: زيداً فاضربه. الثالث: أن يكون مرفوعاً معطوفاً على الوالدان والأقربون، والضمير في فآتوهم عائد على موالي إذاكان الوالدان ومن عطف عليه موروثين، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوفعليه. الرابع: أن يكون منصوباً معطوفاً على موالي قاله: أبو البقاء، وقال: أي وجعلنا الذين عاقدت ورّاثاً، وكان ذلك ونسخانتهى. ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدّره أن يكون معطوفاً على موالي لفساد العطف، إذ يصير التقدير:ولكل إنسان، أو: لكل شيء من المال جعلنا ورّاثاً. والذين عاقدت أيمانكم، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثانيلدلالة المعنى عليه أمكن ذلك، أي جعلنا ورّاثاً لكل شيء من المال، أي: لكل إنسان، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم ورّاثاً.وهو بعد ذلك توجيه متكلف، ومفعول عاقدت ضمير محذوف أي: عاقدتهم أيمانكم، وكذلك في قراءة عقدت هو محذوف تقديره: عقدتحلفهم، أو عهدهم أيمانكم. وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان سواء أريد بها القسم، أم الجارحة، مجاز بل فاعل ذلك هوالشخص. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيداً } لما ذكر تعالى تشريع التوريث، وأمر بإيتاء النصيب، أخبر تعالىأنه مطلع على كل شيء فهو المجازى به، وفي ذلك تهديد للعاصي، ووعد للمطيع، وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدةبينكم. والصلة فأوفوا بالعهد. {ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ }قيل: سبب نزول هذه الآية أنَّ امرأة لطمها زوجها فاستعدت، فقضى لها بالقصاص، فنزلت. فقال : أردت أمراً وأراد الله غيره قاله: الحسن، وقتادة، وابن جريج، والسدي وغيرهم. فذكر التبريزي والزمخشري وابن عطية: أنها حبيبة بنت زيدبن أبي زهير زوج الربيع بن عمر، وأحد النقباء من الأنصار. وطولوا القصة وفي آخرها: فرفع القصاص بين الرجل والمرأة،وقال الكلبي: هي حبيبة بنت محمد بن سلمة زوج سعيد بن الربيع. وقال أبو روق: هي جميلة بنت عبد اللهبن أبي أوفى زوج ثابت بن قيس بن شماس. وقيل: نزل معها:

{ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن * يَقْضِى *إِلَيْكَ وَحْيُهُ }

وفي سبب من عين المرأة أن زوجها لطمها بسبب نشوزها. وقيل: سبب النزول قول أم سلمة المتقدم:لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة قيل: المراد بالرحال هنا من فيهم صدامة وحزم، لا مطلق من لهلحية. فكم من ذي لحية لا يكون له نفع ولا ضر ولا حرم، ولذلك يقال: رجل بين الرجولية والرجولة. ولذلكادعى بعض المفسرين أنَّ في الكلام حذفا تقديره: الرجال قوامون على النساء إن كانوا رجالاً. وأنشد:

أكل امرىء تحسبين امرأ     ونار توقد بالليل ناراً

والذي يظهر أنَّ هذا إخبار عن الجنس لميتعرض فيه إلى اعتبار أفراده، كأنه قيل: هذا الجنس قوام على هذا الجنس. وقال ابن عباس: قوّامون مسلطون على تأديبالنساء في الحق. ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله. وقوام: صفة مبالغة، ويقال: قيام وقيم، وهو الذي يقومبالأمر ويحفظه. وفي الحديث: أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن والباء في بما للسبب، وما مصدرية أي: بتفضيل الله. ومنجعلها بمعنى الذي فقد أبعد، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفاً مسوّغ لحذفه، فلا يجوز. والضمير في بعضهمعائد على الرجال والنساء. وذكر تغليباً للمذكر على المؤنث، والمراد بالبعض الأول الرجال، وبالثاني النساء. والمعنى: أنهم قوّامون عليهن بسببتفصيل الله الرجال على النساء، هكذا قرروا هذا المعنى. قالوا: وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لمافي ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير، فرب أنثى فضلت ذكراً. وفي هذا دليل على أن الولايةتستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل. فقال الربيع: الجمعة والجماعة.وقال الحسن: النفقة عليهن. وينبو عنه قوله: وبما أنفقوا. وقيل: التصرف والتجارات. وقيل: الغزو، وكمال الدين، والعقل. وقيل: العقل والرأي،وحل الأربع، وملك النكاح، والطلاق، والرجعة، وكمال العبادات، وفضيلة الشهادات، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والديات، والصلاحية للنبوة، والخلافة، والإمامة،والخطابة، والجهاد، والرمي، والآذان، والاعتكاف، والحمالة، والقسامة، وانتساب الأولاد، واللحي، وكشف الوجوه، والعمائم التي هي تيجان العرب، والولاية، والتزويج، والاستدعاءإلى الفراش، والكتابة في الغالب، وعدد الزوجات، والوطء بملك اليمين. وبما أنفقوا من أموالهم: معناه عليهن، وما: مصدرية، أوبمعنى الذي، والعائد محذوف فيه مسوّغ الحذف. قيل: المعنى بما أخرجوا بسبب النكاح من مهورهن، ومن النفقات عليهن المستمرة. وروىمعاذ: أنه قال: {لَوْ * أُمِرْتُ * أَحَدًا * ءانٍ * يَسْجُدُ * لاِحَدٍ }. قالالقرطبي: فهم الجمهور من قوله: وبما أنفقوا من أموالهم، أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها، وإذا لميكن قواماً عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شرع لأجله النكاح. وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه علىثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ لقوله:

{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ }

. فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} قال ابن عباس: الصالحات المحسنات لأزواجهنّ، لأنهنإذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم. وقال ابن المبارك: المعاملات بالخير. وقيل: اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى: {*}قال ابن عباس: الصالحات المحسنات لأزواجهنّ، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم. وقال ابن المبارك: المعاملات بالخير. وقيل:اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى:

{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زوجه }

. وقيل: اللواتي أصلحن أقوالهن وأفعالهن. وقيل: الصلاة الدين هنا. وهذهالأقوال متقاربة. والقانتات: المطيعات لأزواجهن، أو لله تعالى في حفظ أزواجهن، وامتثال أمرهم، أو لله تعالى في كل أحوالهن، أوقائمات بما عليهن للأزواج، أو المصليات، أقوال آخرها للزجاج. حافظات للغيب: قال عطاء وقتادة: يحفظن ما غاب عن الأزواج، ومايجب لهن من صيانة أنفسهن لهن، ولا يتحدثن بما كان بينهم وبينهن. وقال ابن عطية: الغيب، كل ما غاب عنعلم زوجها مما استتر عنه، وذلك يعم حال غيبة الزوج، وحال حضوره. وقال الزمخشري: الغيب خلاف الشهادة، أي حافظات لمواجبالغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الزوج والبيوت والأموال انتهى.والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير، والاستغناء بها كثير كقوله:

{ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً }

أي رأسي. وقال ذو الرّمة:

لمياء في شفتيها حوّة لعس     وفي اللثات وفي أنيابها شنب

تريد: وفي لثاتها. وروىأبو هريرة عن رسول الله قال: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ، ثم قرأ رسول الله هذه الآية. وقرأ الجمهور:برفع الجلالة، فالظاهر أن تكون ما مصدرية، والتقدير: بحفظ الله إياهن. قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. ويحتمل هذا الحفظ وجوهاًأي: يحفظ، أي: بتوفيقه إياهن لحفظ الغيب، أو لحفظه إياهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله، فقال: استوصوا بالنساء خيراً أو بحفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. وجوزوا أن تكون مابمعنى الذي، والعائد على ما محذوف، والتقدير: بما حفظه الله لهن من مهور أزواجهن، والنفقة عليهن، قاله الزجاج. وقال ابنعطية: ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وإما أوامره ونواهيه للنساء، وكأنها حفظه، فمعناه: أنالنساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره. وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: بنصبالجلالة فالظاهر أنَّ ما بمعنى الذي، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي: بالطاعة والبر الذي حفظ الله فيامتثال أمره. وقيل: التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقدره ابنجني: بما حفظ دين الله، أو أمر الله. وحذف المضاف متعين تقديره: لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظهاأحد. وقيل: ما مصدرية، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره: بما حفظن الله، وهو عائد على الصالحات. قيل: وحذف ذلك الضمير،وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال: فإن الحوادث أودي بها. يريد: أو دين بها. والمعنى:يحفظن الله في أمره حين امتثلته. والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير، بل يقال: إنه عاد الضميرعليهن مفرداً، كأنه لوحظ الجنس، وكأن الصالحات في معنى من صلح، وهذا كله توجيه شذوذ أدّى إليه قول من قالفي هذه القراءة: إنّ ما مصدرية. ولا حاجة إلى هذا القول، بل ينزه القرآن عنه. وفي قراءة عبد الله ومصحفه:فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله، فأصلحوا إليهن. وينبغي حملها على التفسير لأنها مخالفة لسواد الإمام، وفيها زيادة. وقدصح عنه بالنقل الذي لا شك فيه أنه قرأ: وأقرأ على رسم السواد، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة علىالتفسير. قال ابن جني: والتكسير أشبه بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصودة هنا. ومعنى قوله: فأصلحوا إليهن أي أحسنواضمن أصلحوا معنى أحسنوا، ولذلك عداه بإلى. روى في الحديث: يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء، والحيتان في البحر، والملائكة في السماء، والسباع في البراري . قالت أم سلمة: قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور؟ فقال: نساءالدنيا أفضل من الحور. قلت: يا رسول الله بم؟ قال: بصلاتهن، وصيامهن، وعبادتهن، وطاعة أزواجهن. {وَٱللَّـٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّوَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ } لما ذكر تعال صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج.والخوف هنا قيل: معناه اليقين، ذهب في ذلك إلى أنّ الأوامر التي بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه،واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي الله عنه:

ولا تدفنني بالفلاة فإنني     أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وقيل الخوف علي بابه من بعض الظن. قال:

أتاني كلام من نصيب بقوله     وما خفت ياسلام أنك عاتبي

أي: وما ظننت. وفي الحديث: أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن وقيل: الخوف على بابه من ضد الأمن، فالمعنى: يحذرون ويتوقعون، لأن الوعظ وما بعده إنماهو في دوام ما ظهر من مبادىء ما يتخوف. والنشوز: أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها، ويقال: نسوربالسين والراء المهملتين، ويقال: نصور، ويقال: نشوص. وامرأة ناشر وناشص. قال الأعشي:

تجللها شيخ عشاء فأصبحت     مضاعية تأتي الكواهن ناشصا

قال ابن عباس: نشوزهنّ عصيانهنّ. وقال عطاء: نشوزها أن لا تتعطر، وتمنعه من نفسه،وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها. وقال أبو منصور: نشوزها كراهيتها للزوج. وقيل: امتناعها من المقام معه في بيته،وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه. وقيل: منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك. وهذه الأقوال كلها متقاربة.ووعظهن: تذكيرهن أمر الله بطاعة الزوج، وتعريفهن أنّ الله أباح ضربهن عند عصيانهن، وعقاب الله لهن على العصيان قاله:ابن عباس. وقال مجاهد: يقول لها: اتقي الله، وارجعي إلى فراشك. وقيل: يقول لها أن النبي قال: لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها وقال: لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب .وقال: أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح وزاد آخرون أن النبي قال: ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطاً وإمام قوم هم له كارهون . وهجرهن فيالمضاجع: تركهن لكراهة في المراقد. والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب. وأصل الاضطجاع الاستلقاء، يقال: ضجيع ضجوعاً واضطجع استلقىللنوم، وأضجعته أملته إلى الأرض، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته. قال ابن عباس وابن جبير: معناه لاتجامعوهن. وقال الضحاك والسدي: اتركوا كلامهن، وولوهن ظهوركم في الفراش. وقال مجاهد: فارقوهن في الفرش، أي ناموا ناحية في فرشغير فرشهن. وقال عكرمة والحسن: قولوا لهن في المضاجع هجراً، أي كلاماً غليظاً. وقيل: اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فمادونها. وكنى بالمضاجع عن البيوت، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلاً للاضطجاع. وقال النخعي، والشعبي، وقتادة، والحسن: من الهجران،وهو البعد وقيل: اهجروهن بترك الجماع والاجتماع، وإظهار التجهم، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهراً كما فعل عليه السلام «حين حلفأن لا يدخل على نسائه شهراً» وقيل: اربطوهن بالهجار، وأكرهوهن على الجماع من قولهم: هجر البعير إذا شده بالهجار، وهوحبل يشدّ به البعير قاله: الطبري ورجحه. وقدح في سائر الأقوال. وقال الزمخشري في قول الطبري: وهذا من تفسير الثقلاءانتهى. وقيل في للسبب: أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش. وقرأ عبد الله والنخعي: في المضجع على الأفراد وفيه معنىالجمع، لأنه اسم جنس. وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك، كما جاء في الحديث. قال ابن عباس:بالسواك ونحوه. والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظماً، ولا يتلف عضواً، ولا يعقب شيئاً، والناهك البالغ، وليجتنب الوجه.وعن النبي : علق سوطك حيث يراه أهلك وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها: كنت رابعةأربع نسوة عند الزبير، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. وهذا يخالف قول ابن عباس، وكذلكما رواه ابن وهب عن مالك: أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضرّاتها،فعقد شعر واحدة بالأخرى، ثم ضربهما ضرباً شديداً، وكانت الضرّة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي الضرب، فكان الضرب بهاأكثر، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكونزوجك في الجنة. وظاهر الآية يدل: على أنه يعظ، ويهجر في المضجع، ويضرب التي يخاف نشوزها. ويجمع بينها، ويبدأبما شاء، لأن الواو لا ترتب. وقال بهذا قوم وقال الجمهور: الوعظ عند خوف النشوز، والضرب عند ظهوره. وقال ابنعطية: هذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. وقال الزمخشري: أمر بوعظهن أولاً،ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقال الرازي ما ملخصه: يبدأ بلين القول فيالوعظ، فإن لم يفد فبخشنه، ثم يترك مضاجعتها، ثم بالإعراض عنها كلية، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعربالاحتقار وإسقاط الحرمة، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقةدم، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل، وأكرهها على الوطء، لأن ذلك حقه. وأي شيء منهذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله:. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَتَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } انتهى. وقوله: فإن أطعنكم أي: وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم. يدل علىأنهن كن عاصيات بالنشوز، وأن النشوز منهن كان واقعاً، فإذن ليس الأمر مرتباً على خوف النشوز. وآخرها يدل على أنهمرتب على عصيانهن بالنشوز، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن. والأحسن عندي أن يكون ثمّ معطوفاً حذف لفهمالمعنى واقتضائه له، وتقديره: واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن. كما حذف في قوله:

{ أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ * فَٱنفَجَرَتْ }

تقديرهفضرب فانفجرت، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر، إنما هو متسبب عن الضرب. فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به. والمحذوف:أمر بالوعظ عند خوف النشوز، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز. ومعنى فلا تبغوا: فلا تطلبوا عليهن سبيلاً من السبلالثلاثة المباحة وهي: الوعظ، والهجر، والضرب. وقال سفيان: معناه لا تكلفوهن ما ليس في قدرتهن من الميل والمحبة، فإن ذلكإلى الله. وقيل: يحتمل أن يكون تبعوا من البغي وهو الظلم، والمعنى: فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق. وانتصابسبيلاً على هذا هو على إسقاط الخافض. وقيل: المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً من سبل البغي لهن والإضراربهن توصيلاً بذلك إلى نشوزهن أي: إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها. ولفظ عليهن يؤذن بهذاالمعنى. وسبيلاً نكرة في سياق النفي، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر، لينبهالعبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى. وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن، فلا تستعلواعليهن، ولا تتكبروا عليهن، فإنَّ ذلك ليس مشروعاً لكم. وفي هذا وعظ عظيم للأزواج، وإنذار أنَّ قدرة الله عليكم فوققدرتكم عليهن. وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاماً له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذاالعبد. أو يكون المعنى: إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم يتوب عليكم، فيحق لكم أن تعفوا عنهنإذا أطعنكم. {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } الخلاف في الخوف هنا مثلهفي: واللاتي تخافون. ولما كان حال المرأة مع زوجها إمّا الطواعية، وإمّا النشوز. وكان النشوز إمّا تعقبه الطواعية، وإمّا النشوزالمستمر، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولاً. وإن استمر النشوز واشتدّ، بعث الحكمان. والشقاق: المشاقة. والأصل شقاقاً بينهما، فاتسعوأضيف. والمعنى على الظرف كما تقول: يعجبني سير الليلة المقمرة. أو يكون استعمل اسماً وزال معنى الظرف، أو أجرى البينهنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما. والخطاب في: وإن خفتم، وفي فابعثوا، للحكام، ومن يتولى الفصل بين الناس. وقيل: للأولياءلأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ، ولهم نصب الحكمين. وقيل: خطاب للمؤمنين. وأبعد من ذهب إلى أنه خطابللأزواج، إذ لو كان خطاباً للأزواج لقال: وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا، أو لقال: فإن خفتم شقاق بينكم، لكنه انتقالمن خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي. والضمير فيبينهما عائد على الزوجين، ولم يجرد ذكرهما، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء. والحكم: هو منيصلح للحكومة بين الناس والإصلاح. ولم تتعرّض الآية لماذا يحكمان فيه، وإنما كان من الأهل، لأنه أعرف بباطن الحال، وتسكنإليه النفس، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة. قال جماعة من العلماء:لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين، عدلين، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة، عالمين بحكم الله في الواقعة التيحكما فيها. فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغباًفيمن يفصل بينهما. وقال بعض العلماء: إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم. وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلايشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين، من أهل العفاف والستر، يغلب على الظن نصحهما. واختلفوا في المقدار الذيينظر فيه الحكمان، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأيا من بقاء أوفراق، وبه قال: مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور. وهو مروي عن: علي، وعثمان، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وأبي سلمة،وطاووس. قال مالك: إذا رأيا التفريق فرقا، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه، وكلاه أم لا، والفراق أم لا،والفراق في ذلك طلاق بائن، وقالت طائفة: لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرّحا بتقديمهما عليه، فالحكمان وكيلان:أحدهما للزوج، والآخر للزوجة، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين، وهو مذهب أبي حنيفة، وعن الشافعي القولان. وقال الحسن وغيره:ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنّها ليست إليهما. وأما ما يقول الحكمان، فقال جماعة: يقولحكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك، فإن قال: لا حاجة لي فيها، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا، علمأن النشوز من قبله. وإن قال: أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا، علم أنه ليس يناشز ويقولالحكم من جهتها لها كذلك، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه، وزجراه، ونهياه. {إِن يُرِيدَا إِصْلَـٰحاً يُوَفّقِٱللَّهُ بَيْنَهُمَا } الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله: ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. وفي بينهما عائد على الزوجين، أي:قصدا إصلاح ذات البين، وصحت نيتهما، ونصحا لوجه الله، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما، وألقى في نفوسهما المودة. وقيل:الضميران معاً عائدان على الحكمين أي: إن قصدا إصلاح ذات البين، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة، ويتساعدان فيطلب الوفاق حتى يحصل الغرض. وقيل: الضميران عائدان على الزوجين أي: إن يرد الزوجان إصلاحاً بينهما، وزوال شقاق، يزل اللهذلك ويؤلف بينهما. وقيل: يكون في يريدا عائداً على الزوجين، وفي بينهما عائداً على الحكمين: أي: إن يرد الزوجان إصلاحاًوفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة، وأصلحا، ونصحا. وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبهقال الجمهور. وروي عن مالك: أنه يجري إرسال واحد، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين، فلو كانا غير عدلين فقالعبد الملك: حكمهما منقوض. وقال ابن العربي: الصحيح نفوذه. وأجمع أهل الحل والعقد: على أن الحكمين يجوز تحكيمهما. وذهبت الخوارج:إلى أن التحكيم ليس بجائز، ولو فرّق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين. فهل يصح من غير أمر سلطان؟ ذهبالحسن وابن سيرين: إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان. وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين:إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }يعلم ما يقصد الحكمان، وكيف يوفقا بين المختلفين، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين. {وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَتُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ } مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أنّالرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاق أموالهم، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواماً على غيرهن، أوضحأنه مع كونه قواماً على النساء هو أيضاً مأمور بالإحسان إلى الوالدين، وإلى من عطفه على الوالدين. فجاءت حثاً علىالإحسان، واستطراداً لمكارم الأخلاق. وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط، بل عليه غيرها من برالوالدين وغيرهم. وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه.ونظير:

{ وَإِذَا * أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا }

وتقدم شرح قوله:

{ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ }

إلا أن هنا وبذي، وهناك وذي، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة، فبولغ في هذه الآيةلأنها في حق هذه الأمة، ولم يبالغ في حق تلك، لأنها في حق بني إسرائيل. والاعتناء بهذه الأمة أكثر منالاعتناء بغيرها، إذ هي خير أمة أخرجت للناس. وقرأ ابن أبي عبلة: وبالوالدين إحسان بالرفع، وهومبتدأ أو خبر فيه مافي المنصوب من معنى الأمر، وإن كان جملة خبرية نحو قوله:

فصبــر جميــل فكلانــا مبتلــي    

{وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ } قالابن عباس: ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين: هو الجار القريب النسب، والجار الجنب هو الجار الأجنبي،الذي لا قرابة بينك وبينه. وقال بلعاء بن قيس:

لا يجتوينا مجاور أبدا     ذو رحم أو مجاور جنب

وقال نوف الشامي: هو الجار المسلم. {وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ } هو: الجار اليهودي، والنصراني.فهي عنده قرابة الإسلام، وأجنبية الكفر. وقالت فرقة، هو الجار القريب المسكن منك، والجنب هو البعيد المسكن منك. كأنه انتزعمن الحديث الذي فيه: إن لي جارين فإلى أهيما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً . وقال ميمون بن مهران: والجارذي القربى أريد به الجار القريب. قال ابن عطية: وهذا خطأ في اللسان، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللاموالإضافة، وكان وجه الكلام: وجار ذي القربى انتهى. ويمكن تصحيح قول ميمون على أن لا يكون جمعاً بين الألف واللاموالإضافة على ما زعم ابن عطية بأن يكون قوله: ذي القربى بدلاً من قوله: والجار، على حذف مضاف التقدير: والجارجار ذي القربى، فحذف جار لدلالة الجار عليه، وقد حذفوا البدل في مثل هذا. قال الشاعر:

رحم الله أعظما دفنوها     بسجستان طلحة الطلحات

يريد: أعظم طلحة الطلحات. ومن كلام العرب: لو يعلمونالعلم الكبيرة سنة، يريدون: علم الكبيرة سنة. والجنب: هو البعيد، سمي بذلك لبعده عن القرابة. وقال: فلا تحرمني نائلاً عنجنابة. والمجاورة مساكنة الرجل الرجل في محله، أو مدينة، أو كينونة أربعين داراً من كل جانب، أو يعتبر بسماع الأذان،أو بسماع الإقامة، أقوال أربعة ثانيها: قول الأوزاعي. وروى في ذلك حديثاً أنه عليه الصلاة والسلام أمر مناديه ينادي: «ألا إنَّ أربعين داراً جواز، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه والمجاورة مراتب، بعضها ألصق من بعض، أقربها الزوجة.قال الأعشى:

أجـارتنــا بينــي فإنك طـالقــة    

وقرىء: والجار ذا القربى. قال الزمخشري: نصباً على الاختصاص كما قرىء { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } تنبيهاً على عظم حقه لإدلائه بحقي الجوار والقربى انتهى، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: والجار الجنُببفتح الجيم وسكون النون، ومعناه البعيد. وسئل أعرابي عن الجار الجنب فقال: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه.{وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ } قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، ومجاهد، والضحاك: هو الرفيق في السفر. وقال علي وابن مسعودوالنخعي، وابن أبي ليلى: الزوجة. وقال ابن زيد: هو من يعتريك ويلمّ بك لتنفعه. وقال الزمخشري: هو الذي صحبك بأنحصل بجنبك إما رفيقاً في سفر، وإما جاراً ملاصقاً، وإما شريكاً في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعداً إلى جنبكفي مجلس أو مسجداً، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه،وتجعله ذريعة للإحسان. وقال مجاهد أيضاً: هو الذي يصحبك سفراً وحضراً. وقيل: الرفيق الصالح. {وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } تقدّم شرحه.{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } قيل: ما وقعت على العاقل باعتبار النوع كقوله تعالى: { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } وقيل:لأنها أعم من من، فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم، والحيوانات غير الارقاء أكثر في يد الإنسان من الارقاء،فغلب جانب الكثرة، فأمر الله تعالى بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان غيره. وقد ورد غير ما حديث فيالوصية بالارقاء خيراً في صحيح مسلم وغيره. ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري قال: الجار ذو القربى هوالقلب، والجار الجنب النفس، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع، وابن السبيل الجوارح المطيعة. {إِنَّ ٱللَّهَلاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } نفى تعالى محبته عمن اتصف بهاتين الصفتين: الاختيال وهو التكبر، والفخر هو عدالمناقب على سبيل التطاول بها والتعاظم على الناس. لأنّ من اتصف بهاتين الصفتين حملتاه على الإخلال بمن ذكر في الآيةممن يكون لهم حاجة إليه. وقال أبو رجاء الهروي: لا تجد سيـىء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، ولا عاقاً إلاوجدته جباراً شقياً. قال الزمخشري: والمختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه، فلا يحتفى بهم، ولا يلتفتإليهم. وقال غيره: ذكر تعالى الاختيال لأن المختال يأنف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء،ومن الأيتام لاستضعافهم ومن المساكين لاحتقارهم، ومن ابن السبيل لبعده عن أهله وماله، ومن مماليكه لأسرهم في يده انتهى. وتظافرتهذه النقول على أن ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية إنما جاء تنبيهاً على أنّ من اتصف بالخيلاء والفخر بأنفمن الإحسان للأصناف المذكورين، وأن الحامل له على ذلك اتصافه بتينك الصفتين. والذي يظهر لي أنّ مسافهما غير هذا المساقالذي ذكروه، وذلك أنه تعالى لما أمر بالإحسان للأصناف المذكورة والتحفي بهم وإكرامهم، كان في العادة أن ينشأ عن مناتصف بمكارم الأخلاق أن يجد في نفسه زهواً وخيلاً، وافتخاراً بما صدر منه من الإحسان. وكثيراً ما افتخرت العرب بذلكوتعاظمت في نثرها ونظمها به، فأراد تعالى أن ينبه على التحلي بصفة التواضع، وأن لا يرى لنفسه شفوفاً على منأحسن إليه، وأن لا يفخر عليه كما قال تعالى: { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلْمَنّ وَٱلاْذَىٰ }

فنفى تعالى محبته عن المتحليبهذين الوصفين. وكان المعنى أنهم أمروا بعبادة الله تعالى، وبالإحسان إلى الوالدين. ومن ذكر معهما: ونهوا عن الخيلاء والفخر، فكأنهقيل: ولا تختالوا وتفخروا على من أحسنتم إليه، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً. إلا أنّ ما ذكرناهلا يتم إلا على أن يكون الذين يبخلون مبتدأ مقتطعاً مما قبله، أما إن كان متصلاً بما قبله فيأتي المعنىالذي ذكره المفسرون، ويأتي إعراب الذين يبخلون، وبه يتضح المعنى الذي ذكروه، والمعنى الذي ذكرناه إن شاء الله تعالى.{ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } نزلت هذه الآية فيقوم كفار. روى عن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وحضرمي: أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد صلىالله عليه وسلم، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك، وأمروا بالبخل على جهتين: أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد صلىالله عليه وسلم وقالوا للأنصار: لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون؟ وقيل: نزلت في المنافقين. وقيل: في مشركي مكة. وعلىاختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون. وقيل: هي عامّة في كل من يبخل ويأمر بالبخل مناليهود وغيرهم. والبخل في كلام العرب: منع السائل شيئاً مما في يد المسؤول من المال، وعنده فضل. قال طاووس: البخلأن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس. والبخل في الشريعة، هو منع الواجب.وقال الراغب: لم يرد البخل بالمال، بل بجميع ما فيه نفع للغير انتهى. ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومنذكر معهما من المحتاجين على سبيل ابتداع أمر الله، بيّن أنّ من لا يفعل ذلك قسمان. أحدهما: البخيل الذي لايقدم على إنفاق المال ألبتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل. والثاني: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، لا لغرض أمرالله وامتثاله وطاعته. وذمّ تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول: وأعتدنا للكافرين، وأعقب الثاني بقوله:

{ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَهُ قَرِيناً }

. والبخل أنواع: بخل بالمال، وبخل بالعلم وبخل بالطعام، وبخل بالسلام، وبخل بالكلام، وبخل على الأقارب دون الأجانب، وبخلبالجاه، وكلها نقائض ورذائل مذمومة عقلاً وشرعاً وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل منها: {مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ وَمَننّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ } وظاهر قوله بالبخل أنه متعلق بقوله: ويأمرون، كما تقول: أمرت زيداً بالصبر، فالبخل مأمور به.وقيل: متعلق الأمر محذوف، والباء في بالبخل حالية، والمعنى: ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون نحو ما أشار إليهالشاعر بقوله:

أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما     تيه الملوك وأفعال المماليك

وقرأ الجمهور: بالبخلبضم الباء وسكون الخاء. وعيسى بن عمرو الحسن: بضمهما. وحمزة الكسائي: بفتحهما، وابن الزبير وقتادة وجماعة. بفتح الباء، وسكون الخاء.وهي كلها لغات. قال الفرّاء: البخل مثقلة لأسد، والبخل خفيفة لتميم، والبخل لأهل الحجاز. ويخففون أيضاً فتصير لغتهم ولغة تميمواحدة، وبعض بكر بن وائل بقولون البخل قال جرير:

تريدين أن ترضي وأنت بخيلة     ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل

وأنشدني المفضل:

وأوفــاهــم أوان بــخــل    

وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين:

وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده لذو بخل كل على من يصاحب    

واختلفوا في إعراب الذين يبخلون، فقيل: هو في موضع نصب بدل من قوله: من كان. وقيل:من قوله مختالاً فخوراً. أفرد اسم كان، والخبر على لفظ من، وجمع الذين حملا على المعنى. وقيل: انتصب على الذم.ويجوز عندي أن يكون صفة لمن، ولم يذكروا هذا الوجه. وقيل: هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف، أي:هم الذين. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في فخوراً، وهو قلق. فهذه ستة أوجه يكون فيهاالذين يبخلون متعلقاً بما قبله، ويكون الباخلون منفياً عنهم محبة الله تعالى، وتكون الآية إذن في المؤمنين، والمعنى: أحسنوا أيهاالمؤمنون إلى مَن سمى الله، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم وهي: الخيلاء، والفخر، والبخل،والأمر به، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال. وقيل: الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء، واختلفوا في الخبر:أهو محذوف؟ أم ملفوظ به؟ فقيل: هو ملفوظ به وهو قوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا }

ويكون الرابط محذوفاً تقديره: مثقال ذرة لهم، أو لا يظلمهم مثقال ذرة. وإلى هذا ذهب الزجاج، وهو بعيدمتكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه: انتظاماً واضحاً لأنّ سياق المبتدأ وما عطفعليه ظاهراً من قوله: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يناسب أن يخبر عنهبقوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً، بل مساق أنّ اللهلا يظلم أن يكون استئناف كلام إخباراً عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس. وقيل: هو محذوف فقدره الزمخشري: الذين يبخلونويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة. وقدره ابن عطية: معذبون أو مجازون ونحوه. وقدره أبو البقاء: أولئك قرناؤهم الشيطان، وقدره أيضاً:مبغضون. ويحتمل أن يكون التقدير: كافرون

{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ }

فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفراً حقيقة كتفسيرهم البخلبأنه بخل بصفة رسول الله ، وبإظهار نبوّته. والأمر بالبخل لأتباعهم أي: بكتمان ذلك، وكتمهم ما تضمنتهالتوراة من نبوّته وشريعته، كان قوله: وأعتدنا للكافرين، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم: أنها في المؤمنين،كان قوله: وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية، والآية على هذه التقادير. وقول الزجاج: فيالكفار، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم. وتقدم تفسير البخل والأمر به، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول. وأعتدنا للكافرين:أي أعددنا وهيأنا. والعتيد: الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب. {وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْرِئَـاء ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ } تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله:

{ كَٱلَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ } وهناً: ولا باليوم الآخر }

، وهناك: واليوم الآخر. قال السدّي، والزجاج وأبو سليمان الدّمشقيوالجمهور: هم المنافقون نزلت فيهم، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعاً عن أنفسهم، لا إيماناًولا حباً في الدّين. وقال ابن عباس: ومقاتل، ومجاهد: نزلت في اليهود. وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليومالآخر. ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم.وقيل: هم مشركو مكة، لأنهم كانوا ينكرون البعث. وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشاً في غزوة أحد وغزوة الخندق،وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي وطلبهم الانتصار. وفي إعراب والذين ينفقونوجوه: أحدها: أنه مبتدأ محذوف الخبر، ويقدر: معذبون، أو قرينهم الشيطان، ويكون العطف من عطف الجمل. والثاني: أن يكون معطوفاًعلى الكافرين، فيكون مجروراً قاله: الطبري. والثالث: أن يكون معطوفاً على الذين يبخلون، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون. والعطف فيهذين الوجهين من عطف المفردات. ورئاء مصدر راء، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله، وفيه شروطه فلاينبغي أن يعدلعنه. وقيل: هو مصدر في موضع الحال قاله: ابن عطية، ولم يذكر غيره. وظاهر قوله: ولا يؤمنون أنه عطف علىصلة الذين، فيكون صلة. ولا يضر الفصل بين إبعاض الصلة بمعمول للصلة، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون. وجوّزوا أنيكون: ولا يؤمنون في موضع الحال، فتكون الواو واو الحال أي: غير مؤمنين، والعامل فيها ينفقون أيضاً. وحكى المهدوي: أنهيجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون، فعلى هذا لا يجوز أن يكون: ولايؤمنون معطوفاً على الصلة، ولا حالاً من ضمير ينفقون، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة، أو بين معمول الصلةبأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول، بل يكون قوله: ولا يؤمنون مستأنف. وهذا وجه متكلف. وتعلق رئاءبقوله: ينفقون واضح، إما على المفعول له، أو الحال، فلا ينبغي أن يعدل عنه. وتكرار لا وحرف الجر في قوله:ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله، ومن الإيمان باليوم الآخر. لأنك إذا قلت: لا أضرب زيداًوعمراً، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما. ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك: بل أحدهما. واحتمل نفي الضرب عن كلواحد منهما علي سبيل الجمع، وعلى سبيل الإفراد. فإذا قلت: لا أضرب زيداً ولا عمراً، تعين هذا الاحتمال الثاني الذيكان دون تكرار. {وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً } لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به،وكتمان فضل الله تعالى، والإنفاق رئاء، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمتهللمتصف بذلك، لأنها شر محض، إذ جمعت بين سوء الاعتقاد الصادر عنه الإنفاق رئاء، وسائر تلك الأوصاف المذمومة. ولذلك قدمتلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموحد، وبدار الجزاء. ثم ذكر أنّ ذلك من مقارنة الشيطان.والقرين هنا فعيل بمعنى مفاعل، كالجليس والخليط أي: المجالس والمخالط. والشيطان هنا جنس لا يراد به إبليس وحده وهو كقوله:

{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }

وله متعلق بقريناً أي: قريناً له. والفاء جوابالشرط، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام، وقريناً تمييز لذلك الضمير.والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوفوقريناً حال، لأنها إذ ذاك تكون فعلاً متصرفاً فلا تدخله الفاء، أو تدخله مصحوبة بقد. وقد جوّزوا انتصاب قريناً علىالحال، أو على القطع، وهو ضعيف. وبولغ في ذمّ هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة. قال الزمخشري وغيره: ويجوزأن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى. فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به فيالنار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال:

{ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلاْصْفَادِ }

و

{ إِذَا أُلْقُواْ * مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ }

. وقال الجمهور: هذهالمقارنة هي في الدنيا كقوله:

{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُواْ لَهُم }

{ ونقيض له شيطاناً فهو له قرين }

{ وقال قرينه ربنا ما أطغيته }

قال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: {*} وقال قرينه ربنا ما أطغيته} قال ابن عطية:وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: {*} قال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى:

{ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلاً }

وذلك مردود، لأنّ بدلاً حال، وفي هذا نظر. والذي قاله الطبري صحيح، وبدلاً تمييز لا حال، وهو مفسر للضمير المستكنفي بئس على مذهب البصريين، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هم أي الشيطان وذريته. وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعموبئس حالاً الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو.

{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً } * { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }[عدل]

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ } ظاهرهذا الكلام أنه ملتحم لحمة واحدة، والمراد بذلك: ذمّهم وتوبيخهم وتجهيلهم بمكان سعادتهم، وإلا فكل الفلاح والمنفعة في اتصافهم بماذكر تعالى. فعلى هذا الظاهر يحتمل أن يكون الكلام جمليتن، وتكون لو على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقعلوقوع غيره، والتقدير: وماذا عليهم في الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوامما رزقهم الله لحصلت لهم السعادة. ويحتمل أن يكون جملة واحدة، وذلك على مذهب من يثبن أن لو تكون مصدريةفي معنى: أن كأنه قيل: وماذا عليهم أن آمنوا، أي في الإيمان بالله، ولا جواب لها إذ ذاك، فيكون كقوله:

وماذا عليه أن ذكرت أوانسا     كغزلان رمل في محاريب أقيال

قالوا: ويجوز أن يكون قوله: وماذاعليهم، مستقلاً لا تعلق به بما بعده، بل ما بعده مستأنف. أي: وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهمبالبخل وتلك الأوصاف المذمومة، ثم استأنف وقال: لو آمنوا، وحذف جواب لو. وقال ابن عطية: وجواب لو في قوله: ماذا،فهو جواب مقدم انتهى. فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقاً لكلام النحويين، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو، ولأنقولهم: أكرمتك لو قام زيد، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أكرمتك دال على الجواب، لا جواب كماقالوا في قولهم: أنت ظالم إن فعلت. وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله. وماذا: يحتمل أن تكون كلهااستفهاماً، والخبر في عليهم. ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام، وذا بمعنى الذي وهو الخبر، وعليهم صلة ذا. وإذا كانلو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله: وماذا عليهم، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة، وقد تعلقت المعتزلةبذلك. قال أبو بكر الرازي: تدل على بطلان مذهب الجهمية أهل الجبر، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاقلما أجاز أن يقال ذلك فيهم، لأنّ عَذرهم واضح وهو أنّهم غير متمكنين مما دعوا إليه، ولا قادرين، كما لايقال للأعمى: ماذا عليه لو أبصر، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحاً. وفي ذلك أوضح دليل على أنّالله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه. وهو قولالمعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر: الجبرية، والقدرية، والمعتزلة، وأهل السنة. قال ابن عطية: والانفصال عن شبهة المعتزلة أنّالمطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى. ولما صفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومةكان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه، فبدأ أولاً بالبخل، ثم بالأمر به، ثم بكتمان فضل الله، ثمبالإنفاق رياء، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر. ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر، إذ بذلك تحصلالسعادة الأبدية، ثم عطف عليه الإنفاق أي: في سبيل الله، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل، والأمربه وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس. {وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِم عَلِيماً } خبر يتضمن وعيداً وتنبيهاً على سوء بواطنهم،وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم. قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع. التكرار وهوفي: نصيب مما اكتسبوا، ونصيب مما اكتسبن. والجلالة: في واسئلوا الله، إن الله، وحكماً من أهله، وحكماً من أهلها، وبعضكمعلى بعض، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: لوآمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وقريناً وساء قريناً. والجلالة في: مما رزقهم الله، وكان الله. والتجنيس المغايرفي: حافظات للغيب بما حفظ الله، وفي: يبخلون وبالبخل. ونسق الصفات من غير حرف في: قانتات حافظات. والنسق بالحروف علىطريق ذكر الأوكد فالأوكد في: وبالوالدين إحساناً وما بعده. والطابق المعنوي في: نشوزهنّ فإن أطعنكم، وفي: شقاق بينهما ويوفق الله.والاختصاص في قوله: من أهله ومن أهلها، وفي قوله: عاقدت أيمانكم. والإبهام في قوله: به شيئاً وإحساناً، وما ملكت فشيوعشيئاً وإحساناً وما واضح. والتعريض في: مختالاً فخوراً. أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدّي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقارمن ذكر معهم. والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في: وما ملكت أيمانكم. والتمثيل: في ومن يكن الشيطان له قريناً فساءقريناً. والحذف في عدّة مواضع.

{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } * { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }[عدل]

المثقال: مفعال من الثقل، ومثقال كل شيء وزنه، ولا تظنّ أنه الدينار لاغير. الذرة: النملة الصغيرة وقيل: أصغر ما تكون إذا مر عليها حول، وقيل في وصفها. الحمراء. قيل: إذا مر عليهاحول صغرت وجرت. قال:

من القاصرات الطرف لو دب محول     من الذر فوق الاتب منها لاثرا

وقال حسان:

لو يدب الحولى من ولد الذر     ر عليها لأندبتها الكلوم

وقيل عن ابن عباس: الذرة رأسالنملة. وقيل عنه: أدخل يده في التراب ورفعها ثم نفخ فيه، وقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزءالهباء في الكوة ذرة. وقيل: الذرة هي الخردلة. السكر: انسداد طريق التمييز بشرب ما يسكر من قولهم: سكرت عينالبازي، إذا خالها النوم. ومنه: سكر النهر إذا اسندت مجاريه وسكرته أنا. والسكر: أيضاً بضم السين السد. قال:

فما زلنا على الشرب     نداوي السكر بالسكر

والسكر: بالفتح ما أسكر، أي منع منالتمييز. الغائط: ما انخفض من الأرض، وجمعه غيطان. ويقال: عيط وغوط. وزعم ابن جني: أن غيطاً فعيل، إذ أصلهعنده غيط مثل هين وسيد إذا أخففتهما. والصحيح: أنه فعل. كما أنّ غوطاً فعل، لأن العرب قالت: غاط يغوط ويغيط،فأتت به مرة في ذوات الياء، ومرة في ذوات الواو. وجمعوا غوطاً على أغواط ويقال: تغوّط إذا أحدث وغاط فيالأرض يغيط ويغوط غاب فيها حتى لا يظهر إلا لمن وقف عليه. وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطاً منالأرض يستتر فيه عن أعين الناس، ثم قيل: للحدث. نفسه غائطاً، كما قيل: سال الميزان وجرى النهر. {إِنَّ ٱللَّهَلاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } نزلت في المهاجرين الأوّلين. وقيل: في الخصوم. وقيل: في عامة المؤمنين. ومناسبة هذه لما قبلهاواضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته تعالى وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه،ثم وبخ من لم يؤمن، ولم ينفق في طاعة الله، فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبرتعالى بصفة عدله، وأنه عزّ وجل لا يظلم أدنى شيء، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَاوَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وضرب مثلاً لأحقر الأشياء وزن ذرة، وذلك مبالغة عظيمة في الانتفاء عن الظلم البتة.وظاهر قوله: مثقال ذرّة، أن الذرّة لها وزن. وقيل: الذرّة لا وزن لها، وأنه امتحن ذلك فلم يكن لها وزن.وإذا كان تعالى لا يظلم مثقال ذرّة فلأن لا يظلم فوق ذلك أبلغ، ولما كانت الذرة أصغر الموجودات ضرب بهاالمثل في القلة. وقرأ ابن مسعود: مثقال نملة، ولعل ذلك على سبيل الشرح للذرة. قال الزمخشري: وفيه دليل علىأنه لو نقص من أجره أدنى شيء وأصغره، أو زاد في العقاب، لكان ظلماً. وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة،لا لاستحالته في القدرة انتهى. وهي نزعة اعتزالية. وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليهوسلم قال: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ * مُؤْمِناً * حَسَنَةٌ * يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَـٰهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى ٱلاْخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا ويظلم يتعدّى لواحد، وهو محذوف وتقديره: لا يظلم أحداً مثقال ذرة. وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوفأي: ظلماً وزن ذرّة، كما تقول: لا أظلم قليلاً ولا كثيراً. وقيل: ضمنت معنى ما يتعدّى لاثنين، فانتصب مثقال علىأنه مفعول ثان، والأول محذوف التقدير: لا ينقص، أو لا يغضب، أو لا يبخس أحداً مثقال ذرة من الخير أوالشر، {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }. حذفت النون من تلك لكثرة الاستعمال، وكان القياسإثبات الواو، لأن الواو إنما حذفت لالتقاء الساكنين. فكان ينبغي أنه إذا حذفت ترجع الواو، ولأن الموجب لحذفها قد زال.ولجواز حذفها شرط على مذهب سيبويه وهو: أن تلاقي ساكنان، فإن لاقته نحو: لم يكن ابنك قائماً، ولم يكن الرجلذاهباً، لم يجز حذفها. وأجازه يونس، وشرط جواز هذا الحذف دخول جازم على مضارع معرب مرفوع بالضمة، فلو كان مبنياًعلى نون التوكيد، أو نون الإناث، أو مرفوعاً بالنون، لم يجز حذفها. وقرأ الجمهور: حسنة بالنصب، فتكون ناقصة، واسمهامستتر فيها عائد على مثقال. وأنث الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث، أو على مراعاة المعنى، لأن مثقال معناه زنةأي: وإن تك زنة ذرّة. وقرأ الحسن والحرميان: حسنة بالرفع على أن تك تامة، التقدير: وإن تقع أو توجد حسنة.وقرأ الإبنان: يضعفها مشدّدة من غير ألف. قال أبو علي: المعنى فيهما واحد، وهما لغتان. ويدل على هذا قراءة منقرأ

{ يُضَـٰعِفُ * لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }

و

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }

. وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز والطبري: ضاعفيقتضي مراراً كثيرة، وضعف يقتضي مرتين، وكلام العرب يقتضي عكس هذا. لأنّ المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شدّدت اقتضت البنيةالتكثير فوق مرتين إلى أقصى ما يزيد من العدد، وقد تقدم لنا الكلام في هذا. وقال الزمخشري: يضاعف ثوابها لاستحقاقهاضده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية. وورد تضعيف الحسنة لعشر أمثالها في كتاب الله، وتضعيف النفقةإلى سبعمائة، ووردت أحاديث التضعيف ألفاً وألف ألف، ولا تضاد في ذلك، إذ المراد الكثرة لا التحديد. وإن أريد التحديدفلا تضاد أيضاً، لأن الموعود بذلك جميع المؤمنين، ويختلف باختلاف الأعمال. وظاهر قوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآيةأنها عامة في كل أحد، وتخصيص ذلك بالمهاجرين غير ظاهر من لدنه أي: من عنده على سبيل التفضل. قال الزمخشري:سماه أجراً لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. انتهى قال ابن مسعود وابن جبير وابن زيد الأجر: هنا الجنة.وقيل: لا حد له ولا عد. {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً }هو نبيهميشهد عليهم بما فعلوا كما قال تعالى:

{ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ }

والأمة هنا من بعث إليهم النبيمن مؤمن به وكافر. لمّا أعلم تعالى بعدله وإيتاء فضله أتبع ذلك بأن نبه على الحالة التي يحضرونها للجزاء ويشهدعليهم فيها. وكيف في موضع رفع إن كان المحذوف مبتدأ التقدير: فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم، أو كيف صنعهم.وهذا المبتدأ هو العامل في إذا، أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلاً أي: فكيف يصنعون، أو كيف يكونون.والفعل أيضاً هو العامل في إذا. ونقل ابن عطية عن مكيّ: أن العامل في كيف جئنا. قال: وهو خطأ، والاستفهامهنا للتوبيخ، والتقريع، والإشارة بهؤلاء إلى أمة الرسول. وقال مقاتل: إلى الكفار. وقيل: إلى اليهود والنصارى. وقيل: إلى كفار قريش.وقيل: إلى المكذبين وشهادته بالتبليغ لأمته قاله: ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل. أو بإيمانهم قاله أبو العالية، أو بأعمالهمقاله: مجاهد وقتادة. والظاهر أن الشهادة تكون على المشهود عليهم. وقيل: على بمعنى اللام، أي: وجئنا بك لهؤلاء، وهذا فيهبعد. وقال الزجاجي: يشهد لهم وعليهم، وحذف المشهود عليهم في قوله: إذا جئنا من كل أمة بشهيد لجريان ذكره فيالجار والمجرور فاختصر، والتقدير: من كل أمة بشهيد على أمته. وظاهر المقابلة يقتضي أن تكون الشهادة عليهم لا لهم، ولايكون عليهم إلا والمشهود عليهم كانوا منكرين مكذبين بما شهد عليهم به. وروي أن رسول الله :كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك حين قرأ عليه ابن مسعود ذرفت عيناه وبكاؤه ـ والله أعلم ـهو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم. وظاهر قوله: وجئنا بك، أنه معطوف على قوله: جئنا منكل أمة. وقيل: حال على تقدير قد أي وقد جئنا. {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُٱلاْرْضُ } التنوين في يومئذ هو تنوين العوض، حذفت الجملة السابقة وعوض منها هذا التنوين، والتقدير: يوم إذ جئنا منكل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول أي: كفروا بالله وعصوا رسوله. والرسول: هنااسم جنس، ويحتمل أن يكون التنوين عوضاً من الجملة الأخيرة، ويكون الرسول محمد . وأبرز ظاهراً، ولميأت وعصوك لما في ذكر الرسول من الشرف والتنويه بالرسالة التي هي أشرف ما تحملها الإنسان من الله تعالى، إذهي سبب السعادة الدنيوية والأخروية، والعامل في: يوم يودّ. ومعنى يودّ: يتمنى. وظاهر وعصوا أنه معطوف على كفروا. وقيل: هوعلى إضمار موصول آخر أي: والدين عصوا فهما فرقتان. وقيل: الواو واو الحال أي: كفروا وقد عصوا الرسول. وقال الحوفي:يجوز أن يكون يوم مبنياً مع إذ، لأنّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه. وإذ في هذاالموضع اسم ليست بظرف، لأن الظروف إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها، كما تخصصالأسماء، ومع استحقاقها الجرّ، والجرّ ليس من علامات الظروف انتهى، وهو كلام جيد. وقرأ الجمهور: وعصوا الرسول بضم الواو.وقرأ يحيـى بن يعمر وأبو السمال: وعصوا الرسول بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم:تسوى بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول، وهو مضارع سوى. وقرأ نافع، وابن عامر: بفتح التاء وتشديد السين، وأصله تتسوى،فأدغمت التاء في السين، وهو مضارع تسوى. وقرأ حمزة والكسائي: تسوّى بفتح التاء وتخفيف السين، وذلك على حذف التاء، إذأصله تتسوى وهو مضارع تسوى. فعلى قراءة من قرأ تتسوى وتسوّى فتكون الأرض فاعلة. قال أبو عبيدة وجماعة: معناه لوتنشق الأرض ويكونون فيها، وتنسوي هي في نفسها عليهم. والباء بمعنى على. وقالت فرقة: معناه لو تسوّى هي معهم فيأن يكونوا تراباً كالبهائم، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المسوية معهم، والمعنى: إنما هو أنهم يستوون مع الأرض. ففياللفظ قلب يخرج على قولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي. وعلى قراءة من قرأ: تسوى مبنياً للمفعول، فالمعنى أن الله يفعلذلك على حسب المعنيين السابقين. وقيل: المعنى لو دفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، ومعنى هذا القول هو معنىالقول الأول. وقيل: المعنى لو تعدل بهم الأرض أي: يؤخذ منهم ما عليها فدية. والعامل في يومئذ يود، ومفعوليود محذوف تقديره: تسوية الأرض بهم، ودلّ عليه قوله: لو تسوى بهم الأرض. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره،وجوابه محذوف تقديره: لسروا بذلك، وحذف لدلالة يودّ عليه. ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل أن جوز ذلكهنا، وكانت إذ ذاك لا جواب لها، بل تكون في موضع مفعول يود. {وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } رويعن ابن عباس أن معنى هذه: ودوا إذ فضحتحهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم. وروي عنه أيضاً: أنهم لماشهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله شيئاً. وقال الحسن: القيامة مواقف، ففي موطن يعرفون سوء أعمالهم ويسألون أن يردوا إلىالدنيا، وفي موطن يكتمون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. وقال الفراء والزجاج: هو كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: وتسوىبهم الأرض، والمعنى: لا يقدرون على كتمان الحديث لأنه ظاهر عند الله. وقيل: ودوا لو سويت بهم الأرض، وأنهم لميكتموا الله حديثاً. وقيل: لم يعتقدوا أنهم مشركون، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر هذين القولين: ابن الأنباري. قالالقاضي: أخبروا بما توهموا، وكانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم أنهم قد كذبوا. وإذا كانت الجملة مندرجة تحتيود فقال الجمهور: هو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين، ما كنا نعمل من سوء، وهذا يتعلق بالآخرة. وقال عطاء:أمر الرسول ونعته وبعثه، وهذا متعلق بالدنيا انتهى. ما خص من كتاب التحرير والتحبير. وقال ابن عطية ما ملخصه:استأنف الكلام وأخبر أنهم لا يكتمون حديثاً لنطق جوارحهم بذلك كله حتى يقول بعضهم: والله ربنا ما كنا مشركين، فيقولالله تعالى: كذبتم، ثم تنطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً، وهذا قول ابن عباس. وقالت طائفة مثله: إلا أنها قالت: استأنفليخبر أنّ الكتم لا ينفع وإن كتموا لعلم الله جميع أسرارهم، فالمعنى: ليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم.والفرق بين هذا والأول، أن الأول يقتضي أنّ الكتم لا يقع بوجه، والآخر يقتضي أنّ الكتم لا ينفع وقع أولم يقع، كما تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد أنه لا ينفع فيه ولا يستمع إليه. وقالتطائفة: الكلام كله متصل، والمعنى: ويودون أنهم لا يكتمون الله حديثاً. وودّهم ذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا:والله ربنا ما كنا مشركين. وقالت طائفة: هي مواطن وفرق انتهى. وقال الزمخشري: لا يقدرون على كتمانه، لأن جوارحهم تشهدعليهم. وقيل: الواو وللحال يودون أن يدفنوا تحت الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثاً، ولا يكذبون في قولهم: واللهربنا ما كنا مشركين. لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم،والشهادة عليهم بالشرك. فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض انتهى. والذي يتلخص في هذه الجملة أن الواو فيقوله: ولا يكتمون إما أن تكون للحال، أو للعطف فإن كانت للحال كان المعنى: أنهم يوم القيامة يودون إن كانواماتوا وسويت بهم الأرض، غير كاتمين الله حديثاً، فهي حال من بهم، والعامل فيها تسوى. وهذه الحال على جعل لومصدرية بمعنى أن، ويصح أيضاً الحال على جعل لو حرفاً لما سيقع لوقوع غيره، أي: لو تسوى بهم الأرض غيركاتمين الله حديثاً لكان بغيتهم وطلبتهم. ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا، والعامل يود على تقدير أن تكون لومصدرية أي: يوم القيامة يود الذين كفروا إن كانوا سويت بهم الأرض غير كاتمين، وتكون هذه الحال قيدا في الودادة.أي تقع الودادة منهم لما ذكر في حال انتفاء الكتمان، وهي حالة إقرارهم بما كانوا عليه في الدّنيا من الكفروالتكذيب، ويكون إقرارهم في موطن دون موطن، إذ قد ورد أنهم يكتمون، ويبعد أن يكون حالاً على هذا الوجه. ولوحرف لما كان سيقع لوقوع غيره للفصل بين الحال، وعاملها بالجملة. وإن كانت الواو في: ولا يكتمون، للعطف فيحتمل أنيكون من عطف المفردات، ومن عطف الجمل. فإن كانت من عطف المفردات كان ذلك معطوفاً على مفعول يود أي: يودّونتسوية الأرض بهم وانتفاء الكتمان. ويحتمل أن يكون انتفاء الكتمان في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة، وهو قولهم: واللهربنا ما كنا مشركين. ويبعد جدًّا أن يكون عطف على مفعول يود المحذوف، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.وإن كانت من عطف الجمل فيحتمل أن يكون معطوفاً على يود، أي: يودّون كذا ولا يكتمون الله حديثاً، فأخبر تعالىعنهم بخبرين الودادة وانتفاء الكتمان، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة. ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفاً كما قرّرناه،ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف كما تقدّم. والجملة من قوله: ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها،ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل: جملة الودادة، والجملة التعليقية من لو وجوابها، وجملة انتفاء الكتمان. {حَدِيثاً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم،وحانت صلاة، فتقدّم أحدهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت. وقيل: نزلت بسبب قول ثانياً: اللهم بين لنافي الخمر بياناً شافياً، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر، إلىأن سأل عمر ثالثاً فنزل تحريمها مطلقاً. وهذه الآية محكمة عند الجمهور. وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة.وأعجب من هذا قول عكرمة: أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله:

{ إِذَا قُمْتُمْ إلى الصلاة فاغسلوا }

الآيةأي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال، ثم نسخ شربالخمر بقوله:

{ فَٱجْتَنِبُوهُ }

ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة، ولا أباح بعد إنزالها مجامعةالصلاة مع السكر. ووجه قول ابن عباس: أنّ مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر، وإنما حرم قربان الصلاة في تلكالحال، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه لما أمرتعالى بعبادة الله والإخلاص فيها، وأمر ببرّ الوالدين ومكارم الأخلاق، وذم البخل واستطر منه إلى شيء من أحوال القيامة، وكانقد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر، ناسب أن تخلص الصلاة منشوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها، ليجمع لهم بين إخلاص عبادةالحق ومكارم الأخلاق التي بينهم، وبين الخلق والخطاب بقوله: يا أيها الذين آمنوا للصاحين، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكرهليس بمخاطب، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرّرتكليفه إياها قبل السكر، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس. وبالغ تعالىفي النهي عن أن يصلّي المؤمن وهو سكران بقوله: {لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ * لاِنْ }لأن النهي عن قربان الصلاة أبلغمن قوله: لا تصلوا وأنتم سكارى ومنه:

{ ولا تقربوا الزنا }

{ ولا تقربوا الفواحش }

{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ }

والمعنى: لا تغشواالصلاة. وقيل: هو على حذف مضاف أي: لا تقربوا مواضع الصلاة لقوله: ولا جنباً إلا عابري سبيل على أحد التأويلينفي عابري سبيل، وسيأتي إن شاء الله. ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله : جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم .والجمهور على أن المراد: وأنتم سكارى من الخمر. وقال الضحاك: المراد السكر من النوم، لقوله : إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه وقال عبيدة السلماني:المراد بقوله وأنتم سكارى إذا كنتم حاقنين، لقوله عليه السلام: لا يصلين أحدكم وهو حاقن . وفي رواية: وهو ضام فخذيه واستضعف قول الضحاك وعبيدة واستبعد. وقال القرطبي: قولهما صحيح المعنى، لأن المطلوب من المصلي الإقبال على عبادة الله تعالى بقلبهوقالبه، بصرف الأسباب التي تشوّش عليه وتقل خشوعه من: نوم، وحقنة، وجوع، وغيره مما يشغل البال. وظاهر الآية يدل علىالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر. وقيل: المراد النهي عن السكر، لأن الصلاة قد فرضت عليهم وأوقات السكر ليستمحفوظة عندهم ولا بمقدرة، لأن السكر قد يقع تارة بالقليل وتارة بالكثير، وإذا لم يتحرر وقت ذلك عندهم تركوا الشرباحتياطاً لأداء ما فرض عليهم من الصلوات. وأيضاً فالسكر يختلف باختلاف أمزجة الشاربين، فمنهم من سكره الكثير، ومنهم من سكرهالقليل. وقرأ الجمهور: سكارى بضم السين. واختلفوا: أهو جمع تكسير؟ أم اسم جمع؟ ومذهب سيبويه أنه جمع تكسير. قالسيبويه في حد تكسير الصفات: وقد يكسرون بعض هذه على فعالى، وذلك قول بعضهم: سكارى وعجالى. فهذا نصَّ منه علىأن فعلى جمع. ووهم الأستاذ أبو الحسن بن الباذش فنسب إلى سيبويه أنه اسم جمع، وأن سيبويه بين ذلك فيالأبنية. قال ابن الباذش: وهو القياس، لأنه جاء على بناء لم يجيء عليه جمع ألبتة، وليس في الأبنية إلا نصسيبويه على أنه تكسير، وذلك أنه قال: ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني وكباري، ولا يكون وصفاً، إلا أنيكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وسكارى وكسالى. وحكى السيرافي فيه القولين، ورجح أنه تكسير، وأنه الذي يدل عليه كلامسيبويه. وقرأت فرقة: سكارى بفتح السين نحو ندمان وندامى، وهو جمع تكسير. وقرأ النخعي: سكرى، فاحتمل أن يكون صفة لواحدةمؤنثة كامرأة سكرى، وجرى على جماعة إذ معناه: وأنتم جماعة سكرى. وقال ابن جني: هو جمع سكران على وزن فعلىكقوله: روبي نياماً وكقولهم: هلكى وميدي جمع هالك ومائد. وقرأ الأعمش: سكرى بضم السين على وزن حبلى، وتخريجه على أنهصفة لجماعة أي: وأنتم جماعة سكرى. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى بالضم والفتح قاله الزمخشري. ومعنى حتى تعلموا ماتقولون: حتى تصحوا فتعلموا. جعل غاية السبب والمراد السبب، لأنه ما دام سكران لا يعلم ما يقول وظاهر الآية يدلعلى أن السكران لا يعلم ما يقول، ولذلك ذهب عثمان، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، والقاسم، وربيعة، والليث، وإسحاق، وأبو ثور،والمزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق، واختاره الطبري. وقال أجمع العلماء: على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوهكالموسوس، معتوه بالوسواس. ولا يختلفون في أنّ طلاق من ذهب عقله بالبنج غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب. ورويعن عمر ومعاوية وجماعة من التابعين: أنّ طلاقه نافذ عليه وهو قول: أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي. قال أبو حنيفة: أفعالهوعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه. وقال أبو يوسف: يكون مرتداً فيحال سكره، وهو قول الشافعي، إلا أنه لا يقتله في حال سكره، ولا يستتيبه. واختلف قوله في الطلاق، وألزم مالكالسكران الطلاق والقود في الجراح والعقل، ولم يلزمه النكاح والبيع. قال الماوردي: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمهطلاقه. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. واختلفوا في السكر. فقيل: هو الذي لا يعرف صاحبهالرجل من المرأة قاله: جماعة من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، ويدل عليه قوله: حتى تعلموا ما تقولون. فظاهره يدلعلى أنّ السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول. وقال الثوري: السكر اختلال العقل، فإذاخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف حده. وقال أحمد: إذا تغير عقله في حاله الصحة فهو سكران. وحكى عنمالك نحوه. قيل: وفي الآية دلالة على أن الشرب كان مباحاً في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر.وقال القفال: يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية، وأما ما يزيل العقلحتى يصير صاحبه في حالة الجنون والإغماء فما أبيح قصده، بل لو أنفق من غير قصد كان مرفوعاً عن صاحبه.{وَلاَ جُنُباً } هذه حالة معطوفة على قوله: وأنتم سكارى. إذ هي جملة حالية، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير،فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو: ولا جنباً. ودخول لا دالٌ على مراعاة كل قيدمنهما بانفراده. وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده، فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين، وأدخل فيالحظر. والجنب: هو غير الصحابة: لا غسل إلا على من أنزل، وبه قال الأعمش وداود. وهي مسألة تذكر أدلتها فيعلم الفقه. والجنب من الجنابة وهي البعد، كأنه جانب الطهر، أو من الجنب كأنه ضاجع ومس بجنبه. قال الزمخشري:الجنب يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى. والذي ذكره هو المشهورفي اللغة والفصيح، وبه جاء القرآن. وقد جمعوه جمع سلامة بالواو وإلنون قالوا: قوم جنبون، وجمع تكسير قالوا: قوم أجناب.وأما تثنيته فقالوا: جنبان. {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } العبور: الخطور والجواز، ومنه ناقة عبر الهواجر وعبر أسفار قال:

عيرانه سرح اليدين شمله     عبر الهواجر كالهجف الخاضب

وعابر السبيل هو المارّ في المسجد من غير لبث فيه، وهومذهب الشافعي قال: يمرّ فيه ولا يقعد فيه. وقال الليث: لا يمرّ فيه إلا إن كان بابه إلى المسجد. وقالأحمد وإسحاق: إذا توضأ الجنب فلا بأس به أن يقعد في المسجد. وقال الزمخشري: من فسر الصلاة بالمسجد قال: معناهلا تقربوا المسجد جنباً إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه، أو احتلمتم فيه.وقيل: إنّ رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّاً إلا في المسجد، فرخص لهم.وروي أن رسول الله : لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أن يمرّ فيه وهو جنب، إلا لعلي. لأنه بيته كان في المسجد وقال عليّ وابن عباس أيضاً وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم: عابر السبيل المسافر،فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم وهو مذهب أبي حنيفة، وأبييوسف، ومحمد، وزفر، قالوا: لا يدخل المسجد إلا الطاهر سواء أراد القعود فيه أم الاجتياز، وهو قول: مالك والثوري وجماعة.ورجح هذا القول بأن قوله: لا تقربوا الصلاة يبقى على ظاهره، وحقيقته بخلاف تأويل مواضع الصلاة فإنه مجاز، ولا يعدلإليه إلا بعد تعذر حمل الكلام على حقيقته. وليس في المسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر،وفي الصلاة قراءة مشروطة يمنع لأجل تعذر إقامتها من فعل الصلاة. وسمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق، كما سميابن السبيل. وأفاد الكلام معنيين: أحدهما: جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به. والثاني: أن التيمم لايرفع الجنابة، لأنه سماه جنباً مع كونه متيمماً. وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري الآية أولاً فقال: إلا عابري سبيل، الاستثناءمن عامة أحوال المخاطبين، وانتصابه على الحال. فإن قلت: كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لاتقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر وعبور السبيل عبارة عنه. ويجوز أنلا يكون حالاً ولكن صفة كقوله: جنباً أي: ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل، أي: جنباً مقيمين غير معذورين.فإن قلت: كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد بالجنب الذين لم يغتسلوا، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاةغير مغتسلين حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين انتهى كلامه. ومن قال: بمنع الجنب من المرور في المسجد والجلوس فيهتعظيماً له، فالأولى أن يمنعه والحائض من قراءة القرآن، وبه قال الجمهور، فلا يجوز لهما أن يقرآ منه شيئاً سواءكان كثيراً أم قليلاً حتى يغتسلا، ورخص مالك لهما في الآية اليسيرة للتعوذ، وأجاز للحائض أن تقرأ مطلقاً إذا خافتالنسيان عند الحيض، وذكروا هذه المسألة ولا تعلق لها في التفسير بلفظ القرآن. {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } هذه غاية لامتناعالجنب من الصلاة، وهي داخلة في الحظر إلى أن يوقع الاغتسال مستوعباً جميعه. والخلاف: هل يدخل في ماهية الغسل إمراراليد أو شبهها مع الماء على المغسول؟ فلو انغمس في الماء أو صبه عليه فمشهور مذهب مالك: أنه لا يجزئهحتى يتدلك، وبه قال المزني: ومذهب الجمهور: أنه يجزئه من غير تدلك. وهل يجب في الغسل تخليل اللحية؟ فيه عنمالك خلاف. وأما المضمضة والاستنشاق في الغسل فذهب أبو حنيفة إلى فرضيتهما فيه لا في الوضوء. وقال ابن أبي ليلىوإسحاق وأحمد وبعض أصحاب داود: هما فرض فيهما. وروي عن عطاء، والزهي وقال مجاهد وجماعة من التابعين، ومالك، والأوزاعي، والليث،والشافعي، ومحمد بن جرير: ليسا بفرض فيهما. وروي عن أحمد: أن المضمضة سنة، والاستنشاق فرض، وقال به بعض أصحاب داود.وظاهر قوله: حتى تغتسلوا حصول الاغتسال، ولم يشترط فيه نية الاغتسال، بل ذكر حصول مطلق الاغتسال، وبه قال أبو حنيفةوأصحابه في كل طهارة بالماء. وروي هذا الوليد بن مسلم عن مالك، ومشهور مذهبه أنه لا بد من النية، وبهقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ أَوْلَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } قال الجمهور: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع، حين أقام علىالتماس العقد. وقال النخعي: في قوم أصابتهم جراح وأجنبوا. وقيل: كان ذلك عبد الرحمن بن عوف، ومرضى يعني في الحضر.ويدل على مطلق المرض قل أو كثر، زاد أو نقص، تأخر برؤه أو تعجل، وبه قال داود. فأجاز التيمم لكلمن صدق عليه مطلق الاسم. وخصص العلماء غيره المرض بالجدري، والحصبة، والعلل المخوف عليها من الماء فقالوا: إن خاف تيممبلا خلاف، إلا ما روي عن عطاء والحسن: أنه يتطهر وإن مات، وهما محجوجان بحديث عمرو بن العاص في غزوةذات السلاسل، وأنه أشفق أن يهلك إن اغتسل فتيمم، فأقرّه الرسول على ذلك، خرجه أبو داودوالدارقطني. وإن خاف حدوث مرض أو زيادته، أو تأخر البرء، فذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه يتيمم. وقال الشافعي:لا يجوز، وقيل: الصحيح عن الشافعي أنه إذا خاف طول المرض جاز له التيمم. وظاهر قوله تعالى: أو على سفرمطلق السفر، فلو لم يجد الماء في الحضر جاز له التيمم عند مالك وأبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي والطبري: لايتيمم. وقال الليث والشافعي أيضاً: إن خاف فوت الوقت تيمم وصلى، ثم إذا وجد الماء أعاد. وقال أبو يوسف وزفر:لا يتيمم إلا لخوف الوقت. والسفر المبيح عند الجمهور مطلق السفر، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر.وشرط قوم سفراً تقصر فيه الصلاة، وشرط آخرون أن يكون سفر طاعة. وقال أبو حنيفة: لو خرج من مصره لغيرسفر فلم يجد الماء جاز له التيمم، وقد المسافة أن يكون بينه وبين الماء ميل. وقيل: إذا كان بحيث لايسمع أصوات الناس، لأنه في معنى المسافر. فلو وجد ماء قليلاً إن توضأ به خاف على نفسه العطش تيمم علىقول الجمهور، فلو وجده بثمن مثله فلا خلاف أنه يلزمه شراؤه، أو بما زاد. فمذهب أبي حنيفة والشافعي. يتيمم. ومذهبمالك: يشتريه بماله كله ويبقى عديماً. فلو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع أو غير ذلك مما يحول فكالعادمللماء. ومجيئه من الغائط كناية عن الحدث بالغائط، وحمل عليه الريح والبول والمني والودي، لا خلاف أن هذه الستةأحداث. وقد اختلفوا في أشياء ذكرت في كتب الفقه. وقرأ ابن مسعود: من الغيط وخرج على وجهين: أحدهما: أنه مصدرإذ قالوا: غاط يغيط. والثاني: أن أصله فيعل، ثم حذف كميت. واختلفوا في تفسير اللمس، فقال عمرو بن مسعود وغيرهما:هو اللمس باليد، ولا ذكر للجنب إنما يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. قال أبو عمر: لم يقل بقولهمأحد من فقهاء الأمصار لحديث عمار، وأبي ذر، وعمران بن حصين في تيمم الجنب. وقال علي وابن عباس والحسن ومجاهدوقتادة: المراد الجماع، والجنب يتيمم. ولا ذكر للامس بيده، وهو مذهب أبي حنيفة. فلو قبل ولو بلذة لم ينتقض الوضوء.وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، وكذا باليد إذا التذ فإن لمس بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد وإسحاق. وقالالشافعي: إذا أفضى بشيء من جسده إلى بدن المرأة نقض الطهارة، وهو قول: ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة، وعبيدة،والشعبي، وابراهيم، ومنصور، وابن سيرين. وقال الأوزاعي: إن كان باليد نقض وإلا فلا. وقرأ حمزة، والكسائي: لمستم وباقي السبعة بالألف،وفاعل هنا موافق فعل المجرّد نحو: جاوزت الشيء وجزته، وليست لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظاً، والاشتراك فيهما معنى، وقد حملها الشافعيّعلى ذلك في أظهر قوليه. فقال: الملموس كاللامس في نقض الطهارة. وقوله: أو على سفر في موضع نصبعطفاً على مرضى. وفي قوله: أو جاء، أو لامستم دليل على جواز وقوع الماضي خبراً لكان من غير قد وادّعاءإضمارها تكلف خلافاً للكوفيين لعطفها على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر. فلم تجدوا ماء الضمير عائد على من أسندإليهم الحكم في الأخبار الأربعة. وفيه تغليب الخطاب إذ قد اجتمع خطاب وغيبة، فالخطاب: كنتم مرضى، أو على سفر، أولامستم. والغيبة قوله: أو جاء أحد. وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة، لأنه لما كنى عن الحاجة بالغائط كره إسنادذلك إلى المخاطبين، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله: أو جاء أحد، وهذا من أحسن الملاحظات وأجمل المخاطبات. ولما كانالمرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب. وظاهر انتفاء الوجدان سبق تطلبه وعدم الوصول إليه،فأما في حق المريض فجعل الموجود حساً في حقه إذا كان لا يستطيع استعماله كالمفقود شرعاً، وأما غيره باقي الأربعةفانتفاء وجدان الماء في حقهم هو على ظاهره. وفلم تجدوا معطوف على فعل الشرط فتيمموا صعيداً طيباً هذا جواب الشرط،أمر الله تعالى بالتيمم عند حصول سبب من هذه الأسباب الأربعة وفقدان الماء. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف نظمفي سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء، والجنابةسبب لوجوب الغسل؟ (قلت): أراد سبحانه وتعالى أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون للماء في التيمم والتراب، فخصأولاً من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم، لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبةللرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو، أو سبع، أو عدم آلة استقاء، أو إرهاقفي مكان لا ماء فيه، أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر انتهى. وفيه تفسيره: أو لامستم النساءأنه أريد به الجماع الذي تترتب عليه الجنابة، فسر ذلك على مذهب أبي حنيفة، ولم ينقل غيره من المذاهب. وملخصما طول به: أنه اعتذر عن تقديم المرض والسفر بما ذكر. ومن يحمل اللمس على ظاهره يقول: إن هذا منباب الترقي من الإقل إلى الأكثر، لأن حالة المرض أقل من حالة السفر، وحالة السفر أقل من حالة قضاء الحاجة،وحالة قضاء الحاجة أقل من حالة لمس المرأة. ألا ترى أن حالة الصحة غالباً أكثر من حال المرض، وكذا فيسائر البواقي؟. قال أبو عبيدة والفراء: الصعيد التراب. وقال الليث: الصعيد الأرض المستوية لا شيء فيها من غراس ونبات،وهو قول قتادة، قال: الصعيد الأرض الملساء. وقال الخليل: الصعيد ما صعد من وجه الأض، يريد وجه الأرض. وقال الزجاج:الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه زاد غيره: أو رملاً، أو معدناً، أوسبخة. والطيب الطاهر وهذا تفسير طائفة، ومذهب أبي حنيفة ومالك واختيار الطبري. ومنه

{ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ }

أي طاهرينمن أدناس المخالفات. وقال قوم: الطيب هنا الحلال، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال الشافعي وجماعة: الطيب المنبت، وقاله ابن عباسلقوله تعالى:

{ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ }

فالصعيد على هذا التراب. وهؤلاء يجيزون التيمم بغير ذلك، فمحل الإجماع هو أنيتيمم بتراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومحل المنع إجماعاً هو: أن يتيمم على ذهب صرف، أو فضة، أوياقوت، أو زمرد، وأطعمة كخبز ولحم، أو على نجاسة، واختلف في المعادن: فأجيز، وهو مذهب مالك، ومنع وهو مذهب الشافعي.وفي الملح، وفي الثلج، وفي التراب المنقول، وفي المطبوخ كالآجر، وعلى الجدار، وعلى النبات، والعود، والشجر خلاف. وأجاز الثوري وأحمدبغبار اليد. وقال أحمد وأبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل، والجمهور على إجازته بالسباخ، إلا ابن راهويه. وأجاز ابنعلية وابن كيسان التيمم بالمسك والزعفران. وظاهر الكلام: أنّ التيمم مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب، فمتى حصلت هذهالكيفية حصل التيمم. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً بين الوجه واليدين والباء في بوجوهكم مما يعدى بها الفعل تارة، وتارةبنفسه. حكى سيبويه: مسحت رأسه وبرأسه، وخشنت صدره وبصدره على معنى واحد. وظاهر مسح الوجه التعميم، فيمسحه جميعه كما يغسلهبالماء جميعه. وأجاز بعضهم أن لا يتتبع الغضون. وأما اليدان فظاهر مسحهما تعميم مدلولهما، وهي تنطلق لغة إلى المناكب، وبهقال ابن شهاب، قال: يمسح إلى الآباط، وروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي سنن أبي داود:«أنه عليه السلام مسح إلى انصاف ذراعيه» قال ابن عطية: لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت انتهى. وذهب أبوحنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث: أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضاً واجباً، وهو قول: جابر، وابن عمر،والحسن، وابراهيم. وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان، وهو: قول علي، وعطاء، والشعبي، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد،وإسحاق، وداود بن علي، والطبري، والشافعي في القديم، وروي عن مالك. وذهب الشعبي إلى أنه يمسح كفيه فقط، وبه قالبعض فقهاء الحديث، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث. ففي مسلم من حديث عمار إنما كان يكفيك أن يضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك وعنه في هذا الحديث: وضرب بيده الأرض فنفض يديه، فمسح وجهه وكفيه وللبخاري: أدناهما من فيه، ثم مسح بهما وجهه وكفيه وفي مسلم أيضاً: أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه وعند أبي داود فضرب بيده الأرض فقبضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه . فهذه الأحاديث الصحيحة مبينة ما تطرقإليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته. وظاهر هذه الأحاديث الصحيحة وظاهر الآية يدل على الاجتزاء بضربة واحدةللوجه واليدين، وهو قول: عطاء والشعبي في رواية، والأوزاعي في الأشهر عنه، وأحمد وإسحاق وداود والطبري. وذهب مالك في المدوّنة،والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، والثوري، والليث، وابن أبي سلمة: إلى وجوب ضربتين ضربة للوجه، وضربة لليدين، وذهبابن أبي ليلى والحسن إلى أنه ضربتان، ويمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، ولم يقل بذلك أحد من أهلالعلم غيرهما. وأحكام التيمم ومسائله كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ولم يذكر في هذه السورة منه، وذكر ذلك في المائدة،فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ولذلكقال الزمخشري: (فإن قلت): فما تصنع بقوله في سورة المائدة:

{ فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ }

أي بعضه وهذا لا يتأتىفي الصخر الذي لا تراب عليه؟ (قلت): قالوا: إنها أي من لابتداء الغاية (فإن قلت): قولهم أنها لابتداء الغاية قولمتعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب، إلا معنى التبعيض(قلت): هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } كناية عن الترخيص والتيسير،لأن مَن كانت عاته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أِّن يكون ميسراً غير معسر انتهى كلامه. والعجب منهإذ أذعن إلى الحق، وليس من عادته، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ماتقرر من مذهبه. وأيضاً فكلامه أخيراً حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، العجب له إذ لم يقيدذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } * { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } * { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }[عدل]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } قال قتادة: نزلت فياليهود. وفي رواية عن ابن عباس: في رفاعة بن زيد بن التابوت. وقيل: في غيره من اليهود. ومناسبة هذه الآيةلما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الآخرة، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوّى بهم الأرض ولايكتمون الله حديثاً، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة، وذكر أحوالهم في الدنيا وماهم عليه من معاداة المؤمنين، وكيف يعاملون رسول الله الذي يأتي شهيداً عليهم وعلى غيرهم. ولماكان اليهود أشد إنكاراً للحق، وأبعد من قبول الخير. وكان قد تقدّم أيضاً الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون، وهمأشد الناس تحلياً بهذين الوصفين، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم. وتقدم تفسير ألم تر إلى الذين في قوله تعالى:

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ }

فأغنى عن إعادته.. والنصيب: الحظ. ومن الكتاب: يحتمل أن يتعلق بأوتوا، ويحتمل أن يكونفي موضع الصفة لنصيباً. وظاهر لفظ الذين أوتوا، يشمل اليهود والنصارى، ويكون الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل. وقيل: الكتاب هناالتوراة، والنصيب قيل: بعض علم التوراة، لا العمل بما فيها. وقيل: علم ما هو حجة عليهم منه فحسب. وقيل: كفرهمبه. وقيل: علم نبوّة محمد . {يَشْتَرُونَ ٱلضَّلـٰلَةَ } المعنى: يشترون الضلالة بالهدى، كما قال:

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }

. قال ابن عباس: استبدلوا الضلالة بالإيمان. وقال مقاتل: استبدلوا التكذيب بالنبي بعد ظهوره بإيمانهمبه قبل ظهوره واستنصارهم به انتهى. ودل لفظ الاشتراء على إيثار الضلالة على الهدى، فصار ذلك بغياً شديداً عليهم، وتوبيخاًفاضحاً لهم، حيث هم عندهم حظ من علم التوراة والإنجيل، ومع ذلك آثروا الكفر على الإيمان. وكتابهم طافح بوجوب اتباعالنبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وقيل: اشتراء الضلالة هنا هو ما كانوا يبذلون من أموالهم لأحبارهمعلى تثبيت دينهم قاله: الزجاج. {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } أي: لم يكفهم أن ضلوا في أنفسهم حتى تعلقتآمالهم يضلا لكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهواأن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق، فأرادوا أن يضلوا كما ضلوا هم كما قال تعالى:

{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء }

وقرأ النخعي: وتريدون بالتاء باثنتين من فوق، قيل: معناه وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل أي: تدعونالصواب في اجتنابهم، وتحسبونهم غير أعداء الله. وقرىء: أن يضلوا بالياء وفتح الضاد وكسرها. {وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } فيه تنبيهعلى الوصف المنافي لوداد الخير للمؤمنين وهي العداوة. وفيه إشارة إلى التحذير منهم، وتوبيخ على الاستنامة إليهم والركون، والمعنى: أنهتعالى قد أخبر بعداوتهم للمؤمنين، فيجب حذرهم كما قال تعالى:

{ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ }

واعلم على بابها من التفضيل، أي:أعلم بأعدائكم منكم. وقيل: بمعنى عليم، أي عليم بأعدائكم. {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } ومن كان اللهوليه ونصيره فلا يبالي بالأعداء، فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم، فإنه ينصركم عليهم، ويكفيكم مكرهم. وقيل: المعنىولياً لرسوله، نصيراً لدينه. والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال: سحيم:

كفــى الشـيب والإسـلام للمـرء نـاهيـا    

وزيادتهافي فاعل كفى وفاعل يكفى مطردة كما قال تعالى:

{ أَوَ لَمْ * يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ }

وقال الزجاج: دخلت الباء في الفاعل، لأن معنى الكلام الأمر أي: اكتفوا بالله. وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة،ولا يصح ما قال من المعنى، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون، ويكون بالله متعلقاً به. وكون الباءدخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون، فتناقض قوله. وقال ابن السراج: معناه كفى الاكتفاء بالله،وهذا أيضاً يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى. وهذا أيضاً لا يصح لأنّفيه حذف المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله:

هل تذكرنّ إلى الدّيرين هجرتكم     ومسحكم صلبكم رحمان قربانا

التقدير: وقولكم يا رحمن قرباناً. وقال ابن عطية: بالله في موضع رفعبتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر، أي: اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك.وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج، وهو أفسد من قول الزجاج، لأنه زاد على تناقض اختلافالفاعل اختلاف معنى الحرف، إذ بالنسبة لكون الله فاعلاً هو زائد، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد.وقال ابن عيسى: إنما دخلت الباء في كفى بالله لأنه كان يتصل الفاعل وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل،لأن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره، فضوعف لفظها المضاعفة معناها، وهو كلام يحتاج إلى تأويل. وقد تقدم الكلام علىكفى بالله في قوله:

{ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }

لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد: نقول: ورد بعضها.وانتصاب ولياً ونصيراً قيل: على الحال. وقيل: على التمييز، وهو أجود لجواز دخول من. {مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَعَن مَّوَاضِعِهِ } ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ، ومن الذين خبره، والتقدير:من الذين خبره، والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، وهذا مذهب سيبويه، وأبى عليّ، وحذف الموصوف بعد من جائزوإن كانت الصفة فعلاً كقولهم: منا ظعن، ومنا أقام أي: منا نفر ظعن، ومنا نفر أقام. وقال الشاعر:

وما الدهر إلا تارتان فمنهما     أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

يريد: فمننهما تارة أموت فيها. وخرّجه الفرّاء علىإضمار من الموصولة أي: من الذين هادوا من يحرفون الكلم، وهذا عند البصريين لا يجوز. وتأولوا ما جاء مما يشبههذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، قال الفرّاء: ومثله قول ذي الرّمة:

فظلوا ومنهم دمعه سابق لها     وآخر يثني دمعة العين باليد

وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولاً، بل يترجحأن يكون موصوفاً لعطف النكرة عليه وهو آخر، إذ يكون التقدير: فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها. وقيل: هو علىإضمار مبتدأ التقدير: هم من الذين هادوا، ويحرفون حال من ضمير هادوا، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله، فقيل: بنصيراًأي نصيراً من الذين هادوا، وعداه بمن كما عداه في:

{ وَنَصَرْنَـٰهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ }

و

{ فمن ينصرنا من بأس الله }

ومنعناهوفمن يمنعنا. وقيل: من الذين هادوا بيان لقوله: بأعدائكم، وما بينهما اعتراض. وقيل: حال من الفاعل في يريدون قاله أبوالبقاء. قال: ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداً لا يكون له أكثر من حالواحدة، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض، ولا يكون حالاً من الذين لهذا المعنى انتهى. وما ذكره من أنذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك. وقيل:من الذين هادوا بيان {*} ومنعناه وفمن يمنعنا. وقيل: من الذين هادوا بيان لقوله: بأعدائكم، وما بينهما اعتراض. وقيل: حالمن الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء. قال: ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداًلا يكون له أكثر من حال واحدة، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض، ولا يكون حالاً من الذين لهذاالمعنى انتهى. وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة، مسئلة خلاففمن النحويين من أجاز ذلك. وقيل: من الذين هادوا بيان

{ لِلَّذِينَ أُوتُواْ * نَصِيباً مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ }

لأنهم يهود ونصارى،وقوله:

{ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ }

{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً }

{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً }

جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيلالاعتراض قاله الزمخشر، وبدأ به. ويضعفه أن هذه جمل ثلاث، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين، فأحرى أنيمنع أن يعترض بثلاث. يحرفون الكلم أي: كلم التوراة، وهو قول الجمهور. أو كلم القرآن وهو قول طائفة، أوكلم الرسول وهو قول ابن عباس. قال: كان اليهود يأتون النبي ويسألونهعن الأمر فيخبرهم، ويرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا الكلام. وكذا قال مكي: إنه كلام النبي صلىالله عليه وسلم. فتحريف كلم التوراة بتغيير اللفظ، وهو الأقل لتحريفهم أسمر ربعة في صفته عليه السلام بآدم طوال مكانه،وتحريفهم الرجم بالحديد له، وبتغيير التأويل، وهو الأكثر قاله الطبري. وكانوا يتأوّلون التوراة بغير التأويل الذي تقتضيه معاني ألفاظها الأموريختارونها ويتوصلون بها إلى موال سفلتهم، وأن التحريف في كلم القرآن أو كلم الرسول فلا يكون إلا في التأويل.وقرىء: يحرّفون الكلم بكسر الكاف وسكون اللام، جمع كلمة تخفيف كلمة. وقرأ النخعي وأبو رجاء: يحرفون الكلام، وجاء هنا عنمواضعه. وفي المائدة جاء:

{ عَن مَّوٰضِعِهِ }

وجاء

{ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ }

. قال الزمخشري: أما عن مواضعه فعلى مافسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأما منبعد مواضعه: فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بان يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع لهبعد مواضعه ومقاره، والمعنيان متقاربان انتهى. والذي يظهر أنهما سياقان، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان، وإظهار العداوة، واشترائهم الضلالة، ونقضالميثاق، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه. ألا ترى إلى قوله:

{ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }

وقوله:

{ فِيمَا * نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ لَعنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ }

فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها، ولم تستقرفي مواضعها، فيكون التحريف بعد استقرارها، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة. وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول فيبعض الأمر، جاء من بعد مواضعه. ألا ترى إلى قوله:

{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ }

وقوله بعد:

{ فَانٍ * جَاءوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }

فكأنهم لم يبادروا بالتحريف، بل عرض لهم التحريف بعداستقرار الكلم في مواضعها. وقد يقال: أنهما شيئان، لكنه حذف هنا. وفي أول المائدة: من بعد مواضعه، لأن قوله: عنمواضعه يدل على استقرار مواضع له، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه. لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنهتحريف عن مواضعه، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه. فحذف هنا البعدية، وهناك حذف عنها. كل ذلك توسع في العبارة،وكانت البداءة هنا بقوله: عن مواضعه، لأنه أخضر. وفيه تنصيص باللفظ على عن، وعلى المواضع، وإشارة إلى البعدية. {وَيَقُولُونَسَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: سمعنا قولك، وعصينا أمرك، أو سمعناه جهراً، وعصيناه سراً قولان. والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلىالله عليه وسلم مبالغة منهم في عتوهم في الكفر، وجرياً على عادتهم مع الأنبياء. ألا ترى إلى قوله:

{ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }

. {وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } هذا الكلام غير موجه، ويحتمل وجوهاً. والظاهر أنهمأرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله: سمعنا وعصينا، فيكون معناه: اسمع لا سمعت. دعوا عليه بالموت أوبالصمم، وأرادوا ذلك في الباطن، وأرادوا في الظاهر تعظيمه بذلك. إذ يحتمل أن يكون المعنى: واسمع غير مأمور وغير صالحأن تسمع مأموراً بذلك. وقال الزمخشري: أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه: غير مسمع جواباً يوافقك، فكأنكلم تسمع شيئاً انتهى، وقاله ابن عباس. قال الزمخشري: أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز علىهذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع، أي: اسمع كلاماً غير مسمع إياك، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه. ويحتملالمدح أي: اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك: أسمع فلان فلاناً إذا سبه. قال ابن عطية: ومن قال: غير مسمعغير مقبول منك، فإنه لا يساعده التصريف، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى. ووجه أن التصريف لا يساعد عليههو أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك، وإنما تقول: سمعت منك بمعنى قبلت، فيعبرون عن القبول بالسماع علىجهة المجاز، لا بالأسماع. ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ: واسمع غير مسموع منك. {وَرٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْوَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى:

{ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا رٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ }

أي فتلا بها. وتحريفاً عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروهاً. أويفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً. وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر فياسمع، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولاً في أحد التقادير، وانتصاب لياً وطعناً على المفعول من أجله. وقيل: هما مصدرانفي موضع الحال أي: لاوين وطاعنين. ومعنى: وطعنا في الدين، أي باللسان. وطعنهم فيه إنكار نبوّته، وتغيير نعته، أو عيبأحكام شريعته، أو تجهيله. وقولهم: لو كان نبياً لدرى أنا نسبه، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة. قال ابنعطية: وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة،إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى. وهو يحكي عن يهود الأندلس، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر علىهذه الطريقة، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير. قالالزمخشري: (فإن قلت): كيف جاؤا بالقول المحتمل ذي الوجهين، بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ (قلت): جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفروالعصيان، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوابه جعلوا كأنهم نطقوا به. {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } أي: لوتبدّلوا بالعصيان الطاعة، ومن الطاعة الإيمان بك، واقتصروا على لفظ اسمع، وتبدلوا براعنا قولهم: وانظرنا، فعدلوا عن الألفاظ الدالة علىعدم الانقياد، والموهمة إلى ما أمروا به، لكان أي: ذلك القول، خيراً لهم عند الله وأعدل أي: أقوم وأصوب. قالعكرمة ومجاهد وغيرهما: أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك، كما قال الحطيئة:

وقد نظرتكم أثناء صادرة     للخمس طال بها مسحى وابساسي

وقالت فرقة: معناه انظر إلينا، وكأنه استدعاءاهتبال وتحف منهم. ومنه قول ابن قيس الرقيان:

ظــاهــرات الــجــمــال والــحســـــن ينظرن كما تنظر الاراك الظباء    

وقرأأبي: وأنظرنا من الأنظار وهو الإمهال. قال الزمخشري: المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأقوموأعدل وأسد انتهى. فسبك من أنهم قالوا مصدراً مرتفعاً بثبت على الفاعلية، وهذا مذهب المبرد خلافاً لسيبويه. إذ يرى سيبويهأنّ أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ، وهل الخبر محذوف، أم لا يحتاج إلى تقدير خبرلجريان المسند والمسند إليه في صلة أن؟ قولان أصحهما هذا. فالزمخشري وافق مذهب المبرد، وهو مذهب مرجوح في علم النحو.{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي: أبعدهم الله عن الهدى بسبب كفرهم السابق. وقال الزمخشري: أي خذلهم بسبب كفرهموأبعدهم عن ألطافه انتهى. وهذا على طريقة الاعتزالي. {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من ضمير المفعول في لعنهمأي: إلا قليلاً لم يلعنهم فآمنوا، أو استثناء من الفاعل في: فلا يؤمنون، أي: إلا قليلاً فآمنوا كعبد الله بنسلام، وكعب الأحبار، وغيرهما. أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: فلا يؤمنون أي: إلا إيماناً قليلاً قلله إذآمنوا بالتوحيد، وكفروا بمحمد وبشرائعه. وقال الزمخشري: إلا إيماناً قليلاً أي: ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به،وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره. وأراد بالقلة العدم كقوله: قليل التشكي للهموم تصيبه. أي عديم التشكي. وقالابن عطية: من عبر بالقلة عن الإيمان قال: هي عبارة عن عدمه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قلما تنبتكذا، وهي لا تنبته جملة. وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح فينفسه، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه. فإذا قلت: لا أقوم إلا قليلاً، لم يوضع هذا لانتقاء القيام ألبتة،بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك. وإذا قلت: قلما يقوم أحد إلا زيد، وأقل رجليقول ذلك احتمل هذا، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير، واحتمل أن يراد به النفي المحض. وكأنك قلت: ما يقومأحد إلا زيد، وما رجل يقول ذلك. إمّا أن تنفى ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي، فلاإذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير، جيء بها لغواً لا فائدة فيه، إذ الانتفاء قد فهم من قولك:لا أقوم. فأيُّ فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة، وأيضاً، فإنه يؤدي إلى أنه يكونما بعد إلا موافقاً لما قبلها في المعنى. وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقاً لما قبلها، وظاهرقوله: فلا يؤمنون إلا قليلاً، إذا جعلناه عائداً إلى الإيمان، إنّ الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة، فيزيد وينقص، والجواب: إن زيادتهونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها. وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع. قالوا: التجوز بإطلاق الشيء علىما يقاربه في المعنى في قوله: إن الله لا يظلم، أطلق الظلم على انتقاص الأجر من حيث أن نقصه عنالموعود به قريب في المعنى من الظلم. والتنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله: مثقال ذرة. والإبهامفي قوله: يضاعفها، إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر. والسؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع، أو تقريره لنفسه في: فكيفإذا جئنا. والعدول من بناء إلى بناء لمعنى في: بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً. والتجنيس المماثل في: وجئنا وفي:وجئنا وفي: بشهيد وشهيداً. والتجنيس المغاير: في واسمع غير مسمع. والتجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في: من الغائط. والكنايةفي: أو لامستم النساء. والتقديم والتأخير في: إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى قوله: فتيمموا. والاستفهام المراد به التعجب في:ألم تر. والاستعارة في: يشترون الضلالة. والطباق في: هذا أي بالهدى، والطباق الظاهر في: وعصينا وأطعنا. والتكرار في: وكفى باللهولياً، وكفى بالله، وفي سمعنا وسمعنا. والحذف في عدة مواضع.

{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } * { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } * { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } * { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً } * { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } * { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }[عدل]

طمس: متعد ولازم. تقول: طمس المطر الأعلام أي محا آثارها، وطمست الأعلام درست،وطمس الطريق درس وعفت أعلامه قاله: أبو زيد. ومن المتعدّي: {وَإِذَا ٱلنُّجُومُ * طُمِسَتْ } أي استؤصلت. وقال ابن عرفةفي قوله: اطمس على أموالهم أي أذهبها كلية، وأعمى مطموس أي: مسدود العينين. وقال كعب:

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت     عرضتها طامس الأعلام مجهول

والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى. الفتيل: فعيل بمعنىمفعول. فقيل: هو الخيط الذي في شق نواة التمرة. وقيل: ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما.الجبت: اسم لصنم ثم صار مستعملاً لكل باطل، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي. وقال قطرب: الجبت الجبس،وهو الذي لا خير عنده، قلبت السين تاء. قيل: وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل. النقير: النقطة التي على ظهرالنواة منها تنبت النخلة قاله: ابن عباس. وقال الضحاك: هو البياض الذي في وسطها. النضج: أخذ الشيء في التهري وتفرقأجزائه، ومنه نضج اللحم، ونضج الثمرة. يقال: نضج الشيء ينضج نضجاً ونضاجاً. الجلد معروف. {قَلِيلاً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } دعا رسول الله أحبار اليهود منهم عبد الله بنصوريا إلى الإسلام وقال لهم: إِنَّكُمْ * لتعلمون أن الذي جئت به حق فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت. قاله ابنعباس. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله:

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ } الآية. خاطب من يرجىإيمانه منهم بالأمر بالإيمان، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به، ثم أزال خوفهم منسوء الكبائر السابقة بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية. وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهمبه الله لا ينفع. والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود، والكتاب التوراة قاله: الجمهور، أو اليهود والنصارى قاله: الماوردي وابنعطية. والكتاب التوراة والإنجيل، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدلومغير من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدباها. قرأ الجمهور: نطمس بكسر الميم. وقرأ أبو رجاء: بضمها. وهما لغتان،والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي، وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي: هو أن تزال العينان خاصة منها وتردفي القفا، فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشي القهقرى. وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي: من قبل أننطمس عيون وجوه، ولا يراد بذلك مطلق وجوه، بل المعنى وجوهكم. وقالت طائفة: طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منهافترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي: خلوه من الحواس. دثر الوجهلكونه عابراً بها، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه، فقال: إن نطمس وجوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجبوأنف وفم، فنردها على أدبارها، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهمتوعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها، فالمعنى: أن نطمس وجوهاً فننكسها الوجوه إلى خلف، والإقفاء إلىقدام انتهى. والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس، واختاره القتبي. وقال قتادة والضحاك: معناه نعمى أعينها. وذكرالوجوه وأراد العيون، لأن الطمس من نعوت العين. قال تعالى: { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } . ويروى هذا أيضاً عن ابن عباس. وقالالفراء: طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة. وقيل: ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة. وقال مجاهد والسدّي والحسن.ذلك تجوز، والمراد وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر. وقال ابن زيد:الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها إخراجهم منها. والرد على الإدبار رجوعهم إلى الشام من حيثأتوا أولاً. وحسّن الزمخشري هذا القول، فقال: ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبهاحجارة، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، وتكسوها صغارهم وأدبارهم، أو نردهم إلىحيث جاؤا منه. وهي أذرعات الشام، يريد إجلاء بني النضير انتهى. {أَوْ نَلْعَنَهُمْ } هو معطوف على قوله: أننطمس. وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله: { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } . وقال الحسن: معناه نمسخهم كما مسخناأصحاب السبت. وقال ابن عطية: هم أصحاب ايلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد، وكانت لعنتهم إن مسخوا خنازير وقردة. وقيل:معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم. وظاهر قوله: من قبل أن نطمس أو نلعن، أنَّ ذلك يكون فيالدنيا. ولذلك روي أنَّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي قبلأن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهيفي قفاي. وقال مالك: كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية، فوضع كفه علىوجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وقيل: الطمسالمسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد. وقيل: المراد أنه يحل بهم في القيامة، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بينالأوّلين والآخرين، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب. وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة، وإمّا إن أريدبذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد، فقد وقع ذلك. وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن، فإنهم ملعونون بكل لسان. وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما، بل متى وقع أحدهما صح التعليق، ولايلزم من ذلك تعيين أحدهما. وقيل: الوعيد مشروط بالإيمان، وقد آمن منهم ناس. ومن قبل: متعلق بآمنوا، وعلى أدبارها متعلقبفنردها. وقال أبو البقاء: على أدبارها حال من ضمير الوجوه، والضمير المنصوب في نلعنهم. قيل: عائد على الوجوهإن أريد به الوجهاء، أو عائد على أصحاب الوجوه، لأن المعنى: من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو على الذينأوتوا الكتاب على طريق الالتفات، وهذا عندي أحسن. ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفاً لهم،وهز السماع ما يلقيه إليهم، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل، ثم ذكر أنّ الذي نزل هو مصدق لمامعهم من كتاب، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله: من قبلأن نطمس وجوهاً والمعنى: وجوهكم، ثم عطف عليه قوله: أو نلعنهم، فأتى بضمير الغيبة، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمسالوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصيرأدعى إلى عدم القبول، وهذا من جليل المخاطبة. وبديع المحاورة. {وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } الأمر هنا واحد الأمور،واكتفى به لأنه دال على الجنس، وهو عبارة عن المخلوقات: كالعذاب، واللعنة، والمغفرة. وقيل: المراد به المأمور، مصدر وقع موقعالمفعول، والمعنى: الذي أراده أوجده. وقيل: معناه أنَّ كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى: أنه تعالى لايتعذر عليه شيء يريد أن يفعله. وقال: وكان إخباراً عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة، وأنَّ ذلك واقعلا محالة، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد. ولذلك قال الزمخشري: ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لميؤمنوا يعني: الطمس واللعنة. {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } قالابن الكلبي: نزلت في وحشي وأصحابه، وكان جعل له على قتل حمزة رضي الله عنه أن يعتق، فلم يوف له،فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله : إنا قد ندمنا علىما صنعنا، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ } الآياتوقد دعونا مع الله إلهاً آخر، وقتلنا النفس التي حرم الله، وزنينا، فلولا هذه الآيات لاتبعناك، فنزلت: { إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ } الآيات، فبعث بها إليهم فكتبوا: إنَّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً، فنزلت إنالله لا يغفر أن يشرك به الآية، فبعث بها إليهم، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت: { قُلْ يٰأَهْلَ * عِبَادِى * ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } الآيات فبعث بها إليهم، فدخلوافي الإسلام، فقبل منهم ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت حمزة»؟ فلما أخبره قال: {حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ }فلحق وحشي بالشام إلى أن مات. وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافراً في النار، وعلى تخليد من ماتمؤمناً لم يذنب قط في الجنة. فأما تائب مات على توبته فالجمهور: على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب، وطريقةبعض المتكلمين أنه في المشيئة. وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول: هو مخلد في النار سواء كان صاحب كبيرةأم صاحب صغيرة. والمرجئة تقول: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته. والمعتزلة تقول: إن كان صاحب كبيرة خلد فيالنار. وأما أهل السنة فيقولون: هو في المشيئة، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبهوأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلداً فيها. وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد، فالخوارج جعلواآيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين. وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط، أو المذنبالتائب. والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم. وأهل السنة خصصوا آيات الوعيدبالكفر وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب، وبالتائب، وبمن سبقفي علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة. والمعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب، وبالتائب. وآيات الوعيد بالكافر وذيالكبيرة الذي لم يتب. وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع، وهي جلت الشك، وردّت على هذه الطوائفالثلاث. فقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، والمعنى: أنَّ من مات مشركاً لا يغفر له، هو أصلمجمع عليه من الطوائف الأربع. وقوله: ويغفر ما دون ذلك، راد على الخوارج وعلى المعتزلة، لأن ما دون ذلك عامتدخل فيه الكبائر والصغائر. وقوله: لمن يشاء رادّ على المرجئة، إذ مدلوله أنَّ غفران ما دون الشرك إنما هو لقومدون قوم على ما شاء تعالى، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له. وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في علمأصول الدين. وقد رامت المعتزلة والمرجئة ردّ هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح، وهي منافية لما دلت عليه الآية.قال الزمخشري: (فإن قلت): قد ثبت أن الله عزّ وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر مادون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلكلمن يشاء؟ (قلت): الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله: لمن يشاء كأنه قيل: إنّ الله لايغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول مَن لم يتب، وبالثاني مَن تاب.ونظيره قولك: إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه. فتأول الآية على مذهبه. وقوله: قد ثبتأن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه، هذا مجمع عليه. وقوله: وإنه لا يغفر ما دون الشرك منالكبائر إلا بالتوبة. فنقول له: وأين ثبت هذا؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص، كاستدلالهم بقوله: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } الآية، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر. وقوله: قال: فجزاؤه إن جازاه الله. وقال: الخلود يراد به المكثالطويل لا الديمومة لا إلى نهاية، وكلام العرب شاهد بذلك. وقوله: إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهينإلى قوله: لمن يشاء، إن عنى أنّ الجار يتعلق بالفعلين، فلا يصح ذلك. وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كماقيد الثاني فهو تأويل. والذي يفهم من كلامه أنّ الضمير الفاعل في قوله: يشاء عائد على مِنْ، لا على الله.لأن المعنى عنده: أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائبمنه، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها. والذي يدل عليه ظاهر الكلامأنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة، وإن كانت جميع الكائنات متوقفاً وجودها على مشيئته على مذهبنا. وأنّ الفاعل فييشاء هو عائد على الله تعالى، لا على من، والمعنى: ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له. وفيقوله تعالى: لمن يشاء، ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب، وإن مات مصرّاً.قال عبد الله بن عمر: كنا على عهد رسول الله إذا مات الرجل على كبيرة شهدناله أنه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية، فأمسكنا عن الشهادات. وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره ومن أصاب شيئاً من ذلك أي ـ من المعاصي التي تقدّم ذكرها ـ فستره عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه أخرجه مسلم. ويروى عن علي وغيره من الصحابة: ما في القرآن آية أحب إلينا من هذهالآية. وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركاً في عرف الشرع، وإلا كان مغايراً للمشرك، فوجب أن يكونمغفوراً له. ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فاليهود داخلة تحت اسم الشرك. فأماقوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } ثم قال: { وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } وقوله: { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ } { وَلَمْ يَكُن * ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ }فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي.وقد قال الزجاج: كل كافر مشرك، لأنه إذا كفر مثلاًة بنبي زعم أنّ هذه الآيات التي أتى بها ليستمن عند الله، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله، فيصير مشركاً بهذا المعنى. فعلى هذا يكون التقدير: إنّالله لا يغفر كفر من كفر به، أو بنبي من أنبيائه. والمراد: إذ ألقى الله بذلك، لأن الإيمان يزيل عنهإطلاق الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع، ولقوله عليه السلام: ٱلإسْلَـٰمِ * يُحِبُّ * مَا * قَبْلِهِ . {وَمَنيُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } أي اختلق وافتعل ما لا يمكن. وسئل رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل الله نداً وقد خلقك . {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } قال الجمهور:هم اليهود. وقال الحسن وابن زيد: هم النصارى. قال ابن مسعود: يزكي بعضهم بعضاً لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم، ويواصلوهم بالرشا.وقال عطية عن ابن عباس: قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا. وقال الضحاك والسدي في آخرين: أتىمرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي ومعهم أطفالهم فقالوا: هل علىهؤلاء من ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليلفنزلت. وقيل: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيهم أنفسهم. قال عكرمة، ومجاهد، وأبو مالك:كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون: ليست لهم ذنوب، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا.وقال قتادة والحسن: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه {*}قال الجمهور: هم اليهود. وقال الحسن وابن زيد: هم النصارى. قالابن مسعود: يزكي بعضهم بعضاً لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم، ويواصلوهم بالرشا. وقال عطية عن ابن عباس: قالوا آباؤنا الذين ماتوايزكوننا عند الله ويشفعون لنا. وقال الضحاك والسدي في آخرين: أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهودإلى النبي ومعهم أطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: نحن كهم ماأذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت. وقيل: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وعلىالقول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيهم أنفسهم. قال عكرمة، ومجاهد، وأبو مالك: كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهمويقولون: ليست لهم ذنوب، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا. وقال قتادة والحسن: هو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه

{ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } { كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ تَهْتَدُواْ }وفي الآية دلالة علىالغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. وقوله : والله إني لأمين في السماء، أمين في الأرض حين قال له المنافقون: إعدل في القسمة، أكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه بهربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم. قاله الزمخشري وفيه بعضتلخيص. قال الراغب ما ملخصه: التزكية ضربان: بالفعل، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره وبالقول، وهو الإخبار عنه بذلكومدحه به. وحظر أن يزكي الإنسان نفسه، بل أن يزكي غيره، إلا على وجه مخصوص. فالتزكية إخبار بما ينطوي عليهالإنسان، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى. {بَلِ ٱللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء }: بل إضراب عن تزكيتهم أنفسهم، إذليسوا أهلاً لذلك. واعلم أنّ المزكي هو الله تعالى، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلععلى خفياتها. ومعنى يزكي من يشاء أي: من يشاء تزكيته بأن جعله طاهراً مطهراً، فذلك هو الذي يصفه الله تعالىبأنه مزكي. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } إشارة إلى أقلّ شيء كقوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } فإذاكان تعالى لا يظلم مقدار فتيل، فكيف يظلم ما هو أكبر منه؟ وجوزوا أن يعود الضمير في: ولا يظلمون، إلىالذين يزكون أنفسهم، وأن يعود إلى من على المعنى، إذ لو عاد على اللفظ لكان: ولا يظلم وهو أظهر، لأنهأقرب مذكور، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها. وقيل: يعود على المذكورين من زكى نفسه، ومن يزكيه الله. ولميذكر ابن عطية غير هذا القول. وقال الزمخشري: ولا يظلمون أي، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حقجزائهم، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى انتهى. وقرأ الجمهور:ألم تر بفتح الراء. وقرأ السلمي: بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف. وقيل: هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لامالفعل، بل يسكنون بعده عين الفعل. وقرأ الجمهور: ولا يظلمون بالياء. وقرأت طائفة: ولا تظلمون بتاء الخطاب، وانتصاب فتيلاً. قالابن عطية: على أنه مفعول ثان، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين، والمعنى: مقدار فتيل، وهو كناية عنأحقر شيء، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد، وإلى أنه ما يخرج من بينالأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضاً. وأبو مالك والسدي، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن. {انظُرْ كَيفَيَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } هو خطاب للنبي . ولمّا خاطبه أولاً بقوله: { أَلَمْ تَرَ } أيألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ خاطبه ثانياً بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله، وأتى بصيغة يفترون الدالة علىالملابسة والديمومة، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم، بل عمم في ذلك وفي غيره. وأي ذنب أعظم ممن يفتري علىالله الكذب { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } فمن أظلم ممن كذب على الله. وكيف: سؤال عنحال، وانتصابه على الحال، والعامل فيه يفترون، والجملة في موضع نصب بانظر، لأن انظر معلقة. وقال ابن عطية: وكيف يصحأن يكون في موضع نصب بيفترون؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: يفترون انتهى. أما قوله:يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء،والخبر في قوله يفترون، فهذا لم يذهب إليه أحد، لأنّ كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها، وإنما قوله:كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمراً، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جازأن يكون مبتدأ في هذا التركيب، لأنه ذكر أنّ الخبر هي الجملة من قوله: يفترون، وليس فيها رابط يربط هذهالجملة بالمبتدأ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى رابط. فهذا الذي قال فيه: ويصح، هو فاسد علىكل تقدير. {وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } تقدّم الكلام في نظير وكفى به. والضمير في به، عائد على الافتراء،وهو الذي أنكر عليهم. وقيل: على الكذب. وقال الزمخشري: وكفى بزعمهم لأنه قال: { كيف يفترون على الله الكذب } في زعمهمأنهم عند الله أزكياء، وكفى بزعمهم هذا اثماً مبيناً من بين سائر آثامهم انتهى. فجعل افتراءهم الكذب مخصوصاً بالتزكية، وذكرنانحن أنَّه في هذا وفي غيره، وانتصاب اثماً على التمييز، ومعنى مبيناً أي: بينا واضحاً لكل أحد. وقال ابنعطية: وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفيلهم بهذا الكذب اثماً، ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك انتهى. وفي ما ذكر من أن الباء دخلتلتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر، وقد أمعنا الكلام في قوله. { وكفى بالله ولياً } فيطالع هناك. {أَلَمْ تَرَ إِلَىٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ } أجمعوا أنَّها في اليهود. وسبب نزولها أنَّ كعب بن الأشرف ويحيـىبن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله فقالوا: أنتم أهل كتاب،وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدىسبيلاً أم محمد؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن الشرك. قال: وما دينكم؟ قالوا:نحن ولاة البيت نسقي الحاج، ونقرى الضيف، ونفك العانى، وذكروا أفعالهم. فقال: أنتم أهدى سبيلاً. وفي بعض ألفاظ هذا السببخلاف قاله ابن عباس. وقال عكرمة، خرج كعب في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد، والكتاب هناالتوراة على قول الجمهور، ويحتمل أن يكون التوراة والأنجيل. والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش قاله: عكرمة وغيره. أو الجبتهنا حيي، والطاغوت كعب، قاله: ابن عباس أيضاً. أو الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، قاله: مجاهد، والشعبي وروى عن عمر والجبتالساحر، والطاغوت الشيطان قاله: زيد بن أسلم. أو الجبت الساحر، والطاغوت الكاهن، قاله: رفيع وابن جبير. أو الجبت الكاهن، والطاغوتالشيطان، قاله: ابن جبير أيضاً. أو الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر، قاله: ابن سيرين. أو الجبت الشيطان، والطاغوت الكاهن قاله: قتادة.أو الجبت كعب، والطاغوت الشيطان كان في صورة انسان، أو الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله، والطاغوت الشيطانقاله: الزمخشري. أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر، أو صورة، أو شيطان قاله: الزجاج، وابن قتيبة.وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقاً فقال: الجبت السحر قاله: عمر، ومجاهد، والشعبي. أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس،وبه قال الضحاك، والفراء، أو كعب بن الأشرف. رواه الضحاك، عن ابن عباس. وليث، عن مجاهد. أو الكاهن روى عنابن عباس، وبه قال: مكحول، وابن سيرين. أو الشيطان قاله: ابن جبير في رواية، وقتادة والسدى أو الساحر قاله: أبوالعالية وابن زيد. وروى أبو بشر عن ابن جبير قال: الجبت الساحر بلسان الحبشة، وأما الطاغوت فالشيطان قاله: عمر، ومجاهدفي رواية الشعبي وابن زيد. أو المترجمون بين يدى الأصنام رواه العوفى عن ابن عباس، أو كعب، رواه ابن أبيطلحة عن ابن عباس وبه قال: الضحاك، والفرّاء. أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر، روى عن ابن عباس، وابن سيرين،ومكحول، أو كل ما عبد من دون الله قاله: مالك. وقال قوم: الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد، والجمهور وأقوالالمفسرين على خلاف ذلك، وأنهما اثنان. وقد جعل رسول الله الكلام على المغيبات جبتاً لكون علمالغيب يختص بالله تعالى. خرج أبو داود في سننه عن رسول الله أنه قال: الطرق والطيرة والعيافة من الجبت الطرق الزجر، والعيافة الخط. فان الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله، فالإيمان بهما التصديقبأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله، وان كان حيياً، وكعباً، أو جماعة من اليهود، أو الساحر، أو الكاهن، أوالشيطان، فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه، ويكون من باب اطلاق ثمرة الإيمان وهي الطاعة علىالإيمان. {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـؤُلاء أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً } الضمير في يقولون عائد على الذين أوتوا. وفيسبب النزول ان كعباً هو قائل هذه المقالة، والجملة من يؤمنون حال، ويقولون معطوف على يؤمنون فهي حال. ويحتمل أنْيكون استئناف أخبار تبين التعجب منهم كأنه قال: ألا تعجب إلى حال الذين أوتوا نصيباً، فكأنه قيل: وما حالهم وهمقد أوتوا نصيباً من كتاب الله؟ فقال: يؤمنون بكذا، يقولون كذا. أي: أن أحوالهم متنافية. فكونهم أوتوا نصيباً من الكتابيقتضي لهم أن لا يقعوا فيما وقعوا فيه، ولكن الحامل لهم على ذلك هو الحسد. واللام في للذين كفروا للتبليغمتعلقة بيقولون. والذين كفروا هم قريش، والإشارة بهؤلاء إليهم، والذين آمنوا هم النبي وأمته. والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولميلحظوا معنى التشريك فيه، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم. {أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } اشارة إلى مَنْآمن بالجبت والطاغوت وقال تلك المقالة، أبعدهم الله تعالى ومقتهم. {وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } أيمن ينصره ويمنعه من آثار اللعنة وهو العذاب العظيم. {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ ٱلْمُلْكِ } أم هنا منقطعة التقدير:بل ألهم نصيب من الملك انتقل من الكلام إلى كلام تام، واستفهم على الانكار أن يكون لهم نصيب من الملك.وحكى ابن قتيبة أنَّ أم يستفهم بها ابتداء. وقال بعض المفسرين. أم هنا بمعنى بل، وفسروا على سبيل الاخبار أنهمملوك أهل الدنيا وعتو وتنعم لا يبغون غير ذلك، فهم بخلاء حريصون على أن. لا يكون ظهور لغيرهم. والمعنى علىالقول الأوّل: ألهم نصيب من الملك؟ فلو كان لهم نصيب من الملك لبخلوا به. والملك ملك أهل الدنيا، وهو الظاهر.أو ملك الله لقوله: { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق }

وقيل: المال، لأنه به ينالالملك وهو أساسه. وقيل: استحقاق الطاعة. وقيل: النبوة. وقيل: صدق الفراسة ذكره الماوردي. والأفصح إلغاء اذن بعد حرف العطف الواووالفاء، وعليه أكثر القرّاء. وقرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس: لا يؤنوا بحذف النون على إعمالاذن. والناس هنا العرب، أو المؤمنون، أو النبي، أو من اليهود وغيرهم أقوال. والنقير: النقطة في ظهر النواة رواه ابنأبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والسدى، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة في آخرين.وقيل: القشر يكون في وسط النواة، رواه التميمي عن ابن عباس. أو الخيط في وسط النواة، روى عن مجاهد، أونقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس. أو حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبينجيح عن مجاهد. وقال الأزهري: الفتيل والنقير، والقطمير، يضرب مثلاً للشيء التافة الحقير، وخصت الأشياء الحقيرة بقوله: «فتيلاً في قوله:

{ ولا يظلمون فتيلا }

وهنا بقوله نقيراً الوفاق النظير من الفواصل. {مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْرٰهِيمَ} أم أيضاً منقطعة فتقدّر ببل. والهمزة قبل: للانتقال من كلام إلى كلام، والهمزة للاستفهام الذي يصحبه الانكار. أنكر عليهمأولاً البخل، ثم ثانياً الحسد. فالبخل منع وصول خير من الإنسان إلى غيره، والحسد تمنّى زوال ما أعطى الله الانسانمن الخير وايتاؤه له. نعى الله تعالى عليهم تحليهم بهاتين الخصلتين الذميمتين، ولمّا كان الحسد شر الخصلتين ترقي إلى ذكرهبعد ذكر البخل. والناس هنا النبي ، والفضل النبوة، قاله: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، والضحاك، ومقاتل.وقال ابن عباس، والسدي أيضاً: والفضل ما أبيح له من النساء. وسبب نزول الآية عندهم أنّ اليهود قالت لكفارالعرب: انظروا إلى هذا الذي يقول أنه بعث بالتواضع، وأنه لا يملأ بطنه طعاماً، ليس همه إلا في النساء ونحوهذا، فنزلت. والمعنى: لم تخصونه بالحسد، ولا تحسدون آل إبراهيم ـ يعني ـ: سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب،وأعطيا مع ذلك ملكاً عظيماً في أمر النساء، وهو ما روى أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولداود مائةامرأة. فالملك في هذه القول إباحة النساء، كأنه المقصود أولاً بالذكر. وقال قتادة: الناس هنا العرب حسدتها بنو إسرائيل انكان الرسول منها، والفضل هنا الرسول. والمعنى: لم يحسدون العرب على هذا النبي وقد أوتى أسلافهم أنبياء. وكتبا كالتوراة والزبور،وحكمة وهي الفهم في الدين ما لم ينص عليه الكتاب؟ وروى عن ابن عباس أنه قال: نحن الناس يريد قريشاً.{فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْرٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَـٰهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } أي ملك سليمان قاله: ابن عباس. وقال مجاهد: هوالنبوّة. وقال همام بن الحرث وأبو مسلمة وابن زيد هو التأييد بالملائكة. وقيل: الناس هنا الرسول، وأبو بكر، وعمر. والكتاب:التوراة والإنجيل أو هما، والزبور أقوال، والحكمة النبوّة قاله: السدي ومقاتل. أو الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل:الملك العظيم هو الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي. وقال الزمخشري: أم يحسدونهم على ما آتاهم الله منفضله النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم، فقد آتينا الزام لهم بما عرفوه من ايتاء الله لكتاب والحكمة آلإبراهيم الذين هم أسلاف محمد ، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتى أسلافه. وعنابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف، وداود، وسليمان، انتهى كلامه. وهو كلام حسن. {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِوَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } أي: من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر كقوله:

{ فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون }

قاله السدي: أو فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب، أو فمن اليهود المخاطبين بقوله:

{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا }

من آمن به أي بالقرآن، وهو المأمور بالإيمان به في قوله: بما نزلنا قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء،والجمهور ولذلك ارتفع الطمس ولم يقع. أو فمن اليهود من آمن بالفضل الذي أوتيه الرسول أوالعرب على ما تقدّم. أو فمن اليهود من آمن به، أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم. أو فمن اليهودمن آمن برسول الله، ومنهم مَنْ أنكر نبوّته. والظاهر أنه تعالى لما أنكر على اليهود حسدهم الناس على فضل اللهالذي آتاهم، أتى بما بعده على سبيل الاستطراد والنظر والاستدلال عليهم بأنه لا ينبغي لكم أن تحسدوا فقد جاز أسلافكممن الشرف ما ينبغي أن لا تحسدوا أحداً. وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول في كونهميحسدونه ولا يتبعونه، فذكر أنَّهم أيضاً مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر، هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هومنهم؟. وقرأ ابن مسعود وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: ومن صد عنه برفع الصاد مبنياً للمفعول.وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوقي، بكسر الصاد مبنياً للمفعول. والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ماجاز في باع إذا بني للمفعول، فتقول: حب زيد بالضم، وحب بالكسر. ويجوز الاشمام. والصد ليس مقابلاً للإيمان إلا منحيث المعنى، وكان المعنى والله أعلم: فمنهم من آمن به واتبعه، ومنهم من كذب به وصد عنه. {وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَسَعِيراً } أي احتراقاً والتهاباً أي لمن صدّ عنه. وسعيراً يميز وهو شدة توقد النار. والتقدير: وكفى بسعير جهنم سعيراً،وهو كناية عن شدة العذاب والعقوبة. {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } لما ذكر قوله: ومنهم منصد عنه، وكفى بجهنم سعيراً أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته، ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين، وصار نظيروتسود وجوه،

{ فأما الذين اسودت وجوههم }

. وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى. وقرأ حميد: نصليهم من صليت. وقرأ سلام ويعقوب: نصليهمبضم الهاء. {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } انتصاب على كل الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية،والعامل فيه بدلناهم، وهي جملة فيها معنى الشرط، وهي في موضع الحال، والعامل فيها نصليهم. والتبديل على معنيين: تبديل فيالصفات مع بقاء العين، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى، يقال: هذا بدل هذا. والظاهر فيالآية هذا المعنى الثاني. وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهري وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه، ولهذا قال: جلوداً غيرها. قالالسدي: إن الجلود تخلق من اللحم، فإذا أحرق جلد بدله الله من لحم الكافر جلداً آخر. وقيل: هي بعينها تعادبعد إحراقها، كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور، فيكون ذلك عائداً إلى الصفة، لا إلى الذات. وقال الفضيل: يجعلالنضج غير نضيج. وقيل: تبدل كل يوم سبع مرات. وقال الحسن: سبعين. وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيلمن قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها. فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة. أو كما قيل: مائةألف مرة. وسميت جلوداً لملابستها الجلود. وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن هذا استعاره عن الدوام، كلما انتهى فقد ابتدأمن أوله، يعني: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة، بحيث ظنوا أنهم الآنحدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. وقال ابن عباس: يلبسهم الله جلوداً بيضاء كأنها قراطيس. وقال عبدالعزيز بن يحيـى: يلبس أهل النار جلوداً تؤلمهم ولا تؤلم هي. {لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } أي ذلك التبديل كلما نضجتالجلود، هو ليذوقوا ألم العذاب. وأتى بلفظ الذوق المشعر بالإحساس الأول وهو آلم، فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاببخلاف من تمرن على العذاب. وقال الزمخشري: ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامكعلى عزك، وزادك فيه. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } أي عزيزاً لا يغالب، حكيماً يضع الأشياء مواضعها. وقالالزمخشري: عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، حكيماً لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.

{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً }[عدل]

{وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا *أَبَدًا } لما ذكر تعالى وعيد الكفار أعقب بوعد المؤمنين، وجاءت جملة الكفار مؤكدة بأن على سبيل تحقيق الوعيد المؤكد،ولم يحتج إلى ذلك في جملة المؤمنين، وأتى فيها بالسين المشعرة بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمنوتبشيره به. {لَّهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ } تقدم تفسير مثل هذا. {وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } قال ابن عطية:أي يقي من الحر والبرد. ويصح أن يريد أنه ظل لا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا فأكده بقوله: ظليلاً لذلكويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه السلام: إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها انتهى كلامه. وقال أبو مسلم الظليل: هو القوي المتمكن. قال: ونعت الشيء بمثل ما اشتق من لفظهيكون مبالغة كقولهم: ليل أليل، وداهية دهياء. وقال أبو عبد الله الرازي: وإنما قال ظل ظليلاً لأن بلاد العرب فيغاية الحرارة، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة، ولهذا المعنى جعل كناية عن الراحة ووصفه بالظليل مبالغة في الراحة.وقال الزمخشري: ظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وما أشبه ذلك وهوما كان فينانا لا جوب فيه، ودائماً لا تنسخه الشمس. وسجسجا لا حرّ فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظلالجنة رزقنا الله بتوفيقه ما يزلف إليه التقيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد الله: سيدخلهم بالياء انتهى. وقال الحسن:قد يكون ظل ليس بظليل يدخله الحر والشمس، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل. وعن الحسن: ظل أهل الجنة يقيالحر والسموم، وظل أهل النار من يحموم لا بارد ولا كريم. ويقال: إنّ أوقات الجنة كلها سواء اعتدال، لا حرفيها ولا برد. وقرأ النخعي وابن وثاب: سيدخلهم بالياء، وكذا ويدخلهم ظلاً، فمن قرأ بالنون وهم الجمهور فلاحظ قوله فيوعيد الكفار:

{ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ }

ومن قرأ بالياء لاحظ قوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً }

فأجراه على الغيبة.وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع. الاستفهام الذي يراد به التعجب في: ألم تر في الموضعين.والخطاب العام ويراد به الخاص في: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول صلى الله عليهوسلم ابن صوريا وكعباً وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول. والاستعارة في قوله: من قبل أننطمس وجوهاً، في قول من قال: هو الصرف عن الحق، وفي: ليذوقوا العذاب، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسةاللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب. والطباق في: فتردّها على أدبارها، والوجه ضد القفا، وفي للذين كفروا هؤلاء أهدىمن الذين آمنوا، وفي: إن الذين كفروا والذين آمنوا، وفي: من آمن ومن صدّ، وهذا طباق معنوي. والاستطراد في: أونلعنهم كما لعن أصحاب السبت. والتكرار في: يغفر، وفي: لفظ الجلالة، وفي: لفظ الناس، وفي: آتينا وآتيناهم، وفي: فمنهم ومنهم،وفي: جلودهم وجلوداً، وفي: سندخلهم وندخلهم. والتجنيس المماثل في: نلعنهم كما لعنا وفي: لا يغفر ويغفر، وفي: لعنهم الله ومنيلعن الله، وفي: لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي: يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى. والتعجب: بلفظ الأمر في قوله: انظركيف يفترون. وتلوين الخطاب في: يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلاماً أنهم مستمرون على ذلك. والاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريعفي: أم لهم نصيب وفي: أم يحسدون. والإشارة في: أولئك الذين. والتقسيم في: فمنهم من آمن به ومنهم من صدّعنه. والتعريض في: فإذن لا يؤتون الناس نقيراً عرض بشدة بخلهم. وإطلاق الجمع على الواحد في: أم يحسدون الناس إذافسر بالرسول، وإقامة المنكر مقام المعرف لملاحظة الشيوع. والكثرة في: سوف نصليهم ناراً. والاختصاص في: عزيزاً حكيماً. والحذف في: مواضع.

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } * { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }[عدل]

الزعم: قول يقترن به الاعتقاد الظني. وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها. قال الشاعروهو أبو ذؤيب الهذلي:

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم     فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وقال ابن دريد: أكثر ما يقع على الباطل. وقال النبي : مطية الرجل زعموا . وقال الأعشى:

ونبئت قيساً ولم أبله     كما زعموا خير أهل اليمن

فقال الممدوح وما هو إلا الزعموحرمه. وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به، وكان أقوى. وذكر صاحب العين: أنَّ الأحسن فيزعم أنْ توقع على أنْ قال، قال. وقد توقع في الشعر على الاسم. وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر:

زعمتني شيخاً ولست بشيخ     إنما الشيخ من يدب دبيبا

ويقال: زعم بمعنى كفل، وبمعنىرأس، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة، وبحرف جر أخرى. ويقال: زعمت الشاة أي سمنت، وبمعنى هزلت، ولا يتعدى. التوفيق: مصدروفق، والوفاق والوفق ضد المخالفة. {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلاحمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْبِٱلْعَدْلِ } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقاله: مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا فيقصة مطولة مضمونها: أن رسول الله أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة، وابن عمهشيبة بن عثمان بعد تأب منن عثمان ولم يكن أسلم، فسأل العباس الرسول أن يجمع لهبين السقاية والسدانة، فنزلت. فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان. وقال الرسول : خذوها ابني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وقاله: زيد بن أسلم، ومكحول، واختاره أبو سليمانالدمشقي: نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته. وقيل: نزلت عامة، وهو مروي عن: أبي،وابن عباس، والحسن، وقتادة. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين، وذكر عمل الصالحات،نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة، فأحدهما ما يختصبه الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أذاء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، والثاني مايكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسلهوأنبياءه والمؤمنين. ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار، ثم يشتغل بحال غيره، أمربأداء الأمانة أولاً ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق. والظاهر في: يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة.وقال ابن جريج: خطاب للنبي في شأن مفتاح الكعبة. وقال علي، وابن أسلم، وشهر، وابن زيد:خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهو للنبي وأمرائه، ثم يتناول مَن بعدهم. وقال ابن عباس: في الولاةأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهنّ إلى الأزواج. وقيل: خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة، من نعتِالرسول أنْ يظهروه لأهله، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية. ونقل التبريزي: أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها فيأهلها. وقيل: ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات. والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهممن الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، وعدل الحكومات. ومنه دونهم من الناس في الودائع، والعواري، والشهادات، والرجل يحكم فينازلة. قال ابن عباس: لم يرخص الله لموسر ولا معسر أنْ يمسك الأمانة. وقرىء: أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد،وأن تحكموا، ظاهره: أن يكون معطوفاً على أن تؤدّوا، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا. وقد ذهب إلى ذلك بعضأصحابنا وجعله كقوله:

{ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلاْخِرَةِ حَسَنَةً }

{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً }

{ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ * وَمِنَ ٱلاْرْضِ مِثْلَهُنَّ }

ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور. وأبو عليّ يخص هذابالشعر، وليس بصواب. فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو: امرر بزيد وغداً بعمرو. ولكنَّ قوله: وإذا حكمتم بين الناسأن تحكموا، ليس من هذه الآيات، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف، والظرف هنا ظاهره أنهمنصوب بأن تحكموا، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة أن، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمرليس واقعاً وقت الحكم. وقد خرجه على هذا بعضهم. والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة، وأنْ تحكموا المذكورةمفسرة لتلك المقدرة، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور. وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظبها، لأنه يجير: يعجبني العسل أن يشرب، فتقدم معمول صلة أنْ عليها. {إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } أصله:معم ما، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي. كأنه قال: نعم الشيء يعظكم به، أي شيء يعظكم به. ويعظكمصفة لشيء، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه. والمخصوص محذوف التقدير: نعم الذي يعظكم بهتأدية الأمانة والحكم بالعدل، ونكرة في موضع نصب على التمييز و يعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه،والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله. وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال، وتحقيق ذلك في علم النحو. وقالابن عطية: وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما، ومما في قوله: وكانرسول الله مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر:

وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة     على رأسه تلقى اللسان من الفم

ونحوه. وفي هذا هي بمنزلة ربما، وهي لها مخالفة في المعنى: لأنّ ربما معناهاالتقليل، ومما معناها التكثير. ومع أن ما موطئه، فهي بمعنى الذي. وما وطأت إلا وهي اسم، ولكنّ القصد إنما هولما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه. وهو كلام متهافت، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكوناسماً، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا. وقرأ الجمهور: نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين. وقرأبعض القراء: نعماً بفتح النون على الأصل، إذ الأصل نعم على وزن شهد. ونسب إلى أبي عمرو سكون العين، فيكونجمعاً بين ساكنين. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً } أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام. {بَصِيراً } بردّ الأماناتإلى أهلها. {بَصِيراً يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْكُمْ } قيل: نزلت في أمراء رسولالله ، وذكروا قصةً طويلة مضمونها: أنَّ عماراً أجار رجلاً قد أسلم، وفر أصحابه حين أنذروا بالسرةفهربوا، وأقام الرجل وإنّ أميرها خالداً أخذ الرجل وماله، فأخبره عمار بإسلامه وإجارته إياه فقال خالد: وأنت تجيز؟ فاستبا وارتفعاإلى رسول الله ، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير على أمير. ومناسبتها لما قبلها أنهلما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم، قال عطاء: أطيعوا الله في فريضته، والرسول في سنته. وقال ابنزيد: في أوامره ونواهيه، والرسول ما دام حياً، وسنته بعد وفاته. وقيل: فيما شرع، والرسول فيما شرح. وقال ابن عباس،وأبو هريرة، والسدي، وابن زيد: أولو الأمر هم الأمراء. وقال مجاهد: أصحاب الرسول . وقال التبريزي: المهاجرونوالأنصار. وقيل: الصحابة والتابعون. وقيل: الخلفاء الأربع. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وقال جابر، والحسن، وعطاء، وأبو العالية، ومجاهد أيضاً:العلماء، واختاره مالك. وقال ميمون، ومقاتل، والكلبي، أمراء السرايا، أو الأئمة من أهل البيت قاله: الشيعة. أو عليّ وحده قالوهأيضاً. والظاهر أنه كل مَن ولي أمر شيء ولاية صحيحة. قالوا: حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها، والعبد مع سيده،والولد مع والديه، واليتيم مع وصية فيما يرضى الله وله فيه مصلحة. وقال الزمخشري: والمراد، بأولي الأمر منكم، أمراءالحق، لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله. وكان أول الخلفاء يقول: أطيعوني ما عدلتفيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبي حازم: أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنافي قوله وأولي الأمر منكم؟ قال: أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله:

{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ }

. وقيل: هم أمراء السرايا. وعن النبي : من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني وقيل: هم العلماء الدّينون الذين يعلمون الناسالدّين، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر انتهى. وقال سهل التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدنانير، والدراهم، والمكاييل، والأوزان، والأحكام،والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد. وإذا نهى السلطان العالم أن يفتى فليس له أن يفتى، فإنْ أفتى فهو عاص وإنْ كانأميراً جائراً. قيل: ويحمل قول سهل على أنه يترك الفتيا إذا خاف منه على نفسه. وقال ابن خويز منداد: وأماطاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة، ولا تجب فيما كان فيه معصية. قال: ولذلك قلنا: أن أمراء زماننا لاتجوز طاعتهم، ولا معاونتهم، ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم، وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك علىوجه الشريعة. فإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهمإلا أنْ يخافوا فتصلى معهم تقية، وتعاد الصلاة فيما بعد. انتهى. واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول منقال: بإمام معصوم بقوله: وأولي الأمر منكم. فإنّ الأمراء والفقهاء يجوز عليهم الغلط والسهو، وقد أمرنا بطاعتهم. ومَن شرط الإمامالعصمة فلا يجوز ذلك عليه، ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب: فإن تنازعتم في شيءفردوه إلى الله والرسول، فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجباً، وكان هو يقطع التنازع، فلما أمربرد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة دون الإمام، دلّ على بطلان الإمامة. وتأويلهم: أنّ أولى الأمر عليّ رضي الله عنهفاسد، لأنّ أولي الأمر جمع، وعليّ واحد. وكان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في حياة الرسول ،وعليّ لم يكن إماماً في حياته، فثبت أنهم كانوا أمراء، وعلى المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية. فكذلك بعدموتهم في لزوم اتباعهم طاعتهم ما لم تكن معصية. وقال أبو عبد الله الرازي: وأولي الأمر منكم إشارة إلى الإجماع،والدليل عليه أنه أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر بطاعته على الجزم والقطع لابد أن يكون معصوماً عن الخطأ، وإلاّ لكان بتقدير إقدامه على الخطأ مأموراً باتباعه، والخطأ منهى عنه، فيؤدّي إلى اجتماعالأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد، وأنه محال. وليس أحد معصوماً بعد الرسول إلا جمع الأمة أهل العقد والحلّ،وموجب ذلك أنّ إجماع الأمة حجة. {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } قال مجاهد، وقتادة، والسدي،والأعمش، وميمون بن مهران: فردوه إلى كتاب الله، وسؤال رسول الله في حياته، وإلى سنته بعدوفاته. وقال قوم منهم الأصم: معناه قولوا: الله ورسوله أعلم. وقال الزمخشري: فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر في شيء منأمور الذين فردوه ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة انتهى. وقد استدل نفاة القياس ومثبتوه بقوله: فردوه إلى الله ورسوله، وهيمسألة يبحث فيها في أصول الفقه. {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ } شرط وجوابه محذوف، أي: فردوه إلىالله والرسول. وهو شرط يراد به الحض على اتباع الحق، لأنه ناداهم أولاً بيا أيها الذين آمنوا، فصار نصير: إنكنت ابني فأطعني. وفيه إشعار بوعيد من لم يرد إلى الله والرسول. {ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ذلك الردإلى الكتاب والسنة، أو إلى أن تقولوا: الله ورسوله أعلم. وقال قتادة، والسدي، وابن زيد: أحسن عاقبة. وقال مجاهد: أحسنجزاء. وقيل: أحسن تأويلاً من تأويلكم أنتم. وقالت فرقة: المعنى: أن الله ورسوله أحسن نظراً وتأويلاً منكم إذا انفردتم بتأويلكم.{أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ} ذكر في سبب نزولها قصص طويل ملخصه: أنّ أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه نفرمن أسلم، أو أنّ قيساً الأنصاري أحد مَن يدعي الإسلام ورجلاً من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا الرسول صلى اللهعليه وسلم بعدما دعا اليهودي إلى الرسول، والأنصاري يأبى إلا الكاهن. أو أنّ منافقاً ويهودياً اختصما، فاختار اليهودي الرسول صلىالله عليه وسلم، واختار المنافق كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، ونجاكما إلى الرسول، فقضى لليهودي، فخرجا ولزمه المنافق، وقال: ننطلقإلى عمر، فانطلقا إليه فقال اليهودي: قد تحاكمنا إلى الرسول فلم يرض بقضائه، فأقرّ المنافق بذلكعند عمر، فقتله عمر وقال: هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. ومناسبة هذه الآية لما قبلهاظاهرة لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حالمَن يدَّعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ويترك الرسول. وظاهر الآية يقتضي أن تكون نزلت في المنافقين، لأنه قال:يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، فلو كانت في يهود أو في مؤمن ويهودي كان ذلكبعيداً من لفظ الآية، إلا إنْ حمل على التوزيع، فيجعل بما أنزل إليك في منافق، وما أنزل من قبلك فييهودي، وشملوا في ضمير يزعمون فيمكن. وقال السدي: نزلت في المنافقين من قريظة والنضير، تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم، إذ كانتالنضير في الجاهلية تدي من قتلت وتستقيه إذا قتلت قريظة منهم، فأبت قريظة لما جاء الإسلام، وطلبوا المنافرة، فدعا المؤمنونمنهم إلى النبي ، ودعا المنافقون إلى بردة الكاهن، فنزلت. وقال الحسن: احتكم المنافقون بالقداح التي يضرببها عند الأوثان فنزلت. أو لسبب اختلافهم في أسباب النزول اختلفوا في الطاغوت. فقيل: كعب بن الأشرف. وقيل: الأوثان. وقيل:ما عبد من دون الله. وقيل: الكهان. {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } جملة حالية من قوله: يريدون، ويريدونحال، فهي حال متداخل. وأعاد الضمير هنا مذكراً، وأعاده مؤنثاً في قوله: اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها. وقرأ بها هنا عباسبن الفضل على التأنيث، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله:

{ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم }

. {وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْضَلَـٰلاً بَعِيداً } ضلالاً ليس جارياً على يضلهم، فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم،أي: فيضلون ضلالاً بعيداً. وقرأ الجمهور: بما أنزل إليك وما أنزل مبنياً للمفعول فيهما. وقرىء: مبنياً للفاعل فيهما. {وَإِذَاقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } قرأ الحسن: تعالوا بضم اللام.قال أبو الفتح: وجهها أنَّ لام الفعل من تعاليت حذفت تخفيفاً، وضمت اللام التي هي عين الفعل لوقوع واو الجمعبعدها. ولظهر الزمخشري حذف لام الكلمة هنا بحذفها في قولهم: ما باليت به بالة، وأصله: بالية كعافية. وكمذهب الكسائي فيآية، أن أصلها أيلة فحذفت اللام. قال: ومنه قول أهل مكة: تعالي بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني:

تعــالــي أقــاسمــك الهمــوم تعــالــي    

والوجه: فتح اللام انتهى. وقول الزمخشري: قول أهل مكة تعالي يحتمل أن تكون عربية قديمة، ويحتمل أن يكونذلك مما غبرته عن وجهه العربي فلا يكون عربياً. وأما قوله في شعر الحمداني فقد صرّح بعضهم بأنه أبو فراس،وطالعت ديوانه جمع الحسين بن خالويه فلم أجد ذلك فيه. وبنو حمدان كثيرون، وفيهم عدة من الشعراء، وعلى تقدير ثبوتذلك في شعرهم لا حجة فيه، لأنه لا يستشهد بكلام المولدين. والظاهر من قوله: رأيت المنافقين أنها من رؤية العين،صدوا مجاهرة وتصريحاً، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي: علمت. ويكون صدهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلكمنه إلا بالتأويل عليه. وصدوداً: مصدر لصد، وهو هنا متعد بحرف الجر، وقد يتعدى بنفسه نحو:

{ فصدهم عن السبيل }

وقياسصدّ في المصدر فعل نحو: صده صدّاً. وحكى ابن عطية: أن صدوداً هنا ليس مصدراً، والمصدر عنده صد. {فَكَيْفَإِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } قال الزجاج: كيف فيموضع نصب تقديره: كيف تراهم، أو في موضع رفع أي: فكيف صنيعهم والمصيبة. قال الزجاج: قتل عمر الذي ردّ حكمالرسول . وقيل: كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبرعن فعلهم فقال: ثم جاؤك يحلفون بالله. وقيل: هي هدم مسجد الضرار، وفيه نزلت الآية، حلفوا دفاعاً عن أنفسهم ماأردنا ببناء المسجد إلا طاعة وموافقة الكتاب. وقيل: ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذل من قوله: فقل إن تخرجوامعي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً، والذي قدّمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدّمة أو نفاقهم واستهزاؤهم ثلاثة أقوال.وقيل في قوله: إلا إحساناً وتوفيقاً أي: ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحساناً إلينا، وما يوافقالحق في أمرنا. وقيل: ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحساناً إلى صاحبنا بحكومة العدل، وتوفيقاً بينه وبين خصمه. وقيل:جاؤا يعتذرون إلى الرسول من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحساناً بالتقريبفي الحكم، وتوفيقاً بين الخصوم، دون الحمل على الحق. وفي قوله: فكيف إذا أصابتهم مصيبة، وعيد لهم على فعلهم، وأنهمسيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار. {أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُمَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي: يعلم ما في قلوبهم من النفاق.والمعنى: يعلمه فيجازيهم عليه، أو يجازيهم على ما أسرّوه من الكفر، وأظهروه من الحلف الكاذب. وعبر بالعلم عن المجازاة. فأعرضعنهم: أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم، وقبول إيمانهم وأعذارهم. وقيل: المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والإناة، ففي ذلك تأديب لهم،وهو عتابهم. ولا يراد بالإعراض الهجر والقطيعة، فإنّ قوله: وعظهم يمنع من ذلك. وعظهم: أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم، وأنكرعليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا. والقول البليغ هو الزجر والردع. قال الحسن: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالةالنفاق. ويتعلق قوله: في أنفسهم بقوله: قل على أحد معنيين، أي: قل لهم خالياً بهم لا يكون معهم أحد منغيرهم مساراً لأنّ النصح إذا كان في السرّ كان أنجح، وكان بصدد أن يقبل سريعاً. ومعنى بليغاً: أي مؤثراً فيهم.أو قلْ لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولاً يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا.وقال الزمخشري: (فإن قلت): ثم تعلق قوله: في أنفسهم؟ (قلت): بقوله: بليغاً أي: قلْ لهم قولاً بليغاً في أنفسهم،مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إنْ نجم منهم النفاق، وأطلع قرنه،وأخبرهن أنَّ ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكافةإلا لإظهاركم الإيمان، وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيق انتهى كلامه. وتعليقه فيأنفسهم بقوله: بليغاً لا يجوز على مذهب البصريين، لأن معمول الصفة لا يتقدّم عندهم على الموصوف. لو قلت: هذا رجلضارب زيداً لم يجز أن تقول: هذا زيداً رجل ضارب، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيهالعامل، ومعلوم أن النعت لا يتقدّم على المنعوت، لأنه تابع، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين. وأما ما ذكره الزمخشري بعدذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله، وتقويل الله تعالى ما لم يقله،وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ. ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى، ولا دل عليها اللفظدلالة واضحة، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه،أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات. وحكى عن مجاهد أن قوله: في أنفسهم متعلق بقوله: مصيبة، وهو مؤخر بمعنىالتقديم، وهذا ينزه مجاهد أن يقوله، فإنه في غاية الفساد.

{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } * { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } * { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } * { وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً } * { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } * { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } * { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } * { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً }[عدل]

شجر الأمر: التبس، يشجر شجوراً وشجراً، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه،وتشاجروا. وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض. ورمح شاجر، والشجير الذي امتزجت مودته بمودّة غيره، وهو من الشجرشبه بالتفاف الأغصان. وقد تقدّم ذكر هذه المادّة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة. نفر الرجل ينفر نفيراً، خرج مجداًبكسر الفاء في المضارع وضمها، وأصله الفزع، يقال: نفر إليه إذا فزع إليه، أي طلب إزالة الفزع. والنفير النافور، والنفرالجماعة. ونفرت الدابة تفرُ بضم الفاء نفوراً أي هربت باستعجال. الثبة: الجماعة الإثنان والثلاثة في كلام العرب قاله: الماتريدي.وقيل: هي فوق العشرة من الرجال، وزنها فعلة. ولامها قيل: واو، وقيل: ياء، مشتقة من تثبيت على الرجل إذا أثنيتعليه، كأنك جمعت محاسنه. ومن قال: إن لامها واو، جعلها من ثبا يثبو مثل حلا يحلو. وتجمع بالألف والتاء وبالواووالنون فتضم في هذا الجمع تاؤها، أو تكسر وثبة الحوض وسطه الذي يثوب الماء إليه، المحذوف منه عينه، لأنه منثاب يثوب، وتصغيره ثويبة كما تقول في سه سييهة، وتصغير تلك ثبية. البطء التثبط عن الشيء. يقال: أبطأ وبطؤ مثلأسرع وسرع مقابله، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } نبه تعالىعلى جلالة الرسل، وأنّ العالم يلزمهم طاعتهم، والرسول منهم تجب طاعته. ولام ليطاع لام كي، وهو استثناء مفرّغ من المفعولمن أجله أي: وما أرسلنا من رسول بشيء من الأشياء إلا لأجل الطاعة. وبإذن الله أي بأمره، قاله: ابن عباس.أو بعلمه وتوفيقه وإرشاده. وحقيقة الإذن التمكين مع العلم بقدر ما مكن فيه. والظاهر أن بإذن الله متعلق بقوله: ليطاع.وقيل: بأرسلنا أي: وما أرسلنا بأمر الله أي: بشريعته، ودينه وعبادته من رسول إلا ليطاع. قال ابن عطية: وعلى التعليقينفالكلام عام اللفظ، خاص المعنى، لأنّا نقطع أنَّ الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه، ولذلكخرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهو تخريج حسن. لأن الله إذا علممن أحد أنه يؤمن وفقه لذلك، فكأنه أذن له انتهى. ولا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاصالمعنى، لأن قوله: ليطاع مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاماً، فيكون التقدير:ليطيعه العالم، بل المحذوف ينبعي أن يكون خاصاً ليوافق الموجود، فيكون أصله: إلا ليطيعه من أردنا طاعته. وقال عبد اللهالرازي: والآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعاً في تلك الشريعة، ومتبوعاً فيها، إذ لو كانلا يدعو إلا إلى شرع مَن قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعاً، بل المطاع هو الرسول المتقدم الذي هوالواضع لتلك الشريعة، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع انتهى. ولا يعجبني قوله: الواضع لتلك الشريعة، والأحسن أنيقال: الذي جاء بتلك الشريعة من عند الله. {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُلَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } ظلموا أنفسهم بسخطهم لقضائك أو بتحاكمهم إلى الطاغوت، أو بجميع ما صدر عنهم من المعاصي.جاؤوك فاستغفروا الله بالإخلاص، واعتذروا إليك. واستغفر لهم الرسول أي: شفع لهم الرسول في غفران ذنوبهم. والعامل في إذ جاؤوك،والتفت في قوله: واستغفر لهم الرسول، ولم يجيء على ضمير الخطاب في جاؤوك تفخيماً لشأن الرسول، وتعظيماً لاستغفاره، وتنبيهاً علىأن شفاعة من اسمه الرسول من الله تعالى بمكان، وعلى أنَّ هذا الوصف الشريف وهو إرسال الله إياه موجب لطاعته،وعلى أنه مندرج في عموم قوله:

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }

ومعنى وجدوا: علموا، أي: بإخبارهأنه قبل توبتهم ورحمهم. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم بأنهم بتحاكمهمإلى الطاغوت خالفوا حكم الله، وأساءوا إلى الرسول ، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول الاستغفار،أو لمّا لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم التمرد، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يزيد التمرد بأن يذهبواإلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار، أو إذا تابوا بالتوبة أتوا بها على وجه من الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة. والآية تدل على قبول توبة التائب لأنه قال بعدها:

{ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ }

وهذا لاينطبق على ذلك الكلام إلا إذا كان المراد من قوله: {تَوَّاباً رَّحِيماً } قبول توبته انتهى. وروي عن علي كرمالله وجهه أنه قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله بثلاثة أيام فرمى بنفسه علىقبره وحثا من ترابه على رأسه ثم قال:

يا خير من دفنت في الترب أعظمه     فطاب من طيبهن القاع والأكمنفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم قال: قد قلت: يا رسول الله فسمعنا قولك،ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك الآية، وقد ظلمت نفسيوجئت أستغفر الله ذنبي، فاستغفر لي من ربي، فنودي من القبر أنه قد غفر لك. {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَحَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } قال مجاهد وغيره: نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت. ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسفالآيات. وقيل: في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة، وأن الرسول قال: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب وقال: إن كان ابن عمتك، فغضب الرسول واستوعب للزبير حقه فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء . والرجل هو من الأنصار بدري. وقيل: هوحاطب بن أبي بلتعة. وقيل: نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر، لكونه رد حكم النبي ،ومقيمة عذر عمر في قتله، قال النبي : ما كنت أظن أنّ عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن . وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيماً للنبي ، وهو التفات راجع إلى قوله:

{ جاؤوك }

ولافي قوله: فلا. قال الطبري: هي رد على ما تقدم تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك،ثم استأنف القسم بقوله: وربك لا يؤمنون. وقال غيره: قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي، ثم كررها بعد توكيداً للإهتمامبالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنىالاهتمام. وقيل: الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي. وقال الزمخشري: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت فيلئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم. ولا يؤمنون جواب القسم. (فإن قلت): هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في. لا يؤمنون.(قلت): يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله:

{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }

انتهى كلامه. ومثل الآية قول الشاعر:

ولا والله لا يلقى لما بي     ولا للما بهم أبداً دواء

وحتى هنا غاية، أي: ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية، فإذا وجد ما بعدالغاية كانوا مؤمنين. وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب. ومعنى يحكموك، يجعلوك حكماً. وفيالكلام حذف التقدير: فتقضي بينهم. {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } أي ضيقاً منحكمك. وقال مجاهد: شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان. وقال الضحاك: إثماً أي: سبب إثم.والمعنى: لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا. وقيل: هماً وحزناً، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك، لا يعارضونفيه بشيء قاله: ابن عباس والجمهور. وقيل: معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي، وأكد الفعل بالمصدر على سبيلصدور التسليم حقيقة، وحسَّنه كونه فاصلة. وقرأ أبو السمال: فيما شجر بسكون الجيم، وكأنه فرَّ من توالي الحركات، وليس بقويلخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْأَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَـٰرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول: ما رأيناأسخف من هؤلاء لا يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤن عقبه، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغالقتل فينا سبعين ألفاً. فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت. وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنىقريب. ومعنى الآية: أنه تعالى لو فرض عليهم أنْ يقتلوا أنفسهم، إمّا أن يقتل نفسه بيده، أو يقتل بعضهمبعضاً، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهمإلا القليل، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل. وقال السبيعي: لما نزلت قال رجل: لوأمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله فقال: إنّ من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي قال ابن وهب: الرجل القائل ذلك هو أبو بكر. وروي عنه أنه قال: لوكتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي. وذكر النقاش: أنه عمر. وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمار، وابنمسعود، وثابت بن قيس. والضمير في عليهم قيل: يعود على المنافقين، أي: ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة،وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. وقيل: يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم. وكسر النون مِن أن، وضم الواو من أو،أبو عمرو. وكسرهما حمزة وعاصم، وضمهما باقي السبعة. وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية على ما قررواأنَّ أنْ توصل بفعل الأمر. وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس،وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة، وارتفع قليل، على البدل من الواو فيفعلوه على مذهب البصريين، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين، وبالرفع قرأ الجمهور. وقرأ أبيّ، وابن أي إسحاق، وابنعامر، وعيسى بن عمر: إلا قليلاً بالنصب، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلالما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما. وقال الزمخشري: وقرىء إلا قليلاً بالنصبعلى أصل الاستثناء، أو على إلا فعلاً قليلاً انتهى. الأما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذهالقراءة. وأما قوله: على إلا فعلا قليلاً فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذاالتركيب: لو قلت ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره. وضميرالنصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله: أن اقتلوا أو اخرجوا. وقال أبو عبد الله الرازي: الكنايةفي قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معاً، وذلك لأن الفعل جنس واحد، وإن اختلفت صورته انتهى. وهو كلامغير نحوي. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } الضمير في: ولو أنهم مختصبالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً. قال الزمخشري: ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلىالله عليه وسلم وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، لكان خيراً لهمفي عاجلهم وآجلهم، وأشد تثبيتاً لإيمانهم، وأبعد من الاضطراب فيه. وقال ابن عطية: ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكانخيراً لهم، وتثبيتاً معناه يقيناً وتصديقاً انتهى. وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر. لأنّ الذي يوعظبه ليس هو اتباع الرسول وطاعته، وليس مذلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا، وقيل: الوعظ هنا بمعنى الأمر أي: ولوأنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه. وقال في ري الظمآن: ما يوعظون به أي: ما يوصون ويؤمرونبه من الإخلاص والتسليم. وقال الراغب: أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيراً لهم. وقال أبو عبد الله الرازي: المرادأنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا، وسمي هذا التكليف والأمر وعظاً، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيبوالترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظاً. وقال الماتريدي: وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن.وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب، فلموعظ بههي الجمل الدالة على ذلك، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر، لأنهم لم يؤمروا بأنْ يفعلوا الموعظ به، وإنما عرضلهم شرح ذلك بما خالف الظاهر، لأنهم علقوا به بقوله: ما يوعظون، على طريقة ما يفهم من قولك: وعظتك بكذا،فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ. أما إذا كان المعنى على أنّ الباءللسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر، ويصح المعنى، ويكون التقدير: ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي: بسببتركه. ودلّ على حذف تركه قوله: ولو أنهم فعلوا. ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره، ولا يحتاج إلى ما تأولوه.لكان خيراً لهم: أي يحصل لهم خير الدارين، فلا يكون أفعل التفضيل. ويحتمل أن يكونه أي: لكان أنفع لهم منغيره: وأشد تثبيتاً، لأنه حق، فهو أبقى وأثبت. أو لأنّ الطاعة تدعو إلى أمثالها، أو لأنّ الإنسان يطلب أولاً تحصيلالخير، فإذا حصله طلب بقاءه. فقوله: لكان خيراً لهم إشارة إلى الحالة الأولى. وقوله: وأشد تثبيتاً إشارة إلى الحالة الثانية.قاله: أبو عبد الله الرازي. {وَإِذاً لاَتَيْنَـٰهُمْ مّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَـٰهُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } قال الزمخشري: وإذاجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لآتيناهم. لأنّ إذا جواب وجزاءانتهى. وظاهر قول الزمخشري: لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال، وهذهمسألة خلاف. ذهب الفارسي إلى أنها قد تكون جواباً فقط في موضع، وجواباً وجزاء في موضع نفي، مثل: إذن أظنكصادقاً لمن قال: أزورك، هي جواب خاصة. وفي مثل: إذن أكرمك لمن قال: أزورك، هي جواب وجزاء. وذهب الأستاذ أبوعليّ إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه. والصحيح قول الفارسي، وهي مسألة يبحثعنها في علم النحو. والأجر كناية عن الثواب على الطاعة، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة، أو باعتبار الشرف. والصراط المستقيمهو الإيمان المؤدّي إلى الجنة قاله: ابن عطية. وقيل: هو الطريق إلى الجنة. وقيل: الأعمال الصالحة. ولما فسر ابن عطيةالصراط المستقيم بالإيمان قال: وجاء ترتيب هذه الآية كذا. ومعلوم أنَّ الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديدما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر انتهى. وأمّا إذا فسرتالهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة، أو الأعمال الصالحة، فإنه يظهر الترتيب. {وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ } قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى اللهعليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله ، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال: يا ثوبان ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقتإليك، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين،وإنِّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك، وإنْ لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً.انتهى قول الكلبي. وحكى مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري،وهو الذي أرى الأذان قال: يا رسول الله، إذا مت ومتنا، كنتَ في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك، وذكرحزنه على ذلك، فنزلت. وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي قال: اللهماعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمى. والمعنى في مع النبيين: إنه معهم في دار واحدة، وكل من فيها رزقالرضا بحاله، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإنْ بعد مكانه. وقيل: المعية هنا كونهم يرفعونإلى منازل الأنبياء متى شاؤا تكرمة لهم، ثم يعودون إلى منازلهم. وقيل: إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفلمنهم ليتذاكروا نعمة الله، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير. قال أبو عبد الله الرازي: هذه الآية تنبيه على أمرين منأحوال المعاد: الأول: إشراق الأرواح بأنوار المعرفة. والثاني: كونهم مع النبيين. وليس المراد بهذه المعية في الدرجة، فإنّ ذلك ممتنع،بل معناه: إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق، فينعكس الشعاعمن بعضها على بعض، فتصير أنوارها في غاية القوة، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه. وهو شبيه بما قالته الفلاسفةفي الأرواح إذا فارقت الأجساد. وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه.وقوله: مع الذي أنعم الله عليهم، تفسير لقوله:

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهم من ذكر في هذه الآية. والظاهرأن قوله: من النبيين، تفسير للذين أنعم الله عليهم. فكأنه قيل: من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهمممن أنعم عليهم. قال الراغب: ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب: النبي بالنبي، والصديق بالصديق، والشهيد بالشهيد،والصالح بالصالح. وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله: ومن يطع الله والرسول. أي: من النبيين ومن بعدهم، ويكون قوله:فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى. ثم قال: { وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }

ويبين ذلك قول النبي حين الموت ٱللَّهُمَّ ألحقني بالرفيقٱلاْعْلَىٰ وهذا ظاهر انتهى. وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسدمن جهة المعنى، ومن جهة النحو. أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد ، أخبرالله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله: ومن يطع اللهوالرسول، لكان قوله: من النبيين تفسيراً لمن في قوله: ومن يطع. فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياءيطيعونه، وهذا غير ممكن، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين. وقال هو : لا نبي بعدي . وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها، لو قلت: إنْ تقم هند فعمروذاهب ضاحكة، لم يجز. واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين. فقال بعضهم: كلها أوصاف لموصوف واحد، وهي صفاتمتداخلة، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً. وقيل: المراد بكل وصف صنف من الناس. فأماالصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب. فقيل: هو الكثير الصدق، وقيل: هو الكثير الصدقة. وللمفسرين في تفسيره وجوه: الأول: أنّ كلمن صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى:

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصّدّيقُونَ }

.الثاني: أفاضل أصحاب الرسول. الثالث: السابق إلى تصديق الرسول. فصار في ذلك قدوة لسائر الناس. وأما الشهيد: فهو المقتول فيسبيل الله، المخصوص بفضل الميتة. وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم. وقد تقدمالكلام في كونهم سموا شهداء، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليهوسلم. وقال أبو عبد الله الرازي: لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر، بل نقول: الشهيد فعيلبمعنى فاعل، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان، وتارة بالسيف والسنان. فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهمالله في قوله:

{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }

. والصالح: هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله. وجاءهذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى، إلى أدنى منه. وفي هذا الترغيب للمؤمنين فيطاعة الله وطاعة رسوله، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله، وأرفعهم درجات عنده. وقال الراغب: قسم اللهالمؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزلواحد منهم: الأول: الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب. ولذلك قال تعالى:

{ أَفَتُمَـٰرُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ }

. الثاني: الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عنيأمير المؤمنين حين قيل له: هل رأيت الله؟ فقال: ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال: «لم تره العيونبشواهد الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. الثالث: الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين. ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآةمن مكان قريب، كحال حارثة حيث قال: كأني أنظر إلى عرش ربي، وإياه قصد النبي حيثقال: اعبد الله كأنك تراه . الرابع: الصالحون، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى الشيءمن بعيد في مرآة. وإياه قصد النبي بقوله: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك انتهى كلامه. وهو شبيه بكلام المتصوفة. وقال عكرمة: النبيون محمد ، والصديقون أبو بكر،والشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحون صالحو أمّة محمد انتهى. وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل،وأما على طريق الحصر فلا، ولا يفهم من قوله: ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة، إذاللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه، لأنهم قديأتون بالطاعة الواحدة، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات، وترك جميع المنهيات. {وَحَسُنَأُولَـئِكَ رَفِيقاً } أولئك: إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم، فالمطيع لله ولرسولهيوافقونه ويصحبونه، والرفيق الصاحب، سمي بذلك للارتفاق به. وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك، أو علىالتمييز. وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً، فيجوز دخول من عليه، ويكون هو المميز. وجاء مفرداً إمّالأن الرفيق مثل الخليط والصديق، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد بهالجمع، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل، فلا يكون هو المميز والتقدير: وحسن رفيق أولئك،فلا تدخل عليه مَن ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى مَن يطع الله والرسول، وجمع على معنى من ويجوز فيانتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة. وقرأ الجمهور: وحسُن بضم السين، وهي الأصل، ولغة الحجاز. وقرأ أبو السمال: وحسْن بسكونالسين وهي لغة تميم. ويجوز: وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها، وهي لغة بعض بنيقيس. قال الزمخشري: وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً. ولاستقلاله بمعنى التعجب: وحسْن بسكونالسين. يقول المتعجب. وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه. وهو تخليط، وتركيب مذهب على مذهب. فنقول: اختلفوافي فعل المراد به المدح والذم، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، فلا يكون فاعلاًإلا بما يكون فاعلاً لهما. وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس، فيجعل فاعلها كفاعلهما، وذلك إذا لميدخله معنى التعجب. وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل، ولا في بقية أحكامهما، بليكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب، فيقول: لضربت يدك ولضربت اليد. والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور فيعلم النحو. والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين، بل خلط وركب، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش، وأخذ التمثيل بقوله:وحسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي. وأما قوله: ولاستقلاله بمعنى التعجب، قرىء: وحسْن بسكون السين، وذكر أنالمتعجب يقول: وحسن وحسن، فهذا ليس بشيء، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب، فلا يكون التسكين، ولا هو والنقللأجل التعجب. {ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ } الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين، ومن عطف عليهم، لأنههو المحكوم به في قوله: {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ } وكأنه على تقدير سؤال أي: وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيينفي الآخرة، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بين؟ فذكر أنَّ ذلك بفضله، لا بوجوب عليه. ومع استوائهم معهم فيالجنة فهم متباينون في المنازل. وقيل: الإشارة إلى الثواب في قوله أجراً عظيماً. وقيل: إلى الطاعة. وقيل: إلى المرافقة.وقال الزمخشري: إنّ ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله، لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم،وذلك مبتدأ والفضل خبره، ومِن الله حال، ويجوز أن يكونَ الفضل صفةً، والخبر من الله، ويجوز أن يكونا خبرين علىمذهب من يجيز ذلك. {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التيتتضمن الجزاء أي: وكفى به مجازياً لمن أطاع. قال ابن عطية: فيه معنى أن تقول: فشملوا فعل الله وتفضله منالاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله:وكفى، انتهى. وقد بينا فساد قولَ مَن يدّعي أنَّ قولك: كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله:

{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً }

. وقال الزمخشري: وكفى بالله عليماً، بجزاء من أطاعه. أو أراد فصل المنعم عليهم، ومزيتهممن الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه، وكفى بالله عليماً بعباده، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى. وهي ألفاظ المعتزلة.{عَلِيماً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالىلما ذكر طاعته وطاعة رسوله، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله، أمر بالقيام بإحياء دينه، وإعلاء دعوته، وأمرهم أنلا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال: خذوا حذركم. فعلمهم مباشرة الحروب. ولما تقدم ذكر المنافقين، ذكر في هذه الآيةتحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد، فنادى ولاً باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنينأو ينهاهم، والحذر والحذر بمعنى واحد. قالوا: ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك. ومعنى خذ حذرك: أياستعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره. ويقال: أخذ حذره إذا احترز من المخوف،كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم، والمعنى: احترزوا من العدو. ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة،وسرية بعد سرية، أو كتيبة واحدة مجتمعة. وقرأ الجمهور: فانفِروا بكسر الفاء فبهما. وقرأ الأعمش: بضمها فيهما، وانتصاب ثباتوجميعاً على الحال، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء. وقال الفراء: العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها.أنشدني بعضهم:

فلما جلاها بالأيام تحيزت     ثباتاً عليها ذلها واكتئابها

ينشد بكسرالتاء وفتحها انتهى. وأوفى أو انفروا للتخيير. وقال ابن عباس: هذه الآية نسختها. { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً }

قيل: وإنما عنى بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم. {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } الخطاب لعسكر رسول الله. وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج وابن زيد في آخرين: لمن ليبطئن هم المنافقون، وجعلوا منالمؤمنين باعتبار الجنس، أو النسب، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهراً. وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل:هم ضعفه المؤمنين. ويبعد هذا القول قوله: عند مصيبة المؤمنين

{ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً }

وقوله:

{ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ }

ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن، إنما يصدر عن منافق. واللام فيليبطئن لام قسم محذوف التقدير: للذي والله ليبطئن. والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن.قالو: وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانتجملة القسم قد عريت من ضمير، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه، ولا حجة فيها لأنّ جملةالقسم محذوفة، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول، واحتمل أنْ لا يكون. وما كان يحتمل وجهين لا حجةفيه على تعيين أحدهما، ومثل هذه الآية قوله تعالى:

{ وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ }

في قراءة من نصبكلا وخفف ميم لما أي: وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج. وقال ابن عطية: اللام في ليبطئن لام قسمعند الجمهور. وقيل: هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى. وهذا القول الثاني خطأ. وقرأ الجمهور: ليبطئن، بالتشديد. وقرأ مجاهد: ليبطئنبالتخفيف. والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازماً، لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى بطؤ، ويحتمل أن يكون متعدياً بالهمزةأو التضعيف من بطؤ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد، وعلى التعدّي أكثر المفسرين. {فَإِنْ أَصَـٰبَتْكُمْمُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } المصيبة: الهزيمة. سميت بذلك لما يلحق الإنسان منالعتب بتولية الإدبار وعدم الثبات. ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر:

إن كنت صادقة كما حدثتني     فنجوت منجى الحارث بن هشامترك الأحبة أن يقاتل عنهمونجا برأس طمره ولجام

عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة. وقالآخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه:

وقد كان فوت الموت سهلاً فرده     إليه الحفاظ المرء والخلق الوعرفأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر

وقيل: المصيبة القتل في سبيل الله، سموا ذلكمصيبة على اعتقادهم الفاسد، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى. وقيل: المصيبة الهزيمة والقتل. والشهيد هناالحاضر معهم في معترك الحرب، أو المقتول في سبيل الله، يقوله المنافق استهزاء، لأنه لا يعتقد حقيقة المشهادة في سبيل الله.

{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }[عدل]

{وَلَئِنْ أَصَـٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِى* لَيْتَنِى *كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } الفضل هنا: الظفر بالعدو والغنيمة. وقرأ الجمهور: ليقولن بفتح اللام. وقرأ الحسن:ليقولن بضم اللام، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من. وقرأ ابن كثير وحفص. كأنْ لم تكن بتاء التأنيث، والباقونبالياء. وقرأ الحسن ويزيد النحوي: فأفوزُ برفع الزاي عطفاً على كنت، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني، أوعلى الاستئناف أي فأنا أفوز. وقرأ الجمهور: بنصب الزاي، وهو جواب التمني، ومذهبُ جمهور البصريين: أنّ النصب بإضمار أن بعدالفاء، وهي حرف عطف عطفت المصدر المنسبك من أن المضمرة والفعل المنصوب بها على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين: أنه انتصببالخلاف، ومذهب الجرمي: أنه انتصب بالفاء نفسها، ويا عند قوم للنداء، والمنادي محذوف تقديره: يا قوم ليتني. وذهب أبو علي:إلى أن يا للتنبيه، وليس في الكلام منادى محذوف، وهو الصحيح. وكأنْ هنا مخففة من الثقيلة، وإذا وليتها الجملة الفعليةفتكون مبدوءة بقد، نحو قوله:

لا يهولنك اصطلاؤك للحر     ب فمحذورها كان قد ألما

أو بلم كقوله: «كان لم يكن» كان لم «تغن بالأمس» ووجدت في شعر عمار الكلبي ابتداءها في قوله:

بددت منها الليالي شملهم     فكأن لما يكونوا قبل ثم

وينبغي التوقف في جواز ذلك حتى يسمعمن لسان العرب. وقال ابن عطية: وكأنْ مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وإنما تجيءبعدها الجمل انتهى. وهذا الذي ذكره غير محرر، ولا على إطلاقه. أما إذا خفقت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة،فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر، ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفاً، وتكون تلك الجملة في موضعرفع خبر كان. وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهراً، وترفع الخبر هذا ظاهركلام سيبويه. ولا يخص ذلك بالشعر، فنقول: كأن زيداً قائم. قال سيبويه: وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العربمن يقول: إن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤون: وأن كلا لما يخففون وينصبون كما قال: كأن ثدييه حقان، وذلك لأنالحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله، كما لم يغير عمل لم يك، ولم أبل حينحذف انتهى. فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله: كأن ثدييه حقان جواز ذلك في الكلام، وأنه لا يختص بالشعر.وقد نقل صاحب رؤوس المسائل: أن كأنْ إذا خفقت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين، وأن البصريين أجازوا ذلك. فعلىمذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في أنَّ كانْ المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وأما علىمذهب البصريين فلا، لأنها عندهم لا بد لها من اسم وخبر. والجملة من قوله: كأنْ لم يكن بينكم وبينهمودة اختلف المفسرون فيها ونحن نسرد كلام من وقفنا على كلامه فيها. فنقول: قال الزمخشري: اعتراض بين الفعل الذي هوليقولن، وبين مفعوله وهو يا ليتني، والمعنى: كأنْ لم يتقدم له معكم مودة، لأنّ المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم فيالظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. والظاهر أنه تهكم، لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم، فكيفيوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكماً بحالهم؟ وقال ابن عطية: المنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام،ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين. فعلى هذا يجيء قوله تعالى: كأنلم تكن بينكم وبينه مودة، التفاتة بليغة واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم. وقال الزجاج: هذهالجملة اعتراض، أخبر تعالى بذلك لأنهم كانوا يوادون المؤمنين. وقال أيضاً، وتبعه الماتريدي هذا على التقديم والتأخير تقديره: فإنْ أصابتكممصيبة قال: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً، كأنْ لم تكن بينكم وبينه مودة، ولئن أصابكم فضلمن الله. قال الراغب: وذلك مستقبح، فإنه لا يفصل بين الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى. وقال أيضاً: وتبعه أبوالبقاء: موضع الجملة نصب على الحال كما تقول: مررت بزيد وكان لم يكن بينك وبينه معرفة، فضلاً عن مودة. وقالأبو علي الفارسي: هذه الجملة من قول المنافقين الذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم، كأن لم تكن بينكم وبينه أي:وبين النبي مودة فيخرجكم معهم لتأخذوا من الغنيمة، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم. وتبع أبو علي فيذلك مقاتلاً. قال مقاتل: معناه كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم، يريد: أنّ المبطىء قال لمن تخلف عنالغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين، ومن تخلف بإذن كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد، فتفوزون بمافاز. وقال أبو عبد الله الرازي: هو اعتراض في غاية الحسن، لأن من أحب إنساناً فرح عند فرحه، وحزن عندحزنه، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة. فنقول: حكى تعالى عن المنافق سروره وقت نكبة المسلمين، ثم أراد أن يحكيحزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاتته الغنيمة، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله: كأن لم يكن بينكم وبينه،والمراد التعجب. كأنه يقول تعالى: انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق، كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة أيها المؤمنون ولامخالطة أصلاً، فهذا هو المراد من الكلام. وقال قتادة وابن جريج: قول المنافق: يا ليتني كنت معهم على معنىالحسد منه للمؤمنين في نيل رغبته. وتلخص من هذه الأقوال أن هذه الجملة: إمّا أن يكون لها موضع منالإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية، فيكون من جملة المقول،وجملة المقول هو مجموع الجملتين: جملة التشبيه، وجملة التمني. وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد، وضمير الغيبة في وبينه للرسول. وعلىالوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين، وضمير الغيبة للقائل. وإمّا أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضاً في الأصلبين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت، والنية بها التوسط بين الجملتين. أو لكونها اعتراضاً بين: ليقولن ومعموله الذي هو جملةالتمني، ولبس اعتراضاً يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة، بل يتعلق بمضمون الجملتين، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين، وفي بينه للقائل.واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة، ولم يتأخر بعدها وإنْ كان من حيث المعنى متأخراً إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين،لأن معمول القول النية به التقديم، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة. ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليستفاصلة، والتقدير: ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة، إذ صدر منه قولهوقت المصيبة: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً. وقوله: وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم، وهذا قولمن لم تسبق منه مودة لكم. وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدّون من المنح إلا أغراض الدنيا، يفرحونبما ينالون منها، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها كقوله تعالى:

{ فَأَمَّا ٱلإِنسَـٰنُ إِذَا مَا ٱبْتَلـٰهُ رَبُّهُ }

الآية. وتضمنت هذه الجملة أنواعاً من الفصاحة والبديع: دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله:إن كنتم تؤمنون. والإشارة في ذلك: خير أولئك الذين يعلم الله، فأولئك مع الذين، وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل منالله. والاستفهام المراد به التعجب في: ألم تر إلى الذين يزعمون. والتجنيس المغاير في: أن يضلهم ضلالاً، وفي: أصابتهم مصيبة،وفي: وقل لهم في أنفسهم قولاً، وفي: يصدّون عنك صدوداً، وفي: ويسلموا تسليماً، وفي: فإنْ أصابتكم مصيبة، وفي: فأفوز فوزاًعظيماً. والاستعارة في: فإن تنازعتم، أصل المنازعة الجذب باليد، ثم استعير للتنازع في الكلام. وفي: ضلالاً بعيداً استعار البعد المختصبالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها، وفي: فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التييدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي: أنفسهم حرجاً أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجرإذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم، وهو أن يتبع الكلام كلمةتزيد المعنى تمكناً وبياناً للمعنى المراد وهو في قوله قولاً بليغاً أي: يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغاً في زجرهم.وزيادة الحرف لزيادة المعنى في: من رسول أتت للاستغراق إذ لو لم تدخل لا وهم الواحد. والتكرار في: استغفر واستغفرواأنفسهم، وفي أنفسهم واسم الله في مواضع. والالتفات في: واستغفر لهم الرسول. والتوكيد بالمصدر في: ويسلموا تسليماً. والتقسيم البليغ فيقوله: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وإسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في: أصابتكم مصيبة، وأصابكم فضل.وجعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله: وإن منكم لمن ليبطئن. والاعتراض على قول الجمهور في قوله: كانلم يكن بينكم وبينه مودّة. والحذف في مواضع.

{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } * { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } * { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَا لِهَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }[عدل]

إدراك الشيء الوصول إليه ونيله. البرج: الحصن. وقيل: القصر. والبروج: منازل القمر، وكلهامن برج إذا ظهر، ومنه التبرج وهو إظهار المرأة محاسنها، والبرج في العين اتساعها. المشيد: المصنوع بالشيد وهو الجص. يقال:شاد وشيد كرر العين للمبالغة، ككسرت العود مرة وكسرته في مواضع، وخرقت الثوب وخرقته إذا كان الخرق منه في مواضع.فعلى هذا يقال: شاد الجدار. ومنه قال والشاعر:

شــاده مـرمــراً وجللــه كلــــساً فللطير في ذراه وكور    

والمشيد: المطول المرفوع يقال: شيد وأشاد البناء رفعه وطوّله، ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل إذا رفعه. الفقه: الفهم. يقال: فقهتالحديث إذا فهمته، وفقه الرجل صار فقيهاً. {فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلاْخِرَةِ } قيل: نزلتفي المنافقين الذين تخلفوا عن أحد. ويشرون بمعنى يشترون. والمعنى: أخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ثم جاهدوا في سبيل الله. وقيل:نزلت في المؤمنين بالجهاد من تخلف من ضعفة المؤمنين. {وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِأَجْراً عَظِيماً } ثم وعد من قاتل في سبيل الله بالأجر العظيم، سواء استشهد، أو غلب. واكتفى في الحالتين بالغاية،لأن غاية المغلوب في القتال أن يقتل، وغاية الذي يقتل أن يغلب ويغنم، فأشرف الحالتين ما بدء به من ذكرالاستشهاد في سبيل الله، ويليها أنْ يقتل أعداء الله، ودون ذلك الظفر بالغنيمة، ودون ذلك أن يغزو فلا يصيب ولايصاب. ولفظ الجهاد في سبيل الله يشمل هذه الأحوال، والأجر العظيم فسر بالجنة. والذي يظهر أنه مزيد ثواب من اللهتعالى مثل كونهم أحياء عند ربهم يرزقون، لأن الجنة موعود دخولها بالإيمان. وكان الذي فسره بالجنة ينظر إلى قوله تعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ }

الآية. وقرأ الجمهور: فليقاتل بسكون لام الأمر. وقرأت فرقة:بكسرها على الأصل. وقرأ الجمهور: فيُقتل مبنياً للمفعول. وقرأ محارب بن دثار: فيقتل على بناء الفعل للفاعل. وأدغم يغلب فيالفاء أبو عمرو والكسائي وهشام وخلاد بخلاف عنه، وأظهرها باقي السبعة. وقرأ الجمهور: نؤتيه بالنون. وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف:يؤتيه بالياء. {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرّجَالِ وَٱلنّسَاء وَٱلْوِلْدٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ } هذا الاستفهام فيه حثّ وتحريض على الجهاد في سبيل الله، وعلى تخليص المستضعفين. والظاهر أنّ قوله: لاتقاتلون في موضع الحال، وجوزوا أن يكون التقدير: وما لكم في أنْ لا تقاتلوا، فلما حذف حرف الجر، وحذف أنْ،ارتفع الفعل، والمستضعفين هو مطعوف على اسم الله أي: وفي سبيل المستضعفين. وقال المبرد والزجاج: هو معطوف على سبيل اللهأي: في سبيل الله، وفي خلاص المستضعفين. وقرأ ابن شهاب: في سبيل الله المستضعفين بغير واو عطف. فإما أن يخرجعلى إضمار حرف العطف، وإما على البدل من سبيل الله أي: في سبيل الله سبيل المستضعفين لأنه سبيل الله تعالى.وأجاز الزمخشري أن يكون: والمستضعفين منصوباً على الاختصاص يعني: واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين، لأن سبيل الله عام فيكل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه انتهى كلامه. ولا حاجة إلى تكلف نصبهعلى الاختصاص، إذ هو خلاف الظاهر. ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال قريش وأذاهم، إذ كانوالا يستطيعون خروجاً، ولا تطيب لهم على اوذى إقامة. ومن المستضعفين: عبد الله بن عباس وأمه، وقد دعا رسول الله بالنجاة للمستضعفين من المؤمنين وسمى منهم: الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة.وقوله: من الرجال والنساء والولدان تبيين للمستضعفين. والظاهر أنّ الولدان المراد به الصبيان، وهو جمع وليد. قيل: وقد كونجمع ولد، كورل وورلان. ونبه على الولدان تسجيلاً بإفراط ظلم من ظلمهم، وهم غير مكلفين ليتأذى بذلك آباؤهم، ولأنهم كانوايشركون آباءهم في الدعاء طلباً لرحمة الله تعالى، وتخليصهم من أذى الكفار. وهم أقرب إلى الإجابة حيث لم تكن لهمذنوب كما فعل قوم يونس، وكما هي السنة في خروج الصبيان في العيد، لأنه يطلق على العبد وليد، وعلى الأمةوليدة وغلب المذكر على المؤنث إذ درج المؤنث في الجمع الاستسقاء. وقيل: المراد بقوله من الرجال والنساء الأحرار، وبالولدان المذكرو{وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا * أَخْرَجْنَا } ليس لهم من القوة والمنعة من الظلم إلا بالدعاء والاستنصار بالله تعالى، والقرية هنامكة بإجماع. وتكلموا في جريان الظالم وهو مذكر على القرية وهو مؤنث، وهذا من واضح النحو. وقال الزمخشري: لوأنث فقيل: الظالمة، أو جمع فقيل: الظالمين، وأجاب عن ذلك وهذا لم يقرأ به، فيحتاج إلى الكلام فيه. ولو تعرضنالما يجوز في العربية في تراكيب القرآن لطال ذلك وخرجنا به عن طريقة التفسير. ووصف أهلها بالظلم إمّا لإشراكهم، وإمّالما حصل منهم من شدة الوطأة على المؤمنين وإذلالهم. قال ابن عطية: والآية تتناول المؤمنين والأسرى، وحواضر الشرك إلىيوم القيامة انتهى. ولما دعوا ربهم أجاب كثيراً منهم في الخروج، فهاجر بعضهم إلى المدينة، وفر بعضهم إلى الحبشة، وبقيبعضهم إلى الفتح. والجمهور على أنّ الله تعالى استجاب دعاءهم، فجعل لهم من لدنه خير وليّ وناصر وهو محمد صلىالله عليه وسلم، فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر. ولما خرج من مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وعمره أحدوعشرون سنة، فرأوا منه الولاية والنصر كما سألوا. قال ابن عباس: كان ينصف الضعيف من القوي، حتى كانوا أعز بهامن الظلمة. {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلطَّـٰغُوتِ فَقَـٰتِلُواْ أَوْلِيَاء ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّ كَيْدَٱلشَّيْطَـٰنِ كَانَ } لما أمر تعالى المؤمنين أولاً بالنفر إلى الجهاد، ثم ثانياً بقوله:

{ فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ }

ثمثالثاً على طريق الحث والحض بقوله:

{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ }

أخبر في هذه الآية بالتقسيم أن المؤمن هو الذييقاتل في سبيل الله، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار، ويقويهمبذلك ويشجعهم ويحرضهم. وإنّ مَن قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب، لأن الله هو وليه وناصره. ومن قاتل فيسبيل الله الطاغوت فهو المخذول المغلوب. والطاغوت هنا الشيطان لقوله: فقاتلوا أولياء الشيطان. وهنا محذوف، التقدير: فقاتلوا أولياء الشيطان فإنكمتغلبونهم لقوتكم بالله، ثم علل هذا المحذوف وهو غلبتكم إياهم بأنّ كيد الشيطان ضعيف، فلا يقاوم نصر الله وتأييده، وشتانبين عزم يرجع إلى إيمان بالله وبما وعد على الجهاد، وعزم يرجع إلى غرور وأماني كاذبة. ودخلت كان في قوله:كان ضعيفاً إشعاراً بأنّ هذا الوصف سابق لكيد الشيطان، وأنه لم يزل ضعيفاً. وقيل: هي بمعنى صار أي: صار ضعيفاًبالإسلام. وقول من زعم: أنها زائدة، ليس بشيء. وقال الحسن: أخبرهم أنهم سيظهرون عليهم، فلذلك كان ضعيفاً. {لِمَ كَتَبْتَعَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ } خرّج النسائيفي سنته عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا رسول الله بمكةفقالوا: يا نبيّ الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم،فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله هذه الآية. ونحو هذا روي عن قتادة والسدي ومقاتل.وروي عن ابن عباس أيضاً: نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمن المتقدم. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومىء إلىقصة الذين قالوا:

{ ابعث لنا مليكاً }

. وقال مجاهد: نزلت في اليهود. وقال الحسن: في المؤمنين لقوله: يخشون الناس، أي: مشركيمكة. والخشية هي ما طبع عليه البشر من المخافة، لا على المخالفة. ونحو ما قال الحسن. قال الزمخشري: قال كعّفريق منهم لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفوراً عن الأخطار بالأرواح، وخوفاً من الموت. وقال قوم: كانكثير من العرب استحسنوا الدخول في الدين على فرائضه التي قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها، والموادعة، فلما نزل القتالشق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر بالقتال حين طلبوهوجب امتثال أمر الله، فلما كعَّ عنه بعضهم قال تعالى: ألا تعجب يا محمد من ناس طلبوا القتال فأمروا بالموادعة،فلما كتب عليهم فرق فريق وجزع. ومعنى كفوا أيديكم: أي عن القتال، يدل عليه: فلما كتب عليهم القتال. وقال أبوعبد الله الرازي: لا يقال كفوا إلا للراغبين فيه، وهم المؤمنون. وقيل: يريد المنافقين. وإنما قال: كفوا لأنهم كانوا يظهرونالرغبة فيه انتهى. وقال أيضاً: ودلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدماً على إيجاب الجهاد، وهذا الترتيبهو المطابق لما في العقول، لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله. ولاشك أنهما متقدمان على الجهاد. والفريق إمّا منافقون، وإما مؤمنون، أو ناس في الزمان المتقدم، أو أسلموا قبل فرض القتالحسب اختلاف سبب النزول. والناس هنا أهل مكة قاله الجمهور، أو كفار أهل الكتاب ومشركو العرب. ولمّا حرف وجوبلوجوب على مذهب سيبويه، وظرف زمان بمعنى حين على مذهب أبي علي. وإذا كانت حرفاً وهو الصحيح فجوابه إذا الفجائية،وإذا كانت ظرفاً فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر، لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، ولايمكن أن يعمل في لما الفعل الذي يليها، لأنّ لمّا هي مضافة إلى الجملة بعدها. فقال بعضهم: العامل في لمّامعنى يخشون، كأنه قيل: جزعوا. قال: وجزعوا هو العامل في إذا بتقدير الاستقبال. وهذه الآية مشكلة لأن فيها ظرفين أحدهما:لما مضى، والآخر: لما يستقبل انتهى. والذي نختاره مذهب سيبويه في لمّا، وأنها حرف. ونختار أنّ إذا الفجائية ظرف مكانيصح أن يجعل خبراً للاسم المرفوع بعده على الابتداء، ويصح أن يجعل معمولاً للخبر. فإذا قلت: لما جاء زيد إذاعمرو قائم، يجوز نصب قائم على الحال. وإذا حرف يصح رفعه على الخبر، وهو عامل في إذا. وهنا يجوز أنيكون إذا معمولاً ليخشون، ويخشون خبر فريق. ويجوز أن يكون خبراً، ويخشون حال من فريق، ومنهم على الوجهين صفة لفريق.ومن زعم أنَّ إذا هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد، لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال، لأنكتب ماض، وإذا للمستقبل. وإن تسومح فجعلت إذا بمعنى إذْ صار التقدير: فلما كتب عليهم القتال في وقت خشية فريقمنهم، وهذا يفتقر إلى جواب لما، ولا جواب لها. وإن كان العامل فيها ما بعدها، احتاجت إلى جواب هو العاملفيها، ولا جواب لها. والقول في إذا الفجائية: أهي ظرف زمان؟ أم ظرف مكان؟ أم حرف مذكور في علم النحو؟والكاف في كخشية الله في موضع نصب. قيل: على أنه نعت لمصدر محذوف أي: خشية كخشية الله. وعلى ما تقررمن مذهب سيبويه أنها على الحال من ضمير الخشية المحذوف، أي: يخشونها الناس أي: يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله.وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما محل كخشية الله من الإعراب؟ (قلت): محلها النصب على الحال من الضمير في يخشون،أي: يخشون الناس مثل أهل خشية الله أي: مشبهين لأهل خشية الله. أو أشد خشية، يعني: أو أشد خشية منأهل خشية الله. وأشد معطوف على الحال. (فإن قلت): لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدره: يخشونخشية الله، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ (قلت): أبى ذلك قوله: أو أشد خشية، لأنه وما عطف عليه في حكمواحد. ولو قلت: يخشون الناس أشدّ خشية لم يكن إلا حالاً عن ضمير الفريق، ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لاتقول: خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول: أشد خشية فتجرها، وإذا نصبتها لم يكن أشدخشية إلا عبارة عن الفاعل حالاً منه، اللهم إلا أنْ تجعل الخشية خاشية على حد قولهم: جد جده، فتزعم أنمعناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشدّ خشية من خشية الله. ويجوز على هذا أن يكون محل أشدّ مجروراً عطفاًعلى خشية الله، يريد: كخشية الله أو كخشية أشدّ خشية منها انتهى كلامه. وقد يصح خشية، ولا يكون تمييزاً فيلزممن ذلك ما التزمه الزمخشري، بل يكون خشية معطوفاً على محل الكاف، وأشدّ منصوباً على الحال لأنه كان نعت نكرةتقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير: يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها. وقد ذكرنا هذا التخريج فيقوله تعالى:

{ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }

وأوضحناه هناك. وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف أي: كخشيتهم الله. وأوعلى بابها من الشك في حق المخاطب، وقيل: للإبهام على المخاطب. وقيل: للتخيير. وقيل: بمعنى الواو. وقيل: بمعنى بل. وتقدّمنظير هذه الأقوال في قوله:

{ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }

ولو قيل أنها للتنويه، لكان قولاً يعني: أنّ منهم من يخشىالناس كخشية الله، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله. {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَاإِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } الظاهر أن القائلين هذا: هم منافقون، لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علتهمن هو خالص الإيمان، ولهذا جاء السياق بعده:

{ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ }

وهذا لا يصدر إلا من منافق. ولولا للتحضيض بمعنى هلاّ وهي كثيرة في القرآن. والأجل القريبهنا هو موتهم على فرشهم كذا قاله المفسرون. وذكر في حرف ابن مسعود: لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتفأنفنا ولا نقتل، فتسر بذلك الأعداء. ومن قال: إنه من قول المؤمنين، فيكونون قد طلبوا التأخير في كتب القتال إلىوقت ظهور الإسلام وكثرته، وهو بعيد. لأن لفظ لم رد في صدر أمر الله، وعدم استسلامهم له مع قولهم: وإنتصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. وقال الزمخشري: لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدّة الكف، واستمهال إلى وقتآخر كقوله:

{ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ }

. وقال الراغب: وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال، يجوز أن يكونتفوهوا به، ويجوز أن يكون اعتقدوه وقالوا في أنفسهم، فحكى تعالى ذلك عنهم تنبيهاً على أنهم لما استصعبوا ذلك دلاستصعابهم على أنهم غير واثقين بأحوالهم. {قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ٱتَّقَىٰ } تقدم الكلام على كونمتاع الدنيا قليلاً في قوله:

{ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ }

وإنما قل: لأنه فان، ونعيم الآخرة مؤبد، فهو خير لمن اتقى اللهوامتثل أمره في ما أحب، وفي ما كان شاقاً من قتال وغيره. وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: ولا يظلمون بالياء،وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وهو التفات أي: لا تنقصون من أجور أعمالكم ومشاق التكاليف أدنى شيء، فلا ترغبوا عنالأجر. {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي: هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه،لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة. وتحتمل هذه الجملةأن يكون ذلك تحت معمول قل، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله مستأنفاً بأنه لا ينجو من الموت أحد. والبروجهنا القصور في الأرض، قاله: مجاهد، وابن جريج، والجمهور. أو القصور من حديد، روي عن ابن عباس. أو قصور فيسماء الدنيا مبنية قاله: السدّي. أو الحصون والآكام والقلاع قاله: ابن عباس. أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله: بعضهم.أو بروح السماء التي هي منازل القمر قاله: الربيع أنس، والثوري، وحكاه ابن القاسم عن مالك. وقال: ألا ترى إلىقوله:

{ وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ }

وجعل فيها بروجاً

{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجًا }

وقال زهير:

ومن هاب أسباب المنية يلقها     ولو رام أسباب السماء بسلم

مشيدة مطولة قاله: أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة،والزجاج. أو مطلية بالشيد قاله: أبو سليمان الدمشقي. أو حصينة قاله: ابن عباس، وقتادة. ومن قال: أنها بروج في السماءفلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية. والجزم في يدرككم على جوابالشرط، وأينما تدل على العموم، وكأنه قيل: في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت. ولو هنا بمعنى إن، وجاءت لدفعتوهم النجاة من الموت بتقدير: إن لو كانوا في بروج مشيدة، ولإظهار استقصاء العموم في أينما. وقرأ طلحة بن سليمان:يدرككم برفع الكافين، وخرجه أبو الفتح: على حذف فاء الجواب أي: فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة. قال الزمخشري: ويجوز أنيقال: حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا، وهو: أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوامصلحين، وهو ليسوا بمصلحين. فرفع كما رفع زهير يقول: لا غائب ما لي ولا حرم. وهو قول نحوي سيبويهي انتهى.ويعني: أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم، بتوهم أنه نطق به. وذلك أنه متى كانفعل الشرط ماضياً في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان: أحدهما: الجزم على الجواب. والثاني: الرفع. وفي توجيه الرفعخلاف، الأصح أنّه ليس الجواب، بل ذلك على التقديم والتأخير، والجواب محذوف. وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعلالشرط ماضي اللفظ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعاً. وحمله علي ولا ناعب ليس بجيد، لانولا ناعب عطف على التوهم، والعطف على لتوهم لا ينقاس. وقال الزمخشري أيضاً ويجوز أن يتصل بقوله:

{ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }

أي: لا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها. ثم ابتدأ بقوله: يدرككمالموت ولو كنتم في بروج مشيدة، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه. وهذا تخريج ليس بمستقيم، لا منحيث المعنى، ولا من حيث الصناعة النحوية. أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله: ولا تظلمونفتيلاً، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله:

{ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ٱتَّقَىٰ }

وأمامن حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أنَّ أينما تكونوا متعلق بقوله: ولا تظلمون، ما فسره منقوله أي: لا تنقصون شيئماً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها، وهذا لا يجوز، لأنأينما اسم شرط، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده. ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله، فلا يمكن أنيعمل فيه، ولا تظلمون. بل إذا جاء نحو: اضرب زيداً متى جاء، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب. فإنقال: يقدّر له جواب محذوف يدل عليه ما بله وهو: ولا تظلمون، كما تقدر في اضرب زيداً: متى جاء، فالتقدير:أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً أي: فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه. قيل له: لا يحذفالجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي، وفعل الشرط هنا مضارع. تقول العرب: أنت ظالم إن فعلت، ولا تقلأنت ظالم إن تفعل. وقرأ نعيم بن ميسرة: مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً، كما قال: قصيدة شاعرة،وإنما الشاعر ناظمها. {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ }قال ابن عباس: الضمير للمنافقين واليهود، وقال الحسن: للمنافقين، وقال السدي: لليهود. والظاهر أنه للمنافقين لأن مثل هذا لا يصدرمن مؤمن، واليهود لم يكونوا في طاعة الإسلام حتى يكتب عليهم القتال. وروي عن ابن عباس: أن الحسنة هنا هيالسلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف. وعنه أيضاً: الحسنة الخصب والرخاء، والسيئة الجدب والغلاء. وعنه أيضاً: الحسنة السراء، والسيئة الضراء. وقالالحسن وابن زيد: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر.والمعنى: أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى الله تعالى، وأنها ليست باتباع الرسول، ولا الإيمان به، وإنّ تصبهمسيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا: هي بسببه، كما جاء في قوم موسى:

{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ }

وفي قوم صالح:

{ قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ }

. وروى جماعة من المفسرين أن النبي لماقدم المدينة قال اليهود والمنافقون: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. {قُلْكُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أمر الله نبيه أن يخبرهم أنَّ كلاً من الحسنة والسيئة إنما هو من عند الله،لا خالق ولا مخترع سوا، فليس الأمر كما زعمتم، فالله تعالى وحده هو النافع الضار، وعن إرادته تصدر جميع الكائنات.{فَمَالِ * هَـؤُلاء * ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة، وكيف ينسبما هو من عند الله لغير الله؟ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء، ويتوقفون عمايريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم. وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعلقهم، حتى نفى مقاربه الفقه، ونفى المقاربة أبلغمن نفي الفعل. وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله. فإذا قيل:ما لك قائماً، فهو إنكار للقيام، ومتضمن أن يوجد مقابله. وإذا قيل: ما لك لا تقوم، فهو إنكار لترك القيام،ومتضمن أن يوجد مقابله. قيل في قوله: حديثاً، أي القرآن لو تدبروه لبصرهم في الدين، وأورثهم اليقين. وقال ابن بحر:لامهم على ترك التفقه فيما أعلمهم به وأدبهم في كتابه. ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله: فما، ووقف الباقون علىاللام في قوله: فمال، اتباعاً للخط. ولا ينبغي تعمد ذلك، لأن الوقف على فما فيه قطع عن الخبر، وعلى اللامفيه قطع عن المجرور دون حرف الجر، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس.

{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }[عدل]

{مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَا أَصَـٰبَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }الخطاب عام كأنه قيل: ما أصابك يا إنسان. وقيل: للرسول ، والمراد غيره. وقال ابن بحر: هوخطاب للفريق في قوله:

{ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ }

قال: ولما كان لفظ الفريق مفرداً، صح أن يخبر عنه بلفظ الواحدتارة، وبلفظ الجمع تارة. وعليه قوله:

تفرق أهلاً نابثين فمنهم     فريق أقام واستقل فريق

هذا مقتضى اللفظ. وأما المعنى بالناس خاصتهم وعامتهم مراد بقوله: ما أصابك من حسنة. وقال ابن عباس، وقتادة، والحسن،وابن زيد، والربيع، وأبو صالح: معنى الآية أنه أخبر تعالى على سبيل الاستئناف والقطع أنَّ الحسنة منه بفضله، والسيئة منالإنسان بذنوبه، ومن الله بالخلق والاختراع. وفي مصحف ابن مسعود: فمن نفسك، وإنما قضيتها عليك، وقرأ بها ابن عباس. وحكىأبو عمرو: أنها في مصحف ابن مسعود، وأنا كتبتها. وروي أن ابن مسعود وأبياً قرآ: وأنا قدرتها عليك. ويؤيد هذاالتأويل أحاديث عن النبي معناها: {إِنَّ مَا * يُصَيبُ * ٱلاْنْسَـٰنُ مِن } وقالت طائفة: معنىالآية هو على قول محذوف تقديره: فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ يقولون: ما أصابك من حسنة الآية. والابتداءبقوله:

{ وَأَرْسَلْنَـٰكَ }

والوقف على قوله: فمن نفسك. وقالت طائفة: ما أصابك من حسنة فمن الله، هو استئناف إخبار منالله أنَّ الحسنة منه وبفضله. ثم قال: وما أصابك من سيئة فمن نفسك، على وجه الإنكار والتقدير: وألف الاستفهام محذوفةمن الكلام كقوله:

{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ }

أي: وتلك نعمة. وكذا

{ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبّى }

على أحد الأقوال،والعرب تحذف ألف الاستفهام قال أبو خراش:

رموني وقالوا يا خويلد لم ترع     فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي: أهم هم. وحكى هذا الوجه عن ابن الأنباري. وروى الضحاك عن ابن عباس أن الحسنة هنا ماأصاب المسلمين من الظفر والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما نكبوا به يوم أحد. وعن عائشة رضي الله عنها: «ما منمسلم يصيبه وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، حتى انقطاع نعله إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر». وقال تعالى:

{ وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ * فِيمَا *كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }

. وقد تجاذبت القدرية وأهل السنة الدلالة منهذه الآيات على مذاهبهم، فتعلقت القدرية بالثانية وقالوا: ينبغي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله بوجه، وجعلوا الحسنة والسيئةفي الأولى بمعنى الخصب والجدب والغنى والفقر. وتعلق أهل السنة بالأولى وقالوا:

{ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ }

عام يدلعلى أن الأفعال الظاهرة من العباد هي من الله تعالى، وتأولوا الثانية وهي: مسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقالالقرطبي: هذه الآيات لا يتعلق بها إلا الجهال من الفريقين، لأنّهم بنوا ذلك على أنّ السيئة هي المعصية، وليست كذلك.والقدرية قالوا: ما أصابك من حسنة أي: من طاعة فمن الله، وليس هذا اعتقادهم، لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذاهبهم:أنّ الحسنة فعل المحسن، والسيئة فعل المسيء. وأيضاً فلو كان لهم فيه حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وماأصبت من سيئة، لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعاً، فلا تضاف إليه إلا بفعله لهما لا يفعل غيره، نص على هذاالإمام أبو الحسن شيث بن ابراهيم بن محمد بن حيدر في كتابه المسمى بحزّ العلاصم في إفحام المخاصم. وقالالراغب: إذا تؤمّل مورد الكلام وسبب النزول فلا تعلق لأحد الفريقين بالآية على وجه يثلج صدراً أو يزيل شكاً، إذنزلت في قوم أسلموا ذريعة إلى غنى وخصب ينالونه، وظفر يحصلونه، فكان أحدهم إذا نابتة نائبة، أو فاته محبوب، أوناله مكروه، أضاف سببه إلى الرسول متطيراً به. والحسنة هنا والسيئة كهما في:

{ وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ }

وفي

{ فَإِذَا جَاءتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ }

انتهى. وقد طعن بعض الملاحدة فقال: هذا تناقض،لأنه قال: قل كل من عند الله وقال عقيبه: ما أصابك من حسنة الآية. وقال الراغب: وهذا ظاهر الوهى، لأنالحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة كالحيوان الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار. ومن الأسماء المختلفة كالعين. فلو أنّ قائلاً قال:الحيوان المتكلم والحيوان غير المتكلم، وأراد بالأول الإنسان، وبالثاني الفرس أو الحمار، لم يكن متناقضاً. وكذلك إذا قال: العين فيالوجه، والعين ليس في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين الميزان أو السحاب. وكذلك الآية أريد بهما في الأولى غيرما أريد في الثانية كما بيناه انتهى. والذي اصطلح عليه الراغب بالمشتركة وبالمختلفة ليس اصطلاح الناس اليوم، لأن المشتركهو عندهم كالعين، والمختلفة هي المتباينة. والراغب جعل الحيوان من الأسماء المشتركة وهو موضوع للقدر المشترك، وجعل العين من الأسماءالمختلفة وهو في الاصطلاح اليوم من المشترك. قال بعض أهل العلم: والفرق بين من عند الله، ومن الله: أنَّ منعند الله أعم. يقال: فيما كان برضاه وبسخطه، وفيما يحصل، وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال: هو من اللهإلا فيما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إنْ أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن الشيطان انتهى. وعنى بالنفسهنا المذكورة في قوله:

{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء }

وقرأت عائشة رضي الله عنها: فمن نفسك بفتح الميم ورفع السين،فمن استفهام معناه الإنكار أي: فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل المعنى ما للنفس في الشيء فعل. {وَأَرْسَلْنَـٰكَ لِلنَّاسِرَسُولاً } أخبر تعالى أنه قد أزاح عللهم بإرساله، فلا حجة لهم لقوله:

{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }

وللناس عام عربهم وعجمهم، وانتصب رسولاً على الحال المؤكدة. وجوّز أن يكون مصدراً بمعنى إرسالاً، وهو ضعيف. {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِشَهِيداً } أي مطلعاً على ما يصدر منك ومنهم، أو شهيداً على رسالتك. ولا ينبغي لمن كان الله شاهده إلاأن يطاع ويتبع، لأنه جاء بالحق والصدق، وشهد الله له بذلك. وقد تضمنت هذه الآيات من البيان والبديع: الاستعارةفي: يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وفي: فسوف نؤتيه أجراً عظيماً لما يناله من النعيم في الآخرة، وفي: سبيل الله، وفي:سبيل الطاغوت، استعار الطريق للاتباع وللمخالفة وفي: كفوا أيديكم أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال.والاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في: وما لكم لا تقاتلون. والاستفهام الذي معناه التعجب في: ألم تر إلى الذين قيللهم كفوا. والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في: الجهاد. والالتفات في: فسوف نؤتيه في قراءة النون. والتكرار في: سبيلالله، وفي: واجعل لنا من لدنك، وفي: يقاتلون، وفي: الشيطان، وفي: وإن تصبهم، وفي: ما أصابك وفي: اسم الله. والطباقاللفظي في: الذين آمنوا والذين كفروا. والمعنوي في: سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية. والاختصاص في: إن كيد الشيطانكان ضعيفاً، وفي: والآخرة خير لمن اتقى. والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في: يدرككم الموت، وفي: إن تصبهم، وفي:ما أصابك. والتشبيه في: كخشية. وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في: خير لمن اتقى. والتجنيس المغاير في: يخشون وكخشية.والحذف في مواضع.

{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } * { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } * { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } * { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } * { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } * { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }[عدل]

التبييت قال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس: كل أمر قضي بليل، قيل: قدبيت. وقال الزجاج: كل أمر مكر فيه أو خيض بليل فقد بيت. وقال الشاعر:

أتوني فلم أرض ما بيتوا     وكانوا أتوني بأمر نكر

وقال الأخفش: العرب تقول للشيء إذا قدر: بيت. وقال أبو رزين:بيت ألف. وقيل: هيـىء وزور. وقيل: قصد، ومنه قول الشاعر:

لما تبيتنا أخا تميم     أعطى عطاء اللحز اللئيم

أي: قصدنا. وقيل: التبييت التبديل بلغة طيـىء، قال شاعرهم:

وتبييـت قــولي عنــد المليــــك قاتلك الله عبداً كفوراً    

التدبر: تأمل الأمر والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته، ثم استعملفي كل تأمل. والدبر: المال الكثير، سمي بذلك لأنه يبقى للإعقاب وللإدبار قاله: الزجاج وغيره. الإذاعةُ: إظهار الشيء وإفشاؤهيقال: ذاع، يذيع، وأذاع، ويتعدى بنفسه وبالباء، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرّد. قال أبو الأسود:

أذاعوا به في الناس حتى كأنه     بعلياء نار أوقدت بثقوب

الاستنباط: الاستخراج، والنبط الماء يخرج منالبئر أول ما تحفر، والانباط والاستنباط إخراجه. وقال الشاعر:

نعم صادقاً والفاعل القائل الذي     إذا قال قولاً نبطاً الماء في الثرى

وقال ابن الأعرابي: يقال للرّجل إذا كان بعيد العز والمنعة ما يجد عدوه له: نبطاً. قال كعب:

قريب تراه لا ينال عدوّه     له نبطاً آبى الهوان قطوب

والنبط الذين يستخرجون المياهوالنبات من الأرض. وقال الفراء: نبط مثل استنبط، ونبط الماء ينبُط بضم الباء وفتحها. التحريض: الحث. التنكيل: الأخذ بأنواع العذابوترديده على المعذب، وكأنه مأخوذ من النكل وهو: القيد. الكفل: النصيب، والنصيب في الخير أكثر استعمالاً. والكفل في الشر أكثرمنه في الخير. المقيت: المقتدر. قال الزبير بن عبد المطلب:

وذي ضغن كففت النفس عنه     وكان على إساءته مقيتاً

أي مقتدراً. وقال السموءل:

ليت شعري واشعرت إذا ما     قربوها منشورة ودعيت أتى الفصل ثم عليّ إذا حو

وقالأبو عبيدة: المقيت الحاضر. وقال ابن فارس: المقيت المقتدر، والمقيت: الحافظ والشاهد. وقال النحاس: هو مشتق من القوت، والقوت مقدارما يحفظ به الإنسان من التلف. التحية قال عبد الله بن إدريس: هي الملك وأنشد:

أوّم بها أبا قابوس حتى     أنيخ على تحيته بجندي

وقال الأزهري: التحية بمعنى الملك، وبمعنى البقاء، ثم صارت بمعنىالسلامة. انتهى. ووزنها تفعلة، وليس الإدغام في هذا الوزن واجباً على مذهب المازني، بل يجوز الإظهار كما قالوا: أعيبة بالإظهار،وأعية بالإدغام في جمع عبي. وذهب الجمهور إلى أنه يجب الإدغام في تحية، والكلام على المذهبين مذكور في كتب النحو.{مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } قال : من أحبني فقد أحب الله فاعترضت اليهود فقالوا: هذا محمد يأمر بعبادة الله، وهو في هذا القول مدع للربوبية فنزلت. وفيرواية: قال المنافقون لقد قارب الشرك. وفي رواية: قالوا ما يريد هذا الرجل إلا أن يتخذ رباً كما اتخذت النصارىعيسى. وتعلق الطاعتين لأنّه لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عن ما نهى الله عنه، فكانتطاعته في ذلك طاعة الله. ومن تولى بنفاق أو أمر فما أرسلناك هذا التفات، إذ لو جرى على الرسول لكانفما أرسله. والحافظ هنا المحاسب على الأعمال، أو الحافظ للأعمال، أو الحافظ من المعاصي، أو الحافظ عن التولي، أو المسلطمن الحفاظ أقوال. وتتضمن هذه الآية الإعراض عمن تولى، والترك رفقاً من الله، وهي قبل نزول القتال. {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} نزلت في المنافقين باتفاق. أي: أمرتهم بشيء قالوا طاعة، أي: أمرنا طاعة، أو منا طاعة. قال الزمخشري: ويجوز النصببمعنى أطعناك طاعة، وهذا من قول المرتسم سمعاً وطاعة، وسمع وطاعة، ونحوه قول سيبويه. وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقالله: كيف أصبحت؟ فيقول: حمداً لله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد الله. ولو نصب حمد الله وثناء عليهكان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها انتهى. ولا حاجة لذكر ما لم يقرأ به ولا لتوجيهه ولالتنظيره بغيره، خصوصاً في كتابه الذي وضعه على الاختصار لا على التطويل. {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْغَيْرَ ٱلَّذِى تَقُولُ } أي إذا خرجوا من عندك رووا وسووا أي: طائفة منهم غير الذي تقوله لك يا محمدمن إظهار الطاعة، وهم في الباطن كاذبون عاصون، فعلى هذا الضمير في تقول عائد على الطائفة، وهو قول ابن عباس.وقيل: يعود على الرسول أي: غير الذي تقوله وترسم به يا محمد، وهو الخلاف والعصيان المشتمل عليه بواطنهم. ويؤيد هذاالتأويل قراءة عبد الله بيت مبيت منهم يا محمد. وقرأ يحيـى بن يعمر يقول: بالياء، فيحتمل أن يكون الضمير للرسول،ويكون التفاتاً إذ خرج من ضمير الخطاب في من عندك، إلى ضمير الغيبة. ويحتمل أن يعود على الطائفة، لأنها فيمعنى القوم أو الفريق، وخص طائفته بالتبيين لأنه لم يكونوا ليجتمعوا كلهم في دار واحدة، أو لأنه إخبار عن منعلم الله أنه يبقى على كفره ونفاقه. وأدغم حمزة وأبو عمرو بيت طائفة، وأظهر الباقون. {وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} أي: يكتبه في صحائف أعمالهم حسبما تكتبه الحفظة ليجازوا به. وقال الزجاج: يكتبه في كتابه إليك، أي: ينزله فيالقرآن ويعلم به ويطلع على سرهم. وقيل: يكتب يعلم عبر بالكتابة عن العلم، لأنه من ثمراتها. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْعَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } هذا مؤكد لقوله:

{ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }

أي لا تحدث نفسكبالانتقام منهم. وليس المعنى فاعرض عن دعوتهم إلى الإيمان وعن وعظهم. وقال الضحاك: معنى أعرض عنهم لا تخبر بأسمائهم فيجاهروكبالعداوة بعد المجاملة في القول، ثم أمره بإدامة التوكل عليه، هو ينتقم لك منهم، وهذا أيضاً قبل نزول القتال.{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ } قرأ الجمهور: يتدبرون بياء وتاء بعدها على الأصل. وقرأ ابن محيص: بإدغام التاء في الدال، وهذااستفهام معناه الإنكار أي: فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه، فإنه في تدبره يظهر برهانه وسطعنوره ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً} الظاهر أن المضمر في فيه عائد على القرآن، وهذا في علم البيان الاحتجاج النظري، وقوم يسمونه المذهب الكلامي. ووجههذا الدليل أنه ليس من متكلم كلاماً طويلاً إلا وجد في كلامه اختلاف كثير، إما في الوصف واللفظ، وإما فيالمعنى بتناقض أخبار، أو الوقوع على خلاف المخبر به، أو اشتماله على ما لا يلتئم، أو كونه يمكن معارضته. والقرآنالعظيم ليس فيه شيء من ذلك، لأنه كلام المحيط بكل شيء مناسب بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتظافر صدق أخبار،وصحة معان، فلا يقدر عليه إلا العالم بما لا يعلمه أحد سواه. قال ابن عطية: فإن عرضت لأحد شبهةوظن اختلافاً فالواجب أن يتهم نظره، ويسأل من هو أعلم منه. وما ذهب إليه بعض الزنادقة المعاندين من أنّ فيهأحكاماً مختلفة وألفاظاً غير مؤتلفة فقد أبطل مقالتهم علماء الإسلام، وما جاء في القرآن من اختلاف في تفسير وتأويل وقراءةوناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وعام وخاص ومطلق ومقيد فليس هو المقصود في الآية، بل هذه من علوم القرآن الدالة علىاتساع معانيه، وأحكام مبانيه. وذهب الزجاج إلى أنَّ الضمير في فيه عائد على ما يخبره به الله تعالى مما يبيتونويسرون، والمعنى: أنّك تخبرهم به على حد ما يقع، وذلك دليل على أنه من عند الله غيب من الغيوب. وفيذكر تدبر القرآن ردّ على من قال من الرافضة: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليهوسلم. {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلاْمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } روى مسلم من حديث ابن عباس عن عمر:«أنّ رسول الله لما اعتزل نساءه، فدخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون: طلق رسول الله صلىالله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي فسأله: أطلقت نساءك؟ قال: لا. فخرج فنادى: ألا إنّرسول الله لم يطلق نساءه، فنزلت». وكان هو الذي استنبط الأمر، وروى أبو صالح عن ابنعباس: أن الرسول كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت، أو غلبت، تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون هوالمحدث به، فنزلت. والضمير في: جاءهم على المنافقين، قاله ابن عباس والجمهور. أو على ناس من ضعفة المؤمنين قاله: الحسنوالزجاج. ولم يذكر الزمخشري غيره أو عليهما نقله ابن عطية، أو على اليهود قاله بعضهم. والأمر من الأمن أو الخوففوز السرية بالظفر والغنيمة، أو الخيبة والنكبة، فيبادرون بإفشائه قبل أن يخبر الرسول بذلك. أو ما كان ينزل من الوحيبالوعظ بالظفر، أو بتخفيف من جهة الكفار، كان يسر النبي عليه السلام ذلك إليهم فيفشونه، وكان في ذلك مضرّة علىالمسلمين، أو ما يعزم عليه النبي من الوداعة والأمان لقوم، والخوف الخبر يأتي أنّ قوماً يجمعون للنبي صلى الله عليهوسلم فيخاف المسلمون منهم قاله: الزجاج، والماوردي، وأبو سليمان الدمشقي. وقال ابن عطية: المعنى أنّ المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماعما يسوء النبي في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين، أو فتح عليهم، حقروها وصغرواشأنها انتهى. والضمير في به عائد على الأمر، قيل: ويجوز أن يعود على الأمن أو الخوف، ووحد الضمير لأن، أوتقتضي أحدهما. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ * وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: ولو ردُّوا الأمرالذيبلغهم إلى الرسول وأولي الأمر وهم: الخلفاء الأربعة ومن يجري على سننهم، قاله: ابن عباس، أو أبو بكر، وعمر خاصة،قاله: عكرمة. أو أمراء السرايا قاله: السدي، ومقاتل، وابن زيد. أو العلماء من الصحابة قاله: الحسن، وقتادة، وابن جريج. والمعنى:لو أمسكوا عن الخوض فيما بلغهم، واستقصوا الأمر من الرسول وأولي الأمر، لعلم حقيقة ذلك الأمر الوارد من له بحثونظر وتجربة، فأخبروهم بحقيقة ذلك، وأنّ الأمر ليس جارياً على أول خبر يطرأ. قال الزمخشري: هم ناس من ضعفةالمسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليهوسلم من أمن وسلامة أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة. ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله، وإلىأولي الأمر منهم وهم: كبار الصحابة البصراء بالأمور، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه، لعلم تدبير ما أخبروا به الذينيستنبطونه أي: الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليهوسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينشر، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهممفسدة، ولو ردوه إلى رسول الله وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمهالذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه، وما يأتون ويدرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايامظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وقالوا: نسكت حتى نسمعهمنهم، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته، وهل هو مما يذيع هؤلاءالمذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي: يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه. وهذه كلهاتأويلات حسنة، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو: أنّ المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف، فينبغيأن لايشاع، وأن يردّ إلى الرسول وأولي الأمر، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم، ويستخرج ذلك من جهتهم،لأنّ ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه. وقال أبو بكر الرازي: فيهذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، لأنه أمر بردّ الحوادث إلى الرسول في حياتهإذ كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت بذلك أنَّ منالأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط. وطوَّل الرازي في هذه المسألة اعتراضاً وانفصالاًواستقرأ من الآية أحكاماً. قال: ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة: لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصاًعليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط، وسقط الرد إلى أولي الأمر، بل كان الواجب الرّد إلى الإمام الذي يعرف صحةذلك من باطله من جهة النص. وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامعكتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب: وقد لاح لي في هذه الآية أنّ في الكلامحذفاً وتقديماً وتأخيراً وأنَّ هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه، ويكون التقدير: أفلا يتدبرون القرآن، ولو تدبروه لعلموا أنهمن كلام الله، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني:لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلاً، وهو ما ستأثر الله به من علمكتابه ومكنون خطابه. ثم قال: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان،ثم التفت إلى المؤمنين فقال:

{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }

وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي فيكتابه المعروف بقوت القلوب، وقال: إن قوله:

{ إِلاَّ قَلِيلاً }

متصل بقوله

{ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }

وعلى هذا يكونالاستنباط استخراجاً من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه. وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيبالقرآن ونظمه، وكثيراً ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديماً وتأخيراً، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان،وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار، وشتان ما بين القولين. وقرأ أبو السمال: لعلمه بسكون اللام. قال ابنعطية: وذلك مثل شجر بينهم انتهى. وليس مثله لأنّ تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم، وشجر ليس قياساً مطرداً،إنما هو على سبيل الشذوذ. وتسكين علم مثل التسكين في قوله:

فإن تبله يضجر كما ضجر بازل     من الادم دبرت صفحتاه وغاربه

{وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً } هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولينقاله: ابن عطية. قال: والمعنى لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم وهو اتباع الشيطان. وقيل: الفضل الرسول. وقيل:الإسلام. وقيل: القرآن. وقيل: في الرحمة أنها الوحي. وقيل: اللطف. وقيل: النعمة. وقيل: التوفيق. والظاهر أنّ الاستثناء هو من فاعلاتبعتم. قال الضحاك: هدى الكل منهم للإيمان، فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك، ولا عنتله شبهة ارتياب، وذلك هو القليل، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجريد الهدايةلهم لضلوا واتبعوا الشيطان، ويكون الفضل معيناً أي: رسالة محمد والقرآن، لأن الكل إنما هدي بفضلالله على الإطلاق. وقال قوم: إلا قليلاً إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم،أدركوا بعقولهم معرفة الله ووحدوه قبل أن يبعث الرسول، كزيد بن عمرو بن نفيل أدرك فساد ما عليه اليهود والنصارىوالعرب، فوحد الله وآمن به، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً إذ ليس مندرجاً في المخاطبين بقوله: لاتبعتم. وقال قوم:الاستثناء إنما هو من الاتباع، فقدره الزمخشري: إلا اتباعاً قليلاً، فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل وهو لاتبعتم. وقالابن عطية: في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع قال: أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لاتتبعونه فيها، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع، ويكون استثناء مفرّعاً، والتقدير:لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلاً من الأشياء فلا تتبعونه فيه. فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنىفهو صحيح، لأنه يلزم من الاستثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلاً، وإن كان شرح من حيث الصناعة النحويةفليس بجيد، لأن قوله: إلا اتباعاً قليلاً، لا يرادف إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها. وقال قوم: قولهإلا قليلاً عبارة عن العدم، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم. قال ابن عطية: وهذا قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويهمن قولهم: أرض قلما تنبت كذا، بمعنى لا تنبته. لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها، ولكن ذكره الطبري انتهى. وهذاالذي ذكره ابن عطية صحيح، ولكن قد جوزه هو في قوله:

{ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

ولم يقلق عنده هناك ولا رده، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة. وقيل: إلا قليلاً مستثنى من قوله: أذاعوابه، والتقدير: أذاعوا به إلا قليلاً، قاله: ابن عباس وابن زيد، واختاره: الكسائي، والفراء، وأبو عبيد، وابن حرب، وجماعة منالنحويين، ورجحه الطبري. وقيل: مستثنى من قوله: لعلمه الذين يستنبطونه منهم، قاله: الحسن، وقتادة، واختاره ابن عيينة. وقال مكي: ولولافضل الله عليكم أي: رحمته ونعمته إذ عافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين وصفهم بالتبييت، والخلاف لاتبعتم الشيطان هوخطاب للذين قال لهم:

{ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ }

وقيل: الخطاب عام، والقليل المستثنى هم أمة الرسول، لأنهم قليل بالنسبةإلى الكفار. وفي الحديث الصحيح: ما أنتم إلا كالرقمة البيضاء في الثور الأسود . {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُإِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قيل: نزلت في بدر الصغرى. دعا الناس إلى الخروج، وكان أبو سفيان وعادَ رسول الله اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت. فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو علىأحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده. ومناسبة هذه الآية هي: أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عنالقتال، واستطرد من ذلك إلى أنَّ الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم، فلا فائدة في الهرب من القتال،وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل، وبكتهمفي عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال، عاد إلى أمر القتال. وهكذا عادةكلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق، ثم تعود إلى ذلكالأول. والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه، ومن زعم أنّ وجه العطف بالفاء هو أن يكونمتصلاً بقوله:

{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ }

أو بقوله:

{ فَسَوْفَ * يُؤْتِيهُ * أَجْراً عَظِيماً }

وهو محمول على المعنىعلى تقدير شرط أي: إن أردت الفوز فقاتل. أو معطوفة على قوله:

{ فَقَـٰتِلُواْ أَوْلِيَاء ٱلشَّيْطَـٰنِ }

فقد أبعد. وظاهر الأمرأنه خطاب للنبي وحده، ويؤكده: لا تكلف إلا نفسك. وحمله الزمخشري على تقدير شرط، قال: أيإن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاءنصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف انتهى. وسبقه إليه الزجاج قال: أمره بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه ضمن له النصرة.وقال ابن عطية: لم نجد قط في خبر أنّ القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما، فالمعنى ــ واللهأعلم ــ أنه خطاب للنبي في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه:أي: أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر،أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي : لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي وقول أبي بكر وقتالردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي. ومعنى لا تكلف إلا نفسك: أي: لا تكلف في القتال إلا نفسك، فقاتلولو وحدك. وقيل: المعنى إلا طاقتك ووسعك. والنفس يعبر بها عن القوّة يقال: سقطت نفسه أي قوته. وقرأ الجمهور: لاتكلف خبراً مبنياً للمفعول، قالوا: والجملة في موضع الحال، ويجوز أن يكون إخباراً من الله لنبيه، لا حالاً شرع لهفيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين، إنما يكلف أمر نفسه فقط. وقرىء: لا نكلف بالنون وكسر اللام، ويحتملوجهي الإعراب: الحال والاستئناف. وقرأ عبد الله بن عمر: لا تكلف بالتاء وفتح اللام، والجزم على جواب الأمر. وأمره تعالىبحث المؤمنين على القتال، وتحريك هممهم إلى الشهادة. {عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال عكرمة وغيره:عسى من الله واجبه، ومن البشر متوقعة مرجوّة. والذين كفروا: هم كفار قريش، وقد كف الله تعالى بأسهم، وبدا لأبيسفيان ترك القتال. وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم.وقيل: كف البأس يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام. وقيل: ذلك يوم الحديبية. وقيل: هي فيمن ضربت عليهمالجزية. والجمهور على ما قدمناه من أنّ ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى. والظاهر في هذا أنه لا يتقيدكف بأس الذين كفروا بما ذكروا، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل. {وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } هذا تقويةلقلوب المؤمنين، وأنّ بأس الله أشدّ من بأس الكفار. وقد رجى كف بأسهم، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال،وأن اللَّه تعالى هو أشد عقوبة. فذكر قوّته وقدرته عليهم، وما يؤول إليه أمرهم من التعذيب. قال الحسن وقتادة: وأشدتنكيلاً أي عقوبة فاصحة، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها. وقيل: هو من باب العسل أحلى من الخل، لأنبأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء. {مَّن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً سَيّئَةًيَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } قال قوم: من يكن شفيعاً لوتر أصحابك يا محمد في الجهاد فيسعفهم في جهاد عدوّهميكن له نصيب من الجهاد أو من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، فتلك حسنة، وله نصيب منها. وحملهم على هذاالتأويل ما تقدم من ذكر القتال والأمر به، وقال قريباً منه الطبري. وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي فيحوائج الناس، فمن يشفع لنفع فله نصيب، ومن يشفع لضر فله كفل. وقال الزمخشري: الشفاعة الحسنة هي التي روعيفيها حق مسلم، ودفع عنه بها شر، أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله، ولم يؤخذ عليها رشوة، وكانتفي أمر جائز لا في حد من حدود الله، ولا حق من الحقوق. والسيئة ما كان بخلاف ذلك انتهى. وهذابسط ما قاله الحسن، قال: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلملأنها في معنى الشفاعة إلى الله تعالى. وعن النبي : من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك النصيب ولدعوة على المسلم بضد ذلك. وقال ابن السائب ومقاتل: الشفاعة الحسنة هنا الصلحبين الاثنين، والسيئة الإفساد بينهما والسعي بالنميمة. وقيل: الشفاعة الحسنة أن يشفع إلى الكافر حتى يوضح له من الحجج لعلهيسلم، والسيئة أن يشفع إلى المسلم عسى يرتد أو ينافق. والظاهر أنّ من للسبب أي: نصيب من الخير بسببها، وكفلمن الشر بسببها. وتقدم في المفردات أن الكفل النصيب. وسمي المجازي. وقال أبان بن تغلب: الكفل المثل. وقال الحسنوقتادة: هو الوزر والإثم، وغاير في النصيب فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة، لأنه أكثر ما يستعمل في الشر، وإنكان قد استعمل في الخير لقوله:

{ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ }

قالوا: وهو مستعار من كفل البعير، وهو كساء يدارعلى سنامه ليركب عليه، وسمي كفلاً لأنه لم يعم الظهر، بل نصيباً منه. {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقِيتاً} أي: مقتدراً قاله السدّي وابن زيد والكسائي. وقال ابن عباس ومجاهد: حفيظاً وشهيداً. وقال عبد الله بن كثير: واصباًقيماً بالأمور. وقيل: المحيط. وقيل: الحسيب. وقيل: المجازي. وقيل: المواظب للشيء الدائم عليه. قال ابن كثير: وهو قول ابن عباسأيضاً. وهذه أقوال متقاربة لاستلزام بعضها معنى بعض. وقال الطبري في قوله: إني على الحساب مقيت، إنه من غير هذهالمعاني المتقدّمة، وإنه بمعنى موقوت. وهذا يضعفه أن يكون بناء اسم الفاعل بمعنى بناء اسم المفعول. وقال غيره: معناه مقتدر.{وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } الظاهر أن التحية هنا السلام، وأنّ المسلم عليه مخير بينأن يرد أحسن منها، أو أن يردها يعني مثلها، فأو هنا للتخيير. وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن زيد: بأحسنمنها إذا كان مسلماً، أو ردوها إذا كان يسلم عليك كافر فاردد، وإن كان مجوسياً فتكون أو هنا للتنويع. والذييظهر أنّ الكافر لا يرد عليه مثل تحيته، لأن المشروع في الرد عليهم أن يقال لهم: وعليكم، ولا يزادوا علىذلك، فيكون قوله: وإذا حييتم معناه: وإذا حياكم المسلمون، وإلى هذا ذهب. عطاء. وعن الحسن: ويجوز أن يقال للكافر: وعليكالسلام، ولا يقل: ورحمة الله، فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله فقيل له،فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وكأن من قال بهذا أخذ بعموم وإذا حييتم، لكن ذلك مخالف للنص النبوي منقوله: «فقولوا وعليكم» وكيفية رد الأحسن أنه إذا قال: سلام عليك، فيقول: عليك السلام ورحمة الله. فإذا قال: سلام عليكورحمة الله قال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته. فإذا قال المسلم هذا بكماله رد عليه مثله. وروي عن عمر، وابنعباس، وغيرهما: أن غاية السلام إلى البركة. وفي الآية دليل على أنّ الرد واجب لأجل الأمر، ولا يدل علىوجوب البداءة، بل هي سنة مؤكدة، هذا مذهب أكثر العلماء. والجمهور على أنْ لا يبدأ أهل الكتاب بالسلام، وشذ قومفأباحوا ذلك. وقد طول الزمخشري وغيره بذكر فروع كثيرة في السلام، وموضوعها علم الفقه. وذهب مجاهد: إلى تخصيص هذه التحيةبالجهاد، فقال: إذا حييتم في سفركم بتحية الإسلام

{ فَلا * تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً }

فإن أحكامالإسلام تجري عليهم. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أن هذه الآية في تشميت العاطس، والرد على المشمت. وضعفابن عطية وغيره من أصحاب مالك هذا القول. قال ابن عطية: لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة. أما أنّالرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك، انتهى. وذهب قومإلى أنّ المراد بالتحية هنا الهداية واللطف، وقال: حق من أعطى شيئاً من ذلك أن يعطى مثله أو أحسن منه.قال ابن خويز منداد: يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب، وقد شحن بعض الناس تليفه هنابفروع من أحكام القتال والسلام، وتشميت العاطس، والهدايا، وموضوعها علم الفقه وذكروا أيضاً في ما يدخل في التحية مقارناً للسلام،واللقاء والمصافحة، وأن الرسول أمر بها وفعلها مع السلام والمعانقة، وأول من سنها ابراهيم عليه السلام،والقبلة. وعن الحسن في قوله تعالى:

{ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }

قال: كان الرجل يلقى أخاه فما يفارقه حتى يلزمه ويقبله. وعنعليّ قبلة الولد رحمة، وقبلة المرأة شهوة، وقبلة الوالدين برّ، وقبلة الأخ دين، وقبلة الإمام العادل طاعة، وقبلة العالم إجلالالله تعالى. قال القشيري: في الآية تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة، وأنَّ من حملك فضلاً صار ذلك في ذمتكقرضاً، فإنْ زدت على فعله وإلا فلا تنقص عن مثله. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء حَسِيباً } أي:حاسباً من الحساب، أو محسباً من الاحساب، وهو الكفاية. فإما فعيل للمبالغة، وإما بمعنى مفعل. وتضمنت هذه الآيات منالبيان والبديع أنواعاً الالتفات في قوله: فما أرسلناك. والتكرار في: من يطع فقد أطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: اسم اللهفي مواضع، وفي: أشد، وفي: من يشفع شفاعة. والتجنيس المماثل في: يطع وأطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: حييتم فحيوا. والمغايرفي: وتوكل ووكيلاً، وفي: من يشفع شفاعة، وفي: وإذا حييتم بتحية. والاستفهام المراد به الإنكار في: أفلا يتدبرون. والطباق في:من الأمن أو الخوف، وفي: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة. والتوجيه في: غير الذي تقول. والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في:ولو كان من عند غير الله. وخطاب العين والمراد به الغير في: فقاتل. والاستعارة في: في سبيل الله، وفي: أنيكف بأس. وافعل في: غير المفاضلة في أشد. وإطلاق كل على بعض في: بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدرالصغرى. والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة.

{ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } * { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } * { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } * { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوۤاْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } * { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }[عدل]

الاركاس: الرد والرجع. قيل: من آخره على أوله، والركس: الرجيع. ومنه قوله صلىالله عليه وسلم في الروثة هذا ركس وقال أمية بن أبي الصلت

: فأركسوا في حميم النار أنهم     كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا

وحكى الكسائي والنضر بن شميل: ركس وأركس بمعنى واحد أي:رجعهم. ويقال: ركَّس مشدّداً بمعنى أركس، وارتكس هو أي ارتجع. وقيل: أركسه أوبقه قال

: بشؤمك أركستني في الخنا     وأرميتني بضروب العنا

وقيل: أضلهم. وقال الشاعر

: وأركستني عن طريق الهدى     وصيرتني مثلاً للعدا

وقيل: نكسه. قاله الزجاج قال

: ركسوا في فتنة مظلمة     كسواد الليل يتلوها فتن

الدية:ما غرم في القتل من المال، وكان لها في الجاهلية أحكام ومقادير، ولها في الشرع أحكام ومقادير، سيأتي ذكر شيءمنها. وأصلها: مصدر أطلق على المال المذكور، وتقول: منه ودي، يدي، وديا ودية. كما تقول: وشى يشي، وشيا وشية، ومثالهمن صحيح اللام: زنة وعدة. التعمد والعمد: القصد إلى الشيء {ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِلاَ رَيْبَ فِيهِ } قال مقاتل: نزلت فيمن شك في البعث، فاقسم الله ليبعثه. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي: أنهتعالى لما ذكر أن الله كان على كل شيء حسيباً، تلاه بالاعلام بوحدانية الله تعالى والحشر والبعث من القبور للحساب.ويحتمل أن يكون لا إله إلا هو خبر عن الله، ويحتمل أن يكون جملة اعتراض، والخبر الجملة المقسم عليها، وحذفهنا القسم للعلم به. وإلى إما على بابها ومعناها: من الغاية، ويكون الجمع في القبور، أو يضمن معنى: ليجمعنكم معنى:ليحشرنكم، فيعدى بإلى. قيل: أو تكون إلى بمعنى في، كما أولوه في قول النابغة: فلا تتركني بالوعيد كأنني

    إلى الناس مطلى به القار أجرب

أي: في الناس. وقيل: إلى بمعنى مع. والقيامة والقيام بمعنىواحد، كالطلابة والطلاب. قيل: ودخلت الهاء للمبالغة لشدة ما يقع فيه من الهول، وسمي بذلك إما لقيامهم من القبور، أولقيامهم للحساب. قال تعالى:

{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

ولما كان الحشر جائزاً بالعقل، واجباً بالسمع، أكده بالقسمقبله وبالجملة بعده من قوله: لا ريب فيه. واحتمل الضمير في فيه أن يعود إلى اليوم، وهو الظاهر. وأن يعودعلى المصدر المفهوم من قوله تعالى: ليجمعنكم. وتقدم تفسير لا ريب فيه في أول البقرة. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِحَدِيثاً }. هذا استفهام معناه النفي، التقدير: لا أحد أصدق من الله حديثاً. وفسر الحديث بالخبر أو بالوعد قولان، والأظهرهنا الخبر. قال ابن عطية: وذلك أنّ دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف أو الرجاء أو سوء السجية،وهذه منفية في حق الله تعالى، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقاً لما في قلبه،والأمر المخير عنه في وجوده انتهى. وقال الماتريدي: أي إنكم تقبلون حديث بعضكم من بعض مع احتمال صدقه وكذبه، فإنْتقبلوا حديث من يستحيل عليه الكذب في كل ما أخبركم به من طريق الأولى. وطوّل الزمخشري هنا إشعاراً بمذهبه فقال:لا يجوز عليه الكذب، وذلك أنَّ الكذب مستقبل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه الذي هو كونه كذباً وإخباراً عنالشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب، ليجرّ منفعة، أو يدفع مضرة،أو هو غني عنه، إلا أنه يجهل غناه، أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذبفي أخباره، ولا يبالي بأنهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء: أنه عوتب علىالكذب فقال: لو غرغرت لهراتك به، ما فارقته. وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال: لولا أني صادق في قولي لا،لقلتها. فكان الحكيم الغني الذي لا تجوز عليه الحاجات، العالم بكل معلوم، منزهاً عنه كما هو منزه عن سائر القبائحانتهى. وكلامه تكثير لا يليق بكتابه، فإنه مختصر في التفسير. وقرأ حمزة والكسائي: أصدق بإشمام الصاد زاياً، وكذا فيما كانمثله من صاد ساكنة بعدها دال، نحو: يصدقون وتصدية. وأما إبدالها زاياً محضة في ذلك فهي لغة كلب. وأنشدوا

: يزيد الله في خيراته     حامي الذمار عنده مضد مصدوقاته

يريد: عندمصدوقاته. {فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ } ذكروا في سبب نزولها أقوالاً طولوا بها وملخصها: أنّهم قوم أسلموا فاستوبؤاالمدينة فخرجوا، فقيل هم: أما لكم في الرسول أسوة؟ أو ناس رجعوا من أحد لِما خرج الرسول، وهذا في الصحيحينمن قول زيد بن ثابت. أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار، فخرجوا من مكة. قال الحسن، ومجاهد: خرجواالحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين، اخرجوا إليهم فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقال قوم: كيف نقتلهم وقد تكلموا بالإسلام؟ رواهابن عطية عن ابن عباس. أو قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، أو قوم أعلنواالإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة قاله: الضحاك. أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً، أو المنافقون الذين تكلموا فيحديث الإفك. وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة، يردّه قوله:

{ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ }

إلا إنْ حملت المهاجرة على هجرة ما نهى الله عنه، والمعنى: أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق منظهر منه النفاق أي: من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه، ولو لم يكونوا بادياً نفاقهم، لما أطلق عليه اسم النفاق.وفي المنافقين متعلق بما تعلق به لكم، وهو كائن أي: أيّ شيء كائن لكم في شأن المنافقين. أو بمعنى فئتينأي: فرقتين في أمر المنافقين. وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم، والعامل فيها العامل فيلكم. وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي: كنتم فئتين. ويجيزون مالك الشاتم أي: كنت الشاتم، وهذا عندالبصريين لا يجوز، لأنه عندهم حال، والحال لا يجوز تعريفها. {وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ } أي: رجّعهم وردّهم فيكفرهم قاله: ابن عباس، واختار الفراء والزجاج: أوبقهم. روى عن ابن عباس: أو أضلهم، قاله السدي. أو أهلكهم قاله قتادة،أو نكسهم قاله الزجاج. وكلها متقاربة. ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس. ومعنى بما كسبوا أي: بماأجراه الله عليهم من المخالفة، وذلك الاركاس هو بخلق الله واختراعه، وينسب للعبد كسباً. وقال الزمخشري: والله أرسكهم أي:ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم، ولحوقهم بالمشركين، واحتيالهم على رسول الله .أو أركسهم في الكفر بأنْ خذلهم حتى ارتكبوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى. وهو جار على عقيدته الاعتزالية،فلا ينسب الاركاس إلى الله حقيقة، بل يؤوّله على معنى الخذلان وترك اللطف، أو على الحكم بكونهم من المشركين. إذهم فاعلو الكفر ومخترعوه، لا الله تعالى الله عن قولهم. وقرأ عبد الله: ركسهم ثلاثياً. وقرىء: ركسهم ركسوا فيهابالتشديد، قال الراغب: الركس والنكس الرذل، والركس أبلغ من النكس، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه، والركس أصله ما رجعرجيماً بعد أن كان طعاماً فهو كالرجس وصف أعمالهم به، كما قال:

{ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }

وأركسه أبلغ منركسه، كما أنَّ أسقاه بلغ من سقاه انتهى. وهذه الجملة في موضع الحال، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقينفي حال أنّ الله تعالى قد ردهم في الكفر، ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره. {أَتُرِيدُونَأَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } هذا استفهام إنكار أي: من أراد الله ضلاله، لا يريد أحد هدايته لئلا تقعإرادته مخالفة لإرادة الله تعالى، ومَن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم.ممن أضله الله فكأنه قيل: أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم منبعد قوله: والله أركسهم، هو على سبيل التوكيد، إذ ذكروا أوّلاً على سبيل الخصوص، وثانياً على سبيل اندراجهم في العموم.وقال الزمخشري: أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين؟ من أضله الله من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك، أو خذلهحتى ضل انتهى. وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب إلا ضلال إلى الله على سبيل الحقيقة. {وَمَنيُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي: فلن تجد لهدايته سبيلاً. والمعنى: لخلق الهداية في قلبه، وهذا هو المنفى.والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين، هي للرسل. وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين، لأنه إذالم يكن له ذلك، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم. وقيل: من يحرمه الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقاًإليهما. وقيل: من يهلكه الله فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك. وقيل: ومن يضلل الله فلن تجد له مخرجاًوحجة. {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء } مَن أثبت أن لو تكون مصدرية قدره: ودُّوا كفركم كماكفروا. ومَن جعل لو حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، جعل مفعول ودُّوا محذوفاً، وجواب لو محذوفاً، والتقدير: ودُّوا كفركملو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، لسرُّوا بذلك. وسبب ودّهم ذلك إمّا حسداً لما ظهر من علوّ الإسلام كما قالفي نظيرتها:

{ حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ }

وإمّا إيثاراً لهم أن يكونوا عباد أصنام لكونهم يرون المؤمنين على غيرشيء، وهذا كشف من الله تعالى لخبيث معتقدهم، وتحذير للمؤمنين منهم. وفتكونون معطوف على قوله: تكفرون. قال الزمخشري: ولونصب على جواب التمني لجاز، والمعنى: ودُّوا كفركم وكونكم معهم شرعاً واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباءانتهى. وكون التمني بلفظ الفعل، ويكون له جواب فيه نظر. وإنما المنقول أنَّ الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كانبالحرف نحو: ليت، ولو وإلا، إذا أشربتا معنى التمني، أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب. بل لوجاء لم تتحقق فيه الجوابية، لأن ودّ التي تدل على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذواب، فإذا نصب الفعل بعدالفاء لم يتعين أن تكون فاء جواب، لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به، فيكونمن باب: للبس عباءة وتقرّ عيني. {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } لما نص علىكفرهم، وأنَّهم تمنوا أن تكونوا مثلهم بانت عداوتهم لاختلاف الدّينين، فهي تعالى أن يوالي منهم أحد وإن آمنوا، حتى يظاهروابالهجرة الصحيحة لأجل الإيمان، لا لأجل حظ الدّنيا، وإنما غياً بالهجرة فقط لأنها تتضمن الإيمان. وفي هذه الآية دليل علىوجوب الهجرة إلى النبي إلى المدينة، ولم يزل حكمها كذلك إلى أن فتحت مكة، فنسخ بقوله: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا وخالف الحسن البصري فقالبوجوبها، وإن حكمها لم ينسخ، وهو باق فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك. وإجماع أهل المذاهب على خلافه. قالالقاضي أبو يعلى وغيره: من هو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهي تجب عليه لقوله تعالى وخالفالحسن البصري فقال بوجوبها، وإن حكمها لم ينسخ، وهو باق فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك. وإجماع أهل المذاهبعلى خلافه. قال القاضي أبو يعلى وغيره: من هو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهي تجب عليهلقوله تعالى:

{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا }

ومن كان قادراً على إظهار دينه استحبت له، ومنلا يقدر على إظهار دينه ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمن، لا يستحب له. {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُوَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي. فإن تولوا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم الكفار يقتلونحيث وجدوا في حل وحرم، وجانبوهم مجانبة كلية، ولو بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم. {إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَإِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَـٰقٌ أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَـٰتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَـٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ } هذا استثناء من قوله: فخذوهمواقتلوهم، والوصول هنا: البلوغ إلى قوم. وقيل: معناه ينتسبون قاله أبو عبيدة. وأنشد الأعشى

: إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل     وبكر سبتها والأنوف رواغم

وقال النحاس: هذا غلط عظيم، لأنه ذهب إلى أنه تعالىحظر أن يقاتلَ أحدُ بينه وبين المسلمين نسب والمشركون قد كان بينهم وبين المسلمين السابقين أنساب. يعني: وقد قاتل الرسولومن معه من انتسب إليهم بالنسب الحقيقي، فضلاً عن الانتساب. قال النحاس: وأشد من هذا الجهل قول من قال: إنهكان ثم نسخ، لأن أهل التأويل مجمعون على أنّ الناسخ له براءة، وإنما نزلت بعد الفتح، وبعد أن انقطعت الحروب،ووافقه على ذلك الطبري. وقال القرطبي: حمل بعض أهل العلم معنى ينتسبون على الأمان، أو أن ينتسب إلى أهلالأمان، لا على معنى النسب الذي هو القرابة انتهى. قال عكرمة: إلى قوم هم قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وادعالرسول على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن لجأ إليهم فله مثل ما لهلال. وروي عن ابن عباس: أنهمبنو بكر بن زيد مناة. والجمهور على أنّهم خزاعة وذو خزاعة. وقال مقاتل: خزاعة وبنو مدلج. وقال ابن عطية: كانهذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس، فكان رسول الله قدهادن من العرب قبائل كرهط هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بني جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف،فقضت هذه الآية أنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي إلى هؤلاءأهل العهد، ودخل في عدادهم، وفعل فعلهم من الموادعة، وفعل فعلهم من الموادعة، فلا سبيل عليه. قال عكرمة والسدي وابنزيد: ثمّ لما تقوى الإسلام وكثرنا صره نسخت هذه الآية والتي بعدها بما في سورة براءة انتهى. وقيل: هم خزاعةوخزيمة بن عبد مناف. والذين حصرت صدورهم هم، بنو مدلج، اتصلوا بقريش. وبه وعن ابن عباس: إنهم قوم من الكفاراعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة، فلم يكونوا مع لكافرين، ولا مع المسلمين، ثم نسخ ذلك بآية القتال. وأصل الاستثناءأن يكون متصلاً، وظاهر الآية وهذه الأقوال التي تقدّمت: أنه استثناء متصل. والمعنى: إلا الكفار الذين يصلون إلى قوم معاندين،أو يصلون إلى قوم جاؤوكم غير مقاتلين ولا مقاتلي قومهم. إن كان جاؤوكم عطفاً على موضع صفة قوم، وكلا العطفينجوز الزمخشري وابن عطية، إلا أنهما اختار العطف على الصلة. قال ابن عطية بعد أن ذكر العطف على الصلة قال:ويحتمل أن يكون على قوله: بينكم وبينهم ميثاق، والمعنى في العطفين مختلف انتهى. واختلافه أنّ المستثنى إمّا أن يكونا صنفينواصلاً إلى معاهد، وجائياً كافاً عن القتال. أو صنفاً واحداً يختلف باختلاف من وصل إليه من معاهد أو كاف. قالابن عطية: وهذا أيضاً حكم، كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك إذا جاء إلى دار الإسلام مسالماً كارهاًلقتال قومه مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه، لا سبيل عليه. وهذه نسخت أيضاً بما في براءة انتهى. وقالالزمخشري: الوجه العطف على العلة لقوله:

{ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ }

الآية بعد قوله: فخذوهم واقتلوهم، فقرر أنّ كفهمعن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض لهم، وترك الإيقاع بهم. (فإن قلت): كل واحد من الاتصالين له تأثير فيصحة الاستثناء، واستحقاق ترك التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قومٍ، ويكونَ قوله: فإناعتزلوكم تقريراً لحكم اتصالهم بالكافين، واختلاطهم فيهم، وجريهم على سننهم؟ (قلت): هو جائز، ولكنَّ الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلامانتهى. وإنما كان أظهروا وأجرى على أسلوب الكلام لأنّ المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه. وإذا عطفتعلى الصلة كان محدثاً عنه، وإذا عطفت على الصفة لم يكن محدثاً عنه، إنما يكون ذلك تقييداً في قوم الذينهم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية في المعنى، وبين أن تكونتقييدية، كان حملُها على الإسنادية أولي للاستثقال الحاصل بها، دون التقييدية هذا من جهة الصناعة النحوية. وأما من حيث مايترتب على كل واحد من العطفين من المعنى، فإنه يكون تركهم القتال سبباً لترك التعرّض لهم، وهو سبب قريب، وذلكعلى العطف على الصلة، ووصولهم إلى من يترك القتال سبب لترك التعرض لهم، وهو سبب بعيد، وذلك على العطف علىالصفة. ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة البعيد. وعلى أن الاستثناء متصل من مفعول: فخذوهم واقتلوهم، والمعنى: أنه تعالى أوجبقتل الكافر إلا إذا كان معاهداً أو داخلاً في حكم المعاهد، أو تاركاً للقتال، فإنه لا يجوز قتلهم. وقول الجمهور:إن المستثنين كفار. وقال أبو مسلم: إنه تعالى لما أوجبَ الهجرة على كل من أسلم، استثنى مَن له عذرفقال:

{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ }

وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول بالهجرة والنصرة، إلا أنهم كان في طريقهم منالكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد، وأقاموا عندهم إلىأن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول وإلى الصحابة، لأنه يخاف الله فيه، ولا يقاتل الكفار أيضاًلأنهم أقاربه، أو لأنه بقي أزواجه وأولاده بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه. فهذان الفريقان من المسلمين لايحل قتالهم، وإن كان لم توجد منهم الهجرة، ولا مقاتلة الكفار انتهى. واختاره الراغب. وعلى قول أبي مسلم: يكون استثناءمنقطعاً، لأن المؤمنين لم يدخلوا تحت قوله:

{ فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ }

وقال الماتريدي: إلا الذينيصلون أي: إن لحق المنافقون بمن لا ميثاق بينكم وبينهم فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا، وإن لحقوا بأهل الميثاق فلا تقاتلوهم،أو جاؤوكم حصرت صدورهم هذا صفة لمن سبق ذكرهم، فيكون الاستثناء عن الذين يصلون إلى أهل العهد، إذا كان وصفهمأنْ تضيق صدورهم عن مقاتلة المؤمنين والكفار جميعاً، إما لنفار طباعهم، وإما لوفاء العهد، وإما لكونهم في مهلة النظر ليتبينواالحق من الباطل، وعلى هذا وصف الله جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد: أنهم إنما قبلوا العهد والذمة لماتعذر عليهم قتال المسلمين وأبت نفوسهم معاونة المسلمين على قومهم، فلم يسلموا حقيقة، ولكن سالموا لقبول العهد انتهى. وقال القفالبعد ذكر من دخل في عهد مَن كان داخلاً في عهدكم، فهو أيضاً داخل في العهد، قال: وقد يدخل فيالآية أن يقصد قوم حضرت الرسول عليه السلام، فيتعذر عليهم ذلك المطلوب، فيلجوا إلى قوم بينهم وبين الرسول عهد، إلىأن يجدوا السبيل إليه انتهى. وفي مصحف أبي وقراءته: ميثاق جاؤكم بغير واو. قال الزمخشري: ووجهه أن يكون جاؤوكمبياناً لـ يصلون، أو بدلاً، أو استئنافاً، أو صفة بعد صفة لقوم انتهى. وهي وجوه محتملة، وفي بعضها ضعف. وهوالبيان والبدل، لأن البيان لا يكون في الأفعال، ولأن البدل لا يتأتى لكونه ليس إياه، ولا بعضاً، ولا مشتملاً. ومعنىحصرت: ضاقت، وأصل الحصر في المكان، ثم توسع فيه حتى صار في القول. قال

: ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا     حصراً بسرك يا أميم ضنينا

وقيل: معناه كرهت. والمعنى: كرهوا قتالكم مع قومهممعكم. وقيل: معناه أنهم لا يقاتلونكم ولا يقاتلون قومهم معكم، فيكونون لا عليكم ولا لكم. وقرأ الجمهور: حصرت. وقرأ الحسنوقتادة ويعقوب: حصرة على وزن نبقة، وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص. وحكى عن الحسن أنه قرأ: حصرات.وقرىء: حاصرات. وقرىء: حصرة بالرفع على أنه خبر مقدم، أي: صدورهم حصرة، وهي جملة اسمية في موضع الحال. فأما قراءةالجمهور فجمهور النحويين على أنَّ الفعل في موضع الحال. فمَن شرط دخول قد على الماضي إذا وقع حالاً زعم أنهامقدرة، ومن لم ير ذلك لم يحتج إلى تقديرها، فقد جاء منه ما لا يحصى كثرة بغير قد. ويؤيد كونهفي موضع الحال قراءة من قرأ ذلك اسماً منصوباً، وعن المبرد قولان: أحدهما: أنّ ثم محذوفاً هو الحال، وهذا الفعلصفته أي: أو جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم. والآخر: أنه دعاء عليهم، فلا موضع له من الإعراب. ورد الفارسي على المبردفي أنه دعاء عليهم بأنا أمرنا أن نقول: اللهم أوقع بين الكفار العداوة، فيكون في قوله: أو يقاتلوا قومهم، فيما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم. قال ابن عطية: ويخرج قول المبرد على أنّ الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزلهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقيرهم، أي: هم أقل وأحقر، ويستغني عنهم كما تقول إذا أردت هذا المعنى:لا جعل الله فلاناً علي ولا معي، بمعنى: استغنى عنه، واستقل دونه. وقال غير ابن عطية: أو تكون سؤالاً لموتهم،على أنّ قوله: قومهم، قد يعبر به عن من ليسوا منهم، بل عن معاديهم. وأجاز أبو البقاء أن يكون حصرتفي موضع جر صفة لقوم، وأو جاؤوكم معترض. قال: يدل عليه قراءة من أسقط أو، وهو أبى. وأجاز أيضاً أنيكون حصرت بدلاً من جاؤكم، قال: بدل اشتمال، لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره. وقال الزجاج: حصرت صدورهم خبر بعدخبر. قال ابن عطية: يفرق بين تقدير الحال، وبين خبر مستأنف في قولك: جاء زيد ركب الفرس، إنك إن أردتالحال بقولك: ركب الفرس، قدرت قد. وإن أردت خبراً بعد خبر لم نحتج إلى تقديرها. وقال الجرجاني: تقديره إن جاؤكمحصرت، فحذف إنْ، وما ادعاه من الإضمار لا يوافق عليه، أن يقاتلوكم تقديره: عن أن يقاتلوكم. {وَلَوْ شَاء ٱللَّهُلَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَـٰتَلُوكُمْ } هذا تقرير للمؤمنين على مقدار نعمته تعالى عليهم. أي: لو شاء لقواهم وجرأهم عليكم، فإذا قدأنعم عليكم بالهدنة فاقبلوها. وهذا إذا كان المستثنون كفاراً، فأما على قول من قال: إنهم مؤمنون، فالمعنى أنه تعالى أظهرنعمته على المسلمين، وأنه تعالى لو لم يهدهم لكانوا في جملة المسلطين عليكم. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يجوزأن يسلط الله الكفرة على المؤمنين ما كان مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم؟ ولو شاء لمصلحة يراها منابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا مسلطين مقاتلين غير كافين، فذلك معنى التسليط انتهى. وهذا على طريقته الاعتزالية. وهذا الذي قالهالزمخشري قاله أبو هاشم قبله. قال: أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء أن يفعل، وتسليط الله المشركين على المؤمنينليس بأمر منه، وإنما هو بإزالة خوف المسلمين من قلوبهم، وتقوية أسباب الجرأة عليهم. والغرض بتسليطهم عليهم لأمور ثلاثة: أحدها:تأديباً لهم وعقوبة لما اجترحوا من الذنوب. الثاني: ابتلاء لصبرهم واختباراً لقوة إيمانهم وإخلاصهم كما قال:

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم }

الآية.الثالث: لرفع درجاتهم وتكثير حسناتهم. أو المجموع وهو أقرب للصواب انتهى. وأمّا غيرهما من المعتزلة فقال الجبائي: قد بيناأن القوم الذين استثنوا مؤمنون لا كافرون، وعلى هذا معنى الآية. ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عنأنفسهم إن أقدمتهم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. وقال الكعبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء فعل، وهذا لا يفيد،إلا أنه قادر على الظلم، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول: إنه تعالى لا يفعل الظلم، وليس في الآية دلالة علىأنه شاء ذلك وأراده، انتهى كلامه. وقال أهل السنة: في هذه الآية دليل على أنه تعالى لا يقبح منهتسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه. وقرأ الجمهور: فيقاتلوكم بألف المفاعلة. وقرأ مجاهد وطائفة: فلقتلوكم على وزن ضربوكم. وقرأالحسن والجحدري: فلقتلوكم بالتشديد، واللام في لقاتلوكم لام جواب لو، لأن المعطوف على الجواب جواب، كما لو قلت: لو قامزيد لقام عمرو ولقام بكر. وقال ابن عطية: واللام في لسلطهم جواب لو، وفي فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابةالأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول: لقاتلوكم انتهى. وتسميته هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة، لم أر ذلكإلا في عبارة هذا الرجل، وعبارة مكي قبله. {فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْعَلَيْهِمْ سَبِيلاً } إذا كان المستثنون كفاراً فالاعتزال حقيقة لا يتهيأ إلا في حالة المواجهة في الحرب كأنه يقول: إذااعتزلوكم بانفرادهم عن قومهم الذين يقاتلونكم فلا تقتلوهم. وقيل: أراد بالاعتزال هنا المهادنة، وسميت اعتزالاً لأنها سبب الاعتزال عن القتال.والسلم هنا الانقياد قاله: الحسن، أو الصلح قاله: الربيع ومقاتل، أو الإسلام قاله: الحسن أيضاً. وأما على من قال: إنالمستثنين مؤمنون، فالمعنى أنهم إذ قد اعتزلوكم وأظهروا الإسلام فاتركوهم، فعلى هذا تكون في {ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ * وَلَمْ * جَهْدَأَيْمَـٰنِهِمْ } والمعنى: سبيلاً إلى قتلهم ومقاتلتهم. وقرأ الجحدري: السلم بسكون اللام. وقرأ الحسن: بكسر السين، وسكون اللام. {سَتَجِدُونَءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ * كُلَّمَا *رُدُّواْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا } لمّا ذكر صفة المحقين في المتاركة،المجدّين في إلقاء السلم، نبّه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون لهم: نحن معكم وعلىدينكم، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وجدوا. قيل: كانت أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم، قاله: مقاتل. وقيل: نزلت في نعيمبن مسعود الأشجعي كان ينقل بين النبي الأخبار قاله: السدي. وقيل: في قوم يجيئون من مكةإلى النبي رياء ويظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش يكفرون، ففضحهم الله تعالى، وأعلم أنهم ليسواعلى صفة من تقدّم قاله: مجاهد. وقيل: إنهم من أهل تهامة قاله: قتادة. وقيل: إنهم من المنافقين قاله: الحسن.والظاهر من قوله: ستجدون آخرين، أنهم قوم غير المستثنين في قوله:

{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ }

. وذهب قوم: إلىأنها بمنزلة الآية الأولى، والقوم الذين نزلت فيهم هم الذين نزلت فيهم الأولى، وجاءت مؤكدة لمعنى الأولى مقررة لها. والسينفي ستجدون ليست للاستقبال قالوا: إنما هي دالة على استمرارهم على ذلك الفعل في الزمن المستقبل كقوله:

{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاء }

وما نزلت إلا بعد قوله:

{ مَا وَلَّـٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ }

فدخلت السين إشعاراً بالاستمرار انتهى. ولا تحرير فيقولهم: إن السين ليست للاستقبال وإنما تشعربالاستمرار، بل السين للاستقبال، لكنْ ليس في ابتداء الفعل، لكن في استمراره أن يأمنوكمأي: يأمنوا أذاكم ويأمنوا أذى قومهم. والفتنة هنا: المحنة في إظهار الكفر. ومعنى أركسوا فيها رجعوا أقبح رجوع وأشنعه، وكانواشراً فيها من كل عدو. وحكى أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم: قل ربي الخنفساء، وربي القردة، وربي العقرب،ونحوه فيقولها. وقرأ ابن وثاب والأعمش: ردّوا بكسر الراء، لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء. وقرأ عبد الله: ركسوا بضمالراء من غير ألف مخففاً. وقال ابن جني عنه: بشدّ الكاف. {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْفَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أمر تعالى بقتل هؤلاء في أي مكان ظفر بهم، على تقدير انتفاء الاعتزال وإلقاء السلم،وكف الأيدي. ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا وجهوا الاعتزال وإلقاء السلم وكف الأيدي، لم يؤخذوا ولم يقتلوا. قالابن عطية: وهذه الآية حضّ على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم.وتأمل فصاحة الكلام في أنْ ساقه في الصيغة المتقدّمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال، وإيجاب إلقاء السلم، ونفى المقاتلة، إذكانوا محقين في ذلك معتقدين له. وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفى الاعتزال، ونفى إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلينفيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين. لأن الذين لم يجعل عليهم سبيلاً لو لم يعتزلوا، لكان حكمهم، حكم هؤلاء الذينجعل عليهم السلطان المبين. وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذا لم يعتزلوا، لو اعتزلوا كان حكمهم حكم الذين لا سبيلعليهم، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا انتهى كلامه. وهو حسن. ولما كان أمر الفرقة الأولى أخف، رتّبتعالى انتفاء جعل السبيل عليهم على تقدير سببين: وجود الاعتزال، وإلقاء السلم. ولما كان أمر هذه الفرقة المخادعة أشدّ، رتبأخذهم وقتلهم على وجود ثلاثة أشياء: نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، ونفي كف الأذى. كل ذلك على سبيل التوكيد فيحقهم والتشديد. {وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰناً مُّبِيناً } أي على أخذهم وقتلهم حجة واضحة، وذلك لظهور عداوتهم، وانكشافحالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام، أو حجة ظاهرة حيث أذنا لكم في قتلهم. قال عكرمة: حيثما وقع السلطانفي كتاب الله فالمراد به الحجة. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ } روي أن عياش بن أبيربيعة وكان أخا أبي جهل لأمه، أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيدبن أبي أنيسة فأتياه وهو في أطم، ففتك منه أبو جهل في الزرود والغارب وقال: أليس محمد بحثك على صلةالرحم؟ انصرف وبرَّ أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه وجلده كل واحد مائةجلدة، فقال للحرث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث الله؟ عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك. وقدما به على أمهفحلفت لا تحلّ كتافه أو يرتد، ففعل. ثم هاجر بعد ذلك، وأسلم الحارث، وهاجر فلقيه عياش بظهر قبا ولم يشعربإسلامه، فأنحى عليه فقتله، ثم أُخبر بإسلامه، فأتى رسول الله فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه، فنزلت.وقيل: نزلت في رجل كان يرعى غنماً فقتله في بعض السرايا أبو الدرداء وهو يتشهد وساق غنمه، فعنفه رسول الله فنزلت. وقيل: نزلت في أبي حذيفة بن اليمان حين قتل يوم أحد خطأ. وقيل غير ذلكانتهى. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالمحاربة،ومنها أن يظن رجلاً حربياً وهو مسلم فيقتله. وهذا التركيب تقدم نظيره في قوله:

{ أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ }

وفي قوله:

{ وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ }

وكان يغني الكلام هناك عن الكلام هنا،ولكن رأينا جمع ما قاله من وقفنا على كلامه من المفسرين هنا. قال الزمخشري: ما كان لمؤمن: ما صلحله، ولا استقام، ولا لاق بحاله، كقوله: وما كان لنبي أن يغل، وما يكون لنا أن نعود، أن يقتل مؤمناًابتداء غير قصاص إلا خطأ على وجه الخطأ. (فإن قلت): بما انتصب خطأ؟ (قلت): بأنه مفعول له أي: ما ينبغيله أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالاً بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوالإلا في حال الخطأ، وأن يكون صفة لمصدر أي: إلا قتلا خطأ. والمعنى: أنَّ من شأن المؤمن أن تنتفي عنهوجوه قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً، أو يرميشخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقال ابن عطية: قال جمهور أهل التفسير: ما كان في إذن الله ولافي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعاً ليس من الأول، وهو الذي يكون فيه إلا بمعنىلكن، والتقدير: ولكن الخطأ قد يقع، ويتجه وجه آخر وهو أن تقدر كان بمعنى استقر ووجد. كأنه قال: وما وجدولا تقرر ولا ساع لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحياناً، فيجيء الاستثناء على هذا غيرمنقطع، وتتضمن الآية على هذا إعظام العهد وبشاعة شأنه كما تقول: ما كان لك يا فلان إن تتكلم بهذا إلاناسياً إعظاماً للعمد والقصد، مع حظر الكلام به البتة. وقال الراغب: إنْ قيل: أيجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتىيقال: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ قيل قولك يجوز أو لا يجوز؟ إنما يقال في الأفعال الاختياريةالمقصودة، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك، وما كان لك أن تفعل كذا، وما كنت لتفعل كذا متقاربان، وهما لايقالان بمعنى. وإن كان أكثر ما يقال الأول لما كان الإحجام عنه من قبل نفسه، أي: ما كان المؤمن ليقتلمؤمناً إلا خطأ ولهذا المعنى أراد من قال معناه: ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمناً متعمداً، لكن يقع ذلك منهخطأ. وكذا من قال: ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن إلا خطأ. وقال الأصم: معناه ليس القتل لمؤمن بمتروكأن يقتضي له، إلا أن يكون قتله خطأ. وقال أبو عبد الله الرازي: وما كان أي: فيما آتاه الله، أوعهد إليه، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة منأول زمان التكليف. وقال أبو هاشم: تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً ويبقى مؤمناً، إلا أن يقتله خطأ،فيبقى حينئذ مؤمناً، وهذا الذي قاله أبو هاشم قاله السدي. قال السدي: قتل المؤمن المؤمن يخرجه عن أن يكون مؤمناً،إلا أن يكون خطأ، وليس هذا معتقد أهل السنة والجماعة. وقيل: هو نفي جواز قتل المؤمن، ومعناه: النهي، وأفاد دخولكان أنه لم يزل حكم الله. وقال الماتريدي: الإشكال أن الله تعالى نهى المؤمن عن القتل مطلقاً، واستثنى الخطأ، والاستثناءمن النفي إثبات، ومن التحريم إباحة، وقتل الخطأ ليس بمباح بالإجماع، وفي كونه حراماً كلام انتهى. وملخص ما بنيعلى هذا أنه إن كان نفياً وأريد به معنى النهي كان استثناء منقطعاً إذ لا يجوز أن يكون متصلاً لأنهيصير المعنى: إلا خطأ فله قتله. وإن كان نفياً أريد به التحريم، فيكون استثناء متصلاً إذ يصير المعنى: إلا خطأبأن عرفه كافراً فقتله، وكشف الغيب أنه كان مؤمناً، فيكون قد أبيح الإقدام على قتل الكفر، وإن كان فيهم منأسلم إذا لم يعلم بهم، فيكون الإستثناء من الحظر إباحة. وقال بعض أهل العلم: المعنى وما كان لمؤمن أن يقتلمؤمناً عمداً ولا خطأ فيكون إلا بمعنى: ولا، وأنكر الفراء هذا القول، وقال: مثل هذا لا يجوز، إلا إذا تقدماستثناء آخر، ويكون الثاني عطف استثناء على استثناء، كما في قول الشاعر

: ما بالمدينة دار غير واحدة     دار الخليفة إلا دار مروانا

وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة بنالعجاج عن هذه الآية فقال: ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ، ولكنه أقام إلا مقام الواو، وهو كقول الشاعر

: وكل أخ مفارقه أخوه     لعمر أبيك إلا الفرقدان

والذي يظهر أن قوله: إلا خطأ، استثناء منقطع، وهو قول الجمهور منهم: أبان بن تغلب. والمعنى: لكن المؤمن قد يقتلالمؤمن خطأ، والقتل عند مالك عمد وخطأ، فيقاد باللطمة، والعضة، وضرب السوط مما لا يقتل غالباً. وعند الشافعي: عمد، وشبهعمد. ولا قصاص في شبه العمد، ولا الخطأ. وعند أبي حنيفة: عمد، وخطأ، وشبه، عمد، وما ليس بخطأ ولا عمدولا شبه عمد. والخطأ ضربان: أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلماً، أو يظنه مشركاً لكونه عليه سيما أهلالشرك، أو في حيزهم. وشبه العمد ما يعمد بما لا يقتل غالباً من حجر أو عصا، وما ليس بخطأ ولاعمد ولا شبه عمد قتل الساهي والنائم. وقرأ الجمهور خطاء على وزن بناء. وقرأ الحسن والأعمش: على وزن سماء ممدوداً.وقرأ الزهري: على وزن عصا مقصوراً لكونه خفف الهمزة بإبدالها ألفاً، أو إلحاقاً بدم، أو حذف الهمزة حذفاً كما حذفلام دم. وقال ابن عطية: وجوه الخطأ كثيرة، ومربطها عدم القصد. {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌمُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } التحرير: الإعتاق، والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد.ومنه عتاق الطير، وعتاق الخيل لكرامها. وحر الوجه أكرم موضع منه، والرقبة عبر بها عن النسمة، كما عبر عنها بالرأسفي قولهم: فلان يملك كذا رأساً من الرقيق. والظاهر أنَّ كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله:رقبة مؤمنة، انتظام عموم البدل. فيندرج فيها من ولد بين مسلمين، ومن أحد أبويه مسلم، صغيراً كان أو كبيراً، ومنسباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ. وقال ابراهيم: لا يجزى إلا البالغ. وقال ابن عباس، والحسن، والشعبي، والنخعي،وقتادة، وغيرهم: لا يجزىء إلا التي صامت وعقلت الإيمان، لا يجزىء في ذلك الصغيرة. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي،وأبو يوسف، ومحمد بن زياد، وزفر: يجزى في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً. وقال عطاء: يجزىء الصغيرالمولود بين المسلمين. وقال مالك: من صلى وصام أحب إليّ، ولا خلاف أنّ قوله: ومن قتل مؤمناً، ينتظم الصغير والكبير،وكذلك ينبغي أن يكون في فتحرير رقبة مؤمنة. قال ابن عطية: وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكبير كقطعاليدين والرجلين والأعمى، لا يجزىء فيما حفظت، فإن كان يسيراً يمكن معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان. وقال أبوبكر الرازي: لا خلاف بين الأمة أنه لا يجزىء في الكفارة أعمى، ولا مقعد، ولا مقطوع اليدين أو الرجلين، ولاأشلهما، واختلفوا في الأعرج. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجزىء مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين. وقال مالك والشافعي والأكثرون: لا يجزىءعند أكثرهم المجنون المطبق، ولا عند مالك الذي يجن ويفيق، ولا المعتق إلى سنين، ويجزئان عند الشافعي. ولا يجزىء المدبرعند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزىء في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: لا يصح من أعتقبعضه، واختلفوا في سبب وجوب الكفارة في قتل الخطأ. فقيل: تمحيصاً وطَهر الذنب القاتل، حيث ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلكعلى يديه امرؤ محقون الدم. وقيل: لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الاحياء، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملةالأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق حياتها، من قبل أنّ الرقيق ممنوع من تصرّف الأحرار. والظاهر أن وجوب التحريروالدية على القائل، لأنه مستقر في الكتاب والسنة: أن من فعل شيئاً يلزم فيه أمر من الغرامات مثل الكفارات، إنمايجب ذلك على فاعله. فأما التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية فعلى العاقلة كلها في قول طائفة منهم: الأوزاعي، والحسنبن صالح. وما جاوز الثلث في قول الجمهور أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، والليث، وابن شبرمة، وغيرهم. وأما الثلث ففي مالالجاني، ولم يجب عليهم إلا على سبيل المواساة. وهي خلاف قياس الأصول في الغرمات والمتلفات. والدية كانت مستقرة في الجاهلية.قال الشاعر

:نــأسوا بأموالنــا آثــار أيــدينــا    

ولم تتعرض الآية لمقدار ما يعطى في الدية، ولا منأي شيء تكون. فذهب أبو حنيفة: إلى أنها من الإبل مائة على ما يأتي تفصيلها، والدنانير والدراهم ألف دينار، أوعشرة آلاف درهم. وقال أبو يوسف ومحمد: ومن البقر والشاة والحلل، وبه قالت طائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء السبعةالمدنيين. فمن البقر مائتا بقرة، ومن الشاة ألف شاة، ومن الحلل مائتا حلة، وذلك فعل عمر وجعله على كل أهلصنف من ذلك ما ذكر. وقال مالك: أهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق، وأهل الإبل أهل البوادي،فلا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل، ولا من أهل الذهب إلا الذهب، ولا من أهل الورق إلا الورق. وقالتطائفة منهم طاووس والشافعي: هي مائة من الإبل لا غير. قال الشافعي: والدراهم والدنانير بدل عنها إذا عدمت، وله قولآخر: إنه يجب اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. قال أبو بكر الرازي: أجمع فقهاء الأمصار أبو حنيفة والشافعيومالك أن دية الخطأ أخماس، واختلفوا في الأسنان. فقال أصحابنا جميعاً: عشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرونجذعة، وهو: مذهب ابن مسعود، وبه قال أحمد. وقال مالك: عشرون حقاقاً، وعشرون جذاعاً، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون،وعشرون بنت مخاض. وحكى هذا عن عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، وربيعة والليث. وقال الشافعي: الديةقسمان، مغلظة أثلاثاً، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، ومخففة أخماساً كقول مالك. وروي عن عطاء أندية الخطأ أربع: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، مثل أسنان الذكور.وقال عمر وزيد بن ثابت: في الخطا ثلاثون بنت لبون، وثلاثون جذعة، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض. وروي عنهمامكان الجذاع الحقات. والظاهر أنه لا فرق بين القتل خطأ في الحرم وفي شهر حرام، وبينه في الحل، وفيشهر غير حرام. وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام، أو في الحرم، هل تغلظ فيه الدية؟ فقال: بلغنا أنهإذا قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على القاتل الثلث، ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل.وأما من العاقلة فقيل هم العصبات الأربعة: الأب، والجدّوان علا، والابن، وابن الابن وإن سفل. وهو قول مالك. وقال أبوحنيفة وأصحابه: هم أهل ديوانه دون أقربائه، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فرضت على عاقلته الأقرب فالأقرب، ويضمإليهم القبائل في النسب. وقال الشافعي فيما روي عنه المزني في مختصره: العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء،على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم جدّه، ثم بني جد أبيه. وأما المدة التي تؤدّي فيها الدية فقدانعقد الإجماع ووردت به الأحاديث الصحاح: أنها تتأدّى في ثلاث سنين، وفي الدية والعاقلة أحكام كثيرة تعرض لها بعض المفسرينوهي مذكورة في كتب الفقه. ومعنى مسلمة إلى أهله: أي مؤدّاة مدفوعة إلى أهل المقتول، أي أوليائه الذين يرثونهيقتسمونها كالميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضي منها الدين، وتنفذ الوصية. وإذا لم يكن وارثفهي لبيت المال. وقال شريك: لا يقضي من الدية دين، ولا تنفذ منها وصية. وقال ابن مسعود: يرث كل وارثمنها غير القاتل، ومعنى قوله: إلا أن يصدقوا أي إلا أن يعفو ورّاثه عن الدية فلا دية. وجاء بلفظ التصدقتنبيهاً على فضيلة العفو وحضا عليه، وأنه جار مجرى الصدقة، واستحقاق الثواب الآجل به دون طلب العرض العاجل، وهذا حكممن قتل في دار الإسلام خطأ. وفي قوله: إلا أن يصدقوا، دليل على جواز البراءة من الدين بلفظ الصدقة، ودليلعلى أنه لا يشترط القبول في الإبراء خلافاً لزفر، فإنه قال: لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة.والظاهر أنَّ الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل خطأ أنه ليس عليهم كلهم إلا كفارة واحدة، لعموم قوله: ومن قتل،وترتيب تحرير رقبة واحدة، ودية على ذلك. وبه قالت طائفة هكذا قال أبو ثور، وحكى عن الأوزاعي ذلك، وقال الحسن،وعكرمة، والنخعي، والحارث، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: على كل واحد منهم الكفارة. وهذا الاستثناءقيل: منقطع، وقيل: إنه متصل. قال الزمخشري: (فإن قلت): بم تعلق أن يصدقوا؟ وما محله؟ (قلت): تعلق بعليه، أو بمسلمة.كأن قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان كقولهم: اجلسما دام زيد جالساً، ويجوز أن يكون حالاً من أهله بمعنى: إلا متصدقين انتهى كلامه. وكلا التخريجين خطأ. أما جعلأن وما بعدها ظرفاً فلا يجوز، نص النحويون على ذلك، وأنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول: أجيئكأن يصيح الديك، يريد وقت صياح الديك. وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال، فنصوا أيضاً على أنذلك لا يجوز. قال سيبويه في قول العرب: أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم، في معنى أنت الرجل نزالاًوخصومة، أنَّ انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله، لأن المستقبل لا يكون حالاً، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه استثناءمنقطعاً هو الصواب. وقرأ الجمهور يصدقوا، وأصله يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وعبد الوارث عنأبي عمرو: تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة. وقرىء: تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد، وأصله تتصدقوا، فحذف إحدى التاءين على الخلاف فيأيهما هي المحذوفة. وفي حرف أبيّ وعبد الله: يتصدقوا بالياء والتاء. {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌفَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } قال ابن عباس وقتادة والنخعي والسدي وعكرمة وغيرهم: المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناًقد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدوّ لكم فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير رقبة. والسبب عندهم في نزولها:أنَّ جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة، فربما قتل من آمن ولم يهاجر، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه،فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار، فنزلت الآية. وسقطت الدية عند هؤلاء، لأن أولياء المقتول كفرة، فلا يعطونما يتقوّون به. ولأنّ حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية. وإذا قتل مؤمناً في بلاد المسلمين وقومه حرب،ففيه الدية لبيت المال والكفارة. وقالت فرقة: الوجه في سقوط الدية أنّ أولياءه كفار، سواء أكان القتل خطأ بين أظهرالمسلمين وبين قومه ولم يهاجر، واو هاجر ثم رجع إلى قومه، وكفارته ليس إلا التحرير، لأنه إنْ قتل بين أظهرقومه فهو مسلط على نفسه، أو بين أظهر المسلمين فأهله لا يستحقون الذية، ولا المسلمون لأنهم ليسوا أهله، فلا تجبعلى الحالين، هذا قول: مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأبي ثور. وقال ابراهيم: المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليسبينهم وبين النبي عهد فعلى قاتله تحرير رقبة، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين. قال بعض المصنفين: اختلفت فقهاءالأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في المشهور عنه: إنقتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ فيقول أبي حنيفة. وقال محمد وأبو يوسف: الدية في العمد والخطأ. وقال مالك: على قاتل من أسلم في دار الحرب،ولم يخرج، الدية والكفارة إن كان خطأ. والآية إنما كانت في صلح النبي أهل مكة، لأنهمن لم يهاجر لم يورث، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة. وقال الحسن بن صالح: إذا أقام بدار الحرب وهو قادر علىالخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه وماله واد الحق بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهومرتد بتركه دار الإسلام. وقال الشافعي: إذا قتل مسلماً في دار الحرب في الغارة وهو لا يعلمه مسلماً فلا عقلفيه ولا قود، وعليه الكفارة. وسواء أكان المسلم أسيراً، أو مستأمناً، أو رجلاً أسلم هناك، وإن علمه مسلماً فقتله فعليهالقود انتهى ما نقله هذا المصنف. والذي يظهر من مدلول هذه الجمل إن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأفي هذه الجمل الثلاث ولذلك قابلها بقوله: ومن يقتل مؤمناً متعمداً، فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أومعاهدين، فالتحرير والدية. ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين، لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم، وإن كان أهله حربيين فالتحريرفقط. {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } قال الحسن وجابربن زيد وابراهيم وغيرهم: وإن كان المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، وكفارتهالتحرير، وأداء الدية إليهم. وقال النخعي: ميراثه للمسلمين. وقرأها الحسن: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، وهو مؤمن. وبهذاقال مالك. وقال ابن عباس، والشعبي، وابراهيم أيضاً، والزهري: المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمناً أو كافراً على عهدقومه، فيه الدية كدية المسلم والتحرير. واختلف على هذا في دية المعاهد. فقال أبو حنيفة وغيره: ديته كدية المسلم.وروى ذلك عن أبي بكر وعمر. وقال مالك وأصحابه: نصف دية المسلم. وقال الشافعي وأبو ثور: ثلث دية المسلم. والذييظهر من دلالة من التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى بكونه من قوم عدو، وقيد في الجملة الثانية بكونه منقوم معاهدين، والمعنى في النسب لا في الدين، لأنه مؤمن وهم كفار. فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييدالأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب، وهي من قتل مؤمناً خطأ كأنه قال: وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون.ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد. وقال أبو بكر الرازي: قوله: وإن كانمن قوم عدو، لكم استئناف كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب، لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإن كانرجلاً فاعطه، فهذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم، فثبت أنّ هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في الخطاب.ثم قال: طاهر الآية يعني: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية ذاعهد، وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلاله، ويدل عليه: أنه لما أراد مؤمناً من أهل دار الحرب ذكرالإيمان فقال: وهو مؤمن، لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً من قوم عدو لكم انتهى كلامه. أماقوله: استئناف لم يتقدم له ذكر في الخطاب، فليس بصحيح، بل تقدم له ذكر في الخطاب في قوله: وما كانلمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ، ومن قتل مؤمناً خطأ، ولكنه ليس استئنافاً، إنما هو من باب التقسيم كما ذكرناه.بدأ أولاً بالأشرف وهو المؤمن، وأهله مؤمنون ليسوا بحربيين ولا معاهدين. وأما قوله: لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإنكان رجلاً فأعطه، فهذا ليس نظير الآية بوجه، وإنما الضمير في كان عائداً على المقتول خطأ، المؤمن إذا كان منقوم عدو لكم، وجاء قوله: وهو مؤمن على سبيل التوكيد لا سبيل التقييد، إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء،وفي جملة الشرط. وقوله: ويدل عليه إلى آخره، لا يدل عليه لما ذكرنا أنَّ الحال مؤكدة، وفائدة تأكيدها أن لايتوهم أنَّ الضمير يعود على مطلق المقتول لا بقيد الإيمان. وقوله: لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً منقوم عد، وليس كذلك بل لو لم يأت بقوله: وهو مؤمن، لكان الضمير الذي في كان عائداً على المقتول خطأ،لأنّه لم يجرد ذكر لغيره، فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر، ويترك عوده على ما يجريعليه ذكر. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } يعني: رقبة لم يملكها، ولا وجد ما يتوصل به إلىملكها، فعليه صيام شهرين متتابعين. وظاهر الآية يقضي أنه لا يجب غير ذلك، إذ لو وجبت الدّية لعطفها على الصيام،وإلى هذا ذهب: الشعبي، ومسروق، وذهب الجمهور: إلى وجوب الدّية. قال ابن عطية: وما قاله الشعبي ومسروق وهم، لأنّ الدّيةإنما هي على العاقلة وليست على القاتل انتهى. وليس بوهم، بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه. ومعنى التتابع: لايتخللها فطر. فإن عرض حيض في أثنائه لم يعد قاطعاً بإجماع. وليس له أن يسافر فيفطر، والمرض كالحيض عند: ابنالمسيب، وسليمان بن يسار، والحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، وطاووس، ومالك. وقال ابن جبير، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وعطاء الخراساني،والحسن بن حي، وأبو حنيفة وأصحابه: يستأنف إذا أفطر لمرض. وللشافعي القولان. وقال ابن شبرمة: يقضي ذلك اليوم وحده إنكان عذر غالب كصوم رمضان. {تَوْبَةً مّنَ ٱللَّهِ } انتصب على المصدر أي: رجوعاً منه إلى التسهيل والتخفيف، حيثنقلكم من الرقبة إلى الصوم. أو توبة من الله أي قبولاً منه ورحمة من تاب الله عليه إذا قبل توبته.ودعا تعالى قاتل الخطأ إلى التوبة، لأنه لم يتحرز، وكان من حقه أن يتحفظ. {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }أي عليماً بمن قتل خطأ، حكيماً حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى. {وَمَنيَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } نزلت في مقيس بنصبابة حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار، فأخذ له رسول الله الدّية، ثمبعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر مّا، فقتله مقيس، ورجع إلى مكة مرتداً وجعل ينشد

: قتلت به فهراً وحملت عقله     سراه بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتي

فقال : لا أؤمنه في حل ولا حرم، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة وهذا السبب يخص عموم قوله: ومن يقتل،فيكون خاصاً بالكافر، أو يكون على ما قال ابن عباس، قال: معنى متعمداً أي: مستحلاً، فهذا. يؤول أيضاً إلى الكفر.وأما إذا كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي، والمعنى: فجزاؤه إن جازاه، أي: هوذلك ومستحقه لعظم ذنبه، هذا مذهب أهل السنة. ويكون الخلود عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل، لا المقترنبالتأبيد، إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار. وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية، وأنها مخصصة بعمومها لقوله:

{ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءوا }

واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت الشديدةبعد الهينة، يريد نزلت: ومن يقتل مؤمناً بعدوٍ يغفر ما دون ذلك، فكأنه قيل: ويغفر ما دون ذلك إلا منقتل عمداً. وقد نازعوا في دلالة مَن الشرطية على العموم. وقيل: هو لفظ يقع كثيراً للخصوص كقوله:

{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ }

وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر. وقال الشاعر

: ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه     يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم

وإذا سلمالعموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمداً أو أقرّ بأنه قتل عمداً، وأتىالسلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل، فهذا غير متبع في الآخرة. والوعيد غير صائر إليه إجماعاً للحديث الصحيح منحديث عبادة: أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له وهذا تخصيص للعموم. وإذا دخله التخصيص فيكون مختصاًبالكافر، ويشهد له سبب النزول كما قدمنا. ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل، وتكلم فيها المفسرون هنا. فقالت جماعة: لاتقبل توبته، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس. وكان ابن عباس يقول: الشرك والقتل سهمان من ماتعليهما خلد، وكان يقول: هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان لأنها مكية. وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهممنه أنه قتل قال له: توبتك مقبولة، ومن لم يقتل قال: لا توبة للقاتل. وروي عن ابن عباس في تفسيرعبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له. قالالزمخشري: وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلاً.وفي الحديث: من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية، وقول ابن عباس مع التوبة،ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغيرتوبة،

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }

ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أنيقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم، ولكنْ لا حياة لمن تنادي. (فإنقلت): هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر؟ (قلت): ما أبين الدليل فيها، وهو تناول قوله:ومن يقتل، أي قاتل كان من مسلم، أو كافر تائب، أو غير نائب، إلا أنَّ التائب أخرجه الدليل. فمن ادعىإخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه. وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع. وأما قوله: ماأبين الدليل فيها، فليس بين، لأن المدّعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر، وهذا عام فيالكبائر. والآية في كبيرة مخصوصة وهي: القتل لمؤمن عمداً، وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك، فيجوز أن تكون هذه الكبيرةالمخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر، مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك، فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر،فظهر أنّ قوله: ما أبين الدّليل منها، غير صحيح. واختلفوا في ما به يكون قتل العمد، وفي الحرّ يقتل عبداًعمداً مؤمناً، هل يقتص منه؟ وذلك موضح في كتب الفقه. وانتصب متعمداً على الحال من الضمير المستكن في يقتل، والمعنى:متعمداً قتله. وروى عبدان عن الكسائي: تسكين تاء متعمداً، كأنه يرى توالي الحركات. وتضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديعأنواعاً. التتميم في: ومن أصدق من الله حديثاً. والاستفهام بمعنى الإنكار في: فما لكم في المنافقين، وفي: أتريدون أن تهدوا.والطباق في: أن تهدوا من أضل الله. والتجنيس المماثل في: لو تكفرون كما كفروا، وفي: بينكم وبينهم، وفي: أن يقاتلوكمأو يقاتلوا، وفي: أن يأمنوكم ويأمنوا، وفي: خطأ وخطأ. والاستعارة في: بينكم وبينهم، وفي: حصرت صدورهم، وفي: فإن اعتزلوكم وألقواإليكم السلم، وفي: سبيلاً وكلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم الآية. والاعتراض في: ولو شاء الله لسلطهم.والتكرار في مواضع. والتقسيم في: ومن قتل إلى آخره. والحذف في مواضع.

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } * { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَاهِدِينَ عَلَى ٱلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } * { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً } * { إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } * { فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } * { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[عدل]

المغنم: مفعل من غنم، يصلح للزمان والمكان. والمصدر ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعولبالمصدر أي: المغنوم، وهو ما يصيبه الرجل من مال العدو في الغزو. المراغم: مكان المراغمة، وهي: أن يرغم كل واحدمن المتنازعين بحصوله في منعة منه أنف صاحبه بأن يغلب على مراده يقال: راغمت فلان إذا فارقته وهو يكره مفارقتكلمذلة تلحقه بذلك. والرغم الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام، وهو التراب. {عَظِيماً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِىسَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ } روى البخاري ومسلم: أن رجلاًمن سليم مرّ على نفر من الصحابة ومعه غنم، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم إلا ليتعوذ، فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوابها الرسول فنزلت. وقيل: بعث سرية فيها المقداد، فتفرق القوم وبقي رجل له مال كثير لميبرح، فتشهد، فقتله المقداد، فأخبر الرسول عليه السلام بذلك فقال: أقتلت رجلاً قال لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟ وقيل: لقي الصحابة المشركين فهزموهم، فشد رجل منهم على رجل، فلما غشيه السنان قال:إني مسلم، فقتله وأخذ متاعه، فرفع ذلك إلى الرسول فقال: قتلته وقد زعم أنه مسلم؟ فقال: قالها متعوذاً قال: هلا شققت عن قلبه؟ في قصة آخرها: أن القاتل مات فلفظته الأرض مرتينأو ثلاثاً، فطرح في بعض الشعاب. وقيل: هي السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد مرداس بن نهيك من أهلفدك، وهي مشهورة. وقيل: بعث الرسول عليه السلام أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ومحلم بن جثامة في سرية إلى أسلم،فلما بلغوا إلى عامر بن الأضبط الأشجعي حياهم بتحية الإسلام، فقتله محكم وسلبه، فلما قدموا قال: أقتلته بعدما قال آمنت؟ فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمناً متعمداًوأن له جهنم، وذكر غضب الله عليه ولعنته وإعداد العذاب العظيم له، أمر المؤمنين بالتثبت والتبين، وأن لا يقدم الإنسانعلى قتل من أظهر الإيمان، وأن لا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف، وكرر ذلك آخر الآية تأكيداً أن لا يقدمعند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه، ولما كان خفاء ذلك منوطاً بالأسفار والغمزات قال: إذا ضربتم فيالأرض، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإسلام في السفر وفي الحضر، وتقدم تفسير الضرب في قوله:

{ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلاْرْضِ }

وقرأ حمزة والكسائي: فتثبتوا بالثاء المثلثة، والباقون: فتبينوا. وكلاهما تفعل بمعنى استفعل التيللطلب، أي: اطلبوا إثبات الأمر وبيانه، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح. وقال قوم: تبينوا أبلغ وأشد من فتثبتوا، لأنالمتثبت قد لا يتبين. وقال الراغب: لأنه قلما يكون إلا بعد تثبت، وقد يكون التثبت ولا تبين، وقد قوبل بالعجلةفي قوله عليه السلام: وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ . وقال أبو عبيد هما: متقاربان. قال ابنعطية: والصحيح ما قال أبو عبيد، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان، بل يقتضي محاولة للتبين، كما أنّتثبت يقتضي محاولة للتبين، فهما سواء. وقال أبو علي الفارسي: التثبت هو خلاف الإقدام، والمراد: التأني، والتثبت أشد اختصاصاً بهذاالموضع. ومما يبين ذلك قوله:

{ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً }

أي أشد وقفاً لهم عن ما وعظوا بأن لا يقدموا عليه،وكلام الناس تثبَّتْ في أمرك. وقد جاء أنّ التبين من الله، والعجلة من الشيطان، ومقابلة العجلة بالتبين دلالة على تقارباللفظين. والأكثرون على أنّ القاتل هو محلم، والمقتول عامر كما ذكرنا، وكذا هو في سير ابن إسحاق، ومصنف أبيداود، وفي الاستيعاب. وقيل: المقتول مرداس، وقاتله أسامة. وقيل: قاتله غالب بن فضالة الليثي. وقيل: القاتل أبو الدرداء. وقيل: أبوقتادة. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي، وحفص، السلام بألف. قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوزأن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وابن كثير. من بعض طرقه، وجبلة عن المفضل عن عاصم: بفتحالسين واللام من غير ألف، وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن زيد، عن عاصم: بكسر السين وإسكان اللام، وهو الانقيادوالطاعة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسلام الانحياز والترك، قال الأخفش: يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً.قال أبو عبد الله الرازي: أي لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمناً، وأصله من السلامة، لأن المعتزل عنالناس طالب للسلامة. وقرأ الجحدري: بفتح السين وسكون اللام. وقرأ أبو جعفر: مأمناً بفتح الميم أي: لا نؤمنك في نفسك،وهي قراءة: عليّ، وابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، ويحيـى بن يعمر. ومعنى قراءة الجمهور ليس لإيمانك حقيقة أنك أسلمت خوفاًمن القتل. قال أبو بكر الرازي: حكم تعالى بصحة إسلام من أظهر الإسلام، وأمر بإجرائه على أحكام المسلمين، وإن كانفي الغيب على خلافه. وهذا مما يحتج به على توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، فهو مسلم انتهى. والغرض هنا هوما كان مع المقتول من غنيمة، أو من حمل، ومتاع، على الخلاف الذي في سبب النزول. والمعنى: تطلبون الغنيمة التيهي حطام سريع الزوال. وتبتغون في موضع نصب على الحال من ضمير: ولا تقولوا، وفي ذلك إشعار بأن الداعي إلىترك التثبت أو التبين هو طلبكم عرض الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة هذه عدة بما يسني الله تعالى لهم منالغنائم على وجهها من حل دون ارتكاب محظور بشبهة وغير تثبت، قاله الجمهور. وقال مقاتل: أراد ما أعده تعالى لهمفي الآخرة من جزيل الثواب والنعيم الدائم الذي هو أجل المغانم. {كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} قال ابن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، فهمالآن كذلك كل منهم خائف في قومه، متربص أن يصل إليكم، فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره.قال أبو عبد الله الرازي: وهذا فيه إشكال، لأنّ إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم انتهى. ولا إشكال فيه،لأن المسلمين كانوا أول الإسلام يحبون دينهم، فالتشبيه وقع بتلك الحال الأولى، وعلى تقدير تسليم أنّ إخفاء الإيمان ما كانعاماً فيهم، لا إشكال أيضاً لأنه ينسب إلى الجملة ما وجد من بعضهم. وقال ابن زيد: كذلك كنتم كفرة فمنّالله عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافراً ثم يسلم لحينه حين لقيكم، فيجب أن يتثبت في أمره،وقال الأكثرون: المعنى أنكم قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تؤمنون بكلمة لا إله إلا الله، فاقبلوا منهم ذلك.وقال أبو عبد الله الرازي: فيه إشكال لأنّ لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمانهم، لأنا آمنا اختياراً، وهؤلاءأظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف انتهى. ولا إشكال في ذلك، لأنه لا يلزم أن يكون التشبيه من كل الوجوه إذكان يكون المشبه هو المشبه به، وذلك محال، ولا من معظم الوجوه. والتشبيه هنا وقع في بعض الوجوه، وهو: أنالدخول في الإسلام هو كان بكلمة الشهادة، وقد حسن الزمخشري هذا القول وطوله جداً. فقال: أول ما دخلتم في الإسلامسمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم، فمنّ الله عليكم بالاستقامةوالاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاماً فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلامفي الكافة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل، لا لصدق النية، فتجعلوه سلماً إلى استباحة دمه وماله، وقد حرمهماالله تعالى انتهى. قال أبو عبد الله الرازي: والأقرب عندي أن يقال: إنَّ من ينتقل عن دين إلى دين،ففي أول الأمر يحدث له ميل بسبب ضعيف، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصلالانتقال، فكأنه قيل لهم: كنتم في أول الإسلام إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام، ثم مَنّ اللهعليكم بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر، فكذلك هؤلاء لما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوففاقبلوا منهم هذا الإيمان، فإنّ الله يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم انتهى كلامه. وليس كلمن آمن من الصحابة كان ميله أولاً إلى الإسلام ميلاً ضعيفاً ثم يقوى، بل من الصحابة من استبصر بأول وهلةدعاء الرسول، أو رأى الرسول كأبي بكر وأبي ذر وعبد الله بن سلام وأمثالهم ممن كانمستبصراً منتظراً. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت، أي على هذه الحال فيجاهليتكم لا تثبتون، حتى جاء الإسلام ومنّ الله عليكم انتهى. والظاهر أنّ قوله: فمنّ الله عليكم، هو من تمام كذلككنتم من قبل. وقيل: من تمام تبتغون عرض الحياة الدنيا وما قبله، فالمعنى: منَّ عليكم بأنْ قبل توبتكم عن ذلكالفعل المنكر قاله: أبو عبد الله الرازي، فتبينوا: تقدّم أنه قرىء فتثبتوا، ويحتمل أن يكون هذا تأكيداً للأول، ويحتمل أنيكون فتبينوا في قراءة من جعله من التبين، أن لا يكون تأكيد الاختلاف متعلق التبين. فالمعنى في الأول: فتبينوا أمرمن تقدمون على قتله، وفي الثاني: فتبينوا نعمة الله عليكم بالإسلام. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أيخبيراً بنياتكم وطلباتكم، فكونوا محتاطين فيما تقصدونه، متوخين أمرالله تعالى. وهذا فيه تحذير، فاحفظوا أنفسكم من موارد الزلل. وقرأ الجمهور:إنَّ بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرىء بفتحها على أن تكون معمولة لقوله:

{ فَتَبَيَّنُواْ }

{لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت من أجل قوم كانواإذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله . وأما غير أولي الضرر فسببها قولابن أم مكتوم: كيف من لا يستطيع الجهاد؟. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين فيالقتال في سبيل الله أعداء الله الكفار، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمداً بغير تأويل وبتأويل، فنهى أنيقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد،وبيان تفاوتهما، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمناً خطأ، أو من يلقي السلم فيقتلهبتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمةوالأجر العظيم، دفعاً لهذه الشبهة. ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد، وإثباته لا يدل على عمومالمساواة، وكذلك نفيه. وإنما عنى نفي المساواة في الفضل، وفي ذلك إبهام على السامع، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التيبين القاعد والمجاهد. فالمتأمل يبقي مع فكره، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد، وعبر عن ذلكبالقعود، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب. وأولو الضرر هم من لا يقدر علىالجهاد لعمى، أو مرض، أو عرج، أو فقد أهبة. والمعنى: لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون. وقرأ ابن كثير،وأبو عمرو، وحمزة: غير برفع الراء. ونافع، وابن عامر، والكسائي: بالنصب، ورويا عن عاصم. وقرأ الأعمش وأبو حيوة: بكسرها. فأماقراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة، وهو قول سيبويه، كما هي عنده صفة في

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }

ومثلهقول لبيد

: وإذا جوزيت قرضاً فاجزه     إنما يجزي الفتى غير الجمل

كذا ذكره أبو عليّ، ويروى: ليس الجمل. وأجاز بعض النحويين فيه البدل. قيل: وهو إعراب ظاهر، لأنه جاء بعد نفي،وهو أولى من الصفة لوجهين: أحدهما: أنهم نصوا على أنَّ الأفصح في النفي البدل، ثم النصب على الاستثناء، ثم الوصففي رتبة ثالثة. الثاني: أنه قد تقرر أنّ غيراً نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا، هو المشهور،ومذهب سيبويه. وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها،وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناساً معينين، كانت الألف واللام فيه جنسية، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة،وهذا كله ضعيف. وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين. وقيل: استثناء من المؤمنين، والأول أظهر لأنه المحدث عنه.وقيل: انتصب على الحال من القاعدين. وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفةمن

{ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }

ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله: القاعدون. أي: كائنين من المؤمنين.واختلفوا: هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة، أو قلنا بالأرجح من أنّ الاستثناء من النفيإثبات، لزمت المساواة. وقال ابن عطية: وهذا مردود، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين، وغايتهم إنْ خرجوا من التوبيخ والمذمة التيلزمت القاعدين من غير عذر، وكذا قال ابن جريج: الاستثناء لرفع العقاب، لا لنيل الثواب. المعذور يستوفي في الأجر معالذي خرج إلى الجهاد، إذ كان يتمنى لو كان قادراً لخرج. قال: استثنى المعذور من القاعدين، والاستثناء من النفي إثبات،فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى. وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتفٍ ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغيرعذر، والمجاهد من التفاوت العظيم، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه. ومثله:

{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }

أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم، ويرتقي عن حضيض الجهل إلىشرف العلم. قال بعض العلماء: كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعاً، والألم يكن لقوله:لا يستوي معنى، لأن من ترك الفرض لا يقال: إنه لا يستوي هو والآتي به، بل يلحق الوعيد بالتارك، ويرغبالآتي به في الثواب. وقال الماتريدي: نفى التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه، لا يدلّ على أنّ الجهاد ما كان فرضاًفي ذلك الوقت. ألا ترى أن قوله تعالى:

{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ }

نفي المساواةبين المؤمن والفاسق، والإيمان فرض. وقال تعالى:

{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيّئَـٰتِ }

الآية وقال: هل يستوي الذين يعلمونوالذين لا يعلمون، والعلم في كثير من الأشياء فرض. وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه، فلأن يجوز بينفاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى. والظاهر أنّ نفي هذا الاستواء ليسمخصوصاً بقاعدة عن جهاد مخصوص، ولا مجاهد جهاداً مخصوصاً بل ذلك عام. وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عنبدر والخارجون إليها. وعن مقاتل: إلى تبوك. وقال ابن عباس وغيره: أولوا الضرر هم أهل الأعذار. إذ قد أضرت بهمحتى منعتهم الجهاد. وفي الحديث: لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس. وفي قوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ }

تقديمالأنفس على الأموال لتباين الغرضين، لأن المجاهد بائع، فأخر ذكرها تنبيهاً على أنّ المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلافي آخر المراتب. والمشتري قدمت له النفس تنبيهاً على أنّ الرغبة فيها أشد، وإنما يرعب أولاً في الأنفس الغالي.{فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ دَرَجَةً } الظاهر: أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر، لأنهم همالذين نفى التسوية بينهم، فذكر ما امتازوا به عليهم، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤالمقدر، كان قائلاً قال: ما لهم لا يستوون؟ فقيل: فضل الله المجاهدين، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخراًدرجات، وما بعدها وهم القاعدون غير أولي الضرر. وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيامن الغنيمة، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة، فنبه بإفراد الأول، وجمع الثاني على أنّ ثواب الدنيا في جنبثواب الآخرة يسير. وقيل: المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه،وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم، فلهم درجات بحسباستحقاقهم، فمنهم من يكون له الغفران، ومنهم من يكون له الرحمة فقط. فكان الرحمة أدنى المنازل، والمغفرة فوق الرحمة، ثمبعد الدرجات على الطبقات، وعلى هذا نبه بقوله:

{ هُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ }

ومنازل الآخرة تتفاوت. وقيل: الدرجة المدحوالتعظيم، والدرجات منازل الجنة. وقيل: المفضل عليهم أولاً غير المفضل عليهم ثانياً. فالأول هم القاعدون بعذر، والثاني هم القاعدون بغيرعذر، ولذلك اختلف المفضل به: ففي الأول درجة، وفي الثاني درجات، وإلى هذا ذهب ابن جريج، وهو من لا يستويعنده أولو الضرر والمجاهدون. وقيل: اختلف الجهادان، فاختلف ما فضل به. وذلك أن الجهاد جهادان: صغير، وكبير. فالصغير مجاهدةالكفار، والكبير مجاهدة النفس. وعلى ذلك دل قوله عليه السلام: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وإنماكان مجاهدة النفس أعظم، لأنّ من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا، فخصّ مجاهدةالنفس بالدرجات تعظيماً لها. وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال: فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواءالقاعدين والمجاهدين، كأنه قيل: ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك: والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر، لكون الجملة بياناً للجملةالأولى المتضمنة لهذا الوصف. ثم قال: (فإن قلت): قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات من هم؟ (قلت): أماالمفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم فيالتخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية انتهى كلامه. فقال: أولاً المعنى على القاعدين غير أولي الضرر، وقال في هذاالجواب: على القاعدين الأضراء، وهذا تناقض. والظاهر أنّ قوله: درجات، لا يراد به عدد مخصوص، بل ذلك على حسب اختلافالمجاهدين. وقال ابن زيد: هي السبع المذكورة في براءة في قوله:

{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ }

الآيات. وقالابن عطية: درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه انتهى. وقال ابن مجيريز: الدرجات في الجنة سبعون درجة، كلدرجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة، وإلى نحوه ذهب: مقاتل، ورجحه الطبري. وفي الحديث الصحيح: أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض وذهب بعض العلماء إلى أنّقوله: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه، هو على سبيل التوكيد، لا أنّ مدلول درجة مخالف لمدلولدرجات في المعنى، بل هما سواء في المعنى. قال تعالى:

{ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ }

لا يراد بها شيء واحد،بل أشياء. وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد، وإلى هذا ذهب الماتريدي قال: وفي الآية دلالة على أنّ الجهادفرض كفاية، حيث يسقط بقيام بعض، وإن كان خطاب قوله: وقاتلوا في سبيل الله يعم انتهى. {وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُٱلْحُسْنَىٰ } أي وكلاً من القاعدين والمجاهدين. وقيل: وكلاً من القاعدين غير أولي الضرر، وأولي الضرر، والمجاهدين. والحسنى هنا: الجنةباتفاق. وقال عبد الجبار: هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة. ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلاً جاز أن يتوهمأنه كما اختص بهذه النعم، فكذلك يختص بالثواب. فبيّن أنَّ للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك، ثمبيّن أنّ لهم فضل درجات، لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أنّ حالهما في الوعد بالحسنى سواء انتهى. وانتصب كلاًعلى أنه مفعول أوّل لوعد، والثاني هو الحسنى. وقرىء: وكل بالرفع على الابتداء، وحذف العائد أي: وكلهم وعد الله.{وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَـٰتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } قيل: الدرجات باعتبارالمنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة، والمغفرة باعتبار ستر الذنب، والرحمة باعتبار دخول الجنة. والظاهر أنّ هذا التفضيل الخاص للمجاهد بنفسهوماله، ومن تفرد بأحدهما ليس كذلك. ومن المعلوم أنّ من جاهد، ومَن أنفق ماله في الجهاد، ليس كمن جاهد بنفقةمن عند غيره. وفي انتصاب درجة ودرجات وجوه: أحدها: أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل،كأنه قيل: فضلهم تفضيله. كما تقول: ضربته سوطاً، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول: ضربته أسواطاً تعني: ضربات. والثاني: أنهماينتصبان انتصاب الحال أي: ذوي درجة، وذوي درجات. والثالث: على تقدير حرف الجر أي: بدرجة وبدرجات. والرابع: أنهما انتصبا علىمعنى الظرف، إذ وقعا موقعه أي: في درجة وفي درجات. وقيل: انتصاب درجات على البدل من أجراً قيل: ومغفرة ورحمةمعطوفان على درجات. وقيل: انتصبا بإضمار فعلهما أي: غفر ذنبهم مغفرة ورحمهم رحمة. وأما انتصابُ أجراً عظيماً فقيل: على المصدر،لأنّ معنى فضل معنى أجر، فهو مصدر من المعنى، لا من اللفظ. وقيل: على إسقاط حرف الجر أي بأجر. وقيل:مفعول بفضلهم لتضمينه معنى أعطاهم. قال الزمخشري: ونصب أجراً عظيماً على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدّمة عليهاانتهى. وهذا لا يظهر لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتاً لعدم المطابقة، لأنّ أجراً عظيماً مفرد، ولا يكوننعتاً لدرجات، لأنها جمع. وقال ابن عطية: ونصب درجات، إما على البدل من الأجر، وإما بإضمار فعل على أن يكونتأكيداً للأجر، كما نقول لك: على ألف درهم عرفاً، كأنك قلت: أعرفها عرفاً انتهى. وهذا فيه نظر. {إِنَّ ٱلَّذِينَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ ظَـٰلِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلاْرْضِ } روى البخاري عن ابن عباس: أن ناساًمن المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله ، يأتي السهم يرمى به فيصيبأحدهم، أو يضرب فيقتل، فنزلت. وقيل: قوم من أهل مكة أسلموا، فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة،فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فقتلوا ببدر فنزلت. قال عكرمة: نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر:قيس بن النائحة بن المغيرة، والحرث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاصي بنمنبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف. وقال النقاش: في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر، فلما رأواقلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدمعلى الجهاد، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد وسكن في بلاد الكفر. قال ابن عباس ومقاتل: التوفي هنا قبض الأرواح.وقال الحسن: الحشر إلى النار. والملائكة هنا قيل: ملك الموت، وهو من باب طلاق الجمع على الواحدة تفخيماً له وتعظيماًلشأنه، لقوله تعالى:

{ قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ }

هذا قول الجمهور. وقيل: المراد ملك الموت وأعوانه وهم: ستة، ثلاثةلأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين. ويشهد لهذا

{ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ }

وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة، وقعودهم معقومهم حين رجعوا للقتال، أو برجوعهم إلى الكفر، أو بشكهم، أو بإعانة المشركين، أقوال أربعة: وتوفاهم: ماض لقراءة من قرأتوفتهم، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل، ولكون تأنيث الملائكة مجازاً أو مضارع، وأصله تتوفاهم. وقرأ ابراهيم: توفاهم بضم التاءمضارع وفيت، والمعنى: أنّ الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. والضمير في قالوا للملائكة، والجملة خبرإنّ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى، التقدير: قالوا: قالوا لهم فيم كنتم؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع. والمعنى: فيأي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وقيل: إن أحوال الدنيا، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة، وإقامتهم بدار الكفر،وهو اعتذار غير صحيح. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف صح وقوع قوله: كنا مستضعفين في الأرض، جواباً عن قولهم:فيم كنتم؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، ولم يكن في شيء؟ (قلت): معنى فيم كنتم، التوبيخ بأنهملم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به، واعتلالاًبالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه. والذي يظهر أنّ قولهم: كنا مستضعفين في الأرضجواب لقوله: فيم كنتم على المعنى، لا على اللفظ. لأن معنى: فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم،قالوا: كنا مستضعفين أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة، وهو جواب كذب، والأرض هنا أرضمكة. {قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا } هذا تبكيت من الملائكة لهم، وردّ لما اعتذروا به. أيلستم مستضعفين، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين، كما فعل الذين هاجروا إلىالحبشة، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة. ومعنى فتهاجروا فيها أي: في قطر من أقطارها، بحيث تأمنون على دينكم. وقيل: أرضالله أي المدينة. واسعة آمنة لكم من العدوّ فتخرجوا إليها. وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين فيقتال فقتلوا؟ أو منافقون، أو مشركون؟ ثلاثة أقوال. الثالث قاله الحسن. قال ابن عطية: قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهميدل على أنهم مسلمون، ولو كانوا كفاراً لم يقل لهم شيء من ذلك، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ماواقعوه، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان، واحتمال ردته. انتهى ملخصاً. وقال السدّي: يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولميهاجر كافراً حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً انتهى. قال ابن عطية: والذي تقتضيه الأصول أنّمن ارتد من أولئك كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، ومن كان مؤمناً فمات بمكة ولم يهاجر، أو أخرج كرهاًفقتل، عاص مأواه جهنم دون خلود. ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي. وفي الآية دليل على أنَّمن لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب، وجبت عليه الهجرة. وروي في الحديث من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد {فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } الفاء للعطف، عطفت جملة على جملة. وقيل: فأولئك خبرإنْ، ودخلت الفاء في خبر إنّ تشبيهاً لاسمها باسم الشرط، وقالوا: فيم كنتم حال من الملائكة، أو صفة لظالمي أنفسهمأي: ظالمين أنفسهم قائلاً لهم الملائكة: فيم كنتم؟ وقيل: خبر إنّ محذوف تقديره: هلكوا، ثم فسر الهلاك بقوله: قالوا فيمكنتم. {إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرّجَالِ وَٱلنّسَاء وَٱلْوِلْدٰنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } من الرجال جماعة، كعياش بنأبي زمعة، وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد. ومن النساء جماعة: كأمّ الفضل أمامة بنت الحارث أم عبد الله بنعباس. ومن الولدان: عبد الله بن عباس وغيره. فإنْ أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم في المستثنين،وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد، بخلاف الرّجال والنساء قد يكونون عاجزين، وقديكونون غير عاجزين. وإنما ذكروا مع الرّجال والنساء وإنْ كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أنَّ عجزهم هو عجز لآبائهمالرّجال والنساء، لأنَّ من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرّجال والنساء مشغولين بأطفالهم، مشغوفين بهم، فيعجزون عن الهجرة بسببخوف ضياع أطفالهم وولدانهم. فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرّجال والنساء، لأن طرق العجز لا تنحصر،فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلواما يعقل الرّجال والنساء، فيلحقوا بهم في التكليف انتهى. وليس بجيد، لأنّ المراهق لا يلحق بالمكلف أصلاً، ولا وعيد عليهما لم يكلف. وقيل: يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج،ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم. وهذا الاستثناء قال الزجاج: هو من قوله:

{ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }

قال غيره: كأنه قيل:فأولئك في جهنم إلا المستضعفين، فعلى هذا استثناء متصل. والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع، لأن قوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ }

إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم. وهم على أقوال المفسرين إما كفار، وإما عصاة بالتخلف عنالهجرة وهم قادرون، فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون لأنهم عاجزون، فهو منقطع لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً. الحيلة:لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل هنا طريق المدينة قاله: مجاهد، والسدي. وغيرهما. قال ابن عطية: والصواب أنه عام فيجميع السبل، يعني المخلصة من دار الكفر انتهى. وقيل: لا يعرفون طريقاً إلى الخروج، وهذه الجملة قيل؛ مستأنفة. وقيل: فيموضع الحال. وقال الزمخشري: صفة للمستضعفين، أو الرّجال والنساء والولدان. قال: وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كانفيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله

:ولقــد أمــر علــى اللئيـم يسبـني    

انتهى كلامه. وهوتخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى:

{ وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ }

وهو هدم للقاعدةالمشهورة: بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة. والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله: المستضعفين، لأنهافي معنى: «إلا الذين استضعفوا فجاء بياناً وتفسيراً لذلك، لأنّ الاستضعاف يكون بوجوه، فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عنالهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل. والثاني مندرج تحت الأول، لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التييتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل. وروي أن رسول الله بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية، فقالجندب بن ضمرة الليثي: ويقال: جندع بالعين، أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق،والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة، وكان شيخاً كبيراً فمات بالتنعيم. {فَأُوْلَـئِكَ عَسَى ٱللَّهُأَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } عسى: كلمة أطماع وترجية، وأتى بها وإن كانت من الله واجبة، دلالة على أنّ ترك الهجرةأمر صعب لا فسحة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني. وقيل:معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم كما قال : إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} تأكيد في وقع عفوه عن هؤلاء، وتنبيه على أنّ هذا المترجي هو واقع، لأنه تعالى لم يزل متصفاً بالعفووالمغفرة. {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } قيل: نزلت في أكتم بن صيفي،ولما رغّب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة، ليذهب عنه ما يتوهم وجوده فيالغربة ومفارقة الوطن من الشدة، وهذا مقرر ما قالته الملائكة:

{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا }

ومعنى مراغماً: متحولاً ومذهباً قاله: ابن عباس، والضحاك، والربيع، وغيرهم. وقال مجاهد: المزحزح عما يكره. وقال ابن زيد: المهاجر. وقالالسدي: المبتغى للمعيشة. وقرأ الجراح، ونبيح، والحسن بن عمران: مرغماً على وزن مفعل كمذهب. قال ابن جني: هو على حذفالزوائد من راغم. والسعة هنا في الرزق قاله: ابن عباس، والضحاك، والربيع، وغيرهم. وقال قتادة: سعة من الضلالة إلى الهدى،ومن القلة إلى الغنى. وقال مالك: السعة سعة البلاد. قال ابن عطية: والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرةالمعاقل، وبذلك تكون السعة في الرّزق واتساع الصدر عن همومه وفكره، وغير ذلك من وجوه الفرح، ونحو هذا المعنى قولالشاعر

: لكان لي مضطرب واسع     في الأرض ذات الطول والعرش

انتهى. وقد مراغمة الأعداءعلى سعة العيش، لأن الابتهاج برغم أنوف الأعداء لسوء معاملتهم أشد من الابتهاج بالسعة. {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراًإِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } قيل: نزلت في جندب بن ضمرة وتقدمت قصتهقبل. وقيل: في ضمرة بن بغيض. وقيل: أبو بغيض ضمرة بن زنباع الخزاعي. وقيل: خالد بن حرام بن خويلد أخوحكيم بن حرام خرج مهاجراً إلى الحبشة، فمات في الطريق. وقيل: ضمرة بن ضمرة بن نعيم. وقيل: ضمرة بن خزاعة.وقيل: رجل من كنانة هاجر فمات في الطريق، فسخر منه قومه فقالوا: لا هو بلغ ما يريد، ولا هو أقامفي أهله حتى دفن. والصحيح: أنه ضمرة بن بغيض، أو بغيض بن ضمرة بن الزنباع، لأنّ عكرمة سأل عنه أربععشرة سنة، وصححه. وجواب الشرط فقد وقع أجره على الله، وهذه مبالغة في ثبوت الأجر ولزومه، ووصول الثواب إليه فضلاًمن الله وتكريماً، وعبر عن ذلك بالوقوع مبالغة. وقرأ النخعي وطلحة بن مصرّف: ثم يدركه برفع الكاف. قال ابن جني:هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: ثم هو يدركه الموت، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم،وفاعله. وعلى هذا حمل يونس قول الأعشى

: إن تركبوا فركوب الخير عادتنا     أو تنزلون فإنا معشر نزل

المراد: أو أنتم تنزلون، وعليه قول الآخر

: إن تذنبوا ثم يأتيني نعيقكم     فما عليّ بذنب عندكم قوت

المعنى: ثم أنتم يأتيني نعيقكم. وهذا أوجه من أن يحمل على ألم يأتيك انتهى.وخرج على وجه آخر وهو: أن رفع الكاف منقول من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاءإلى الكاف كقوله

: من عرى سلبي لم أضربه    

يريد: لم أضربه، فنقل حركة الهاء إلىالباء المجزومة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن، ونبيح، والجراح: ثم يدركه بنصب الكاف، وذلك على إضمارات كقول الأعشى

:     ويأوي إليها المستجير فيعصما

قال ابن جني: هذا ليس بالسهل، وإنما بابه الشعر لا القرآنوأنشد أبو زيد فيه

سأترك منزلي لبني تميم     وألحق بالحجاز فأستريحا

والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف انتهى. وتقول: أجرى ثم مجرى الواو والفاء، فكما جاز نصب الفعلبإضمار أنْ بعدهما بين الشرط وجوابه، كذلك جاز في ثم إجراء لها مجراهما، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلوا بهذه القراءة. وقالالشاعر في الفاء

: ومن لا يقدم رجله مطمئنة     فيثبتها في مستوى القاع يزلق

وقال آخر في الواو

: ومن يقترب منا ويخضع نوؤه     ولا يخش ظلماً ما أقام ولا هضما

وقالوا: كل هجرة لغرض ديني من: طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فراء إلى بلد يزدادفيه طاعة، أو قناعة، وزهداً في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإنْ أدركه الموت فأجرُهعلى الله تعالى. قيل: وفي الآية دليل على أن الغازي إذا خرج إلى العزو ومات قبل القتال فله سهمهوإن لم يحضر الحرب. روي ذلك عن أهل المدينة، وابن المبارك، وقالوا: إذا لم يحرم الأجر لم يحرم الغنيمة. ولاتدل هذه الآية على ذلك، لأن الغنيمة لا تستحق إلا بعد الحيازة، فالسهم متعلق بالحيازة، وهذا مات قبل أن يغنم،ولا حجة في قوله: فقد وقع أجره على الله على ذلك، لأنه لا خلاف في أنه لو مات في دارالإسلام وقد خرج إلى الغزو وما دخل في دار الحرب، أنه لا يسهم له، وقد وقع أجره على الله كماوقع أجر الذي خرج مهاجراً فمات قبل بلوغه دار الهجرة. {وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: غفوراً لما سلفمن ذنوبه، رحيماً بوقوع أجره عليه ومكافأته على هجرته ونيته. وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من البلاغة والبديع. منها الاستعارةفي قوله: إذا ضربتم في سبيل الله، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء، والسبيل لدينه، وفي: لا يستوي عبَّر بهوهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي: درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي القتضىالتفضيل، وفي: يدركه استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت، وفي: فقد وقع استعار الوقوع الذي هومن صفات الإجرام لثبوت الأجر. والتكرار في: اسم الله تعالى، وفي: فتبينوا، وفي: فضل الله المجاهدين على القاعدين. والتجنيس المماثلفي: مغفرة وغفوراً. والمغاير في: أن يعفو عنهم وعفواً، وفي: يهاجر ومهاجراً. وإطلاق الجمع على الواحد في: توفاهم الملائكة علىقول من قال أنه ملك الموت وحده. والاستفهام المراد منه التوبيخ في: فيم كنتم، وفي: ألم تكن. والإشارة في كذلكوفي: فأولئك. والسؤال والجواب في: فيم كنتم وما بعدها. والحذف في عدة مواضع.

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } * { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }[عدل]

السلاح: معروف وما هو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح وخنجرودبوس ونحو ذلك، وهو مفرد مذكر، يجمع على أسلحة، وأفعلة جمع فعال. المذكر نحو: حمار وأحمرة، ويجوز تأنيثه. قال الطرماح

: يهز سلاحاً لم يرثها كلالة     يشك بها منها غموض المغابن

وقال الليث: يقال للسيفوحده سلاح، وللعصا وحدها سلاح. وقال ابن دريد: يقال: السلاح، والسلح، والمسلح، والمسلحان، يعني: على وزن الحمار، والضلع، والنعر، والسلطان.ويقال: رجل سالح إذا كان معه السلاح. وقال أبو عبيدة: السلاح ما قوتل به. {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَلَيْسَعَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ } روى مجاهد عن ابن عباس قال: كما مع رسول الله صلى الله عليهوسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، وقال المشركون: لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آيةالقصر فيما بين الظهر والعصر، الضرب في الأرض. والظاهر جواز القصر في مطلق السفر، وبه قال أهل الظاهر. واختلفتفقهاء الأمصار في حدّ المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: تقصر في أربعة برد، وذلك ثمانيةوأربعون ميلاً. وقال أبو حنيفة والثوري: مسيرة ثلاث. وقال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام. وقال الأوزاعي:مسيرة يوم تام، وحكاه عن عامة العلماء. وقال الحسن والزهري: مسيرة يومين. وروي عن مالك: يوم وليلة. وقصر أنس فيخمسة عشر ميلاً. والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر، بل يكفي مطلق السفر، سواء كان في طاعة أو مباح أومعصية، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن مسعود: أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد. وقال عطاء:لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة، وروي عنه: أنها تقصر في السفر المباح. وأجمعوا على القصر في سفر الحجوالعمرة والجهاد وما ضارعها من صلة رحم، وإحياء نفس. والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي، وقاطع الطريق،وما في معناهما. والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل، ولا اعتبار بمسافة معينة، ولا زمان. وروي عنالحرث بن أبي ربيعة: أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله، والأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابنمسعود، وبه قال عطاء وسليمان بن موسى. والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية. وروي عن مجاهدأنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل. والظاهر من قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أن القصر مباح. وقالمالك في المبسوط: سنة. وقال حماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، ومحمد بن سحنون، واسماعيل القاضي: فرض، وروي عن عمربن عبد العزيز. والظاهر أن قوله: أن تقصروا، مطلق في لاقصر، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها. فذهبت جماعة إلىأنه قصر من أربع إلى اثنين. وقال قوم: من ركعتين في السفر إلى ركعة، والركعتين في السفر تمام. {إِنْخِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ظاهره أنّ إباحة القصر مشروطة بالخوف المزكور، وإلى ذلك ذهب جماعة. ومن ذهب إلىأنّ القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة، شرط الخوف، وقال: تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها، ويكون للإمامركعتان. وقالت طائفة: لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها، وإنما المراد القصر من هيآتها بترك الركوع والسجود فيالإيماء، وترك القيام إلى الركوع، وروي فعل ذلك عن ابن عباس وطاووس. وذهب آخرون إلى أنّ الآية مبيحة القصر منحدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجهإلى ركعتين، ورجح هذا القول الطبري بقوله:

{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ }

أي بحدودها وهيآتها الكاملة. والحديث الصحيح يدلّعلى أنّ هذا الشرط لا مفهوم له، فلا فرق بين الخوف والأمن، وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح. والفتنةهنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره. ولغة الحجاز: فتن، ولغة تميم وربيعة وقيس: أفتن رباعياً. وقال أبو زيد:قصر من صلاته قصر، أنقص من عددها. وقال الأزهري: قصر وأقصر. وقرأ ابن عباس: أن تقصروا رباعياً، وبه قرأ الضبيعن رجاله. وقرأ الزهري: تقصروا مشدّداً، ومن للتبعيض. وقيل: زائدة. وقيل: الشرط ليس متعلقاً بقصر الصلاة، بل تم الكلام عندقوله: أن تقصروا من الصلاة، ثم ابتدأ حكم الخوف. ويؤيده على قول: أنّ تجاراً قالوا: إنا نضرب في الأرض، فكيفنصلي؟ فنزلت: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، ثم انقطع الكلام. فلما كان بعد ذلكبسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو: هلا شددتم عليهم وقد مكنوكم من ظهورهم؟ فقالوا: إنّلهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم، فنزلت: {إِنْ خِفْتُمْ * إِلَىٰ * قَوْلُهُ * عَذَاباً مُّهِيناً }صلاة الخوف. ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفاداً من السنة، ويلزم منهنسخ الكتاب بالسنة. وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم، ومتى استقام اللفظ وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى انتهى.وليس هذا بنسخ، إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط، وهو كثير في كلام العرب. ومنه قول الشاعر

: عزيز إذا حلّ الخليقان حوله     بذي لحب لجأته وضواهله

وفي قراءة أبيّ وعبد الله: أن تقصروا منالصلاة أن يفتنكم، بإسقاط إن خفتم، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي: مخافة أن يفتنكم. وأصل الفتنة الاختباربالشدائد. {إِنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } عدو: وصف يوصف به الواحد والجمع. قال: هم العدو، ومعنى مبيناً:أي مظهراً للعداوة، بحيث أنّ عداوته ليست مستورة، ولا هو يخفيها، فمتى قدر على أذية فعلها. {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْفَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ } استدل بظاهر الخطابللرسول من لا يرى صلاة الخوف بعد الرسول حيث شرط كونه فيهم، وكونه هو المقيم لهمالصلاة. وهو مذهب: ابن علية، وأبي يوسف. لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها، وغيره من العوض، فيصلي الناس بإمامين طائفةبعد طائفة. وقال الجمهور: الخطاب له يتناول الأمراء بعده، والضمير في: فيهم، عائد على الخائفين. وقيل: على الضاربين في الأرض.والظاهر أنّ صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر، ولا تكون في الحضر، وإن كان خوف. وذهب إليه قوم. وذهبالجمهور إلى أنّ الحضر إذا كان خوف كالسفر. ومعنى: فأقمت لهم الصلاة، أقمت حدودها وهيآتها. والذي يظهر أنّ المعنىفأقمت بهم. وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول: عن ذلك. ومعنى: فلتقم هو من القيام، وهو الوقوف.وقيل: فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك، من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله. والظاهر أنّ الضمير في:وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير، ولكونها لها فيما بعدها في قوله: فإذا سجدوا. وقيل: إن الضمير عائدعلى غيرهم، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل. وقال النحاس: يجوز أن يكون للجميع، لأنه أهيب للعدو: فإذا سجدوا أي:هذه الطائفة. ومعنى سجدوا: صلوا. وفيه دليل على أنّ السجود قد يعبر به عن الصلاة، ومنه: إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين أي فليصل ركعتين. {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ }: ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين،والمعنى: أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم. وقال الزمخشري: فليكونوا يعني: غير المصلين من ورائكم يحرسونكم،وجوز الوجهين ابن عطية، قال: يحتمل أن يكون الذين سجدوا، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولاً بإزاء العدوّ. وقرأ الحسنوابن أبي إسحاق: فلتقم بكسر اللام. وقرأ أبو حيوة: وليات بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة، واختلف عن أبي عمرو،في إدغام التاء في الطاء. وفي قوله: فلتأت طائفة، دليل على أنهم انقسموا طائفتين: طائفة حارسة أولاً، وطائفة مصلية أولاًمعه، ثم التي صلت أولاً صارت حارسة، وجاءت الحارسة أولاً فصلت معه. والظاهر أنّ الأمر بأخذ الأسلحة واجب، لأنّ فيهاطمئنان المصلي، وبه قال: الشافعي وأهل الظاهر. وذهب الأكثرون إلى الاستحباب. ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآيةعلى أنّ طائفة صلت مع الرسول بعض صلاة، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه،ولا كيفية إتمامهم، وإنما جاء ذلك في السنة. ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار، لأنها مبينة ما أجمل فيالقرآن. الكيفية الأولى: صلت طائفة معه، وطائفة وجاه العدو، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ويذهبوا وجاه العدوّ، وجاءت هذه التيكانت وجاه العدوّ أولاً فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وهذه كانتبذات الرقاع. الكيفية الثانية: كالأولى، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم، ثم قضت بعد سلامه. وهذه مروية فيذات الرقاع أيضاً. الكيفية الثالثة: صف العسكر خلفه صفين، ثم كبر وكبروا جميعاً، وركعوا معه، ورفعوا من الركوع جميعاً، ثمسجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمينوتأخر المتقدمون الى مصاف المتأخرين، ثم ركعوا معه جميعاً، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه، فلما صلى سجد الآخرون،ثم سلم بهم جميعاً. وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته. الكيفية الرابعة: مثل هذا إلا أنه قال: ينكص الصف المتقدمالقهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين. الكيفية الخامسة: صلى بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهةالعدوّ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم، ثم قضى بهؤلاءركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد. الكيفية السادسة: يصلي بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدوّ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعةثم يسلم، وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدوّ، وقضت الأخرى. الكيفية السابعة: صلى بكل طائفة ركعة، ولميقض أحد من الطائفتين شيئاً زائداً على ركعة واحدة. الكيفية الثامنة: صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين، فكانت له أربع، ولكلرجل ركعتان. الكيفية التاسعة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين، والأخرى بإزاء العدو، ثم تقف هذه بإزاء العدوّوتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة، وتتم صلاتها ثم تحرس، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها، وكذا في المغرب.إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة. الكيفية العاشرة: قامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدوّ وظهورهم إلى القبلة، فكبرتالطائفتان معه، ثم ركع وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدوّ، وأقبلت التيكانت بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قائم كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا معه، ثم أقبلتالتي بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قاعد،ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعاً. وهذه كانت في غزوة نجد. الكيفية الحادية عشرة:صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم. وهذه كانت ببطن نخل. واختلاف هذهالكيفيات يرد على مجاهد قوله: إنه ما صلى الرسول إلا مرتين: مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفانوالمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة. وذكر ابن عباس: أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف. وقال أبو بكر بنالعربي: روي عنه أنه صلى صلاة الخوف أربعاً وعشرين مرة، يعني كيفية. وقال ابن حنبل: لانعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح، فعلى أي حديث صليت أجزأ. وكذا قال الطبري. وجمع فيالأخذ بين الحذر والأسلحة، فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء:

{ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ }

جعل الإيمان مستقراً لتمكنهم فيه. {وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وٰحِدَةً } تقدمالكلام في لو بعدود في قوله:

{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ }

أي: يشدون عليكم شدة واحدة: وقرى: وأمتعاتكم، وهوشاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا: أشقيات وأعطيات في أشقية وأعطية، جمع شقاء وعطاء. وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذيرمن الغفلة، وأفرد المسألة لأنها أبلغ في الإيصال. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُممَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } قال ابن عباس: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضاً فوضع سلاحهفعنفه بعض الناس. ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح ممايكره به ويزيد في مرضه، ورخص في ذلك إن كان مطر، لأن المطر مما يثقل العدوّ ويمنعه من خفة الحركةللقتال. وقال: إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالباً إن كانا متقاربين في المسافةومرضاً إما لجراحة سبقت، أو لضعف بنية، أو غير ذلك مما يعد مرضاً، وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة. وفيهاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو، فإنّ الجيش كثيراً ما يصاب من التفريط في الحذر. وقالالضحاك في قوله: وخذوا حذركم، أي: تقلدوا سيوفكم، فإن ذلك حذر الغزاة. {إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }قال الزمخشري: الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبة واغترار، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ الله يهين عدوهم، ويخذلهم،وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم، وليعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من الله، كما قال:

{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ }

{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلاَةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } * { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } * { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } * { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } * { هَا أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } * { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } * { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }[عدل]

{فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ * فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْفَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } الظاهر: أنّ معنى قضيتم الصلاة أي فرغتم منها، والصلاة هنا صلاة الخوف، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وكذافسره ابن عباس. والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حدّ ما أمروا به عند قضاءالمناسك بذكر الله، فأمروا بذكر الله من: التهليل، والتكبير، والتسبيح، والدعاء بالنصر، والتأييد في جميع الأحوال فإن ما هم فيهمن ارتقاب مقارعة العدو، حقيق بالذكر، والالتجاء إلى الله. أي: فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي أتموها. وذهب قوم إلى أنّمعنى قضيتم الصلاة: تلبستم بالصلاة وشرعتم فيها. ومعنى الأمر بالذكر أي: صلوها قياماً في حال المسايفة والاختلاط، وقعوداٍ جاثين علىالركب من أنين، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح، فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها. فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم،فأقيموا الصلاة أي: فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وهو خلافالظاهر. قال: وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة، والمشي والاضطراب في المعركة إذاحضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء، وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها الى أن يطمئن. وقيل: قوله: فإذاقضيتم الصلاة فذكروا، أنه أمر بالصلاة حاله إلا من بعد الخوف قياماً للأصحاء، وقعوداً للعجزين عن القعود لزمانة أو جراحةأو مرض لا يستطيع القعود معها، فإذا اطمأننتم أي: أمنتم من الخوف قاله: قتادة، والسدي. فأقيموا الصلاة أي: صلوها لاكصلاة الخوف، بل كصلاة الأمن في السفر. وقيل فإذا اطمأننتم أي: فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً.{فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً } أي واجبة في أوقات معلومة قاله: ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد،والسدي، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن قتيبة. ولم يقل موقوتة، لأن الكتاب مصدر، فهو مذكر. وروي عن ابن عباس: أنالمعنى فرضاً مفروضاً، فهما لفظان بمعنى واحد، والظاهر الأول أي : فرضاً منجماً في أوقات. وقال أبو عبد الله الرازي:أجمل هنا تلك الأوقات وفسرها في أوقات خمساً، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظراً إلى المعقول، لأن الحوادث لهامراتب خمس: مرتبة الحدوث، ومرتبة الوقوف، ومرتبة الكهولة وفيها نقصان خفي، ومرتبة الشيخوخة، والخامسة: أن تبقى آثاره بعد موته مدّةثم تمحى. وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى. مالخصناه من كلامه وطول هو كثيراً في شيء لا يدل عليه القرآن، ولا تقتضيه لغة العرب، ذكر ذلك في تفسيرهفمن أراده فليطالعه فيه. {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَاء ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِمَا لاَ يَرْجُونَ } قيل: تزلت في الجهاد مطلقاً. وقيل: في انصراف الصحابة من أحد، وكان الرسول صلى الله عليهوسلم أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه، أمر أن لا يخرج إلا مَن كان معه في أحد، فشكوا بأنّ فيهم جراحات.وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ } إنما هو قضاء صلاة الخوف. وقرأ الحسن:تهنوا بفتح الهاء وهي لغة. فتحت الهاء كما فتحت دال يدع، لأجل حرف الحلق، والمعنى: ولا تضعفوا أو تخوروا جبناًفي طلب القوم. وقرأ عبيد بن عمير: ولا تهانوا من الإهانة. نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهممن كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم: لا أريناك هاهنا ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة، فإنّما فيهم من الألم مشترك، وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب وإظهار دينه بوعده الصادق، وهم لا يرجونه، فينبغيأن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن. وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل، وهم لا يرجون ثواباً في الآخرة،فأنتم أحرى أن تصبروا. ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر

: قاتلوا القوم يا خداع ولا     يأخذكم من قتالهم قتل القوم أمثالكم لهم شعر

والرجاء هناعلى بابه، وقيل: معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها،أي: لم يخف. وزعم الفراء أنّ الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك. وقرأالأعرج: أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله. وقرأ ابن المسيفع: تئلمون بكسر التاء. وقرأ ابن وثاب ومنصور بنالمعتمر: تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما، وهي لغة. {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي عليماً بنياتكم حكيماً فيمايأمركم به وينهاكم عنه. {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} طوَّل المفسرون في سبب النزول، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره. نزلت في طعمة بن أبيرق، سرقدرعاً في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي، فحلف طعمة ما لي بها علم، فاتبعوا أثر الدقيقإلى دار اليهودي، فقال اليهودي: دفعها إليّ طعمة. وقيل: استودع يهودي درعاً فخانه، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دارأبي مليك الأنصاري. قال السدي: وقيل: السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة، وأن بني أبريق نقبوا مشربيته وأخذواذلك، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر، وأهموا أنَّ فاعل ذلك هو لبيد بن سهل، فشكاهم قتادة إلى رسول الله، وأن الرسول همَّ أن يجادل عن طعمه، أو عن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة. وقال الكرماني:أجمع المفسرون على أنّ هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث، إلا ابن بحر فإنهقال: نزلت في المنافقين، وهو متصل بقوله:

{ فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ }

انتهى. وفي هذه الآية تشريف للرسول، وتفويض الأمور إليه بقوله: لتحكم بين الناس بما أراك الله. ومناسبة هذه الآية لما قبلها:أنه لما صرح بأحوال المنافقين، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية، رجع إلى أحوال المنافقين، فإنهمخانوا الرسول على ما لا ينبغي، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم، وكان بشير منافقاً ويهجو الصحابةوينحل الشعر لغيره، وأما طعمة فارتد، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أنّ كلها من الله، وأنه ليس للرسول أنيحيد عن شيء منها طلباً لرضا قوم. أو أنه لما أنه يجاهد الكفار، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوابهم، وأنّ كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله،ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق. والكتاب هنا القرآن. ومعنى بالحق: أي لا عوج فيه ولا ميل.والناس هنا عام، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي. وقيل: بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده، معصوم في الأقوالوالأفعال. وقيل: بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن. وعن عمر: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه، لأن الرأي كان من رسول الله مصيباً، لأن الله تعالى كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال، أو بماله عاقبة حميدة، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل وقال الماتريدي: بالحق أي: موافقاً لما هو الحق على العباد، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أوبياناً لأمره. وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة، ليتزودوا له. أو بما يحمل عليهم فاعله، أو بالعدل والصدق على الأمنمن التغيير والتبديل. بما أراك الله: فيه دليل جواز اجتهاده، واجتهاده كالنص، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أولا يريه غير الصواب انتهى كلامه. {وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } أي: مخاصماً، كجليس بمعنى مجالس، قاله: الزجاج والفارسيوغيرهما. ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم، والخائنون جمع. فإنّ بني أبريق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة، فظاهر إطلاق الجمععليهم وإن كان وحده هو الرّجل الذي خان في الدرع أو سرقها، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءةمن قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه، فكانوا شركاء له في الإثم، خصوصاً من يعلم أنه هو السارق.أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا يخاصم لخائن قط، ولا يحاول عنه. وخصيماً يحتاج متعلقاً محذوفاًأي البراء. والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب: أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدّرع وهو زيد بن السمين،أو أبو مليك الأنصاري؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح، أو لبيد بن سهل؟ وقال يحيىبن سلام: وكان يهودياً. وذكر المهدوي أنه كان مسلماً. وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة، فدل علىإسلامه كما ذكر المهدوي. ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد، ونزل على سلافة فرماها حسان به فيشعر قاله ومنه

: وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت     ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو

فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت: ما كنت تأتيني بخيرأهديت لي شعر حسان، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، ثم نقب بيتاً ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات.وقيل: اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه. {وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: استغفر لأمتك المذنبينالمتخاصمين بالباطل. قال الزمخشري: واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي. وقال الطبري والزجاج: واستغفر الله أي من ذنبكفي خصامك لأجل الخائنين. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب، لأنه عليه السلام إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد برائتهمانتهى. وقيل: هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة، كما يقول الرجل: استغفر الله. وقيل:الخطاب صورة للنبي ، والمراد بنو أبيرق. وقيل: المعنى واستغفر الله مما هممت به قبل النبوّة.{وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم. واختيان الأنفس هو ممايعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم. والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهىملابساً للمنهى عنه. وروى العوفي عن ابن عباس: أن الرسول خاصم عن طعمة، وقام يعذر خطيباً.وروى قتادة وابن جبير: أنه همّ بذلك ولم يفعله. {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } أتىبصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدمالقصد. وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة وارتكاب المآثم. وقيل: إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أنّلها أخوات. وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وقالت: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال:كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة. وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم، لأنها سبب للإثم خان فأثم،ولتواخي الفواصل. {يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ }الضمير في يستخفون الظاهر: أنه يعود على الذين يختانون، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع، حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عنالناس إنْ اطلعوا عليها، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم. وقيل: الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي، ويندرجهؤلاء فيهم، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم. وقيل: يعود على من باعتبار المعنى، وتكون الجملة نعتاً. وهو معهم أي:عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم، وهي جملة حالية. قال الزمخشري: وكفى بهذه الآية ناعيةعلى الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لاسترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح انتهى. وهذا كقول الشاعر

: يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ     قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل أتى بجامع إيمان لمعصية

أي أن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء: الاستتار. وقال ابن عباس: الاستحياء استحى فاستخفى، إذ يبيتونما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء، ودافعوا به عن السارق. والعامل في إذ العامل في معهم، وتقدّمالكلام في التبييت. {وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } كناية عن المبالغة في العلم. ولما كانت قصة طعمة جمعتبين عمل وقول: جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً، فنبه علىأنه عالم بأقوالهم وأعمالهم. وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ، إذ كان تعالى محيطاً بجميع الأقوال والأعمال، فكان ينبغي أنتستر القبائح عنه بعدم ارتكابها. {هَـأَنْتُمْ هَـؤُلاء جَـٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَمْمَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } تقدم الكلام على ها أنتم هؤلاء، وعلى الجملة بعدها قراءة وإعراباً في سورة آل عمرانوالخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة. والأظهر أن يكون ذلك خطاباً للمتعصبين في قصةطعيمة، ويندرج فيه مَن عمل عملهم. ويقوي ذلك أنَّ هؤلاء إشارة إلى حاضرين. وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي:عن طعمة. وفي قوله: فمن يجادل الله عنهم، وعيد محض أي: أنّ الله يعلم حقيقة الأمر، فلا يمكن أن يلبسعليه بجدال ولا غيره. ومعنى هذا الاستفهام النفي أي: لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه.والوكيل: الحافظ المحامي، والذي يكل الإنسان إليه أموره. وهذا الاستفهام معناه النفي أيضاً، كأنه قال: لا أحد يكون وكيلاً عليهمفيدافع عنهم ويحفظهم. وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة. {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْيَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } الظاهر أنهما غير أنّ عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره،كما فعل طعمة بقتادة واليهودي. وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل: ومن يعمل سوءاً من ذنب دون الشرك،أو يظلم نفسه بالشرك انتهى. وقيل: السوء الذنب الصغير، وظلم النفس الذنب الكبير. وقال أبو عبد الله الرازي: وخص مايبدي إلى الغير باسم السوء، لأن ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً، لأنّ الإنسان لا يوصل الضرر إلىنفسه. وقيل: السوء هنا السرقة. وقيل: الشرك. وقيل: كل ما يأثم به. وقيل: ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة. وقيل:ما دون الشرك من المعاصي. وقال ابن عطية: هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة. والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصيعلى مجرد الاستغفار وأنه كاف، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة. وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة، وخص بعضهم ذلكبأنْ تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه، دون ما بينه وبين العبيد. وقيل: الاستغفار التوبة. وفي لفظة: يجد اللهغفوراً رحيماً، مبالغة في الغفران. كأنّ المغفرة والرحمة معدَّان لطالبهما، مهيآن له متى طلبهما وجدهما. وهذه الآية فيها لطف عظيمووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها. وعن ابن مسعود: أنها منأرجى الآيات. {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } الإثم: جامع للسوء وظلم النفسالسابقين والمعنى: أنّ وبال ذلك لاحق له لا يتعدّاه إلى غيره، وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة. وختمهابصفة العلم، لأنه يعلم جميع ما يكسب، لا يغيب عنه شيء من ذلك. ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعهافيجازى على ذلك الإثم بما تقتضيه حكمته. فالصفتان أشارتا إلى علمه بذلك الإثم، وإلى ما يستحق عليه فاعله. وفي لفظة:على، دلالة استعلاء الإثم عليه، واستيلائه وقهره له. {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَبُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً } قيل: نزلت في طعمة بن أبيرق حين سرق الدرع ورماها في دار اليهودي. وروى الضحاك عنابن عباس: أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، إذ رمى عائشة بالإفك. وظاهر العطف بأو المغايرة، فقيل:الخطيئة ما كان عن غير عمد. والإثم: ما كان عن عمد، والصغيرة والكبيرة، أو القاصر على فعل والمتعدي إلى غيره.وقيل: الخطيئة سرقة الدرع، والإثم يمينه الكاذبة. وقال ابن السائب: الخطيئة يمين السارق الكاذبة، والإثم سرقة الدرع، ورمى اليهودي به.وقال الطبري: الخطيئة تكون عن عمد وغير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل: هما لفظان بمعنى واحد، كرّرامبالغة. والضمير في: به، عائد على الإثم، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله: انفضوا إليها وعلىالمعطوف كهذا. وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا. وقيل: يعود على الكسب المفهوم من يكسب. وقيل: على المكسوب. وقيل:يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو، كأنه قيل: ثم يرم بأحد المذكورين. وقيل: ثم محذوف تقديره: ومن يكسبخطيئة ثم يرم به بريئاً أو إثماً ثم يرم به بريئاً، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم النحو.والبريء المتهم بالذنب ولم يذنب. ومعنى: فقد احتمل بهتاناً، أي برميه البريء، فإنه يبهته بذلك، وإثماً مبيناً أي: ظاهراًلكسبه الخطيئة أو الإثم. والمعنى: أنه يستحق عقابين: عقاب الكسب، وعقاب البهت. وقدم البهت لقربه من قوله: ثم يرم بهبريئاً، ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الإثم. ولفظ احتمل أبلغ من حمل، لأنّ افتعل فيه للتسبب كاعتمل. ويحتملأن يكون افتعل فيه كالمجرد كما قال:

{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ }

فيكون كقدر واقتدر. لما كان الوزر يوصف بالفعل، جاءذكر الحمل والاحتمال وهو استعارة. جعل المجني كالجرم المحمول. ولفظة: ومَن تدل على العموم، فلا ينبغي أن تخصّ ببني أبيرق،بل هم مندرجون فيها. وقرأ معاذ بن جبل: ومن يكِسّب بكسر الكاف وتشديد السين، وأصله: يكتسب. وقرأ الزهري: خطية بالتشديد.{وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء }الظاهر: أنّ الضمير في منهم عائد على بني ظفر المجادلين والذابين عن بني أبيرق. أي: فلولا عصمته وإيحاؤه إليك بماكتموه، لهموا بإضلالك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل، مع علمهم بأنّ الجاني هو صاحبهم. فقد روي أنّ ناساً منهمكانوا يعلمون حقيقة القصة، هذا فيه بعض كلام الزمخشري، وهو قول ابن عباس من رواية السائب: أنها متعلقة بقصة طعمةوأصحابه، حيث لبسوا على الرسول أمر صاحبهم. وروى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في وفد ثقيف قدموا علىالرسول قالوا: جئناك نبايعك على أنْ لا نحشر ولا نعشر، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة، فلميجبهم فنزلت. وقال ابن عطية: وفق الله نبيهعلى مقدار عصمته له، وأنها بفضل من الله ورحمته. وقوله تعالى: لهمت معناهلجعلته همها وشغلها حتى تنفذه، وهذا يدل على أنّ الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل الغضب لبني أبيرق،وقد وقع همهم وثبت. والمعنى: ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ويجعله همّ نفسه، كما فعلهؤلاء، لكن العصمة تبطل كيد الجمع انتهى. والظاهر القول الأول كما ذكرنا، إلا أن الهمّ يحتاج إلى قيد أي: لهمتطائفة منهم هما يؤثر عندك. ولا بد من هذا القيد، لأنهم هموا حقيقة أعني: المجادلين عن بني أبيرق، أو يخصّالضلال عن الدين فإنّ الهم بذلك أي: لهموا بإضلالك عن شريعتك ودينك، وعصمة الله إياك منعتهم أن يخطروا ذلك ببالهم.وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء أي: وبال ما أقدموا عليه من التعاون على الإثم والبهت، وشهادة الزور،إنما هو يخصهم. وما يضرونك من شيء مِن تدل على العموم نصاً أي: لا يضرونك قليلاً ولا كثيراً. قال القفال:وهذا وعد بالعصمة في المستقبل. {وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } الكتاب: هو القرآن. والحكمة تقدّم تفسيرها والمعنى: إنّمن أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وأهله لذلك، وأمره بتبليغ ذلك، هو معصوم من الوقوع في الضلال والشبه. {وَعَلَّمَكَمَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } قال ابن عباس ومقاتل: هو الشرع. وقال أبو سليمان الدمشقي: أخبار الأولين والآخرين. وذكر الماوردي:الكتاب والحكمة، وذكر أيضاً مقدار نفسك النفيسة. وقيل: خفيات الأمور، وضمائر الصدور التي لا يطلع عليها إلا يوحي. وقال القفال:يحتمل وجهين: أحدهما: أن يُراد ما يتعلق بالدين كما قال تعالى:

{ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ }

وعلى هذا التقدير: وأطلعك على أسرار الكتاب والحكمة، وعلى حقائقهما، مع أنك ما كنت عالماً بشيء، فكذلك بفعل بك فيمستأنف أيامك، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ولا على استزلالك. الثاني: ما لم تكن تعلم من أخبار القرونالسالفة، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين وكيدهم ما لا يقدر على الاحتراز منه انتهى. وفيه بعض تلخيص. والظاهر العموم، فيشملجميع ما ذكروه. فالمعنى: الأشياء التي لم تكن تعلمها. لولا إعلامه إياك إياها. {وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }قيل: المنة بالإيمان. وقال أبو سليمان: هو ما خصه به تعالى. وقال أبو عبدالله الرازي: هذا من أعظم الدلائل علىأنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب. وذلك أنّ الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا قليلاً، ونصيب الشخص من علومالخلائق يكون قليلاً، ثم إنه سمى ذلك القليل عظيماً. وتضمنت هذه الآيات أنواعاً منم الفصاحة والبيان والبديع. منها الاستعارةفي: وإذا ضربتم في الأرض، وفي: فيميلون استعار الميل للحرب. والتكرار في: جناح ولا جناح لاختلاف متعلقهما، وفي: فلتقم طائفة:ولتأت طائفة، وفي: الحذر والأسلحة، وفي: الصلاة، وفي: تألمون، وفي: اسم الله. والتجنيس المغاير في: فيميلون ميلة، وفي: كفروا إنالكافرين، وفي: تختانون وخواناً، وفي: يستغفروا غفوراً. والتجنيس المماثل في: فأقمت فلتقم، وفي: لم يصلوا فليصلوا، وفي: يستخفون ولا يستخفون،وفي: جادلتم فمن يجادل، وفي: يكسب ويكسب، وفي: يضلوك وما يصلون، وفي: وعلمك وتعلم. قيل: والعام يراد به الخاص في:فإذا قضيتم الصلاة ظاهره العموم، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة، لأن السياق يدل على ذلك، ولذلك كانتأل فيه للعهد انتهى. وإذا كانت أل للعهد فليس من باب العام المراد به الخاص، لأن أل للعموم وأل للعهدفهما قسيمان، فإذا استعمل لأحد القسيمين فليس موضوعاً للآخر. والإبهام في قوله: بما أراك الله وفي: ما لم تكن تعلم.وخطاب عين ويراد به غيره وفي: ولا تكن للخائنين خصيماً فإنه محروس بالعصمة أن يخاصم عنالمبطلين. والتتميم في قوله: وهو معهم للإنكار عليهم والتغليظ لقبح فعلهم لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده،وأصل المعية في الإجرام، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة. وإطلاق وصف الإجرام على المعاني فقداحتمل بهتاناً. والحذف في مواضع.

{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } * { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } * { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } * { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } * { لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } * { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } * { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } * { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } * { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } * { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً }

النجوى مصدر كالدعوى يقال: نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته. قال الواحدي:ولا تكون النجوى إلا بين اثنين. وقال الزجاج: النجزى ما انفرد به الجماعة، أو الإثنان سرّاً كان وظاهراً انتهى. وقالابن عطية: المسارة، وتطلق النجوى على القوم المتناجين، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر. وقال الكرماني: نجوى جمع نجي،وتقدم الكلام في هذه المادة، وتكرر هنا لخصوصية البنية. مريد من مرد، عتا وعلا في الحذاقة، وتجرد للشر والغواية.وقال ابن عيسى: وأصله التملس، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها، وغلام أمرد لا نبات بوجهه، وصرح ممرد مملسلا يعلق به شيء لملاسته، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل. البتك: الشق والقطع، بتك يبتك، وبتك للتكثير، والبتكالقطع واحدها بتكة. قال الشاعر

: حتى إذا ما هوت كف الوليد لها     طارت وفي كفه من ريشها بتك

محيص: مفعل من حاص يحيص، زاع بنفور ومنه: فحاصوا حيصة حمر الوحش. وقول الشاعر

: ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة     كم العمر باق والمدا متطاول

ويقال جاض بالجيموالضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص. قال الشاعر

: تحيص من حكم المنية جاهدا     ما للرجال عن المنون محاص

وفي المثل: وقعوا في حيص بيص. وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه، ويقال:حاص يحوص حوصاً وحياصاً إذا نفر وزايل المكان الذي فيه. والحوص في العين ضيق مؤخرها. الخليل: فعيل من الخلة، وهيالفاقة والحاجة. أو من الخلة وهي صفاء المودّة، أو من الخلل. قال ثعلب: سمى خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلاتدع فيه خللاً إلا ملأته. وأنشد قول بشار

: قد تخللت مسلك الروح مني     وبه سمي الخليل خليلا {

لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْأَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله:ابن عباس وغيره. وقال مقاتل: هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى اللهعليه وسلم في أمر طعمة. وقال ابن عطية: هو عائد على الناس أجمع. وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحابالنازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى. وهذاالاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي: إلا نجوى من أمر، وقاله: أبو عبيدة. وإنكان النجوى المتناجين قيل: ويجوز في: مِن الخفض من وجهين: أن يكون تابعاً لكثير، أو تابعاً للنجوى، كما تقول: لاخير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة، وإن شئت اتبعته القوم. ويجوز أن يكون مِنأمر مجروراً على البدل من كثير، لأنه في حيز النفي، أو على الصفة. وإذا كان منقطعاً فالقدير: لكن مَن أمربصدقة فالخير في نجواه. ومعنى أمر: حث وحض. والصدقة تشمل الفرض والتطوّع. والمعروف عام في كل بر. واختاره جماعة منهم:أبو سليمان الدمشقي، وابن عطية. فيندرج تحته الصدقة والاصلاح. لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماماً، إذ هما عظيما الغذاء فيمصالح العباد. وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما، حتى صار القسم قسيماً. وقيل: المعروف الفرض. روي ذلك عنابن عباس ومقاتل. وقيل: إغاثة الملهوف. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوعانتهى. وفي الحديث الصحيح: كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواماً فقال أحدهم: ما أشد هذا الحديث فقال: ألمتسمع كل معروف صدقة، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ. وقال الحطيئة

: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه     لا يذهب العرف بين الله والناس

وظاهر قوله: أو إصلاح بين الناس، أنهفي كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع. وقيل: هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين. قال أبو عبد الله الرازيما ملخصه: ذكر ثلاثة أنواع، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله: أو إصلاح بين الناس.أو بإيصال المنفعة إما جسمانياً وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: بصدقة. أو روحانياً وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم، أوالقوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: أو معروف. وقال الراغب: يقال لكل مايستحسنه العقل ويعرفه معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر. ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر، وإليهأشار بقوله:

{ صِبْغَةَ ٱللَّهِ }

{ عَبْدُ ٱللَّهِ }

وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى. وهذهنزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح. وقيل: هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة، وبدأ بأكثرها نفعاً وهو إيصال النفع إلىالغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل، والإصلاح بين الناس على سياستهم، وما يؤدي إلى نظم شملهمانتهى. وقال عليه السلام: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقاً من الأمر، وإذا كان الخيرفي نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى.. {وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء * مَرْضَاتَ *ٱللَّهِ فَسَوْفَنُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل، ويجوز أن يريد: ومن يأمربذلك، فيعبر بالفعل عن الأمر، كما يعبر به عن سائر الأفعال. وقرأ أبو عمرو وحمزة: يؤتيه بالياء، والباقون بالنون علىسبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله:

{ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ }

فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلمالعظيم، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب. ومن قرأ بالياء لحظ الإسم الغائب في قوله: ابتغاء مرضاة الله، وفيقوله: ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى، وخلوصه للهدون رياء ولا سمعة. {وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ * ٱلْهَدْىِ *وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِمَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته، وبرّأ اليهودي، ارتد وذهبإلى مكة وتقدّم ذلك موته وسببه. ومما قيل فيه: إنه ركب في سفينة فسرق منها مالاً فعلم به، فألقي فيالبحر. وقيل: لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنماً لهمومات على الشرك. وقيل: نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا، ثم ارتدّوا. وتقدم معنى المشاقة في قوله:

{ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ }

ومن يشاقق: عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى: أي اتضحله الحق الذي هو سبب الهداية. ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة وإطلاعه إياه علىما بيتوه وزوّروه، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم منذنب الجاهل، لأنّ من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه، أو يعرفه منيصدقه. والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على لحق وعمل بخلاف ما يقتضيهعلى سبيل العناد لله تعالى، إذ جعل له نور يهتدي به. وسبيل المؤمنين: هو الدين الحنيفي الذي هم عليه. وهذهالجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة، ولكنه بدأ بالأعظمفي الإثم، وأتبع بلازمه توكيداً. واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة. وقد طول أهل أصول الفقهفي تقرير الدلالة منها، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه. وقال الزمخشري: هو دليل على أنّالإجماع حجة لا يجوز مخالفتها، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنينوبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول انتهى كلامه. وما ذكره ليسبظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما، فالوعيد إنما ترتب في الآيةعلى من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين، ولذلك كان الفعل معطوفاً على الفعل، ولم يعد معه اسم شرط.فلو أعيد اسم الشرط وكان، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ومن يتبع غير سبيل المؤمنينلكان فيه ظهور مّا على ما ادّعوا، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله: ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايراً لقوله:ومن يشاقق الرسول. وقد قلنا: إنه ليس بمغاير، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيعالأمر وتشنيعه. والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه. واستدل بهذه الآية علىوجوب عصمة الرسول ، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم. ومعنى قوله: ما تولى قال ابنعطية: وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره. وقال الزمخشري: يجعله بالياء، وما تولى من الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبينما اختار انتهى. وهذا على منزعه الاعتزالي. وقرىء: وتصله بفتح النون من صلاه. وقرأ ابن أبي عيلة: يوله ويصله بالياءفيهما جرياً على قوله: فسوف يؤتيه بالياء، وفي هاء نوله ونصله: الإشباع والاختلاس والإسكان وقرىء بها. {إِنَّ ٱللَّهَ لاَيَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً } تقدّم مثل تفسيرهذه الآية، ونزلت قيل: في طعمة. وقيل: في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين. وقيل: في شيخقال: لم أشرك بالله منذ عرفته، إلا أنه كان يأتي ذنوباً، وأنه ندم واستغفر، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقدافترى إثماً عظيماً، وآخر هذه فقد ضل ضلالاً بعيداً ختمت كل آية بما يناسبها. فتلك كانت في أهل الكتاب، وهممطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول ، ووجوب اتباع شريعته، ونسخهالجميع الشرائع، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل، فصارذلك افتراء واختلافاً مبالغاً في العظم والجرأة على الله. وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولاعلوم، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله، فضلوا بذلك ضلالاً يستبعد وقوعه، أويبعد عن الصواب. ولذلك جاء بعده:

{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً }

وجاء بعد تلك:

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ }

وقوله:

{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ }

ولم يختلف أحد من المتأولين فيأنّ المراد بهم اليهود، وأن كان اللفظ عاماً. ولما كان الشرك من أعظم الكبائر، كان الضلال الناشىء عنه بعيداً عنالصواب، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالاً لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق، لأن له رأس مال يرجعإليه وهو الإيمان، بخلاف المشرك. ولذلك قال تعالى:

{ يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَـٰلُ ٱلْبَعِيدُ } وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله }

إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً} المعنى: ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلهاً إلا مسميات تسمية الإناث. وكنى بالدعاء عن العبادة، لأنّ من عبدشيئاً دعاه عند حوائجه ومصالحه. وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى، ويسمونها أنثى وإناث، جمع أنثى كرباب جمع ربى. قال ابنعباس، والحسن، وقتادة: المراد الخشب والحجارة، فهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء. فيجيء قوله:إلا إناثاً، عبارة عن الجمادات. وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم: كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات والعزىومناة ونايلة. ويردّ على هذا بأنها كانت تسمى أيضاً بأسماء مذكرة: كهبل، وذي الخلصة. وقال الضحاك وغيره: المراد ماكانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها، فقيل لهم: هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم. وقال الحسن: لميكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث لنقصه وخساسته بالنسبةللتذكير. وقال الراغب: أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهمفاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله:

{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ }

وقرأ أبو رجاء: إنْ تدعون بالتاء على الخطاب، ورويت عنعاصم. وفي مصحف عائشة رضي الله عنها: إلا أوثاناً جمع وثن، وهو الصنم. وقرأ بذلك أبو السوار والهناي. وقرأ الحسن:إلا أنثى على التوحيد. وقرأ ابن عباس، وأبو حيوة، والحسن، وعطاء، وأبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القاري: أنثاً. قال الطبري:فيما حكى إناث كثمار وثمر. وقال غيره: أنث جمع أنيث، كغرير وغرر. وقال المغربي: إلا إناثاً إلا ضعافاً عاجزين لاقدرة لهم، يقال: سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث غير قاطع. قال الشاعر

: فتخبرني بأن العقل عندي     جراز لا أقل ولا أنيث

أنث في أمره لان، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال.وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: إلا وثناً بفتح الواو والثاء من غيرهمزة. وقرأ ابن المسيب، ومسلم بن جندب، ورويت عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء: الاأنثـا، يريدون وثناً، فأبدل الهمزة واواً،وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن، فجمع على وثان كجعل وجمال، ثم وثان على وثن كمثال، ومثل وحماروحمر. قال ابن عطية: هذا خطأ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع،وإنما يجمع جموع التقليل، والصواب أن يقال: وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد انتهى. وليس قوله: وإنما يجمع جموعالتقليل بصواب، كامل الجموع مطلقاً لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل، نص على ذلك النحويون. وقرأأيوب السجستاني: الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة، كشقق. وقرأت فرقة: الااثنا بسكون الثاء، وأصله وثناً، فاجتمع في هذااللفظ ثماني قراآت: إناثاً، وأنثاً، وأوثاناً، ووثناً، ووثنا، واثناً، وأثنا. {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ ٱللَّهُ }المراد به إبليس قاله: الجمهور، وهو الصواب، لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو. وقيل: الشيطان المعين بكل صنم:أفرد لفظاً وهو مجموع في المعنى الواحد يدل على الجنس. قيل؛ كان يدخل في أجواف الأصنام فيكلم داعيها، ويحتمل أنيكون لعنه الله صفة، وأن يكون خبراً عنه. وقيل: هو دعاء، ولا يتعارض الحصران، لأن دعاء الأصنام ناشىء عن دعائهمالشيطان، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام، أو لاختلاف الدعاءين، فالأول عبادة، والثاني طواعية. وقال ابن عيسى: هو مثل:

{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }

يعني: أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز. وأما في الحقيقةفهم يدعون الشيطان. {وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي نصيباً واجباً اقتطعته لنفسي من قولهم: فرض لهفي العطاء، وفرض الجند رزقهم. والمعنى: لأستخلصنهم لغوايتي، ولأخصنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة. قال ابن عطية: المفروض هنا معناه المنحاز،وهو مأخوذ من الفرض، وهو الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجباً أن اتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس.قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا: ولفظ نصيب يتناول القليل فقط. والنص إنّ أتباع إبليس هم الكثير بدليل:

{ لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً }

{ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

وهذا متعارض. وأجيب أن التفاوت إنمايحصل في نوع البشر، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين. وأيضاً فالمؤمنون وإن كانواقليلين في العدد، نصيبهم عظيم عند الله تعالى. والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم. انتهى تلخيص ما أحب به.والذي أقول: إنّ لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير، بدليل قوله:

{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ }

الآية. والواو: قيل عاطفة، وقيل واو الحال. {وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ ٱلاْنْعَـٰمِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } هذهخمسة أقسم إبليس عليها: أحدها: اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم. والثاني: إضلالهم وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها.والثالث: تمنيته لهم وهو التسويل، ولا ينحصر في نوع واحد، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمروبلوغ وطر وغير ذلك، وهي كلها أماني كواذب باطلة. وقيل: الأماني تأخير التوبة. وقيل: هي اعتقاد أن لا جنة ولانار، ولا بعث ولا حساب. وقال الزمخشري: ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغيرتوبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، ونحو ذلك انتهى. وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه منغير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله. والرابع: أمره إياهم الناشىء عنه تبتيك آذان الأنعام، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقونآذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن. وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله: عكرمة، وقتادة، والسدي. وقيل: فيهإشارة إلى كل ما جعله الله كاملاً بفطرته، فجعل الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره. والخامس أمره إياهم الناشىء عنه تغيير خلقالله تعالى. قال ابن عباس، وابراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغيرهم. أراد تغيير دين الله، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاجبقوله:

{ فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ }

أي لدين الله. والتبديل يقعموقعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه. ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر، ومعناه: النهي. وقالت فرقة منهم الزجاج: هوجعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة، وغير ذلك مما عبدوه. وقال ابن مسعود، والحسن:هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين، فمن ذلك الحديث في: لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة انتهى. وقال ابن عباس أيضاً وأنس، وعكرمة، وأبو صالح، ومجاهد، وقتادة أيضاً: هو الخصاء،وهو في بني آدم محظور. وكره أنس خصاء الغنم، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول، ورخص عمر بنعبد العزيز في خصاء الخيل. وقيل للحسن: إن عكرمة قال؛ هو الخصاء قال: كذب عكرمة، هو دين الله تعالى. وقيل:التخنت. وقال الزمخشري: هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى. وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام،فناسب أن يكون التغيير هذا. وقيل: تغيير خلق الله هو أنَّ كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلةفقد غير خلقه. وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجهمخصوص، فاستعان به في السفاح واللواط، فذلك تغيير خلق الله. وكذلك المخنث إذا نتف لحيته، وتقنع تشبهاً بالنساء، والفتاة إذاترجلت متشبهة بالفتيان. وكل ما حلله الله فحرموه، أو حرمه تعالى فحللوه. وعلى ذلك:

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً }

وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، ولهذا قالوا: هو تغيير أحكام الله. وقيل:هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي. وقيل: خضاب الشيب بالسواد. وقيل: معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان، وشق المناخر، وسملالعيون، وقطع الأنثيين. ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما خو خاص في التغيير، فإنما ذلك على جهةالتمثيل لا الحصر. وفي حديث عياض المجاشعي: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي ومفعول أمر الثاني محذوف أي: ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن. وحذف لدلالة ما بعده عليه. وقرأ أبو عمرو:ولآمرنهم بغير ألف، كذا قاله ابن عطية. وقرأ أبي: وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى. فتكون جملاً مقولة، لا مقسماً عليها. وجاءترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة، بدأ أولاً باستخلاص الشيطان نصيباً منهم واصطفائه إياهم، ثم ثانياً بإضلالهموهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر، ثم ثالثاً بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة، ثم رابعاً بتبتيك آذان الأنعام،هو حكم لم يأذن الله فيه، ثم خامساً بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم.وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجاً تحت عموم التغيير، ليكون ذلك استدراجاً لما يكون بعده من التغيير العام، واستيضاحاًمن إبليس طواعينهم في أول شيء يلقيه إليهم، فيعلم بذلك قبولهم له. فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدهامنهم، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه: يأمره أولاً بشيء سهل، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلكأمره بجميع ما يريد منه. وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها علم ذلك، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى.

{ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }

أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة، أو لكونه لما استنزل آدم علمأن ذريته أضعف منه. {وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَـٰنَ وَلِيّاً مّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } أي من يؤثرحظ الشيطان على حظه من الله. وكأنه لما قال إبليس: لأتخذن من عبادك نصيباً، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه، أخبر أنهمقبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له، فاتخذوه ولياً من دون الله. والوليّ هنا قال مقاتل: بمعنى الرب. وقال أبو سليمان لدمشقي:من الموالاة، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته. وقوله:من دون الله، قيد لازم. لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً إلا إذا لم يتخذ الله ولياً، ولا يمكنأن يتخذ الشيطان ولياً ويتخذ الله ولياً، لأنهما طريقان متباينان، لا يجتمعان هدى وضلالة. وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباعالشيطان. {يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ } لفظان متقاربان والمعنى: أن الذي أقسم عليه مِن أن يمنيهم وقع بإخبار اللهتعالى عنه بذلك، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها. ولما كان الوعد والتمنيةمن أمور الباطن، أخبر الله عنه بها. والمعنى: أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة، وأنه لا ثواب ولا عقاب.{وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُوراً } قرأ الأعمش: وما يعدهم يسكون الدال، خفف لتوالي الحركات. وتقدّم تفسير الغرور ومعناه: هناالخدع التي تظن نافعة، ويكشف الغيب أنها ضارة. واحتمل النصب أن يكون مفعولاً ثانياً، أو مفعولاً من أجله، أو مصدراًعلى غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم، ويكون ثم وصف محذوف أي: إلا غروراً واضحاً أو نحوه، أو نعتاً لمصدرمحذوف أي: وعداً غرور. أي: ذا غرور. {أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } أخبر تعالى أنّ المكانالذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم، وأنهم لا يجدون عنها مراغاً يروغون إليه. وعنها: لا يجوز أن تتعلق بمحذوف،لأنها لا تتعدّى بعن، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر، فيحتمل أن يكون ذلك تبييناً على إضماراً عني.وجوزوا أن يكون حالاً من محيص، فيتعلق بمحيص أي: كائناً عنها، ولو تأخر لكان صفة. {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِسَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } لما ذكر مأوى الكفار، ذكر مأوى المؤمنين، وأسند الفعل إلىنون العظمة، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفاً لهم. وقرىء: سيدخلهم بالياء. ولما رتب تعالى مصير مَنكان تابعاً لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره وتغيير أحكام الله تعالى، رتّب هنا دخول الجنة على الإيمان وعمل الصالحات.{وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّا } لما ذكر أنّ وعد الشيطان هو غرور باطل، ذكر أنّ هذا الوعد منه تعالى هو الحقالذي لا ارتياب فيه، ولا شك في إنجازه. والذين مبتدأ، وسيدخلهم الخير. ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي: وسندخلالذين آمنوا سندخلهم. وانتصب وعد الله حقاً على أنه مصدر مؤكد لغيره، فوعد الله مؤكداً لقوله: سيدخلهم، وحقاً مؤكد لوعدالله. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } القيل والقول واحداً، أي: لا أحد أصدق قولاً من الله. وهي جملةمؤكدة أيضاً لما قبلها. وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين، بخلاف مواعيد الشيطان وأمانته الكاذبة المخلفةلأمانيه. {لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } قال ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، ومسروق، وقتادة، والسدي، وغيرهم: الخطابللأمة. قال بعضهم: اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب فقالوا: ديننا أقدم من دينكم. وأفضل، فنبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون:كتابنا يقضي على الكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، ونحو هذا من المحاورة فنزلت. وقال مجاهد وابن زيد: الخطاب لكفار قريش، وذلكأنهم قالوا: لن نبعث ولن نعذب، وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم، ثم لا عذاب. وقالت اليهود: نحن أبناء اللهوأحباؤه. إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم

{ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ }

فردالله تعالى على الفريقين. وقال الزمخشري في ليس: ضمير وعد الله، أي: ليس ينال ما وعد الله من الثواببأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. والخطاب للمسلمين، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به، ولذلك ذكر أهل الكتابمعهم لمشاركتهم لهم في الإيمان. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل. إنَّ قوماً ألهتمأماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل.ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً، لأوتين مالاً وولداًإن لي عنده للحسنى. وكان أهل الكتاب يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، ويعضده تقدمذكر أهل الشرك انتهى. وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس، وأقر بها أنَّ الذي يعود الضمير عليههو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله:

{ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ }

كما ذهب إليه الحسن، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب، أو ما قالته قريشوأهل الكتاب على ما مر ذكره. وقال الحوفي: اسم ليس مضمر فيها على معنى: ليس الثواب عن الحسنات ولا العقابعلى السيئات بأمانيكم، لأنّ الاستحقاق إنما يكون بالعمل، لا بالأماني. وقال أبو البقاء: ليس مضمر فيها ولم يتقدم له ذكر،وإنما دل عليه سبب الآية، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: نحن أصحاب الجنة. وقال المشركون: لا نبعث. فقال: ليس بأمانيكمأي: ليس ما ادعيتموه بأمانيكم. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة بن نصاح، والحكم، والأعرج: بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ساكنةالياء، جمع على فعالل، كما يقال: قراقير وقراقر، جمع قرقور. {مَن يَعْمَلُ } قال الجمهور: اللفظ عام، والكافر والمؤمنمجازيان بالسوء يعملانه. فمجازاة الكافر النار، والمؤمن بنكبات الدنيا. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لما نزلت قلت: يارسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر، فقال : إنما هي المصيبات في الدنيا وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها. وقال به: أبي بن كعب، وسأله الربيع بن زياد عن معنىالآية وكأنه خافها فقال له: أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلابذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. وخصص الحسن، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر. وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارىوالمجوس وكفار العرب، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات. وخصص السوء ابن عباس، وابن جبير بالشرك. وقيل:السوء عام في الكبائر. {عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } روى ابن بكارعن ابن عامر ولا يجد بالرفع على القطع. {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَيَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } مِن الأولى هي للتبعيض، لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات، وإنما يعمل منها ماهو تكليفه وفي وسعه. وكم مكلف لا يلزمه زكاة ولا حج ولا جهاد، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال علىبعض المذاهب. وحكى الطبري عن قوم: أنّ من زائدة، أي: ومن يعمل الصالحات. وزيادة من في الشرط ضعيف، ولا سيماوبعدها معرفة. ومِن الثانية لتبيين الإبهام في: ومن يعمل. وتقدم الكلام في أوفى قوله:

{ لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ }

وهو من مؤمن. جملة حالية، وقيد في عمل الإنسان لأنه لو عمل من الأعمال الصالحةما عمل فلا ينفعه إلا إن كان مؤمناً. قال الزمخشري: وإذا أبطل الله الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعملالصالح وأن من أصلح عمله فهو الفائز، ومن أساء عمله فهو الهالك، تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأماني وحسم المطامع،والإقبال على العمل الصالح، ولكنه نصح لا تعيه الآذان، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى. والذي تدل عليه الآية أن الإيمانشرط في الانتفاع بالعمل، لأنّ العمل شرط في صحة الإيمان. {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } ظاهره: أنه يعود إلى أقربمذكور وهم المؤمنون، ويكون حكم الكفار كذلك. إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر، أنّ كلاهما يجزى بعمله، ولأنّ ظلمالمسيء أنه يزاد في عقابه. ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه. والمحسن له ثواب،وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل. فنفي الظلم دلالة على أنه لايقع نقص في الفضل. ويحتمل أن يعود الضمير في: ولا يظلمون إلى الفريقين، عامل السوء، وعامل الصالحات. وقرأ: يدخلون مبنياًللمفعول هنا، وفي مريم، وأوّلي غافر بن كثير أبو عمر وأبو بكر. وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكرفي ثانية غافر.وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر. وقرأ الباقون مبنياً للفاعل. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن. {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفاً } تقدمالكلام على ملة إبراهيم حنيفاً في قوله:

{ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا }

واتباعه. قال ابن عباس: في التوحيد.وقال أبو سليمان الدمشقي: في القيام لله بما فرضه. وقيل: في جميع شريعته إلا ما نسخ منها. {وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُإِبْرٰهِيمَ خَلِيلاً } هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات. والجمهور:على أنها من الخلة وهي المودّة التي ليس فيها خلل. وقول محمد بن عيسى الهاشمي: إنه إنما سمي خليلاً لأنهتخلى عما سوى خليله. فإن كان فسر المعنى فيمكن، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين. وعن رسول الله قال: يا جبريل بمَ اتخذ الله ابراهيم خليلاً؟ قال: لإطعامه الطعام والكرامة التي أكرمهالله بها ذكروها في قصة مطولة عن ابن عباس مضمونها: أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقاً حواري عجن، وخبزوأطعم الناس منه. وعن رسول الله : اتخذ الله ابراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال: وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجييّ لما أثنى على من اتبع ملة ابراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه،ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه. لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببهاحنيفية ابراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله:

{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }

أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات. ونبه بذلك على أنّ من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه. وليستهذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة مَن، ولا تصلح هذه للصلة، وإنما هي معطوفةعلى الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر، أي: لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، نبهت على شرف المنبع وفوزالمتبع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما موقع هذه الجملة؟ (قلت): هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو مايجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أناتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته انتهى. فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصحقوله، كأنه يقول: اعترضت الكلام. وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول،وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول، وقوله: كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، فالذينحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله

: وقد أدركتني والحوادث جمة     أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل

ونحو قال الآخر

: ألا هل أتاها والحوادث جمة     بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا

ولا نحفظه جاء آخر كلام.{وَللَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات، أخبر بعظيم ملكه.وملكه بجميع ما في السموات، وما في الأرض، والعالم مملوك له، وعلى المملوك طاعة مالكه. ومناسبة هذه الآية لما قبلهاظاهرة لما ذكرناه، ولما تقدم ذكر الخلة، فذكر أنه مع الخلة عبد الله، وأن الخلة ليست لاحتياج، وإنما هي خلةتشريف منه تعالى لابراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية. {وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً } أي: عالماً بكلشيء من الجزئيات والكليات، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها، قللها وكثيرها. وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحةوالبلاغة والبيان والبديع. منها التجنيس المغاير في: فقد ضل ضلالاً، وفي: فقد خسر خسراناً، وفي: ومن أحسن وهو محسن. والتكرارفي: لا يغفر ويغفر، وفي: يشرك ومن يشرك، وفي: لآمرنهم، وفي: اسم الشيطان، وفي: يعدهم وما يعدهم، وفي: الجلالة فيمواضع، وفي: بأمانيكم ولا أماني، وفي: من يعمل ومن يعمل، وفي: ابراهيم. والطباق المعنوي في: ومن يشاقق والهدى، وفي: أنيشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن، وفي: سواء والصالحات. والاختصاص في: بصدقة أو معروف أو إصلاح، وفي: وهو مؤمن، وملةابراهيم، وفي: ما في السموات وما في الأرض. والمقابلة في: من ذكر أو أنثى. والتأكيد بالمصدر في: وعد الله حقاً.والاستعارة في: وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي: محيطاً عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته.والحذف في عدة مواضع.

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ فِي يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىٰ بِٱلْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } * { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } * { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } * { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } * { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } * { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } * { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } * { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } * { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }[عدل]

الشح: قال ابن فارس البخل مع الحرص. وتشاح الرجلان في الأمر لا يريدانأن يفوتهما، وهو بضم الشين وكسرها. وقال ابن عطية: الشح الضبط على المعتقدات والإرادة، ففي الهمم والأموال ونحو ذلك مماأفرط فيه، وفيه بعض المذمة. وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل، وهو رذيلة. لكنها قدتكون في المؤمن ومنه الحديث: قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم وأما الشح ففي كلأحد، ويدل عليه:

{ وأحضرت الأنفس الشح }

و

{ من يوق شح نفسه }

لكل نفس شحاً وقولالنبي عليه السلام: أن تصدق وأنت صحيح شحيح ولم يرد به واحداً بعينه، وليس بحمد أن يقال هناإن تصدق وأنت صحيح بخيل. المعلقة: هي التي ليست مطلقة ولا ذات بعل. قال الرجل: هل هي إلا خطة،أو تعليق، أو صلف، أو بين ذاك تعليق. وفي حديث أم زرع: زوجي العشنق إن انطق أطلق، وإن أسكت أعلق»شبهت المرأة بالشيء المعلق من شيء، لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق منه. وفي المثل: أرض منالمركب بالتعليق. الخوض: الاقتحام في الشيء تقول: خضت الماء خوضاً وخياضاً، وخضت الغمرات اقتحمتها، وخاضه بالسيف حرّك سيفه فيالمضروب، وتخاوضوا في الحديث تفاوضوا فيه، والمخاضة موضع الخوض. قال الشاعر وهو عبد الله بن شبرمة

: إذا شالت الجوزاء والنجم طالع     فكل مخاضات الفرات معابر

والخوضة بفتح الخاء اللؤلؤة، واختاض بمعنىخاض وتخوض، تكلف الخوض. الاستحواذ: الاستيلاء والتغلب قاله: أبو عبيدة والزجاج. ويقال: حاذ يحوذ حوذاً وأحاذ، بمعنى مثل حاذ وأحاذ.وشدت هذه الكلمة فصحت عينها في النقال، قاس عليها أبو زيد الأنصاري. {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنّسَاء قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} سبب نزولها: أنّ قوماً من الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن أمر النساء وأحكامهنّ في المواريث وغير ذلك. وأمامناسبتها فكذلك على تربيع العرب في كلامها أنها تكون في أمر ثم، تخرج منه إلى شيء، ثم تعود إلى ماكانت فيه أولاً. وهكذا كتاب الله يبين فيه أحكام تكليفه، ثم يعقب بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ثم يعقب ذلك بذكرالمخالفين المعاندين الذين لا يتبعون تلك الأحكام، ثم بما يدل على كبرياء الله تعالى وجلاله، ثم يعاد لتبيين ما تعلقبتلك الأحكام السابقة. وقد عرض هنا في هذه السورة أنْ بدأ بأحكام النساء والمواريث، وذكر اليتامى، ثم ثانياً بذكر شيءمن ذلك في هذه الآية، ثم أخيراً بذكر شيء من المواريث أيضاً. ولما كانت النساء مطرحاً أمرهنّ عند العرب فيالميراث وغيره، وكذلك اليتامى أكد الحديث فيهنّ مراراً ليرجعوا عن أحكام الجاهلية. والاستفتاء طلب الإفتاء، وأفتاه إفتاء وفتيا وفتوى، وأفتيتفلاناً في رؤياه عبرتها له. ومعنى الإفتاء إظهار المشكل على السائل. وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل، فالمعنى:كأنه بيان ما أشكل فيثبت ويقوى. والاستفتاء ليس في ذوات النساء، وإنما هو عن شيء من أحكامهن، ولم يبين فهومجمل. ومعنى يفتيكم فيهن: يبين لكم حال ما سألتم عنه وحكمه. {وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ فِى يَتَـٰمَى ٱلنّسَاءٱلَّلَـٰتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ } ذكروا في موضع ما من الإعراب: الرفع، والنصب،والجر، فالرفع ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفاً على اسم الله أي: الله يفتيكم، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى.قال الزمخشري: يعني قوله:

{ وَإِنْ خِفْتُمْ * أَن لا *تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ }

وهو قوله أعجبني زيد وكرمه انتهى.والثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في يفتيكم، وحسن الفصل بينهما بالمفعول والجار والمجرور. الثالث: أن يكون ما يتلىمبتدأ، وفي الكتاب خبره على أنها جملة معترضة. والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيماً للمتلو عليهم، وأن العدل والنصفة في حقوقاليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند الله التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل ظالم متهاون بما عظمه الله. ونحوهفي تعظيم القرآن وأنه

{ فِى أُمّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ }

وقيل في هذا الوجه: الخبر محذوف، والتقدير: ومايتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء لكم أو يفتيكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وعلى هذا التقدير في الكتاببقوله: يتلى عليكم، أو تكون في موضع الحال من الضمير في يتلى، وفي يتامى بدل من في الكتاب. وقال أبوالبقاء في الثانية: تتعلق بما تعلقت به الأولى، لأن معناها يختلف، فالأولى ظرف، والثانية بمعنى الباء أي: بسبب اليتامى، كماتقول: جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد. ويجوز أن تتعلق الثانية بالكتاب أي: فيما كتب بحكم اليتامى. ويجوز أنتكون الثانية حالاً، فتتعلق بمحذوف. وأما النصب فعلى التقدير: ويبين لكم ما يتلى، لأن بفتيكم معناها يبين فدلت عليها. وأماالجر فمن وجهين: أحدهما: أن تكون الواو للقسم كأنه قال: وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، والقسم بمعنى التعظيم، قالهالزمخشري: والثاني: أن يكون معطوفاً على الضميرالمجرور في فيهن، قاله محمد بن أبي موسى. وقال: أفتاهم الله فيما سألوا عنه،وفي ما لم يسألوا عنه. قال ابن عطية: ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادةحرف الخفض. قال الزمخشري: ليس بسديد أن يعطف على المجرور في فيهن، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى انتهى. والذيأختاره هذا الوجه، وإن كان مشهور مذهب جمهور البصريين أنّ ذلك لا يجوز إلا في الشعر، لكن قد ذكرت دلائلجواز ذلك في الكلام. وأمعنتُ في ذكر الدلائل على ذلك في تفسير قوله:

{ وَكُفْرٌ بِهِ }

و

{ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }

وليس مختلاً من حيث اللفظ، لأنّا قد استدللنا علي جواز ذلك، ولا من حيث المعنى كما زعمالزمخشري، بل المعنى عليه ويكون على تقدير حذف أي: يفتيكم في مثلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، من إضافة متلوإلى ضميرهن سائغة، إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة لما كان متلواً فيهن صحت الإضافة إليهما. ومن ذلك قول الشاعر

:إذا كوكـب الخرقـاء لاح بسحـرة    

وأما قول الزمخشري: لاختلاله في اللفظ والمعنى فهو قول الزجاج بعينه. قالالزجاج: وهذا بعيد، لأنه بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى، أما للفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر، وذلك غير جائز.كما لم يجز قوله:

{ تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلاْرْحَامَ }

وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل، وتقدير العطف علىالضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب. ومعلوم أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيماسألوه من المسائل انتهى كلامه. وقد بينا صحة المعنى على تقدير ذلك المحذوف، والرفع على العطف على الله، أو علىضمير يخرجه عن التأسيس. وعلى الجملة تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس، وكذلك الجر على القسم. فالنصب بإضمار فعل، والعطف علىالضمير يجعله تأسيساً. وإذا أراد الأمرين: التأسيس والتأكيد، كان حمله على التأسيس هو الأولى، ولا يذهب إلى التأكيد إلا عنداتضاح عدم التأسيس. وتقدم الكلام في تعلق قوله: «في يتامى النساء». وقال الزمخشري: (فإن قلت): بم تعلق قوله: في يتامىالنساء؟ (قلت): في الوجه الأول هو صلة يتلى أي: يتلى عليكم في معناهن: ويجوز أن يكون في يتامى النساء بدلاًمن فيهنّ. وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير انتهى كلامه. ويعني بقوله في الوجه الأول: أن يكون وما يتلىفي موضع رفع، فأما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى فلا يتصوّر إلا إن كان فييتامى بدلاً من في الكتاب، أو تكون في للسبب، لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد، فهو لا يجوزإلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف. وأما ما أجازه في هذا الوجه أيضاً من أن في يتامى بدلمن فيهن، فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف. ونظير هذا التركيب: زيد يقيم في الدار وعمروفي كسر منها، ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف، والتركيب المعهود: زيد يقيم في الدار في كسرمنها. وعمرو واتفق من وقفنا على كلامه في التفسير على أنّ هذه الآية إشارة إلى ما مضى في صدر هذهالسورة وهو قوله تعالى:

{ وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً }

وقوله:

{ وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ }

وقوله:

{ وَإِنْ خِفْتُمْ * أَن لا *تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء }

قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت هذهالآية يعني: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أوّلاً، ثم سأل ناس بعدها رسول الله عن أمر النساء فنزلت:

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنّسَاء قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ }

وما يتلى عليكم فعلى ما قاله المفسرونوما نقل عن عائشة يكون يفتيكم ويتلى فيه وضع المضارع موضع الماضي، لأن الإفتاء والتلاوة قد سبقت. والإضافة في يتامىالنساء من باب إضافة الخاص إلى العامّ، لأن النساء ينقسمن إلى يتامى وغير يتامى. وقال الكوفيون: هي من إضافة الصفةإلى الموصوف، وهذا عند البصريين لا يجوز، وذلك مقرر في علم النحو. وقال الزمخشري: (فإن قلت): الإضافة في يتامىالنساء ما هي؟ (قلت): إضافة بمعنى من هي إضافة الشيء إلى جنسه، كقولك: خاتم حديد، وثوب خز، وخاتم فضة. ويجوزالفصل واتباع الجنس لما قبله ونصبه وجره بمن، والذي يظهر في يتامى النساء وفي سحق عمامة أنها إضافة على معنىاللام، ومعنى اللام الاختصاص. وقرأ أبو عبد الله المدني: في يتامى النساء بياءين، وأخرجه ابن جني على أن الأصل أيامى،فأبدل من الهمزة ياء، كما قالوا: باهلة بن يعصر، وإنما هو أعصر سمي بذلك لقوله

: أثناك أن أباك غير لونه     كر الليالي واختلاف الأعصر

وقالوا في عكس ذلك: قطع الله أيدهيريدون يده، فأبدل من الياء همزة. وأيامى جمع أيم على وزن فعيل، وهو مما اختص به المعتل، وأصله: أيايم كسيايدجمع سيد، قلبت اللام موضع العين فجاء أيامى، فأبدل من الكسرة فتحة انقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقالابن جني: ولو قال قائل كسر أيم على أيمي على وزن سكرى، ثم كسر أيمي على أيامي لكان وجهاً حسناً.ومعنى ما كتب لهنّ قال ابن عباس، ومجاهد، وجماعة: هو الميراث. وقال آخرون: هو الصداق، والمخاطب بقوله: لا تؤتونهنّأولياء المرأة كانوا يأخذون صدقات النساء ولا يعطونهن شيئاً. وقيل: أولياء اليتامى كانوا يزوجون اليتامى اللواتي في حجورهن ولا يعدلونفي صدقاتهن. وقرىء: ما كتب الله لهن. وقال أبو عبيدة: وترغبون أن تنكحوهن، هذا اللفظ يحتمل الرغبة والنفرة فالمعنى فيالرغبة في أن تنكحوهن لما لهن أو لجمالهن، والنفرة وترغبون عن أن تنكحوهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن. والأول قولعائشة رضي الله عنها وجماعة انتهى. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى،فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل: هي غنية جميلة قال له: اطلب لها من هو خير منك وأعود عليهابالنفع. وإذا قيل: هي دميمة فقيرة قال له: أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك. والمستضعفين معطوف على يتامى النساء،والذي تلي فيهم قوله تعالى:

{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أولادكم }

الآية وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية ولاالصبي الصغير، وكان الكبير ينفرد بالمال، وكانوا يقولون: إنما يرث من يحمي الحوزة ويرد الغنيمة، ويقاتل عن الحريم، ففرض اللهتعالى لكل واحد حقه. ويجوز أن يكون خطاباً للأوصياء كقوله:

{ أَمْوٰلَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيّبِ }

وقيل: المستضعفين هناالعبيد والإماء. {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَـٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ } هو في موضع جر عطفاً على ما قبله أي: وفي أن تقوموا.والذي تلي في هذا المعنى قوله تعالى:

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ }

إلى غير ذلك مما ذكر فيمال اليتيم. والقسط: العدل. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى ويأمركم أن تقوموا. وهو خطاب للأئمة في أن ينظروالهم، ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم انتهى. وفي ري الظمآن: ويحتمل أن يرفع، وأن تقوموا بالابتداء وخبره محذوفأي: خير لكم انتهى. وإذا أمكن حمله على غير حذف بكونه قد عطف على مجرور كان أولى من إضمار ناصب،كما ذهب إليه الزمخشري. ومن كونه مبتدأ قد حذف خبره. {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} لما تقدم ذكر النساء، ويتامى النساء، والمستضعفين من الولدان، والقيام بالقسط، عقب ذلك بأنه تعالى يعلم ما يفعل منالخير بسبب من ذكر، فيجازي عليه بالثواب الجزيل. واقتصر على ذكر فعل الخير لأنه هو الذي رغب فيه، وإن كانتعالى يعلم ما يفعل من خير ومن شر، ويجازي على ذلك بثوابه وعقابه. {وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاًأَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } نزلت بسبب ابن بعكك وامرأته قاله: مجاهد. وبسبب رافع بنخديج وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة، وكانت قد أسنت فتزوج عليها شابة فآثرها، فلم تصبر خولة فطلقها ثم راجعها،وقال: إنما هي واحدة، فإما أن تقوى على الإثرة وإلا طلقتك ففرت. قاله: عبيدة، وسليمان بن يسار، وابن المسيب. أوبسبب النبي وسودة بنت زمعة خشيت طلاقها فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي،ففعل، فنزلت قاله: ابن عباس وجماعة. والخوف هنا على بابه، لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل علىوقوع الخوف. وقيل: معنى خافت علمت. وقيل: ظنت. ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر، إذ المعنى معه يصح. والنشوز: أنيجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته، والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسبب أو ضرب. والإعراض: أن يقل محادثتها ومئانستها لطعنفي سن أو دمامة، أو شين في خلق أو خلق أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك،وهو أخف النشوز. فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر، أو بذلمنها له على أن يؤثرها وعن أن يؤثر وتتمسك بالعصمة، أو على صبر على الإثرة ونحو ذلك، فهذا كله مباح.ورتب رفع الجناح على توقع الخوف، وظهور أمارات النشوز والإعراض، وهو مع وقوع تلك وتحققها أولى. لأنه إذا أبيح الصلحمع خوف ذلك فهو مع الوقوع أوكد، إذ في الصلح بقاء الألفة والمودّة. ومن أنواع الصلح أن تهب يومها لغيرهامن نسائه كما فعلت سودة، وأن ترضى بالقسم لها في مذة طويلة مرة، أو تهب له المهر أو بعضه، أوالنفقة، والحق الذي للمرأة على الزوج هو المهر والنفقة، والقسم هو على إسقاط ذلك أو شيء منه على أن لايطلقها، وذلك جائز. وقرأ الكوفيون: يصلحا من أصلح على وزن أكرم. وقرأ باقي السبعة: يصالحا، وأصله يتصالحا، وأدغمت التاءفي الصاد. وقرأ عبيدة السلماني: يصالحا من المفاعلة. وقرأ الأعمش: أن أصالحا، وهي قراءة ابن مسعود، جعل ماضياً. وأصله تصالحعلى وزن تفاعل، فأدغم التاء في الصاد، واجتلبت همزة الوصل، والصلح ليس مصدر الشيء من هذه الأفعال التي قرئت، فإنكان اسماً لما يصلح به كالعطاء والكرامة مع أعطيت وأكرمت، فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجرّ أي: يصلحأي بشيء يصطلحان عليه. ويجوز أن يكون مصدراً لهذه الأفعال على حذف الزوائد. {وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } ظاهره أنّ خيراًأفعل التفضيل، وأن المفضل عليه هو من النشوز والإعراض، فحذف لدلالة ما قبله عليه. وقيل: من الفرقة. وقيل: من الخصومة،وتكون الألف واللام في الصلح للعهد، ويعني به صلحاً السابق كقوله تعالى:

{ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ }

وقيل: الصلح عام. وقيل: الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف، ويندرج تحته صلح الزوجين،ويكون المعنى: خير من الفرقة والاختلاف. وقيل: خير هنا ليس أفعل تفضيل، وإنما معناه خير من الخيور، كما أن الخصومةشرّ من الشرور. {وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } هذا من باب المبالغة جعل الشح كأنه شيء معدّ في مكان. وأحضرتالأنفس وسيقت إليه، ولم يأت، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقاً إلى الأنفس، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولاً عليهالإنسان، ومركوزاً في طبيعته، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا. فقال ابن عباس وابن جبير: هو شح المرأة بنصيبها من زوجهاومالها. وقال الحسن وابن زيد: هو شح كل واحد منهما بحقه. وقال الماتريدي: ويحتمل أن يراد بالشح الحرص، وهو أنيحرص كل على حقه يقال: هو شحيح بمودّتك، أي حريص على بقائها، ولا يقال في هذا بخيل، فكان الشح والحرصواحد في المعنى، وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب، فأطلق على الحرص الشح لأن كل واحد منهماسبب لكون الآخر، ولأنّ البخل يحمل على الحرص، والحرص يحمل على البخل انتهى. وقال الزمخشري: في قوله: والصلح خير،وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله: وأحضرت الأنفس الشح. ومعنى إحضار الأنفس الشح: إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنهاأبداً ولا تنفك عنه، يعني: أنها مطبوعة عليه. والغرض أنّ المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها، أو يمسكها إذارغب عنها وأحب غيرها انتهى. قوله. والصلح خبر جملة اعتراضية، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أنَّ قوله:

{ وَإِن يَتَفَرَّقَا }

معطوف على قوله:

{ فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا }

وقوله: ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعلحاضراً لا يغيب عنها أبداً، جعله من باب القلب وليس بجيد، بل التركيب القرآني يقتضي أنّ الأنفس جعلت حاضرة للشحلا تغيب عنه، لأنّ الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل، إدالأصل: حضرت الأنفس الشح. على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل فيذلك؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول. فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني، والشح هو المفعول الأول، وقام الثانيمقام الفاعل. والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه. وقرأ العدوي: الشح بكسر الشين وهي لغة. {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْفَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة،وأمر بالتقوى في حالهن، لأنّ الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لا سيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهةمن النشوز والإعراض. وقد وصى النبي بهنّ فإنهنّ عوان عند الأزواج وقال الماتريدي: وإنْتحسنوا في أن تعطوهنّ أكثر من حقهنّ، وتتقوا في أنْ لا تنقصوا من حقهن شيئاً. أو أن تحسنوا في إيفاءحقهنّ والتسوية بينهنّ، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض. أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به منطاعتهنّ، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى. وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق، لأنهقد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولا يظهران ذلك لكل أحد. وكانعمران بن حطان الخارجي من أدم الناس، وامرأته من أجملهنّ، فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله، فقال: مالك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت،وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين. {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } قال ابن عطية: رويأنها نزلت في النبي وميله بقلبه إلى عائشة رضي الله عنها انتهى. ونبه تعالى على انتفاءاستطاعة العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، وفي ذلك عذرللرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي، والتعهد، والنظر، والتأنيس، والمفاكهة. فإن التسوية في ذلك محال خارج عن حدالاستطاعة، وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الانسان على ذلك. وقيل: معنى أن تعدلوا في المحبةقاله: عمر، وابن عباس، والحسن. وقيل: في التسوية والقسم. وقيل: في الجماع. وعن النبي أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: هذه قسمتي فيما أملك، فلا تؤاخذاني فيما تملك ولا أملك يعني المحبة، لأنّعائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه وكان عمر يقول: اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أنأعدل فيه. {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } نهى تعالى عن الجور على المرغوب أي: إن وقع منكمالتفريط في شيء من المساواة فلا تجوروا كل الجور. والضمير في فتذروها عائد على المميل عنها المفهوم من قوله: فلاتميلوا كل الميل. وقرأ أُبيّ: فتذروها كالمسجونة. وقرأ عبد الله: فتذروها كأنها معلقة. وتقدم تفسير المعلقة في الكلام علىالمفردات. وقال ابن عباس: كالمحبوسة بغير حق. وقيل: معنى كالمعلقة كالبعيدة عن زوجها. قيل: أو عن حقها، ذكره الماوردي مأخوذمن تعليق الشيء لبعده عن قراره. وتذروها يحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً على تميلوا، ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أنفي جواب النهي. وكالمعلقة في موضع نصب على الحال، فتتعلق الكاف بمحذوف. وفي الحديث: من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل والمعنى: يميل مع إحداهما كل الميل، لا مطلق الميل. وقد فاضلعمر في عطاء بين أزواج رسول الله ، فأبت عائشة وقالت: إن رسول الله صلى الله عليهوسلم كان يعدل بيننا في القسيمة بماله ونفسه، فساوى عمر بينهن، وكان لمعاذ امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأفي بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد. {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }قال الزمخشري: وإن تصلحوا ما مضى من قبلكم وتتداركوه بالتوبة، وتتقوا فيما يستقبل، غفر الله لكم انتهى. وفي ذلك نزغةالاعتزال. وقال ابن عطية: وإن تصلحوا ما أفسدتم بسوء العشرة، وتلزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون، فإن الله كانغفوراً لما تملكونه متجاوزاً عنه. وقال الطبري: غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية انتهى. فعلىهذا هي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم واقعوا المحظور في مدّة النبي ، وختمت تلك بالإحسان، وهذه بالإصلاح.لأنّ الأولى في مندوب إليه إذ له أن لا يحسن وإن يشح ويصالح بما يرضيه، وهذه في لازم، إذ ليسله إلا أن يصلح، بل يلزمه العدل فيما يملك. {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } الضمير فييتفرقا عائد على الزوجين المذكورين في قوله:

{ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا }

والمعنى: وإن شح كل منهما ولميصطلحا وتفرّقا بطلاق، فالله يغني كلاً منها عن صاحبه بفضله ولطفه في المال والعشرة والسعة. ووجود المراد والسعة الغنى والمقدرةوهذا وعد بالغنى لكل واحد إذا تفرقا، وهو معروف بمشيئة الله تعالى. ونسبة الفعل إليهما يدل على أنّ لكل منهمامدخلاً في التفرق، وهو التفرق بالأبدان وتراخي المدة بزوال العصمة، ولا يدل على أنه تفرق بالقول، وهو طلاق لأنه مختصبالزوج، ولا نصيب للمرأة في التفرق القولي، فيسند إليها خلافاً لمن ذهب إلى أنّ التفرق هاهنا هو بالقول وهو الطلاق.وقرأ زيد بن أفلح: وإن يتفارقا بألف المفاعلة أي: وإن يفارق كل منهما صاحبه. وهذه الآية نظير قوله تعالى:

{ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ }

وقول العرب: إن لم يكن وفاق فطلاق. فنبه تعالى على أنّ لهما أن يتفارقا،كما أنّ لهما أن يصطلحا. ودل ذلك على الجواز قالوا: وفي قوله تعالى: يغن الله كلاً من سعته إشارة إلىالغنى بالمال. وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك فقال: إني رأيتالله تعالى علق الغنى بأمرين فقال:

{ وَأَنْكِحُواْ ٱلايَـٰمَىٰ }

الآية، وقال: وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته.{وَكَانَ ٱللَّهُ وٰسِعاً حَكِيماً } ناسب ذلك ذكر السعة، لأنه تقدّم من سعته. والواسع عام في الغنى والقدرة والعلم وسائرالكمالات. وناسب ذكر وصف الحكمة، وهو وضع الشيء موضع ما يناسب، لأن السعة ما لم تكن معها الحكمة كانت إلىفساد أقرب منها للصلاح قاله الراغب. وقال ابن عباس: يريد فيما حكم ووعظ. وقال الكلبي: فيما حكم على الزوج منإمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان. وقال الماتريدي: أو حيث ندب إلى الفرقة عند اختلافهما، وعدم التسوية بينهما. {وَللَّهِ مَافِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } لما ذكر تعالى سعة رزقه وحكمته، ذكر أنَّ له ملك ما في السمواتوما في الأرض، فلا يعتاض عليه غنى أحد، ولا التوسعة عليه، لأنّ من له ذلك هو الغني المطلق. {وَلَقَدْوَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } وصينا: أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم، ومن قبلكم: يحتملأن يتعلق بأوتوا وهو الأقرب، أو بوصينا. والمعنى: أن الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية فلستم مخصوصين بهذهالوصية. وإياكم عطف على الموصول، وتقدّم الموصول لأن وصيته هي السابقة على وصينا فهو تقدم بالزمان. ومثل هذا العطف أعني:عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب، ولا يختص بالشعر، وقد وهم في ذلكبعض أصحابنا وشيوخنا فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر، لأنك تقدر على أن تأتي به متصلاً فتقول: آتيك وزيداً.ولا يجوز عنده: رأيت زيداً وإياك إلا في الشعر، وهذا وهم فاحش، بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفاًفيجوز قام زيد وأنت، وخرج بكر وأنا، لا خلاف في جواز ذلك. فكذلك ضربت زيداً وإياك. والذين أوتوا الكتابهو عام في الكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الذين أوتوا الكتاب باليهود والنصارى كما ذهب إليه بعض المفسرين،لأن وصية الله بالتقوى لم تزل مذ أوجد العالم، فليست مخصوصة باليهود والنصارى. وإن اتقوا: يحتمل أن تكون مصدرية أي:بأن اتقوا الله، وأن تكون مفسرة التقدير أي: اتقوا الله لأن وصينا فيه معنى القول. {وَإِن تَكْفُرُواْ } ظاهرهالخطاب لمن وقع له الخطاب بقوله: وإياكم، وهم هذه الأمة، ويحتمل أن يكون شاملاً للذين أوتوا الكتاب وللمخاطبين، وغلب الخطابعلى ما تقرر في لسان العرب كما تقول: قلت لزيد ذلك لا تضرب عمراً، وكما تقول: زيد وأنت تخرجان.{فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } أي أنتم من جملة من يملكه تعالى وهو المتصرف فيكم،إذ هو خالفكم والمنعم عليكم بأصناف النعم وأنتم مملوكون له، فلا يناسب أن تكفروا من هو مالككم وتخالفون مره، بلحقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يتقى عقابه ويرجى ثوابه، ولله ما في سمائه وأرضه من يوحده ويعبده ولا يعصيه.{وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً } أي عن خلقه وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم، ولا يضره كفرهم. {حَمِيداً } أيمستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن كفرتموه أنتم. {وَللَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ * وَكَفَىٰ بِٱللَّهِوَكِيلاً } الوكيل القائم بالأمور المنفذ فيها ما يراه، فمن له ملك ما في السموات والأرض فهو كاف فيما يتصرففيه لا يعتمد على غيره. وأعاد قوله: ولله ما في السموات وما في الأرض ثلاث مرات بحسب السياق. فقال ابنعطية: الأول: تنبيه على موضع الرجاء يهدي المتفرقين. والثاني: تنبيه على استغنائه عن العباد. والثالث: مقدمة للوعيد. وقال الزمخشري:وتكرير قوله: {وَللَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه، فيطيعوه ولا يعصوه،لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله. وقال الراغب: الأول: للتسلية عما فات. والثاني: أنّ وصيته لرحمته لا لحاجة، وأنهم إنكفروه لا يضروه شيئاً. والثالث: دلالته على كونه غنياً. وقال أبو عبد الله الرّازي: الأول: تقرير كونه واسع الجود. والثاني:للتنزيه عن طاعة المطيعين. والثالث: لقدرته على الإفناء والإيجاد، والغرض منه تقرير كونه قادراً على مدلولات كثيرة فيحسن أن يذكرذلك الدليل على كل واحد من مدلولاته، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة، لأنه عنده إعادةذكر الدليل يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، وكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل، فظهر أنّ هذا التكرارفي غاية الكمال. وقال مكي: نبهنا أولاً على ملكه وسعته. وثانياً على حاجتنا إليه وغناه، وثالثاً على حفظه لنا وعلمهبتدبيرنا. {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِـاخَرِينَ } ظاهره أنّ الخطاب لمن تقدم له الخطاب أولاً. وقال ابنعباس: الخطاب للمشركين والمنافقين، والمعنى: ويأت بآخرين منكم. وقريب منه ما نقله الزمخشري: من أنه خطاب لمن كان يعادي رسولالله من العرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: الخطاب للكفار وهو تهديد لهم، كأنه قال: إن يشاءيهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا برسله. وقيل: للمؤمنين ينطلق عليه اسم الناس، والمعنى: إن شاء يهلككم كما أنشأكموأنشأ قوماً آخرين يعبدونه. وقال الطبري: الخطاب للذين شفعوا في طعمة بن أبيرق، وخاصم وخاصموا عنه في أمر خيانته فيالدّرع والدّقيق. وهذا التأويل بعيد، وقد يظهر العموم فيكون خطاباً للعالم الحاضر الذي يتوجه إليه الخطاب والنداء. ويأت بآخرين أي:بناس غيركم، فالمأتى به من نوع المذهب، فيكون من جنس المخاطب المنادي وهم الناس. وروي أنها لما نزلت ضربرسول الله بيده على ظهر سلمان وقال: {أَنَّهُمْ * قَوْمٌ * هَـٰذَا * يُرِيدُ * ٱبْنُ}، وأجاز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن يكون المراد بآخرين من نوع المخاطبين. قال الزمخشري: ويأت بآخرين مكانكم أو خلقاًآخرين غير الإنس. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم. كما أنهقد روي أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم انتهى. وما جوّزه لا يجوز، لأنّ مدلول آخرفي اللغة هو مدلول غير خاص بجنس ما تقدم، فلو قلت: جاء زيد وآخر معه، أو مررت بامرأة وأخرى معها،أو اشتريت فرساً وآخر، وسابقت بين حمار وآخر، لم يكن آخر ولا أخرى مؤنثه، ولا تثنيته ولا جمعه إلا منجنس ما يكون قبله. ولو قلت: اشتريت ثوباً وآخر، ويعني به: غير ثوب لم يجز، فعلى هذا تجويزهم أن يكونقوله: بآخرين من غير جنس ما تقدم وهم الناس ليس بصحيح، وهذا هو الفرق بين غير وبين آخر، لأنّ غيراًتقع على المغاير في جنس أو في صفة، فتقول: اشتريت ثوباً وغيره، فيحتمل أن يكون ثوباً، ويحتمل أن يكون غيرثوب وقلّ من يعرف هذا الفرق. {بِـاخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } أي على إذهابكم والإتيان بآخرين. وأتىبصيغة المبالغة في القدرة، لأنه تعالى لا يمتنع عليه شيء أراده، وهذا غضب عليهم وتخويف، وبيان لاقتداره. {مَّن كَانَيُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةِ } قال ابن عطية، أي من كان لا رغبة له إلا فيثواب الدنيا ولا يعتقد أنّ ثمّ سواه فليس كما ظن، بل عند الله ثواب الدّارين. فمن قصد الآخرة أعطاه منثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له، وكان له في الآخرة العذاب. وقالالماتريدي: يحتمل أن يكون المعنى من عبد الأصنام طلباً للعز لا يحصل له ذلك، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة،أو للتقريب والشفاعة أي: ليس له ذلك، ولكن اعبدوا الله فعنده ثواب الدنيا والآخرة، لا عند من تطلبون. ويحتمل أنتكون في أهل النفاق الذين يراؤون بأعمالهم الصالحة في الدنيا لثواب الدنيا لا غير. ومن يحتمل أن تكون موصولةوالظاهر أنها شرط وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب: ولا بد في الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط غير الظرف من ضميرعائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط، والتقدير: ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، هكذا قدّره الزمخشري وغيره. والذييظهر أنّ جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه، وليطلب الثوابين، فعندالله ثواب الدنيا والآخرة. وقال الراغب: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كونالمسؤول مالكاً للثوابين، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه، فمن طلب خسيساً مع أنهيمكنه أن يطلب نفيساً فهو دنيء الهمة. قيل: والآية وعيد للمنافقين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة. وقيل: هي حض علىالجهاد. {وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } أي سميعاً لأقوالهم، بصيراً بأعمالهم ونياتهم. {بَصِيراً يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَبِٱلْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوٰلِدَيْنِ وَٱلاْقْرَبِينَ } قال الطبري: هي سبب نازلة بن أبيرق وقيام من قامفي أمره بغير القسط. وقال السدّي: نزلت في اختصام غني وفقير عند النبي . ومناسبتها لماقبلها أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة، أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى، وفي الشهادة حقوق الله. أو لأنهلما ذكر تعالى طالب الدنيا وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة، بيّن أنّ كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله اللهتعالى، أو لأنه لما ذكر في هذه السورة

{ وَإِنْ خِفْتُمْ * أَن لا *تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ }

والإشهاد عنددفع أموال اليتامى إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله، وذكر قصة ابن أبيرق واجتماع قومه على الكذب والشهادةبالباطل، وندب للمصالحة، أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى، وأتى بصيغة المبالغة فيقوّامين حتى لا يكون منهم جور مّا، والقسط العدل. ومعنى شهداء الله أي: لوجه الله، لا يراعي في الشهادة إلاجهة الله تعالى. والظاهر أن معنى قوله: شهداء لله من الشهادة في الحقوق، ولذلك أتبعه بما بعده من قوله: ولوعلى أنفسكم، وهكذا فسره المفسرون. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: شهداء لله معناه بالوحدانية، ويتعلق قوله: ولو علىأنفسكم، بقوله: قوّامين بالقسط، والتأويل الأول أبين انتهى كلامه. ويضعفه أنه خطاب للمؤمنين وهم شهداء لله بالوحدانية، إلا إن أريداستمرار الشهادة. وتقدّمت صفة قوّامين بالقسط على شهداء الله. لأنّ القيام بالقسط أعم، والشهادة أخص. ولأنّ القيام بالقسط فعلوقول، والشهادة قول فقط. ومعنى: ولو على أنفسكم، أي تشهدون على أنفسكم أي تقرّون بالحق وتقيمون القسط عليها. والظاهر أنهأراد بقوله: ولو على أنفسكم أنفس الشهداء لله تعالى. وأبعد من جوّز أن يكون المعنى في أنفسكم: الأهل واوقارب، وأنيكون «أو الوالدين» تفسيراً لأنفسكم، ويضعفه العطف بأو. وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر. ومن ذهب إلى جعله حالاًمن الضمير في قوّامين كأبي البقاء، فقوله ضعيف. لأن فيها تقييداً لقيام بالقسط، سواء كان مثل هذا أم لا. وقدروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف، قال ابن عباس: معناه كونوا قوّامين بالعدل فيالشهادة على من كان ومجيء لو هنا لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسهبصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها، نبّه على هذه الحال، وجاء هذا الترتيب فيالاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة. فبدأ بقوله: ولو على أنفسكم، لأنه لا شيء أعز على الإنسان من نفسه، ثمذكر الوالدين وهما أقرب إلى الإنسان وسبب نشأته، وقد أمر ببرهما وتعظيمهما، والحوطة لهما، ثم ذكر الأقربين وهم مظنة المحبةوالتعصب. وإذا كان هؤلاء أمر في حقهم بالقسط والشهادة عليهم، فالأجنبي أحرى بذلك. والآية تعرضت للشهادة عليهم لا لهم، فلادلالة فيها على الشهادة لهم، كما ذهب إليه بعض المفسرين. ولو شرطية بمعنى: أنّ وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف، لأنالتقدير: وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقرير الكلام. وحذف كان بعد لو كثير تقول: ائتني بتمرولوحشفاً، أي: وإن كان التمر حشفاً فائتني به. وقال ابن عطية: ولو على أنفسكم متعلق بشهداء. فإن عنى شهداء هذاالملفوظ به فلا يصح ذلك، وإن عنى الذي قدّرناه نحن فيصح. وقال الزمخشري: ولو على أنفسكم، ولو كانت الشهادة علىأنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. (فإن قلت): الشهادة على لوالدين والأقربين أن يقول: أشهدُ أنّ لفلان على والذي كذا وعلىأقاربي، فما معنى الشهادة على نفسه؟ (قلت): هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها، ويجوزأن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم، أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من توقع ضررهمن سلطان ظالم أو غيره انتهى كلامه. وتقديره: ولو كانت الشهادة على أنفسكم، ليس بجيد، لأن المحذوف إنما يكون منجنس الملفوظ به قبل ليدل عليه. فإذا قلت: كن محسناً لمن أساء إليك، فتحذف كان واسمها والخبر، ويبقى متعلقه لدلالةما قبله عليه ولا تقدره: ولو كان إحسانك لمن أساء. فلو قلت: ليكن منك إحسان ولو لمن أساء، فتقدر: ولوكان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه، ولو قدرته. ولو كنت محسناً لمن أساء إليك لم يكن جيداً، لأنكتحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق. وقول الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم هذالا يجوز، لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد، ولا يجوز حذف الكون المقيد، لو قلت: كان زيد فيك وأنتتريد محباً فيك لم يجز، لأنّ محباً مقيداً، وإنما ذلك جائز في الكون المطلق، وهو: تقدير كائن أو مستقر.{إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } أي إن يكن المشهود عليه غنياً فلا تمتنع من الشهادة عليهلغناه، أو فقيراً فلا تمنعها ترحماً عليه وإشفاقاً. فعلى هذا الجواب محذوف، لأن العطف هو بأو، ولا يثني الضمير إذاعطف بها، بل يفرد. وتقدير الجواب: فليشهد عليه ولا يراعي الغنيّ لغناه، ولا لخوف منه، ولا الفقير لمسكنته وفقره، ويكونقوله: فالله أولى بهما ليس هو الجواب، بل لما جرى ذكر الغني والفقير. عاد الضمير على ما دل عليه ماقبله كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي: بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أبيّ: فالله أولى بهم ما يشهد بإرادةالجنس. وذهب الأخفش وقوم، إلى أنّ أو في معنى الواو، فعلى قولهم يكون الجواب: فالله أولى بهما، أي: حيث شرعالشهادة عليهما، وهو أنظر لهما منكم. ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور:وقد ذكر العطف بالواو وثم وحتى ما نصه تقول: زيد أو عمر، وقام زيد لا عمرو قام، وكذلك سائر مابقي من حروف العطف يعني غير الواو وحتى والفاء وثم، والذي بقي بل ولكن وأم. قال: لا تقول قاما لأنّالقائم إنما هو أحدهما لا غير، ولا يجوز قاما إلا في أو خاصة، وذلك شذوذ لا يقاس عليه. قال اللهتعالى: إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فأعاد الضمير على الغني والفقير لتفرقهما في الذكر انتهى. وهذا ليسبسديد. ولا شذوذ في الآية، ولا دليل فيها على جواز زيد أو عمرو قاما على جهة الشذوذ، ولا غيره. ولأنقوله: فالله أولى بهما ليس بجواب كما قررناه، والضمير ليس عائداً على الغني والفقير الملفوظ بهما في الآية، وإنما يعودعلى ما دل عليه المعنى من جنسي الغني والفقير. وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير على أنّ كانتامة. {فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ } لما أمر تعالى بالقيام بالعدل وبالشهادة لمرضاة الله نهى عن اتباع الهوى،وهو ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الله تعالى وإن تعدلوا من العدول عن الحق، أو من العدل وهوالقسط. فعلى الأول يكون التقدير: إرادة أن تجوروا، أو محبة أن تجوروا. وعلى الثاني يكون التقدير: كراهة أن تعدلوا بينالناس وتقسطوا. وعكس ابن عطية هذا التقدير فقال: يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط كأنهقال: انتهوا خوف أن تجوروا، أو محبة أن تقسطوا. فإن جعلت العامل تتبعوا فيحتمل أن يكون المعنى: محبة أن تجورواانتهى كلامه. وهذا الذي قرره من التقديره يكون العامل في أنّ تعدلوا فعلاً محذوفاً من معنى النهي، وكان الكلام قدتم عند قوله: فلا تتبعوا الهوى، ثم أضمر فعلاً وقدره: انتهوا خوف أن تجورا، أو محبة أن تقسطوا، ولذلك قال:فإن جعلت العامل تتبعوا. والذي يدل عليه الظاهر أنّ العامل هو تتبعوا، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى، فيكون فعلهاعاملاً في أن تعدلوا. وإذا كان العامل تتبعوا فيكون التقدير الأول هو المتجه، وعلى هذه التقادير فإنَّ تعدلوا مفعول منأجله. وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير: أن لا تعدلوا، فحذف لا، أي: لا تتبعوا الهوى في ترك العدل.وقيل: المعنى لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي: لتكونوا في اتباعكموه عدولاً، تنبيهاً أنّ اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان.وقال أبو عبد الله الرازي: المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، والعدل عبارة عن ترك متابعة الهوى،ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فالتقدير: لأجل أن تعدلوا. {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } الظاهر أنّالخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط، والشهادة لله، والمنهيين عن اتباع الهوى. وقال ابن عباس: هو في ليِّ الحاكم عنقه عن أحدالخصمين. وقال مجاهد نحوه قال: ليّ الحاكم شدقه لأحد الخصمين ميلاً إليه. وقال ابن عباس أيضاً، والضحاك، والسدي، وابن زيد،ومجاهد: هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه فيحرفها ولا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها، ويقول معناه:يدافعوا الشهادة من ليّ الغريم. وقال لزمخشري: وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق، أو حكومة العدل، أو تعرضوا عن الشهادةبما عندكم وتمنعوها. وقرأ جماعة في الشاذ، وابن عامر، وحمزة: وإن تلوا بضم اللام بواو واحدة، ولحن بعض النحويينقارىء هذه القراءة. قال: لا معنى للواية هنا، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع، ولها معنى صحيح وتخريجحسن. فنقول: اختلف في قوله: وإن تلووا. فقيل: هي من الولاية أي: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عنإقامتها، والولاية على الشيء هو الإقبال عليه. وقيل: هو من اللي واصله: تلووا، وأبدلت الواو المضمومة همزة، ثم نقلت حركتهاإلى اللام وحذفت. قال الفراء، والزجاج، وأبو علي، والنحاس، ونقل عن النحاس أيضاً أنه استثقلت الحركة على الواو فألقيت علىاللام، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين. {فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } هذا فيه وعيد لمن لوى عنالشهادة أو أعرض عنها. {خَبِيراً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى أَنَزلَمِن قَبْلُ } مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط، والشهادة لله، بين أنه لا يتصف بذلكإلا مَن كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية فأمر بها. والظاهر أنه خطاب للمؤمنين. ومعنى: آمنوادوموا على الإيمان قاله: الحسن، وهو أرجح. لأن لفظ المؤمن متى أطلق لا يتناول إلا المسلم. وقيل: للمنافقين أي: ياأيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمِنوا بقلوبكم. وقيل: لمن آمن بموسى وعيسى عليهما السلام أي: يا من آمن بنبي منالأنبياء آمن بمحمد . وقيل: هم جميع الخلق أي: يا أيها الذين آمنوا يوم أخذ الميثاق حينقال:

{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }

وقيل: اليهود خاصة. وقيل: المشركون آمنوا باللات والعزى والأصنام والأوثان. وقيل: آمنوا علىسبيل التقليد، آمنوا على سبيل الاستدلال. وقيل: آمنوا في الماضي والحاضر، آمنوا في المستقبل. ونظيره:

{ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلائَ * ٱللَّهِ }

مع أنه كان عالماً بذلك. وروي أن عبد الله بن سلام، وسلاماً ابن أخته، وسلمة بنأخيه، وأسد وأسيداً ابني كعب، وثعلبة بن قيس ويامين، أتوا الرسول وقالوا: نؤمن بك وبكتابك، وموسىوالتوراة، وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال عليه السلام: بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا: لا نفعل، فنزلت فآمنوا كلهم. والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن بلا خلاف، والكتاب الذيأنزل من قبلُ المراد به جنس الكتب الإلهية، ويدل عليه قوله: آخراً. وكتبه وإنْ كان الخطاب لليهود والنصارى فكيف قيللهم والكتاب الذي أنزل من قبل وهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل. وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوامؤمنين بكلّ ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بجميع الكتب. أو لأنّ إيمانهم ببعض لا يصح، لأن طريق الإيمانبالجميع واحد وهو المعجزة. وقرأ العربيان وابن كثير: نزل وأنزل بالبناء للمفعول، والباقون بالبناء للفاعل. قال الزمخشري: (فإن قلت): لمقال نزل على رسوله وأنزل من قبل؟ (قلت): لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله انتهى.وهذه التفرقة بين نزل وأنزل لا تصح، لأن التضعيف في نزل ليس للتكثير والتفريق، وإنما هو للتعدية، وهو مرادف للهمزة.وقد أشبعنا الرد على الزمخشري في دعواه ذلك أول سورة آل عمران. {وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِٱلاْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً بَعِيداً } جواب الشرط ليس مترتباً على الكفر بالمجموع، بل المعنى: ومن يكفر بشيء من ذلك.وقرىء: وكتابه على الأفراد، والمراد جنس الكتب. ولما كان خير الإيمان علق بثلاثة: بالله، والرسول، والكتب، لأن الإيمان بالكتب تضمنالإيمان بالملائكة واليوم الآخر، وبولغ في ذلك لأن الملك مغيب عنا، وكذلك اليوم الآخر لم يقع وهو منتظر، فنص عليهماعلى سبيل التوكيد، ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه. فمن أنكر الملائكة أو القيامة فهو كافر، وقدّم الكتبعلى الرسل على الترتيب الوجودي، لأن الملك ينزل بالكتب والرسل تتلقى الكتب من الملك. وقدّم في الأمر بالإيمان الموصول علىالكتاب، لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن ثم يتلقى الكتاب منه. فحيث نفى الإيمان كان على الترتيب الوجودي، وحيث أثبتكان على الترتيب اللقائي، وهو راجع للوجود في حق المؤمن. {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ } لمّا أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها، وذكر أنّ منكفر بها أو بشيء منها فهو ضال، أعقب ذلك بفساد، وطريقة من كفر بعد الإيمان، وأنه لا يغفر له علىما بين. والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين، فحيث لقوا المؤمنين «قالوا آمنا» وإذا لقوا أصحابهم

{ قالوا إنا مستهزئون }

ولذلك جاء بعده بشر المنافقين، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه. ومعنى ازداد كفراًبأن تم على نفاقه حتى مات. وقيل: ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين، وإلىهذا ذهب: مجاهد وابن زيد. وقال الحسن: هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت:

{ آمنوا وجه النهار واكفروا آخره }

قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء والسخرية بالإسلام. قال قتادة وأبوالعالية وطائفة، ورجحه الطبري: هي في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا،ثم ازدادوا كفراً بمحمد ، وضعف هذا القول ابن عطية قال: يدفعه ألفاظ الآية، لأنها في طائفةيتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد. وقال بعضهم: هي في اليهود آمنوا بالتوراةوموسى ثم كفرا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد .وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلىالثلاث، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار. وقال القفال: ليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم كما قال:

{ مذبذبين بين ذلك }

ولذلك جاء بعده

{ بشر المنافقين }

فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه.ومعنى ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات. وقيل: ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد فيحرب المسلمين، وإلى هذا ذهب: مجاهد وابن زيد. وقال الحسن: هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت: «آمنوا وجهالنهار واكفروا آخره» قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء والسخرية بالإسلام. قال قتادةوأبو العالية وطائفة، ورجحه الطبري: هي في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثمكفروا، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ، وضعف هذا القول ابن عطية قال: يدفعه ألفاظ الآية، لأنها فيطائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد. وقال بعضهم: هي في اليهود آمنوابالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير، ثم آمنوا بداود، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد صلى الله عليهوسلم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبتهإلى الثلاث، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار. وقال القفال: ليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم كما قال:{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ } ويدل عليه قوله: {بَشّرِ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ }. وقال الزمخشري: المعنى أنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهمازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله،لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر، ومرئت على الردة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيثيدلونهم فيه كرة بعد أخرى، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم تقبل منهم ولميغفر لهم، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل الطاقة واستفراغ الوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وأنه أمر لا يكاد يكون.وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على شر حال وأقبح صورةانتهى كلامه. وفي بعضه ألفاظ من ألفاظ الاعتزال. {لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } الجمهور على تقدير محذوف أي:ثم ازدادوا كفراً وماتوا على الكفر، لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مراراً ثم تاب عن الكفروآمن ووافى تائباً، أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق وإن تردد فيه مراراً. وقيل: يحمل على قوم معينينعلم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه، فيكون قوله: لم يكن الله ليغفر لهم إخباراً عن موتهمعلى الكفر. وقيل: الكلام خرج على الغالب المعتاد، وهو أنّ مَن كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكنللإيمان في قلبه وقع ولا عظم قدر. والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر. وفي قوله: لميكن الله ليغفر لهم، دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا وهمأحياء، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود، ففرق بين لم يكن زيد يقوم وبين لم يكن زيد ليقوم. فالأول ليس فيهإلا انتفاء القيام، والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام، وقد تقدّم لنا الكلامعلى ذلك مشبعاً في سورة آل عمران. وقال الزمخشري: نفي للغفران والهداية، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام،والمراد: بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى. وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين، وهو أنهم يقولون: إذاقلت لم يكن زيد ليقوم، أنْ خبر لم يكن هو قولك ليقوم، واللام للتأكيد زيدت في النفي، والمنفي هو القيام،وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة. والبصريون يقولون: النصب بإضمار أنْ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر، وذلكالمصدر لا يصح أنْ يكون خبراً، لأنه معنى والمخبر عنه جثة. ولكن الخبر محذوف، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلىالمصدر لأنه جثة. وأضمرت أنْ بعدها وصارت اللام كالعوص من أن المحذوفة، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام، ولا الجمعبينها وبين أن ظاهرة. ومعنى قوله: والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم.{بَشّرِ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } الخطاب للرسول . ومعنى: بشر أخبر، وجاء بلفظ بشرعلى سبيل التهكم بهم نحو قوله:

{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

أي القائم لهم مقام البشارة، هو الإخبار بالعذاب كماقال: {تَحِيَّةً * بَيْنَهُمْ * ضُرِبَ }. وقال ابن عطية: جاءت البشارة هنا مصرحاً بفيدها، فلذلك حسن استعمالها في المكروه.ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب. وفي هذه الآية دليل على أنّ التي قبلها إنما هي في المنافقين. وقالالماتريدي: بشر المنافقين يدل على أنّ قوله:

{ خَبِيراً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ }

في أهل النفاق والمراءاة، لأنه لميسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية. ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين. {ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاءمِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: اليهود والنصارى ومشركي العرب أولياء أنصاراً ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين، ونص من صفات المنافقينعلى أشدها ضرراً على المؤمنين وهي: موالاتهم الكفار، واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع فينوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة. والذين: نعت للمنافقين، أو نصب على الذم، أو رفع على خبرالمبتدأ. أي: هم الذين. {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ } أي: الغلبة والشدّة والمنعة بموالاتهم، وقول بعضهم لبعض: لا يتم أمرمحمد. وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم فكيف تبتغي منهم؟ وعلى خبث مقصدهم. وهو طلب العزة بالكفاروالاستكثار بهم. {فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم. قال تعالى:

{ كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ }

وقال:

{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }

وقال تعالى:

{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً }

والفاء في فإن العزة لله دخلت لمافي الكلام من معنى الشرط، والمعنى: أنْ تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة، وانتصب جميعاً على الحال. {وَقَدْ نَزَّلَعَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ } الخطاب لمنأظهر الإيمان من مخلص ومنافق. وقيل: للمنافقين الذين تقدّم ذكرهم، ويكون التفاتاً. وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود وهم يخوضون فيالقرآن يسمعون منهم، فنهوا عن ذلك، وذكروا بما نزل عليهم بمكة من قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـٰتِنَا فَأَعْرِضْعَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ }. وقرأ الجمهور: وقد نزل مشدداً مبنياً للمفعول. وقرأ عاصم: نزل مشدداً مبنياًللفاعل. وقرأ أبو حيوة وحميد: نزل مخففاً مبنياً للفاعل. وقرأ النخعي: أنزل بالهمزة مبنياً للمفعول، ومحل أن رفع أو نصبعلى حسب العامل، فنصب على قراءة عاصم، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد، وعلى المفعول الذي لم يسمفاعله على قراءة الباقين. وإنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وتقديره: ذلك أنه إذا سمعتم. وما قدرهأبو البقاء من قوله: أنكم إذا سمعتم، ليس بجيد، لأنها إذا خففت إنْ لم تعمل في ضمير إلا إذا كانضمير أمر، وشأن محذوف، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله

: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني     طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وخبر إنْ هي الجملة من إذا وجوابها. ومثال وقوع جملةالشرط خبراً لأنْ المخففة من الثقيلة قول الشاعر

: فعلمت أن من تتقوه فإنه     جزر لخامعة وفرخ عقاب

ويكفر بها في موضع نصب على الحال، والضمير في معهم عائد على المحذوف الذيدل عليه قوله: يكفر بها ويستهزأ أي: فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين، وحتى غاية لترك القعود معهم. ومفهوم الغاية أنهمإذا خاضوا في غير الكفر والاستهزاء ارتفع النهي، فجاز لهم أن يقعدوا معهم. والضمير عائد على ما دل عليه المعنىأي: في حديث غير حديثهم الذي هو كفر واستهزاء. ويحتمل أن يفرد الضمير، وإنْ كان عائداً على الكفر وعلى الاستهزاءالمفهومين من قوله: يكفر بها ويستهزأ بها، لأنهما راجعان إلى معنى واحد، ولأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في كونهلمفرد، وإنْ كان المراد به اثنين. {إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم وهم يكفرون بآياتالله ويستهزئون بها، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر، لأنهم يكونون راضين بالكفر، والرضا بالكفر كفر. والخطاب في أنكمعلى الخلاف السابق أهو للمنافقين؟ أم للمؤمنين؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهممثل المشركين، لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة، فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى، فهم قادرون على الإنكار،والسامع للذم شريك للقائل، وما أحسن ما قال الشاعر

: وسمعك صن عن سماع القبيح     كصون اللسان عن النطق به

قال ابن عطية: وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزامشبه بحكم الظاهر من المقارنة كقول الشاعر

: عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه     فكل قرين بالمقارن يقتدى

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عنأحد الحاضرين: إنه صائم فحمل عليه الأدب، وقرأ: إنكم إذاً مثلهم. ومَن ذهب إلى أنّ معنى قوله: إنكم إذاً مثلهم،إنْ خضتم كخوضهم ووافقتموهم على ذلك فأنتم كفار مثلهم، قوله تنبو عنه دلالة الكلام. وإنما المعنى ما قدّمناه من أنكمإذا قعدتم معهم مثلهم. وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر، وأفرد مثل، لأن المعنى أنّ عصيانكم مثل عصيانهم، فالمعنىعلى المصدر كقوله:

{ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا }

وقد جمع في قوله:

{ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم }

وفي قوله:

{ حُورٌ * عِينٌ * كَأَمْثَـٰلِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ }

والإفراد والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان. وقرىء شاذاً مثلهم بفتحاللام، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله: لحق مثل ما أنكم تنطقون على قراءة من فتح اللام،والكوفيون يجيزون في مثل أن ينتصب محلاً وهو الظرف، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي: في مثل حالك. فعلى قولهميكون انتصاب مثلهم على المحل، وهو الظرف. {إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْكَـٰفِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً } لما اتخذوهم فيالدنيا أولياء جمع بينهم في الآخرة في النار، والمرء مع من أحب، وهذا توعد منه تعالى تأكد به التحذير منمجالستهم ومخالطتهم. {ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ ٱللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـٰفِرِينَ نَصِيبٌقَالُواْ أَلَمْ } المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم، فإن كان لكم فتحمن الله قالوا: ألم نكن معكم مظاهرين. والمعنى: فاسهموا لنا بحكم إنّنا مؤمنون، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب، أي:نيل من المؤمنين قالوا: ألم نستحوذ عليكم، أي: ألم نغلبكم وننتمكن من قتلكم وأسركم، وأبقينا عليكم، ونمنعكم من المؤمنين بأنثبطناهم عنكم، فاسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم، ولا نترك أحداً يؤذيكم. قيل: المعنى أنّ الكفار واليهود هموا بالدخولفي الإسلام فحذرهم المنافقون عن ذلك، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قدأرشدوهم لهذه المصالح، فيكون التقدير: ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم فاسهموا لنا. وقيل: المعنى ألم نخبركم بأمرِ محمدوأصحابه ونطلعكم على سرهم؟ وعن ابن عباس: ألم نحط من ورائكم؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون، أو صفة للمنافقين،أو نصب على الذم، أو رفع على خبر الابتداء محذوف. وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحاً عظيماً لهم، وجعل منه تعالىفقال: فتح من الله، وظفر الكافرين نصيباً، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيراً لهم وتخسيساً لما نالوه من المؤمنين، لأن ظفرالمؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم

: فتح تفتح أبواب السماء له     وتبرز الأرض في أثوابها القشب

وأما ظفر الكافرين فهوحظ دنيوي يصيبونه. وقرأ ابن أبي عبلة: ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع، والمعنى: ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم،ومنعكم من المؤمنين؟ ونظيره قول الحطيئة

: ألم أك جاركم ويكون بيني     وبينكم المودة والإخاء

وقال ابن عطية: ونمنعكم بفتح العين على الصرف انتهى. يعني الصرف عن التشريك لما بعدهافي إعراب الفعل الذي قبلها، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين. وقرأ أُبي: ومنعناكم من المؤمنين، وهذا معطوف علىمعنى التقدير: لأن المعنى إما استخوذنا عليكم ومنعناكم كقوله:

{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا }

إذ المعنى: أماشرحنا لك صدرك ووضعنا. {فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي وبينهم وينصفكم من جميعهم. ويحتمل أن لا عطف،ومعنى بينكم أي: بين الجمع منكم ومنهم، وغلب الخطاب. وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به. {وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُلِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } يعني يوم القيامة قاله: عليّ وابن عباس. وروي عن سبيع الحضرمي قال: كنت عند عليّفقال له رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } كيف ذلكوهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً؟ فقال عليّ: معنى ذلك يوم القيامة، يوم الحكم. قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهلالتأويل. قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وإنْ أوهم صدر الكلام معناه لقوله: فالله يحكم بينكم يومالقيامة. وقيل: أنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبانقال: {فَإِنّي * دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ أَمْ ءاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰباً فَهُمْ عَلَىٰبَيّنَةٍ مّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّـٰلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً }. وقيل: المعنى أنْ لا يتواصوا بالباطل، ولا يتناهوا عن المنكر،ويتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى:

{ وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }

قال ابن العربي: وهذا بين جداً، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان: حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً. وذلك أنّغاية، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضاً، وسبي بعضهم لبعض.وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين، فغلظت شوكة الكفار، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبقمن الإسلام إلا أقله. وقيل: سبيلاً من جهة الشرع، فإن وجد فبخلاف الشرع. وقيل: سبيلاً حجة شرعية ولا عقليةيستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت. وقيل: سبيلاً أي ظهوراً قاله: الكلبي. ويحمل على الظهور الدائم الكلي، فيؤول معناه إلى أنهملا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل. وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنوناًالتجنيس المغاير في: أن يصالحا بينهما صلحاً، وفي: فلا تميلوا كل الميل، وفي: فقد ضل ضلالاً، وفي: كفروا وكفروا. والتجنيسالمماثل في: ويستفتونك ويفتيكم، وفي: صلحاً والصلح، وفي: جامع وجميعاً. والتكرار في: لفظ النساء، وفي لفظ يتامى، واليتامى، ورسوله، ولفظالكتاب، وفي آمنوا ثم كفروا، وفي المنافقين. والتشبيه في: كالمعلقة. واللفظ المحتمل للضدين في: ترغبون أن تنكحوهن. والاستعارة في: نشوزاً،وفي: وأحضرت الأنفس الشح، وفي: فلا تميلوا، وفي: قوامين، وفي: وإن تلووا أو تعرضوا، وفي: ازدادوا كفراً ولا ليهديهم سبيلاً،وفي: يتربصون، وفي: فتح من الله، وفي: ألم نستحوذ، وفي: سبيلاً. وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني. والطباق في: غنياً أوفقيراً، وفي: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين. والاختصاص في: بما تعملون خبيراً خص العمل.والالتفات في: وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين. والحذف في مواضع.

{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } * { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } * { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً } * { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } * { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } * { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً } * { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } * { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } * { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } * { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } * { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }[عدل]

الكسل: التثاقل، والتثبط، والفتور عن الشيء. ويقال: أكسل الرجل إذا جامع فأدركه الفتورولم ينزل. الذبذبة: الاضطراب بحيث لا يبقى على حال، قاله: ابن عرفة والتردد بين الأمرين. وقال النابغة

: ألم تر أن الله أعطاك سورة     ترى كل ملك دونها يتذبذب

وقال آخر

: خيال لأم السلسبيل ودونها     مسيرة شهر للبريد المذبذب

بكسرالثانية. قال ابن جني: أي القلق الذي لا يثبت. قيل: وأصله الذب، وهو ثلاثي الأصل ضعف فقيل: ذبب، ثم أبدلمن أحد المضعفين وهي الباء الثانية ذالاً فقيل ذبذب، وهذا على أصل الكوفيين. وأما البصريون فهو عندهم رباعي كدحرج.{إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } تقدم تفسير يخادعون الله في أوّل البقرة. ومعنى وهو خادعهم: أي منزل الخداعبهم، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب. فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم، وفي الآخرة عذاب جهنم قاله ابن عطية.وقال الحسن، والسدي، وابن جريج، وغيرهم من المفسرين: هذا الخداع هو أنه تعالى يعطي هذه الأمّة يوم القيامة نوراً لكلإنسان مؤمن أو منافق، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق، ونهض المؤمنون.وذلك قول المنافقين: انظرونا نقتبس من نوركم وذلك هو الخداع الذي يجري على المنافقين. وقال الزمخشري: وهو خادعهم، وهوفاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم معصومين الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النارفي الآخرة، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع من خدعته إذا غلبته، وكنت أخدعمنه انتهى. وبعضه مسترق من كلام الزجاج. قال الزجاج: لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعاً لهم بذلك. وقرأ مسلمةبن عبد الله النحوي: خادعْهم بإسكان العين على التخفيف، واستثقال الخروج من كسر إلى ضم. وهذه الجملة معطوفة على خبرإن. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال. {إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي متوانين لا نشاطلهم فيها، لأنهم إنما يصلون تستراً وتكلفاً، وينبغي للمؤمن أن يتحرز من هذه الخصلة التي ذمّ المنافقون، وأن يقبل إلىصلاته بنشاط وفرغ قلب وتمهل في فعلها، ولا يتقاعس عنها فعل المنافق الذي يصلي على كرهٍ لاعن طيب نفس ورغبة.وما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا، وقد أشار بعض علمائنا إليهمفي شعر قاله وضمن فيه بعض الآية، فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد وأمثاله من متفلسفة الإسلام

: لأشياع الفلاسفة اعتقاد     يرون به عن الشرح انحلالا أباحوا كل محظور حرام
وردّوه لأنفسهم حلالا وما انتسبوا إلى الإسلام إلا     لصون دمائهم أن لا تسالا فيأتون المناكر في نشاط

وقرأ الجمهور: كسالى بضمالكاف، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ الأعرج: كسالى بفتح الكاف وهي لغة تميم وأسد. وقرأ ابن المسيمقع: كسلى على وزنفعلى، وصف بما يوصف به المؤنث المفرد على مراعاة الجماعة كقراءة.

{ وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ }

{بِرَبّ ٱلنَّاسِ } أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة وأنهم مسلمون. وهي من باب المفاعلة، يرى المرائي الناس تجمله بأفعالالطاعة، وهم يرونه استحسان ذلك العمل. وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل، نحو نعمة وناعمة. وروى أبو زيد: رأتالمرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها. وقرىء: يرؤن بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو. وقال ابن عطية: وهي أقوى فيالمعنى من يراؤون، لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق. ونسب الزمخشري هذه القراءةلابن أبي إسحاق إلا أنه قالقرأ: يرؤنهم همزة مشددة مثل: يرعونهم أي يبصرونهم أعمالهم، ويراؤونهم كذلك. {وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ* لا * قَلِيلاً } قال الحسن: قل لأنه كان يعمل لغير الله. وقال قتادة: ما معناه إنما قل لكونهلم يقبله، وما رده الله فكثيره قليل، وما قبله فقليله كثير. وقال غيره: قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهمالزور والكفر. وقال الزمخشري: إلا قليلاً، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرونبه قليل، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه، أولاً يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلاذكراً قليلاً. ويجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى. ولا يجوز أنْ يراد به العدم، لأن الاستثناء يأباه، وقد رددنا هذاالقول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة. وقيل: قل لأنهم قصدوا به الدنيا وزهرتها، وذلك {فَانٍ * مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَاقَلِيلٌ }، وقيل في الكلام حذف تقديره: ولا يذكرون عقاب الله وثوابه إلا قليلاً لاستغراقهم في الدنيا، وغلبة الغفلة علىقلوبهم. والظاهر أنّ الذكر هنا هو باللسان، وأنهم قلَّ أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص، فإنه يغلب على أحواله ذكرالله تعالى. {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ } أي مقلقين. قال الزمخشري: ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر يتردّدون بينهما متحيرين،كأنه يذب عن كلا الجانبين أي يذاد فلا يقر في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمي به الرحوان، إلا أنالذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كان المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى. ونسب الذبذبة إلى الشيطان، وأهلالسنة يقولون: إنّ هذه الحياة والذبذبة إنما حصلت بإيجاد الله. وفي الحديث: مثل المنافق مثل الشاة العابر بين الغنيمن والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان كما قال تعالى:

{ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }

أي بين البكر والفارض.وقال ابن عطية: وأشار إليه وإنْ لم يتقدم ذكر الظهور لضمن الكلام له، كما جاء:

{ حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ }

و

{ وَكُلٌّ مّنَ * عَلَيْهَا فَانٍ }

انتهى وليس كما ذكر، بل تقدم ما تصح إليه الإشارة من المصدريناللذين دل عليهما ذكر الكافرين والمؤمنين، فهو من باب: إذا نهى السفيه جرى إليه. وقرأ ابن عباس وعمرو بنفائد: مذبذبين بكسر الذال الثانية، جعلاه اسم فاعل أي مذبذبين أنفسهم أو دينهم، أو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل وتصلصلبمعنى. وقرأ أُبي: متذبذبين اسم فاعل من تذبذب أي اضطرب، وكذا في مصحف عبد الله. وقرأ الحسن: مذبذبين بفتح الميموالذالين. قال ابن عطية: وهي قراءة مردودة. انتهى. والحسن البصري من أفصح الناس يحتج بكلامه، فلا ينبغي أن ترد قراءته،ولها وجه في العربية، وهو أنه أتبع حركة الميم بحركة الذال، وإذا كانوا قد أتبعوا حركة الميم بحركة عين الكلمةفي مثل منتن وبينهما حاجز فلان يتبعوا بغير حاجز أولى، وكذلك اتبعوا حركة عين منفعل بحركة اللام في حالة الرفعفقالوا: منحدر، وهذا أولى لأن حركة الإعراب ليست ثابتة خلاف حركة الذال، وهذا كله توجيه شذوذ. وعلى تقدير صحة النقلعن الحسن أنه قرأ بفتح الميم. وقرأ أبو جعفر: مدبدبين بالدال غير معجمة، كأن المعنى: أخذتهم تارة بدبة، وتارة فيدبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة الطريقة، وهي في حديث ابن عباس: اتبعوا دبة قريش، ولا تفارقوا الجماعة ويقال: دعني ودبتي، أي طريقتي وسجيتي. قال الشاعر

: طها هذريان قل تغميض عينه     على دبة مثل الخنيق المرعبل

وانتصاب مذبذبين على الحال من فاعل يراؤون، أو فاعل ولا يذكرون. وقالالزمخشري: مذبذبين: إمّا حال من قوله: ولا يذكرون عن واو يراؤونهم، أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين. أو منصوب على الذم.{لاَ إِلَىٰ هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء } والمراد بأحد المشار إليهم المؤمنون، وبالآخر الكافرون. والمعنى: لا يعتقدون الإيمان فيعدوامن المؤمنين، ولم يقيموا على إظهار الكفر فيعدوا مع الكافرين. ويتعلق إلى بمحذوف تقديره: ولا منسوبين إلى هؤلاء، وهو موضعالحال. {وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي فلن تجد لهدايته سبيلاً، أو فلن تجد سبيلاً إلىهدايته. {سَبِيلاً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لما كان هذا الوصف من أوصافالمنافقين، وتقدم ذمهم بذلك، نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا الوصف. وكان للأنصار في بني قريظة رضاع وحلف ومودة، فقالوالرسول الله : من نتولى؟ فقال: {*المهاجرون}. وقال القفال: هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول: قدبينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء انتهى. فعلى هذا هل الكافرون هنا اليهود أو المنافقون قولان؟ وقالابن عطية: خطابه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، وفي اللفظ رفق بهم وهو المراد بقوله: أتريدون أنهذا التوفيق إنما هو لمن ألمّ بشيء من العقل المؤدّي إلى هذه الحال، والمؤمنون المخلصون ما ألموا بشيء من ذلك.ويقوي هذا المنزع قوله تعالى: من دون المؤمنين، أي: والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنينالمخلصين بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه انتهى. قيل: وفي الآية دليل على أنّ الكفار لا يستحقعلى المسلم ولاية بوجه ولداً كان أو غيره، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية كقوله تعالى:

{ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ }

وقد كره بعض العلماء توكيله في الشراء والبيع، وفي دفع المال إليهمضاربة. {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي حجة ظاهرة واضحة بموالاتكم الكافرين أو المنافقين على قولالقفال. والمعنى: أنه يأخذكم إن واليتم الكفار بانتقام منه، وله عليكم في ذلك الحجة الواضحة، إذْ قد بين لكم أحوالهمونهاكم عن موالاتهم. وقيل: السلطان هنا القهر والقدرة. والمعنى: أنه يسلط عليكم بسبب اتخاذكم الكفار أولياء والسلطان. قال الفراء: أنثوذكر، وبعض العرب يقول: قضت به عليك السلطان، وقد أخذت فلاناً السلطان، والتأنيث عند الفصحاء أكثر انتهى. فمن ذكر ذهببه إلى البرهان والاحتجاج، ومن أنّث ذهب به إلى الحجة، وإنما اختير التذكير هنا في الصفة وإن كان التأنيث أكثر،لأنه وقع الوصف فاصلة، فهذا هو المرجح للتذكير على التأنيث. وقال ابن عطية: والتذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع،وهذا مخالف لما قاله الفراء. وإذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف والتقدير: ذو السلطان، أي: ذو الحجةعلى الناس إذ هو مدبرهم والناظر في مصالحهم ومنافعهم. وقال الزمخشري: لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداءالإسلام أولياء سلطان حجة بينة يعني: أنّ موالاة الكافرين بينة على المنافقين. وعن صعصة بن صرحان أنه قال لابن أخله خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر: فإنّ الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن. {إِنَّٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلاْسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } قال ابن عباس: الدرك لأهل النار كالدرح لأهل الجنة، إلا أنّ الدرجات بعضهافوق بعض، والدركات بعضها أسفل من بعض انتهى. وقال أبو عبيدة: الدركات الطبقات: وأصلها من الإدراك أي: هي متداركة متلاحقة.وقال ابن مسعود وأبو هريرة: هي من توابيت من حديد متعلقة في قعر جهنم، والنار سبع دركات، قيل: أولها جهنم،ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقاتباسم بعض، لأن لفظ النار يجمعها. وقال ابن عمر: أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدةوآل فرعون. وتصديق ذلك في كتاب الله هذه الآية في المنافقين: و

{ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

{ وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ * فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ }

وإنما كان المنافق أشدّ عذاباً من غيره من الكفارلأنه مثله في الكفر، وضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله، والمداجاة واطلاع الكفار على أسرار المسلمين فهو أشد غوائل منالكفار وأشد تمكيناً من أذى المسلمين. وقرأ الحرميان والعربيان: في الدرك بفتح الراء. وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيـى بنوثاب: بسكونها، واختلف عن عاصم. وروى الأعمش والبرجمي: الفتح، وغيرهما الإسكان. قال أبو علي: وهما لغتان كالشمع والشمع، واختار بعضهمالفتح لقولهم: في الجمع أدراك كجمل وإجمال يعني: أنه ينقاس في فعل أفعال، ولا ينقاس في فعل. وقال عاصم: لوكان بالفتح لقيل: السفلى. قال بعضهم: ذهب عاصم إلى أنَّ الفتح إنما هو على أنه جمع دركة كبقرة وبقر انتهى.ولا يلزم ما ذكره من التأنيث، لأن الجنس المميز مفرده بهاء التأنيث، يؤنث في لغة الحجاز، ويذكر في لغة تميمونجدة، وقد جاء القرآن بهما، إلا ما استثني لأنه يتحتم فيه التأنيث أو التذكير، وليس دركة ودرك من ذلك، فعلىهذا يجوز تذكير الدرك وتأنيثه. {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } أي مانعاً من العذاب ولا شافعاً يشفع. {إِلاَّٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم، وتمسكوا باللهوكتابه، ولم يكن لهم ملجأ ولا ملاذ إلا الله، وأخلصوا دينهم لله أي: لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه اللهتعالى. ولما كان المنافق متصفاً بنقائص هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والاعتزاز بهم والمراءة للمؤمنين، شرط فيتوبتهم ما يناقض تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق، وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى. ثم فصلما أجمل فيها، وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرينوالاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي، ثم بعد تحصيل هذهالأوصاف جميعها أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون، ولا من المؤمنين، وإن كان قد صاروا مؤمنينتنفيراً مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتعظيماً لحال من كان متلبساً به. ومعنى: مع المؤمنين، رفقاؤهم ومصاحبوهم فيالدارين. والذين تابوا مستثنى من قوله: في الدرك. وقيل من قوله: فلن تجد لهم. وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبرفأولئك. وقال الخوفي: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط المتعلق بالذين. {وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} أتى بسوف، لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة، وهو زمان مستقبل ليس قريباً من الزمان الحاضر. وقد قالوا: إنّسوف أبلغ في التنفيس من السين، ولم يعد الضمير عليهم فيقال: وسوف يؤتيهم، بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم،فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. وكتب يؤت في المصحف بغير ياء، لمّا حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين حذفت في الخط، ولهذا نظائرفي القرآن. ووقف يعقوب عليها بالياء، ووقف السبعة بغير ياء اتباعاً لرسم المصحف. وقد روى الوقف بالياء عن: حمزة، والكسائي،ونافع. وقال أبو عمرو: ينبغي أن لا يوقف عليها لأنه إن وقف بغير ياء خالف النحويين، وإن وقف بياء خالفلفظ المصحف. والأجر العظيم هو الخلود في الجنة. {مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ } الخطاب قيل: للمؤمنين.وقيل:ك للكافرين، وهو الذي يقتضيه سياق الكلام. وهذا استفهام معناه النفي أي: ما يعذبكم إنْ شكرتم وآمنتم. والمعنى: أنه لامنفعة له في ذلك ولا حاجة، لأن العذاب إنما يكون لشيء يعود نفعه أو يندفع ضره عن المعذب، والله تعالىمنزه عن ذلك، وإنما عقابه المسيء لأمر قضت به حكمته تعالى، فمن شكره وآمن به لا يعذبه. وما استفهامكما ذكرنا في موضع نصب بفعل، التقدير: أي شيء يفعل الله بعذابكم. والباء للسبب، استشفاء أم إدراك نار، أم جلبمنفعة، أم دفع مضرة، فهو تعالى منزه عن ذلك. وأجاز أبو البقاء أنْ تكون ما نافية، قال: والمعنى: ما يعذبكم.ويلزم على قوله أن تكون الباء زائدة، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي: إن شكرتم وآمنتم فما يفعلبعذابكم. ذكر عن ابن عباس أنّ المراد بالشكر هنا توحيد الله. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لم قدم الشكر علىالإيمان؟ (قلت): لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً، فإذا انتهىبه النظر إلى معرفة المؤمن به المنعم آمن به، ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدماً على الإيمان، وكان أصلالتكليف ومداره. وقال ابن عطية: الشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترناً بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيداً وتنبيهاً على جلالةموقعه انتهى. وأبعد من ذهب إلى أنه على التقديم والتأخير أي: إن آمنتم وشكرتم. {وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً عَلِيماً }شاكراً أي: مثيباً موفياً أجوركم. وأتى بصفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء منالعمل، وينميه عليماً بشكركم وإيمانكم فيجازيكم. وفي قوله: عليماً، تحذير وندب إلى الإخلاص لله تعالى. وقيل: الشكر من الله إدامةالنعم على الشاكر. {لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوء مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } قال مجاهد: تضيف رجل قوماًفأساؤا قراه، فاشتكاهم، فعوتب، فنزلت. وقال مقاتل: نال رجل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه والرسول عليه السلام، حاضر،فسكت عنه أبو بكر مراراً ثم رد عليه، فقام الرسول فقال أبو بكر: يا رسول اللهشتمني فلم تقل شيئاً، حتى إذا رددت عليه قمت، فقال: إن ملكاً كان يجيب عنك، فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهمما ذكر، وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين، سوّغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة. وقال عليه السلام: اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس وقرأ الجمهور: إلا من ظلم مبنياً للمفعول. وقال ابن عباس وغيره:إلا من ظلم، فإنّ له أن يدعو على من ظلمه، وكان ذلك رخصة من الله له، وإن صبر فهو خيرله. وقال الحسن: لا يدعو عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريدمن ظلمي. وقال ابن جريج: يجازيه بمثل فعله، ولا يزيد عليه. وقيل: هو أن يبدأ بالشتم فيردّ علي من شتمه،وتقدم قول مجاهد أنها في الضيف يشكو سوء صنيع المضيف معه، ونسب إلى الظلم لأنه مخالف للشرع والمروءة. وقال المنير:معناه إلا مَن أكره على أن يجهر بالسوء كفراً ونحوه فذلك مباح، والآية في الإكراه، وهذا الاستثناء متصل على تقديرحذف مضاف أي: الأجهر من ظلم. وقيل: الاستثناء منقطع والتقدير: لكنّ المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازى ظلامتهقاله: السدي، والحسن، وغيرهما. وبالسوء متعلق بالجهر، وهو مصدر معرّف بالألف واللام، والفاعل محذوف، وبالجهر في موضع نصب. ومن أجازأن ينوي في المصدر بناؤه للمفعول الذي لم يسم فاعله قدّر أنّ بالسوء في موضع رفع، التقدير: أن يجهر مبنياًللمفعول الذي لم يسم فاعله. وجوّز بعضهم أن يكون من ظلم بدلاً من ذلك الفاعل المحذوف التقدير: أن أحد إلاالمظلوم، وهذا مذهب الفراء. أجاز الفراء فيما قام إلا زيد أن يكون زيد بدلاً من أحد. وأما على مذهب الجمهورفإنه يكون من المستثنى الذي فرغ له العامل، فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر. وحسن ذلك كون الجهر في حيز النفي،وكأنه قيل: لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وقرأ ابن عباس، وابن عمر، وابن جبير، وعطاء بن السائب، والضحاك،وزيد بن أسلم، وابن أبي إسحاق، ومسلم بن يسار، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، وأبو رجاء: إلا من ظلم مبنياً للفاعل،وهو استثناء منقطع. فقدره الزمخشري: لأن الظالم راكب ما لم يحبه الله فيجهر بالسوء. وقال ابن زيد: المعنى إلا منظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله، والتوبيخ والرد عليه. قال: وذلكأنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار، كان ذلك خبراً بسوء من القول ثم قاللهم بعد ذلك:

{ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ }

الآية على معنى التأسيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان، ثم قال للمؤمنين:{لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوء مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } في إقامته على النفاق، فإنه يقول له: ألست المنافقالكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟ ونحو هذا من الأقوال. وقال قوم: تقديره: لكنّ من ظلم فهو يجهر بالسوءوهو ظالم في ذلك، فهي ثلاثة تقادير في هذا الاستثناء المنقطع: أحدها: راجع للجملة الأولى وهي لا يجب، كأنه قيل:لكن الظالم يحب الجهر بالسوء فهو يفعله، والثاني: راجع إلى فاعل الجهر أي: لا بحب الله أن يجهر أحد بالسوء،لكنَّ الظالم يجهر بالسوء. والثالث: راجع إلى متعلق الجهر الفضلة المحذوفة أي: أن يجهر أحدكم لأحد بالسوء، لكن من ظلمفاجهروا له بالسوء. قال ابن عطية: وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على البدل من أحدالمقدر انتهى. ويعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد، وما ذكره من جواز الرفع على البدل لايصح، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين: قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو: ما فيالدار أحد إلا حمار، فهذا فيه البدل في لغة تميم، والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز. وإنما جاز فيهالبدل، لأنك لو قلت: ما في الدار إلا حمار صح المعنى. وقسم يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيهالبدل، وهو مالا يمكن توجه العامل عليه نحو: المال ما زاد إلا النقص. التقدير: لكن النقص حصل له، فهذا لايمكن أن يتوجه زاد على النقص، لأنك لو قلت: ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى، والآية من هذا القسم،لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، فيفرغ أن يجهر لأنّ يعمل في الظالم لم يصحالمعنى. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من مرفوعاً كأنه قيل: لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم، على لغة من يقول:ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرو. ومنه

{ لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }

انتهى. وهذا الذي جوّزه الزمخشري لا يجوز، لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغواً زائداً،ولا يمكن أن يكون الظالم بدلاً من الله، ولا عمرو بدلاً من زيد، لأن البدل في هذا الباب راجع فيالمعنى إلى كونه بدل بعض من كل، إما على سبيل الحقيقة نحو: ما قام القوم إلا زيد، وإما على سبيلالمجاز نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا علىسبيل المجاز، لأنّ الله علم وكذا زيد هو علم، فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم، فيكون الظالم بدلاً من الله،وعمرو بدلاً من زيد. وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإنه يتخيل فيما قبله عموم، ولذلك صح البدلمنه على طريق المحاز، وإن لم يكن بعضاً من المستثني منه حقيقة. وأما قول الزمخشري: على لغة من يقول ماجاءني زيد إلا عمرو، فلا نعلم هذه اللغة، إلا أنّ في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتاً من الاستثناء المنقطعآخرها قول الشاعر

: عشية لا تغني الرّماح مكانها     ولا النبل إلا المشرفي المصمم

ما نصه وهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه أخوانكم إلا أخوانه، لأنها معارف ليست الأسماءالآخرة بها ولا منها، انتهى كلام سيبويه. ولم يصرح ولا لوح أنّ قوله: ما أتاني زيد إلا عمرو من كلامالعرب. وقيل: من شرح سيبويه، فهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، أي ينبغي أن يثبت هذا من كلامهم، لأنالنبل معرفة ليس بالمشرفي، كما أنّ زيداً ليس بعمرو، وكما أن أخوة زيد ليسوا أخوانكم انتهى. وليس ما أتاني زيدإلا عمرو نظيراً للبيت، لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز، كأنه قيل: لا يغني السلاح مكانها إلا المشرفي،بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو، فإنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذامن كلام العرب وجب تأويله حتى يصح البدل، فكان يصح ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو. كأنه يدل علىحذف المعطوف وجود هذا الاستثناء، إما أن يكون على إلغاء هذا الفاعل وزيادته، أو على كون عمرو بدلاً من زيد،فإنه لا يجوز لما ذكرناه. وأما قول الزمخشري: ومنه قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله، فليسمن باب ما ذكر، لأنه يحتمل أن تكون من مفعولة، والغيب بدلاً من بدل اشتمال أي: لا يعلم غيب منفي السموات والأرض إلا الله، أي ما يسرونه ويخفونه لا يعلمه إلا الله. وإنْ سلّمنا أنّ مَن مرفوعة، فيجوز أنيكون الله بدلاً مِن مَن على سبيل المجاز في من، لأن مَن في السموات يتخيل فيه عموم، كأنه قيل: قللا يعلم الموجود دون الغيب إلا الله. أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى، ولذا جاء عنهذلك في القرآن وفي السنة كقوله تعالى:

{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ * وَفِى ٱلاْرْضِ }

وقوله تعالى:

{ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّماء إِلَـٰهٌ وَفِى ٱلاْرْضِ إِلَـٰهٌ }

وفي الحديث أين الله؟ قالت: في السماء ومن كلام العرب: لاودي. وفي السماء بيته يعنون الله تعالى. وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر، وخص الجهربالذكر إما إخراجاً له مخرج الغائب، وإمّا اكتفاء بالجهر عن مقابله، أو لكونه أفحش. {وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }أي سميعاً لما يجهر به من السوء، عليماً بما يسر به منه. وقيل: سميعاً لكلام المظلوم، عليماً بالظالم. وقيل: سميعاًبشكوى المظلوم، عليماً بعقبى الظالم، أو عليماً بما في قلب المظلوم، فليتق الله ولا يقل إلا الحق. وهذه الجملة خبرومعناه التهديد والتحذير. {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } الظاهرأنّ الهاء في تخفوه تعود على الخير. قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة. وقال بعضهم: في تخفوهعائد على الخير. قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة. وقال بعضهم: في تخفوه عائد على السوء، والمعنى:أنه تعالى لما أباح الجهر بالسوء لمن كان مظلوماً قال له ولجنسه: إن تبدو خيراً، بدل من السوء، أو تخفواالسوء، أو تعفوا عن سوء. فالعفو أولى وإن كان غير المعفو مباحاً انتهى. وذكر إبداء الخير وإخفاءه تسبباً لذلك العفو،ثم عطفه عليهما تنبيهاً على منزلته واعتداداً به، وإن كان مندرجاً في إبداء الخير وإخفائه، فجعله قسماً بالعطف لا قسيماًاعتناء به. ولذلك أتى سبحانه وتعالى بصفة العفو والقدرة منسوبة له تعالى ليقتدى بسنته، ويتخلق بشيء من صفاته تعالى. والمعنى:أنه يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، وكان بالصفتين على طريق المبالغة تنبيهاً على أنّ العبد ينبغي أن يكثرمنه العفو مع كثرة القدرة على الانتقام. وفي الحديث الصحيح: من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً وقال تعالى:

{ وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَـٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ }

وقال الحسن: المعنى أنه تعالى يعفو عنالجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم بالعفو. وقال الكلبي: معناه أني أقدر على العفو عن ذنوبك منك على هفوك عنصاحبك. وقيل: عفو المن عفى قديراً على إيصال الثواب إليه. {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } قال الحسن، وقتادة،والسدي، وابن جريج: نزلت في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة وكفرت بعيسى ومحمد عليهما السلام، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيلوكفرت بمحمد والقرآن. وقيل: نزلت في اليهود خاصة، آمنوا بموسى وعزيراً والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمدوالقرآن. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بين ما عليه المنافقون من سوء الخليقة ومذموم الطريقة، أخذ في الكلامعلى اليهود والنصارى، جعل كفرهم ببعض الرسل كفراً بجميع الرسل، وكفرهم بالرسل كفراً بالله تعالى. {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله، يقولون نؤمن بالله ولا نؤمن، بفلان، وفلان من الأنبياء. {وَيقُولُونَنُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } يعني من الأنبياء. وقيل: هو تصديق اليهود بمحمد أنه نبي، ولكنليس إلى بني إسرائيل. ونحو هذا من تفرّقاتهم التي كانت تعنتاً وروغاناً. {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً }أي طريقاً وسطاً بين الكفر والإيمان ولا واسطة بينهما. {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ حَقّاً } أكد بقوله: هم، لئلا يتوهمأنّ ذلك الإيمان ينفعهم. وأكد بقوله: حقاً، وهو تأكيد لمضمون الجملة الخبرية، كما تقول: هذا عبد الله حقاً أي حقذلك حقاً. أو هو نعت لمصدر محذوف أي: كفراً حقاً أي: ثابتاً يقيناً لا شك فيه. أو منصوب على الحالعلى مذهب سيبويه. وقد تقدم لذلك نظائر، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه وقال: الكفر لا يكون حقاً بوجه منالوجوه، ولا يلزم ما قال إنه لا يراد بحقاً الحق الذي هو مقابل للباطل، وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن،وإنما كان التوكيد في ذلك، لأنّ داعي الإيمان مشترك بين الأنبياء وهو ظهور المعجزات على أيديهم، فكونهم فرّقوا في الإيمانبينهم دليل على كفرهم بالجميع، إذ ليس إيمانهم ببعض ناشئاً عن النظر في الدليل، وإنما هم على سبيل التشهي والتلاعب.{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } هذا وعيد لهم بالإهانة في العذاب. {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَأَحَدٍ مّنْهُمْ } هؤلاء هم المؤمنون اتباع محمد ، وتقدم الكلام على دخول بين على أحد فيالبقرة. في قوله:

{ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ }

فأغنى عن إعادته هنا. {أُوْلَـئِكَ سَوْفَ * فَيُوَفّيهِمْأُجُورَهُمْ } صرح تعالى بوعد هؤلاء، كما صرح بوعيد أولئك. وقرأ حفص: يؤتيهم بالياء ليعود على اسم الله قبله. وقرأالباقون: بالنون على الالتفات، ومقابله وأعتدنا. وقول أبي عبد الله الرازي: قراءة النون أولى من وجهين: أحدهما: أنه أنهم والآخر:أنه مشاكل لقوله: وأعتدنا، ليس بجيد ولا أولوية في ذلك، لأن القراءتين كلتاهما متواترة، هكذا نزلت، وهكذا أنزلت. {وَكَانَٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } لما وعدهم تعالى بالثواب زادهم تبشيراً لتجاوز عن السيئآت وبرحمته إياهم. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ أَنتُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـٰباً مّنَ ٱلسَّمَاء } قال السدي: قالت اليهود: إن كنت صادقاً فجيء بكتاب من السماء جملة كما جاءموسى بالكتاب. وقال محمد بن كعب القرظي: قالوا: ائت بألواح فيها كتابك كما أتى موسى بألواح فيها التوراة. وقال الحسنوقتادة: سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود يأمرهم بالإيمان بمحمد . وقال ابن جريج: قالوا: لن نتابعكعلى ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله فلان وإلى فلان إنك رسول الله. فعلى قول ابن جريجيقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أمية الزهري، وقيل: كتاباً نعاينه حتى ينزل، وسمى من سائلياليهود: كعب بن الأشرف، وفنخاص بن عازوراء. وقيل: السائلون هم اليهود والنصارى وسؤالهم إنما هو على سبيل التعنت. وقال الحسن:لو سألوه لكي يتبين الحق لأعطاهم، فإن فيما أعطاكم كفاية. {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا ٱللَّهِجَهْرَةً } قدروا قبل هذا كلاماً محذوفاً، فجعله الزمخشري شرطاً هذا جوابه وتقديره: أن استكبرت ما سألوه منك، فقد سألواموسى أكبر من ذلك. وقدره ابن عطية: فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم، فإنها عادتهم، فقد سألوا موسى. وأسندالسؤال إليهم، وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين، لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم، ومشابهون لهم في التعنت.وقرأ الحسن: أكثر بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور، ومعنى جهرة: عياناً رؤية منكشفة بينة. والجهرة من وصف الرّوية.واختلف في النقل عن ابن عباس فروى عنه: أن جهرة من صفة السؤال، فقد سألوا موسى. أو حالاً من ضمير سألوا أي: سألوه مجاهرين. وروى عنه أن التقدير: فقالوا جهرة منه وتصريحاً أرنا الله، فيكون من صفة القول ( فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) أي: تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه. وقال الزمخشري: بظلمهم بسبب سؤالهمالرؤية، ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سموا ظالمين، ولما أخذتهم الصاعقة. كما سأل ابراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتىفلم يسمه ظالماً، ولا رماه بالصاعقة للمشبهة ورميا بالصواعق انتهى، وهو على طريقة الاعتزال في استحالة رؤية الله عندهم. وأهلالسنة يعتقدون أنهم لم يسألوا محالاً عقلاً، لكنه ممتنع من جهة الشرع، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنهلا يرى في هذه الحياة الدنيا، والرؤية في الآخرة ثابتة عن الرسول بالتواتر، وهي جائزة عقلاً،وتقدّم الكلام في البقرة على الصاعقة. وقرأ السلميّ والنخعي: فأخذتهم الصعقة، والجمهور الصاعقة. {ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَاجَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ } ثم: للترتيب في الأخبار لا في نفس الأمر، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل: أيآباؤهم، والذين صعقوا غير الذين اتخذوا العجل. والبينات: إجازة البحر، والعصا، وغرق فرعون، وغير ذلك. وقال الحوفي: أعلم نبيه بعنادهموإصرارهم فالمعنى: أنه لو نزل عليهم الذي سألوا لخالفوا أمر الله كما خالفوه من بعد إحياء الله لهم من صعقتهم،وعبدوا العجل واتخذوه إلهاً. {فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ } أي: عن اتخاذهم العجل إلهاً عن جميع ما تقدم من مخالفتهم.والأوّل أظهر، لأنه قد صرح في قصة العجل بالتوبة. ويعني: بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم، ثم وقع العفو عنالباقين منهم. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ أَن } أي: حجة وتسلطاً واستيلاء ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتىيتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفتيتهم، والسيوف تتساقط عليهم، فيا له من سلطان مبين. {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَـٰقِهِمْ } تقدّمما المعنى بالطور. وفي الشام جبل عرف بالطور ولزمه هذا الاسم، وهو طور بسيناء. وليس هو المرفوع على بني إسرائيل،لأن رفع الجبل كان فيما يلي التيه من جهة ديار مصر وهم ناهضون مع موسى عليه السلام، وتقدمت قصة رفعالطور في البقرة. والباء في بميثاقهم للسبب، وهو العهد الذي أخذه موسى عليهم بعد تصديقهم بالتوراة أن يعملوا بما فيها،فنقضوا ميثاقهم وعبدوا العجل، فرفع الله عليهم الطور. وفي كلام محذوف تقديره: بنقض ميثاقهم. {وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً} تقدّم تفسير هذه الجملة في القرة. {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى ٱلسَّبْتِ } تقدّم ذكره عند اعتدائهم فيقوله:

{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ }

وقرأ ورش لا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال، على أنّالأصل تعتدوا، فألقيت حركة التاء على العين، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ قالون: بإخفاء حركة العين وتشديد الدال، والنصبالإسكان. وأصله أيضاً لا تعتدوا. وقرأ الباقون من السبعة: لا تعدوا بإسكان العين وتخفيف الدال من عدي يعدو. وقال تعالى:

{ إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ }

وقرأ الأعمش والأخفش: لا تعتدوا من اعتدى. {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَـٰقاً غَلِيظاً } قيل:هو الميثاق الأول في قوله:

{ بِمِيثَـٰقِهِمْ }

ووصف بالغلظ للتأكيد، وهو المأخوذ على لسان موسى وهارون أن يأخذوا التوراةبقوة، ويعملوا بجميع ما فيها، ويوصلوه إلى أبنائهم. وقيل: هذا الميثاق غير الأوّل، وهو الميثاق الثاني الذي أخذ على أنبيائهمبالتصديق بمحمد والإيمان به، وهو المذكور في قوله:

{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ }

الآية. فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَـٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قالابن عطية فيما لخصناه من كلامه، هذا إخبار عن أشياء واقعوها في الضد مما أخذوا به، نقضوا الميثاق الذي رفععليهم الطور بسببه، وجعلوا بدل الإيمان الذي تضمنه الأمر بدخول الباب سجداً المتضمن التواضع الذي هو ثمرة الإيمان، كفرهم بآياتالله، وبذل الطاعة، وامتثال موافقته، في أن لا يعدوا في السبت انتهاك أعظم الحرم، وهو قتل الأنبياء، وقابلوا أخذ الميثاقالغليظ بتجاهلهم وقولهم: قلوبنا غلف: أي: في حجب، وغلف: فهي لا تفهم. وأضرب الله تعالى عن قولهم وكذبهم، وأخبر تعالىأنه قد طبع عليها بسبب كفرهم انتهى. والميثاق المنقوض: أهو كتمانهم صفة الرسول وتكذيبه فيما جاء به؟ أو تركهم العملبما في كتابهم؟ مع أنهم قبلوا والتزموا العمل بها قولان. وآيات الله التي كفروا بها أهي التي أنزلت عليهم فيكتبهم؟ أو جميع كتب الله المنزلة؟ قولان. وتقدم شرح قلوبنا غلف في البقرة. {بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }أدغم لام بل في طاء طبع الكسائي وحمزة، وأظهرها باقي السبعة. وقال الزجاج: بل طبع الله عليها بكفرهم خبر معناهالذم، على أنَّ قلوبهم بمنزلة المطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرسلاً. وقال الزمخشري: أرادوا بقولهم: قلوبنا غلف،أي أن الله خلق قلوبنا غلفاً، أي: في أكنة لا يتوصل إليها بشيء من الذكر والموعظة، كما حكى الله عنالمشركين:

{ وَقَالُواْ لَوْ شَاء ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَـٰهُمْ }

وتكذيب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم: خذ لها الله ومنعها الألطافبسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفاً قابلة الذكر، ولا متمكنة من قبوله انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي.وأما أهل السنة فيقولون: إن الله طبع عليها حقيقة كما أخبر تعالى إذ لا خالق غيره. والباء في فبما نقضهمتتعلق بمحذوف قدره الزمخشري: فعلنا بهم ما فعلناه. وقدره ابن عطية: لعناهم وأذللناهم، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم.قال ابن عطية: وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع انتهى. وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواباصطلاح لم يعهد في علم النحو، ولا تساعده اللغة، لأنه ليس بجواب. وجوزوا أن يتعلق بقوله:

{ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ }

على أن قوله:

{ فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ }

بدل من قوله: فبما نقضهم ميثاقهم، وقاله الزجاج، وأبو بكر، والزمخشري،وغيرهم. وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأن المعطوف على السبب سبب، فيلزم تأخر بعض أجزاء السببالذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو مسبباً إلا بتأويل بعيد وبيان ذلكأن قولهم على مريم بهتاناً عظيماً، وقولهم: إنا قتلنا المسيح، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم، فالأولى أن يكونالتقدير: لعناهم، وقد جاء مصرحاً به في قوله:

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ لَعنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }

{فَلاَ يُؤْمِنُونَإِلاَّ قَلِيلاً } تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته. {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَـٰناً عَظِيماً } الظاهر فيقوله: وبكفرهم، وقولهم أنه معطوف على قوله: فبما نقضهم وما بعده. على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله: وبكفرهم وقولهم،معطوفاً على بكفرهم. وتكرار نسبة الكفر إليهم بحسب متعلقاته، إذ كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد عليه السلام، فعطف بعضكفرهم على بعض. قال الزمخشري: أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل: على بعض. قال الزمخشري: أوعطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل: فيجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتلهم الأنبياء وقولهم:

{ قُلُوبُنَا غُلْفٌ }

وجمعهم بين كفرهم ويهتهم مريم، وافتخارهم بقتل عيسى عليه السلام، عاقبناهم. أو بل طبع الله عليها وجمعهمبين كفرهم، وكذا وكذا. وقال الزمخشري أيضاً: (فإن قلت): هلا زعمت أنّ المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليهقوله: بل طبع الله عليها بكفرهم؟ (قلت): لم يصح هذا التقدير، لأن قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، ردّ وإنكارلقولهم: قلوبنا غلف، فكان متعلقاً به انتهى. وهو جواب حسن، ويمتنع من وجه آخر وهو أنّ العطف ببل يكون للإضرابعن الحكم الأول، وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول، أو الانتقال عاماً في كتاب الله في الإخبار، فلا يكون إلاللانتقال. ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الجملة الأولى. والذي قدّره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قرّرناه،لأن قوله: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وقولهم: قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم، فأفادت الجملة الثانية ماأفادت الجملة الأولى وهو لا يجوز. لو قلت: مر زيد بعمرو، بل مر زيد بعمرو، لم يجز. وقد أجاز ذلكأبو البقاء وهو أن يكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وكذا طبع على قلوبهم. وقيل: التقدير فيما نقضهمميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلاً، والفاء مقحمة. وما في قوله: فبما نقضهم كهي في قوله:

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ }

وتقدّمالكلام فيها. والبهتان العظيم رميهم مريم عليها السلام بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى عليه السلام في المهد. قالابن عطية: وإلا فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر انتهى. ووصفبالعظم لأنهم تمادوا عليه بعد ظهور الآية وقيام المعجزة بالبراءة، وقد جاءت تسمية الرمي بذلك بهتاناً عظيماً في قوله:

{ سُبْحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهْتَـٰنٌ عَظِيمٌ }

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ } الظاهر أن رسول اللهمن قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، كقول فرعون أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقوله:

{ إِنَّكَ لاَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ }

ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعاً لعيسىعليه السلام، كما كانوا يذكرونه به. ذكر الوجهين الزمخشري، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني قال: هو إخبار من اللهتعالى بصفة عيسى عليه السلام، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوا عيسى،لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول. ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أنّقتلهم وقع في عيسى، فكأنهم قتلوه، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول. {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِنشُبّهَ لَهُمْ } هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى وما صلبوه. واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب،ولم يثبت عن رسول الله في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن. ومنتهى ماآل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت، فدلوا عليه وحضروا ليلاً وهم ثلاثةعشر، أو ثمانية عشر، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه، فرفع عيسى، وألقى شبهه على الرجلفصلب. وقيل: هو اليهودي الذي دل عليه. وقيل: قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء، وهو رفيقي فيالجنة؟ فقال سرجس: أنا، فألقي عليه شبه عيسى. وقيل: ألقي شبهه على الجميع، فلما أخرجوا نقص واحد من العدّة، فأخذواواحداً ممن عليه الشبه فصلب. وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاطالأمر، فصلب ذلك الشخص، وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير، ولم تثبت له صفة، وحينئذ دنا الناس منه، ومضىالحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب. وقيل: لم يلق شبهه على أحد، وإنما معنى: ولكن شبه لهم، أي شبهعليهم الملك المخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه، وقال: هذا عيسى، وهذاالقول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله: ولكن شبه لهم. أمّا أن يلقى شبهه على شخص، فلم يصح ذلكعن رسول الله فيعتمد عليه. وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافاً كثيراً. فقيل: اليهوديالذي دل عليه. وقيل: خليفة قيصر الذي كان محبوساً عنده. وقيل: واحد من اليهود. وقيل: دخل ليقتله. وقيل: رقيب وكلتهبه اليهود. وقيل: ألقى الشبه على كل الحواريين. وقيل: ألقى الشبه على الوجه دون البدن، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوقبشيء من ذلك. ولهذا قال بعضهم: إن جاز أن يقال: إنّ الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر، فهذايفتح باب السفسطة. وقيل: سبب اجتماع اليهود على قتله هو أنّ رهطاً منهم سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم: اللهم أنت ربي، وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود علىقتله. وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله: خيل إليه، ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدالعليه: إنا قتلنا أي: ولكن شبه لهم من قتلوه. ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح، لأن المسيح مشبه به لامشبه. {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنّ } اختلف فيهاليهود فقال بعضهم: لم يقتل ولم يصلب، الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره. وقيل: أدخلوا عليه واحداً ليقتله، فألقى الشبهعليه فصلب، ونقص من العدد واحد. وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا: إنْ كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان عيسىفأين صاحبنا؟ وقيل: قال العوامّ: قتلنا عيسى، وقال من عاين: رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب. قال ابن عطية:واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أنّ شخصاً صلب، وهل هو عيسى أم لا؟ فليس هو منعلم الحواس، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة. والضمير في فيه عائد على القتل معناه: في قتله، وهذا هوالظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده. وقيل: الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضاً، واختلافهم فيه قول بعضهم:إنه آلة. وقول بعضهم: إنه ابن الله تعالى. وقيل: اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا: وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته.وقيل: وقع القتل والصلب عليهما. وقيل: عائد على اليهود والنصارى، فإن اليهود قالوا: هو ابن زنا. وقالت النصارى: هو ابنالله. وقيل: اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا: إن اليهود قتلته وصلبته، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا: رفع إلى السماء.والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم. أي: ولكنّ اتباع الظنّ لهم.وقال الزمخشري: يعني ولكنهم يتبعون الظنّ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وقال ابن عطية: هو استثناء متصل، إذالظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين. وقد يقول الظان على طريق التجوّز: علمي في هذا الأمر أنه كذا، وهويعني ظنه انتهى. وليس كما ذكر، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين، لأنه ترجيح أحد الجائزين، وما كان ترجيحاً فهوينافي اليقين، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين. وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر، فلا يكون أيضاًاستثناء متصلاً، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم. فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ، وإنما التلاوة إلااتباع الظنّ، والاتباع للظنّ لا يضمه والعلم جنس ما ذكر. وقال الزمخشري. فإن قلت: لم وصفوا بالشك والشك أنّ لايترجح أحد الجائزين؟ ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهممن علم قط، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى. وهو جواب سؤاله، ولكن يقال: لا يرد هذا السؤال لأنّ العربتطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع، واليقين فيدخل فيه كلما يتردّد فيه، إما على السواء بلا ترجيح، أوبترجيح أحد الطرفين. وإذا كان كذلك اندفع السؤال. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } قال ابن عباس والسدي وجماعة: الضمير فيقتلوه عائد على الظن. تقول: قتلت هذا الأمر علماً إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء. فالمعنى: وماصح ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً، ولا قطعوا الظن باليقين. وقال الفراء وابن قتيبة؛ الضمير عائد على العلم أي: ماقتلوا العلم يقيناً. يقال: قتلت العلم والرأي يقيناً، وقتلته علماً، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء، فكأنه قيل: لميكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به، إنما كان ظناً. قال الزمخشري: وفيه تهكم، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياًكلياً بحرف الاستغراق ثم قيل: وما علموه علم يقين، وإحاطة لم يكن إلا تهكماً انتهى. والظاهر قول الجمهور: إن الضميريعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد، فلا تختلف. والمعنى صحيح بليغ، وانتصاب يقيناً على أنه مصدر في موضعالحال من فاعل قتلوه أي: متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم: إنا قتلنا المسيح قاله: السدي. أو نعتلمصدر محذوف أي: قتلاً يقيناً جوزه الزمخشري. وقال الحسن: وم قتلوه حقاً انتهى. فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفيةكقولك: وما قتلوه حقاً أي: حق انتفاء قتله حقاً. وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديماً وتأخيراً، وإنيقيناً منصوب برفعه الله أيه، والمعنى: بل رفعه الله إليه يقيناً، فلعله لا يصح عنه. وقد نص الخليل على أنذلك خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها. {بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } هذا إبطال لماادعوه من قتله وصلبه، وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسول في حديث المعراج.وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض لقتل الدجال، وليملأها عدلاً كما ملئت جوراً، ويحيا فيها أربعين سنة ثميموت كما تموت البشر. وقال قتادة: رفع الله عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه الطعام والشراب، فصار معالملائكة، فهو معهم حول العرش، فصار إنسياً ملكياً سماوياً أرضياً. والضمير في إليه عائد إلى الله تعالى على حذفالتقدير إلى سمائه، وقد جاء

{ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ }

وقيل: إلى حيث لا حكم فيه إلا له. ولا يوجه الدعاءإلا نحوه، وهو راجع إلى الأول. وقال أبو عبد الله الرازي: أعلم الله تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسىأنواع من البلايا، أنه رفعه إليه فدل أنّ رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ومن كل ما فيهامن اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية انتهى. وفيه نحو من كلام المتفلسفة. {وَكَانَ ٱللَّهُعَزِيزاً حَكِيماً } قال أبو عبد الله الرازي: المراد من المعزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنبه بهذا علىأنّ رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر، لكنْ لا تعذر فيه بالنسبة إلىقدرتي وحكمتي انتهى. وقال غيره: عزيزاً أي قوياً بالنقمة من اليهود، فسلط عليهم بطرس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. حكيماًحكم عليهم باللعنة والغضب. وقيل: عزيزاً أي: لا يغالب، لأن اليهود حاولت بعيسى عليه السلام أمراً وأراد الله خلافه. حكيماًأي: واضع الأشياء مواضعها. فمن حكمته تخليصه من اليهود، ورفعه إلى السماء لما يريد وتقتضيه حكمته تعالى. وقال وهب بنمنبه: أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة، ثم رفعه وهو ا بن ثلاث وثلاثين سنة، فكانت نبوتهثلاث سنين. وقيل: بعث الله جبريل عليه السلام فأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها، فرفعه الله تعالى إلى السماء منتلك الروزنة. {وَإِن مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } إنْ هنا نافية، والمخبر عنه محذوف قامتصفته مقامه، التقدير: وما أحد من أهل الكتاب. كما حذف في قوله:

{ وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }

والمعنى: ومامن اليهود. وقوله:

{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }

أي: وما أحد منا إلا له مقام، وما أحدمنكم إلا واردها. قال الزجاج: وحذف أحد لأنه مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو: ما قام إلا زيد، معناهما قام أحد إلا زيد. وقال الزمخشري: ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإنْ من أهل الكتابأحد إلا ليؤمنن به ونحوه: وما منا إلا له مقام معلوم، وإن منكم إلا واردها. والمعنى: وما من اليهود أحدإلا ليؤمنن به انتهى. وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلىآخره، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب، والتقدير كما ذكرناه: وإن أحد من أهل الكتاب.وأما قوله: ليؤمنن به، فليست صفة لموصوف، ولا هي جملة قسمية كما زعم، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف،والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف، إذ لا ينتظم من أحد. والمجرور إسناد لأنه لايفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضاً الخبر هو إلا له مقام، وكذلك إلاواردها، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي. والظاهر أن الضميرين في: به، وموته، عائدان أنّ على عيسى وهوسياق الكلام، والمعنى: من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان،فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قاله: ابن عباس، والحسن،وأبو مالك. وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة، والضحاك، والحسن، أيضاً ومجاهد، وغيرهم: الضمير في به لعيسى، وفي موته لكتابي وقالوا:وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ويعلم أنه نبي، ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه كما لم ينفعفرعون إيمانه وقت المعاينة. وبدأ بما يشبه هذا لقول الزمخشري. قال: والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبلموته بعيسى، وبأنه عبد الله ورسوله؟ يعني: إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف.ثم حكى عن شهر بن حوشب والحجاج حكاية فيها طول يمس بالتفسير منها: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكةدبره ووجهه وقالوا: يا عدوّ الله أتاك عيسى نبياً فكذبت به، فيقول: آمنت أنه نبي. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبياًفزعمت أنه الله أو ابن الله، فيقول: أمنت أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. وعن ابن عباس أنهفسره كذلك فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال: لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال: وإنخرجت فوق بيت، أو احترق، أو أكله سبع؟ قال: يتكلم بها في الهوى، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به. ويدلعليه قراءة أُبيّ: إلا ليؤمنن به قبل موتهم، بضم النون على معنى: وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم،لأن أحداً يصلح للجمع. فإن قلت: فما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكن علمهم بأنهم لابد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان بهفي أوان الانتفاع به، وليكون إلزاماً للحجة لهم. وكذلك قوله. {وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } يشهد على اليهودبأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله انتهى كلامه. وقال أيضاً: ويجوز أنْ يريد أنه لا يبقى أحد منجميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به، على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما نزل له،ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم انتهى. وقال عكرمة: الضمير في به لمحمد عليه الصلاة والسلام، وفي موته للكتابي. قال:وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد، ولو غرق أو سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلكالوقت. وقيل: يعود في به على الله، وفي موته على أحد المقدّر. قال ابن زيد: إذا نزل عيسى عليه السلاملقتل الدجال، لم يبق يهودي ولا نصراني إلا آمن بالله حين يرون قتل الدجال، وتصير الأمم كلها واحدة على ملةالإسلام، ويعزى هذا القول أيضاً إلى ابن عباس، والحسن، وقتادة. وقال العباس بن غزوان: وإنّ من أهل الكتاب بتشديدالنون، وهي قراءة عسرة التخريج، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً أي: شهيداً على أهل الكتاب على اليهود بتكذيبهم إياه وطعنهمفيه، وعلى النصارى بجعلهم إياه آلۤهاً مع الله أو ابناً له، والضمير في يكون لعيسى. وقال عكرمة: لمحمد صلى اللهعليه وسلم. قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع. فمنها التجنيس المغاير في: يخادعون وخادعهم، وشكرتم وشاكراً. والمماثلفي: وإذا قاموا. والتكرار في: اسم الله، وفي: هؤلاء وهؤلاء، وفي: ويرون ويريدون، وفي: الكافرين والكافرين، وفي: أهل الكتاب وكتاباً،وفي: بميثاقهم وميثاقاً. والطباق في: الكافرين والمؤمنين، وفي: إن تبدوا أو تخفوه، وفي: نؤمن ونكفر، والاختصاص في: إلى الصلاة، وفي:الدرك الأسفل، وفي: الجهر بالسوء. والإشارة في مواضع. الاستعارة في: يخادعون الله وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي: سبيلاً،وفي سلطاناً لقيام الحجة والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار، واعتصموا للالتجاء، وفي: أن يفرقوا، وفي: ولم يفرّقوا وهو حقيقةفي الأجسام استعير للمعاني، وفي: سلطاناً استعير للحجة، وفي: غلف وبل طبع الله. وزيادة الحرف لمعنى في: فبما نقضهم، وإسنادالفعل إلى غير فاعله في: فأخذتهم الصاعقة وجاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي: وقتلهم الأنبياء، وفي: وقولهم على مريم بهتاناًوقولهم إنا قتلنا المسيح. وحسن النسق في: فبما نقضهم ميثاقهم والمعاطيف عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط.وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء. وإطلاق اسم كل على بعض وفي: كفرهم بآياتالله وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم.والتعريض في رسول الله إذا قلنا أنه من كلامهم. والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف.وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى. والنقل من صيغة فاعلإلى فعيل في شهيد. والحذف في مواضع.

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } * { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـۤئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } * { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } * { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } * { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } * { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاَ بَعِيداً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } * { إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } * { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } * { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }[عدل]

الغلو: تجاوز الحد. ومنه غلا السعر وغلوة السهم. الاستنكاف: الأنفة والترفع، من نكفتالدمع إذا نحيته بأصبعك من حدك، ومنعته من الجري قال

: فباتوا فلولا ما تدكر منهم     من الحلق لم ينكف بعينك مدمع

وسئل أبو العباس عن الاستنكاف فقال: هو من النكف، يقال:ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف دفع ذلك السوء. {فَبِظُلْمٍ مّنَٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } المعنى: فبظلم عظيم، أو فيظلم أي ظلم. وحذف الصفة لفهم المعنى جائزكما قال: لقد وقعت على لحم أي لحم متبع، ويتعلق بحرمنا. وتقدم السبب على المسبب تنبيهاً على فحش الظلم وتقبيحاًله وتحذيراً منه. والطيبات هي ما ذكر في قوله:

{ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ * سَوَاء عَلَيْهِمْ }

الألبان وبعض الطيروالحوت، وأحلت لهم صفة الطيبات بما كانت عليه. وأوضح ذلك قراءة ابن عباس: طيبات كانت أحلت لهم. {وَبِصَدّهِمْ عَنسَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } أي ناساً كثيراً، فيكون كثيراً مفعولاً بالمصدر، وإليه ذهب الطبري. قال: صدوا بجحدهم أمر محمد صلىالله عليه وسلم جمعاً عظيماً من الناس، أو صد كثيراً. وقدره بعضهم زماناً كثيراً. {وَأَخْذِهِمُ ٱلرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} وهذه جملة حالية تفيد تأكيد قبح فعلهم وسوء صنيعهم، إذ ما نهى الله عنه يجب أن يبعد عنه. قالوا:والربا محرم في جميع الشرائع. {وَأَكْلِهِمْ أَمْوٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ } أي الرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريفالكتاب. وفي هذه الآية فصلت أنواع الظلم الموجب لتحريم الطيبات. قيل: كانوا كلما أحدثوا ذنباً حرم عليهم بعض الطيبات، وأهملهنا تفصيل الطيبات، بل ذكرت نكرة مبهمة. وفي المائدة فصل أنواع ما حرم ولم يفصل السبب. فقيل: ذلك جزيناهم ببغيهم،وأعيدت الباء في:

{ وَبِصَدّهِمْ }

لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولاً للمعطوف عليه، بل في العامل فيه.ولم يعد في:

{ وَأَخْذِهِمُ }

وأكلهم لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه. ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله:

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ }

الآية. وبدىء في أنواع الظلم بما هو أهم، وهو أمر الدّين، وهو الصد عن سبيل الله،ثم بأمر الدنيا وهو ما يتعلق به الأذى في بعض المال، ثم ارتقى إلى الأبلغ في المال الدنيوي وهو أكلهبالباطل أي مجاناً لا عوض فيه. وفي ذكر هذه الآية امتنان على وجه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرمعليهم في الدنيا الطيبات عقوبة لهم بذنوبهم. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً * مُّهِيناً } لما ذكر عقوبة الدنيا ذكرما أعد لهم في الآخرة. ولما كان ذلك التحريم عامّاً لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم، فالتزمه ظالمهم وغير ظالمهمكما قال تعالى:

{ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً }

بين أن العذاب الأليم إنما أعد للكافرينمنهم، فلذلك لم يأت وأعتدنا لهم. {لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِنقَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } مجيء لكنْ هنا في غاية الحسن، لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما، وهم: الكافرونوالعذاب الأليم، والمؤمنون والأجر العظيم، والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم: كعبد الله بن سلام وأضرابه، والمؤمنون يعني منهم، أو المؤمنونعن المهاجرين والأنصار. والظاهر أنه عام في مَن آمن. وارتفع الراسخون على الابتداء، والخبر يؤمنون لا غير، لأن المدحلا يكون إلا بعد تمام الجملة. ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف، وانتصب المقيمين على المدح، وارتفع والمؤتون أيضاًعلى إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع. ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله، لأنّ النعت إذا انقطع فيشيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فكثر الوصف بأن جعل فيجمل. وقرأ ابن جبير، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وعيسى بن عمر، ومالك بن دينار، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارونعن أبي عمرو: والمقيمون بالرفع نسقاً على الأول، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، قاله الفراء. وروي أنها كذلك فيمصحف أُبيّ. وقيل: بل هي فيه، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان. وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان: أن كتبها بالياء منخطأ كاتب المصحف، ولا يصح عنهما ذلك، لأنهما عربيان فصيحان، قطع النعوت أشهر في لسان العرب، وهو باب واسع ذكرعليه شواهد سيبويه وغيره، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك. قال الزمخشري: ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناًفي خط المصحف، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاصمن الافتتان، وعنى عليه: أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة علىالإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم انتهى.ويعني بقوله: من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه، ولجهل من يقدم علىتفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو، جوّزوا في عطف والمقيمين وجوهاً: أحدها: أن يكون معطوفاً على بماأنزل إليك، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة. واختلفوا في هذا الوجه من المعنيّ بالمقيمين الصلاة، فقيل: الأنبياء ذكره الزمخشري وابنعطية. وقيل: الملائكة ذكره ابن عطية. وقيل: المسلمون، والتقدير: وندب المقيمين، ذكر ابن عطية معناه. والوجه الثاني: أن يكون معطوفاًعلى الضمير في منهم أي: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم. الوجهالثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في أولئك أي: ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة. الوجه الرابع: أن يكون معطوفاًعلى كاف قبلك على حذف مضاف التقدير: وما أنزل من قبلك وقيل: المقيمين الصلاة. الوجه الخامس: أن يكون معطوفاً علىكاف قبلك ويعني الأنبياء، ذكره ابن عطية. وقال ابن عطية: فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق، وكان أنشده قبلوهو

: النازلين بكل معترك     والطيبون معاقد الأزر

بحرف العطفالذي في الآية، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى. إنْ منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوتذلك في كلام العرب مع حرف العطف، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية. قال الشاعر

: ويأوي إلى نسوة عطل     وشعث مراضيع مثل السعالى

وكذلك جوزوا فيقوله تعالى: والمؤتون الزكاة، وجوهاً على غير الوجه الذي ذكرناه: من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطعالصفات في المدح: أحدها: أنه معطوف على الراسخون. الثاني: على الضمير المستكن في المؤمنون. الثالث: على الضمير في يؤمنون. الرابع:أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه. وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذياخترناه في رفع والمؤتون. ولما ذكر أولاً والمؤمنون تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به، ثم أخبر عنهم وعنالراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي: الصلاة، والماليةوهي الزكاة، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية وهي الإيمان بالموحد الذي أنزل الكتب وشرع فيها الصلاةوالزكاة، وباليوم الآخر وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة وغيرهما. ثم إنهلما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجراً عظيماً وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها،وأشار إليهم بأولئك، ليدل على مجموع تلك الأوصاف. ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ أو خبره ما بعده، فهو بمعزل عنإدراك الفصاحة. والأجود إعراب أولئك مبتدأ، ومن نصبه بإضمارفعل تفسيره ما بعده: أنه سيؤتى أولئك سنؤتيهم، فيجعله من باب الاشتغال،فليس قوله براجح، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيداً ضربته، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جوازتقديمه في نحو: سأضرب زيداً، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال. فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه. وقرأ حمزة:سيؤتيهم بالياء عوداً على قوله: والمؤمنون بالله. وقرأ باقي السبعة. على الالتفات ومناسبة وأعتدنا. {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَاإِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ } قال ابن عباس: سبب نزولها أن سكين الحبر وعدي بن زيد قالا: يا محمدما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئاً بعد موسى ولا أوحى إليه. وقال محمد بن كعب القرظي: لما نزلت:

{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ }

الآيات فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيءولا على عيسى، وجحدوا جميع ذلك فنزلت:

{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }

إذ قالوا الآية. وقال الزمخشري: إناأوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاجهمعليهم بأن شأنه في الوحي إليه كسائر الأنبياء الذين سلفوا انتهى. وقدم نوحاً وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني،وأول الرسل، ودعوته عامّة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض، كما أن دعوة محمد عامّةلجميع من في الأرض. {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإْسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلاْسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـٰرُونَ وَسُلَيْمَـٰنَ } خص تعالىبالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم، وبدأ بابراهيم لأنه الأب الثالث، وقدم عيسى على من بعده تخفيفاً لنبوته، وقطعاً لما رآهاليهود فيه، ودفعاً لاعتقادهم، وتعظيماً له عندهم، وتنويهاً باتساع دائرته. وتقدم ذكر نسب نوح وابراهيم وهارون في نسب أخيه موسى.وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ النيسابوري نسبه فقال: أيوب بن أموص بنبارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن ابراهيم، وأمه من ولد لوط بن هارون. وأما يونس فهو يونس بنمتى. وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه: يونس بكسر النون، وهي لغة لبعض العرب. وقرأ النخعي وابن وثاب: بفتحهاوهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر، وبعض أسد يهمز ويضم النون، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور منترك الهمز وضم النون. {وَءاتَيْنَا * دَاوُودُ * زَبُوراً } أي كتاباً. وكل كتاب يسمى زبوراً، وغلب على الكتابالذي أوحاه الله إلى داود. وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكمولا حرام ولا حلال، إنما هي حكم ومواعظ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس. قيل: وقدم سليمان في الذكر علىداود لتوفر علمه، بدليل قوله:

{ فَفَهَّمْنَـٰهَا سُلَيْمَـٰنَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً }

والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوبويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محبباً إلى بني إسرائيل معظماً مؤثراً،وأما سليمان فكان معظماً عند الناس قاهراً لهم مستحقاً له ما ذكره الله تعالى في كتابه، فجمعهما التحبيب، والتعظيم. وتأخرذكر داود لتشريفه بذكر كتابه، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيفمن التشريف المعنوي. وقرأ حمزة: زبوراً بضم الزاي. قال أبو البقاء: وفيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر كالقعود يسمى بهالكتاب المنزل على داود. والثاني: أنه جمع زبور على حذف الزائد وهو الواو. وقال أبو علي: كما قالوا طريق وطروق،وكروان وكروان، وورشان وورشان، مما يجمع بحذف الزيادة. ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير، وقد اطرد هذا المعنى فيتصغير الترخيم نحو أزهر وزهير، والحرث وحريث، وثابت وثبيت، والجمع مثله في القياس وإنْ كان أقل منه في الاستعمال. قالأبو علي: ويحتمل أن يكون جمع زبر أوقع على المزبور كما قالوا: ضرب الأمير، ونسج اليمن. وكما سمي المكتوب كتاباً.{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَـٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي ذكرنا أخبارهم لك. {وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } روي منحديث أبي ذر: أنه سئل عن المرسلين، فقال له رسول الله : كَانَ * ٱلْمُرْسَلُونَ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ قال القرطبي: هذا أصح ما روي في ذلك، خرجه الآجريّ وأبو حاتم البستي في مسند صحيحله. وفي حديث أبي ذر هذا: أنه سأله كم كان الأنبياء؟ فقال: مِاْئَةِ أَلْفٍ * نَّبِىٍّ * فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ وروي عن أنس: أن رسول الله بعث على أثر ثمانية آلف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعةوعشرون ألفاً. وقال ابن عطية: ما ذكر من عدد الأنبياء غير صحيح، والله أعلم بعدتهم انتهى. وانتصاب ورسلاً علىإضمار فعل أي: قد قصصنا رسلاً عليك، فهو من باب الاشتغال. والجملة من قوله: قد قصصناهم، مفسرة لذلك الفعل المحذوف،ويدل على هذا قراءة أبي ورسلُ بالرفع في الموضعين على الابتداء. وجاز الابتداء بالنكرة هنا، لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا:فثوب لبست وثوب أجر. وقال امرؤ القيس

: بشق وشق عندنا لم يحوّل    

ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي: وآتينا داود زبوراً. وقال ابن عطية: الرفع على تقديروهم: رسل، فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة. وجوّزوا أيضاً نصب ورسلاً من وجهين: أحدهما: أن يكوننصباً على المعنى، لأن المعنى: إنا أرسلناك وأرسلنا رسلاً، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطرادالوحي . {وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه، وأكد بالمصدردلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه، هذا هو الغالب. وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز، إلا أنهقليل. فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري

: بكى الخز من عوف وأنكر جلده     وعجت عجيجاً من جذام المطارف

وقال ثعلب: لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إليهرقعة وبعثت إليه رسولاً، فلما قال: تكليماً لم يكن إلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى. ومسألة الكلام مما طال فيهالكلام واختلاف فيها علماء الإسلام، وبهذه المسألة سمي علم أصول الدين بعلم الكلام، وهي مسألة يبحث عنها في أصول الدين.وقرأ ابراهيم بن وثاب: وكلم الله بالنصب على أن موسى هو المكلم. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم، وأنّ معناه:وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن. وقال كعب: كلم الله موسى بالألسنة كلها، فجعل موسى يقول: رب لا أفهم،حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة. {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } أييبشرون بالجنة من أطاع، وينذرون بالنار من عصى. وأراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إلي رسوللآمنت. وفي الحديث: وليس أحد أحب إليه العذر من الله فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل. وقالالزمخشري: فإن قلت: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التيالنظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرفوا أنهمرسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منهيون عن الغفلة، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد، مع تبليغما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف وتعلم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميماً لإلزام الحجة لئلا يقولوا:لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى. وقوله: لئلا هو كالتعليل لحالتي: التبشيروالإنذار. والتبشير هو بالجنة، والإنذار هو بالنار. وليس الثواب والعقاب حاكماً بوجوبهما العقل، وإنما هو مجوّز لهما، وجاء السمع فصاراواجباً وقوعهما، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة. فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية، ولم ينذروابالنار من لم يمتثل، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لايبعث إليه من يعلمه بأنّ تلك معصية، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير منفعله، وأنه يترتب عليه العقاب. وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله بعلىما يجب، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله، فلا يرد سؤال الزمخشري. وانتصب رسلاً على البدل وهو الذيعبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير. قال: والأوجه أن ينتصب على المدح. وجوّز غيره أن يكون مفعولاً بأرسلنا مقدرة، وأنيكون حالاً موطئة. ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال. وجوّز أن يتعلق بمقدر أي: أرسلناهم بذلك أي: بالبشارة والنذارة لئلايكون {وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي لا يغالبه شيء، ولا حجة لأحد عليه، صادرة أفعاله عن حكمة، فلذلكقطع الحجة بإرسال الرسل. وقيل: عزيزاً في عقاب الكفار، حكيماً في الأعذار بعد تقدم الإنذار. {لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَاأَنزَلَ إِلَيْكَ } الاستدراك بلكن يقتضي تقدم جملة محذوفة، لأنّ لكن لا يبتدأ بها، فالتقدير ما روي في سبب النزولوهو: أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا: ما نشهد لك بهذا، لكن الله يشهد، وشهادته تعالى بما أنزله إليهإثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات. وقرأ السلمي والجراح الحكمي: لكنّ الله بالتشديد، ونصب الجلالة. وقرأ الحسن بما أنزلإليك مبنياً للمفعول. {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } قرأ السلمي: نزّله مشدداً. قال الزجاج: أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقي:أنزله من علمه. وقال ابن جريج: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه. وقيل: أنزله إليك بعلمه أنك أهللإنزاله عليك لقيامك بحقه، وعلمك بما فيه، وحسن دعائك إليه، وحثك عليه. وقيل: بما يحتاج إليه العباد. وقيل: بعلمه أنّكتبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان. قال ابن عطية: هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنةفي إثبات علم الله تعالى، خلافاً للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم. والمعنى عند أهل السنة: أنزله وهو يعلمإنزاله ونزوله. ومذهب المعتزلة في هذه الآية: أنه أنزله مقترناً بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك، فالعلمعبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كماينقص هذا العصفور من هذا البحر. وقال الزمخشري: أنزله ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظموأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة، لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظمالمعجز الفائت للقدر، ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة. {وَٱلْمَلَـئِكَةُيَشْهَدُونَ } أي بما أنزل الله إليك. وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله، وقد علم بشهادة الله له، إذ أظهر علىيديه المعجزات، وهذا على سبيل التسلية له عن تكذيب اليهود، إن كذبك اليهود وكذبوا ما جئت به من الوحي، فلاتبال، فإن الله يشهد لك وملائكته، فلا تلتفت إلى تكذيبهم. {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي وإن لم يشهد غيره

{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ }

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ* ضَلَـٰلاً بَعِيداً } أي ضلالاً لا يقرب رجوعهم عنه، ولا تخلصهم منه، لأنه يعتقد عن نفسه أنه محمق ثميتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه وإلقاء غيره فيه، فهو ضلال في أقصى غاياته. وقرأ عكرمة وابن هرمز: وصدوابضم الصاد، قيل: وهي في اليهود. {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً *إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } قيل: هذه في المشركين. وقد تقدّم الكلام على لام الجحود وما بعدها، وأنالإتيان بها أبلغ من الإتيان بالفعل المجرد عنها. وهذا الحكم مقيد بالموافاة على الكفر. وقال أبو سليمان الدمشقي: المعنى لميكن الله ليستر عليهم قبيح أفعالهم، بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقال الزمخشري: كفرواوظلموا، جمعوا بين الكفر والمعاصي، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب الكبائر، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لايغفر لهما إلا بالتوبة، ولا ليهديهم طريقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم، ولا ليهديهم يوم القيامة إلاطريقها انتهى. وهو على طريقة الاعتزال في أنّ صاحب الكبائر لا يغفر له ما لم يتب منها، وإن أريد بقولهطريقاً مخصوصاً أي عملاً صالحاً يدخلون به الجنة، كان قوله: إلا طريق جهنم استثناء منقطعاً. {وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِيَسِيراً } أي انتفاء غفرانه وهدايته إياهم وطردهم في النار سهلاً لا صارف له عنه، وهذا تحقير لأمرهم، وأنه تعالىلا يعبأ بهم ولا يبالي. {يَسِيراً يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقّ مِن رَّبّكُمْ فَـئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } هذاخطاب لجميع الناس. وإن كانت السورة مدنية فالمأمور به أمر عام، ولو كان خاصاً بتكليف ما لكان النداء خاصاً بالمؤمنينفي الغالب. والرسول هنا محمد ، والحق هو شرعه، وقد فسر بالقرآن وبالدين وبشهادة التوحيد. وروي عنابن عباس أنها نزلت في المشركين. وفي انتصاب خيراً لكم هنا. وفي قوله: انتهوا خيراً لكم في تقدير الناصب ثلاثةأوجه: مذهب الجليل، وسيبويه. وأتوا خيراً لكم، وهو فعل يجب إضماره. ومذهب الكسائي وأبي عبيدة: يكن خيراً لكم، ويضمر إنيكن ومذهب الفراء إيماناً خيراً لكم وانتهاء خيراً لكم، بجعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله. والترجيحبين هذه الأوجه مذكور في علم النحو. {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } تقدم تفسيرمثل هذا. {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } عليماً بما يكون منكم من كفر وإيمان فيجازيكم عليه، حكيماً في تكليفكممع علمه تعالى بما يكون منكم. {حَكِيماً يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } قيل: نزلت في نصارى نجرانقاله مقاتل. وقال الجمهور: في عامة النصارى، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون: الأب، والابن، وروح القدس إلۤه واحد. وقيل: في اليهودوالنصارى، نهاهم عن تجاوز الحد. والمعنى: في دينكم الذي أنتم مطلوبون به، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، ولا أمروا بالثبوتعليه دون غلو، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق. وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عنمنزلته حيث جعلته مولوداً لغير رشده. وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلۤهاً. والذي يظهر أنّ قوله: يا أهل الكتاب خطابللنصارى، بدليل آخر الآية. ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمرالنصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا. {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } وهوتنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد. {إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ} قرأ جعفر بن محمد: إنما المسيح على وزن السكيت. وتقدم شرح الكلمة في

{ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ }

ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها. وهذه الجملة قيل: حال. وقيل: صفة على تقدير نيةالانفصال أي: وكلمة منه. ومعنى روح منه أي: صادرة، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفةالمنفصلة من الأب الحي، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته. وقال أُبيّ بن كعب: عيسى روح من أرواح اللهتعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله:

{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }

بعثه الله إلى مريم فدخل. وقال الطبري وأبو روق:وروح منه أي نفخة منه، إذا هي من جبريل بأمره. وأنشد بيت ذي الرمة

: فقلت له اضممها إليك وأحيها     بروحك واجعله لها قيتة قدرا

يصف سقط النار وسمي روحاً لأنه حدث عن نفخة جبريل.وقيل: ومعنى وروح منه أي رحمة. ومنه {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ }. وقيل: سمي روحاً لأحياء الناء به كما يحيون بالأرواح،ولهذا سمي القرآن روحاً. وقيل: المعنى بالروح هنا الوحي أي: ووحى إلى جبريل بالنفخ في درعها، أو إلى ذات عيسىأن كن، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح، أي: وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى.ومن هنا لاتبداء الغاية، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى، فرد عليه عليبن الحسين بن واحد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله: وروح منه، فأجابه ابنواحد بقوله:

{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ *جَمِيعاً مّنْهُ }

وقال: إن كان يجب بهذاأن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه، فانقطع النصراني وأسلم. وصنفابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر. {مَّا كَانَ ٱللَّهُ } أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام.{وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَـٰثَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي: الآلهة ثلاثة. قال لزمخشري: والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن اللهوالمسيح ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله:

{ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ }

وقالت النصارى: المسيح ابن الله، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته منجهة الأب والأم، ويدل عليه قوله: إنما المسيح عيسى ابن مريم، فأثبت أنه ولد لمريم أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم،وأنّ اتصاله بالله عز وجل من حيث أنه رسوله، وأنه موجود بأمره، وابتداعه جسداً حياً من غير أب ينفي أنهيتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله:

{ سُبْحَـٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ }

وحكاية الله أوثق من حكاية غيره، وهذاالذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث: الله تعالى، وصاحبته، وابنه. وقال الزمخشري أيضاً إن صحت الحكاية عنهمأنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدم، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات، وبأقنومالابن العلم، وبأقنوم روح القدس الحياة، فتقديره الله ثلاثة انتهى. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة، أوالآلهة ثلاثة، أو الأقانيم ثلاثة. وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى. وقال الزجاج: تقديره إلۤهاًثلاثة. وقال الفراء وأبو عبيد: تقديره ثلاثة كقوله:

{ سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ }

وقال أبو علي: التقدير الله ثالث ثلاثة، حذفالمبتدأ والمضاف انتهى. أراد أبو علي موافقة قوله:

{ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ }

أي أحدآلهة ثلاثة والذي يظهر أن الذي أثبتوه هو ما أثبت في الآية خلافه، والذي أثبت في الآية بطريق الحصر إنماهو وحدانية الله تعالى، وتنزيهه أن يكون له ولد، فيكون التقدير: ولا تقولوا الله ثلاثة. ويترجح قول أبي علي بموافقتهالآية التي ذكرناها، وبقوله تعالى سبحانه أن يكون له ولد، والنصارى وإن اختلفت فرقهم فهم مجمعون على التثليث. {ٱنتَهُواْخَيْراً لَّكُمْ } تقدم الكلام في انتصاب خيراً. وقال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه في نصبه لما بعثهم على الإيمانيعني في قوله:

{ فآمنوا خير لكم }

وعلى الانتهاء عن التثليث يعني في قوله: انتهوا خيراً لكم، علم أنهيحملهم على أمر فقال: خيراً لكم أي اقصدوا وأتوا خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث، وهو الإيمان والتوحيدانتهى. وهو تقدير سيبويه في الآية. {إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } قال ابن عطية: إنما في هذه الآية حاصرة،اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه، وليست صيغة، إنما تقتضي الحصر، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة، وإن لميكن حصر نحو: إنما الشجاع عنترة وغير ذلك انتهى كلامه. وقد تقدم كلامنا مشبعاً في إنما في قوله:

{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }

وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح، وإن كان خلاف ما في أذهانكثير من الناس. {سُبْحَـٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } معناه تنزيهاً له وتعظيماً من أن يكون له ولد كماتزعم النصارى في أمره، إذ قد نقلوا أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل. وقرأ الحسن: إن يكون له ولد بكسرالهمزة وضم النون من يكون، على أنّ أن نافية أي: ما يكون له ولد فيكون التنزيه عن التثليث، والإخبار بانتفاءالولد، فالكلام جملتان، وفي قراءة الجماعة جملة واحدة. {لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } إخبار لملكه بجميعمن فيهن، فيستغرق ملكه عيسى وغيره. ومن كان ملكاً لا يكون جزءاً من المالك على أن الجزئية لا تصحّ إلافي الجسم، والله تعالى نزه عن الجسم والعرض. {وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي كافياً في تدبير مخلوقاته وحفظها، فلاحاجة إلى صاحبة ولا ولد ولا معين. وقيل: معناه كفيلاً لأوليائه. وقيل: المعنى يكل الخلق إليه أمورهم، فهو الغني عنهم،وهم الفقراء إليه. {لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } روي أنّ وفد نجران قالوا لرسول الله : لم تعيب صاحبنا؟ قال: وما صاحبكم؟ قالوا: عيسى قال: وأي شيء أقول؟ قالوا: تقول أنه عبد الله ورسوله قال: إنه ليس بعار أن يكون عبداً قالوا: بلى فنزلت أي لا يستنكف عيسىمن ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به، أي:لن يأنف ويرتفع ويتعاظم. وقرأ على عبيد الله على التصغير. والمقربون أي: الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل، وميكائيل،وإسرافيل، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري. وقال ابن عباس: هم حملة العرش. وقال الضحاك: من قرب منهم من السماء السابعةانتهى. وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة. وفي الكلام حذف التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدالله، فإن ضمن عبداً معنى ملكاً لله لم يحتج إلى هذا التقدير، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطفالمفردات، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة. فإن قوله: ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر. وإنلحظ في قوله: ولا الملائكة معنى: ولا كل واحد من الملائكة، كان من عطف المفردات. وقد تشبث بهذه الآية منزعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. قال ابن عطية: ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي: ولاهؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح علىتفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى. وقال الزمخشري: (فإن قلت): من أين دل قوله تعالى: ولا الملائكة المقربون على أن المعنىولا من فوقه؟ (قلت): من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهبالنصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يرتفع عيسى عن العبودية، ولا من هوأرفع منه درجة. كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربينلكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل

: وما مثله ممن يجاود حاتم     ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره

لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم فيالجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله:

{ وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ }

حتى يعترفبالفرق البين انتهى كلامه. والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآيةفقد يقال: متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول، ولا أن ذلك منباب الترقي. (فإذا قلت): لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر، وفلا دلالة فيه على أنّ عمراً أفضل منزيد. وإن سلّمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل، لأنه قابل مفرداً بجمع، ولم يقابل مفرداً بمفرد ولا جمعاً بجمع.فقد يقال: الجمع أفضل من المفرد، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع، ولا المفرد على المفرد. وإنْ سلمناأنّ المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملكوترفيعه، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضلوأعظم ثواباً ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهنّ حسنيوسف:

{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }

وقالالشاعر

: فلست بإنسي ولكن لملأك     تنزل من جوف السماء يصوب

وقال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ولا الملائكة المقربون؟ (قلت): إما أن يعطف على المسيح، أو على اسم يكون، أوعلى المستتر في عبداً لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، وقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف علىالمسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هوولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى. والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هوكون الاستنكاف يكون مختصاً بالمسيح، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية، لأنه لا يلزم مناستنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيداً، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم، فقد يرضى شخص أنيضرب هو وزيد عمراً ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضاً مرحوجيـة الوجهين من جهة دخول لا، إذ لو أريد العطفعلى الضمير في يكون، أو على المستتر في عبداً. لم تدخل لا، بل كان يكون التركيب بدونها تقول: ما يريدزيد أن يكون هو وأبوه قائمين، وتقول: ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخوللا، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة. {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْفَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } حمل أولاً على لفظ مَن فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر، ثم حمل على المعنى في قوله:فسيحشرهم، فالضمير عائد على معنى من هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير عامّاً عائداً على الخلق لدلالة المعنى عليه،لأن الحشر ليس مختصاً بالمستنكف، ولأنّ التفصيل بعده يدل عليه. ويكون ربط الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط بالعموم الذي فيها،ويحتمل أن يعود الضمير على معنى مَن، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه التقدير: فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليهجميعاً كقوله:

{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ }

أي: والبرد. وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإمّا مطابقاً لما قبله، وعلىالوجه الأوّل لا يطابق. والإخبار بالحشر إليه وعيد إذ. المعنى به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر. وقرأ الحسن:بالنون بدل الياء في فسيحشرهم، وباء فيعذبهم على التخفيف.

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } * { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[عدل]

{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ } أي لايبخس أحداً قليلاً ولا كثيراً، والزيادة يحتمل أن يكون في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة، والتضعيف الذي ليس بمحصور فيقوله:

{ وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء }

قال معناه ابن عطية رحمه الله تعالى. {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْعَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } هذا وعيد شديد للذين يتركون عبادة الله أنفةتكبراً. وقال ابن عطية: وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه كفعل حيـي بن أخطبوأخيه أبي ياسر وأبي جهل وغيرهم بالرسول، فإذا فرضت أحداً من البشر عرف الله فمحال أن تجده يكفر به تكبراًعليه، والعناد إنما يسوق إليه الاستكبار على البشر، ومع تفاوت المنازل في ظن المستكبر انتهى. وقدّم ذكر ثواب المؤمن لأنّالإحسان إليه مما يعم المستنكف إذا كان داخلاً في جملة التنكيل به، فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذببالحشر إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله تعالى. {نَصِيراً يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْوَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } الجمهور على أنّ البرهان هو محمد ، وسماه برهاناً لأنّ منه البرهان،وهو المعجزة. وقال مجاهد: البرهان هنا الحجة، وقيل: الإسلام، والنور المبين هو القرآن. {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِفَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } الظاهر أنّ الضمير في به عائد على لقربه وصحة المعنى،ولقوله: واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله. ويحتمل أن يعود على القرآن الذي عبر عنه بقوله: وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً وفيالحديث: {ٱلْقُرْءانَ * حَبْلِ * ٱللَّهِ * ٱلْمَتِينُ * مِنْ } والرحمة والفضل: الجنة. وقال الزمخشري: في رحمة منه وفضلفي ثواب مستحق وتفضل انتهى. ولفظ مستحق من ألفاظ المعتزلة. وقيل: الرحمة زيادة ترقية، ورفع درجات. وقيل: الرحمة التوفيق، والفضلالقبول. والضمير في إليه عائد على الفضل، وهي هداية طريق الجنان كما قال تعالى:

{ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ }

لأن هداية الإرشاد قد تقدّمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا، وعلى هذا الصراط طريق الجنة. وقال الزمخشري: ويهديهم إلىعبادته، فجعل الضمير عائداً على الله تعالى وذلك على حذف مضاف وهذا هو الظاهر، لأنه المحدث عنه، وفي رحمة منهوفضل ليس محدثاً عنهما. قال أبو علي: هي راجعة إلى ما تقدم من اسم الله تعالى، والمعنى: ويهديهم إلى صراطه،فإذا جعلنا صراطاً مستقيماً نصباً على الحال كانت الحال من هذا المحذوف انتهى. ويعني: دين الإسلام. وقيل: الهاء عائدة علىالرحمة والفضل لأنهما في معنى الثواب. وقيل: هي عائدة على القرآن. وقيل: معنى صراطاً مستقيماً عملاً صالحاً. {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ } قال البراء بن عازب: هي آخر آية نزلت. وقال كثير من الصحابة، من آخر مانزل. وقال جابر بن عبد الله: نزلت بسبب عادني النبي وأنا مريض فقلت: يا رسول اللهكيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ فنزلت. وقيل: إنّ جابراً أتاه فيطريق مكة عام حجة الوداع فقال: إن لي أختاً، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت، فنزلت. وتقدّم الكلام في لفظالكلالة اشتقاقاً ومدلولاً وكان أمرها أمراً مشكلاً، روي عنه في أخبارها روايات، وفي حديثه أن الرسول قال: مّيثَـٰقاً غَلِيظاً وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء وقد روى أبو سلمة عن النبي صلى اللهعليه وسلم: التي أنزلت في الصيف هي وإن كان رجل يورث كلاله والظاهر أنها {يَسْتَفْتُونَكَ } لأن البراءقال: هي آخر آية نزلت. قال ابن عطية: قول رسول الله يكفيك منها آية الصيف بيانفيه كفاية وجلاء. ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه اللهم إلا أن يكون دلالة اللفظاضطربت على كثير من الناس، ولذلك قال بعضهم: الكلالة الميت نفسه. وقال آخرون: الكلالة المال إلى غير ذلك من الخلافانتهى كلامه. وقد ختمت هذه السورة بهذه الآية كما بدئت أولاً بأحكام الأموال في الإرث وغيره، ليتشاكل المبدأ والمقطع، وكثيراًما وقع ذلك في السور. روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في خطبته: ألا إنّ آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والأخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولى الأرحام وفي الكلالة متعلق بيفتيكم على طريق أعمال الثاني. {إِن ٱمْرُؤٌهَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } المراد بالولد الابن، وهو اسم مشترك يجوز استعماله للذكروالأنثى، لأن الابن يسقط الأخت، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس. والمراد بالأخت الشقيقة، أو التي لأب دونالتي لأم، لأن الله فرض لها النصف، وجعل أخاها عصبة. وقال: للذكر مثل حظ الأنثيين. وأما الأخت للأم فلها السدسفي آية المواريث، سوى بينها وبين أخيها. وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده، والجملة من قوله:ليس له ولد، في موضع الصفة لامرؤ، أي: إنْ هلك امرؤ غير ذي ولد. وفيه دليل على جواز الفصل بينالنعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال، فعلى هذا القول زيداً ضربته العاقل. وكلما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر، ومنعالزمخشري أن يكون قوله: ليس له ولد، جملة حالية من الضمير في هلك، فقال: ومحل ليس له ولد الرفع علىالصفة، لا النصب على الحال. وأجاز أبو البقاء فقال: ليس له ولد الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك،وله أخت جملة حالية أيضاً. والذي يقتضيه النظر أنّ ذلك ممتنع، وذلك أنّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهرالمعمول للفعل المحذوف، فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها منالإعراب، فصارت كالمؤكدة لما سبق. وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد أو مؤكد بالحكم، إنما هو للمؤكد، إذ هو معتمد الإسنادالأصلي. فعلى هذا لو قلت: ضربت زيداً ضربت زيداً العاقل، انبغى أن يكون العاقل نعتاً لزيد في الجملة الأولى، لالزيد في الجملة الثانية، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى. والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية. قيل: وثم معطوفمحذوف للاختصار، ودلالة الكلام عليه. والتقدير: ليس له ولد ولا والد. {وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ }أي إنْ قدّر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها. والمراد بالولد هنا الابن، لأن الابن يسقط الأخ دون البنت.قال الزمخشري: (فإن قلت): الابن لا يسقط الأخ وحده، فإن الأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفي الولد؟ (قلت):وكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر الأب أولى من الأخ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد علىحكم انتفاء الوالد، لأنّ الولد أقرب إلى الميت من الوالد. فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب، فأولى أن يرث عندانتفاء الأبعد، ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعاً، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالاً على انتفاء الآخر انتهى كلامه. والضميرفي قوله: وهو وفي يرثها عائد إلى ما تقدم لفظاً دون معنى، فهو من باب عندي درهم ونصفه، لأن الهالكلا يرث، والحية لا تورث، ونظيره في القرآن:

{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ }

وهذه الجملةمستقلة لا موضع لها من الإعراب، وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها. {فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ }قالوا: الضمير في كانتا ضمير أختين دل على ذلك قوله: وله أخت. وقد تقرر في علم العربية أن الخبر يفيدما لا يفيده الاسم. وقد منع أبو عليّ وغيره سيد الجارية مالكها، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ. والألف فيكانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر، وهو قوله اثنتين. وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله: اثنتين يدل على عدم التقييد بالصغرأو الكبر أو غيرهما من الأوصاف، فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود، فلهذا كان مفيداً وهذا الذي قالوه ليس بشيء،لأن الألف في الضمير للاثنتين يدل أيضاً على مجرد الاثنينية من غير اعتبار قيد، فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء،وصار المعنى: فإن كانتا الأختان اثنتين، ومعلوم أنّ الأختين اثنتان. وقال الزمخشري: (فإن قلت): إلى مَن يرجع ضمير التثنية والجمعفي قوله: فإن كانتا اثنتين، وإن كانوا أخوة؟ (قلت): أصله فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرثبالأخوة ذكوراً وإناثاً. وإنما قيل: فإن كانتا، وإن كانوا. كما قيل: من كانت أمك، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيثالخبر، كذلك ثنى، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى. وهو تابع في هذا التخريجغيره، وهو تخريج لا يصح، وليس نظير من كانت أمك، لأنَّ مَن صرّح بها ولها لفظ ومعنى. فمَن أنّث راعىالمعنى، لأن التقدير: أية أم كانت أمك. ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم، بخلاف الآية، فإنّ المدلولين واحد،. ولميؤنث في مَن كانت أمك لتأنيث الخبر، إنّما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثاً. ألا ترى إنك تقول:من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله. والذي يظهر لي فيتخريج الآية غير ما ذكر. وذلك وجهان: أحدهما: إنّ الضمير في كانتا لا يعود على أختين، إنما هو يعود علىالوارثتين، ويكون ثم صفة محذوفة، واثنتين بصفته هو الخبر، والتقدير: فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك،فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. والوجه الثاني: أن يكون الضمير عائداً علىالأختين كما ذكروا، ويكون خبر كان محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وإن كان حذفه قليلاً، ويكون اثنتين حالاً مؤكدة والتقدير: فإنكانت أختان له أي للمرء الهالك. ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت، فكأنه قيل: فإن كانت أختانله، ونظيره أن تقول: إن كان لزيد أخ فحكمه كذا، وإن كان أخوان فحكمهما كذا. تريد وإن كان أخوان له.{وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ ٱلاْنثَيَيْنِ } يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في أرثالأولاد من أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين. والضمير في كانوا إنْ عاد على الأخوة فقد أفاد الخبر بالتفصيل المحتوي علىالرجال والنساء، ما لم يفده الاسم، لأن الاسم ظاهر في الذكور. وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لايفيد المبتدأ ظهوراً واضحاً. والمراد بقوله: أخوة الأخوة والأخوات، وغلب حكم المذكر. وقرأ ابن أبي عبلة: فإن للذكر مثل حظالأنثيين. {يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } أنْ تضلوا مفعول من أجله، ومفعول يبين محذوف أي: يبين لكم الحق.فقدره البصري والمبرد وغيره: كراهة أن تضلوا. وقرأ الكوفي، والفراء، والكسائي، وتبعهم الزجاج: لأن لا تضلوا، وحذف لا ومثلهعندهم قول القطامي

: رأينا ما رأى البصراء منا     فآلينا عليها أن تباعا

أي أن لا تباعا، وحكى أبو عبيدة قال: حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه: لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجاية فاستحسنه أي لئلا يوافق. وقال الزجاج هو مثل قوله إن الله يمسكالسموات والأرض أن تزولا أي لأن لا تزولا ورجح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع منحذف لا . وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها. {وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد، وفيما كلفهم به من الأحكام. وقال أبو عبد الله الرازي: في هذه السورةلطيفة عجيبة وهي أنّ أولها مشتمل على كمال تنزه الله تعالى وسعة قدرته، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم، وهذانالوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة، وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف. وتضمنت هذه الآيات أنواعاً منالفصاحة والبيان والبديع. فمن ذلك الطباق في: حرمنا وأحلت، وفي: فآمنوا وإن تكفروا. والتكرار في: وما قتلوه، وفي: وأوحينا، وفي:ورسلاً، وفي: يشهد ويشهدون، وفي: كفروا، وفي: مريم، وفي: اسم الله. والالتفات في: فسوف نؤتيهم، وفي: فسنحشرهم وما بعد مافي قراءة من قرأ بالنون. والتشبيه في: كما أوحينا. والاستعارة في: الراسخون وهي في الاجرام استعيرت للثبوت في العلم والتمكنفيه، وفي: سبيل الله، وفي: يشهد، وفي: طريقاً، وفي: لا تغلوا والغلو حقيقة في ارتفاع السعر، وفي: وكيلاً استعير لإحاطةعلم الله بهم، وفي: فيوفيهم أجورهم استعير للمجازاة. والتجنيس المماثل في: يستفتونك ويفتيكم. والتفصيل في: فأما الذين آمنوا وأما الذين استنكفوا. والحذف في عدّة مواضع.